شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المنهج التكفيري .. إلى أين ؟! بقلم د. محمود حمد سليمان

اذهب الى الأسفل

المنهج - المنهج التكفيري .. إلى أين ؟! بقلم د. محمود حمد سليمان Empty المنهج التكفيري .. إلى أين ؟! بقلم د. محمود حمد سليمان

مُساهمة من طرف سامح عسكر الأحد أغسطس 14, 2011 9:02 pm

المنهج التكفيري... إلى أين؟!





المنهج - المنهج التكفيري .. إلى أين ؟! بقلم د. محمود حمد سليمان Avatar23438_2


بقلم: د. محمود حمد سليمان

إنطلاقًا من المجزرة بالعسكريين في الجيش اللبناني في مخيم نهر
البارد/ شمال لبنان، والتي قامت بها عصابة ما يسمّى "فتح الإسلام" ومرورًا
بالدم البريء المراق في غير أرض عربية وإسلامية، وفي كل أنحاء العالم على
أيدي فئات وشلل وأحزاب تزعم لنفسها الانتماء إلى الإسلام وتؤكد، بمناسبة
وبغير مناسبة، حرصها الشديد على التمسك بالشريعة الإسلامية، منهجًا في
القول والعمل، ومسلكًا في الدنيا والحياة والمجتمع. انطلاقًا من هذه
المجزرة ومن المجازر العديدة في الجزائر واليمن والسعودية والعراق
والباكستان، وغيرها.. فإن أسئلة عديدة تقفز إلى الذهن وسط موجة عاتية من
الدهشة والاستغراب والارتياب، ونحن نرى دماء الأبرياء تستباح، والحكم
بالكفر والإلحاد يطال المسلمين وغير المسلمين، وحتى الأطفال منهم في أحيان
كثيرة..
فما هي الفتاوى التي يستند إليها التكفيريون وهم يمارسون جرائمهم باسم الإسلام الحنيف؟
وما هو المناخ الذي عاشوا فيه، ومنه استقوا ما فعلوا وما يفعلون؟؟
بل ما هي الجذور الأولى والحقيقية لهذا "المنهج التكفيري" الذي تربّى عليه
أصحاب هذه الظاهرة البعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام السمحة وقيمه
ومفاهيمه، والتي أصبحت على مرور الزمان قيمًا إنسانية وعالمية للمسلمين
ولغيرهم أيضًا؟؟!!
لعل الجذور الأولى للمنهج التكفيري ونهجه وسلوك أصحابه، تعود إلى
"الخوارج" الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه، بعد أن كانوا في عداد
جيشه،.. فلما كان من أمر التحكيم وبرز أمر الحكمين وخدعة عمرو بن العاص
لأبي موسى الأشعري راح الخوارج يصيحون: "ما الحكم إلا لله" فلما سمع
الإمام عليّ نداءهم قال: "كلمة حق يراد بها باطل... وإنما مذهبهم أن لا
يكون أمير. ولا بد من أمير بَرًّا كان أو فاجرًا" ثم لحق بهم الإمام إلى
“حروراء" فخطبهم متوكئًا على قوسه. فقال: “هذا مقام من أفلح فيه أفلح يوم
القيامة.. أنشدكم الله هل علمتم أن أحدًا كان أكره للحكومة مني. قالوا:
اللهم نعم. قال: فعلامَ خالفتموني ونابذتموني؟؟ قالوا: إنا أتينا ذنبًا
عظيمًا فتبنا إلى الله منه فتب إلى الله منه واستغفره نعدْ إليك. فقال
عليّ، كرّم الله وجهه،: إني أستغفر الله من كل ذنب. فرجعوا معه وهم ستة
آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليًا رجع عن التحكيم وتاب منه ورآه
ضلالًا.. ثم راحوا يطلقون سيلًا من الإشاعات ومنها: أنه (أي الإمام علي)
قد رأى الحكومة ضلالًا والإقامة عليها كفرًا وتاب عنها. فقام الإمام وخطب
في الناس قائلًا: “من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالًا
فهو أضل منها.." فخرجت الخوارج من المسجد، مرة ثانية، وهم يصيحون: “ما
الحكم إلا لله" وقيل لعلي، عليه السلام، إنهم خارجون. فقال: لا أقاتلهم
حتى يقاتلوني وسيفعلون...
والواقع، أنهم لم يقاتلوه فحسب، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، وأخطر
بكثير، عندما رموه بالكفر، كما رموا معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص،
وحكموا عليهم بالقتل، ثم كرَّت سبحة تكفيرهم لتطال كبار الصحابة، والبعض
منهم من المبشرين بالجنة، كعثمان بن عفان وطلحة والزبير، وكانوا حينذاك من
الأموات، ولتطال أيضًا كل من خالفهم الرأي السياسي، أو اختلف معهم على
السلطة حتى ولو شهد له بالصلاح والتقوى والعدل عدوّه وصديقه كعمر بن عبد
العزيز، أو حتى لو كان من رواة الحديث النبوي كعبدالله بن خباب، وهذا
الأخير ذبحوه لأنه قال لهم عندما سألوه: “إنّ عليًّا أعلم بالله منكم وأشد
توقيًا على دينه وأبعد بصيرة" وقيل بل لأنه كان من رواة حديث الغدير..
إننا ومن خلال مناقشاتهم( ) مع الإمام علي، عليه السلام، ومع عبدالله بن
عباس وعبدالله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز، رضوان الله عليهم جميعًا،
نستطيع أن نحدد الخطوط العريضة والملامح العامة لمنهج الخوارج وطروحاتهم
وسلوكياتهم الواردة في أمهات كتب التاريخ العربي والإسلامي. وذلك على
الشكل التالي:
1- ظهروا شديدي التمسك بالدين وأهدابه، متطرفين في العبادات، حريصين على
التفريق بين الحلال والحرام. سار إليهم عبدالله بن عباس: “فرأى جباهًا
قرحت لطول السجود، وأيديًا كنقبات الإبل، وعليهم قمص مرحضة وهم مشمرون.."
وساموا رجلًا نصرانيًا بنخلة. فقال: هي لكم هبة. فقالوا: ما كنا لنأخذها
إلا بثمن. فقال الرجل: ما أعجب هذا تقتلون مثل عبدالله بن خباب ولا تقبلون
منا نخلة إلا بثمن؟! وكانوا قبيل ذلك قد لقوا عبدالله بن خباب وفي عنقه
نسخة من المصحف ومعه جاريته وهي حامل. فقالوا: إن هذا الذي في عنقك يأمرنا
بقتلك. فقال لهم: أحيوا ما أحيا القرآن وأميتوا ما أمات القرآن.. ولكنهم
بعد أن سمعوا رأيه في الحكومة والتحكيم وفي عليّ، عليه السلام، قرّبوه إلى
شاطئ البحر فذبحوه وجاريته.. بعد أن كانوا قد لقوا مسلمًا ونصرانيًا..
فقتلوا المسلم (لأنه يخالف رأيهم السياسي) وأوصوا بالنصراني خيرًا قائلين:
احفظوا ذمّة نبيكم.."


2- طرح الخوارج منهجهم التكفيري تحت شعار: “ما الحكم إلا لله"، وبرأيهم لا
يكون الاحتكام إلا للقرآن، دون أن يحددوا كيف يكون هذا الحكم؟ وما هي آلية
هذا الاحتكام؟ وما هي شروط الحاكم؟! ولنا في مناقشاتهم للإمام علي، كرّم
الله وجهه، خير دليل: ففي الطبري، خاطبهم الإمام قائلًا: “ما أخرجكم
علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: أنشدكم الله، أتعلمون أنهم رفعوا
المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله. قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم
ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن... فإنما رفع هذه المصاحف خديعة ودهن ومكيدة..
فلما أبيتم اشترطتُ على الحَكَمين أن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما
أمات القرآن. قالوا له: فخبِّرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء؟
فقال: إنا لسنا حكّمنا الرجال إنما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط
مسطور بين دفتين لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال. قالوا صدقت. قد كنا كما
ذكرتَ، ولكن ذلك كان منا كفرًا وقد تبنا إلى الله عزّ وجل منه، فتب كما
تبنا نبايعْكَ.. وإلا فنحن مخالفون. فقال الإمام: أبعد إيماني برسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي
بالكفر؟!! لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين. ثم انصرف عنهم"( ).
بهذا الفهم السطحي، أحدث الخوارج بدعًا لا سابق لها في الإسلام، وهي
التكفير بدون بيّنة، والقتل بدون محاكمة، ثم القتل غدرًا واغتيالًا..
فكانوا يغيرون على المدن والقرى والأرياف، فيقتلون الأطفال والشيوخ
والنساء.. وكل ذلك درءًا للكفر والضلال، كما كانوا يزعمون.
3- إن قراءة متأنية لآراء الخوارج وطروحاتهم، تظهر لنا بوضوح أنهم كانوا
يستسهلون “التكفير" واستباحة دم الآخر، وكأنهم ما سمعوا الحديث النبوي
الشريف: “من كفَّر أخاه فقد كفر" وكأنهم ما قرأوا قوله تعالى: ﴿.. من قتل
نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا﴾( ) وقوله: ﴿ولا
تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق..﴾( ).
4- جنح الخوارج بعواطفهم في العبادة، غير أن الفتنة أطاحت بعقولهم
فأفقدتهم توازنهم... فبدوا كمن فقد البصر والبصيرة في آن. فراحوا يتخبطون
في أهوائهم وشهواتهم، ولا سيما شهوة السلطة والمال، ومن أجلها كانوا
يبررون تصرفاتهم وأعمالهم محاولين تسويغ ذلك بالاستناد إلى الدين، وهنا
مكمن الخطورة في هذا النهج.


5- بدا الخوارج حديثي عهد بالإسلام دون تبحر وتعمق في جوهره وأحكامه
وشريعته.. فقد خلطوا خلطًا عجيبًا بين العبادات والمعاملات، وبين الأصول
والفروع.. واجتهدوا وما من أحد منهم يملك حق الاجتهاد أو تنطبق عليه
شروطه.. ولذلك كنا نراهم يستشهدون بآيات من الأصول في الفروع وبآيات أخرى
من الفروع في الأصول.. حتى لقد وصفهم عمر بن عبد العزيز قائلًا: “ويحكم..
إنكم قوم جهّال أردتم أمرًا فأخطأتموه".
6- وكما خلطوا في الأمور الفقهية. كذلك فقد خلطوا في تحديد الأولويات وفي
تحديد الأهداف.. فقدّموا ما كان يجب أن يؤخَّر، وأخَّروا ما كان يجب أن
يقدَّم. بالإضافة إلى عجزهم عن تحليل علمي للواقع الذي يعيشون فيه، ورسم
خطة واقعية لمواجهة المشكلات والتحديات التي كانت تواجه الأمة والمجتمع في
ذلك الزمن.. والواقع، أنهم هم بأنفسهم، قد أعفوا أنفسهم من مشقة التعب
والعناء وبذل الجهد في هذا المضمار عندما جعلوا شعارهم: “ما الحكم إلا
لله". فتوقفوا عن إعمال العقل في أمور دنياهم ومجتمعهم كما أمر الدين
الحنيف، قرآنًا وسنَّةً، ومن هنا ندرك معنى رد الإمام علي، رضي الله عنه،
عليهم: “إنها كلمة حق يراد بها باطل" بكل ما انطوت عليه من إيحاءات
ودلالات وفهم عميق لمنهجهم ونتائجه السلبية على الدين والأمة والمجتمع.
7- رغم قصر المدة الزمنية التي فصلت الخوارج عن بدايات الدعوة وانطلاقها،
فإنهم أول من تكلم عن السلف الصالح وعن الدين في أصوله وأصالته، رغم
قصورهم في فهمه وتبيان جوهره.. فكانوا بذلك أول من أسس لمصطلح “السلفية"
ومصطلح “الأصولية" هذان المصطلحان اللذان شاعا في العصر الحديث، وإن كنا
ندرك أن مصطلح “الأصولية" قد تسرب إلينا في الوقت نفسه من الغرب الأوروبي
والذي سبقنا إلى استعماله منذ قرون طويلة.
كانت هذه أهم ملامح المنهج التكفيري الذي أرسى الخوارج دعائمه في التربة
الشعبية العربية في زمن مبكر من تاريخ الإسلام. وكان من الطبيعي أن يساهم
هذا المنهج في إحداث المزيد من الفتن والحروب والدسائس والمؤامرات.. وكان
من الطبيعي أيضًا أن يساهم في المزيد من الانقسامات والتشرذم والخلافات،
ليس على صعيد الواقع العربي والإسلامي فحسب، وإنما أيضًا على صعيد الخوارج
أنفسهم فانقسموا إلى فرق وشلل عديدة، وكانوا كلّما مرّ بهم الزمن كلّما
ازدادوا انقسامًا وتشرذمًا.. حتى انتهى بهم الأمر إلى الفشل الذريع، رغم
أن الآثار السلبية لمنهجهم تركت بصماتها على حقبة سوداء من تاريخ العرب
والمسلمين.. ما كانت لتكون لو لم يحدث هذا اللقاء بين الجهل والتدين..
وينتج عن لقائهما ما نسميه في هذه الأيام: التطرف والغلو والتعصب الأعمى.
إننا ونحن نقدم بهذه العجالة أهم سمات وملامح المنهج التكفيري للخوارج،
فإننا آثرنا الاقتضاب الشديد لإدراكنا أن هذه الملامح وهذه السمات نفسها
ستتجلى بشكل بارز وواضح في سلوك وآراء التكفيريين الجدد في عصرنا الحديث
وهم يحاولون احياء منهج الخوارج وبعثه من مرقده.. رغم المسافة الزمنية
الشاسعة التي تفصلنا عن حقبة الخوارج وعصرهم.. ورغم الفشل الذريع الذي لحق
بهم وما أصابهم من غضب الله، وغضب الناس أجمعين.

المنهج التكفيري في العصر الحديث.
أفتى الخوارج قديمًا بتكفير كل من خالف نهجهم وآراءهم في السلطة والنظام
السياسي والخلافة، وسواء أكان ممن سبقهم أو ممن عاصرهم.. ولم يسلم من
فتاويهم تلك إلا الصحابة الأوائل الذين انتقلوا إلى الدار الآخرة قبل
نهاية خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه،.. وما بعد ذلك، فالكل
معرض للحكم عليه بالكفر والردة، وبالتالي يطاله الحكم بالقتل إن استطاعوا..
أما في العصر الحديث، أي بعد ما يزيد على الألف عام، فقد عاد المنهج
التكفيري إلى الإطلالة برأسه من جديد رغم الظروف المختلفة، ورغم الأوضاع
المتغيّرة، ورغم التحديات المتنوعة والمتداخلة والمتباينة..
نعم أطل برأسه من جديد بالفتاوى نفسها، وبالأهداف عينها، وبالأساليب
ذاتها، اللهم إلا تعديلات طفيفة لا تمس الجوهر، ولا تعدل في المضمون، وإن
كان المنهج المعاصر أشد خطرًا وأكثر ضررًا من سلفه.. والواقع أن أبا
الأعلى المودودي (الباكستاني) هو أول من بادر إلى إحياء المنهج التكفيري
في العصر الحديث تحت شعار: “الحاكميّة لله" وهو الصدى المستوحى من شعار
الخوارج: “ما الحكم إلاّ لله" كما يعتبر كثير من الباحثين، وكما يدل
اشتقاقه اللفظي، ومضمونه أيضًا.
ما يهمنا أن “سيد قطب" في مصر تلقف هذا المصطلح وفشاه في العالم العربي
وطوّره وهو يقود التيار المتشدد داخل تنظيم “الاخوان المسلمين"، بل لقد
وضع له الأسس والمنطلقات حتى اصبح منهجًا متكاملًا وإن ساد بنوده التفكك
والاضطراب أحيانًا، والسطحية وعدم التعمق أحيانًا أخرى.. وهو وإن تميّز
بالأسلوب الأدبي السائغ الذي يميّز كتابات سيد قطب وشخصيته الأدبية
ونكهتها، إلا أنه افتقر إلى نظرية ورؤية شاملة سياسية واجتماعية
واقتصادية.. ولعلنا من خلال كتابه “معالم في الطريق" نستطيع أن نحصر آراءه
في ثلاثة بنود أساسية عليها تدور معظم آرائه وفيها تصب غالبية الأفكار
التي حشدها.. وإن كانت كلها تنطلق من افتراضات ليس فيها للعلم من موضع..
ومن تخيلات ليس فيها للعقل من نصيب..
أولًا: يعتبر سيد قطب أن الأمة قد عادت إلى الجاهلية، ليس اليوم فحسب، بل
منذ انتهاء عصر الصحابة الأوائل.. أي، كما اعتبر الخوارج سابقًا، منذ
انتهاء خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهذا التاريخ كله وصولًا إلى
أيامنا الحاضرة، محكوم بالكفر والضلال والجاهلية.. يقول بالحرف الواحد:
“نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا
جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم،
فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم.. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية،
ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية.. وتفكيرًا إسلاميًا.. هو كذلك من صنع هذه
الجاهلية"( ).
والسؤال: إذا كان الخوارج سابقًا قد كفَّروا بعض السابقين عليهم وأبقوا
على البعض الآخر. فإن سيد قطب قد حكم بالكفر على مراحل بكاملها تمتد
زمنيًا لأكثر من 1300 سنة. بكل ما فيها من علماء وفقهاء ومجاهدين وأئمة
ومحدِّثين ومفسرين.. مفترضًا أن هذه الجاهلية التي يشير إليها، هي
الجاهلية نفسها التي سبقت الإسلام، باعتبار أنه ألغى كل ما حصل بعد انتهاء
عصر الصحابة الأوائل، واعتبره من نتاج الجاهلية الجديدة التي هي أظلم من
الجاهلية الأولى.. ولذلك فهو يريد إعادة إنشاء هذا الدين من جديد، يقول:
“كذلك ينبغي أن يكون مفهومًا لأصحاب الدعوة الاسلامية أنهم حين يدعون
الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولًا إلى اعتناق العقيدة
حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون
يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولًا اقرار عقيدة: لا إله إلا الله،
بمدلولها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله"( ). وهكذا يتضح لنا
مدى الترابط بين ما قاله الخوارج للإمام علي"ما الحكم إلا لله" وبين ما
يردده سيد قطب عن “الحاكمية لله" في أمرهم كله.. مع جهل سيد قطب بمدلول
لفظة “الأمر" ومدلول لفظة “الحكم" وكلتاهما وردتا في القرآن الكريم وفي
السنّة النبوية.. ولكل منهما دلالتها الخاصة.. كما سنرى لاحقًا.
ثانيًا: يفترض سيد قطب أن الإسلام يجب أن يعود كما جاء أول مرّة على أساس
الدعوة بثلاثة عشر عامًا كاملة تكفل بها القرآن المكّي، كما يقول، ولم تكن
القضية سوى إقرار عقيدة: “لا إله إلا الله" حتى إذا دخل في هذا الدين، في
أيامنا الحاضرة، عصبة من الناس. فهذه العصبة هي التي يُطلق عليها اسم
“المجتمع المسلم" وقد يسميه أحيانًا “الحركة الدعوية" وأحيانًا أخرى
“الجماعة المسلمة" وما شابه.


يهمنا في هذه النقطة، أن سيد قطب يعتبر أن من ينتمي إلى هذه الحركة أو هذا
الحزب الذي يتبنى منهجه هذا، هو المسلم الحقيقي المعوّل عليه في إعادة
إحياء الإسلام مرة أخرى، وكل من هم خارج هذا الحزب هم كفار وملحدون
وجاهليون.. كما يزعم في غير موضع من كتاباته وفتاويه.. يقول في موضع آخر
من معالم في الطريق: “وحين يبلغ المؤمنون بهذه العقيدة ثلاثة نفر، فإن هذه
العقيدة ذاتها تقول لهم: أنتم الآن مجتمع، مجتمع إسلامي مستقل.. منفصل عن
المجتمع الجاهلي الذي لا يدين لهذه العقيدة، ولا تسود فيه قيمها
الأساسية.. وهنا يكون المجتمع الإسلامي قد وجد فعلًا.."( )
بهذه الأفكار تمكّن سيد قطب من أن يجعل المنتسب للحركة أو الحزب ينسلخ عن
المجتمع الذي يعيش فيه، باعتباره مجتمعًا جاهليًا، وأن يوهمه أنَّ من حوله
هم كفار وملحدون، وهو، أي المنتسب، عليه تطبيق “التفويض الإلهي" بإعادة
المجتمع كله من الجاهلية إلى الإسلام، “...ليس هذا إسلامًا، وليس هؤلاء
مسلمين.. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام.
ولتجعل منهم مسلمين من جديد."( )
ولعل أولى نتائج هذه الفتاوى تجلّت في انشقاق الاخوان المسلمين إلى تيارين
متناقضين، تيار يقوده سيد قطب ويكفر الدولة والمجتمع والشعب على حد سواء،
وتيار آخر كان قد تربى على أفكار الشيخ المؤسّس حسن البنّا والذي كان
يقول: “إن مصر اندمجت بكليتها في الإسلام بكليته.. عقيدته ولغته وحضارته..
فمظاهر الإسلام قوية فياضة زاهرة دفاقة في كثير من جوانب حياتها.. أسماؤها
إسلامية ولغتها عربية.. وهذه المساجد يذكر فيها اسم الله ويعلو منها نداء
الحق صباح مساء.. هذه المشاعر لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام وما يتصل
بالإسلام"( ).
على أن اللافت أيضًا، أن يعتبر سيد قطب أن الإسلام قد مات أو انهدم أو
انمحى من الوجود، وكأن الله سبحانه وتعالى، قد قيّده، هو، لإعادة إحيائه
وبعثه وإنشائه من جديد.. جاهلًا أو متجاهلًا قوله تعالى: ﴿إنّا نحن نزلنا
الذكر وإنّا له لحافظون﴾( ).

ثالثًا: يربط سيد قطب ربطًا محكمًا بين المنهج الذي يفترضه والمجتمع الذي
يقترحه والحركة أو الحزب الذي يتوخاه. وهو في ذلك يقيس على بداية الإسلام
وكأن شيئًا لم يكن بين بدء الدعوة وبين أيامنا الحاضرة. بل ويلح على ذلك
إلحاحًا مقصودًا ويعود ويكرره مرات عديدة، منها: “ولكن الله، سبحانه، كان
يريد أمرًا آخر، كان يريد منهجًا معينًا متفردًا، كان يريد بناء جماعة
وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد.. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة
بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة.. كان يريد أن تكون العقيدة
هي واقع الجماعة الحركي الفعلي.. وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو
الصورة المجسمة للعقيدة.."( ) ثم يغوص في فلسفة أكثر تعقيدًا، ربما في
محاولة منه للتأثير على قارئيه، فيقول: «إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن
يغيّر عقيدة الناس وواقعهم فحسب، ولكن كانت وظيفته كذلك أن يغيّر منهج
تفكيرهم.. وتناولهم للتصور وللواقع، ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته
كلها لمناهج البشر القاصرة"( ).. وزبدة ما يبغيه سيد قطب هو أن كل شيء
ربّاني.. وكأني به لم يعلم بما فعله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عندما
استمدّ بعض قوانين الدولة الناشئة من الفرس والبيزنطيين ولاسيما في تنظيم
الجند ودواوين الخراج والمالية وغيرها، ولربما لو علم بذلك لرمى الفاروق
بالكفر والجاهلية من جملة من رمى!! إنه يقصد من خلال هذه الآراء قطع
الطريق على أي اجتهاد، وتنحية العقل البشري عن أي تفكير باعتبار ان مناهج
البشر كلها قاصرة!!
ولسيد قطب حرية أن يفكر كيف يشاء.. ولكن حريته هذه تتجاوز حدودها عندما
يعلن أن “ الحركة الدعوية “، التي يتوخاها، بل ينبغي عليها أن تزيل كل
العوائق التي تعترض دعوته ومنهجه وحزبه، وفي كل هذا العالم دفعة واحدة،
وذلك بعد أن يقسم هذا العالم إلى أربعة مجتمعات، تتساوى جميعًا في
جاهليتها وعبوديتها لغير الله، وهي: المجتمعات الشيوعية، والمجتمعات
الوثنية، والمجتمعات اليهودية والنصرانية، والمجتمعات المسلمة، أو تلك
التي تزعم لنفسها أنها مسلمة ( ). وهذه الأخيرة هي جاهلية، لأنها تدين
بحاكمية غير الله، ولأنها لا تتلقى، من هذه “ الحاكمية “، نظامها وشرائعها
وقيمها وموازينها، وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها.. وإذا تعيّن
هذا، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد، كما يرى
قطب، بعبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها
وشرعيتها في اعتباره.. ولكي لا يظنّن أحد أن باستطاعته صياغة خطة ما في أي
مجال من مجالات الحياة أو الواقع وفق مصلحة البشر.. فإن سيد قطب يعتبر أن
مصلحة البشر متضمّنة في شرع الله، كما أنزله الله، وكما بلَّغه عنه رسول
الله.. أما كيف نقيم النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو
التربوي.. أو ما شابه، فالجواب عند سيد قطب: كل ذلك نجده في “ الحاكمية “.
هذا المصطلح الذي اكتشفه سيد قطب، بعد أن غفـل عنـه السابقون
واللاحقـون..، ولا حاجـة حتى
لمجرد التفكير في الأمر قبل إخضاع المجتمع للمنهج والعقيدة والحركة، كما
بيّنا ذلك سابقًا. يقول: “إن مدلول “الحاكمية" في التصور الاسلامي لا
ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من الله وحده.. ولا حتى في أصول الحكم
ونظامه وأوضاعه.. إن شريعة الله تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة
البشرية، وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم.. ويتمثل في الأوضاع
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها
العبودية الكاملة لله وحده.. وفي هذا كله لا بد من التلقي عن الله"( ).
ولم يشأ سيد قطب أن يغوص في كيفية هذا التلقي.. مثله في ذلك كمثل الخوارج
عندما قالوا بتحكيم القرآن... فانطبق عليه قول الإمام: “كلمة حق يراد بها
باطل".
ومرة أخرى نقول إن لسيد قطب الحرية في التفكير كيف يشاء، ولكن الخطورة في
آرائه تتمثل عندما يدعو إلى تربية شباب مؤمن على مثل هذه الفتاوى والأفكار
الضبابية غير الواضحة وغير المفهومة ثم يفتي لهم بوجوب تطبيق هذه الآراء
والأفكار على الآخرين من حولهم ويجبرهم، تطبيقًا لأوامر إلهية، على اخضاع
المجتمعات البشرية لسلطانهم “الإلهي" مسلطًا عليهم في الوقت نفسه سيفًا من
الإرهاب الفكري والنفسي والمعنوي عندما يضعهم على مفترق واحد فقط لا غير:
الإيمان أو الكفر. الهدى أو الجاهلية، كما يزعم.
أما عملية الاخضاع هذه، فهي أشبه بإعلان حرب على كل المجتمعات الجاهلية من
حول “المجتمع الإسلامي" النواة، برأيه، وهي حرب شاملة لكل ميادين الحياة
على ظهر الكرة الأرضية كلها.. وربما لذلك، يبث في غير موضع من كتاباته،
وبأساليب مختلفة فكرة فصل عناصر مجتمعه المسلم، وأعضاء حركته الدعوية، عن
كل الآخرين في المجتمع.. ضاربًا بعرض الحائط “صلة الرحم" إذ لا قرابة إلا
قرابة الدين، ولا ولاء إلا الولاء للعقيدة، ولا انتماء إلا الانتماء
للحركة أو الحزب، وكل ولاء أو انتماء دون ذلك فهو كفر وإلحاد وجاهلية..
يقول حرفيًا: “إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع
الجاهلي وقيمه وتصوراته.."( ) وكأننا بسيد قطب وقد أُعجب باستعلاء اليهود
على الآخرين، يريد أن يعمم هذا النهج الاستعلائي التلمودي على جماعته، بعد
أن يجردهم من هويتهم القومية والوطنية إذ يعتبر أن الانتماء للعروبة أو
الوطن أو حتى العائلة أو الأسرة.. كل هذه الانتماءات أو الولاءات كفر
وإلحاد وجاهلية يجب التبرؤ منها.

بناءً على ما تقدم، فإننا نستطيع استنتاج الملاحظات التالية:
1- كما الخوارج، فقد خلط سيد قطب، وأتباعه في المنهج التكفيري، خلطًا
عجيبًا بين المعاملات والعبادات، وبين الأصول والفروع، في الشريعة
والدين.. فكان أحيانًا يستشهد بآيات قرآنية نزلت في أهل الكتاب أو الكفار،
ليطبقها على المسلمين أو المؤمنين.. جاهلًا أو متجاهلًا أسباب النـزول أو
الدلالات والايحاءات المتوخاة من وراء ذلك. ولنا في الآية الرابعة
والأربعين من سورة المائدة خير دليل. ففيها قوله تعالى: ((إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبييون الذين اسلموا للذين هادوا
والربانييون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا
تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون))
ومع أن الآية واضحة الدلالة أنها في اليهود عبر التاريخ وما نزل عليهم في
التوراة، فقد اقتطع سيد قطب الجزء الأخير من الآية واعتبره في المسلمين،
جاهلًا أو متجاهلًا، في الوقت عينه، أن الحكم هنا لا يعني اطلاقًا النظام
السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم في العصر الحديث، وإنما يعني
الثوابت المقررة في الشرع الإلهي، أو ما نسميه نحن اليوم: قانون الأحوال
الشخصية: كالزواج والطلاق والإرث.. وغير ذلك من الأحكام التي لا تتبدل
بتبدل الزمان والمكان، بخلاف النظام السياسي والاقتصادي الذي هو عرضة
للتبدل والتغير من مرحلة إلى مرحلة ومن مكان إلى آخر.. وفق المصلحة
الشعبية العامة ومقتضياتها.. وانطلاقًا من “العقل" الذي وهبه الله بني
البشر، دون غيرهم، وأراد له سيد قطب والتكفيريون أن “يتجمد" و"يتحجر" في
كهوف ما أنزل الله بها من سلطان.
بالإضافة إلى ذلك فقد ساوى سيد قطب بين المجتمعات كما قسمها هو، فالمجتمع
“المسلم" كالشيوعي والوثني، أما المسيحي واليهودي فهما واحد برأيه،
والمجتمعات كلها جميعًا تحكم بغير ما أنزل الله، كما يقول، وبالتالي كلها
متساوية في الردة والجاهلية والكفر... وكأن سيد قطب ما سمع قوله تعالى:
﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم
الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ( ). وقوله: ﴿لتجدنّ أشد
الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ اقربهم مودة للذين
آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا
يستكبرون﴾( ).
من ذلك نستنتج أن سيد قطب بقدر ما كان أديبًا في كتاباته.. كان بعيدًا كل
البعد عن علم الفقه وتقنياته، وشروط العلم الشرعي ومقتضياته... وهو ما ذهب
إليه الشيخ يوسف القرضاوي، أحد قادة الاخوان المسلمين سابقًا عندما قال
عنه: “لو أتيح لسيد قطب دراسة الفقه الإسلامي والعيش في كتبه ومراجعه
زمنًا، لغيّر رأيه هذا، فقد كان، فيما أعلم، رجاعًا إلى الحق، لكن تخصصه
ولون ثقافته لم يتح له هذه الفرصة.."( )
2 - وإذ أنه ساوى بين مجتمعات الكرة الأرضية الأربعة، وأعلن عليها الحرب
دفعةً واحدة تحت شعار “ الجهاد “، فإنه اضطر الى أن يُفتي بوقف العمل ببعض
الآيات التي تدعو الى السلم، ومقاتلة من يقاتلنا فقط.. ومهادنة من
يُهادننا، وإقامة علاقات القسط والعدل والبرّ مع الآخرين، حتى ولو كانوا
مخالفين لنا في الدين والعقيدة والمفاهيم، ومن هذه الآيات التي ألغاها،
الآية الثامنة من سورة “ الممتحنة “: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم
يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن
الله يحب المقسطين﴾. والآية 190 من سورة “ البقرة “: ﴿وقاتلوا في سبيل
الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾. والآية 61 من
سورة الأنفال: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع
العليم﴾.
شكّلت هذه الآيات وأمثالها مأزقًا بالنسبة لمنهج قطب التكفيري، غير أنه
بدل أن يمتلك الشجاعة الكافية فيعمد الى نسف هذا المنهج ونقضه من أساسه،
فإنه عمد الى نسف العمل بهذه الآيات، وإبطال مفعولها وأحكامها.. وهو ما لم
يتجرأ على فعله أحد بمثل هذه العبثية، وبهذا التفكير السطحي الساذج.
3 – أثارت آراء قطب وأفكاره موجة من النقاشات وردود الفعل من كبار العلماء
منذ إطلاقها في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن هؤلاء علماء الأزهر:
الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي، والشيخ حسن مأمون، والشيخ محمود شلتوت،
والعلماء: الشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور فهمي هويدي، والدكتور محمد
عمارة، وحتى الشيخ حسن الهضيبي (خليفة حسن البنّا)، بالإضافة الى الشيخ
راشد الغنوي بتونس، والشيخ عبد السلام ياسين بالمغرب، والشيخ حسن الترابي
بالسودان، والمفكر الإسلامي طارق البِشري.. وآخرين كثر من الذين أجمعوا
على إدانة المنهج التكفيري، واعتبار مصطلح “ الحاكمية “ لا وجود له في
القرآن أو السنّة.. كما سفّهوا آراء سيد قطب في تحديده لمفهوم الشهادتين..
معتبرين أن من ينطق بالشهادتين يعتبر مسلمًا فور نطقه بهما.. ولا يلزمه أن
تكون أعماله كما اشترط السيد قطب، مصدّقة لشهادته حتى يُحكم بإسلامه..
مُجمعين على التفريق بين العاصي والكافر، وعلى أن شيوع المعاصي عند بعض
المسلمين لا يشكل منطلقًا للحكم بالكفر والجاهلية على المجتمع كلّه، وعلى
الأمّة التي لا تزال بغالبيتها ملتزمة بالإسلام، ومتديّنة وتؤدّي الفرائض،
وتخاف الله، مِمّا يدل على صحة عقيدتها وإيمانها .. فكيف بالإمكان
اعتبارها من الجاهليين كأهل مكّة قبل الإسلام، كما اعتبرها قطب، وقبله
المودودي؟!.
4 - إن محاولة سيد قطب، وأمثاله من الكتّاب التكفيريين، في إحياء الإسلام
في هذا العصر، كما يقولون، لم تكن عملية إحياء للإسلام وبعثه، وإنما كانت
عملية إحياء وبعث حقيقية للمنهج التكفيري الذي نشأ على يد الخوارج كما
أسلفنا، بل واستحضار لهذا المنهج بشعاراته وأهدافه وتقنياته وأساليبه، مع
بعض التعديلات الطفيفة التي لا تمس الجوهر ولا المضمون.
ولعل أولى أوجه التشابه بينهما تتمثل في استبعاد العقل منطلقًا لفهم الدين
وجلاء الحقيقة، ثم هذه الحداثة في الالتحاق بالاسلام فكان كالخوارج حديث
عهد بالإسلام بعد أن كان يعيش في أميركا وينغمس في الحضارة الغربية
انغماسًا يدعو إلى الدهشة والريبة في آن، إذ أنه لسنوات قليلة خلت قبل
التحاقه بصفوف الاخوان المسلمين عام 1953م، كان يدعو إلى إلحاق مصر
بالحضارة الغربية شكلًا ومضمونًا.. وله كتابات يدعو فيها إلى التعرّي
والاباحية الجنسية.. وغير ذلك( ). بالإضافة إلى هذا وذاك، فإنه كالخوارج
يعتبر أن النموذج الإسلامي المثال يتمثل في عهد النبوّة وخلافتي أبي بكر
وعمر فقط.. وبالتالي لا يقيم وزنًا لكل ما جاء بعدهما حتى ولو كان فقهًا
لمالك بن أنس وجعفر الصادق وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، أو تفسيرًا
للقرطبي والنسفي والطبري وابن كثير، أو علمًا وفكرًا للغزالي والأشعري
والباقلاني وابن خلدون وغيرهم وغيرهم.. وهذا ما حدا بالشيخ يوسف القرضاوي
إلى انتقاده مرة أخرى، قائلًا: لو أهملنا الفقه لأنه فقه، لترتب على ذلك
اهمال ما نسمّيه “الشريعة" نفسها لأنها لا توجد إلا داخله"( ). ثم يضيف
قائلًا: “النظريات والفروع والمسائل والصور والشروح والتعليلات التي قام
بها الفقهاء بتقديمها على توالي العصور، ليست شيئًا هيّنًا يُتصور
الاستغناء عنه بسهولة. كما أنها ليست كلها مما فصِّل على قدّ زمن معين
وبيئة معينة ولم يعد يصلح لعصرنا. فمعظم هذه الثروة الفقهية الضخمة صالح
للتطبيق في زماننا وبيئتنا والقليل منها هو الذي كان نتيجة بيئته وعصره"(
).
5 - إن الخطأ الأول عند سيد قطب، ومن خلال كتاباته، هو في الافتراض الذي
توهمه وأوهم به الكثيرين من أشباه المتعلمين وعوام الناس، وذلك عندما اعلن
وصرح في العديد من كتاباته أنه يهدف إلى إحياء الإسلام ودوره من جديد،
مفترضًا نفسه “المخلّص" و"المرشد" إن لم يكن أكثر من ذلك.. وكأن الإسلام
قد مات في النفوس والقلوب والعقول، وعلى سيد قطب وحده تقع مهمة الإحياء
والانبعاث من جديد.. ليدلل بذلك على أنه يجهل الفرق الشاسع بين ضعف
الإسلام وضعف المسلمين.
6 - لقد أبعد سيد قطب العقل ودوره عن اية دراسة للواقع أو العصر الذي يعيش
فيه. وهو إلى ذلك نسف العمل بالاجتهاد وافتى بعدم الحاجة إليه. ناسيًا أو
متناسيًا أن الاجتهاد سنّة نبوية محكمة وأن أحدًا لا يملك حق إلغائها،
كائنًا من يكون، وأن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا في محكم تنـزيله على
إعمال دور العقل في كل ما يتعلق بالحياة والمجتمع وأمور دنيانا. وربما
لذلك كنا نجد الحركات والتنظيمات التي نشأت على المنهج التكفيري تفتقر إلى
أية رؤية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وليس لديها أي برنامج عمل أو
خطط وأهداف معلومة تعمل على تحقيقها والوصول إليها. ولهذا كانت هذه
الحركات والى اليوم تتردى في مهاوي الانقسامات ولعل أولها الانشقاق داخل
حركة الاخوان المسلمين في مصر.. ثم توالي الانشقاقات في مختلف أنحاء
العالم العربي والاسلامي.. كما سبق وقدمنا.
7 - ولعل من الأخطاء التي وقع فيها سيد قطب هو افتراضه أن المجتمع الحالي
في هذا العصر الذي نحن فيه وبعد حوالي أربعة عشر قرنًا من الزمان، هو نفسه
العصر الذي بدأت فيه الدعوة، دون أن يأخذ بعين الاعتبار الفوارق الشاسعة
في الظروف والمشكلات والتحديات، بين العصرين والمجتمعين. وعليه، فقد اصبحت
أولويات ذلك الزمن (بداية الدعوة) هي نفسها أولويات لزمننا الحاضر. وعلى
سبيل المثال لا الحصر، فقد صارت بنظر سيد قطب أولوية استقطاب عناصر لإقامة
المجتمع المسلم (كمجتمع الصحابة) واقناع هذه العناصر وتعبئتها بكفر الأمة
وجاهليتها وردتها، أولوية تتقدم على ما عداها من أولويات، وكأن ليس هناك
استيطان صهيوني أو استعمار غربي، أو تجزئة أو استبداد.. هذه المخاطر
والتحديات والأمراض التي تستهدف وجودنا وحضارتنا وهويتنا في هذا العصر
والتي لم يذكرها سيد قطب ببنت شفة، ولم يعرها اهتمامًا، لا من قريب ولا من
بعيد.
8 - تتسم أفكار سيد قطب بعدم مواكبة العصر والابتعاد عن معالجة المشكلات
المعاصرة وعن مواجهة التحديات القائمة.. وليته بدل أن يجهد نفسه وذهنه في
محاولة اقناعنا بأن الأمة في كفر وضلال وجاهلية، ليته بذل جهدًا في دراسة
الظلم الاجتماعي والسياسي القائم في الأمة، فضلًا عن التجزئة التي تفكك
أوصالها وتمنع وحدتها وتقدمها، وليته قدّم لنا دراسات في مواجهة الاستعمار
الحديث والاستيطاني، وفي محاربة الجهل والأمية والفساد والاستغلال وغير
ذلك من موبقات العصر التي أفنى علماء كثر ومجاهدون ومثقفون حياتهم في
مواجهة هذه الموبقات المعاصرة ومحاربتها..
9 - لقد تبنَّى البعض أفكار سيد قطب ومنهجه التكفيري، وبنوا على ذلك حركات
وتنظيمات وأحزاب في مختلف أنحاء العالمين: العربي والإسلامي. غير أن الفئة
منهم كانت ما إن تنطلق في دعوتها ونشاطها حتى تصطدم بالواقع نتيجة
الافتراضات الخاطئة التي استقتها من المنهج التكفيري. وإذ ذاك كنا نراها
تنقسم على نفسها وتتشرذم إلى فئات، كل فئة منها تستخدم سلاح التكفير نفسه
مع الفئة الأخرى، وهلمَّ جرًا..
واللافت للنظر، أن هذه الحركات والتنظيمات قد لازمتها، ومنذ القدم، شبهة
التعامل مع الغرب ودوله الاستعمارية، وسواء أكانت فرنسة وبريطانية سابقًا
أو أميركة حاضرًا.. بل لقد ثبت على بعض أصحاب المنهج التكفيري وفي غير
منطقة عربية وإسلامية، تورطهم في تنفيذ مخططات غربية مشبوهة، وذلك بشكل
مباشر أو غير مباشر، كما ثبت أن الدول الاستعمارية وجدت في الحركات
والتنظيمات والجمعيات التكفيرية فرصتها السانحة لبث المزيد من الانقسامات
الطائفية والمذهبية والفئوية والحزبية في المجتمع العربي والتي تساهم في
المزيد من تجزئته وتفتيته وإضعافه، ومن هؤلاء سيد قطب نفسه عندما حوكم
بمصر بتهمة التعامل مع الانكليز في خضم المعركة التي قامت بين ثورة 23
تموز/يوليو وبين الانكليز إثر تأميم قناة السويس عام 1956م، فحوكم أمام
القضاء وحُكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا ثم أُطلق سراحه بعفو عام من رئيس
الجمهورية ليعود إلى السجن مرّة ثانية بعد ثمانية أشهر بتهمة التخطيط
لاغتيال رئيس الجمهورية وتدمير بعض المنشآت كخطوط المواصلات والاتصالات
إضافة إلى تهمة الاتصال بقوى أجنبية، فأعيدت محاكمته وحُكم عليه بالإعدام
مع اثنين من جماعة التنظيم السري في 29 آب/أغسطس 1966م.
10 – كما قلنا سابقًا، فقد شكّلت كتابات سيد قطب ومنهجه التكفيري سببًا
لانقسام “ الإخوان المسلمين “ حولها الى ثلاث فئات: فئة مؤيدة بحماس، وفئة
معارضة بعنف، وفئة مبرّرة بخجل.. غير أن الخطورة في الأمر تجلّت في مرحلة
ما بعد سيد قطب عند بعض الكتّاب “ المتمشيخين “ و" المتفيقهين “ الذين
اتخذوا من منهجه منطلقًا لموجة تكفير شاملة .. فراحوا يكفّرون كل من
حولهم: المجتمع، والدولة، والحكّام، والشعوب... وكل من هو خارج عصبتِهم أو
حزبِهم أو شلّتهم، تحت شعار: “ من لم يكفّر الكافر فهو كافر “.. أما
الانتخابات والبرلمان والديمقراطية فهي أعمال كفر، لأنها لم ترد في
القرآن.. وبعضهم اعتبر المساجد القائمة معابد للجاهلية، لأن الذين يصلّون
فيها مرتدّون وكفرة.. وأفتى بعضهم بعدم جواز الصلاة، ولو في المسجد
الحرام.. في حين قال البعض أن العروبة طاغوت، والوطنية كفر، والقومية
إلحاد.. بينما اعتبر آخرون أن أموال الدولة حرام، ودعا المسلمين الى ترك
وظائفهم وأعمالهم ومناصبهم في الدولة إن كانوا مؤمنين..لأنهم يأكلون
الحرام من دولة لا تدين بـ “ حاكمية “ قطب والمودودي.
وتحت شعار “ الجهاد في سبيل الله “، راحت هذه الحركات تتحوّل الى العنف
المسلّح معتبرة أموال الناس وارزاقها وأملاكها فريسة مباحة لها.. لتقع هي
نفسها، في أحيان كثيرة، فريسة للقوى الإستعمارية والصهيونية، التي وجدت
فيها، كما قلنا سابقًا، فرصتها السانحة لتحقيق أهدافها ومخططاتها في الوطن
العربي. ولا غرابة إذا راينا أن القوى الاستعمارية كانت في بعض الأحيان،
وبشكل مباشر أو غير مباشر، تغذّي هذه الحركات التكفيرية، وتمدّها بكل
وسائل الدعم المالية والعسكرية والإعلامية.. وغيرها.
فهل نستغرب بعد ذلك هذه العقلية المتوحشة، وهذه النفسية الهمجية التي
أنتجها المنهج التكفيري، والتي راينا مثالًا تطبيقيًا لها في الغدر بجنود
الجيش اللبناني في نهر البارد، والتي نرى أمثلة يومية لها في الجزائر
والباكستان، وفي غير منطقة عربية وإسلامية؟!!.

خلاصة القول، إن ظاهرة التكفير من الظواهر الخطيرة على المجتمع والأمة
والدين في آن معًا.. وهي، كما قلنا بداية، تأتي ثمرة من ثمرات التلاقي بين
الجهل والتدين.. وقد لا تنمو وتنتشر وتقوى إلا في المجتمعات التي يسودها
القهر والحرمان والتخلف أو تلك التي يشعر فيها الناس بالظلم والاستبداد
والضعف والهوان.. ولعل المناخ المؤاتي لهذه الظاهرة والمستفيدين منها
يتمثل في الشرخ القائم أحيانًا بين الدولة ورعاياها وبين الحكام
والمحكومين، وفي غياب العدل والبعد عن جوهر الإيمان في الممارسة والتطبيق،
وفي عدم رصد مشاكل المجتمع والعمل على حلها من قِبل بعض الحكام والأنظمة
وأولي الأمر في أحيان كثيرة وفي أمكنة عديدة..
وقد لا تكفي التوعية وحدها في محاربة هذه الظاهرة في هذا العصر، إذا لم
يتلازم معها العدل والانصاف والمساواة، وإذا لم تشعر فيه الفئات الشعبية
بحقها في الحرية والعدالة والمشاركة في صنع مستقبلها، والتعبير عن مصالحها
وآمالها وأحلامها.
لقد علمتنا التجارب أن القمع والمعالجة الأمنية لا يفيدان في مواجهة هذه
الظاهرة والحد من مخاطرها وآثامها، ذلك لأن العديد من الحركات والأحزاب
التكفيرية يخفون آراءهم ويضعونها طي الكتمان، ولا يجاهرون بحقيقة نواياهم
وأفكارهم، وبذلك يتحولون إلى أعداء مستترين والى أمراض متخفية يصعب
معالجتها والحد من تفشيها وانتشارها.
وعليه، فإن على كل الحركات والأحزاب والجمعيات التي تزعم لنفسها الإسلام
والإيمان، أن تعيد النظر في هذا المنهج التكفيري، وأن تحدد موقفها منه
بصراحة ووضوح، وأن تراجع موقفها من كل المتطرفين والمغالين الذين ما جنوا
على الأمة إلا المزيد من القهر والفرقة والإذلال، وما شكلوا إلا المزيد من
الذرائع للمستعمرين والصهاينة لإنتاج المزيد من الاحتلالات والتدخلات في
غير موقع وفي غير مجال من المجالات.
إن كل المفكرين والمثقفين والعلماء، مدعوون إلى التبرؤ من “التكفيريين"
والى فضح فتاويهم وآرائهم التي يشوشون بها على العامة ويضللون بها الشباب
مستغلين عواطفهم الدينية البريئة.. فيحرفونها عن منطلقاتها وتوجهاتها
النبيلة السامية إلى غايات وأهداف تؤذي شعبنا.. وتسيء إلى إيماننا.. وتغضب
ربنا.
وقد آن لنا أن ندرك أن النصر لا يصنعه المتطرفون.. وأن الحق لا يحققه
المزايدون.. وأن التقدم على الأرض العربية لا يقيمه المتحجرون.. وأن
الإيمان لا يرسي دعائمه المغالون المنغلقون..
ولقد صدق رسولنا الكريم عندما قال: (هلك المتنطِّعون)

د. محمود حمد سليمان
(عكار . لبنان)













صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

المنهج - المنهج التكفيري .. إلى أين ؟! بقلم د. محمود حمد سليمان Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28478
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى