شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)

اذهب الى الأسفل

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)  Empty الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس نوفمبر 11, 2010 9:54 am

القاعدة الأولى
التثبت في النقل والرواية إن آفة الكثيرين من خاضوا في الخلافات السياسية بين الصحابة هي عدم التحري في النقل. فقد ورثت أجيال المسلمين تراثا ضخما من الروايات المتناقضة عن تلك الأحداث، وفعلت التعصبات والأهواء فعلها، فأصبح جل الباحثين ينتقون الروايات التي تناسب رؤيتهم، دون اعتماد معيار موضوعي في النقل.

وليس من معيار علمي أحسن من منهج أهل الحديث في النقل، لأنه منهج موضوعي يحكم على الرواية من خارجها، فلا يهتم بدعمها لهذه الرؤية أو تلك، ما دامت قد وردت بسند متصل من الرواة العدول، ولم تشتمل على شذوذ أو علة قادحة.

لكن الغريب والمثير للأسى في آن هو أن بعض المعاصرين من يُتوسم فيهم الالتزام بمنهج أهل الحديث – بحكم الانتساب والتخصص – لا يلزمون أنفسهم به إلا نظريا، في دراستهم للخلافات السياسية بين الصحابة. فهم يهاجمون الكذابين والمتساهلين في النقل، ثم يسمحون لأنفسهم بكل أنواع التساهل إذا كانت بعض الروايات تدعم وجهتهم في النظر والتحليل. وسنتحدث باستفاضة عن أمثلة من ذلك في ختام هذه الرسالة، حينما نتناول منهج ابن العربي وتلامذته المعاصرين، ضمن فقرة: "حوارت مع مدرسة التشيع السني".

وقد اطلعنا على عدد من الدراسات لباحثين معاصرين، بذل مؤلفوها جهدا رائعا في نقد روايات المؤرخين حول الفتنة – خصوصا الطبري - وبيان صحيحها من سقيمها. وهو جهد يحتاج الباحثون القادرون على التحليل إلى الاستفادة منه، إذا ما أرادوا الأخذ عن هؤلاء المؤرخين.

لكن هذه الدراسات عانت من خلل في جانبين:

- أولهما: أن مؤلفِيها لم يبذلوا جهدا كبيرا في استقراء الروايات الواردة في كتب الحديث. ولو فعلوا ذلك بتوسع كاف، لما احتاجوا إلى روايات المؤرخين – وضمنهم الطبري - إلا قليلا. وهذا تقصير غير لائق، خصوصا من المتخصصين في علوم السنة.

- وثانيهما: أنهم لم يلزموا أنفسهم بمقتضى المنهج الذي دعوا إليه. فحالما انتهى كل منهم من نقد روايات المؤرخين، وبدأ تحليل الأحداث، نسي كل قواعد التحديث، وغدا يسرد نقول المؤرخين التي تدعم تحليله – بمن فيهم المعاصرين - دون أي نقد أو مراجعة، ويرد الروايات التي تخالف تحليله دون برهان من قواعد التحديث التي تبناها.

ومع ذلك تظل لهذه الدراسات قيمة علمية عظيمة في مجال التمييز بين الروايات الصحيحة والسقيمة في تاريخ الطبري، ولعل باحثين آخرين يستفيدون من ذلك الجهد العلمي في تحليل تلك الأحداث أكثر مما استفاد منه كتاب تلك الدراسات، فرب مبلغ أوعى من سامع.

ومهما يكن فإن الطامح إلى دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة - دون مجازفة في النقل - يحتاج إلى أن يكون صبورا، فيسيح في الكتب الصحاح والسنن والمسانيد دون كلل، ثم يتجه إلى كتب التراجم التي كتبها أهل الحديث، والتي تتضمن تصحيحا لكثير من الروايات التاريخية، وطعنا في الدخيل والمعلول منها. ويكون ممن يملكون قدرة منهجية تركيبية تمكِّنه من ضم هذه الأخبار المتناثرة في سياق واحد، وبناء صورة كلية منها - دون أن يكون عالة على تبويب الأقدمين واهتماماتهم - ثم استنباط دلالة تلك الصورة في الماضي وعبرتها في المستقبل .

ومهما يكن من أمر، فإن في كتب الحديث غُنْية، وكلما تمرس الباحث في التعامل معها، وغاص على كنوزها، اقتنع أن فيها من التفصيلات عن حياة الصدر الأول كفاية لكل راغب. فإن أراد التوسع، فلن يحتاج من المؤرخين إلا إلى تفصيلات بسيطة تسد ثغرات في صرحه النظري الذي بناه على الروايات الصحيحة، وربما لا يحتاج إلى ذلك أصلا.

وخير المؤرخين هم أهل الحديث أيضا، فقد جمع عدد من العلماء بين العلمين، وأتقن الصنعتين، ومن هؤلاء الذهبي وابن كثير وابن حجر وغيرهم.. فهؤلاء وإن لم يلتزموا منهج الجرح والتعديل في كتاباتهم التاريخية، إلا أن تمرسهم بالصحيح والسقيم، وخبرتهم في نقد المنقول نقدا مقارنا، يجعلهم ينتبهون في الغالب إلى الروايات المنكرة والشاذة والمكذوبة، التي خالفت ما يعرفونه من الروايات الصحيحة، فينبهون على نكارتها أوشذوذها أو انتحالها، وفي ذلك عون جليل للباحث الحريص على التزام صحة النقل. * القاعدة الثانية
استصحاب فضل الأصحاب لقد غالى كثير ممن تناولوا الخلافات السياسية بين الصحابة في الغض من بعضهم بالحق وبالباطل. ولم يكتفوا بأخذ هذا الخطإ أو ذاك على هذا الصحابي أو ذاك، بل تناسوا فضائل الصحابة وسابقتهم وجهادهم، فأطلقوا ألسنتهم بالإساءة إليهم، والافتراء عليهم.

وقد تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية لهؤلاء – وعلى رأسهم روافض الشيعة – فألف في الرد عليهم كتابه القيم: "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية" ويعرف أيضا باسم "ميزان الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال"، وهو موسوعة اعتقادية وسياسية شاملة، بل لعله أوسع ما كتب في فقه الخلافة على الإطلاق. كما خصص مساحة واسعة من فتاواه لهذا الأمر.

ومن أبلغ الحجج التي ساقها ابن تيمية في هذا الصدد تبيانه لفضل الصحابة على جميع أجيال المسلمين، باعتبارهم حمَلَة الدين ومبلغيه إلى مَن خلا بعدهم. وفي ذلك يقول: »كل مؤمن آمن بالله، فللصحابة عليه فضل إلى يوم القيامة« (49). فليس من الإنصاف – فضلا عن العرفان بالجميل – أن تسيء إلى من قدم إليك رسالة الله وهداية الحق. فهذه الحجة ببساطتها وبلاغتها تكفي لإلجام كل منصف عاقل.

ولا يكون احترام الصحابة الكرام بالغلو فيهم، أو إضفاء صفة غير بشرية عليهم، وإنما بالتزام قواعد الشرع، الذي جعل للسابقة فضلا، ومنع من إهدار ذلك الفضل بمجرد وقوع هفوة أو ذنب من هذا الصحابي أو ذاك. إن الدفاع عن الهفوات وتبريرها لا يستساغ شرعا، لكن إهدار فضل الأكابر بها لا يستساغ كذلك. ولا بأس أن نورد مثالين يمكن اتخاذهما أصلا في ذلك:

المثال الأول: مِسْطح بن أثاثة رضي الله عنه، وهو رجل من المهاجرين البدريين، وقعت منه هفوة فاشترك في حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. تحكي عائشة قصة سماعها لحديث الإفك أول مرة، فتقول في حديث طويل نقتطع منه الفقرات ذات الصلة بالموضوع : »… فانطلقت أنا وأم مسطح … فعثرت أم مسطح، فقالت: تَعِس مسطح، فقلت لها: بئس ما تقولين، أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ … فأنزل الله هذا [القرآن] في براءتي. قال أبو بكر الصديق – وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره – والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: "ولا يأتلِ أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" قال أبو بكر الصديق: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا …« (50) »ووقع عند الطبراني أنه صار يعطيه ضِعْف ما كان يعطيه قبل ذلك« (51).

وتتضمن هذه القصة درسين على قدر كبير من الأهمية لموضوعنا:

- رد عائشة على أم مسطح، واستنكارها لسبها ذلك الرجل المجاهد الذي شهد بدرا، وهو ما يدل على أن الاعتراف بفضل السابقين وأهل نصرة الدين في ساعة العسرة أمر لازم شرعا، وقد كان الصحابة يدركونه ويقدرونه.

- وأن ذلك الفضل والسبق يشفع لصاحبه، فيستحق على المؤمنين أن يتجاوزوا له هفواته، فقد أمر الخالق سبحانه أبا بكر الصديق أن لا يقطع صلته عن ذلك المؤمن المهاجر في سبيل الله، بسبب هفوة بدرت منه، وعثرة أصابته، فهو بشر في نهاية المطاف.

المثال الثاني: حاطب بن أبي بلتعة الذي حاول تسريب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتحركات جيشه إلى المشركين، وليس ذلك بالخطإ البسيط في ظروف الحرب، ولذلك أورد البخاري القصة تحت عنوان "باب الجاسوس" (52) وأوردها أبو داود تحت عنوان " باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما" (53). لكن النبي صلى الله عليه وسلم قبِل عذر حاطب، وشفعت له سابقته وجهاده، بعد أن هم عمر بضرب عنقه »فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. قال عمرو [بن دينار]: ونزلت فيه "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" .. « (54). ففي هذا الحديث كسابقه درس عظيم في الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم ، وعدم إهداره بما يقع منهم من عثرة أو كبوة.

لكن لا بد من التنبيه هنا على أمر غفل عنه الغلاة في كل عصر، وهو أن الاعتراف لذوي الفضل والسابقة بفضلهم، لا يتضمن إقرارهم على هفواتهم، ولا يعطل أحكام الإسلام العامة، ولا يجعل في الحكم الشرعي ازدواجية، بحيث ينطبق على هؤلاء ويستثني أولئك، فقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف على الذين جاءوا بالإفك كافة بمن فيهم المهاجر البدري مسطح بن أثاثة (55) ونزل القرآن يحذر من موالاة أعداء الله وأعداء المؤمنين بعد ما فعله المهاجر البدري حاطب بن أبي بلتعة.. * القاعدة الثالثة :
التمييز بين الذنب المغفور والسعي المشكور لقد وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد بالجنة لعدد من الصحب الكرام، منهم العشرة المبشرون، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، مثل حديث حاطب المتقدم، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: »لن يدخل النار أحد شهد بدرا« (56) »لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة« (57) مما يقتضي أن الله تعالى قد تفضل على الذين شهدوا تلك المشاهد الجليلة بالمغفرة والتجاوز عن ذنوبهم. وقد أخطأ في فهم هذه النصوص صنفان من الناس:

- صنف فهم من البشارة بالجنة نوعا من العصمة الضمنية، التي لا يرتكب صاحبها ذنبا بعد ذلك إلا ما كان متأولا فيه من خطإ مرفوع، ورفضوا تسمية الأمور بأسمائها، وتكلفوا في التأول لأخطاء وقع فيها بعض أولئك السابقين، وذنوب أصابوها.

- و صنف أخذوا الذنب غير مقرون بالبشارة، فرتبوا عليه وعيدا دلت نصوص السنة أنه غير واقع، وأنه لا يتناول أولئك القوم، لخصوص البشارات الواردة فيهم. فأخطأوا الفهم، وخالفوا نصوصا صحيحة صريحة.

وقد بين شيخ الإسلام خطأ كل من المنهجين فقال: »والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان: القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له. والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور. فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل حسناته سيئات، وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات« (58). ثم يطبق هذه القاعدة الجليلة في حديثه عن العشرة المبشرين وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فيقول: »نحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب، بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يعذبه في الآخرة، ولا يدخله النار، بل يدخله الجنة بلا ريب. وعقوبة الآخرة تزول عنه إما بتوبة منه، وإما بحسناته الكثيرة، وإما بمصائبه المكفرة، وإما بغير ذلك« (59) »فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية« (60).

وهو نفس التحليل الذي انتهى إليه ابن حجر، حينما نبه إلى أن المراد بذلك »أن الذنوب تقع منهم، لكنها مقرونة بالمغفرة، تفضيلا لهم على غيرهم، بسبب ذلك المشهد العظيم« (61).

وتمييز ابن تيمية هنا بين الذنب المغفور والسعي المشكور أمر دقيق المسلك، وهو على قدر كبير من الأهمية. لأن بعض المتحمسين الذين لم يلتزموا منهج العلم والعدل حولوا الذنب المغفور هنا إلى سعي مشكور. وهذا أمر خطير، لأنه يؤثر على وضوح القاعدة والمبدإ الشرعي في أذهان أجيال المسلمين. والمنهج العدل يقضي بتسمية الخطإ أو الذنب باسمه دون مواربة، ثم بيان البشارة المتضمنة للمغفرة بالنسبة لمن وردت في أشخاصهم. وبذلك يتم سد الباب أمام الذين يستسهلون الاقتداء بأخطاء الأكابر وذنوبهم، وأمام الذين يريدون القدح فيهم والتطاول عليهم، ويتم إنصاف الشخص والمبدإ كليهما. * القاعدة الرابعة :
التمييز بين المنهج التأصيلي والمنهج التاريخي إن الخلاف الذي دار حول تقييم العديد من مواقف الصحابة وأشخاصهم كان مرده إلى عدم التمييز بين منهج التأصيل ومنهج التاريخ. فالمنهج التأصيلي ينطلق من المبدإ ويحاكم الناس إليه، وهمُّ أصحابه هو الدفاع عن مبادئ الإسلام أن تلتبس بأعمال البشر، أو تغشاها غواشي التاريخ. أما المنهج التاريخي فينطلق من وصف التجربة البشرية العملية، ويقيس بعضها على بعض. وهمُّ أصحابه هو الدفاع عن رجالات الإسلام أن تنطمس مآثرهم، أو تنهار هيبتهم في النفوس. ولو أننا أخذنا بهذا التمييز، لأفادنا ذلك في التقييم المنصف.

فلنر الآن كيف طبق ابن تيمية هذه القاعدة في تقييمه لشخصية معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما.

إن أصل الخلاف في الحكم على شخصية معاوية ينبني على الخلاف بين المنهجين:

- فالآخذون بالمنهج التاريخي يقيسون ملك معاوية على من جاءوا بعده من الملوك أو على حكام عصرهم، فيميلون إلى الدفاع عنه. وهذا أمر منطقي، فقد كان معاوية في حكمه وقسْمه ودفاعه عن حوزة المسلمين وبيضة الإسلام.. خيرا من جل أولئك يقينا.

- والآخذون بالمنهج التأصيلي يحاكمونه إلى المبادئ الإسلامية الأصلية التي انبنت عليها دولة النبوة والخلافة الراشدة فيميلون إلى انتقاده. وهذا أمر منطقي كذلك، نظرا للثغرات الكبيرة التي دخلت نظام الحكم الإسلامي على يديه.

فالأمر – كما هو واضح – يرجع إلى خلاف في المنطلق المنهجي، وكل من التقييمين صحيح في حدود منطلقاته، ما التزم صحة النقل وسلامة التحليل. وقد طبق ابن تيمية هذه القاعدة، فتوصل إلى تقييم منصف لشخصية معاوية، وخرج من الخلاف، فقال: »لم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وأما إذا نسبت أيامه إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل. ومعاوية – على ذنوبه – لم يأت بعده مثله ملك« (62) »ومعلوم أنه ليس قريبا من عثمان وعلي، فضلا عن أبي بكر وعمر« (63). وفي الفتاوى يؤكد ابن تيمية على هذا المعنى بقوله : »اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك« (64). * القاعدة الخامسة:
الاعتراف بحدود الكمال البشري إن كل دارس منصف يدرك أن جيل الصحابة – إجمالا وليس أفذاذا - بلغ غاية الكمال البشري، وكل مؤمن صادق يتعبد الله بحبهم وبغض من أبغضهم، لكنه – إذا سلم من الغلو - لا بد أن يدرك أن كمالهم كمال بشري. ولذلك لن يستغرب أن يجد حالات من ضعف الجبلة البشرية:

- فقد يكون المرء تقيا، لكن يمسه طائف من الشيطان، بنص القرآن: »إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون« (65).

- وقد يكون مهاجرا في سبيل الله – بشهادة القرآن - مثل مسطح بن أثاثة، لكنه يشترك في الإفك، ويتخوض فيه.

- وقد يكون رجلا صالحا – مثل سعد بن عبادة – لكن تستفزه الحمية، وقد وصفت عائشة سعدا في أحد المواقف بأنه »كان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية« (66).

- وقد يكون مجاهدا في سبيل الله – مثل أهل بدر وأحد – لكنه يتوق إلى شيء من عرض الدنيا: »منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة« (67) »تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة« (68).

وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد شرب الخمر على نعيمان بن عمرو الأنصاري (69) كما أقامه عمر بن الخطاب على قدامة بن مظعون (70) وكل من نعيمان وقدامة ممن شهد بدرا. وهكذا البشر: ضعيف مهما قوي، ناقص مهما كمل، إلا من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين. وإذا صح هذا عن السابقين الذين تخرجوا من مدرسة النبوة بعد طول ابتلاء وعناء، فما بالك بالأعراب والمتأخرين إسلاما، مثل مسلمة الفتح.

لقد بين ابن تيمية جوانب الضعف البشري هذه لدى العديد من الأكابر، فهو يعلل امتناع علي بن أبي طالب من بيعة الصديق في الشهور الستة الأولى من خلافته بأن عليا »كان يريد الإمرة لنفسه «(71) ويعلل رفض سعد بن عبادة بيعة الصديق تارة بأن الأنصار »كانوا قد عينوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر« (72) وتارة »لكونه كان هو الذي يطلب الإمارة« (73) وتارة بالتحيز لقومه: »وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار« (74) وفي موطن آخر يقول ابن تيمية: »وتخلُّف سعد قد عُرف سببه، فإنه كان يطلب أن يصير أميرا، ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا« (75). ولم يرهق شيخ الإسلام نفسه في التكلف لتبرير ما قام به سعد أو في التأول له، بل قال: »وسعد وإن كان رجلا صالحا، فليس معصوما، بل له ذنوب يغفرها الله له، وقد عرف المسلمون بعضها« (76). ومثل هذا التعليل ما ذكره الحافظ الذهبي عن سعد من أنه »كان ملكا شريفا مطاعا، وقد التفت عليه الأنصار يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعوه، وكان موعوكا، حتى أقبل أبو بكر والجماعة، فردوهم عن رأيهم، فما طاب لسعد« (77).

ومن الاعتراف بحدود الكمال البشري عدم تنزيه غير المعصوم عن الهوى والطموح الدنيوي مهما سمت مكانته، وعلا كعبه. قال شيخ الإسلام: »ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه، فتجعل ذلك قادحا في وَلايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه، حتى تخرجه من الإيمان. وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا« (78). وقد طبق ابن تيمية هذا المبدأ على موقف سعد ليلة السقيفة، فقال: »ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتُبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة، فإن الإمامة أمر معين [متعين]. فقد يتخلف الرجل لهوى لا يُعلم، كتخلف سعد، فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوى. ومن ترك الشيء لهوى لم يؤثر تركه«(79). وحينما تحدث ابن تيمية عن أهل صفين ذكر أن »فيهم المذنب والمسيء والمقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى« وسنورد كامل كلامه فيما بعد. * القاعدة السادسة:
الإقرار بثقل الموروث الجاهلي لقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم في مجتمع جاهلي له خصائص مميزة، منها:

- الإعلاء من قيمة الدم والنسب، وتوارث المكانة الاجتماعية بعيدا عن المعايير الموضوعية من كفاءة شخصية أو قيمة أخلاقية. وقد عبر عن ذلك عمرو بن كلثوم في معلقته بقوله:

إذا بلغ الفطامَ لنا صبي ** يخر له الجبابر ساجدينا (80)

- التسيب والروح العسكرية، فقد كان العربي آنذاك مغرما بامتطاء الجياد وامتشاق السيوف، مولعا بالحرب والنزال، إن وجد عدوا قاتله، وإلا اختلق أعداء من أهله وذويه فقاتلهم، على حد قول قائلهم:

وأحيانا على بكر أخينا ** إذا ما لم نجد إلا أخانا (81)

- انعدام الضوابط الأخلاقية، باستثناء بعض القواعد المتصلة بصيانة الشرف والعرض، وقد أدى ذلك إلى سيادة منطق الأثرة وقانون الغاب. يقول عمرو بن كلثوم مؤصلا لهذه القاعدة الجاهلية:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا ** ويشرب غيرنا كدرا وطينا

وقد أتى الإسلام بمفهوم جديد للتضامن الاجتماعي يتأسس على رابطة العقيدة والفكرة، بدلا من رابطة الدم والنسب. وجعل معيار الكفاءة السياسية هو الأمانة والقوة، بدل الوراثة والمكانة الاجتماعية. ووجه تلك الروح العسكرية إلى الجهاد في سبيل الله، بدل التناحر الداخلي. وألهم الناس ضوابط أخلاقية تكفكف من غلواء الذات الفردية والعشائرية، وتقضي بالمساواة بين البشر. وهكذا حول الإسلام القبيلة إلى أمة، والصعلكة إلى جهاد، والطبقية إلى مساواة، والوراثة إلى كفاءة.

بيد أن الإرث الجاهلي كان ثقيلا، ولم يكن المسلمون الأوائل متساوين في مستوى التحرر منه، والانسلاخ من معاييره السياسية والاجتماعية انسلاخا تاما، كما دلت عليه بعض الوقائع في عصر النبوة. ومنها: ما وقع بين الطائفتين المؤمنتين في العودة من غزوة المريسيع، حتى اضطر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهرهم قائلا: »ما بال دعوى الجاهلية؟!« (82) وما وقع من أبي ذر رضي الله عنه حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:» إنك امرؤ فيك جاهلية« (83).

وما نقصده بالموروث الجاهلي هنا، ليس المظهر الاعتقادي الوثني، فذلك أمر طهر الله منه جزيرة العرب بعد الإسلام، إنما نقصد معاييرها السياسية والاجتماعية، وهو المعنى الذي قصده البخاري في عنوانه لهذين الحديثين فقال: »باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفَّر بها صاحبها إلا الشرك« (84). فالجاهلية هنا هي تلك المعاصي التي اشتهرت بين العرب في الجاهلية في مجال الظلم الاجتماعي والسياسي بالذات، ثم بقيت منها بقايا في المجتمع المسلم عبر العصور.

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ثقل هذا النمط من الموروث الجاهلي، حين أوضح أن أمته لن تستطيع التحرر من بعضه، فقال: »أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب .. الخ« (85).

وليس غريبا أن تبقى في المجتمع الإسلامي الأول بقايا جاهلية، وأن يتفاوت الناس في التطهر من معاييرها الاجتماعية والسياسية، إذ كان من المسلمين سابقون دخلوا الإسلام أيام المحنة إيمانا واحتسابا، واستمتعوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم مدة مديدة تطهروا فيها وزكت نفوسهم، وكان منهم من دخله متأخرا ضمن الأفواج التي دخلت بعد الفتح، وكان منهم أعراب لم يعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم فترة كافية للتطهر والتزكية. وقد أشار الإمام البخاري إلى أن إسلام كثير من الأعراب كان استسلاما عسكريا، لا إسلاما اعتقاديا، فقال: »باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"، فإذا كان على الحقيقة، فهو على قوله جل ذكره: " إن الدين عند الله الإسلام"« (86). ولا يعني ذلك بحال أن جميع أولئك الأعراب كانوا منافقين، بل زكا بعضهم وتطهر، وارتد بعضهم وكفر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما المراد أن معايير التنظيم الاجتماعي والسياسي ظلت مشوبة عند كثيرين منهم وعند بعض مسلمة الفتح - وحتى أفراد من السابقين أحيانا - بشوائب الجاهلية، وكان ذلك سببا من أسباب الفتن السياسية والعسكرية التالية بين المسلمين.

ومن أمثلة ذلك ما رواه عبد الرزاق »لما بويع لأبي بكر رضي الله عنه، جاء أبو سفيان إلى علي، فقال: غلبكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش، والله لأملأنها عليكم خيلا ورجالا، قال: فقلت: ما زلت عدوا للإسلام وأهله، فما ضر ذلك الإسلام وأهله شيئا، إنا رأينا أبا بكر لها أهلا« (87). والظاهر أن هذه المحاورة بين علي وأبي سفيان – إن صحت - جاءت متأخرة عن بيعة علي للصديق بعد ستة أشهر من خلافته، وإلا فإن عليا اعترض على بيعة الصديق ابتداء، وإن كان من منطلق مختلف عن منطلق أبي سفيان.

ومنها أيضا ما رواه الحاكم »عن محمد بن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن خالد بن سعيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن، قدم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربص ببيعته [للصديق] شهرين يقول: "قد أمَّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يعزلني حتى قبضه الله عز وجل"، وقد لقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، فقال: "يا بني عبد مناف طبتم نفسا عن أمركم يليه غيركم" فنقلها عمر إلى أبي بكر، فأما أبو بكر فلم يحملها عليه[=لم يؤاخذه عليها]، وأما عمر فحملها عليه، ثم أبو بكر بعث الجنود إلى الشام، فكان أول من استعمل على ربْع منها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: "أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال"؟ فلم يزل بأبي بكر رضي الله عنه حتى عزله، وأمَّر يزيد بن أبي سفيان« (88).

وقد علل شيخ الإسلام بعض الأحداث السياسية في ذلك العصر بثقل المواريث السياسية الجاهلية وكثافة معاييرها الاجتماعية العرفية. ومن ذلك:

أولا: اعتراض بعض من سادة بني عبد مناف - مثل أبي سفيان وخالد بن سعيد - على بيعة الصديق – كما رأينا - لأن الصديق من بني تيم، وليس من بني عبد مناف بيت السيادة والقيادة في قريش أيام الجاهلية. قال ابن تيمية: »ولا يستريب عاقل أن العرب – قريشا وغير قريش – كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وبني عدي … ولهذا جاء أبو سفيان إلى علي فقال : أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم ؟ فقال : يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية، أو كما قال« (89) ثم يعلل شيخ الإسلام ذلك بقوله: »وأبو سفيان كان فيه بقايا من جاهلية العرب، يكره أن يتولى على الناس رجل من غير قبيلته، وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف. وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا، فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي، وقال: أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف« (90). ويشير ابن تيمية هنا إلى قصتي أبي سفيان وخالد بن سعيد الواردتين أعلاه.

ثانيا: ما بدر من بعض القوم من حرص على جعل الخلافة في البيت النبوي. قال ابن تيمية : ».. وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أحق بالولاية، لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس كانوا يقدمون أهل بيت الملك. فنُقل عمن نُقل عنه كلام يشير به إلى هذا، كما نقل عن أبي سفيان. وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي، بل كان العباس عنده - بحكم رأيه - أولى من علي، وإن قدر أنه رجح عليا، فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية وحكم الإسلام. فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض – وهو التقديم بالإيمان والتقوى – فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر« (91).

ثالثا: ما بدر من بعض الأكابر أحيانا من عصبية لأبناء العشيرة، على حساب أخوة الإيمان، مثل ما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه أيام الإفك من تحيز لعبد الله بن أبي رأس المنافقين، رغم إساءة ابن أبي إلى بيت النبوة. قال ابن تيمية: »وقد عُرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله، ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا، كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لسعد بن معاذ :"والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله"« (92).

ثم عمم شيخ الإسلام تعليله بتأثير الموروث الجاهلي، ليشمل كل المعترضين على بيعة الصديق من قريش ومن الأنصار، فقال: »ففي الجملة جميع من نقل عنه من الأنصار وبني عبد مناف أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أحق وأفضل من أبي بكر. وإنما نشأ كلامه عن حب لقومه وقبيلته، وإرادة منه أن تكون الإمامة في قبيلته. ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلة الشرعية والطرق الدينية، ولا هو مما أمر الله ورسوله المؤمنين باتباعه، بل هو شعبة جاهلية، ونوع عصبية للأنساب والقبائل، وهذا مما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهجره وإبطاله« (93).

لقد كان للأعراف الاجتماعية والتاريخية تأثير بالغ في إشعال الفتن السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم. وليس مما يستغرب أن يكون معاوية هو أول من حوَّل الخلافة إلى ملك، فقد أمضى شطر عمره في بيت سيادة قريش، وشطرَه الثاني على حدود دولة الروم. * القاعدة السابعة:
"اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل" لقد جعل الإسلام الأمانة والقوة معيارا للكفاءة السياسية. أما الأمانة فتشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالمال والسلطان، أو يؤثر بهما ذويه، أو يسيء استعمالهما أيا من الإساءة كان. وأما القوة فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأمثل والأصلح للأمة. وقد اجتمعت الأمانة والقوة في أفذاذ من الصحابة، منهم أمير المؤمنين عمر، فقد »قيل: يا رسول الله، من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة. وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم. وإن تؤمروا عليا – وما أراكم فاعلين – تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم« (94). ومنهم عتاب بن أسِيد الأموي الذي ورد فيه من حديث أنس: »أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكان شديدا على المريب لينا على المؤمنين« (95). وسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه »أمين هذه الأمة« (96).

لكن الأمانة والقوة قلما تجتمعان في الشخص الواحد، وإذا اجتمعتا فقل أن يكون ذلك بتوازن، وليس جيل الصحابة في ذلك استثناء من أجيال البشر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: »اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: "اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة" … ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم مع أنه أحيانا يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه مرة رفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" … وكان أبو ذر أحسن منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا … لا تأمَّرن على اثنين، ولا توَلَّين مال يتيم"« (97).

ففي هذا النص التحليلي يورد ابن تيمية مثالين على عدم التوازن في الأمانة والقوة لدى اثنين من الأكابر: المثال الأول هو خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي غلبت عليه صفة القوة، فأحسن الذهبي في وصفه بأنه »سيف الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد« (98) لكن قوته الطاغية على أمانته هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر قتله قوما أظهروا الإسلام، ويتبرأ إلى الله من فعله. وهي التي جعلت عمر يستنكر قتله مالك بن نويرة، ثم يعزله فيما بعد.

يعلل ابن تيمية فعل خالد بقوله: »لم يكن خالد معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمـنـزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية. ويقال إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، وكان ذلك مما حركه على قتالهم« (99).

والمثال الثاني هو أبو ذر رضي الله عنه، وقد كان إماما في الزهد والورع وصدق اللهجة ونقاء السريرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يوليه إمارة، وعلل ذلك بضعف أبي ذر الذي يفقده عنصرا من عناصر الكفاءة السياسية بغض النظر عن ورعه الشخصي.

ويورد ابن تيمية مثالا آخر على عدم التوازن بين الأمانة والقوة، هو ذو النورين أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه الذي طغت أمانته على قوته فآنس فيه بعض الطامعين ضعفا »فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا« (100) وسنورد كامل تحليله لأسباب مقتل عثمان رضي الله عنه لاحقا إن شاء الله.

ومما يدل على عمق الفقه السياسي لدى ابن تيمية ما لاحظه من حرص الخلفاء الرشدين على انتهاج نهج التكامل في التولية والعزل. والمراد بالتكامل هنا أن يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة، مدركا لجوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه، ويتدارك به قصوره، حتى ولو كان الحاكم من أهل الأمانة والقوة، لأن التوازن المطلق كمال مطلق، وهو غير متاح للبشر. يشرح شيخ الإسلام ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق أبا عبيدة، فيقول: »إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا، وكان أبو بكر لينا وخالد شديدا على الكفار، فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه« (101).

وفي قوله عن عمر: »كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله« (102).





صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)  Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28509
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)  Empty رد: الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس نوفمبر 11, 2010 9:56 am

إن منطق التكامل هذا هو الذي دفع الصديق إلى التشبث بخالد في وقت ارتداد العرب ورميهم للإسلام عن قوس واحدة، رغم أنه كانت لدى الصديق مآخذ على خالد منها سيفه "المرهِق"، وتصرفه في المال، ومخالفته للخليفة. قال ابن حجر: »كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابا، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبو بكر« (103). لكن بسالة الرجل وتجربته الحربية لم تكن لتسمح للصديق بعزله وهو يواجه مأزق الردة، إدراكا منه لرجحان الاعتبارات العسكرية على غيرها يومذاك. ولهذا »حين أشار عليه عمر بعزله قال أبو بكر: فمن يُجزئ عني جزاء خالد؟« (104). ويروَى أن أبا بكر قال مرة حينما اعترض لديه عمر على سلوك خالد:»والله لا أشيم سيفا سله الله على عدوه« (105).

إن الانتباه إلى عدم اجتماع الأمانة والقوة في أغلب البشر، وعدم توازنهما لو اجتمعتا في الشخص الواحد، يمكِّننا من الأخذ بالنسبية الموضوعية في دراسة تلك الحقبة التاريخية ورجالاتها، حتى ننصف القوم ونقدرهم، وننصف المبادئ ونقدسها. فقد يستحق شخص الثناء في جانب والنقد في جانب، رغم أنه عظيم من العظماء. فلو أن دارسا يكتب عن موضوعات تدخل في نطاق صفة "القوة" مثل الخبرة العسكرية أو العبقرية الإدارية أو الدهاء السياسي، لوجد لدى شخصيات مثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ما يستحق الإشادة والثناء بدون ريب، بل لوجدهم على قمة من عرفهم التاريخ البشري من القادة السياسيين والعسكريين والإداريين. لكن نفس الدارس لو كتب عن موضوعات تدخل في نطاق الأمانة مثل الشرعية السياسية، أو العدل في القسْم والحكم، أو الزهد في الولايات العامة، وعدم الإيثار أو الاستئثار بها.. لوجد لدى تلك الشخصيات ذاتها ما يستحق النقد حقا لا ادعاء. واسمع إلى الحافظ الذهبي في حكمه على شخصية معاوية: »قلت: حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم، فيضبطه ويقوم به أتم قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرة منه … وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد« (106) ويقول في موضع آخر: »ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو ببريء من الهنات، والله يعفو عنه« (107) »وليته لم يعهد بالأمر إلى ابنه يزيد، وترك الأمة من اختياره لهم« (108). واسمع إلى الذهبي أيضا في حكمه على شخصية عمرو بن العاص: »داهية قريش ورجل العالَم، ومن يُضرَب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم« (109) »كان من رجال قريش رأيا ودهاء وحزما وكفاءة وبصرا بالحرب، ومن أشراف ملوك العرب، ومن أعيان المهاجرين، والله يغفر له ويعفو عنه، ولولا حبه للدنيا، ودخوله في أمور لصلح للخلافة، فإن له سابقة ليست لمعاوية« (110) »افتتح إقليم مصر، ووليَ إمرته زمن عمر وصدرا من دولة عثمان. ثم أعطاه معاوية الإقليم، وأطلق له مغلَّه ست سنين لكونه قام بنصرته.. ولقد خلَّف قناطير مقنطرة« (111). * القاعدة الثامنة:
الأخذ بالنسبية الزمانية إن كثيرا من أحداث الماضي يأخذ حجما أصغر أو أكبر من حجمه إذا كان منظورا إليه نظرة مجردة من الزمان. وبإدخال عنصر الزمن في ثنايا الحدث التاريخي يظهر على حقيقته، دون تضخيم أو تحجيم. وقد طبق شيخ الإسلام هذه القاعدة في كتاباته التاريخية، فامتاز تحليله – في الغالب - بالاتزان والبعد عن المبالغات والمجازفات. ومن أمثلة تطبيق هذه القاعدة ما ذكره الحافظ الذهبي – تلميذ شيخ الإسلام – في كلامه عن يزيد بن معاوية في قوله: »كان [يزيد] قويا شجاعا، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة، وله شعر جيد. وكان ناصبيا فظا غليظا جلفا، يتناول المسكر، ويفعل المنكر. افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة. فمقته الناس ولم يبارَك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين، كأهل المدينة قاموا لله، وكمرداس بن أدية الحنظلي البصري، ونافع بن الأزرق، وطواف بن معلى السدوسي، وابن الزبير بمكة« (112).

لكن الذهبي لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما استخدم النسبية الزمانية ليضع تلك الأحداث في سياقها وحجمها، فقال: »ويزيد ممن لا نسبه ولا نحبه، وله نظراء من خلفاء الدولتين [الأموية والعباسية] وكذلك في ملوك النواحي، بل فيهم من هو شر منه. وإنما عظم الخطب لكونه وُلِّيَ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وأربعين سنة، والعهد قريب، والصحابة موجودون، كابن عمر الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده« (113).

أما قول الذهبي: "كابن عمر الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده" فهو رد لطيف منه على قول معاوية يوم اجتماع الحكمين بدومة الجندل: »من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر [أمر الخلافة] فليُطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه« (114) ففي رواية عبد الرزاق زيادة أن معاوية في قوله ذاك كان »يُعرِّض بابن عمر« (115) وسنورد تمام نص هذا الحديث فيما بعد.

فالذهبي بوضعه يزيد ضمن امتداد تاريخي يشمل الدولتين الأموية والعباسية، بل يشمل كثيرا من ملوك المسلمين من بعد يزيد، يعلمنا أهمية الأخذ بالنسبية الزمانية، ووضع الأمور في موضعها. فلا شك أن يزيد كان من شرار الملوك، وقد ارتكب الفظائع التي تحدث عنها الذهبي، لكن ليزيد أمثالا في تاريخ الأمة بكل أسف.

ولا يجوز أن نفهم هذه القاعدة فهما جبريا، فنتخذها سبيلا للتهوين من فظائع يزيد، وتسويغ ما لا مسوغ له، وإنما نستعين بها لفهم كل حدث تاريخي ضمن سياقه. * القاعدة التاسعة:
عدم الخلط بين المشاعر والوقائع لقد آلمت الخلافات السياسية بين الصحابة جميع أجيال المسلمين التالية، نظرا لمكانة الصحابة في قلوب كل مؤمن صادق، ونظرا لما تكشفت عنه تلك الخلافات من أحداث مروعة سالت فيها أنهار الدماء، وما استتبعته من آثار على المجتمع الإسلامي طيلة تاريخه من تمزقات سياسية وعسكرية، وانشقاقات طائفية ومذهبية. ولا شك أن أي مؤمن صادق يتمنى من أعماق قلبه أن لا تكون تلك الخلافات قد حدثت أصلا. لكن الأماني شيء، والوقائع شيء آخر. ولقد نتج خطأ منهجي عن هذه المشاعر الطيبة، فلم يستطع كثيرون ممن درسوا فتن القرن الأول الهجري أن يفصلوا الحقائق عن المشاعر، بل خلطوا هذه بتلك، فجاءت كتاباتهم مزجا عجيبا بين الذات والموضوع. ولا يرجو الباحث عن الحق أن يجد ضالته في كتابات كهذه، يعبر كتابها عما يتمنون أن يكون حدث، لا عما حدث فعلا.

ولو أن هؤلاء تجنبوا الخوض في تلك الأحداث أصلا – كما يحبذه بعض أهل العلم – أو انتهجوا نهج السيوطي في إغفال الحديث عن بعض الأحداث المؤلمة انسياقا مع مشاعره، لما كان عليهم من ملام، فقد قال السيوطي عن مقتل الحسين: »وقد وردت في مقتل الحسين قصة طويلة لا يحتمل القلب ذكرها« (116). ولو أنهم سلكوا منهج "كان ما كان" الذي سلكه بعض أهل العلم لتجنب بعض التفاصيل لما كان في ذلك من بأس، فهذا الإمام مسلم يروي »عن عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت في زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فكان من أمره ما كان...« (117) وهذا الحافظ ابن كثير يقول عن معاوية: »ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان« »ثم كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان« ويقول: »ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان« »ثم كان من أمر التحكيم ما كان« (118) »وكان ما كان في أيام صفين« (119) ومثله قول ابن حجر: »فأنشبوا الحرب بينهم الى أن كان ما كان« (120) »فكان من وقعة الجمل ما اشتهر … فكان من وقعة صفين ما كان« (الإصابة 2/501-502) »فكان منهم في صفين بعد الجمل ما كان« (121).

إن منهج "كان ما كان" يسع الكثيرين، وليس مثل هذا التحرج بخطإ، إنما الخطأ هو الخوض في الأمر حتى الذقون، دون التزام بمنهج العدل والإنصاف.

وربما جاء الغلو الناتج عن الخلط بين المشاعر والوقائع في صورة فجة واضحة مثل ما ذهب إليه بعض المتكلمين من إنكار وقوع حربيْ الجمل وصفين أصلا »فقد ذكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفين« (122) لكنه قد يرد في صورة أدق وأخفى، وعلى يد علماء أرسخ قدما من أولئك المتكلمين المتحذلقين. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك..

المثال الأول: إنكار الحقائق الثابتة بأصح معايير التثبت التاريخي عند المسلمين مثل إنكار امتناع علي بن أبي طالب من بيعة الصديق رضي الله عنهما طيلة الشهور الستة الشهور الأولى من خلافته، وإنكار امتناع سعد من مبايعة الصديق بقية حياته. رغم أن الحديث بالواقعتين صحيح، فقد أخرج البخاري قصة سعد وفيها: »فأخذ عمر بيده [بيد أبي بكر] فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل قتلتم سعدا، فقال عمر: قتله الله« (123) وفي رواية لابن حبان: »ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل من الأنصار: قتلتم سعدا، قال عمر فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر« (124).

وأخرج البخاري ومسلم قصة امتناع علي عن بيعة الصديق ستة أشهر. لكن البعض ينكر ذلك. منهم – على سبيل المثال لا الحصر - إمام الحرمين الجويني، الذي عد الأمر كذبا صريحا افتراه الروافض، فقال: »وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراسا وشماسا في عقد البيعة له [أي للصديق]كذب صريح« (125). ومنهم القاضي أبو بكر بن العربي وتلميذه المعاصر الشيخ محب الدين الخطيب، وسنتحدث عنهما في نهاية هذه الدراسة بإسهاب. أما البغدادي فيقول: إن عليا والعباس »توقفا عن البيعة له أياما« (126). ومن الواضح أن هذا لا يثبت - بالنسبة لعلي على الأقل - أمام حديث عائشة الوارد في الصحيحين الذي ورد فيه أن امتناع علي من البيعة دام ستة أشهر، وفيه: »وكان لعلي من الناس وجهةٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر« (127). وسنعود إلى هذا الأمر بمزيد تفصيل في نهاية الدراسة بإذن الله.

المثال الثاني: اعتماد نصوص ضعيفة خالفتها نصوص ثابتة، لمجرد أن مضمون النصوص الضعيفة هو الذي يريح ضمير المؤلف. فقد استدل البعض على بيعة سعد للصديق بأثر منقطع رواه أحمد في مسنده عن حُميد بن عبد الرحمن الحميري عن الصديق رضي الله عنه، وفيه أن الصديق قال لسعد: »ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" قال فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء« (128) ورفضوا حديث البخاري في الموضوع أو تكلفوا في تأوله. والمعروف أن الحميري من صغار التابعين، وأنه لم يدرك حياة الصديق ولا بيعة السقيفة، وإنما روى عن متأخري ومُعمَّري الصحابة أمثال أبي هريرة وأبي بكرة وابن عمر وابن عباس. وقد صرح بانقطاع هذا الخبر ابن حجر (129) والهيثمي (130) وأحمد شاكر (131) والألباني وغيرهم. أما قول محقق "منهاج السنة": »وصحح الألباني الحديث« (132) فهو لا يخرج عن إطار ما ذكرناه من الميل إلى تصحيح الضعيف المؤيد لرأي المؤلف ورؤيته. وإلا فإن الألباني لم يصحح إلا أصل الحديث: »قريش ولاة هذا الأمر« بناء على طرق وشواهد أخرى، فقال: »وللحديث شاهد من حديث جابر، وآخر من حديث أبي هريرة، وسيأتي بلفظ: "الناس تبع لقريش"« (133) أما الحوار بين سعد والصديق – وهو مدار الخلاف هنا – فلم يصححه الألباني، بل وافق سلفه من المحدثين، فصرح بانقطاعه قائلا: »رجاله ثقات، إلا أن حميدا لم يدرك أبا بكر كما في "المجمع"[مجمع الزوائد]« (134).

المثال الثالث: إيراد بعض المتبحرين في علم الحديث أحاديث موضوعة بينة الوضع، دون تنبيه على وضعها ما دامت تؤيد رأيهم. ولعل الحافظ ابن عساكر من أبلغ الأمثلة هنا، وإن لم يكن الوحيد بكل أسف: فقد ذكر ابن كثير الحديث الموضوع الذي أورده الحافظ ابن عساكر »أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار جبريل في استكتاب معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين« ثم علق ابن كثير على ذلك بقوله: »والعجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على صناعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره – بل ومَن تقدَّمه بدهر – كيف يورد في تاريخه هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط، ثم لا يبين حالها، ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة، لا ظاهرة ولا خفية. ومثل هذا الصنيع فيه نظر، والله أعلم« (135) وقال في موضع آخر: »والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها« (136) وقريب منه قول الحافظ الذهبي: »وقد ساق ابن عساكر في الترجمة [ترجمة معاوية] أحاديث واهية وباطلة طول بها جدا« (137).

وقد فهم شيخ الإسلام ابن تيمية مصدر هذا النوع من الغلو، فحسم الأمر بدون مواربة، ولم يقبل الدفاع عن الصحابة بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو التنكر لحقائق التاريخ. فصرح أن »لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين وغيرهما، ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح« (138) وهاجم أولئك الذين وضعوا لمعاوية فضائل لم ترد في السنة »ورووا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها كذب« (139). وحينما أورد ابن تيمية حديث حميد الحميري في بعض نسخ "المنهاج" صرح بإرساله، كما تقتضيه الأمانة العلمية، ولم يتكلف في رد حديث الصحيحين في السقيفة كما فعل بعض الأقدمين والمعاصرين، بل بنى عليه الكثير من تحليلاته.

المثال الرابع: الدعوى القائلة أن أحدا من الصحابة لم يحضر الفتنة غير الأكابر المشهورين مثل عائشة وعلي وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت. وهي دعوى تعبر عن مشاعر أصحابها الطيبة تجاه الصحابة رضي الله عنهم، لكنها – مع الأسف - لا تعبر عن الحقيقة التاريخية. فقد سرد الحافظان الذهبي وابن حجر أسماء عشرات من الصحابة الذين اشتركوا في الفتنة (140). وقد ادعى شعبة أن وقعة صفين لم يحضرها من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت (141) واتبعه في ذلك عدد من المعاصرين، وهذا حصر غير دقيق، بل حضرها غيره من أهل بدر، وقد ذكر منهم الإمام البخاري فضالة بن أبي فضالة الأنصاري فقال: »وقُتل فضالة مع علي يوم صفين، وكان من أهل بدر« (142) وذكر الذهبي منهم كعب بن عمرو الأنصاري، فقال :»وقد شهد صفين مع علي، وكان من بقايا البدريين« (143) وذكر ابن حجر منهم ثابت بن عبيد وأسيد بن ثعلبة وسهل بن حنيف وأبا عمرو الأنصاري وأبو الهيثم بن التيهان (144). كما دلت نصوص عامة على وجود عدد من الأصحاب بصفين، مثل ما أورده الهيثمي في قصة طويلة: »فكان عمار بن ياسر يكون علما لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا يسلك عمار واديا من أودية صفين إلا تبعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم« (145).

إن كل هذه الانزلاقات عن منهج العلم والعدل سببها عدم الفصل بين الحقائق والمشاعر في هذه المواضيع الحساسة التي تثير عواطف كل مسلم. وهو فصل ضروري لكل باحث عن الحق في كل عصر ومصر. * روابط ذات صلة :

- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (6/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (5/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (4/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (3/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6) * الهوامش :

[49] منهاج السنة 6/376
[50] البخاري 4/ 1521 وحول حديث الإفك بشكل عام انظر: البخاري 4/1415 ومسلم 4/2129 والبيهقي في الكبرى 5/295 وعبد الرزاق 5/410 والهيثمي: مجمع الزوائد 7/74
[51] ابن حجر: فتح الباري 8/478
[52] صحيح البخاري 3/1094
[53] سنن أبي داود 3/47
[54] صحيح البخاري 3/1095 و 4/1855
[55] انظر فتح الباري 8/482
[56] رواه أحمد بإسناد على شرط مسلم ، انظر المباركفوري : تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 9/142وابن عبد البر : التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد 6/355 وفتح الباري 7/305
[57] رواه مسلم (بلفظ مختلف) 4/1942 وابن حبان 11/128 والترمذي 5/695 وأبو داود 4/213 والنسائي 6/464
[58] منهاج السنة 6/198
[59] منهاج السنة 6/205
[60] منهاج السنة 6/209
[61] فتح الباري 8/480
[62] الذهبي: المنتقى ص 402 وابن تيمية: منهاج السنة 6/232
[63] المنتقى ص 403
[64] مجموع الفتاوى 4/478
[65] سورة التوبة ، الآية 201
[66] صحيح مسلم 4/2134 مسند أحمد 6/196 وفي رواية : »ولكن احتملته [بالحاء والميم بدل الجيم والهاء] الحمية« (البخاري 2/944 ابن حبان 10/18 النسائي 5/298 البيهقي 10/41 أحمد 6/197 أبو يعلى 8/329 ا ولعل إحدى الروايتين تصحيف من الأخرى ، والمعنى متقارب
[67] سورة آل عمران الآية 152
[68] سورة الأنفال الآية 67
[69] صحيح البخاري 6/2488
[70] سنن البيهقي 8/315
[71] منهاج السنة 7/450
[72] منهاج السنة 1/536
[73] منهاج السنة 1/518
[74] منهاج السنة 8/336
[75] منهاج السنة 8/331
[76] منهاج 6/326
[77] سير أعلام النبلاء 1/276
[78] منهاج السنة 4/543-544
[79] منهاج السنة 8/335
[80] خزانة الأدب 1/423
[81] ديوان الحماسة 1/130
[82] مسلم 4/1998 ابن حبان 14/544 النسائي 5/271 الترمذي 5/417 أحمد 3/385 عبد الرزاق 9/468 أبو يعلى 3/356
[83] البخاري 5/2248 مسلم 3/1282 أبو داود 4/340 البيهقي 8/7 عبد الرزاق 9/447
[84] البخاري 1/20
[85] مسلم 2/644 الحاكم 1/539 ابن حبان 7/412 أحمد 2/291 البيهقي : 4/63 عبد الرزاق 3/559 بألفاظ مختلفة، واللفظ هنا لمسلم
[86] صحيح البخاري 1/18
[87] مصنف عبد الرزاق 5/541
[88] الحاكم : المستدرك 3/279 ، وقال : "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وابن عبد البر : الاستيعاب 8/975
[89] منهاج السنة 4/359-360
[90] منهاج السنة 6/168
[91] منهاج السنة 6/456
[92] منهاج السنة 6/269-270 وحول قوله :"والله لا تقتله …" انظر: مسلم 4/2134 وابن حبان 10/18والبيهقي في الكبرى 10/41 وعبد الرزاق 5/416 وأحمد 6/196وأبو يعلى 8/329 و 344 والطبراني في الكبير 23/54
[93] منهاج السنة 1/520
[94] الحاكم 3/73 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والمقدسي: الأحاديث المختارة 2/86 وقال محققه عبد الملك بن دهيش :"إسناده صحيح"، والبزار 3/33 وقال الهيثمي: "رجال البزار ثقات" مجمع الزوائد 5/176، وأحمد 1/108 وقال ابن حجر عن حديث أحمد: "سنده جيد" الإصابة 2/503
[95] الإصابة 4/430
[96] البخاري 4/1592 ومسلم 4/1881 والحاكم 3/300 والترمذي 5/665 والبيهقي 2/17 والنسائي 5/57 وابن ماجة 1/49 وغيرهم..
[97] ابن تيمية: السياسة الشرعية 16-17 وحول حديث :"اللهم إني أبرأ إليك …" انظر البخاري 4/1577 و6/2628 وصحيح ابن حبان 11/53 والبيهقي: السنن الكبرى 9/115 والنسائي: السنن الكبرى 3/474، وعبد الرزاق: المصنف 10/174 أما حديث :"يا أبا ذر … " فقد رواه مسلم 3/1457 والبيهقي في الكبرى 3/129 وفي شعب الإيمان 6/45 والنسائي في الكبرى 4/112 وفي المجتبى 6/255 والبزار 9/435
[98] سير أعلام النبلاء 1/369
[99] منهاج السنة 4/487
[100] منهاج السنة 7/452
[101] الفتاوى 4/455
[102] ابن تيمية : الخلافة والملك ص 36
[103] الإصابة 1/414
[104] نفس المصدر والصفحة
[105] ابن أبي شيبة 6/547 وابن سعد: الطبقات 7/396 والذهبي: سير أعلام النبلاء 1/372 وقال محقق الكتاب الشيخ شعيب الأرنؤوط: "رجاله ثقات لكنه مرسل"
[106] سير أعلام النبلاء 3/132-133
[107] سير أعلا النبلاء 3/159
[108] سير أعلام النبلاء 3/158
[109] سير أعلام النبلاء 3/55
[110] سير أعلام النبلاء 3/59
[111] سير أعلام النبلاء 3/58
[112] سير أعلام النبلاء 4/37-38
[113] سير أعلام النبلاء 4/36
[114] صحيح البخاري 4/1508ومجمع الزوائد 4/208
[115] مصنف عبد الرزاق 5/465 وفتح الباري 7/404
[116] السيوطي: تاريخ لخلفاء ص 125
[117] صحيح مسلم 2/970
[118] البداية والنهاية 8/126، 119، 129، 119 على الترتيب
[119] ابن كثير: جامع المسانيد والسنن 11/568
[120] فتح الباري 13/56
[121] تهذيب التهذيب 7/294
[122] منهاج السنة 4/492
[123] صحيح البخاري 3/1341
[124] صحيح ابن حبان 2/157 وقارن مع عبد الرزاق 5/444 والبزار 1/302 وأحمد 1/55 . ولمزيد من كلام أهل التحقيق في هذا الأمر انظر : الإصابة 2/28 والاستيعاب 2/37 وسير أعلام النبلاء 1/267
[125] الجويني: كتاب الإرشاد ص 361
[126] كتاب أصول الدين ص282
[127] صحيح البخاري 4/1549 وصحيح مسلم 3/1380 وقارن مع صحيح ابن حبان 11/153 ومصنف عبد الرزاق 5/473
[128] أحمد 1/5
[129] فتح الباري 13/114
[130] مجمع الزوائد 5/191
[131] مسند الإمام أحمد 1/164 تحقيق أحمد شاكر
[132] منهاج السنة 1/536 الهامش رقم 4
[133] الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/146
[134] سلسة الأحاديث الصحيحة 3/146 الحديث رقم 1156
[135] ابن كثير: السيرة النبوية 4/696-697 وحول الطعن في هذا الحديث انظر أيضا الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال 6/241
[136] البداية والنهاية 8/120
[137] سير أعلام النبلاء 3/127
[138] منهاج السنة 7/40
[139] منهاج السنة 4/400
[140] انظر على سبيل المثال لا الحصر : سير أعلام النبلاء 3/43 ، 3/408 ، 3/39 ، 2/574 ، 2/467، 3/164 ، 2/544 والإصابة 6/433 ،6 /515 ، 2/27 ، 2/124 ، 1/87 ، 1/187 ، 1/76 ، 2/145 ، 3/71 ، 3/50 ، 2/489 2/567 ، 2/552 ، 4/409 ، 4/469 ، 4/489 ، 4/40
[141] منهاج السنة 6/237
[142] البخاري: التاريخ الصغير 1/78
[143] سير أعلام النبلاء 2/537
[144] انظر: الإصابة 1/392 و3/198 و7/83 و7/287 و7/449
[145] قال الهيثمي: رواه الطبراني وأحمد باختصار وأبو يعلى بنحو الطبراني والبزار بقوله "تقتل عمارا الفئة الباغية" عن عبدالله بن عمرو وحده ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات

المصدر: خاص - الوحدة الإسلامية




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)  Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28509
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى