شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دراسات في الفقه الجامع

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

دراسات في الفقه الجامع Empty دراسات في الفقه الجامع

مُساهمة من طرف عمرالحسني الثلاثاء مارس 01, 2011 1:33 am

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آلهو صحبه

اما بعد،
يخال للباحث في علم التصوف انه علم يرتبط فقط بتجارب الصالحين ، في عزلة عامة و خاصة عن الأحداث العظيمة التي عرفتها المجتمعات المسلمة طيلة خمسة عشر قرنا .لكن القارئ يغفل عن امر هام و جوهري :
ان العارف بالله في نظرته العلمية تجمع الكون في نظرة واحدة تدله على الله ، في حين ان الغافل عن الله يرتبط علمه بالحواس و لقدرة مدركاته العقلية علة فهم العالم ، لذلك تجد الفلاسفة يتحدثون في كراريسهم عن فوضى الحواس ، عن التفتت في فقه العالم ، و التشرذم في العقول ، و التناحر في الأرادات ، وعليه تجد غابات من الأسئلة بدون جواب ، و اشكاليات مستعصية عن الفهم و الحل ، وجواب فارغ عن علة الوجود.
الذكر يولد الفكر ، و العلم يولد الفقه الجامع لكليات الشريعة في كمالها ، والأرادة للأتباع الحثيث للهدي النبوي.
من هنا تنجمع ارادة السائر الى الله على فضيلتين :فضيلة العلم ، وفضيلة التربية.
فمتى انصبت الرحمة في القلب و ملأ ه أيمانا تنور العقل بالحكمة التي يستقيها من القلب المرحوم بالله.
ومتى كانت التربية على منهاج النبوة كان العلم كاملا لا يتجزأ ، ومتى كانت التربية تنشأ عن علم مشتت لا يجمعه الفقه الجامع ، كان التجزيئ في الذات النبوية .
السؤال: هل العلم الذي تركه لنا السلف الصالح مشتت؟.
1.مدخل تاريخي:
كتب بعض العلماء فيما سبق عن القواصم التي قصمت ظهر الأمة ، منها الفصام النكد بين الدعوة و الدولة ، وما كان لدول الجور في حياة المسلمين ، استبداد في الحكم ، و أغتيال العقل الحر في الأجتهاد ، واستفاد اولي الأمر من تمزع العلم مزعا ، في فروع عدة تحتاج الى رجل ذو فقه جامع يجمع الأمة على مشروع كامل.
يكاد الأستناد الى الغيب في معرفة ما حدث سبة ، لكنها في عمق تصور المؤمن اعجاز نبوي ، ا×بار عن كارثة فظيعة سيعرفها الصحابة أولا و نتجرع مآسيها نحن مستقبلا و حاضرا، يقول الشيخ عبد السلام ياسيندراسات في الفقه الجامع Frownروى الإمام أحمد بسنده الحسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة".
لنزداد يقينا بأن الحكم قد فسد في عهد مبكر جدا، ولنزداد معرفة بتفصيل المراحل التي تحدث عنها حديث منهاج النبوة ننظر عند البخاري حديثا رواه بسنده عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال : "كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا هريرة يقول : سمعت الصادق المصدوق يقول : "هلاك أمتي على يدي أُغيلمة من قريش". فقال مروان : غلمة ؟ قال أبو هريرة : إن شئت أن أسميهم : بني فلان وبني فلان".
ولنزداد تدقيقا نسمع شهادة صحابي هو سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث إسناده حسن رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان. في رواية الترمذي : عن سعيد عن سفينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" قال سعيد بن جهمان ثم قال : (أي سفينة) : أمسك (أي احسب في أصابعك) : خلافة أبي بكر، خلافة عمر، وخلافة عثمان ثم قال أمسك خلافة علي. فوجدناها ثلاثين سنة. قال سعيد فقلت له إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال كذبوا بنو الزرقاء ! بل هم ملوك، شر الملوك !"
إن طموح العاملين في الدعوة الإسلامية، يكابدون في جهادهم عنت الإعراض من العامة والمكر السيء من الجبارين في الأرض، يعانون أيضا من الذهنية المتحجرة الواقفة على تقديس التاريخ الإسلامي لا تقبل بوجه أن تنظر فيه للعبرة. هذه الذهنية لوقوفها وتبلدها ورفضها لفهم الماضي أعجز عن تصور مستقبل إسلامي إلا على صورة الإسلام المنشطر المشتت، إسلام الملك العاض، إسلام عاش فيه القرآن وأهل القرآن تحت ظل السيف.
كأني بواحد منهم يطعن في حديث سفينة ويطعن في كل الروايات التاريخية ليبقى له تصوره الجامد المزين بألوان الهناء والفناء. كأني به يقول : "ما عهدنا من يقول مثل ما نسب إلى سفينة إلا الشيعه."
ملوك شر الملوك ! وظل السيف طاف فوق الرقاب. ذهب عبد الملك بن مروان إلى المدينة سنة خمس وسبعين. فارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنها مدوية، ولو كان يسمع الجامدون. قال : "إني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف... والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه !" أنقل هذه الكلمة الكبيرة التي خرجت من فيِّ رجل من ملوك العض عن كتاب المودودي رحمه الله "الخلافة والملك" كما نقلها عن ابن الأثير والجصاص وعن مؤلف كتاب فوات الوفيات.
كتاب المودودي كان أثار زوبعة في أوساط الناس. وهو أهم ما كتبه هذا المفكر المجاهد رحمه الله. لعل الجامدين وجدوا في الكتاب ثغرة دخلوا منها فضخموا جانبا ليطمسوا منه جوانب ناصعة. جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر أن نكف عن الأصحاب. فلم يسع كاتبنا وهو في سياق تحليله أن يتعفف عن ذكر الإمام سيدنا عثمان رضي الله عنه، غفر الله لنا وله وللجميع.
نعم انتقضت، بل نقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء من يقول من على منبره، من مسجده، للناس يومئذ ولكل من يسمع فيعي من العقلاء أن ما وعد الله ورسوله حق، وأن الخلافة الأولى أقبرها السيف، وأن الحاكم العاض يحكم بهواه، وعصبيته، وجبروته، لا بالقرآن، ولا بشورى أهل القرآن، ولا بعدل القرآن، ولا بإحسان أمر به القرآن، ولا برعاية لتقوى الله. ضرب الأعناق ! ودواء الأمة السيف !
و سالت الدماء بانتقاض العروة العليا، وتشبث الناس بالعرى الأخرى في حدود ما سمح به حامل السيف.
إن كان بقي للأمة كيان قوي، واستمرار تاريخي، وشوكة قوية، وفتوح واسعة، وعلوم ومجد، وحضارة وابتكار، وصلاح وتقوى، فالفضل لله عز وجل بأن حفظ على الأمة وجودها وتماسكها بهذا التشبث الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : "فكلما انتقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها."
إن من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباره بالغيب، ومن كرامة الله جل وعلا لهذه الأمة أن بقيت صامدة مواجهة تارة مصانعة أخرى.
واجه الإمام الحسين رضي الله عنه وقاتل، واجه زيد بن على وقاتل، واجه محمد النفس الزكية وإدريس أخوه وإبراهيم ويحيى من بعده وقاتلوا. كان هؤلاء جميعا من آل البيت، وكان لأئمة المسلمين أبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم ميل، بل مساندة فعلية لهؤلاء القائمين.
عذب ابن هبيرة الإمام أبا حنيفة لما رفض أن يتقلد القضاء لأبي جعفر المنصور العباسي لأنه يرى في بيعته شيئا، كان يراها غير شرعية، وعذب والي المدينة مالكا لما أفتى مالك الناس بان طلاق المكره لا يجوز، وكان المنصور يُكره الناس على البيعة ويحلفهم بطلاق أزواجهم إن هم لم يفوا بالبيعة. وما ذلك إلا لأن مالكا رحمه الله كان يرى أن تلك البيعة فاسدة.
إن مشروع الإسلاميين في عصرنا سيكون محدود الأفق إن لم نتفقه في تاريخنا، يغتاله الشعور بالمضض والألم لما وقع في ذلك العهد العنيف، عهد الانتقال من مرحلة الخلافة إلى مرحلة العض. لا ينقصنا العنف في مرحلتنا هذه، تسلطا علينا أو هاجسا ملحا على بعضنا. فلكي نوسع الأفق، ولكي نزيل الأسى على الماضي، نتخفف لنمضي باطمئنان المؤمنين إلى تحقيق موعود الله جهادا فاعلا وتوكلا يتحرى مواقع القدر الحكيم، نقف عند محطة فكرية عاطفية إيمانية عينية عملية سياسية دينية لنتسائل : ترى لِمَ قبل المسلمون حكم السيف والهوى وضرب الأعناق ؟ لِمَ انساقوا تحت إمرة فاسدة في كثير من الأحيان وهم كانوا في العالم قوة فاتحة هادية يداوون الناس كافة برفق الإسلام وقرآن الإسلام، بينما الحاكم في بيتهم هوى السلطان، والدواء السيف، وحل الخلاف ضرب الأعناق ؟
لماذا استبدل سواد الأمة الأعظم الاستبداد بالشورى، والظلم بالعدل، وقبلوا تهتك الأغيلمة من قريش وطيشهم ؟ لماذا سمعوا وأطاعوا الصبية اللاعبين وهو كانوا أُسْد الشرى وعلماء الدنيا ؟ لماذا حكم المترفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة الأمة ؟ لماذا لم يمض الذين ساندوا القائمين من آل البيت إلى آخر شوط في العصيان لأمراء السوء، وكأن في مساندتهم تحفظا شل الحركة، وفت في العضد، وأوهن العزائم ؟)، نظرات في الفقه و التاريخ ، فقرة لتنتقضن عرى الأسلام.
مجرد مدخل تاريخي ، وتحليل عقل تنور بنور الأيمان ، ووضع نصب عينيه ما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم!. من منا يجلس الى الحبيب صلى الله عليه وسلم ، ليقرا و يسمع و يتلقى عنه علم التاريخ ؟.
من الباحثين من يعتبرون الأستناد الى الغيب كمن يسبح في أمواج متلاطمة من الأوهام ، سبة ان تقول الله و رسوله ، وتزيد فهم من سبق ، والتاريخ لا يدرس الا بمعطى و فحوى الأقتصاد و السياسة و الأجتماع و فنون التجمع البشري.
لكن ان ننتقل من العلم الى الطفولة ، ومن النور الى الظلمة مأزق خطير لا يتقبله عقل الباحث المتنور بفلسقة الأنوار.
2.عامل الأيمان بالغيب:
أدوات التحليل التي ابتليت باستعمالها هذه الطبقة من المثقفين المعاصرين تلامذة الجاهلية ليس فيها شيء يسمى الغيب، لأن دائرة تلك الثقافة لا تعرف الله. فإذا أخذوا يحللون الأحداث التاريخية عرضوا الدوافع النفسية والسياسية والاقتصادية أيها كان العامل الحاسم في الواقعة. يرتبون هذه الدوافع حسب ما تعطيه مذاهبهم الفكرية من الأهمية والأسبقية للعوامل الموجهة لحركة المجتمعات. فالشيوعي يبدأ بالبحث عن العامل الاقتصادي والملكية ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليحدد مجرى الصراع الطبقي وتطوره. والمثالي يبحث عن الفكرة والفلسفة والتيار العاطفي أو الديني الذي أعطى السياسة قاعدتها الإديولوجية ومبادئها. وهكذا. أما المؤمن بالله وقضائه وقدره فينظر في الأسباب الظاهرة. تكون نظرته عوراء إن لم يفعل، لكنه ينظر أيضا إلى قدرة الله تعالى وقضائه وتصرفه المطلق في ملكه، من خلال العلل والأسباب أو بدونها. كل فساد ظهر في البر والبحر فبما كسبت أيدي الناس، والحكمة المعلنة في القرآن الكريم أن رب العباد سبحانه يريد ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾ [1] .
في التحليل الإيماني لتاريخ الفتنة وانتقاض عروة الحكم في الإسلام نعزو ما وقع للأمة من تخاذل أمام السلطان إلى الإخلال البشري، لا تغيب عنا أسباب استيقاظ عصبية كانت في طريقها إلى الذوبان في عهد النبوة والخلافة الراشدة. ولا يغيب عنا الصراع بين طوائف جديدة من الشعوب والأجناس التي دخلت في الإسلام ولم تترب عليه تربية كاملة، ولا يغيب عنا كيف كانت هذه العناصر القلقة وسطا مناسبا فشت فيه حمى المطالبة والاعتراض والتآمر. لا يغيب عنا أخطاء، بل أوزار، فئة من الانتهازيين اندسوا في ثنايا الدولة على عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه فكان منطقهم أن "دواء الأمة السيف" قبل أن ينطق بالكلمة عبد الملك بن مروان من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يغيب عنا ما دخل المجتمع الإسلامي من أموال انصبت إثر الفتوح الواسعة لتحدث تحولات في نمط المعيشة. وهلم جرا إلى ما شئت من تخرص وتقدير.
الآن نرجع إلى أمة كانت معجزة تاريخية قبل ظهور كل هذه العوامل لما برزت على ساحة العالم جموعا جائعة فقيرة من المقومات المادية، غنية عزيزة بالمعنى العظيم الذي جمعها وألف بينها ورفعها : معنى الإيمان بالله والشعور بأنها حاملة رسالة إلى العالم.
هذه الأمة كانت تتعامل مع الله عز وجل ثقة به وبوعده في الدنيا والآخرة، كانت تأخذ كلمة القرآن ووصية النبي صلى الله عليه وسلم مأخذ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كان هذا المطلق هو العامل الحاسم في حياتها، في رفعتها وفي كبوتها. كانت طاعة الله ورسوله الباعث على الفعل والترك، على السلم والحرب، على الموت والحياة.
كان الصحابة رضي الله عنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث "الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عاضا". سمعوا وصدقوا أن عرى الإسلام ستنقض، وأن أول ما ينقض منها عروة الحكم ورباطه. سمعوا أن هلاك الأمة سيكون على يد "أغيلمة من قريش". فهل كانت كل هذه الإخبارات تمر على هذه الأحاديث المستقبلية ـ كانت ـ أن العلم بها كان مستفيضا. وقد جمع المحدثون تحت عنوان "كتاب الفتن" أو ما شابه كثيرا مما ذكره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن وقائع تأتى على أمته وعلى العالم من بعده إلى ظهور الدجال لعنه الله وظهور سائر أشراط الساعة.
في حديث نقض عرى الإسلام ذكر المصطفى الكريم على الله صلى الله عليه وسلم أن أول العرى نقضا عروة الحكم، وأن آخرها الصلاة، وأن الناس كلما انتقضت عروة تشبثوا بالتي تليها. العرى الفتحات التي تدخل فيها الأزرار ليشد بها الثوب. فكأن سربال الإسلام يتمزق عن جسم الأمة من أعلى، من حيث الرأس، أي الدولة، والناس يتمسكون به مخافة أن ينكشف. ترى هل أوصى نبي الله صلى الله عليه وسلم أمته بشيء تتشبث به يكون أرجى أن لا تهلك الأمة من جراء الانفصامات المتتالية ؟ ترى هل فهم الصحابة والتابعون والقرون الثلاثة الفاضلة من الوصية النبوية أنها تشريع للفتنة ورضى بها وتشجيع على بسطها ؟
أمامي صحيح الإمام مسلم أقرأ منه في باب الفضائل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال : " أما بعد ألا أيها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين (قال العلماء سُمِّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما) : أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به". فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال : "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ! أذكركم الله في أهل بيتي !" الحديث.
الأخبار عن غدير خم، وعن وصية النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته الأطهار تشكل عند إخوتنا الشيعة النصوص الحيوية التي يبنون عليها ولاءهم المطلق لآل البيت. آل البيت رضي الله عنهم هي العروة التي تشبثوا بها بعد فساد الحكم ونقض عروته. اشتدت عليهم قبضة حكام العض على مر القرون فاستماتت قبضتهم في التمسك بآل البيت، اعتقدوا الوصية لعلي كرم الله وجهه، وغلا غلاتهم فرفضوا الخلفاء قبله وسبوهم، قاتل الله الغلاة وأبعدهم، واعتقدوا الإمامة لبني علي وأضفوا عليهم العصمة.
تشبثٌ آلَ إلى تصلبٍ توارثته الأجيال، وعاش في ظل الاضطهاد والاستخفاء والتقية، لكنه تشبث له أصل ثابت عندنا وعندهم من إخبار الحبيب صلى الله عليه وسلم ووصيته.
أمسِكوا هذه إخوتي وأخواتي، قفوا عند هذا التشبث من جانب الشيعة ريثما نذكر أهل السنة والجماعة، لنرى كيف تفرعا معا من نفس الأصل النبوي، وكيف توسع الخلاف بين الفرعين، وكيف حفرت العداوات والصدامات وتضارب الولاء الهوة حتى أصبح الشيطان والجهل يصوران لنا أنها هوة لا قرار لها، وأنها الفرقة إلى الأبد. هذا التصور الشيطاني يغلق على الأمة آفاق المستقبل في الدنيا وأمل لقاء الله عز وجل وهو يضحك إلينا إن جئناه نعادي أهل القبلة أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، المتمسكين بالقرآن كما نتمسك، وهو الثقل الأول. فما بالنا نكفر إخوتنا وننفخ نفخ الشيطان أن كان فهمنا للثقل الثاني كيف نواليه محط خلاف ؟
أقرأ من كتاب "جامع الأصول" أحاديث كثيرة، لا أورد منها إلا الصحيح، كلها توصي الأمة بالسمع والطاعة مهما كان الأمير. أحاديث انتشرت في السواد الأعظم من الأمة، وهم أهل السنة والجماعة، وأصبحت مبدأ ونظام حياة. يسيء الظن، بل يستخف بالأمة، من يزعم أن هذه الأحاديث كانت من وضع الرواة بإيعاز من الحكام المحتاجين إلى مشروعية، يتخذون هذه الأحاديث أداة تشريعية للقمع. كان هنالك وضع، ووضع كثير، لكن إجماع أهل العلم بالحديث على سلسلات من الرواة الثقات يجعلنا في مأمن تام من أن يتسرب إلى ديننا مثل هذا التزوير. ذلك لثقتنا الكاملة بهذا العلم الفريد الشريف الوحيد في تاريخ الدنيا، ألا وهو علم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل.
عنوان ابن الأثير الجزري رحمه الله : "الفصل الخامس في وجوب طاعة الأمير".
أورد في الفصل سبعة عشر حديثا، ثلاثة عشر منها في الصحيحين أو في أحدهما. والصيغة الأمرية تترواح بين الترغيب والأمر المؤكدين بالطاعة وبين التحذير والوعيد الشديدين من المخالفة والعصيان. "اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة" (البخاري). "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم والترميذي والنسائي)... "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني" (الشيخان والنسائي) " سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجدبه الأشعث بن قيس فقال : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" (مسلم والترمذي). "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" (من حديث لمسلم).
هناك صيغ أخرى مشددة مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "من كره من أمير شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" (الشيخان). هذا الحديث وأمثاله ألجم الأفواه، وألزم علماء الأمة الصبر على كره شديد لما فعله العاضون. فإن نطقت الأفواه بالاحتجاج فما كانت، إلا في حالات قليلة، تثير الخروج على السلطان من جانب العلماء الأتقياء مخافة الوعيد المفزع وعيد الميتة الجاهلية، وقانا الله.
صرح الإمام أحمد رضي الله عنه بملء قوته لما ابتدع المأمون العباسي وفسق عن أمر ربه وحارب الله ورسوله بتبني رأي المعتزلة القائلين بخلق القرآن. وأوذي الإمام فصبر. جلد فغفر. كان وعيد الميتة الجاهلية رادعا قويا لأمثاله الضنينين بدينهم.
وكان الملوك العاضون وسلاطين السيف يستغلون هذه النصوص، ويربطون الناس ببيعة إكراهية تغل منهم الرقاب وتقيد الأرجل وتشل الحركة. ماذا تريد من مؤمن أن يفعل وهو يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يوف له" (الشيخان والترمذي) توفية واجبة إذن وإن اختل العدل في الحكم، وفشا الظلم الاجتماعي، واستأثر الحكام بالأرزاق لا يعطون إلا على نشوة المبذر المسرف في أموال المسلمين.
وطغى في الأرض الفسقة الفجرة، تطيعهم الأمة على كره شديد وتحتفظ بهم، وتغزو بغزوهم، وتأتمر بأمرهم، تسمع وتطيع.
كان خوف الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة يلم شعت الأمة، ويصونها أن تذهب مع العصبيات التي استيقظت، وأن تخرج مع الرايات المفرقة للوحدة، الساعية للفرقة. "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، فقتل فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب بَرها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني ولست منه" (مسلم والنسائي).
لنقف الآن ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد على المنطق الجدلي والاعتبارات الأرضية. لنقف نتساءل : أليس في هذه الوصايا المؤكدة الشديدة ما يحير ؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالشورى وبالعدل وبالإحسان ؟ فلِمَ أوصى بالسمع والطاعة مهما استبد الحاكم. ومهما ظلم ومهما فسق ؟
إن الله عز وجل أخبرنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم حريص على المؤمنين، رؤوف بهم رحيم. وإن الله عز وجل أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على مسائل كثيرة من الغيب، مما يقع لأمته حتى قيام الساعة، نقل إلينا الصحابة رضي الله عنهم بعضها وأُنسوا الكثير. وإن الرسول الكريم حرص على وحدة أمته لما علم من قضاء الله الذي لا يرد، قضاء الله العلي القدير الحكيم الذي اقتضى أن تكون فتن، وأن يبتلى المسلمون بحكام العض والجبر، لا يظلم ربك أحدا، ولا يظهر الفساد في بر أو بحر إلا جزاء لما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون. ولعلهم يؤجرون في الدار الآخرة إن كانوا مسلمين وصبروا واحتسبوا وقالوا باللسان والعمل : إنا لله وإنا إليه راجعون.
أطلع الله جل وعلا نبيه الكريم بما هو كائن لا محيد عنه، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. وبإذن الله نطق الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم. نطق بوصية السمع والطاعة لما علم من أن نوازع الاستعلاء والاستكبار ستظهر، وسيظهر التسابق إلى السلطان، والصراع على السلطان. فلا يكن ذلك على حساب وحدة الأمة وتماسكها الداخلي. ثمن هذا التماسك الصبر، ثمنه الاستبداد وما يجره من خسف للحقوق، ثمنه الظلم وتوابعه، صَلِيت بناره الأمة، وصليت بنار الحروب الأهلية، كانت تلك الحروب كفيلة بالقضاء على الإسلام لولا وصايا السمع والطاعة التي اعتبرها علماء المسلمين دينا ومعهم السواد الأعظم.
هذا الإيضاح النبوي كان العروة المتينة التي تشبث بها أهل السنة والجماعة بعد أن نقضت عروة الحكم.
ولعل كثيرا مما وقع في تاريخنا من اضطراب في السياسة والحكم، في المذاهب والاختلاف، في الفقه والعقيدة، في هروب الصوفية الطَّيـبي الأنفاس من الميدان وسكوت علمائنا عن "تلبيس إبليس" في الحكم، راجع بعد قضاء الله وقدره إلى الحيرة بين التشبثين الواجبين، بين التشبت بالقرآن، وهو العروة الوثقى، فيه الشورى والعدل والإحسان، وبين التشبث بالسنة وفيها الأمر بالسمع والطاعة والتخويف من الميتة الجاهلية في حق من فارق الجماعة. السمع والطاعة لملوك استحقوا الصفة الشائنة التي جاءت بها أيضا السنة وهي صفة العض، وظهر بعد أنهم أخلُّوا بالشورى وبالعدل وبالإحسان جميعا.
من حديث مسلم والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا". لذا لا نجد حاكما عاضا فيما مضى، ولا نجد من حكام الجبر الحاليين إلا من يتمسح بكتاب الله سبحانه ظاهرا، ويعلن ولاءه له وخدمته وإخلاصه. فمن كان منهم من الصالحين ـ وقد كان، فإننا لا ندين الأشخاص بل ندين النظام ـ سدد وقارب ليطبق حكم الله جل شأنه على واقع متفلت. ومن كان دون ذلك فإنما كان يلعنه القرآن ولا تجرؤ الأمة ـ في سوادها الأعظم وفي غالب الأحيان ـ أن تخرج عن طاعته مخافة الوعيد المهول.
فمن خرج من أهل السنة والجماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية ما لم يفهمه غيره. كان الحسين بن علي رضي الله عنهما والقائمون بعده زيد بن علي ومحمد وإدريس وإبراهيم ويحيى وكل القائمين في القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن التشيع يومئذ تحول من كونه مشايعة وانتصارا لآل البيت الأطهار ليصبح مذهبا وعقيدة.
كان هؤلاء القائمون الغاضبون لله المنتصرون للحق يعرفون الأحاديث المشددة على السمع والطاعة ولزوم الجماعة لاشك في ذلك. لكنهم أيضا كانوا يعرفون أحاديث الطاعة فيها مشروطة بأن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى مثل حديث مسلم الذي قرأناه آنفا. ويعرفون الأحاديث التي شرطت الطاعة للحاكم الذي يقيم الصلاة لا لمن يضيعها مثل حديث مسلم عن عوف بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم." قال : "قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟" قال : "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ! لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة".
حديثان لمسلم يشرطان الطاعة بشرطين : أن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى، وأن يقيم الصلاة في الناس. فتبقى للمؤمنين مسؤولية التقدير لتمييز الحاكم الذي يقود بالقرآن أو لا يقود، ولتقدير إقامة الصلاة ما معناها وما مدلولها العملي. إن كان الرسول الكريم على الله المؤيد بالوحي يشير إلى مواطن القدر التي أطلعه ربه عليها مقدما النصائح، فما كان له أن يستبق القدر بتفصيل ما ينبغي أن يبقى مطويا، ولا بتعيين ما يجب أن يبقى إلى زمان ظهوره مسدلة عليه أحجبة الستر، ولا بتعريف حدود الشرطين الحاكمين. كتم صلى الله عليه وسلم ذلك وسكت عنه ليتحمل كل مسؤوليته، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. فقدر الله تعالى الحكيم لقضائه الأزلي لا يتنافى مع ما أثبته الشرع وما تعطيه الملاحظة من كسب العباد وحريتهم في الاختيار. كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن أخبر بالفتن الطارئة على أمته من بعده، لا يعصم الأمة عاصم من أن تجري عليها الأقدار فتتميز عن سائر الخلق، وما بلغت نصائحه الشريفة صلى الله عليه وسلم أكثر من أن ترسم دائرة واسعة، في حدودها يحتفظ بوحدة المجموع دون أن تقيد مسؤولية أحد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
لا نشك لحظة أن الحسين بن علي رضي الله عنهما حين غضب غضبته وقام قومته إنما فعل لاعتقاده أن يزيد فسق عن أمر الله وقاد بغير القرآن وأضاع الصلاة، إن كان غيره قدر غير ذلك ورجح الطاعة فلا يعدو أن يكون مجتهدا. وإن سترت أجيال من علماء السنة كارثة قتل الحسين، أو أدانتها على استحياء، فما يهون من فداحة إخلالهم ذاك في أعيننا إلا وجود تلك النصوص الثابتة الكثيرة الداعية للحفاظ على الوحدة، تأولوا في ظلها سلوك يزيد وأمثاله، وسكتوا عن الذل والإذلال وهم يسمعون بني مروان ويرونهم يصفون السيف دواء لأمراض الأمة، وضرب الرقاب شفاء، ويطبقون.
لا يعذر إخواننا الشيعة أحدا ولا يهون عليهم شيء من سكوت أهل السنة والطاعة. ومعهم من النصوص ما إليه يطمئنون يجدون فيها الوصية النبوية بلزوم الثقلين كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن وأهل البيت في اعتقادهم واعتقادنا مترابطان. نجد الإشارة إلى هذا التلازم في حديث للترمذي قال إنه حسن غريب عن يزيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما."
وبعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر كما رأينا في الحديث الصحيح عند البخاري أن هلاك أمته يكون على يد أغيلمة من قريش. نفهم كلمة الهلاك في النطق الشريف لا على أنه نهاية الأمة، فإن استمرارها منذئذ إلى يومنا أربعة عشر قرنا إلا أربعين عاما أو خمسين لا يقبل ذلك الفهم. لكن الأغيلمة ما وصلوا إلى الحكم إلا لمكان النظام الوراثي العاض الفاسد المفسد. ما كان لأمثالهم أن يتربعوا على السدة لو كان أمر الأمة شورى بينها ولو لم تلد العصبية المستيقظة من أسباب الأثرة والتسلط ما حال دون العدل، وحرف مقاصد القرآن، ودفع إلى المناصب العالية حاملي السيف لا أهل التقوى والإحسان.
وصول الأغيلمة للحكم واستمرار استبداد أهل العض والجبر كان النقض الأخطر إذ كان نقضا للعروة العليا. كان فساد السلطان توهينا للقرآن. من شأن السلطان في دولة الإسلام أن يُخدم القرآن ويكون عنه وازعا مدافعا. فإذا أمسى السلطان مُزْوَرّاً عن القرآن، مخالسا له مخاتلا كما نرى في عصرنا، فهلاك الأمة مستمر. وعلى الله القوي العزيز التوكل في أن يقف الانحدار، ثم تبدأ مسيرة اقتحام العقبة، بجهد أهل القرآن بالعمل الدائب، بالعلم النافع، حتى يستقر السلطان في أيدي الأمناء الأقوياء، حتى تكون الدولة آلة طيعة في يد الدعوة تشرف بها على عملية انتشال الأمة من أودية الهلاك، والصعود بها إلى الذرى. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
نسأل الله ان يرحمنا آمين

عمرالحسني
عمرالحسني
كـاتــــب
كـاتــــب

قلم مبدع
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
ذكر
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6278
السٌّمعَة : 12
متسامح

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

دراسات في الفقه الجامع Empty رد: دراسات في الفقه الجامع

مُساهمة من طرف عمرالحسني الثلاثاء مارس 01, 2011 1:34 am

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه ،

اما بعد
ترك لنا ذالك الصراع على الحكم ، والتصادم في الأرادة ، مدرسة علمية تنظر الى الدين من ناحية علمية محضة اهتمت بالفقه و اصوله و الأجتهاد و أدواته و تدوين النصوص و ضبط رجاله وهو علم منيف لم تعرفه الأمم الا عند عقول اجنهدت بفضل الله ، ثم مدرسة تربوية ترى العلم نور العمل لكنها أرست مفهوم الولي المقدم المتبوع.
ومن هنا نشا الصراع القديم المتجدد حول الأذن الخاص و التربية بالأسم و الكشف و المشاهدة ، ومصطلحات القوم ، و كفريات ابن عربي ، وغيرها من الخلافات المتجددة ، يجددها دعاة الفرقة و التشرذم.
آثر أهل الله ان يكونوا أحلاس بيوتهم لأنذار نبوي ، لم يقعدهم الحال و المقام ، بقدر ما أقعدهم تلك الأحاديث المحذرة من الفتنة التي تموج موج البحر. فجلس أهل الله يوثلون طرائق التربية و التطهير و مداواة النفوس، وتركوا لنا حجة بالغة عن رجال طلبوا ووصلوا.
أي شيء ألجم تلك الإراداتِ القوية والهمم العلية عن غشيان ساحَات الوغى، وعن مناصرة القرآن في وجه السلطان لما اختصم السلطان والقرآن؟ أولئك الذين كانوا يُرَقِّقون الدمعة ويُعَفّرونَ الخد على باب الملك" لماذا لم يُرِيقوا دماءهم في سبيل الله كما أراقها أصحاب المجد السامق الصحابة الكرام؟ هل كان لهم من عذر؟ وهل ينفعهم العذر عند الله فيدركوا وهم في ركن الخلوة مراتب المجاهدين؟.
عذرهم أوامِرُ نبوية صريحة أطلع الله عز وجل نبيه الكريم على مستقبل الأمة، وجاء في الأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بكل ما يحدث بعده إلى يوم القيامة. فأنساهم الله تعالى تفاصيل ما أخبر به، وأسدِلت سجُفُ الغيب، لتبقى لكل جيل مسؤولية الكسب والاختيار. وكان من النصوص التي لم ينسَها الصحابة وورَّثونا إياها أحاديث تأمر بالانعزال عن الفتنة،</نسْرُدُ بعضها:
أخرج مسلم وأبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتن. ألاَ ثُم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه". فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحَجَر، ثم لِينْجُ إن استطاع النَّجاءَ. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟". قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهْتُ حتى يُنْطَلَقَ بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: "يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار".وأخرج أبو داود عن وابصة الأسدي أن ابن مسعود حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ستكون أيام الهَرْج أي الفتنة والقتل وأوصاه إن أدركه ذلك الزمان أن يكف لسانَه ويدَه، وأن يكون حِلْساً (حصيرا من أحلاس بيته. )
وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عمر خرج عليهم يوما ليحدثهم، فسأله رجل عن الفتنة وعن قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) فقال ابن عمر: "وهل تدري ما الفتنة ثَكِلَتْكَ أمك؟ إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنةً، وليس كقتالِكم على الملك". وأخرج الإمام أحمد أن ابْناً لِسعد بن أبي وقاص جاءه وقت الفتنة بين علي ومعاوية يريده على الخروج، فقال: "يا بُني! أفي الفتنة تأمرني أن أكون رَأسا؟ لا والله! حتى أعْطَى سيفاً إن ضربت به مؤمنا نَبا عنه لم يجرحه) وإن ضربت به كافرا قتله". الحديث.
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أو ابن عمرو قال :شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه وقال:كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حُثالة من الناس أراذلهم، قَدْ مَرِجَتْ (فسدت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا!" قال :فكيف أصنع يا رسول الله؟قال :تأخذ ما تعرف، وتدع ما تُنكر، وتُقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم)
هكذا تأصل في الأمة منذ الفتنة الكبرى إِثْرَ الخلافة الراشدة مذهبُ الانعزال والإقبال على خاصة النفس، وترك الأتقياءُ الأخفياء الأبرياء الناس يتقاتلون على الملك.هكذا انسحب أهل الفضل من ساحة السلطان ليحافظوا في مدارس العلم ومجالس الحديث وخلاوي الذكر على لب الإسلام وجوهره وكلمته. ولئن جلس المفتون للعامة يفصلون القضايا، وجلس الفقهاء للتعليم العام، فإن الصوفية انصرفوا في عزلتهم إلى تربية الخاصة من المريدين يورثونهم تلك الأمانة التي تنزل في جذر قلوب الرجال كما قرأنا في حديث الشيخين. جاء حديث :تنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال « عند البخاري في " باب الأمانة «. والأمانة لازمة من لوازم الإيمان، لا تتساكنُ في جذر القلوب مع النفاق. فنفهم نزولها في القلوب نزولا للإيمان فيها واستقراراً.
وبقي العلماء أمناء على أمانة الإيمان والعلم، بمعزل عن العامة وعن السلطان كما أوصى بذلك هذا الحديث الشريف الذي أخرجه الحسن بن سفيان والقضاعي وابن عساكر عن أنس بإسناد حسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل، مالم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا.فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم.
ليس جنس علماء القصور جنسا محدود النسل في تاريخنا، لكن الأمة لم تثق في كل عصر إلا بالأتقياء الأخفياء الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن أغبط الناس عندي لمؤمن خَفيفُ الحاذِ خفيف الظهر من تكاليف العيال، ذو حظ من الصلاة، أحسنَ عبادةَ ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك. عُجّلت منيته، وقلت بواكيه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة.
هذا النموذج الغامض الخامل في الناس، المنصرفُ لخاصة نفسه، نموذج نازل عن درجة الأصحاب المجاهدين، ما في ذلك شك. لكن الفتنة التي عاشتها الأمة تقوم له مقام العذر. قال المفسرون في قوله تعالى : لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ (سورة النساء، الآية: 95): الضرر: العُذر. وجاء عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: "إن أقواما بالمدينة خَلْفَنا ما سلكنا شِعبا ولا وادياً إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر".
مَن حبسه العذر عن الجهاد حُسِبَ عند الله كمن حضر الجهاد، ولو بقي في خلوته غامضا خفيف الحاذ متجردا. ذلك إن كانت نفسه تحدثه بغزو وجهاد، وإلا مات على شعبة من نفاق كما جاء في الحديث:من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق".أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
فيما نستقبله بحول الله من أيَّام ازدهار الإسلام ارتفع عنا العذر فلا مكان بين الأخيار بعد للغامض الخامل. يكفي أولئك الأخفياء أمناء الرسل شرفاً في الدين أنهم حافظوا لنا على بذور الإيمان حتى أورثوناها رحمهم الله.
رَفَع عنا العذرَ وفَتَح لنا أبوابَ الجهاد والاجتهاد إخبارُ المصطفى أمين الوحي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون خلافة ثانية راشدة ينهض بها إخوانه على منهاج النبوة والخلافة الأولى بعد أن يَنقضي زَمان الملك العضوض والجبري الذي قضى به الله في سنته الأزلية، ونزل به القدر بعد ثلاثين عاما من وفاة الرسول الكريم، وكسَبَت أيدي الناس وقُلوبهم ما كسبت من إثم في خوض فتنه، وسفك دمائه، وتأجيج ناره، واعتلاء كراسيه.
روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها.ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت".
سكن الصوفية الكرام في أرض الخمول، واستكانت الأمة للسيف زمانا. وكأننا بعد أن أفقنا على صيحات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأصحابهم رحمهم الله أصحاب كهف يغطون في نوم عميق وكأنّ الإسلام في هَبّته منذ قرن وفي صحوته منذ سنوات وافدٌ جديد طارئ وجد المكان تحتله ذهنية الخمول الموروثة، وتحتله اللاييكية التي كان الشيخ رشيد رضا رحمه الله يسميهاالمقالة الإبليسية" المساجد في دار الإسلام مزدحمة، ومكة في موسم الحج والعمرة مكتظة بالمسلمين، لكن إسلام المسلمين بمثابة بناء فوقي مهزوز في الهواء. والقاعدة المتمكنة في الأرض، لا تزال، هي العض والجبر أعتى ما يكونان. ولطالما التمسَ ذَراري المسلمين المغربون من "صيدلية الغرب" حلولا لمشاكل الأمة في علب اللبرالية والاشتراكية والثورية، فخابوا ولم تقم لهم في الأرض قائمة دائمة.
فآن لنا أن نستمد من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة مادة الحياة كما استمد الصحابة. لكن قلوبنا خاوية من الإيمان، وهم رضي الله عنهم أوتوا بصحبة خَير الأنام الإيمان قبل القرآن. فماذا في صيدلية السادة الصوفية من علاج للقلوب؟ وهل نحتاج لهذا العلاج؟ وهل يمكن أن نقتبس منهم دون أن نتقيد بأسلوب الغموض والخفاء؟ وهل يمكن قبل كل شيءٍ أن نثق بتلك الصيدلية التي ثار حولها الجدل وأوسعها الناس تشهيرا وتكفيرا؟ ما في وُسْعنا أن نتخَفّف من الحاذ ومهمات إقامة الدولة الإسلامية أمامنا في عصر عَجَّاج ثَجّاج متَلاطم الأمواج. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (سورة البقرة، الآية: 134).


<br>
عمرالحسني
عمرالحسني
كـاتــــب
كـاتــــب

قلم مبدع
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
ذكر
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6278
السٌّمعَة : 12
متسامح

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

دراسات في الفقه الجامع Empty رد: دراسات في الفقه الجامع

مُساهمة من طرف عمرالحسني الثلاثاء مارس 01, 2011 1:36 am

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه أما بعد

قرانا في الفقرة السابقة سبب انزواء أهل الله في الزوايا تاركين اشأن العام للمسلمين ، من حكام و علماء و رعاع و عوام.
كان أهل الله بحسب رأي أحد لأولياء زرته في المغرب ، يؤصلون العلم و يحافظون على النور النبوي من الضياع ، الى أن يلتأم القلب و العقل معا في شخص الختم المكتوم .وهو نظر ان أمعنا فيه النظر و جدناه صحيحا ، لكنه في الميزان الشرعي و الحكم النبوي قعود عن الهمة العلية بلألهتمام بشأن المؤمنين الخاص ، علاقتي و علاقتك و علاقة المسلمين مع الأمام المصحوب.و هي علاقة شابها الغموض للأستحياء بعض العلماء من الحديث عن الأحكام السلطانية خوفا من السيف ، أو انتظارا للموعود النبوي الصادق.
هذه العلاقة ،كان اساسها الحب و الخذمة و الطاعة و النصيحة ، وتحولت مع التقاليد الأموية البالية الى رشوة و بغض و سيف و قبيلة.ومع البطش العباسي الى صلف فرعوني ، لم يسلم منه أحدا من المسلمين.
ماهي الذهنيات التي تولدت ؟.
تتولد عن كل داء خروم:
1.تولد عن الوراثة في الحكم ، تسلط الحاكم و عبثه بمال المسلمين ، و جرئته في دمائهم ، مايسميه الملك الحكم الأموي الأندلسي ، بهيبة السلطان و أحكامه ، من زينة و صولجان و رفعة و شورى مستبدة و عقاب القائمين بالحق ولو كانت قومتهم على حق.
2.انقياد المسلمين للحاكم المتسلط كانقياد الشياه للراعي ، فلا تقول و تفعل الا أذا اشار أليها السلطان في ساعة المدلهمات.فيرى الشعب ان الطاعة واجبة و حق الحاكم على المحكوم و لو كان متسلطا جائرا.
3.اغتيل الرأي الحر ، و سد باب الأجتهاد ، وساد التقليد.
4.انكفأ كل أهل اختصاص بخاصهم ، انزوى أهل الله في خلواتهم و تمعنوا و دونوا علومهم بمصطلحات و قواعد ، تكاد يلفها الغوض و احيانا العجز في الأدراك.
في حين دون ألعلماء الأصول في مذاهب أربعة ، وغيرها من الروافد العلمية عبر التاريخ. و اختص أهل السير و الحديث في الذوذ عن أصول الحديث و راويه ، فسلم الثراث الأسلامي من الوضع و الكذب.
الفقه هو العلم و التدبر و الأحتكام الى حكمة العقل ونور القلب ووضعه في ميزان الأتباع و تمام الموافقة.
يقول الولي المرشد مولانا عبد السلام ياسين في كتابه المنهاج النبوي دراسات في الفقه الجامع Frownالكيمياء الإلهية، والدواء والعلاج التي بها يطهر القلب، وهو مصب الإيمان وملتقى شعبه ومصدره نوره، هو ذكر الله. قال الله تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
وإنما تحيى القلوب بذكر الله، والتفكر في آلائه، واستمطار رحمته، ومناجاته، والاعتذار إليه عن التقصير، واستغفاره للذنب، حتى يصبح هم المؤمن الله. في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إنه لا يستطيع حمل هم الأمة، وهو ثقيل، إلا من أصبح همه الله، وغايته طلب وجهه، فهانت عليه الشدائد، واسترخص الموت في سبيل محبوبه.
العالم كل ما سوى الله. وعالم اليوم تسيطر عليه الجاهلية، وقيمها، وثقافتها، ووسائل إعلامها، فلا تكاد تسمع ذكر الله. والناس من حولك غافلون، لا هون، مشتغلون بسفساف الأمور. هم منغمرون في الحياة الدنيا، لهوا ولعبا، وشكا وإلحادا، وغفلة عن الله. هذيان العالم ملعون، أي مبعد مبعد عن الله (بفتح العين وكسرها). قال رسول الله عليه وسلم : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما ومتعلما. رواه ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن.
وكتاب الله هو الحبل المتين، هو الذكر الحكيم فتربية جند الله ترتكز على الاستمساك بهذا الحبل، بهذه العروة التي من تمسك بها نجا. ثم بعد النجاء من هذيان العالم يتبطن في القلب حب الله حتى يصير القرآن خلقنا ورائدنا.
تنظيم جند الله يجعل القرآن محور العلم، ويجعل ما إلى ذكر الله من تدارس للقرآن، وفهم له، وإعداد الفكر الإسلامي الذي يحررنا من هذيان الجاهلية وفلسفتها ونظرياتها الإديولوجية، مطلبا أساسيا.
وبعد قيام الدولة الإسلامية يصبح القرآن، وعلومه، وما تفرغ عنه من حكمة مادة الثقافة والتعليم والإعلام، ليصطبغ المجتمع كله بصبغة القرآن، صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة ؟ وتكون العلوم الكونية التي يبزنا فيها اليوم الجاهليون مستنيرة بنور القرآن خادمة لأهدافه.
القرآن ذكر يربي الإرادة، والقرآن شريعة تضبط علائق التنظيم، والقرآن دستور للحكم والعلم وتغيير العالم.
من هذيان ما قبل الإسلام، وهو حديث الفكر المادي الجاهلي وفلسفاته ونظرياته الإيديولوجية، إلى لغة القرآن، أعني لغة اللسان والقلب والإيمان. )كتاب المنهاج النبوي ، خصلة الذكر.
كيف يكون الذكر منبع العلم ؟
وكتاب الله تعالى مورد البحث و التفكر و قبل كل شيء الأيمان؟.
تتنازع الأفكار في زماننا على تربية الأنسان و تعليمه ، وتصب كلها في مسالة الحق و الكمال و الجمال و المتعة، وتنتهي بسبب المورد الشيطاني ، الى الحمية الجاهلية بالعنف ، وتبرج الجاهلية في أهدار كرامة الرجل و المرأة ، و في العلم الذي هو عين الجهل بالله.
و تتراكم المذاهب و الفلسفات الى أن أشرفت في بحثها عن موتها و أندثار قيمة الأنسان.
و كيف نعالج هذا المأزق الأنساني ؟.
أيكون التصوف بجانبه الروحي فقط سعادة الأنسان ؟
أم بالجمع بين القلب و الروح و العقل و العلم في مشروع نبوي كامل نسميه بتربية الجيل اللاحق بقرن المصطفى على منهاج النبوة ، و الصحبة لينصب كل جهد في الجماعة تحت أمرة و لي مرشد مرب؟وما علاقة هذه الدراسات في مسألة التصوف بهم الأمة ، و هما برزخان يبغيان ، أما قعود في الزاوية أو جهاد تحت أمرة سلطان؟.
ان لم تصب التربية في الوحدة ، و الصحبة بتوليد الأرادة ، تكون تربيتنا مجرد طوق تقليد ، لا يستطيع بناء مستقبل نسأل الله العافية.
لازمة ان شئت :العقل و النقل و الأرادة ، كيف افهم النص ، ثم أطبقه في الواقع في فقه يحافظ على كليات الدين لا جزءا منه
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتابه المنهاج حول هذا الأمر دراسات في الفقه الجامع Frownما منا إلا من يقول في معرض التحدث والتساؤل عن العمل الإسلامي ومنهاجه، ينطق بهذه العبارة الصارمة:كتاب الله وسنة رسوله.
لا مراء أن المحفوظ من حفظه الله من الشك في هذا. بيد أن الكتاب والسنة أصلان سماويان. فهما في منتهى الكمال إذا اعتبرناهما مجردين. فإذا نزلنا إلى الميدان، وشهدنا الناس في قابليات الفهم، وإرادة الجهاد، والإخلاص فيه، وجدنا أن تصور كل للكتاب والسنة يخالف تصور الآخرين. فكلما قيل جوابا عن تساؤلنا على عتبة العمل: الكتاب والسنة، قلنا: الكتاب والسنة نقل فبأي عقل وبأية إرادة نحن مقبلون على تطبيقهما؟.
علم هو بالجهل أشبه إن عمدنا إلى الكتاب والسنة نستنطقهما بذهنية لم تستكمل وسائل العلم، فهي تنظر إلى ذلك الماضي النير بحنين ومحبة، حتى إذا دعيت لمواجهة الحاضر وتخطيط مستقبل الإسلام، انكفأت عن كآبة الحاضر وشره، وانغلق فهم التاريخ عليها، فلعنت، واستعاذت بالله، وبررت بلعناتها الانزواء.
وعلم هو الشر حين تكون النصوص سلاحا لتكفير المسلمين وتضليلهم.
وعلم هو عين الانسلاخ من آيات الله حين يرضي عالم السوء الناس بما يسخط الله، يريد ما عند الناس فتزل به القدم، فلا ينتبه إلا وقد أصبح لعبة للشيطان.) كتاب المنهاج النبوي ، خصلة العلم.
نسال الله ان يرحمنا آمين


<br>
عمرالحسني
عمرالحسني
كـاتــــب
كـاتــــب

قلم مبدع
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
ذكر
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6278
السٌّمعَة : 12
متسامح

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

دراسات في الفقه الجامع Empty رد: دراسات في الفقه الجامع

مُساهمة من طرف عمرالحسني الثلاثاء مارس 01, 2011 1:40 am

نستطيع أن نتمثل للإسلام رحا ذات شقين، لها قاعدة ثابتة ومحور ثابت وحلقة عليا تدور. الإسلام قرآن منـزل لا تبديل لكلمات الله، وقضاء مقدر لاَ رَادَّ لحكم الله، ثم هناك فهم العباد للدين وإيمانهم وحركتهم ونظام حكمهم، وكلها متغيرات متحركات. يساعدنا على هذا التمثيل الرحوي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة عن الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة. ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام: نشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله".
هذا حديث بمقاومة الملك العاض والملك الجبري ورفض رشاواه، وذلك حين يدور الحكم على قاعدة غير قاعدة القرآن، حين تنفصل الدولة عن الدعوة. إلى جانب الأحاديث الكثيرة التي أوصت بالطاعة للجائرين حفاظا على وحدة الأمة وجماعتها نجد أحاديث مثل هذا توصي بالوفاء للقرآن والدوران معه حيث دار ولو كره السلطان وأغرى وسفك الدماء.
وكل ذلك كان في تاريخنا الإسلامي الحافل: نُقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستحال الحكم من الخلافة إلى الملك العاض الوراثي ونحن في عصرنا لا نزال نعيش تحت أنظمة عاضة وراثية أو جبرية عسكرية ننتظر ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من عودة الخلافة على منهاج النبوة. ننتظر بثقة ورحا الإسلام تدور، وخصام السلطان للقرآن مستمر. فهل يكون انتظارنا إلا تبلدا إن نحن اكتفينا بمراقبة الأحداث ولم ندر مع القرآن متحركين بأوامره؟
وهل تكون حركتنا إلا دوَّامة تتكرر فيها مآسي الماضي إن نحن تجاهلنا دروس التاريخ، أو قفزنا من فوقها، أو تخيلنا الإحسان هروبا خارج التاريخ قانعين بزهادة عاجزة مستسلمة؟
كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون القرآن غضا حيا بحياة الإيمان والإحسان في قلوبهم، فيدورون بدورانه، ويسعون حيث أمر، ويتجدد لهم عزم بتجدد نزوله، وتستمر لهم إرادة باستمرار تلاوته، ويزدادون قوة وصلابة في الموقف تأسيا بمن ضرب الله لهم مثلا من النبيئين والحواريين. فما هي الشروط النفسية التربوية والقلبية الإيمانية الإحسانية، والعلمية العقلية الحِكَمية اللازمة لكي نكون على مستوى المواعدة لسنة الله، والملاقاة مع بشارة رسول الله؟ ما هي الشروط لكي نكون بإزاء القرآن وتحت منبر المصطفى من ولد عدنان نسمع ونطيع ونعزم ونستمر ونصبر ونقوى على المقاومة ومقارعة الخطوب؟
هل نكون الرجال على موعد مع الخلافة إن اختفينا عن تاريخنا، أو رُغنا عن فهمه ونقده، أو احتضناه بعاطفية متسامحة جانحة إلى تزيين الواجهة والتفاخر بالأمجاد، أو اتخذنا تاريخنا، المجيد بالفعل في كثير من إنجازاته، واسطة بيننا وبين القرآن، نفهم فهم من دارت بهم الرحا من قبلنا، ونفسر الأحداث بتفسيرهم، ونوجه الجهود بتوجيههم، ونقدر الواجب والممكن تقديرهم؟
إن الإعراض عن تاريخنا بدعوى التشبث بالنموذج النبوي قرين في البلادة لاحتضان هذا التاريخ احتضانا صبيانيا يدافع عن الأخطاء الفادحة ويعلِّم للأجيال ترسيخ الواقع الموروث. نقد تاريخنا بالعقلانية الوضعية من زاوية الإلحاد والعلمانية أو المادية الجدلية أو القومية الاشتراكية نقد موجه لتفسير تاريخ المسلمين تفسيرا يجرد الإسلام من الوحي والنبوة والإيمان بالله وباليوم الآخر ليبقى فقط للاشتراكي "ثورة" أبي ذر وعدل عمر، وللعلماني حضارة بغداد والأندلس المتسامحتان، وللقومي عزة العرب ونخوتها، وللجميع حين ينافقون عبقرية محمد القائد العربي الرائد في إدخال السياسة إلى الميدان العسكري بحيث عبأ العرب تعبئة لا مثيل لها في التاريخ.
للتقدميين تفسير خاص لتاريخ المسلمين يتحسس نبضات القوة ونصوص الحركات ليستدل على ثورية الإسلام. وللمتبلدين من أكاديميات البلاد ولع بالدفاع عن نمط الحكم الأموي، وتوسع المعارف الفلسفية في البلاط العباسي، وروعة الحضارة والفن والمعمار في قاهرة الفاطميين وغرناطة دويلات الطوائف. كل ذلك في قَرَن واحد، كل ذلك يدور مع السلطان وتقلباته لا مع القرآن ومن تحت جناحه.
إننا في بحثنا عن المنهاج الإحساني لا نستطيع أن نتخطى تاريخنا. العبرة بالتاريخ سمة يتحلى بها أولو الأبصار. وفهم تاريخنا ذكرى، وما يذكر إلا أولو الألباب. لو كان مشروعنا أن ننعزل عن الدنيا وفتنها لنتفرغ للآخرة ونسلك إليها الطريق السهلة لكان تقليد السادة الصوفية الذين تعطرت بأنفاسهم الأيام لنا سندا كافيا. لكن مشروعنا جهادي ونظرنا إلى الصحابة رضوان الله عليهم المنغمسين -كانوا- في جو الوحي والقتال، كان الإحسان العبادي والإحسان الجهادي لا ينفكان في حياتهم، وفي حياة الصوفية انفك الجهاد عن العبادة، وترك السلطان زائغا عن القرآن.
فقه أئمة التربية الصوفية ثروة لا غنى عنها لأنه فقه قلوب تغذت بذكر الله وتفتحت لنور الله. وفقه الفقهاء المذهبيين ثروة. وأثل لنا المحدثون علما شامخا. وأسس الأصوليون صرحا عليه كان مدار فهم الشريعة. ولا غنى لنا عن كل هذا في مستقبل الإسلام. لكن هذه الكنوز تبقى غامضة المغزى ضبابية الدلالة إن لم نتابعها كيف نشأت، وفي أية تربة نبتت، وبأي مياه سقيت، وأية أيد تناولتها، وأية جهة رعتها، وفي أية حدود استطاعت أن تزدهر، وإلى أي مَدى وتحت أية ضغوط اضطرت أن تنكتم.
إنْ قَفَزْنا فوق تاريخنا فاتتنا العبرة وفاتنا الاستبصار واختلط علينا اللب والجوهر بالقشر والأعراض. وبفوات ذلك نرتطم بالواقع الذي نريد أن نغيره، بَدْءاً بواقع أنفسنا التي نريد أن تكون محسنة.
ما هو المنهاج لفهم فتنة القرن الخامس عشر وما بعده استنادا إلى العبرة بالجاهلية الأولى؟ ما هو منهاج النبوة في تعاملها مع الجاهلية؟ هل نكفر المجتمع ونعتبره جاهليا لنبدأ من نقطة الصفر؟ ما هي التربية النبوية التي جعلت من الصحابة أولياء لله مجاهدين في سبيل الله؟ ما هي الضمانات الإسلامية للإنسان وكرامته وحقوقه التي جاء بها الإسلام، كيف طبقت وكيف ضاعت وكيف تسترد؟ ما هي مواصفات الخلافة الراشدة الأولى حتى نخطط على علم للخلافة الثانية؟ ما خصائص جماعة المسلمين كما ألفها الله على يد رسوله الكريم فحملت أعباء الجهاد لنحذو ذلك الحذو؟ كيف تمزقت الجماعة الأولى وكيف نشأت الفرق في الإسلام، وكيف دب الخلاف، وكيف استفحل، ولم غلا من غلا، وجمد من جمد، واستبد من استبد، وظلم من ظلم؟
كيف نبع أهل البدع والأهواء، وكيف انبرى لهم علماء الكلام، وكيف انكب أئمة الفقه على التفريع، وكيف أصّلوا، وكيف اجتهدوا، وكيف جمع المحدثون وصفوا وغربلوا، وكيف ولم انعزل الصوفية، وكيف زاغ الفلاسفة، وكيف دامت الخصامات، ومن أوْرَى زند الصراعات، وما هي الكوارث التي حلت بالأمة، والانشقاق الداخلي، والغزو الخارجي حتى جاء تهديد أوربا واستعمارها وحلول عساكرها وفكرها ونمط معيشتها وكفرها وماديتها بين ظهرانينا؟
يبدو للملاحظ ذي النظرة البسيطة أن لا علاقة لكل هذه الأسئلة المتعرضة للدنيا وصخبها وناسها بالإحسان وفقه التصوف. لكن من وقف معنا وقفات متروية يعرف عن أي إحسان نبحث. درجة الانقطاع عن العالم لطلب وجه الله درجة مشكورة مذكورة، إحسان فردي فار إلى الله يفوقه ذكرا عند الله إحسان جهادي جماعي يقاتل في سبيل الله. لا إله إلا الله والحمد لله.
تسمى قاعدة الرحا التي عليها تدور ثِفالا، وفي الثفال يغرز المحور. لنتمثل ثفال رحا الإسلام هو جماعة المسلمين وقاعدتهم الاجتماعية السياسية المتماسكة بالأخوة الإيمانية الإحسانية. ولنتمثل محور جماعة المسلمين ما غُرز في القلوب من توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبودية، والطاعة لأمره ونهيه الوارد بهما كتابه، والالتفاف حول الرسول الكريم وحول الخليفة المختار بالإرادة الحرة للأمة. ولنتمثل الشقَّ الأعلى للرحا ما في حياة المجتمعات من متغيرات مثل نظام الإدارة وإدارة الاقتصاد والاجتهاد التشريعي فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة وترتيب الشورى في توزيع المسؤوليات وتخصيص المؤسسات. كل ذلك يدور حول قاعدة ثابتة، وحول محور مكين فيها، قائم عليها. لنتمثل الدعوة وما تمثله من ركائز الدين وقوة الجماعة قاعدة تدور الدولة حولها لخدمتها. هذا هو الوضع الإسلامي الذي كان سائدا ما بين الهجرة النبوية وانقضاء عهد الخلافة الراشدة ثلاثين سنة بعد وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحت ملكا انقلب الوضعُ، وتوسط الملوك والسلاطينُ الرقعة، ومكنوا في البلاد صنائعهم ورجالهم وذوي عصبياتهم، وراود السلطانُ القرآن على تنازلات ورخص وسكوت، وشالت الدولة رجال الدعوة إلى الهامش ليدوروا حول إرادة الحاكم بالسيف والوراثة والعصبية.
الوضع الآن أشد قلبا للحقائق، والدعوة لا يسمح لها بالوجود إلا إذا أعطت الوَلاء غير المشروط للحاكم.
والمطلوب إرجاع الوضع إلى نصابه الإسلامي، وإخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن. الإسلام على الهامش والمطلوب إدخاله مرة أخرى إلى مكان الصَّدارة وإثباته في منصة السيادة. عامة المسلمين جاهلون بدينهم أو شاردون عنه، وطائفة كافرون به محاربون له، والمطلوب أن يرجع الناس إلى الإسلام وأن يقبلوا شرائعه وأن يندرجوا في درجه.
في معرض استخلاص العبرة من سنة الله في الكون، ومعرض مراقبة رحا الإسلام كيف انقلبت ودارت دون أن تتفكك أوصالها ويندثر وجودها، ينبغي أن لا تنسينا صعوبة المشروع -الذي نأمل نجاحه وننتظر- أنَّ حصون السلطان المتمنع من القرآن مهما كانت قوية لا تستطيع مقاومة الجهاد الإحساني إن درنا مع القرآن حقا، وقلدنا المعصوم صلى الله عليه وسلم صدقا.
ينبغي مع توقع المدد الإلهي الخاص أن نتزود بالصبر، ونعول على المطاولة، ونتوغل في الواقع بحزم في غير عنف ولا تسرع، ونوغل في الدين برفق. من يريد أن يغير الواقع في لحظة، ويرفع الموجود بضربة ليحضر مكانه "حلا إسلاميا" جاهزا مكتملا فإنما هو حالم أو مجنون.
سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة.
الوقت بساط على امتداده تتسلسل هذه العمليات وتتوالد وتتدرج. وفي احترام هذا التدرج العام قانونُه على الناس أجمعين تكمن حكمة الله الخاصة بهذه الأمة، تطوى لها المراحل وتمهد الصعاب وتعجل بالنصر. ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بمكة حول البيت الحرام تحيط به مآت الأصنام مظِنَّةَ أن يفتح مكة ويكسر الآلهة القرشية بعد بضع سنوات. كان المشركون ويهود المدينة من بعد يحسُبُون حساب ميزان القوى وهو في صالحهم. ولو شاء الله لأبطل تلك الميزان إبطالا ولأطبق الأخشبين على قريش وخسف الأرض بيهود كما فعل بأعداء الرسل من قبلُ. لكن حكمته جل وعلا اقتضت أن تدور رحا الإسلام بالتدرج في عالم الأسباب، وأن تأتي الدفعة الملكوتية لتساعد الأيدي المجاهدة، داخل التاريخ وفي زحمته لا خرقا سافرا لناموسه.
قال الله تعالى في سورة الحشر يصف فعله جلت عظمته بيهود خيبر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)).
كذلك يقدر الله تعالى أن يأتي البناء الفتنوي من القواعد، وأن يبدلنا خيرا منه، وأن يفتح لنا كل الحصون. ذلك إليه سبحانه، نستغفره ونضرع إليه. والذي علينا أن نتوغل بالرفق الحازم. روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق". وجاء الحديث من طرُق أخرى بزيادة تقول: "ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله. فإن المُنْبَتَّ (المسرع جدا) لا أرضا قطع ولا ظهرا (دابة) أبقى".
التدرج والإيغال برفق من أهم واجبات الراجين نصر الله، الناصرين بجهادهم الصابر لله. في الصحيح: "يؤتي الله على الرفق مالا يؤتي على العنف". وفي القرآن: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)) (سورة الأنعام). يليها قوله تعالى لرسوله ينبهه وإيانا أن العجلة والضيق بالواقع المعاكس لا تغير من الواقع شيئا: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) (سورة الأنعام).
فمن سنن الله أن يُمْلِي للقرى الظالم أهلها ويمهلهم "حتى" يأتيهم بأسه. ومن سننه أن يلهم أولياءه الصبر على بذل الجهد حتى يأتيهم نصره.
فساد كبير يدخل على العبد في نفسه وجسمه وعقله وعادته يتحرج به ويَعْنَتُ ويكره بسببه العمل إن كلف ما لا يطيق، وتزاحمت عليه وظائف الشرع، واكتظ أفقه بالمهام الملحة حتى لا يدري من أين يبدأ. فيعجل ويعنف ولا يحسن في شيء بل يسيء في كل شيء. ما بالك إذا كانت المهام على مستوى إعادة بناء المجتمع، والوظائف الشرعية شاملة لإقامة دولة القرآن، وزحام الأولويات لا يقيم وزناً لمخلفات الماضي ورواسبه المرضية في جسم الأمة ونفسها وعقلها وعادتها. أي عنت يلحَق الأمة وأية كراهية تكره "الحل الإسلامي" إن جاء جاهزا في التصورات الساذجة عنيفا قاطعا سافكا عجلا !
يأتي مدد الله تعالى من حيث لا يظن المومنون، ومن حيث لا يحتسب الآخرون إن تأنسنا بسنة الله ورسوله وتتبعنا واقتدينا. وهي كلها تدرج وبناء متعاقب ورفق يرفع الإكراه في الدين والحرج في الدين والغلو في الدين والتشدد في الدين.
روى الإمام البخاري في كتاب فضائل القرآن من صحيحه عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها جاءها عراقي فقال: "أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك ! ؟ قال: يا أم المومنين، أريني مصحفك: قالت: لمَ؟ قال: لعله أؤلف القرآن فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: ما يضرك أيَّه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس (رجعوا) إلى الإسلام نزل الحلال والحرامُ. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا ! ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا ! " الحديث.
فال الحافظ ابن حجر: "أشـارت (أمنا عـائشة) إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنـزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمومن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار. فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام. ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها". وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف". قال رحمه الله: "وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال".
العراقي يدقق في جزئيات الكفن وأم المومنين تزجره وتدله على سعة الدين. والنفوس تنفر أشد النفور من الإقلاع عن العادة. ومن الإسلاميين المعاصرين من يدل على الضيق ويتصور أن فرض القوانين الإسلامية بالقوة يوم يستولي جند الله على السلطة كاف لإقامة الدين. لا نتفق مع هذه العقلية القانونية، ولا نحب أن يصبح أهل الحق جلادين يُكْرِهون ويكرِّهون، ولا نقول برفع التكليف لنبدأ من نقطة التوحيد فقد تم التنـزيل والأمة مسلمة مكلفة بالشرع كله. لكن نقول بوجوب التدرج وضرورة التربية.
تكلم الشاطبي رحمه الله طويلا في "الموافقات" على أصل مكين من أصول الدين وهو رفع الحرج والمشقة. وذكر قصة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ما أجدرنا أن نجعلها لنا شعارا. سأله ابنه عبد الملك، وكان رجلا صالحا: "ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لَوْ أن القُدُورَ غَلَتْ بي وبك في الحق ! " فقال الخليفة العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد المطلق: "لا تعجل يا بني ! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيَدَعوه جملة، فيكون من ذا فتنة".


<br>
عمرالحسني
عمرالحسني
كـاتــــب
كـاتــــب

قلم مبدع
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
ذكر
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6278
السٌّمعَة : 12
متسامح

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

دراسات في الفقه الجامع Empty رد: دراسات في الفقه الجامع

مُساهمة من طرف عمرالحسني الثلاثاء مارس 01, 2011 1:41 am

معرفة الجاهلية ومعرفة بداية الإسلام خروجا منها ومعالجة لها وقتالا وجهادا عبرة بالغة لنا وتثبيت في أذهاننا لسنة الله في الخلق التي لا تتبدل. تثمر العبرة فينا من دراسة الجاهلية وخصائصها إن راعينا الفرق بين الجاهلية الجهلاء العامة الشاملة التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وبين المجتمعات الإسلامية المعاصرة التي داخلتها الجاهلية وتخللتها، لكن لم تغير طبيعتها المسلمة العميقة. لا قياس مع الفارق كما يقول فقهاؤنا. ونرجع إن شاء الله في الفقرة المقبلة لنميز بين مفهوم"جاهلية" ومفهوم "فتنة".
قال أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عُرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". وكلمته هذه تأتي هامشا وإضافة إلى الحديث النبوي الذي رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتنقضن عُرى الإسلام عُروةً عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهنَّ نقضا الحكم وآخرهن الصلاة".
يكثر عند الباحثين في تاريخ الإسلام تحليل العوامل السلبية التي أدت إلى انحطاط المسلمين. وسؤال شكيب أرسلان رحمه الله: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" مثال لا يزال ماثلا في قاموس القوميين والوطنيين لأن الشطر الثاني من السؤال "وتقدم غيرهم" يوحي بضرورة استفادة التقدم من هذا الغير، واستعارة وسائله، وتبني أساليبه، والسير في مضماره، والرضى بمعاييره لما هو التأخر والتقدم والخير والشر. مع شيء من الأصالة هنا، ومن العزة الوطنية القومية هناك، ولبرالية واشتراكية يكونان مفتاحا لحل المشكل الاقتصادي الاجتماعي.
وعند بعض الإسلاميين تركيز على العوامل الإيجابية في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكلها حق وصواب لا ريب، ودعوة للتميز عن "جاهلية القرن العشرين" ومقاطعتها والمفاصلة عنها. ويفتح الفهم التبسيطي لهذه الدعوة الأبواب لتكفير المجتمعات المسلمة والتعلق بمثالية مطلقة يتخيل طلابها أنها تُنال بمحو مَاحِقٍ للواقع الجاهلي، بلا انتظار، ولا تدرج، ولا محاكمة، ولا صبر.
عرى الإسلام انتقض منها الكثير ابتداء بفساد الحكم، ومحاولة إعادة هذه العرى للارتباط والإبرام والشد جهود ضائعة إن نشأ في حضن الدعوة من لا يعرف الجاهلية الأولى، والجاهلية الحالية، وخصائصهما المشتركة، والدعوة النبوية المنـزلة من السماء الغازية زمان إقبال الإسلام وشبابه، والدعوة الحاضرة النابعة من مجتمع مغزو زمان انبعاث الإسلام وتجدده.
دراسة السيرة النبوية في المجتمع الجاهلي الأول تعطينا نموذج النشأة، ومعيار القيمة، وحقيقة التاريخ، وحظ الجهد البشري، وحياطة العناية الإلهية، وشروط هذه العناية. تعطينا صورة لسنة الله في فترة الميلاد الإسلامي نستهدي بملامحها العامة في سيرة التجدد الإسلامي. مع مراعاة النقلة الزمانية، وانقطاع الوحي الموجه للحركة الأولى يحل محله الاجتهاد والتسديد والمقاربة، ومراعاة وجود مجتمع مسلم في الحاضر انحلت عراه لكنه لا يزال مسلما.
الخصائص العامة للجاهلية، تلك وهذه وكل جاهلية، نجدها في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد. أنى وجدت هذه الخصائص مجتمعة متساندة مكثفة مظلمَة قائمة فتلك الجاهلية حق الجاهلية. فإن أبصرنا بعضا منها تسرب إلى العقول والنّفوس والسلوك الفردي والجماعي، وأكسب المنظر كدورة وضبابية تأصلت فيه أو غيرته عن صفائه الأول فهي بعض الجاهلية. وقد يتصور في الذهن مسلمون فيهم جاهلية، ما أخرجهم ترسب آثارها فيهم عن الإسلام.
الخاصية الأولى للجاهلية هي "ظن الجاهلية"، هي فساد الاعتقاد أو الشك في قدر الله عز وجل وقدرته وهيمنته. قال الله تعالى في سورة آل عمران يذكر وقائع أحد: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (سورة آل عمران،154).
هؤلاء أعراب أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، ومنافقون خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المومنين. فلما حلت الهزيمة ووقع الفشل حلت الأمنة والسكينة على قلوب المومنين فرجعوا إلى موقف ثابت، واستولى الهلع وسوء الظن على الآخرين، وظهرت طويتهم الجاهلية. (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) (سورة آل عمران،154).
جاهلية إذن في القلوب والصدور والعقول. مُتفاوتة الدرجة والتغلغل بين مشرك صريح ومنافق وأعرابي.
المشركون ومن في حكمهم يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويتبعون كل شيطان مريد من شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا كما جاء في القرآن الكريم. والظن تخرّص وجهل وتكبر وجحود. الظن بالمفهوم القرآني مظهر للذهنية الجاهلية المتشبثة بما قال الأولون المتعصبة لجهلها. عاهة عقلية نفسية معا. قال الله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (سورة الحج). ثاني عطفه أي مستكبرا مصعرا خده يسمع آيات الله هزؤا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا. قال مجاهد: نزلت في النضر بن الحارث. وقال قتادة: ثاني عطفه: هو المعرض من العظمة، إنما ينظر في جانب واحد.
هذه الخاصية كانت طاغية في التشكيل الذهني للجاهليين الأولين، وهي الآن أطغى وأعتى في جاهلية الاختراع وغزو الفضاء والإعلاميات والمعلوميات.
والفيصل ما بين العلم والجهل، والإيمان والكفر، والجاهلية والإسلام قبول الوحي المخبر عن وحدانية الله تعالى وعن الدار الآخرة ومصير الإنسان إلى ربه وبعثه وخلوده في دار النعيم أو في دار الشقاء جزاء أعماله في الدنيا.
الخاصية الثانية من خصائص الجاهلية هي خاصية "حكم الجاهلية" نجدها في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)) (سورة المائدة).
مبادئ الحكم ونظامه وعلاقاته وأهدافه تتبع التصور السائد للإنسان عن نفسه وقيمته كما تتبع القوة العملية الاجتماعية التي تكون عصبيتها قاعدة الحكم البشرية. نرجع إلى هذه الأخيرة إن شاء الله في الخاصية الرابعة.
الحكم بما أنزل الله يقتضي تحكيم الشرع، والحكم الجاهلي يريد تحكيم الهوى ومنازعة منهاج النبوة.
نقف وقفة لطيفة عند وصية الله لرسوله: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (سورة المائدة،49). نقف لنسجل للفقرة المقبلة بإذن الله كيف تأتي الجاهلية "تفتن" الإسلام عن "بعض" الوحي، ولو استطاعت، وهي تفعل ذلك حين تستطيع، لفتنته عن كل الوحي. وعندئذ زال الإسلام زوالا. نسجل ثم نمضي إلى توفيق المولى الكريم السميع العليم.
ظن الجاهلية السيّئ بالله وتكذيبها لرسله وصممها عن الحق يتعدى من مجال العقيدة، ويعبر إلى الحياة العملية. فيكون القوي سيد الضعيف، والغني مولى الفقير، والمال غنم الفئة الجبارة ودولة بينها، والربا أصل التعامل، ولغة السيف أفصح تعبير.
لفظ "الجاهلية" يحمل لغة معنيين اثنين: معنى الجهل ضد العلم. ومعنى الجهل ضد الحِلْم. وهكذا يلتئم شمل الجاهلية بالمعنيين اللغويين، والقرآن نزل بلسان عربي للناس لعلهم يعقلون، فيتغذّى عنف الجاهلية على الإنسان بجهل الجاهلية لمعنى الإنسان.
والعنف وتردي الإنسان في حيوانيته من أبرز صفات تلك الجاهلية وهذه. زادت الحاضرة على أختها العتيقة بالإلحاد المفلسف المواكب للصواريخ النووية المدمرة.
الخاصية الثالثة للجاهلية هي "تبرج الجاهلية"، هي فساد الأخلاق وطغيان الشهوات وخرق حدود العفة والصيانة التي تتميز بها الإنسانية عن البهيمية. فمتى تعدت النـزعات الغريزية مكانها الطبيعي في كِنِّ العفاف وهتكت سِتر الحياء انطبعت بطابع الجاهلية. قال الله تعالى مخاطبا نساء النبي والمومنات جميعا: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (سورة الأحزاب،33).
استقرار النساء في بيوتهن مطلب شرعي. وخروجهن وتبرجهن وتسويقهن وابتذالهن من أبرز سيما الجاهلية المعاصرة. وإن معالجة مشكل المرأة ومظلوميتها في بلاد الله، خاصة في بلاد المسلمين حيث يأمر الشرع بإكرامهن وإعزازهن، لن تلقى حلا إن أفرز عن مجموع التشكيلة الجاهلية المتكونة من جموح "ظن الجاهلية" وطاغوت "حكم الجاهلية" وحمى "حمية الجاهلية" وهي الخاصية الرابعة من خصائص الجاهلية.
قال الله تعالى واصفا الحالة النفسية لمشركي قريش وللمومنين عند فتح مكة: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (سورة الفتح،26).
الحمية لغة الغضب، وحمية الجاهلية عصبيتها كما تفسر ذلك الأحاديث النبوية. يقابل "حمية الجاهلية" السكينة التي ينـزل الله في قلوب المومنين.
إن كان للخصائص الثلاث الأولى للجاهلية الأثر الفاعل في ذهنية الجاهليين وثقافتهم ونظامهم السلوكي والسياسي فحمية الجاهلية وغضبيتها وعنفها وتكتلها للعصبية، ينصر بعضها بعضا ظالما كان أو مظلوما، هي سياج الجاهلية ودائرتها وقفلها. العصبية هي ملخص الجاهلية وخلاصتها. وإن ذكرت في القرآن متأخرة في الترتيب فما هي نتيجة بل هي المقدمة. ما هي البنت بل هي الأم.
التمسك "بظن الجاهلية" وعقائد الآباء والأجداد فرع عن العصبية الكلية. والولاء السياسي للقبيلة ومشيختها يؤسس "حكم الجاهلية"، لا حياة للفرد بدونه، فهو التعبير الحياتي للعصبية. وتبرج النساء مفاخرة عند قوم يتمدحون بكل ما يرفع سمعتهم، من ذلك جمال نسائهم ينشر محاسنهن الشعراء في المحافل، وتنفق سلعتهن إن ذاع صيتهن. العصبية عُصارة الجاهلية وثقلها وركيزتها.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عصبية الجاهلية وحميتها، لأنها اللحمة الجامعة بين أفراد المجتمع الإسلامي. وأمر الله ورسوله بالأخوة بين المومنين على أساس من عضوية الإيمان والتقوى، لا فضل لعربي على عجمي إلا بهما.
عبر تاريخ الإسلام إلى عصرنا نستطيع أن نعرض نبضات القلق ونزعات الشقاق وفورات الفتن على معيار العصبية، عصبية الظن والحكم والتبرج والحمية، فنجد أن الإسلام يقوى بضعفها ويتراجع بقوتها. يكفي أن نشير إلى التلاحم الحاضر بين الإلحاد والعلمانية، وهما "ظن الجاهلية"، بالقومية وهي "حمية جاهلية"، وارتفاعها على الإسلام إلى سدة الحكم. وأي حكم أشد جاهلية وأحمى حمية من حكم النصيرية الكافرين في سوريا وحكم البعث في العراق.
أخرج مسلم والنسائي عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قُتل تحت راية عُمِّيَّة (ضالة جاهلة) يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية". وأخرج أبو داود بإسناد حسن عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل عصبيَّةً، وليس منا من مات على عصبية". وأخرج أبو داود بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدِّيَ في مهواة (سقط في حفرة) فهو ينـزع بذنبه". وجاء عند أبي داود أيضا في "باب العصبية" أن واثلة بن الأسقع قال :قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: "أن تعين قومك على الظلم".
بعد فتح مكة، وهزيمة حمية قريش وعصبيتها وانتصار السكينة وكلمة التقوى والعدل على كلمة الظلم والاستكبار قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. الناس رجلان: بَر تقي كريم على الله عز وجل، وفاجر شقي هيّن على الله عز وجل. الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)) (سورة الحجرات). أخرجه الترمذي بسند حسن.
لا يقصد الإسلام أن يمحق صلات القربى ويقضي على علاقات النسب والانتساب. لا ولا كان ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد حافظ النبي الكريم على البنيات الموجودة واعتمدها منطلقا لتشييد صرح الأخوة الإيمانية وراء حدود القبيلة والعشيرة بمؤهلات التقوى والعمل الصالح تحت شعار إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (سورة الحجرات،13).
النسب والانتساب مما أمر الله به أن يوصل شريطة أن لا يتحول حب ذوي القربى والولاء للعشيرة عصبية، وحد العصبية وتعريفها كما قرأنا: "أن تعين قومك على الظلم".
لكن لعبِّيَّة الجاهلية ثقلاً وعناداً ورعونة ومقاومة. العَبَى في اللغة الرجل الجافي، والعَبَاء الثقيل الأحمق. كذا قال في "لسان العرب".
هذه الجاهلية الحَرُونُ التي طاردها الإسلام الأول -وهي اليوم تحاصر الإسلام من كل جانب منذ كرتها المتواصلة على الإسلام ابتداء من عودة العصبية للقضاء على الخلافة الراشدة وتأسيس الحكم العاض- هي قبل كل شيء وثنية عامة، وثنية عقيدة، وثنية حكم، وثنية زينة، وثنية تفاخر. أوثان العرب كانت على عهد النبوة أحجارا بدائية. قال الكلبي: "كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنعُ في منـزله أن يتمسّح به. وإذا قدم من السفر كان أول ما يصنع أن يتمسح به أيضا".[1] يتمسحون بها ويطوفون حولها ويناجونها ويشكون إليها همهم. يعبدونها لتقربهم في زعمهم إلى الله زلفى. وذلك هو الشرك. كان في جوف الكعبة ثلاثمائة وستون صنما. وكان الصنم عندهم يفقد قدسيته أو يكسب سمعة وشعبية، محلية أو عامة، بحسب ما يحيط به من دعاية وما يحميه من عصبية. وكان لقريش القِدْح المعلى في ذلك.
كان الكهان الماهرون في الزمزمة يكسبون لقبيلتهم شهرة فتصبح قبلة لحج المختصمين. وأية قبيلة حصلت على صنم مستورد من البلاد الهلينية المتقدمة الراقية في وثنيتها التي تجيد نحت المرمر فقد قدمت لمستقبل مفاخرها "استثمارا" معتبرا. أما ضعفاء الناس فيكتفون بالموجود. قال أبو رجاء العطاردي: "كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر. فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة (حفنة) من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به".[2]
كان للعرب آلهة من الجن والكواكب والملائكة في زعمهم. كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، جل الله. وكان منهم من يعبد الشمس ومن يعبد القمر، أو نجما معينا يخصونه.
كانت الحروب الدموية والغارات طبيعة طبعت عليها الجاهلية الأولى. كان العنف هو القاعدة لا الاستثناء. كانت الغارة والنهب هما المعيشة. كانت أية نفرة أو خصومة أو نزاع بسيط بين شخصين، لا سيما إذا كانا شريفين في قومهما، تقدح حربا طاحنة تراق فيها الدماء عشرات السنين.
وكان "تبرج الجاهلية" خاصا بالطبقة المستأثرة بالزينة، والزينة البئيسة خاصة بالفتيات المسلوبات الحرية يُحصرن في دور الخنا تخفق عليهن رايات الإشهار الحمر في مكة.
كان القمار رياضة يومية ومفخرة. وكان الربا أضعافا مضاعفة يقبض على أزمة المال.
نقتصر على هذا القدر من وصف تلك الجاهلية ونقتصر على الجاهلية العربية التي كانت على كل حال "أنظف" من الجاهليات المعاصرة لها، في الهند حيث كانت المعابد دوراً للزنا المقدس، وفي بيزنطة حيث كانت فضائح الكنيسة وقصور البازليوس مضرب الأمثال، وفي مصر حيث مارس الاستعمار الرومي البيزنطي أبشع الوحشيات في محاربة نصرانية القبط، وفي فارس حيث شرع مزدك الإباحية في الأموال والنساء دينا، وفي كل مكان حيث كان اليهود لعنهم الله يُفسدون في الأرض ولا يصلحون بمكرهم الرقيق الشيطاني الذي يزري فساده بجفوة العرب السذج وظنهم وتبرجهم وحميتهم.


<br>
عمرالحسني
عمرالحسني
كـاتــــب
كـاتــــب

قلم مبدع
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
ذكر
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6278
السٌّمعَة : 12
متسامح

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

دراسات في الفقه الجامع Empty رد: دراسات في الفقه الجامع

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس مارس 10, 2011 12:36 pm

جزاكم الله خيرا أخي الحبيب عمر الحسني وللمزيد حول هذا الفكر أرجو زيارة هذا الرابط للشيخ الحبيب أبي بكر العدني

https://azhar.forumegypt.net/t2266-topic#6389




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

دراسات في الفقه الجامع Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28508
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى