محاضرات فى مصطلح الحديث للدكتور عبد الرحمن البر / متجدد
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
محاضرات فى مصطلح الحديث للدكتور عبد الرحمن البر / متجدد
موجز تاريخ علم المصطلح
وفيه ثلاثة مباحث:
1 - بداية نشأة علم مصطلح الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
2 - تطور قواعد المصطلح من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الذهبي للسُّنَّة
3 - تطور علم المصطلح منذ العصر الذهبي للسنة إلى الآن
أهداف دراسة الفصل الأول:
موجز تاريخ علم المصطلح
يتوقع منك أيها الدارس الكريم بعد دراسة هذا الموضوع ما يلي:
1- أن تعرفَ الأدوارَ التي مرَّ بها علمُ مصطلحِ الحديث منذُ بدايةِ ظهورِه في العهدِ النبويِّ إلى يومنا هذا.
2- أن تقتنعَ بأنَّ المسلمين قد اتبعوا منهجيةً علميةً سليمةً في التعامل مع السنة النبوية المباركة وهي منهجيةٌ تُعَدُّ مَفْخَرَةً لهذه الأمة.
3- أن تعتقدَ أن اللهً قد حفظ هذا الدين بإلهامه علماءَ المسلمين وضعَ قواعدَ دقيقةٍ ملائمةٍ لحفظ السنة، تَمكًَّنوا بها من سدِّ كل الثغرات التي حاول أعداءُ الإسلام النَّفَاذَ منها لضرب الدين.
4- أن تدركَ مدى الجهد العظيم الذي بذله السلفُ الصالحُ من علماء الأمة الكرام في العملِ لهذا الدين وحمايةِ السنة المباركة، وضرورةَ الاهتمام بتلك الجهود ودعمِها والنسجِ على منوالها.
5- أن تستشعرَ أن لك دوْراً وأن عليك واجباً في العمل لهذا الدين للِّحاق بالسلف الصالح وتحصيل المثوبة من الله عزَّ وجل.
المبحث الأول
بداية نشأة علم مصطلح الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يتضمن أربع نقاط على النحو التالي:
1 - الرسالة العالمية وما يترتب عليها.
2 - قواعد الرواية الصحيحة.
3 - الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم مما يعين على الحفظ.
4 - الوسائل والآداب التي راعاها الصحابة في التلقي والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم .
1 - الرسالة العالمية وما يترتب عليها:
قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (الأعراف: 158).
تعني هذه الآية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مكلَّفٌ بتبليغ الرسالة للناس جميعاً، وهذا يعني أنه لابد أن يحدث أحدُ ثلاثة أمور:
1- إمَّا أن يذهب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كلِّ الناس فرداً فرداً ليبلغهم بكل ما جاء به حرفاً حرفاً، وهذا أمرٌ مستحيلٌ بَدَاهة.
2- وإمَّا أن يترك الناسُ جميعَ شئونهم ويتفرغوا جميعاً للحضور عنده والسماع منه صلى الله عليه وسلم لكل ما جاء به، وهذا أيضاً مستحيلٌ بَدَاهة.
3- وإمَّا أن تسير الحياة سيرَها الطبيعيَّ، ويبلِّغ النبيُ صلى الله عليه وسلم مَن لقيه، ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مَن يتمكن من الحضور فيسمع منه، ثم يقوم هؤلاء وأولئك بنقل ما سمعوه إلى غيرهم، ممن لم يَلْقَهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وممن لم يتمكنوا من الحضور عنده، ثم يقوم هذا الغير الذي سمع بالنقل إلى غيره، وهكذا تتوالى حلقات التبليغ، حتى يصلَ البلاغُ إلى جميع الناس في كلِّ مكان، وتقومَ الحجة على الناس جميعاً.
وهذا هو التصور المنطقيُّ والمعقول.
وهذه العملية تسمى (الرواية)، وهي ما دعا إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه حين قال: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آَيَة»([1])، وحين قال: «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»([2])، وحين قال: «تَسْمَعُونَ مِنِّى، وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ»([3]).
الرواية - إذاً - هي السبيلُ المعقولُ لتوصيل الرسالة العالمية كاملةً إلى العالمين.
2 - قواعد الرواية الصحيحة:
من المنطقي أنه لا بدَّ أن يكون النقلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمَّن وراءَه نقلاً سليماً تماماً من الأخطاء، مساوياً – أو قريباً جداً - لما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعني أنه لابد أن تتوفر فيه ثلاثةُ أمورٍ أساسية:
1- أن يكون المرويُّ أو المنقول هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة.
2- أن يكون المرويُّ أو المنقول هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا نقصان.
3- أن يكون المرويُّ أو المنقول هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا تحريفٍ ولا غلطٍ ولا خطأ.
وهذه هي أصول الرواية التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليمها لأصحابه وتربيتهم عليها، على النحو التالي:
أولاً- في مجال الحرص على نقل الرواية كما هي بلا زيادة: دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدق وحثَّ عليه، وحذَّر تمامَ التحذير من الكذب وخصوصاً من الكذب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([4])وكرَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديثَ عشرات المرات، حتى رواه عنه أكثرُ من سبعين صحابياً منهم العشرة المبشرون بالجنة، ولهذا عدَّه العلماء متواتراً.
كما دعا القرآن المسلمين إلى التبيُّن والتثبُّت عند سماع الأخبار، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)([5]).
على أن العربَ يومَئِذٍ - فضلاً عن الصحابة - لم يكن الكذبُ من أخلاقهم، بل كانوا يستنكفون منه، حتى إنَّ أحدهم لَيَأْنَف أن يكذبَ حتى على الحيوان الأعجمي، ويقول لناقته وقد أجهدَها العطشُ في الصحراء:
أُرِيدُ أُمَنِّيكِ الشَّرَابَ لِتَهْدَئِي وَلَكِنَّ عَارَ الْكَاذِبِينَ يَحُولُ
ويدل على ذلك أن أبا سفيان لما دخل على هِرَقْل، أخذ هرقل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لأصحابه([6]): «إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه» قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياءُ من أن يَأْثِرُوا عليَّ كذباً لكذبت عنه».
فمع أن أبا سفيان كان يومئذٍ خصماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومع يقينِه بأنَّ أصحابَه لم يكونوا ليكذِّبوه أمام هرقل، لمشاركتهم له في الدين ولمكانته فيهم، إلا أنه كان يستحيي أن يأخذوا عليه كذبةً يُعرَف بها.
الصحابة يصدِّق بعضُهم بعضا:
لهذا كان الصحابة يسمع بعضُهم من بعض، ويتحمل غائبُهم عن شاهدهم، وهم على تمام اليقين من صدق المحدِّث.
يقول البَرَاء بن عازبٍ رضي الله عنهم: «ليس كلُّنا كان يسمع حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم . كانت لنا ضَيْعَةٌ (يعني عقاراً وأراضي) وأشغالٌ، ولكن الناسَ لم يكونوا يكذبون يومئذٍ، فيحدِّث الشاهدُ الغائبَ»([7])
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: «والله ما كلُّ ما نحدِّثكم به سمعناه من ما كُنَّا نكذب، ولا ندري ما الكذب، ولكن كان يُحَدِّث بعضُنا بعضاً، ولا يتَّهِم بعضُنا بعضاً»([8])وفي رواية قال: «والله».
وهكذا لم يتعمدْ أحدٌ من الصحابة أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً بغير حق، بل كانوا أحياناً يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عما سمع بعضُهم من بعض من أقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم ، على سبيل التثبُّت والتأكُّد، لا على سبيل الشك في الراوي، رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا كانت سيرتهم عند تلامذتهم من التابعين فقد أخرج البخاري في كتاب: الأذان([9]) بسنده إلى عبد الله بن يزيد الخطمي قال: حدثني البراء(ابن عازب) وهو غير كذوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم نقع سجودا بعده.
وأخرج الطبراني في الأوسط([10]) بسنده إلى مسروق، أنه قال لابن عقبة بن أبي معيط: حدثنا عبد الله بن مسعود، وكان غير كذوب - وفي رواية عند البزار: فقال مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود وكان عندنا موثوق الحديث غير كذوب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعنق أبيك أن يضرب صبرا، لم يرثه، فقال: من للصبية بعدي؟ قال: لهم النار، حسبك ما رضي لك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقول التابعي عن الصحابي (غير كذوب) معناه تقوية الحديث وتفخيمه والمبالغة في تمكينه من النفس لا التزكية التي تكون في مشكوك فيه، وقال الخطابي: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي، وإنما يوجب حقيقة الصدق له، لأن هذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي والعمل بما روى، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت خليلي الصادق المصدوق، وقال ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق.
أو أن معنى (غير كذوب) أي غير مظنون به الخطأ، وغير مجرب عليه الغلط في الرواية، يصفه بالحفظ والإتقان، فقد يجرى الكذب في كلامهم مجرى الخطأ، ويوضع موضع الخلف، كقول القائل: كذب سمعي كذب بصري.
ثانياً- وفي مجال نقل الحديث من غير نقصٍ ولا كتمٍ: أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمرين:
(أ) الدعوة إلى التبليغ والحث عليه. (ب) التحذير من الكتمان.
ففي الدعوة إلى التبليغ قال صلى الله عليه وسلم : «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»([11])، ودعا بنَضْرة الوجه لمن قام بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلاثُ خِصَالٍ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَداً: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»([12]).
وفي مجال التحذير من الكَتْم جاء التحذير شديداً مخيفاً في القرآن والسنة، فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 159-160) فلم يجعل الله للكاتمين خلاصاً من إثم الكَتْم إلا بالقيام بالبيان والتبليغ. وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَتَمَ عِلْما ً تَلَجَّمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([13]).
ولذلك كان كثير من الصحابة يبذلون ما عندهم من العلم رغبةً في تحصيل أجر التبليغ، وخشيةً من الوقوع في إثم الكَتْم، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه لما عابوا عليه كثرة الرواية ردَّ عن نفسه، ثم قال: «والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثْتُكم شيئاً أبداً: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى قوله: (الرَّحِيمُ)»([14]).
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: «والله لأحدثنكم حديثاً، والله لولا آية في كتاب الله ما حدَّثْتُكُمُوه»([15]). ويقصد هاتين الآيتين. وغير هذا كثير.
وهكذا قام الصحابة رضي الله عنهم برواية ما سمعوه وما رأوه من النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ومن غير إضافة ولا كتم.
ثالثاً- يبقى أن المجال الثالث، وهو مجال نقل الرواية بلا تحريف وبلا خطإ، هو أمرٌ شديدٌ، إذ الخطأُ من طبيعة العباد، والنسيانُ والوهم لا يسلم منه غيرُ الأنبياء المعصومين، فطَلَبُ سلامةِ كلِّ الروايات من الخطأ، وسلامةِ كلِّ الرواة من الوهم والنسيان أمرٌ صعبٌ جداً، فما العمل؟.
العملُ هو أن يجتهدَ المعلمُ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم في تحفيظهم، وأن يجتهدَ الصحابة رضي الله عنهم في الحفظ والضبط عنه، وأن يتخذوا من الوسائل ما يُعين على الحفظِ الكاملِ والضبطِ التام، ويضمن انكشافَ الخطأِ إذا حصل، وتداركَ الوهمِ والنسيان إذا وُجِد أو حصل. وقد كان جُلُّ اهتمامِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في تحقيق ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء:باب حدثوا عن بني إسرائيل 6/496(3461).
([2]) الحديث عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: العلم:باب ليبلغ الشاهد منكم الغائب 1 /199(105).
([3]) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح في كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم 3/321 (3659)، وأحمد 1/321وصححه ابن حبان 1/263 (62)، والحاكم 1/95، ووافقه الذهبي.
([4]) الحديث مروي عن عدد من الصحابة، وسأكتفي ببعض رواياته في الصحيحين، فهو بهذا اللفظ جزء من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت 3/160(1291)، وجزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب: العلم باب:إثم من كذب علي النبي صلى الله عليه وسلم 1/203(110)، ومسلم في المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/10 (3/3) وبألفاظ متقاربة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والزبير بن العوام، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، أخرجها البخاري في الموضع السابق (106-110)، ومسلم في الموضع السابق (1-2).
([5]) الحجرات: 6.
([6]) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أخرجه البخاري في باب: بدء الوحي 1/31(6)، وفي كتاب: التفسير (4553).
([7]) أخرجه الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) ص 235(133)، والخطيب في الجامع 1/174(102).
([8]) أخرجه الحاكم 3/575 وسكت عليه هو والذهبي، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات 7/21، والخطيب في الجامع 1/174(103).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب:الأذان باب:متى يسجد من خلف الإمام 2/181(690).
([10]) أخرجه الطبراني في الأوسط 3/213 (2949)، والبزار في مسنده 3/319 (1936).
([11]) سبق تخريجه.
([12]) الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم 3/ 322 (3660)، والترمذي-وقال: حسن- في كتاب: العلم، باب: في الحث على تبليغ السماع 5/33 (2656)، وابن ماجه في المقدمة باب: من بلغ علما 1/84(230)، وصححه ابن حبان 1/270(67)، و2/454 (680)، وله شواهد متعددة وطرق متكاثرة، جمعها ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 1/177: 189 (185: 199)، وخصه الشخٍ عبد المحسن بن حمد العباد بدراسة مستقلة في كتابه: (دراسة حديث: "نضر الله امرءا سمع مقالتى" رواية ودراية)، وخلص إلى أنه متواتر، رواه أربعة وعشرون صحابيا.
قال القاضي الرامهرمزي في المحدث الفاصل 1/167: « قوله صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ، مخفف، وأكثر المحدثين يقوله بالتثقيل إلا من ضبط منهم، والصواب التخفيف، ويحتمل معناه وجهين: أحدهما: يكون في معنى ألبسه الله النضرة وهي الحسن وخلوص اللون، فيكون تقديره: جمله الله وزينه، والوجه الثاني: أن يكون في معنى أوصله الله إلى نضرة الجنة وهي نعمتها ونضارتها، قال الله عز وجل: )تعرف في وجوههم نضرة النعيم( وقال: )ولقاهم نضرة وسرورا( وفيه لغتان: تقول نضر وجه فلان بكسر الضاد ينضر نضرة ونضارة ونضورا، ونضر الله وجهه وأنضره لغتان، تقول نضر الله وجه فلان فنضر فالوجه نضير وناضر، قال الله عز وجل: )وجوه يومئذ ناضرة( وهو من قولهم: نضر وجهه فهو ناضر من فعله».
([13]) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، صححه ابن حبان 1/271 (95).
([14]) أخرجه البخاري في كتاب:الحرث والمزارعة باب: ما في الغرس 5/28 (2350).
([15]) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب:فضل الوضوء والصلاة بعده 1/ 205 (227).
وفيه ثلاثة مباحث:
1 - بداية نشأة علم مصطلح الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
2 - تطور قواعد المصطلح من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الذهبي للسُّنَّة
3 - تطور علم المصطلح منذ العصر الذهبي للسنة إلى الآن
أهداف دراسة الفصل الأول:
موجز تاريخ علم المصطلح
يتوقع منك أيها الدارس الكريم بعد دراسة هذا الموضوع ما يلي:
1- أن تعرفَ الأدوارَ التي مرَّ بها علمُ مصطلحِ الحديث منذُ بدايةِ ظهورِه في العهدِ النبويِّ إلى يومنا هذا.
2- أن تقتنعَ بأنَّ المسلمين قد اتبعوا منهجيةً علميةً سليمةً في التعامل مع السنة النبوية المباركة وهي منهجيةٌ تُعَدُّ مَفْخَرَةً لهذه الأمة.
3- أن تعتقدَ أن اللهً قد حفظ هذا الدين بإلهامه علماءَ المسلمين وضعَ قواعدَ دقيقةٍ ملائمةٍ لحفظ السنة، تَمكًَّنوا بها من سدِّ كل الثغرات التي حاول أعداءُ الإسلام النَّفَاذَ منها لضرب الدين.
4- أن تدركَ مدى الجهد العظيم الذي بذله السلفُ الصالحُ من علماء الأمة الكرام في العملِ لهذا الدين وحمايةِ السنة المباركة، وضرورةَ الاهتمام بتلك الجهود ودعمِها والنسجِ على منوالها.
5- أن تستشعرَ أن لك دوْراً وأن عليك واجباً في العمل لهذا الدين للِّحاق بالسلف الصالح وتحصيل المثوبة من الله عزَّ وجل.
المبحث الأول
بداية نشأة علم مصطلح الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يتضمن أربع نقاط على النحو التالي:
1 - الرسالة العالمية وما يترتب عليها.
2 - قواعد الرواية الصحيحة.
3 - الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم مما يعين على الحفظ.
4 - الوسائل والآداب التي راعاها الصحابة في التلقي والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم .
1 - الرسالة العالمية وما يترتب عليها:
قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (الأعراف: 158).
تعني هذه الآية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مكلَّفٌ بتبليغ الرسالة للناس جميعاً، وهذا يعني أنه لابد أن يحدث أحدُ ثلاثة أمور:
1- إمَّا أن يذهب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كلِّ الناس فرداً فرداً ليبلغهم بكل ما جاء به حرفاً حرفاً، وهذا أمرٌ مستحيلٌ بَدَاهة.
2- وإمَّا أن يترك الناسُ جميعَ شئونهم ويتفرغوا جميعاً للحضور عنده والسماع منه صلى الله عليه وسلم لكل ما جاء به، وهذا أيضاً مستحيلٌ بَدَاهة.
3- وإمَّا أن تسير الحياة سيرَها الطبيعيَّ، ويبلِّغ النبيُ صلى الله عليه وسلم مَن لقيه، ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مَن يتمكن من الحضور فيسمع منه، ثم يقوم هؤلاء وأولئك بنقل ما سمعوه إلى غيرهم، ممن لم يَلْقَهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وممن لم يتمكنوا من الحضور عنده، ثم يقوم هذا الغير الذي سمع بالنقل إلى غيره، وهكذا تتوالى حلقات التبليغ، حتى يصلَ البلاغُ إلى جميع الناس في كلِّ مكان، وتقومَ الحجة على الناس جميعاً.
وهذا هو التصور المنطقيُّ والمعقول.
وهذه العملية تسمى (الرواية)، وهي ما دعا إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه حين قال: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آَيَة»([1])، وحين قال: «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»([2])، وحين قال: «تَسْمَعُونَ مِنِّى، وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ»([3]).
الرواية - إذاً - هي السبيلُ المعقولُ لتوصيل الرسالة العالمية كاملةً إلى العالمين.
2 - قواعد الرواية الصحيحة:
من المنطقي أنه لا بدَّ أن يكون النقلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمَّن وراءَه نقلاً سليماً تماماً من الأخطاء، مساوياً – أو قريباً جداً - لما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعني أنه لابد أن تتوفر فيه ثلاثةُ أمورٍ أساسية:
1- أن يكون المرويُّ أو المنقول هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة.
2- أن يكون المرويُّ أو المنقول هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا نقصان.
3- أن يكون المرويُّ أو المنقول هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا تحريفٍ ولا غلطٍ ولا خطأ.
وهذه هي أصول الرواية التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليمها لأصحابه وتربيتهم عليها، على النحو التالي:
أولاً- في مجال الحرص على نقل الرواية كما هي بلا زيادة: دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدق وحثَّ عليه، وحذَّر تمامَ التحذير من الكذب وخصوصاً من الكذب عليه، فقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([4])وكرَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديثَ عشرات المرات، حتى رواه عنه أكثرُ من سبعين صحابياً منهم العشرة المبشرون بالجنة، ولهذا عدَّه العلماء متواتراً.
كما دعا القرآن المسلمين إلى التبيُّن والتثبُّت عند سماع الأخبار، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)([5]).
على أن العربَ يومَئِذٍ - فضلاً عن الصحابة - لم يكن الكذبُ من أخلاقهم، بل كانوا يستنكفون منه، حتى إنَّ أحدهم لَيَأْنَف أن يكذبَ حتى على الحيوان الأعجمي، ويقول لناقته وقد أجهدَها العطشُ في الصحراء:
أُرِيدُ أُمَنِّيكِ الشَّرَابَ لِتَهْدَئِي وَلَكِنَّ عَارَ الْكَاذِبِينَ يَحُولُ
ويدل على ذلك أن أبا سفيان لما دخل على هِرَقْل، أخذ هرقل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لأصحابه([6]): «إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه» قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياءُ من أن يَأْثِرُوا عليَّ كذباً لكذبت عنه».
فمع أن أبا سفيان كان يومئذٍ خصماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومع يقينِه بأنَّ أصحابَه لم يكونوا ليكذِّبوه أمام هرقل، لمشاركتهم له في الدين ولمكانته فيهم، إلا أنه كان يستحيي أن يأخذوا عليه كذبةً يُعرَف بها.
الصحابة يصدِّق بعضُهم بعضا:
لهذا كان الصحابة يسمع بعضُهم من بعض، ويتحمل غائبُهم عن شاهدهم، وهم على تمام اليقين من صدق المحدِّث.
يقول البَرَاء بن عازبٍ رضي الله عنهم: «ليس كلُّنا كان يسمع حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم . كانت لنا ضَيْعَةٌ (يعني عقاراً وأراضي) وأشغالٌ، ولكن الناسَ لم يكونوا يكذبون يومئذٍ، فيحدِّث الشاهدُ الغائبَ»([7])
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: «والله ما كلُّ ما نحدِّثكم به سمعناه من ما كُنَّا نكذب، ولا ندري ما الكذب، ولكن كان يُحَدِّث بعضُنا بعضاً، ولا يتَّهِم بعضُنا بعضاً»([8])وفي رواية قال: «والله».
وهكذا لم يتعمدْ أحدٌ من الصحابة أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً بغير حق، بل كانوا أحياناً يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عما سمع بعضُهم من بعض من أقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم ، على سبيل التثبُّت والتأكُّد، لا على سبيل الشك في الراوي، رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا كانت سيرتهم عند تلامذتهم من التابعين فقد أخرج البخاري في كتاب: الأذان([9]) بسنده إلى عبد الله بن يزيد الخطمي قال: حدثني البراء(ابن عازب) وهو غير كذوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم نقع سجودا بعده.
وأخرج الطبراني في الأوسط([10]) بسنده إلى مسروق، أنه قال لابن عقبة بن أبي معيط: حدثنا عبد الله بن مسعود، وكان غير كذوب - وفي رواية عند البزار: فقال مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود وكان عندنا موثوق الحديث غير كذوب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعنق أبيك أن يضرب صبرا، لم يرثه، فقال: من للصبية بعدي؟ قال: لهم النار، حسبك ما رضي لك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقول التابعي عن الصحابي (غير كذوب) معناه تقوية الحديث وتفخيمه والمبالغة في تمكينه من النفس لا التزكية التي تكون في مشكوك فيه، وقال الخطابي: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي، وإنما يوجب حقيقة الصدق له، لأن هذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي والعمل بما روى، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت خليلي الصادق المصدوق، وقال ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق.
أو أن معنى (غير كذوب) أي غير مظنون به الخطأ، وغير مجرب عليه الغلط في الرواية، يصفه بالحفظ والإتقان، فقد يجرى الكذب في كلامهم مجرى الخطأ، ويوضع موضع الخلف، كقول القائل: كذب سمعي كذب بصري.
ثانياً- وفي مجال نقل الحديث من غير نقصٍ ولا كتمٍ: أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمرين:
(أ) الدعوة إلى التبليغ والحث عليه. (ب) التحذير من الكتمان.
ففي الدعوة إلى التبليغ قال صلى الله عليه وسلم : «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»([11])، ودعا بنَضْرة الوجه لمن قام بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلاثُ خِصَالٍ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَداً: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»([12]).
وفي مجال التحذير من الكَتْم جاء التحذير شديداً مخيفاً في القرآن والسنة، فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 159-160) فلم يجعل الله للكاتمين خلاصاً من إثم الكَتْم إلا بالقيام بالبيان والتبليغ. وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَتَمَ عِلْما ً تَلَجَّمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([13]).
ولذلك كان كثير من الصحابة يبذلون ما عندهم من العلم رغبةً في تحصيل أجر التبليغ، وخشيةً من الوقوع في إثم الكَتْم، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه لما عابوا عليه كثرة الرواية ردَّ عن نفسه، ثم قال: «والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثْتُكم شيئاً أبداً: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى قوله: (الرَّحِيمُ)»([14]).
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: «والله لأحدثنكم حديثاً، والله لولا آية في كتاب الله ما حدَّثْتُكُمُوه»([15]). ويقصد هاتين الآيتين. وغير هذا كثير.
وهكذا قام الصحابة رضي الله عنهم برواية ما سمعوه وما رأوه من النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ومن غير إضافة ولا كتم.
ثالثاً- يبقى أن المجال الثالث، وهو مجال نقل الرواية بلا تحريف وبلا خطإ، هو أمرٌ شديدٌ، إذ الخطأُ من طبيعة العباد، والنسيانُ والوهم لا يسلم منه غيرُ الأنبياء المعصومين، فطَلَبُ سلامةِ كلِّ الروايات من الخطأ، وسلامةِ كلِّ الرواة من الوهم والنسيان أمرٌ صعبٌ جداً، فما العمل؟.
العملُ هو أن يجتهدَ المعلمُ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم في تحفيظهم، وأن يجتهدَ الصحابة رضي الله عنهم في الحفظ والضبط عنه، وأن يتخذوا من الوسائل ما يُعين على الحفظِ الكاملِ والضبطِ التام، ويضمن انكشافَ الخطأِ إذا حصل، وتداركَ الوهمِ والنسيان إذا وُجِد أو حصل. وقد كان جُلُّ اهتمامِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في تحقيق ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء:باب حدثوا عن بني إسرائيل 6/496(3461).
([2]) الحديث عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: العلم:باب ليبلغ الشاهد منكم الغائب 1 /199(105).
([3]) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح في كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم 3/321 (3659)، وأحمد 1/321وصححه ابن حبان 1/263 (62)، والحاكم 1/95، ووافقه الذهبي.
([4]) الحديث مروي عن عدد من الصحابة، وسأكتفي ببعض رواياته في الصحيحين، فهو بهذا اللفظ جزء من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت 3/160(1291)، وجزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب: العلم باب:إثم من كذب علي النبي صلى الله عليه وسلم 1/203(110)، ومسلم في المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/10 (3/3) وبألفاظ متقاربة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والزبير بن العوام، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، أخرجها البخاري في الموضع السابق (106-110)، ومسلم في الموضع السابق (1-2).
([5]) الحجرات: 6.
([6]) الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أخرجه البخاري في باب: بدء الوحي 1/31(6)، وفي كتاب: التفسير (4553).
([7]) أخرجه الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) ص 235(133)، والخطيب في الجامع 1/174(102).
([8]) أخرجه الحاكم 3/575 وسكت عليه هو والذهبي، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات 7/21، والخطيب في الجامع 1/174(103).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب:الأذان باب:متى يسجد من خلف الإمام 2/181(690).
([10]) أخرجه الطبراني في الأوسط 3/213 (2949)، والبزار في مسنده 3/319 (1936).
([11]) سبق تخريجه.
([12]) الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم 3/ 322 (3660)، والترمذي-وقال: حسن- في كتاب: العلم، باب: في الحث على تبليغ السماع 5/33 (2656)، وابن ماجه في المقدمة باب: من بلغ علما 1/84(230)، وصححه ابن حبان 1/270(67)، و2/454 (680)، وله شواهد متعددة وطرق متكاثرة، جمعها ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 1/177: 189 (185: 199)، وخصه الشخٍ عبد المحسن بن حمد العباد بدراسة مستقلة في كتابه: (دراسة حديث: "نضر الله امرءا سمع مقالتى" رواية ودراية)، وخلص إلى أنه متواتر، رواه أربعة وعشرون صحابيا.
قال القاضي الرامهرمزي في المحدث الفاصل 1/167: « قوله صلى الله عليه وسلم : نضر الله امرأ، مخفف، وأكثر المحدثين يقوله بالتثقيل إلا من ضبط منهم، والصواب التخفيف، ويحتمل معناه وجهين: أحدهما: يكون في معنى ألبسه الله النضرة وهي الحسن وخلوص اللون، فيكون تقديره: جمله الله وزينه، والوجه الثاني: أن يكون في معنى أوصله الله إلى نضرة الجنة وهي نعمتها ونضارتها، قال الله عز وجل: )تعرف في وجوههم نضرة النعيم( وقال: )ولقاهم نضرة وسرورا( وفيه لغتان: تقول نضر وجه فلان بكسر الضاد ينضر نضرة ونضارة ونضورا، ونضر الله وجهه وأنضره لغتان، تقول نضر الله وجه فلان فنضر فالوجه نضير وناضر، قال الله عز وجل: )وجوه يومئذ ناضرة( وهو من قولهم: نضر وجهه فهو ناضر من فعله».
([13]) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، صححه ابن حبان 1/271 (95).
([14]) أخرجه البخاري في كتاب:الحرث والمزارعة باب: ما في الغرس 5/28 (2350).
([15]) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب:فضل الوضوء والصلاة بعده 1/ 205 (227).
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
هانى الإخوانى- المراقب العام
-
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 1177
نقاط : 6703
السٌّمعَة : 17
العمر : 41
العمل/الترفيه :
رد: محاضرات فى مصطلح الحديث للدكتور عبد الرحمن البر / متجدد
3- الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم مما يعين على الحفظ:
1- تكرير الحديث وإعادته ثلاث مرات، وأحياناً أكثر من ثلاث مرات حتى يُفْهَمَ عنه، ويَسْهُل على السامعين حفظُه.
أخرج البخاري و غيره(1) عن أنس وأبي أمامة رضي الله عنهم «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا».
وعن ابن عمر رضي الله عنهم قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُكْتِبُ (أي معلم الصبيان في الكُتّاب) الْغِلْمَانَ»(2).
2- التأني في الكلام والفصل بين الكلمات، حتى يسهُلَ على السامع الحفظُ، ويتمكنَ من ضبط الكلام. وبلغ من تَأَنِّيهِ صلى الله عليه وسلم أن قالت عائشة رضي الله عنها: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُحَدِّثُ، وَلَوْ شَاءَ الْعَادُّ أَنْ يُحْصِيَهُ أَحْصَاهُ»(3).
وفي رواية قالت: «مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ كَسَرْدِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَّلّمُ بِكَلاَمٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ، يَحْفَظُهُ مَنْ يَجْلِسُ إِلَيْهِ»(4).
3- الاعتدال والاختصار في الكلام، بحيث لا يَمَلُّ السامعُ، ولا يَفْتُر نشاطُه الذهنيُّ عن المتابعة، حتى إنَّ بعضَ أحاديثه صلى الله عليه وسلم كانت تتكوَّن من كلماتٍ معدودات مثل قوله صلى الله عليه وسلم «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»(5)، وقوله صلى الله عليه وسلم «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ»(6).
4- اختيار الوقت المناسب، بحيث تكون أذهانُ السامعين أَنْشَطَ، ونفوسُهم أكثرَ استعداداً للحفظ، وربما باعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الحديث والحديث حتى تشتاقَ النفوسُ وتنشرحَ الصدور. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا»(7)يعني يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كلَّ يوم حتى لا نَمَلّ.
5- ضرب الأمثال، لما فيها من خِفَّةٍ على النفوس، وبلاغةٍ تأخذُ بالقلوب، وتستهوي العقول، وتصلُ بالمعنى إلى العقل والقلب، وبخاصةٍ لدى البُلَغَاء وأرباب الفصاحة والبيان. وقد استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم: «حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلْفَ مَثَلٍ»(8).
ومن الأمثال السائرة المنقولة عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍواحد مَرَّتَيْنِ»(9).
6- طرح المسائل على السامعين، إذ السؤال يفتح ذهنَ المسؤول ويدفعه إلى التركيز والاهتمام، ويُحْدِث حالةً من النشاطِ العقليِّ والتواصلِ والتفاعلِ بين طرفي الحديث (السائل والمسؤول).
وكان السؤال النبويُّ يتخذ صوراً متعددة، فأحياناً كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه السؤال لمجرد التشويق والإثارة ولفت الانتباه، ويكون السؤالُ عندئذٍ بصيغة التنبيه (أَلاَ) غالباً، مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وغيره(10) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ».
وأحياناً يسألهم عما لا علم لهم به ليكَِلوا العلمَ إلى الله وإليه صلى الله عليه وسلم بعد أن يثير اهتمامهم فيتيقَّظوا للجواب، مثلما أخرج الشيخان عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَن يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»(11).
وأحياناً يسألهم عما هو معلومٌ فيجيبون بما يعرفون، فيلفت أنظارَهم إلى معنىً غريبٍ لطيفٍ لم ينتبهوا له، مثلما قال لهم فيما أخرجه مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ : «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِه ِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»(12).
وربما سأل صلى الله عليه وسلم فأجاب بعضُ الصحابة وأحسن الإجابةَ، وعندئذٍ يُثْنِي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُشجِّعَه ويشجِّع غيرَه على العلم والتعلم.
كل ذلك كان له أثر واضح في تفاعلهم معه صلى الله عليه وسلم، وحضور أذهانهم وقلوبهم مع ما يسمعونه منه.
7- إلقاء المعاني الغريبة المثيرة للاهتمام والدافعة إلى الاستفسار والسؤال، مما يدفع النفس لاستشراف الجواب والتطلع لمعرفة المقصود، فيسهل استيعابه وحفظه، مثل ما صححه ابن حبان والحاكم - ووافقه الذهبي(13) - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ» قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: «لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا».
8- استخدام الوسائل التوضيحية المختلفة التي تساعد على تقرير المعنى في نفوس السامعين وتأكيده في عقولهم واشتغال كل حواسهم به وتركيز انتباههم له.
ومن ذلك التعبير بحركة اليد حين قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان(14) عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه.
ومن ذلك التعبير بالرسم، مثل ما أخرجه أحمد وغيره وصححه الحاكم(15) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا» قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ السُّبُلُ وَلَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأ: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) (الأنعام:153).
ومن ذلك رفعُ الشيء موضوع الحديث وإظهارُه للناس، كما في حديث أبي داود وصححه ابن حبان(16) عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: « إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» زاد في رواية: «حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ».
ومن ذلك قيامه بالتعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس، كما فعل في تعليمهم الصلاة(17).
9- استعمال لطيف الخطاب ورقيق العبارات، والاكتفاء بالتعريض أو الكناية عن التصريح بما يذم، فذلك من الأمور التي تؤلف القلوب وتستميلها إلى الحق، وتعين المستمع على الوعي والحفظ، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين علمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ»(18).
10- الرفق بالمتعلم والدعاء له والحنوّ عليه والقرب منه حتى ينفتحَ للتعليم قلبُه، ويَعِيَ ما يُلْقَى إليه، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فقد أخرج البخاري(19)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وأخرج(20)عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ».
11- استخدام القصص في التوجيه إلى ما يريد من المعاني، والنفوس بطبيعتها تميل إلى سماع القصص والتأثر بها وحفظها، مثل قصة أصحاب الغار، وقصة أم زرع وغيرها.
12- مراعاة الفروق الفردية بين المستمعين، وتوجيه كل منهم بما يناسب حاله ويكون أليقَ بطبعه وأمَسَّ بحاجته، مما يدفعه دفعاً إلى حفظ التوجيه وضبطه، وهذا كثير في إجاباته المتعددة على السؤال الواحد.
13- انتهازه الفرص لإلقاء المعاني المناسبة، من خلال التعليق على بعض الأحداث أو الأقوال بما يقتضيه المقام، الأمرُ الذي يجعل السامعَ يضبط ولا ينسى، لارتباط الحديث بالحدَث، وصلتِه بمناسبةٍ عايشها المتلقي فرسختْ في نفسه بصورتها ونُقِشَتْ في وعيه بكل ملابساتها.
مثال ذلك: ما أخرجه الشيخان عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»(21).
14- استثارة العاطفة الدينية وإظهار الغضب إذا كان لذلك داعٍ مهمٌ، من غير إسفافٍ ولا إسرافٍ، كأن يحصل خطأٌ من شخصٍ له مكانةٌ خاصةٌ، أو يمثل هذا الخطأُ بدايةَ فتنةٍ أو انحرافاً عن المنهج، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين جاءه عمر رضي الله عنه بنسخة من التوراة، وجعل يقرأ عليه، فقد أخرج أحمد(22)، وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّصلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ - وفي رواية عند الدارمي(23): فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، رَضِينَا بِاللهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: « أَمُتَهَ وِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي».
15- الصبر على جفوة المتعلم، وسعة الصدر مع الجاهل -وبخاصة الغريب- إذا أساء المنطق، مما يأْسِر قلبَه، ويُقِرُّ الحديثَ في وجدانه وعقله، كما وصف عليُّ ابن أبي طالب رضي الله عنه سيرتَه صلى الله عليه وسلم في جلسائه ومنها قوله: «وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، حتَىَّ إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ»(24).
إلى غير ذلك من الوسائل التربوية الرائعة التي عُنِيَ المعلمُ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم بها في تعليمه لأصحابه، والتي كان لها أعظمُ الأثر في حفظ الحديث عنه وضبطه تمام الضبط، وهي كما ترى وسائلُ كفيلةٌ بتخريج جيلٍ من الحفاظ المتميزين والأذكياء النابهين.
وقد تقبَّل الصحابةُ هذا المنهجَ السليمَ بقَبولٍ حسنٍ، واجتهدوا في الاستمساك بآدابٍ ومبادئَ جليلةٍ عند التلقي زادت في إعانتهم على الحفظ وعدم النسيان، وعلى تمام الضبط وعدم حصول الوهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حديث أنس أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه 1/188 (94، 95)، وفي كتاب: الاستئذان، باب: التسليم والاستئذان ثلاثا، وحديث أبي أمامة أخرجه الطبراني في الكبير 8/285 (8095) وقال الهيثمي في المجمع 1/129: إسناده حسن.
(2) أخرجه الخطيب في كتاب: "الفقيه والمتفقه" 2/124، وعزاه الهيثمي في المجمع 2/140 إلى الطبراني في الكبير وقال: "فيه عبد الرحمن بن إسحق أبو شيبة وهو ضعيف"، ورواه مسدد والطحاوي عن ابن عمر بلفظ: "كان أبو بكر رضي الله عنه يعلمنا التشهد على المنبر، كما يعلم المعلم الغلمانَ في المكتب" (كذا في كنز العمال 8/149-150- رقم 22235).
(3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب: العلم باب: في سرد الحديث 3/320 (3654).
(4) أخرجه الترمذي وحسنه في كتاب: المناقب،باب:في كلام النبي صلى الله عليه وسلم 5/600(3639)، وفي الشمائل المحمدية باب:كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ص112 (223)،وأحمد 6/257،والخطيب في الجامع 1/650(1003).
(5) الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب ذكر التوبة 2/1420 (4252)، وصححه ابن حبان 2/377(612-614).
(6) الحديث عن النعمان بن بشير أخرجه القضاعي في مسند الشهاب 1/43(15)، وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده 4/278 (18449،18450)، والبزار 2/226(3282) ضمن حديث أطول، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/218 بعد أن عزاه لهما وللطبراني: "ورجالهم ثقات".
(7) أخرجه البخاري في كتاب:العلم باب:ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/162(68).
(8) أخرجه الرامهرمزى في "الأمثال " ص 29 - 30 (ا)، وأبو محمد بن حيان في كتاب الأمثال في الحديث النبوي ص 30، وفي الإسناد ابن لهيعة، وليس الراوي عنه أحد العبادلة. وأخرجه من هذا الطريق أبو نعيم في الحلية 5/169، والذهبي في السير 3/87.
وأخرجه أحمد 4/203 عن عمرو بن العاص وقال الهيثمي في المجمع 8/264 "إسناده حسن".
(9) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 10/529 (6133)، ومسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 4/2295(2298).
(10) أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1/219(251)، والترمذي في كتاب: الطهارة، باب:ما جاء في إسباغ الوضوء 1/72(51) وقال: حسن صحيح.
(11) أخرجه البخاري في كتاب: التو حيد، باب:ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى 13/347 (7373)، ومسلم في كتاب:الإيمان باب:الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/59(30/50).
(12) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والأدب باب:تحريم الظلم 1/1997(2581/59)، والترمذي - وقال: حسن صحيح - في كتاب: القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/530 (2418)، وأحمد 2/303، 334، 372، وابن حبان 10/259 - 260 (4411) و 259- 260 (7359).
(13) ابن حبان 5/209 (1888)، والحاكم - ووافقه الذهبي - في المستدرك 1/299، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/386، وله شواهد من حديث أبي قتادة، وحديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبد الله بن مغفل، ومرسل النعمان بن مرة. انظر: هامش جامع بيان العلم وفضله 1/480- 482.
(14) أخرجه البخاري في كتاب: المظالم، باب: نصر المظلوم 5/99 (2446)، وفي كتاب: الأدب، باب: تعاون المؤمنين بعضهم بعضا 10/450 (6026)، ومسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2585/65)، والترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في شفقة المسلم على المسلم 4/325 (1928).
(15) أخرجه أحمد في مسنده 1/465(4437) والبزار (كشف الأستار) 3/49 (2210: 2212) وقال الهيثمي في المجمع 7 /22: "فيه عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه ضعف". وأخرجه النسائي في الكبرى في كتاب التفسير، سورة الأنعام 6/343 (11174، 11175) وصححه الحاكم 2/318.
(16) أخرجه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء 4/50 (4057)، والنسائي في كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب علي الرجال 8/160،161، وابن ماجه في كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء 2/1189 (3595)، وأحمد 1/96، 115 وصححه ابن حبان 12/250 (5434)، وحسن النووي إسناده في رياض الصالحين (807)، وله شواهد كثيرة يصح بها.
(17) الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب 1/486 (377)، وفي كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر 2/397 (917)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة 1/ 386 - 387 (544/44).
(18) أخرجه أبو داود في سننه كتاب:الطهارة باب:كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة 1/3 (8)، والنسائي في كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستطابة بالروث 1/35 - 36، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة 1/114 (313)، وأصل الحديث في صحيح مسلم في كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة 1/224 (265/60) ومعنى (لا يستطب بيمينه): لا يستنجى بيده اليمنى.
(19) في كتاب: الرقاق باب:قول النبي صلى الله عليه وسلم : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل 11/233 (6416).
(20) في كتاب: العلم باب:قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه الكتاب 1/169 (75)
(21) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 10/426 (5999)، ومسلم في كتاب:التوبة، باب:في سعة رحمة الله تعالى , وأنها سبقت غضبه 4/2109 (2754/22).
(22) في المسند 3/387 (15156).
(23) في سننه باب:ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقول غيره عند قوله 1/126 (435).
(24) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية باب: ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم 221-224(335)، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد1/422-425، والمعجم الكبير للطبراني22/414، ودلائل النبوة لأبي نعيم ص551- 556، وأسد الغابة لابن الأثير1/33.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
1- تكرير الحديث وإعادته ثلاث مرات، وأحياناً أكثر من ثلاث مرات حتى يُفْهَمَ عنه، ويَسْهُل على السامعين حفظُه.
أخرج البخاري و غيره(1) عن أنس وأبي أمامة رضي الله عنهم «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا».
وعن ابن عمر رضي الله عنهم قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُكْتِبُ (أي معلم الصبيان في الكُتّاب) الْغِلْمَانَ»(2).
2- التأني في الكلام والفصل بين الكلمات، حتى يسهُلَ على السامع الحفظُ، ويتمكنَ من ضبط الكلام. وبلغ من تَأَنِّيهِ صلى الله عليه وسلم أن قالت عائشة رضي الله عنها: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُحَدِّثُ، وَلَوْ شَاءَ الْعَادُّ أَنْ يُحْصِيَهُ أَحْصَاهُ»(3).
وفي رواية قالت: «مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ كَسَرْدِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَّلّمُ بِكَلاَمٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ، يَحْفَظُهُ مَنْ يَجْلِسُ إِلَيْهِ»(4).
3- الاعتدال والاختصار في الكلام، بحيث لا يَمَلُّ السامعُ، ولا يَفْتُر نشاطُه الذهنيُّ عن المتابعة، حتى إنَّ بعضَ أحاديثه صلى الله عليه وسلم كانت تتكوَّن من كلماتٍ معدودات مثل قوله صلى الله عليه وسلم «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»(5)، وقوله صلى الله عليه وسلم «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ»(6).
4- اختيار الوقت المناسب، بحيث تكون أذهانُ السامعين أَنْشَطَ، ونفوسُهم أكثرَ استعداداً للحفظ، وربما باعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الحديث والحديث حتى تشتاقَ النفوسُ وتنشرحَ الصدور. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا»(7)يعني يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كلَّ يوم حتى لا نَمَلّ.
5- ضرب الأمثال، لما فيها من خِفَّةٍ على النفوس، وبلاغةٍ تأخذُ بالقلوب، وتستهوي العقول، وتصلُ بالمعنى إلى العقل والقلب، وبخاصةٍ لدى البُلَغَاء وأرباب الفصاحة والبيان. وقد استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم: «حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَلْفَ مَثَلٍ»(8).
ومن الأمثال السائرة المنقولة عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍواحد مَرَّتَيْنِ»(9).
6- طرح المسائل على السامعين، إذ السؤال يفتح ذهنَ المسؤول ويدفعه إلى التركيز والاهتمام، ويُحْدِث حالةً من النشاطِ العقليِّ والتواصلِ والتفاعلِ بين طرفي الحديث (السائل والمسؤول).
وكان السؤال النبويُّ يتخذ صوراً متعددة، فأحياناً كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه السؤال لمجرد التشويق والإثارة ولفت الانتباه، ويكون السؤالُ عندئذٍ بصيغة التنبيه (أَلاَ) غالباً، مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وغيره(10) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ».
وأحياناً يسألهم عما لا علم لهم به ليكَِلوا العلمَ إلى الله وإليه صلى الله عليه وسلم بعد أن يثير اهتمامهم فيتيقَّظوا للجواب، مثلما أخرج الشيخان عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَن يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»(11).
وأحياناً يسألهم عما هو معلومٌ فيجيبون بما يعرفون، فيلفت أنظارَهم إلى معنىً غريبٍ لطيفٍ لم ينتبهوا له، مثلما قال لهم فيما أخرجه مسلم وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ : «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِه ِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»(12).
وربما سأل صلى الله عليه وسلم فأجاب بعضُ الصحابة وأحسن الإجابةَ، وعندئذٍ يُثْنِي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُشجِّعَه ويشجِّع غيرَه على العلم والتعلم.
كل ذلك كان له أثر واضح في تفاعلهم معه صلى الله عليه وسلم، وحضور أذهانهم وقلوبهم مع ما يسمعونه منه.
7- إلقاء المعاني الغريبة المثيرة للاهتمام والدافعة إلى الاستفسار والسؤال، مما يدفع النفس لاستشراف الجواب والتطلع لمعرفة المقصود، فيسهل استيعابه وحفظه، مثل ما صححه ابن حبان والحاكم - ووافقه الذهبي(13) - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ» قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: «لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا».
8- استخدام الوسائل التوضيحية المختلفة التي تساعد على تقرير المعنى في نفوس السامعين وتأكيده في عقولهم واشتغال كل حواسهم به وتركيز انتباههم له.
ومن ذلك التعبير بحركة اليد حين قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان(14) عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه.
ومن ذلك التعبير بالرسم، مثل ما أخرجه أحمد وغيره وصححه الحاكم(15) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا» قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ السُّبُلُ وَلَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأ: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) (الأنعام:153).
ومن ذلك رفعُ الشيء موضوع الحديث وإظهارُه للناس، كما في حديث أبي داود وصححه ابن حبان(16) عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: « إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» زاد في رواية: «حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ».
ومن ذلك قيامه بالتعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس، كما فعل في تعليمهم الصلاة(17).
9- استعمال لطيف الخطاب ورقيق العبارات، والاكتفاء بالتعريض أو الكناية عن التصريح بما يذم، فذلك من الأمور التي تؤلف القلوب وتستميلها إلى الحق، وتعين المستمع على الوعي والحفظ، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين علمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ»(18).
10- الرفق بالمتعلم والدعاء له والحنوّ عليه والقرب منه حتى ينفتحَ للتعليم قلبُه، ويَعِيَ ما يُلْقَى إليه، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فقد أخرج البخاري(19)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وأخرج(20)عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ».
11- استخدام القصص في التوجيه إلى ما يريد من المعاني، والنفوس بطبيعتها تميل إلى سماع القصص والتأثر بها وحفظها، مثل قصة أصحاب الغار، وقصة أم زرع وغيرها.
12- مراعاة الفروق الفردية بين المستمعين، وتوجيه كل منهم بما يناسب حاله ويكون أليقَ بطبعه وأمَسَّ بحاجته، مما يدفعه دفعاً إلى حفظ التوجيه وضبطه، وهذا كثير في إجاباته المتعددة على السؤال الواحد.
13- انتهازه الفرص لإلقاء المعاني المناسبة، من خلال التعليق على بعض الأحداث أو الأقوال بما يقتضيه المقام، الأمرُ الذي يجعل السامعَ يضبط ولا ينسى، لارتباط الحديث بالحدَث، وصلتِه بمناسبةٍ عايشها المتلقي فرسختْ في نفسه بصورتها ونُقِشَتْ في وعيه بكل ملابساتها.
مثال ذلك: ما أخرجه الشيخان عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»(21).
14- استثارة العاطفة الدينية وإظهار الغضب إذا كان لذلك داعٍ مهمٌ، من غير إسفافٍ ولا إسرافٍ، كأن يحصل خطأٌ من شخصٍ له مكانةٌ خاصةٌ، أو يمثل هذا الخطأُ بدايةَ فتنةٍ أو انحرافاً عن المنهج، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين جاءه عمر رضي الله عنه بنسخة من التوراة، وجعل يقرأ عليه، فقد أخرج أحمد(22)، وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهم أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّصلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ - وفي رواية عند الدارمي(23): فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، رَضِينَا بِاللهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: « أَمُتَهَ وِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صلى الله عليه وسلم كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي».
15- الصبر على جفوة المتعلم، وسعة الصدر مع الجاهل -وبخاصة الغريب- إذا أساء المنطق، مما يأْسِر قلبَه، ويُقِرُّ الحديثَ في وجدانه وعقله، كما وصف عليُّ ابن أبي طالب رضي الله عنه سيرتَه صلى الله عليه وسلم في جلسائه ومنها قوله: «وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، حتَىَّ إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ»(24).
إلى غير ذلك من الوسائل التربوية الرائعة التي عُنِيَ المعلمُ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم بها في تعليمه لأصحابه، والتي كان لها أعظمُ الأثر في حفظ الحديث عنه وضبطه تمام الضبط، وهي كما ترى وسائلُ كفيلةٌ بتخريج جيلٍ من الحفاظ المتميزين والأذكياء النابهين.
وقد تقبَّل الصحابةُ هذا المنهجَ السليمَ بقَبولٍ حسنٍ، واجتهدوا في الاستمساك بآدابٍ ومبادئَ جليلةٍ عند التلقي زادت في إعانتهم على الحفظ وعدم النسيان، وعلى تمام الضبط وعدم حصول الوهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حديث أنس أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه 1/188 (94، 95)، وفي كتاب: الاستئذان، باب: التسليم والاستئذان ثلاثا، وحديث أبي أمامة أخرجه الطبراني في الكبير 8/285 (8095) وقال الهيثمي في المجمع 1/129: إسناده حسن.
(2) أخرجه الخطيب في كتاب: "الفقيه والمتفقه" 2/124، وعزاه الهيثمي في المجمع 2/140 إلى الطبراني في الكبير وقال: "فيه عبد الرحمن بن إسحق أبو شيبة وهو ضعيف"، ورواه مسدد والطحاوي عن ابن عمر بلفظ: "كان أبو بكر رضي الله عنه يعلمنا التشهد على المنبر، كما يعلم المعلم الغلمانَ في المكتب" (كذا في كنز العمال 8/149-150- رقم 22235).
(3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب: العلم باب: في سرد الحديث 3/320 (3654).
(4) أخرجه الترمذي وحسنه في كتاب: المناقب،باب:في كلام النبي صلى الله عليه وسلم 5/600(3639)، وفي الشمائل المحمدية باب:كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ص112 (223)،وأحمد 6/257،والخطيب في الجامع 1/650(1003).
(5) الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب ذكر التوبة 2/1420 (4252)، وصححه ابن حبان 2/377(612-614).
(6) الحديث عن النعمان بن بشير أخرجه القضاعي في مسند الشهاب 1/43(15)، وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده 4/278 (18449،18450)، والبزار 2/226(3282) ضمن حديث أطول، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/218 بعد أن عزاه لهما وللطبراني: "ورجالهم ثقات".
(7) أخرجه البخاري في كتاب:العلم باب:ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/162(68).
(8) أخرجه الرامهرمزى في "الأمثال " ص 29 - 30 (ا)، وأبو محمد بن حيان في كتاب الأمثال في الحديث النبوي ص 30، وفي الإسناد ابن لهيعة، وليس الراوي عنه أحد العبادلة. وأخرجه من هذا الطريق أبو نعيم في الحلية 5/169، والذهبي في السير 3/87.
وأخرجه أحمد 4/203 عن عمرو بن العاص وقال الهيثمي في المجمع 8/264 "إسناده حسن".
(9) الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 10/529 (6133)، ومسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين 4/2295(2298).
(10) أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1/219(251)، والترمذي في كتاب: الطهارة، باب:ما جاء في إسباغ الوضوء 1/72(51) وقال: حسن صحيح.
(11) أخرجه البخاري في كتاب: التو حيد، باب:ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى 13/347 (7373)، ومسلم في كتاب:الإيمان باب:الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/59(30/50).
(12) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والأدب باب:تحريم الظلم 1/1997(2581/59)، والترمذي - وقال: حسن صحيح - في كتاب: القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص 4/530 (2418)، وأحمد 2/303، 334، 372، وابن حبان 10/259 - 260 (4411) و 259- 260 (7359).
(13) ابن حبان 5/209 (1888)، والحاكم - ووافقه الذهبي - في المستدرك 1/299، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/386، وله شواهد من حديث أبي قتادة، وحديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبد الله بن مغفل، ومرسل النعمان بن مرة. انظر: هامش جامع بيان العلم وفضله 1/480- 482.
(14) أخرجه البخاري في كتاب: المظالم، باب: نصر المظلوم 5/99 (2446)، وفي كتاب: الأدب، باب: تعاون المؤمنين بعضهم بعضا 10/450 (6026)، ومسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2585/65)، والترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في شفقة المسلم على المسلم 4/325 (1928).
(15) أخرجه أحمد في مسنده 1/465(4437) والبزار (كشف الأستار) 3/49 (2210: 2212) وقال الهيثمي في المجمع 7 /22: "فيه عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه ضعف". وأخرجه النسائي في الكبرى في كتاب التفسير، سورة الأنعام 6/343 (11174، 11175) وصححه الحاكم 2/318.
(16) أخرجه أبو داود في كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء 4/50 (4057)، والنسائي في كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب علي الرجال 8/160،161، وابن ماجه في كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء 2/1189 (3595)، وأحمد 1/96، 115 وصححه ابن حبان 12/250 (5434)، وحسن النووي إسناده في رياض الصالحين (807)، وله شواهد كثيرة يصح بها.
(17) الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب 1/486 (377)، وفي كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر 2/397 (917)، ومسلم في كتاب: المساجد، باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة 1/ 386 - 387 (544/44).
(18) أخرجه أبو داود في سننه كتاب:الطهارة باب:كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة 1/3 (8)، والنسائي في كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستطابة بالروث 1/35 - 36، وابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة 1/114 (313)، وأصل الحديث في صحيح مسلم في كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة 1/224 (265/60) ومعنى (لا يستطب بيمينه): لا يستنجى بيده اليمنى.
(19) في كتاب: الرقاق باب:قول النبي صلى الله عليه وسلم : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل 11/233 (6416).
(20) في كتاب: العلم باب:قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه الكتاب 1/169 (75)
(21) أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 10/426 (5999)، ومسلم في كتاب:التوبة، باب:في سعة رحمة الله تعالى , وأنها سبقت غضبه 4/2109 (2754/22).
(22) في المسند 3/387 (15156).
(23) في سننه باب:ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقول غيره عند قوله 1/126 (435).
(24) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية باب: ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم 221-224(335)، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد1/422-425، والمعجم الكبير للطبراني22/414، ودلائل النبوة لأبي نعيم ص551- 556، وأسد الغابة لابن الأثير1/33.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
هانى الإخوانى- المراقب العام
-
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 1177
نقاط : 6703
السٌّمعَة : 17
العمر : 41
العمل/الترفيه :
رد: محاضرات فى مصطلح الحديث للدكتور عبد الرحمن البر / متجدد
4- الوسائل والآداب التي راعاها الصحابة في التلقي والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم:
1- الإنصات التام وحسن السماع، حتى لا يفوتَهم شيءٌ من حديثه صلى الله عليه وسلم، فيسهلَ عليهم الحفظُ ويتمَّ لهم الضبطُ، فقد أخرج أبو داود وأحمد: ( [1]) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا أَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ».
وفي رواية عند الطبراني وصححه الحاكم: ( [2]) «كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرُ، مَا يَتَكَلَّمُ مِنَّا مُتَكَلِّمٌ».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، والخطيب في الجامع( [3]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كُنَّا جُلُوساً فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ إِلَيْنَا، فَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، لاَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنَّا».
وربما كثر عدد الحاضرين فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقيمُ من يَسْتَنْصِتُهُمْ (أي يطلب منهم الإنصات)، ومن يبلِّغ عنه كلامَه ليصل إلى جميع الحاضرين.
2- ترك التنازع في مجلسه صلى الله عليه وسلم وعدم مقاطعة المحدث حتى يفرغ، وذلك من الأدب المؤدي إلى ائتلاف القلوب، والمعين على تفتُّح العقولِ وسهولةِ الضبطِ وسرعةِ الحفظ. قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن سيرته صلى الله عليه وسلم بين جلسائه: «لاَ يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ، مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرَغَ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ»( [4]).
3- مراجعته صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم فهمه حتى يتبين لهم، ومن ثَم يتمكنون من حفظه وفهمه. وممن عُرف بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج الشيخان( [5])عن ابن أبي مُلَيْكَةَ أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئاً لاَ تَعْرِفُهُ إلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «َمْن حُوسِبَ عُذِّبَ» قالت عائشة: فقلت: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) (الانشقاق:8) فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ».
4 – عرض الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم وترديده بين يديه للتأكد من حفظه وضبطه، كما فعل البَرَاءُ بنُ عازِبٍ رضي الله عنهم حينما علمه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء عند النوم، فقد أخرج الشيخان( [6]) عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» فَقُلْتُ: أَسْتَذْكِرُهُنَّ «وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» قَالَ: «لَا وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» وفي رواية: قال البراء: فردّدْتُها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتُ «اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ» قلت: «وَرَسُولِكَ» قال: «لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ».
5 – مذاكرة الحديث فيما بينهم، حتى يثبتَ لفظُه ومعناه في عقولهم وقلوبهم كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه فيما أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه( [7]): «كُنَّا قُعُوداً عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتِّينَ رَجُلاً، فَيُحَدِّثُنَا الْحَدِيثَ ثُمَّ يَدْخُلُ، فَنَتَرَاجَعُهُ بَيْنَنَا، هَذَا ثُمَّ هَذَا، فَنَقُومُ كَأَنَّمَا زُرِعَ فِي قُلُوبِنَا».
6 – توجيه الأسئلة للنبي صلى الله عليه وسلم بقصد التعلُّم والعمل، لا للَّهْوِ والعَبَث، فلم يكونوا يسألونه صلى الله عليه وسلم إلا عما يحتاجون إلى معرفته مما هو حاصلٌ بالفعل، أو مما يتوقعون حصوله، ومن ثَمَّ يهتمون بحفظِ الجواب وضبطِه ؛ لشدةِ الحاجة إلى مضمونه. أما التنطُّعُ والسؤالُ عن المتشابِهِ وعن عُضَل المسائل وعما لا ينبني عليه عملٌ فكانوا أبعدَ الناس عنه ؛ لاشتغالهم بالعمل عن العبث.
7 - مراعاة أحواله صلى الله عليه وسلم وعدم الإلحاح عليه بالأسئلة الكثيرة، وذلك مثل ما أخرجه مسلم( [8])وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ : «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ. يعني رِفْقاً به صلى الله عليه وسلم.
8 – متابعة سيرته صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، حتى استطاعوا أن يعرفوا أحوالَه في بيتِه ليلاً أو نهاراً، وأن يصفوا خِلْقَتَه وأخلاقَه وصفاً في غاية الدقة، ولم يترددوا في أن يسألوا أهلَ بيتِه عن أحوالِه وعباداتِه في السرِّ حيث لا يرَوْنَه هم، وكان ابن عباس رضي الله عنهم يَبِيتُ عند خالته مَيْمُونَةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم ليراقبَ ماذا يصنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الليل.
9 – كتابة الحديث: فكان بعض الصحابة ممن يحسن الكتابة يكتب ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر من فعل ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقد أخرج أبو داود( [9])وغيره بسندٍ صحيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهم قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟! فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ».
ولا شك أن الكتابة من أوثق وسائل الضبط، وقد قيل:
العلمُ صَيْدٌ والكتابةُ قيـدُهُ قَيِّدْ صُيُودَكَ بِالْحِبَالِ الواثقة
فمِنَ الحماقةِ أن تصيدَ غزالةً ثم تسيبها بين الخلائقِ طالقة
10 - يضاف إلى كل ما سبق: صفاءُ أذهان الصحابة وقوةُ ذاكراتهم بالطبيعة، وذلك لسببين: أوَّلُهما: أنهم كانوا أُمَّةً أُمِّيَّةً، اعتمدوا على الذاكرة في حفظِ أنسابِهم وأحداثِ حياتِهم ومواعيدِهم ومعاملاتِهم، وهذا الاستعمالُ الكبيرُ للذاكرة يُقَوِّيها ويُنَشِّطُها للغاية.
ثانيهما: أنهم عاشوا في بيئةٍ بسيطةٍ لا تعقيدَ فيها، وذلك مما يساعد على التركيز وعلى صفاء الذهن وتوقُّدِه، ولهذا عُرفوا بالحفظِ العجيبِ والذكاءِ النادرِ والضبطِ التام.
تلك كانت أهمَّ أسبابِ الحفظ والضبط والرعاية التي جمعها الله لحديث نبيه صلى الله عليه وسلم وهي تُبَيِّن إلى أيِّ مدىً جعل اللهُ من ذلك الجيلِ الكريمِ المباركِ أوعيةَ حكمةٍ، ضبطتْ فأحسنت الضبطَ، وحفظتْ فأتقنت الحفظَ، وائتُمنتْ على رسالةِ الحقِّ فقامتْ بها خيْرَ قيامٍ، لا شعوراً بالواجب فحسبُ، بل حباً للرسالةِ ولصاحبِها صلى الله عليه وسلم حباً مَلَكَ عليهم قلوبَهم وملأ عليهم أقطارَ نفوسِهم، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
________________________________________
([1]) أبو داود في كتاب: الطب، باب:في الرجل يتداوى 4/3 (33855)، وأحمد 4/278(18476).
([2]) الطبراني في الكبير 1/81 (471)، وقال الهيثمي 8/24:رجاله رجال الصحيح، والحاكم 4/400.
([3]) المصنف 6/367 (32082)، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/289 (324).
([4]) سبق تخريجه
([5]) أخرجه البخاري في كتاب: العلم باب:من سمع شيئا فراجع فيه حتى يعرفه1/196 -197 (103)، وفي كتاب التفسير باب:سورة الانشقاق 8/697(4939)،وفي كتاب:الرقاق، باب:من نوقش الحساب عذب 11/400(6536 -6537)، ومسلم في كتاب: الجنة، باب:إثبات الحساب4/2204(2876/79-80).
([6])أخرجه البخاري في كتاب:الوضوء باب:فضل من بات على وضوء 1/357 (247)، وفي باب:الدعوات باب إذا بات طاهرا 11/ 109 (6311)، ومسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب:ما يقول عند النوم وأخذ المضجع 4/ 2081 (2710/56).
([7]) 2/127، وأخرجه أبو يعلى الموصلي 7/131 (4091).
([8]) في كتاب الإيمان باب:بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/89(137/85).
([9])في سننه كتاب: العلم، باب:في كتاب العلم 3/318 (3646).
1- الإنصات التام وحسن السماع، حتى لا يفوتَهم شيءٌ من حديثه صلى الله عليه وسلم، فيسهلَ عليهم الحفظُ ويتمَّ لهم الضبطُ، فقد أخرج أبو داود وأحمد: ( [1]) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا أَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ».
وفي رواية عند الطبراني وصححه الحاكم: ( [2]) «كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرُ، مَا يَتَكَلَّمُ مِنَّا مُتَكَلِّمٌ».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، والخطيب في الجامع( [3]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كُنَّا جُلُوساً فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ إِلَيْنَا، فَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، لاَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنَّا».
وربما كثر عدد الحاضرين فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقيمُ من يَسْتَنْصِتُهُمْ (أي يطلب منهم الإنصات)، ومن يبلِّغ عنه كلامَه ليصل إلى جميع الحاضرين.
2- ترك التنازع في مجلسه صلى الله عليه وسلم وعدم مقاطعة المحدث حتى يفرغ، وذلك من الأدب المؤدي إلى ائتلاف القلوب، والمعين على تفتُّح العقولِ وسهولةِ الضبطِ وسرعةِ الحفظ. قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن سيرته صلى الله عليه وسلم بين جلسائه: «لاَ يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ، مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرَغَ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ»( [4]).
3- مراجعته صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم فهمه حتى يتبين لهم، ومن ثَم يتمكنون من حفظه وفهمه. وممن عُرف بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج الشيخان( [5])عن ابن أبي مُلَيْكَةَ أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئاً لاَ تَعْرِفُهُ إلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «َمْن حُوسِبَ عُذِّبَ» قالت عائشة: فقلت: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) (الانشقاق:8) فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ».
4 – عرض الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم وترديده بين يديه للتأكد من حفظه وضبطه، كما فعل البَرَاءُ بنُ عازِبٍ رضي الله عنهم حينما علمه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء عند النوم، فقد أخرج الشيخان( [6]) عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» فَقُلْتُ: أَسْتَذْكِرُهُنَّ «وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» قَالَ: «لَا وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» وفي رواية: قال البراء: فردّدْتُها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتُ «اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ» قلت: «وَرَسُولِكَ» قال: «لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ».
5 – مذاكرة الحديث فيما بينهم، حتى يثبتَ لفظُه ومعناه في عقولهم وقلوبهم كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه فيما أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه( [7]): «كُنَّا قُعُوداً عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتِّينَ رَجُلاً، فَيُحَدِّثُنَا الْحَدِيثَ ثُمَّ يَدْخُلُ، فَنَتَرَاجَعُهُ بَيْنَنَا، هَذَا ثُمَّ هَذَا، فَنَقُومُ كَأَنَّمَا زُرِعَ فِي قُلُوبِنَا».
6 – توجيه الأسئلة للنبي صلى الله عليه وسلم بقصد التعلُّم والعمل، لا للَّهْوِ والعَبَث، فلم يكونوا يسألونه صلى الله عليه وسلم إلا عما يحتاجون إلى معرفته مما هو حاصلٌ بالفعل، أو مما يتوقعون حصوله، ومن ثَمَّ يهتمون بحفظِ الجواب وضبطِه ؛ لشدةِ الحاجة إلى مضمونه. أما التنطُّعُ والسؤالُ عن المتشابِهِ وعن عُضَل المسائل وعما لا ينبني عليه عملٌ فكانوا أبعدَ الناس عنه ؛ لاشتغالهم بالعمل عن العبث.
7 - مراعاة أحواله صلى الله عليه وسلم وعدم الإلحاح عليه بالأسئلة الكثيرة، وذلك مثل ما أخرجه مسلم( [8])وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ : «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ. يعني رِفْقاً به صلى الله عليه وسلم.
8 – متابعة سيرته صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، حتى استطاعوا أن يعرفوا أحوالَه في بيتِه ليلاً أو نهاراً، وأن يصفوا خِلْقَتَه وأخلاقَه وصفاً في غاية الدقة، ولم يترددوا في أن يسألوا أهلَ بيتِه عن أحوالِه وعباداتِه في السرِّ حيث لا يرَوْنَه هم، وكان ابن عباس رضي الله عنهم يَبِيتُ عند خالته مَيْمُونَةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم ليراقبَ ماذا يصنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الليل.
9 – كتابة الحديث: فكان بعض الصحابة ممن يحسن الكتابة يكتب ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر من فعل ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقد أخرج أبو داود( [9])وغيره بسندٍ صحيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهم قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟! فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ».
ولا شك أن الكتابة من أوثق وسائل الضبط، وقد قيل:
العلمُ صَيْدٌ والكتابةُ قيـدُهُ قَيِّدْ صُيُودَكَ بِالْحِبَالِ الواثقة
فمِنَ الحماقةِ أن تصيدَ غزالةً ثم تسيبها بين الخلائقِ طالقة
10 - يضاف إلى كل ما سبق: صفاءُ أذهان الصحابة وقوةُ ذاكراتهم بالطبيعة، وذلك لسببين: أوَّلُهما: أنهم كانوا أُمَّةً أُمِّيَّةً، اعتمدوا على الذاكرة في حفظِ أنسابِهم وأحداثِ حياتِهم ومواعيدِهم ومعاملاتِهم، وهذا الاستعمالُ الكبيرُ للذاكرة يُقَوِّيها ويُنَشِّطُها للغاية.
ثانيهما: أنهم عاشوا في بيئةٍ بسيطةٍ لا تعقيدَ فيها، وذلك مما يساعد على التركيز وعلى صفاء الذهن وتوقُّدِه، ولهذا عُرفوا بالحفظِ العجيبِ والذكاءِ النادرِ والضبطِ التام.
تلك كانت أهمَّ أسبابِ الحفظ والضبط والرعاية التي جمعها الله لحديث نبيه صلى الله عليه وسلم وهي تُبَيِّن إلى أيِّ مدىً جعل اللهُ من ذلك الجيلِ الكريمِ المباركِ أوعيةَ حكمةٍ، ضبطتْ فأحسنت الضبطَ، وحفظتْ فأتقنت الحفظَ، وائتُمنتْ على رسالةِ الحقِّ فقامتْ بها خيْرَ قيامٍ، لا شعوراً بالواجب فحسبُ، بل حباً للرسالةِ ولصاحبِها صلى الله عليه وسلم حباً مَلَكَ عليهم قلوبَهم وملأ عليهم أقطارَ نفوسِهم، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
________________________________________
([1]) أبو داود في كتاب: الطب، باب:في الرجل يتداوى 4/3 (33855)، وأحمد 4/278(18476).
([2]) الطبراني في الكبير 1/81 (471)، وقال الهيثمي 8/24:رجاله رجال الصحيح، والحاكم 4/400.
([3]) المصنف 6/367 (32082)، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/289 (324).
([4]) سبق تخريجه
([5]) أخرجه البخاري في كتاب: العلم باب:من سمع شيئا فراجع فيه حتى يعرفه1/196 -197 (103)، وفي كتاب التفسير باب:سورة الانشقاق 8/697(4939)،وفي كتاب:الرقاق، باب:من نوقش الحساب عذب 11/400(6536 -6537)، ومسلم في كتاب: الجنة، باب:إثبات الحساب4/2204(2876/79-80).
([6])أخرجه البخاري في كتاب:الوضوء باب:فضل من بات على وضوء 1/357 (247)، وفي باب:الدعوات باب إذا بات طاهرا 11/ 109 (6311)، ومسلم في كتاب: الذكر والدعاء، باب:ما يقول عند النوم وأخذ المضجع 4/ 2081 (2710/56).
([7]) 2/127، وأخرجه أبو يعلى الموصلي 7/131 (4091).
([8]) في كتاب الإيمان باب:بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/89(137/85).
([9])في سننه كتاب: العلم، باب:في كتاب العلم 3/318 (3646).
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
هانى الإخوانى- المراقب العام
-
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 1177
نقاط : 6703
السٌّمعَة : 17
العمر : 41
العمل/الترفيه :
رد: محاضرات فى مصطلح الحديث للدكتور عبد الرحمن البر / متجدد
تطور قواعد المصطلح من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الذهبي للسُّنَّة
1 – قواعد الرواية في عصر الصحابة:
في عصر الصحابة بعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وانساب المسلمون في الأرض فاتحين مبشرين ومنذرين ومعلمين ؛ صارت الحاجةُ إلى الرواية أشدَّ ومن ثَم كانت الحاجةُ إلى ضمان سلامة الرواية أكثرَ إلحاحاً، إذ لم يبق َفي الإمكان الرجوعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم للتثبت أو التأكد.
من هنا بدأ الصحابةُ رضي الله عنهم في وضع القواعد الضابطة للرواية، بحيث لا يحصل في الحديث أدنى تحريف.
ففضلاً عن صدقهم وحماستهم لنشر الدين وتمسكِهم بالمبادئ التي سبق ذكرُها في الرواية ؛ فإنهم وضعوا أصولاً جديدةً إضافيةً للتثبُّت من صحة النقل والتحرُّز من حصول الغلط والوهم.
ومن أهم تلك الأصول والقوانين التي وضعوها للرواية ما يلي:
1ـ التقليل من الرواية ما أمكن، خوفاً من الوقوع في الخطأ وشبهة الكذب بسبب كثرة التحديث، خصوصاً إذا وجد الصحابيُّ منهم أخاه قد روى الحديث الذي يحفظه فأمِن وضمن البراءة من إثم الكَتْم، وكان التقليلُ أيضاً خشيةً من شغل الناس بالسنة عن القرآن، ولأنَّ التقليلَ يساعد على الضبط التام للرواية. وربما امتنع بعضهم بسبب كِبَر سنِّه وخوفِه أن يدخل على ذاكرته الضعفُ بسبب ذلك، وكان الصحابيُّ منهم ربما تَمُر به الأشهرُ أو السنَةُ لا يقول في كلامه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حذراً من الخطأ.
وكان عمر رضي الله عنه يقول للصحابة الذين يبعثهم للجهاد أو لتعليم المسلمين في الأمصار المختلفة: «أقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا شَرِيكُكُمْ [1]».
ولا يعني هذا أنهم كتموا شيئاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، بل المقصود الاحتياطُ الشديدُ عند نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتَفَاوَتَ الصحابةُ في رواية الحديث، فكان منهم الْمُكْثِرُ وكان منهم الْمُقِلُّ.
المكثرون من الصحابة: كان من الصحابة من روى أكثر من ألف حديث، وهم سبعة: أبو هريرة: (5374)، وعبد الله بن عمر (2630)، وأنس بن مالك (2286)، وعائشة أم المؤمنين (2210)، وعبد الله بن عباس (1660)، وجابر ابن عبد الله (1540)، وأبو سعيد الخدري (1170) رضي الله عنهم أجمعين.
2- التثبت والاحتياط عند رواية الحديث، حذراً من الغلط عند الأداء، حتى إن الواحد منهم لم يكن يروي إلا ما لا يرتاب في حفظه، وكان بعضهم يرتعد وهو يروى الحديث خوفاً من أن يكون قد دخل عليه الوهم، فإذا شكَّ في لفظٍ رواه بالشك. وربما رحل الواحدُ منهم مسافةً بعيدةً للتأكد من حديث، كما فعل جابر بن عبد الله رضي الله عنهم حين رحل من المدينة إلى الشام ليسمع حديثاً من عبد الله بن أُنيسرضي الله عنه [2]، وكما فعل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه حين رحل إلى مصر ليسمع حديثاً من عقبة بن عامر [3] رضي الله عنهم أجمعين.
3- توثيق الرواية وبخاصة عند الحاجة، فيذكر الواحدُ عددَ مرَّات سماعه للحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يذكر تاريخَ سماعِ الحديث، أو يذكر المناسبةَ التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، أو يصف الحالةَ التي كان عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما تحدث، أو يؤكد السماعَ بالمؤكدات المختلفة، وربما أقسم من غير استحلاف.
4 - الرواية باللفظ ما أمكن، من غير تقديمٍ ولا تأخيرٍ ولا تغييرٍ، حتى لو كان اللفظُ المستبدَلُ صحيحَ المعنى، فإذا صعب الإتيانُ باللفظِ النبوي فإنه يروي بالمعنى عندئذ، ولا ريبَ أنهم كانوا أعلمَ الناس باللغة، وأدرى الخلق بمقاصد الشريعة، وأعرفَ الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم ومعاني كلامه ومواقع خطابه.
5 - التثبت والاحتياط عند سماع الحديث: فمع أن الصحابة رضي الله عنهم كان يتواضع بعضُهم لبعضٍ ويَثِقُ بعضُهم في بعضٍ ؛ فإنهم كانوا يحرصون على التثبت عندما يسمع بعضُهم من بعضٍ، وكان أبو بكر رضي الله عنه أولَ من احتاط في قبول الأخبار وتبعه في ذلك عمر رضي الله عنه، فكانوا أحيانا يطلبون من الراوي أن يأتي بشاهدٍ يشهد معه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، مثلما فعل أبو بكر مع المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ورَّث الجدةَ السدسَ من تركة حفيدها المتوفى، فطلب منه شاهداً على ذلك، فشهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه [4]، ومثلما فعل عمر مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم في حديث الاستئذان ثلاثا ؛ إذ لم يقبله منه حتى شهد معه أبو سعيد الخدري، رضي الله عنهم جميعا [5]، وكان علي رضي الله عنه ربما استحلف من يروي له حديثا، ولم يكن ذلك من باب التضييق على الرواة، ولكنه كان من باب سد الذرائع والاحتياط لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
6 - عرض الحديث على أهل العلم به من الصحابة: فكان الصحابيُّ إذا سمع من أخيه حديثاً لم يسمعه هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يَعْرِضُ الحديثَ على صحابيٍّ آخرَ ممن يَظُنُّ أنَّ عنده علماً به، وذلك للتأكد والتثبت، لا للشك والارتياب، وخصوصاً إذا كان الحديثُ في أمرٍ شائعٍ، كما حصل بين ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم في حديث فضل اتباع الجنازة والصلاة عليها، فقد أخرج مسلم في كتاب: الجنائز [6] عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إذ طلع خَبَّابٌ (ابن السائب) صاحبُ المقصورةِ فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ» فأرسل ابنُ عمر خبَّاباً إلى عائشة رضي الله عنها يسألُها عن قول أبي هريرة رضي الله عنه ثم يرجعُ إليه فيخبرُه ما قالت، وأخذ ابنُ عمرَ قبضةً من حَصْبَاءِ المسجد يُقَلِّبُهَا في يده حتى رجع إليه الرسولُ فقال: قالت عائشةُ: صدق أبو هريرة. فضرب ابنُ عمرَ بالحصى الذي كان في يده الأرضَ، ثم قال: لقد فرَّطْنَا في قراريطَ كثيرة.
وفي رواية عند الترمذي [7] أنه قال له: يا أبا هريرة، كنتَ ألزمَنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَنا بحديثه.
7 - طلب الإسناد والدعوة إلى الأخذ عن الثقات دون غيرهم، بعد أن دخل الناسُ في دين الله أفواجاً، وحاول بعضُ الْمُغْرِضِين استغلالَ العاطفةِ الإسلاميةِ الناشئةِ لإشاعة أراجيفَ ومخترعاتٍ كاذبةٍ ونسبتِها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبدأ بذلك التفتيشُ والتدقيقُ في أحوال الرواة قبل قَبُول الرواية، وبخاصةٍ بعد أن حدثت الفتنةُ الكبرى، وشاع بين المسلمين هذا القولُ العظيم: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» [8].
قال محمد بن سيرين: [9] «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُُ (يعني بمقتل عثمان رضي الله عنه) قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ».
ومما أوصى به عقبةُ بن عامر رضي الله عنه [10] بَنِيهِ عند وفاتِه أنه قال لهم: «يَا بَنِيَّ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ فََاحْتَفِظُوا بِهِنَّ: لاَ تَقْبَلُوا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ عَنْ ثِقَةٍ وَلاَ تَدِينُوا (أي لا تستدينوا) وَإِنْ لَبِسْتُمُ الْعَبَاءَ (أي الصوف الخشن) وَلاَ تَكْتُبُوا شِعْراً تَشْغَلُونَ بِهِ قُلُوبَكُمْ عَنِ الْقُرْآنِ».
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه لتلميذه ثابتِ بنِ أَسْلَمَ البُنَانِي: «يَا ثَابِتُ خُذْ عَنِّي ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَأْخُذَ عَنْ أَوْثَقَ مِنِّي، إِنِّي أَخَذْتُه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ جِبْرِيلَ، وأخَذَه جبريلُ عَنِ اللهِ تَعَالَى» [11].
8 - نقد المرويات: كان الصحابة يثقون تماماً بأنه لا أحدَ فيهم يكذب أو يتعمد التحريفَ، لكنهم مع ذلك كانوا يدركون أن السمعَ قد يخطئ، وأن العقلَ قد يَفْلِتُ منه الشيءُ بعد الشيء لا يضبطُه ولا يُحْكِمُه فينساه أو يخطئ في روايته، ومن ثَمّ اهتموا بنقد المرويات من خلال عرضها على ما حفظوه وعلموه وتَيَقَّنُوه من نصوصِ الشريعة، ولم يترددوا في تصويب المخطئ والردِّ على الغالط، لا شكاً في عدالتِه، ولكن احترازاً من احتمال عدم ضبطه.
من ذلك ما أخرجه الشيخان [12] عن عائشة رضي الله عنها حين بلغها أن عمر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ ! وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَقَالَتْ: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر: 17) .
وفي حديث آخر عند الشيخيين [13] عن عروة بن الزبير قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» فَقَالَتْ: وَهَلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ» قَالَتْ: وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ» إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ» ثُمَّ قَرَأَتْ: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (النمل: 80).
وقد تميزت عائشةُ رضي الله عنها بتصحيح كثيرٍ من الأحاديث لكثيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقد جمع الإمامُ الزركشيُّ ما ورد عنها في ذلك في كتاب سمّاه: (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)، وتبعه الإمام السيوطي فألف (عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة).
9 - ظهور الحديث عن الرجال: بدأ الحديث عن الرواة وتعديلهم أو تجريحهم - لكن على قلة - في هذا العصر، حيث تكلم ابنُ عباس وغيرُه في بعض الرواة، وردُّوا بعض المرويات.
أخرج مسلمٌ [14] في مقدمة صحيحه عن مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَأْذَنُ (أي لا يلقي أذنا أو لا يستمع) لِحَدِيثِهِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا لِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تَسْمَعُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ (أي سلكوا في الرواية كل مسلك مما يُمدَح ويُذَم) لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا نَعْرِفُ». وفي رواية أنه قال له: «إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ».
وهكذا لم يكد عصر الصحابة رضي الله عنهم ينتهي حتى كان قد شاع فيهم طلب الإسناد، وبدأ علم الجرح والتعديل في الظهور، ووُضعتْ أولى قواعدِ مكافحةِ الوضع والدس وظهرتْ بعضُ أسباب القبول والرد، وأصول التثبت والنقد. لكن لم يَجْمَع أحدٌ تلك القواعد في كتاب.
شبهة وتوضيح: ربما يقع في أذهان بعض الدارسين التباسٌ بسبب وجود بعض المنافقين بين الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلوا سنتَه للناس من بعده، وربما خطر ببال البعض أن بعضَ هؤلاء المنافقين قد تمكَّن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من نشر شيءٍ من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ الناسُ منه ما رواه عملاً بظاهر صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريبَ أنهم كذبوا بل مَرَدُوا على الكذب والنفاق، وقد سجل القرآن الكريم قولهم فى سورة المنافقين التى بدأها الحق جل وعلا بقوله: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1) فما نصيب هذه الشبهة من الصحة؟.
الحقيقة أن حصولَ ذلك وإمكانيةَ نشر المنافقين لأخبارٍ كاذبةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرٌ غيرُ واردٍ إطلاقا على ذهن الباحثِ الجادّ، وذلك للأسباب الآتية:
1 – كان المنافقون أساساً مصروفي الهمة عن حفظ السنة أو نشر الدين، بل كان بعضُهم يجلس فيسمع القرآنَ مع الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج لا يَعْلُق بذهنه أو عقله شيءٌ منه، على حد قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) (محمد: 16).
2 - أن المسلمين لا يمكن أن يسمعوا لهم لأنهم كانوا يعرفونهم من خلال حديثِ القرآنِ عنهم وعن سِمَاتِهم ومن خلال ما يظهر من فلتات ألسنتِهم ولحنِهم في أقوالهم، كما قال تعالى: (فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (محمد:30). وقد كان المسلمون يعرفونهم من خلال ذلك، ومَنْ لم يكونوا على يقينٍ من نفاقِه فقد كان مغموصاً عندهم بالنفاق، وهذا كعب بن مالك رضي الله عنه - فيما أخرجه البخاري في قصة توبته في كتاب: المغازي [15] - يذكر أنهم كانوا يعرفون المغموصين بالنفاق، فيقول مُتَحَسِّراً على عدم خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم: «فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ».
والقصص في معرفة الصحابة لهؤلاء المنافقين كثيرةٌ مشهورةٌ، ومن ثَمَّ لم يكن من الممكن أن يسمع لهم أحدٌ شيئا.
3 – القواعد الواضحة التي وضعها الصحابة للرواية والتثبت والتي سبقت الإشارة إليها تقطع بأن المنافقين ما كان يمكنهم أن يدسُّوا حرفاً واحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الصحابة - كما رأينا من قبل - يرد بعضُهم على كبارهم ويصحح بعضُهم لبعضٍ، وينقدون مروياتهم بمنتهي الصراحة دون مجاملة أو خوف، فكيف يمكن أن يُتَصَوَّرَ سكوتُ أحدٍ منهم على مَنْ ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً لم يَقُلْهُ أو شيئاً لم يفعلْه؟! هذا غير وارد إطلاقا.
________________________________________
[1] أخرجه الطبراني في الأوسط 2/326 )2117) وصححه الحاكم 1/102 ووافقه الذهبي.
[2] ذكره البخاري تعليقا في كتاب: العلم، باب: الخروج في طلب العلم 1/173.
[3] أخرجه أحمد 4/153، 159، والحميدى في المسند 1/189-190 (384)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص7 - 8 والخطيب في الرحلة ص 118 (34)، وفي الأسماء المبهمة ص63- 64 )37)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/392 (567)
[4] أخرجه أبو داود في كتاب: الفرائض، باب: في الجدة 3/121 (2894)، والترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الجدة 4/419- 420 (2100 -2110)، وابن ماجه في كتاب: الفرائض باب: ميراث الجدة 2/ 909 -910 (2724)، ومالك في الموطأ في كتاب: الفرائض، باب: ميراث الجدة ص 407 (4)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص15، والخطيب في الكفاية ص 26.
[5] أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثا 11/26 - 27 (6245)، ومسلم في كتاب: البر والصلة والأداب، باب: الاستئذان 3/1694-1696 (2153/ 33: 36) وأبو داود في كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلَّم الرجل 4/345: 347 (5180: 5184)، والترمذي في كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في الاستئذان ثلاثا5/53 -54 (2690)، وابن ماجه في كتاب: الأدب، باب: الاستئذان 2/1221 (3706)، والدارمى في كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان ثلاثا 2/355 (2629)، وأحمد 4/393، 398، 400، 043، 410، 417 .
[6] باب فضل الصلاة علي الجنازة واتباعها 2/652 )56).
[7] كتاب المناقب:باب مناقب لأبي هريرة رضي الله عنه 5/642 )3836).
[8] مسلم في المقدمه ج1/ص14 باب بيان أن الإسناد من الدين .
[9] مسلم نفسه .
[10] المعجم الكبير:صفة عقبة وأخباره 17/268)737)، مجمع الزوائد ج1/ص140، وفي إسناده ابن لهيعة ويحتمل في هذا على ضعفه.
[11] أخرجه الترمذي في كتاب المناقب: مناقب لأنس بن مالك رضي الله عنه 5/614 (3831)، قال هذا حديث حسن غريب .
[12] البخاري في كتاب الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته 3/150 )1287) ومسلم في كتاب الجنائز: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 2/642)929).
[13] مسلم في كتاب الجنائز:باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 2/643 )932).
[14] باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها 1/13 )7).
[15] باب: حديث كعب بن مالك 8 /113 )4418) جزء من حديث طويل.
1 – قواعد الرواية في عصر الصحابة:
في عصر الصحابة بعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وانساب المسلمون في الأرض فاتحين مبشرين ومنذرين ومعلمين ؛ صارت الحاجةُ إلى الرواية أشدَّ ومن ثَم كانت الحاجةُ إلى ضمان سلامة الرواية أكثرَ إلحاحاً، إذ لم يبق َفي الإمكان الرجوعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم للتثبت أو التأكد.
من هنا بدأ الصحابةُ رضي الله عنهم في وضع القواعد الضابطة للرواية، بحيث لا يحصل في الحديث أدنى تحريف.
ففضلاً عن صدقهم وحماستهم لنشر الدين وتمسكِهم بالمبادئ التي سبق ذكرُها في الرواية ؛ فإنهم وضعوا أصولاً جديدةً إضافيةً للتثبُّت من صحة النقل والتحرُّز من حصول الغلط والوهم.
ومن أهم تلك الأصول والقوانين التي وضعوها للرواية ما يلي:
1ـ التقليل من الرواية ما أمكن، خوفاً من الوقوع في الخطأ وشبهة الكذب بسبب كثرة التحديث، خصوصاً إذا وجد الصحابيُّ منهم أخاه قد روى الحديث الذي يحفظه فأمِن وضمن البراءة من إثم الكَتْم، وكان التقليلُ أيضاً خشيةً من شغل الناس بالسنة عن القرآن، ولأنَّ التقليلَ يساعد على الضبط التام للرواية. وربما امتنع بعضهم بسبب كِبَر سنِّه وخوفِه أن يدخل على ذاكرته الضعفُ بسبب ذلك، وكان الصحابيُّ منهم ربما تَمُر به الأشهرُ أو السنَةُ لا يقول في كلامه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حذراً من الخطأ.
وكان عمر رضي الله عنه يقول للصحابة الذين يبعثهم للجهاد أو لتعليم المسلمين في الأمصار المختلفة: «أقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا شَرِيكُكُمْ [1]».
ولا يعني هذا أنهم كتموا شيئاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، بل المقصود الاحتياطُ الشديدُ عند نسبة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتَفَاوَتَ الصحابةُ في رواية الحديث، فكان منهم الْمُكْثِرُ وكان منهم الْمُقِلُّ.
المكثرون من الصحابة: كان من الصحابة من روى أكثر من ألف حديث، وهم سبعة: أبو هريرة: (5374)، وعبد الله بن عمر (2630)، وأنس بن مالك (2286)، وعائشة أم المؤمنين (2210)، وعبد الله بن عباس (1660)، وجابر ابن عبد الله (1540)، وأبو سعيد الخدري (1170) رضي الله عنهم أجمعين.
2- التثبت والاحتياط عند رواية الحديث، حذراً من الغلط عند الأداء، حتى إن الواحد منهم لم يكن يروي إلا ما لا يرتاب في حفظه، وكان بعضهم يرتعد وهو يروى الحديث خوفاً من أن يكون قد دخل عليه الوهم، فإذا شكَّ في لفظٍ رواه بالشك. وربما رحل الواحدُ منهم مسافةً بعيدةً للتأكد من حديث، كما فعل جابر بن عبد الله رضي الله عنهم حين رحل من المدينة إلى الشام ليسمع حديثاً من عبد الله بن أُنيسرضي الله عنه [2]، وكما فعل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه حين رحل إلى مصر ليسمع حديثاً من عقبة بن عامر [3] رضي الله عنهم أجمعين.
3- توثيق الرواية وبخاصة عند الحاجة، فيذكر الواحدُ عددَ مرَّات سماعه للحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يذكر تاريخَ سماعِ الحديث، أو يذكر المناسبةَ التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، أو يصف الحالةَ التي كان عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما تحدث، أو يؤكد السماعَ بالمؤكدات المختلفة، وربما أقسم من غير استحلاف.
4 - الرواية باللفظ ما أمكن، من غير تقديمٍ ولا تأخيرٍ ولا تغييرٍ، حتى لو كان اللفظُ المستبدَلُ صحيحَ المعنى، فإذا صعب الإتيانُ باللفظِ النبوي فإنه يروي بالمعنى عندئذ، ولا ريبَ أنهم كانوا أعلمَ الناس باللغة، وأدرى الخلق بمقاصد الشريعة، وأعرفَ الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم ومعاني كلامه ومواقع خطابه.
5 - التثبت والاحتياط عند سماع الحديث: فمع أن الصحابة رضي الله عنهم كان يتواضع بعضُهم لبعضٍ ويَثِقُ بعضُهم في بعضٍ ؛ فإنهم كانوا يحرصون على التثبت عندما يسمع بعضُهم من بعضٍ، وكان أبو بكر رضي الله عنه أولَ من احتاط في قبول الأخبار وتبعه في ذلك عمر رضي الله عنه، فكانوا أحيانا يطلبون من الراوي أن يأتي بشاهدٍ يشهد معه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، مثلما فعل أبو بكر مع المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ورَّث الجدةَ السدسَ من تركة حفيدها المتوفى، فطلب منه شاهداً على ذلك، فشهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه [4]، ومثلما فعل عمر مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم في حديث الاستئذان ثلاثا ؛ إذ لم يقبله منه حتى شهد معه أبو سعيد الخدري، رضي الله عنهم جميعا [5]، وكان علي رضي الله عنه ربما استحلف من يروي له حديثا، ولم يكن ذلك من باب التضييق على الرواة، ولكنه كان من باب سد الذرائع والاحتياط لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
6 - عرض الحديث على أهل العلم به من الصحابة: فكان الصحابيُّ إذا سمع من أخيه حديثاً لم يسمعه هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يَعْرِضُ الحديثَ على صحابيٍّ آخرَ ممن يَظُنُّ أنَّ عنده علماً به، وذلك للتأكد والتثبت، لا للشك والارتياب، وخصوصاً إذا كان الحديثُ في أمرٍ شائعٍ، كما حصل بين ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم في حديث فضل اتباع الجنازة والصلاة عليها، فقد أخرج مسلم في كتاب: الجنائز [6] عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إذ طلع خَبَّابٌ (ابن السائب) صاحبُ المقصورةِ فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ» فأرسل ابنُ عمر خبَّاباً إلى عائشة رضي الله عنها يسألُها عن قول أبي هريرة رضي الله عنه ثم يرجعُ إليه فيخبرُه ما قالت، وأخذ ابنُ عمرَ قبضةً من حَصْبَاءِ المسجد يُقَلِّبُهَا في يده حتى رجع إليه الرسولُ فقال: قالت عائشةُ: صدق أبو هريرة. فضرب ابنُ عمرَ بالحصى الذي كان في يده الأرضَ، ثم قال: لقد فرَّطْنَا في قراريطَ كثيرة.
وفي رواية عند الترمذي [7] أنه قال له: يا أبا هريرة، كنتَ ألزمَنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَنا بحديثه.
7 - طلب الإسناد والدعوة إلى الأخذ عن الثقات دون غيرهم، بعد أن دخل الناسُ في دين الله أفواجاً، وحاول بعضُ الْمُغْرِضِين استغلالَ العاطفةِ الإسلاميةِ الناشئةِ لإشاعة أراجيفَ ومخترعاتٍ كاذبةٍ ونسبتِها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبدأ بذلك التفتيشُ والتدقيقُ في أحوال الرواة قبل قَبُول الرواية، وبخاصةٍ بعد أن حدثت الفتنةُ الكبرى، وشاع بين المسلمين هذا القولُ العظيم: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» [8].
قال محمد بن سيرين: [9] «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُُ (يعني بمقتل عثمان رضي الله عنه) قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ».
ومما أوصى به عقبةُ بن عامر رضي الله عنه [10] بَنِيهِ عند وفاتِه أنه قال لهم: «يَا بَنِيَّ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ فََاحْتَفِظُوا بِهِنَّ: لاَ تَقْبَلُوا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ عَنْ ثِقَةٍ وَلاَ تَدِينُوا (أي لا تستدينوا) وَإِنْ لَبِسْتُمُ الْعَبَاءَ (أي الصوف الخشن) وَلاَ تَكْتُبُوا شِعْراً تَشْغَلُونَ بِهِ قُلُوبَكُمْ عَنِ الْقُرْآنِ».
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه لتلميذه ثابتِ بنِ أَسْلَمَ البُنَانِي: «يَا ثَابِتُ خُذْ عَنِّي ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَأْخُذَ عَنْ أَوْثَقَ مِنِّي، إِنِّي أَخَذْتُه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ جِبْرِيلَ، وأخَذَه جبريلُ عَنِ اللهِ تَعَالَى» [11].
8 - نقد المرويات: كان الصحابة يثقون تماماً بأنه لا أحدَ فيهم يكذب أو يتعمد التحريفَ، لكنهم مع ذلك كانوا يدركون أن السمعَ قد يخطئ، وأن العقلَ قد يَفْلِتُ منه الشيءُ بعد الشيء لا يضبطُه ولا يُحْكِمُه فينساه أو يخطئ في روايته، ومن ثَمّ اهتموا بنقد المرويات من خلال عرضها على ما حفظوه وعلموه وتَيَقَّنُوه من نصوصِ الشريعة، ولم يترددوا في تصويب المخطئ والردِّ على الغالط، لا شكاً في عدالتِه، ولكن احترازاً من احتمال عدم ضبطه.
من ذلك ما أخرجه الشيخان [12] عن عائشة رضي الله عنها حين بلغها أن عمر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ : رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ ! وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَقَالَتْ: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر: 17) .
وفي حديث آخر عند الشيخيين [13] عن عروة بن الزبير قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهم رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» فَقَالَتْ: وَهَلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ» قَالَتْ: وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ» إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ» ثُمَّ قَرَأَتْ: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (النمل: 80).
وقد تميزت عائشةُ رضي الله عنها بتصحيح كثيرٍ من الأحاديث لكثيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقد جمع الإمامُ الزركشيُّ ما ورد عنها في ذلك في كتاب سمّاه: (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)، وتبعه الإمام السيوطي فألف (عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة).
9 - ظهور الحديث عن الرجال: بدأ الحديث عن الرواة وتعديلهم أو تجريحهم - لكن على قلة - في هذا العصر، حيث تكلم ابنُ عباس وغيرُه في بعض الرواة، وردُّوا بعض المرويات.
أخرج مسلمٌ [14] في مقدمة صحيحه عن مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَأْذَنُ (أي لا يلقي أذنا أو لا يستمع) لِحَدِيثِهِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا لِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تَسْمَعُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ (أي سلكوا في الرواية كل مسلك مما يُمدَح ويُذَم) لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا نَعْرِفُ». وفي رواية أنه قال له: «إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ».
وهكذا لم يكد عصر الصحابة رضي الله عنهم ينتهي حتى كان قد شاع فيهم طلب الإسناد، وبدأ علم الجرح والتعديل في الظهور، ووُضعتْ أولى قواعدِ مكافحةِ الوضع والدس وظهرتْ بعضُ أسباب القبول والرد، وأصول التثبت والنقد. لكن لم يَجْمَع أحدٌ تلك القواعد في كتاب.
شبهة وتوضيح: ربما يقع في أذهان بعض الدارسين التباسٌ بسبب وجود بعض المنافقين بين الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلوا سنتَه للناس من بعده، وربما خطر ببال البعض أن بعضَ هؤلاء المنافقين قد تمكَّن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من نشر شيءٍ من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ الناسُ منه ما رواه عملاً بظاهر صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريبَ أنهم كذبوا بل مَرَدُوا على الكذب والنفاق، وقد سجل القرآن الكريم قولهم فى سورة المنافقين التى بدأها الحق جل وعلا بقوله: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1) فما نصيب هذه الشبهة من الصحة؟.
الحقيقة أن حصولَ ذلك وإمكانيةَ نشر المنافقين لأخبارٍ كاذبةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرٌ غيرُ واردٍ إطلاقا على ذهن الباحثِ الجادّ، وذلك للأسباب الآتية:
1 – كان المنافقون أساساً مصروفي الهمة عن حفظ السنة أو نشر الدين، بل كان بعضُهم يجلس فيسمع القرآنَ مع الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج لا يَعْلُق بذهنه أو عقله شيءٌ منه، على حد قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) (محمد: 16).
2 - أن المسلمين لا يمكن أن يسمعوا لهم لأنهم كانوا يعرفونهم من خلال حديثِ القرآنِ عنهم وعن سِمَاتِهم ومن خلال ما يظهر من فلتات ألسنتِهم ولحنِهم في أقوالهم، كما قال تعالى: (فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (محمد:30). وقد كان المسلمون يعرفونهم من خلال ذلك، ومَنْ لم يكونوا على يقينٍ من نفاقِه فقد كان مغموصاً عندهم بالنفاق، وهذا كعب بن مالك رضي الله عنه - فيما أخرجه البخاري في قصة توبته في كتاب: المغازي [15] - يذكر أنهم كانوا يعرفون المغموصين بالنفاق، فيقول مُتَحَسِّراً على عدم خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم: «فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ».
والقصص في معرفة الصحابة لهؤلاء المنافقين كثيرةٌ مشهورةٌ، ومن ثَمَّ لم يكن من الممكن أن يسمع لهم أحدٌ شيئا.
3 – القواعد الواضحة التي وضعها الصحابة للرواية والتثبت والتي سبقت الإشارة إليها تقطع بأن المنافقين ما كان يمكنهم أن يدسُّوا حرفاً واحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الصحابة - كما رأينا من قبل - يرد بعضُهم على كبارهم ويصحح بعضُهم لبعضٍ، وينقدون مروياتهم بمنتهي الصراحة دون مجاملة أو خوف، فكيف يمكن أن يُتَصَوَّرَ سكوتُ أحدٍ منهم على مَنْ ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً لم يَقُلْهُ أو شيئاً لم يفعلْه؟! هذا غير وارد إطلاقا.
________________________________________
[1] أخرجه الطبراني في الأوسط 2/326 )2117) وصححه الحاكم 1/102 ووافقه الذهبي.
[2] ذكره البخاري تعليقا في كتاب: العلم، باب: الخروج في طلب العلم 1/173.
[3] أخرجه أحمد 4/153، 159، والحميدى في المسند 1/189-190 (384)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص7 - 8 والخطيب في الرحلة ص 118 (34)، وفي الأسماء المبهمة ص63- 64 )37)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/392 (567)
[4] أخرجه أبو داود في كتاب: الفرائض، باب: في الجدة 3/121 (2894)، والترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الجدة 4/419- 420 (2100 -2110)، وابن ماجه في كتاب: الفرائض باب: ميراث الجدة 2/ 909 -910 (2724)، ومالك في الموطأ في كتاب: الفرائض، باب: ميراث الجدة ص 407 (4)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص15، والخطيب في الكفاية ص 26.
[5] أخرجه البخاري في كتاب: الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثا 11/26 - 27 (6245)، ومسلم في كتاب: البر والصلة والأداب، باب: الاستئذان 3/1694-1696 (2153/ 33: 36) وأبو داود في كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلَّم الرجل 4/345: 347 (5180: 5184)، والترمذي في كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في الاستئذان ثلاثا5/53 -54 (2690)، وابن ماجه في كتاب: الأدب، باب: الاستئذان 2/1221 (3706)، والدارمى في كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان ثلاثا 2/355 (2629)، وأحمد 4/393، 398، 400، 043، 410، 417 .
[6] باب فضل الصلاة علي الجنازة واتباعها 2/652 )56).
[7] كتاب المناقب:باب مناقب لأبي هريرة رضي الله عنه 5/642 )3836).
[8] مسلم في المقدمه ج1/ص14 باب بيان أن الإسناد من الدين .
[9] مسلم نفسه .
[10] المعجم الكبير:صفة عقبة وأخباره 17/268)737)، مجمع الزوائد ج1/ص140، وفي إسناده ابن لهيعة ويحتمل في هذا على ضعفه.
[11] أخرجه الترمذي في كتاب المناقب: مناقب لأنس بن مالك رضي الله عنه 5/614 (3831)، قال هذا حديث حسن غريب .
[12] البخاري في كتاب الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته 3/150 )1287) ومسلم في كتاب الجنائز: باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 2/642)929).
[13] مسلم في كتاب الجنائز:باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 2/643 )932).
[14] باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها 1/13 )7).
[15] باب: حديث كعب بن مالك 8 /113 )4418) جزء من حديث طويل.
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
هانى الإخوانى- المراقب العام
-
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 1177
نقاط : 6703
السٌّمعَة : 17
العمر : 41
العمل/الترفيه :
مواضيع مماثلة
» مصطلح الحديث خصيصة للمسلمين
» تحية وتقدير لموقف الإمام الأكبر /دكتور عبدالرحمن البر
» ما الفرق بين علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية ؟
» أصل مصطلح الرافضة
» مشروع تقارب بين السلفيين والأشاعرة (متجدد)
» تحية وتقدير لموقف الإمام الأكبر /دكتور عبدالرحمن البر
» ما الفرق بين علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية ؟
» أصل مصطلح الرافضة
» مشروع تقارب بين السلفيين والأشاعرة (متجدد)
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى