المناسب
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية :: أصول الفقه
صفحة 1 من اصل 1
المناسب
قال الشوكاني : "المناسبة هي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه، ويسمى استخراجها تخريج المناط" إرشاد الفحول، ص 214- 215.
ونسب الشوكاني إلى المحصول: "أن الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين: الأول: أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة.. والثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم" إرشاد الفحول، ص 214- 215.
وقد عرّفه البعض بأنه -المناسب- عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، قال أبو زيد الدبّوسي، وقاله الشاطبي. وذكر ابن قدامة المقدسي أن المناسب هو الوصف الذي يكون في إثبات الحكم عقيبه مصلحة ( روضة الناظر وجنة المناظر). وضرب علي الشاشي مثلاً فقال: "إذا رأينا شخصاً أعطى فقيراً درهماً غلب على الظن أن الإعطاء لدفع حاجة الفقير وتحصيل مصالح الثواب" أصول الشاشي ، ويستنبط من هذا أن دفع الحاجة وتحصيل الثواب وصف مناسب فيكون علة للإعطاء.
وينقل الشوكاني عن الرازي قوله : "المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فالأول كالغنى علة لوجوب الزكاة، والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر" إرشاد الفحول. وينقل أيضاً عن ابن الحاجب تعريفه للمناسب : "المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحة أو دفع مفسدة" " إرشاد الفحول ، والتعاريف هذه كلها تُدلي بالمعنى نفسه تقريباً.
ويرى سيف الدين الآمدي أن الأصح في تعريف المناسب : "هو عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع الحكم" " إرشاد الفحول ، وهذا التعريف يختلف عن التعاريف السابقة بأنه لا يظهر للعقل دوراً في تقرير المناسبة، وبالتالي في تقرير العلة وبالتالي في التشريع بالعقل.
وعلى الاختلاف في فهم واقع المناسب ينبني اختلاف وتفصيل في قبوله كأصل في الدلالة على التعليل أو ردّه أو التفصيل فيه. ولذلك نجد أئمة الأصول ذكروا في المناسب أقساماً: المؤثر والملائم والغريب.
وعند التحقيق في معنى المناسب يتبين أنه يطلق بإزاء معنيين. الأول: ما ليس للعقل أن يحكم فيه أو يقرر، وليس إلا أن يفهم المناسبة من النص أو النصوص الدالة عليها. والمناسبة بهذا المعنى هي المناسبة بين الحكم والوصف، وهي المناسبة التي جعلها بعض الأئمة من الدلائل على عِلّيّة ذلك الوصف لذلك الحكم. فالمناسبة بهذا المعنى لا بد أن يدل عليها الشرع، وأن يفهم الفقيه أو المجتهد تلك الدلالة فهماً من النص أو النصوص. وزيادة في التأكيد والتوضيح فإن هذا المعنى لا يتضمن أن يعين الفقيه أو المجتهد المناسبة بعقله، لأن هذا هوىً وتشريع بالعقل.
والمعنى الثاني للمناسب هو ما يصح للعقل أن يحكم فيه وأن يقرره -وهذا يتحتم أن يكون خارج أمور التشريع، لأن التشريع تحسين وتقبيح، والعقل لا دور له فيهما- أو أن يكون مما أبيح للإنسان أن يحكم فيه. وهذا المعنى فيه أنواع، فقد يكون فيه ما يُرْجَعُ فيه إلى الخطأ والصواب، أو ما يرجع فيه إلى العرف أو إلى الطبع والمزاج. مثال الأول دخول الحرب بأسلحة قديمة ضد عدوّ يستعمل أحدث أنواع الأسلحة، فهذا يقال فيه إنه خطأ وغير مناسب. والثاني: كالزيارة بعد منتصف الليل أو وقت القيلولة، فهذا أيضاً يُستعمل فيه قول: غير مناسب. والثالث كأن يقال: هذا اللون يناسب هذا اللون أو لا يناسبه، أو هذه الحبّات متناسبة مع بعضها لتكون في سلك واحد. وقد يكون من المناسب أمور يعسر وضعها تحت نوع معين، كقول: هذان الزوجان يناسب كل منهما الآخر، فقد تكون المناسبة عائدة إلى الطباع أو إلى الميول أو إلى الاهتمامات عند كل منهما أو غير ذلك.
وهذا المعنى الثاني للمناسبة لا يفيد في التعليل لأن الذي حكم بها هو العقل وحده. فكانت العلة علة عقلية، وكان الحكم حكماً عقلياً. ولم تكن العلة شرعية ولا الحكم شرعياً.
وقد اتفق القائسون على اعتبار المناسبة التي ذكرناها عند المعنى الأول. وهي المناسبة التي دل عليها الشرع. أو كما قالوا فيها: المناسب الذي شهد له الشرع بالاعتبار. أما المناسب الذي لم يشهد له الشرع بالاعتبار، فهو من قبيل النوع الثاني، أي المناسب بحكم العقل وحده، فهذا قسمان: قسم شهد الشرع بإلغائه، وهذا اتُّفِق على ردّه. وقسم لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء، وهذا اختلف فيه ولذلك رأى البعض أن العبرة ليست بالمناسب. إذ إنه كثيراً ما يكون غير مؤثر في الحكم. وأطلق على غير المؤثر: المناسب الغريب. قال ابن تيمية : "وإن عُلِمَ تأثير الوصف في حكم الأصل بالاستنباط وكان الوصف مناسباً، فإما أن يُعْلَمَ تأثيره في غير الأصل بنص أو إجماع أو أن لا يعلم له تأثير في غير الأصل. فالأول هو المناسب المؤثر والملائم والثاني هو الغريب.." المسودة ص 408 ثم قال : "وكلام القاضي والعراقيين يقتضي أنهم لا يحتجون بالمناسب الغريب ويحتجون بالمؤثر مناسباً كان أو غير مناسب" المسودة. وهذا يدل على اعتبار المناسب أحياناً وعدم اعتباره أحياناً أخرى، وأن المؤثر يعتبر دائماً. وهذا مرده أن المناسب قد يكون بدلالة الشرع -كما قال ابن تيمية بنص أو إجماع- وبالتالي يكون معتبراً، وقد يكون بمحض العقل وبالتالي لا يكون معتبراً.
أقسام المناسب
أما الذين توسعوا في استخراج المناسبة وعدّوها علة، ولو كانت مجردة عن الاعتبار الشرعي، وأفلتوا لعقولهم العنان ليبحثوا ويقدّروا ويقرّروا للأحكام عللاً لا يشهد لها الشرع بدلالة كلية ولا جزئية، فقد وقعوا في أخطاء، ولاحظوا أن تعليلاتهم ومقتضيات عقولهم كثيراً ما تأتي مصادمة للشرع، ولاحظوا أن الشرع كثيراً ما تكون أحكامه مخالفة لمقتضيات المناسب العقلي، مثال ذلك عدة الحرة وعدة الأمة وعورة الحرة وعورة الأمة، وكاعتبار الماء فقط في الطهارة، وعند فقده التراب، وعدم اعتبار المطهرات الكيماوية كالكحول وما شابهها، فهذا مما لا يتفق فيه الشرع مع المناسب العقلي.
عند الوقوع في هذه التناقضات لوحظ أن من المناسب العقلي ما يأتي أحياناً متفقاً مع الشرع، ومنه ما يظهر تصادمه مع الشرع. ومنه ما لا يوجد نص يؤيده ولا نص يرده. فقسموا المناسب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهو المناسب الذي شهد له الشرع بالاعتبار ويطلق عليه المناسب المعتبر.
القسم الثاني: وهو المناسب الذي شهد الشرع بإلغائه، وهو الذي يقرره العقل علة للتشريع، ولكن الشرع يدل على عدم مناسبته وعدم عليته.
القسم الثالث: وهو المناسب -العقلي- الذي لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء. وهو الذي يقال له المناسب المرسل.
وقد قالوا إن المناسب هو المصلحة. فقالوا: المصلحة المرسلة. وهذا من قبيل اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم. إذ مهما كان الوصف الذي جاء لأجله الحكم فإن هذا الوصف مصلحة. والعقل لا يرى مناسباً إلا ما يراه مصلحة. فكل العلل يجمعها وصف المصلحة. ثم إن المصلحة موجودة في كل حكم طلبه الشارع، والمفسدة موجودة في كل حكم نهى عنه الشارع، ودرء المفسدة مصلحة، فتكون المصلحة هي الوصف المناسب في أي حكم، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.
وبناء على هذا، أي تقرير أن الوصف المناسب هو المصلحة، تم تقسيم المصالح من حيث الاعتبار، مثل تقسيم المناسب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المصالح المعتبرة وهي التي شهد لها الشرع بالاعتبار بدليل نص عليها.
القسم الثاني: المصالح الملغاة وهي التي شهد الشرع ببطلانها، وذلك كفتوى يحيى بن يحيى الفقيه المالكي للخليفة عبد الرحمن بن الحكم الأموي لما واقع في نهار رمضان أن عليه صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه ذلك حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله لذلك قال: لو أمرته بتلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به. فهذا قول باطل مخالف لنص السنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي قال له: واقعت أهلي في رمضان. قال له: "أعتق رقبة، قال: لا أجدها. قال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أطيق. قال: أطعم ستين مسكيناً" ( هذه القصة توجد في معظم كتب الأصول التي تتحدث عن المصالح المرسلة . وهذه المصالح لا خلاف في عدم اعتبارها.)
وهذه المصالح لا خلاف في عدم اعتبارها.
القسم الثالث: ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا بالبطلان. وهذا القسم هو ما أطلق عليه المصالح المرسلة. وهي كما هو واضح: المرسلة من الدليل. فلا دليل من الشرع يدل عليها. وإنما تعتبر المصلحة بناء على نظر العقل بأنها تجلب مصلحة أو نفعاً أو صلاحاً، أو تدفع ضرراً أو تدرأ فساداً.
وإلى هذا التقسيم للمصالح والتعليل بالمصلحة يذهب كثير من المعاصرين من الكتاب في الأصول . فمثلاً الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يستنتج أن المصالح علل للأحكام، ولكنه يضع للمصلحة شروطاً يسميها ضوابط فيقول : "على أن الذين اعتبروا العقائد والأمور التعبدية قائمة على المصالح الأخروية، لا يخالفون فيما ذكرناه، وإنما قصدهم أنها غير مستندة إلى وصف مناسب واضح في الأذهان يمكن القياس بموجبه، بخلاف المعاملات وبقية الأحكام المفصلة مباشرة بمصالح الحياة الدنيوية، فهي أو معظمها قائم على أساس العلل الواضحة في الأذهان مما يفسح المجال للقياس عليها" ضوابط المصلحة، ص 87، فهو يَعُدّ المصالح وصفاً مناسباً، لمجرد أن يتضح في الذهن أنها مصالح، وبذلك تكون علة للأحكام.
أما الإمام النبهاني فيناقش موضوع عِلّيّة المصالح بإسهاب تحت عنوان: "جلب المصالح ودرء المفاسد ليسا علة للشريعة بوصفها كلاً ولا علة لأي حكم بعينه" الشخصية الإسلامية، ج3، ص 367. وهو يميز مقصد الشريعة أو الغاية عن العلة، فيقول : "الغاية من الشريعة الإسلامية بوصفها كلاً هو جلب المصالح ودرء المفاسد، وليس جلب المصالح هو علة الشريعة الإسلامية بوصفها كلاً ولا هو الغاية من كل حكم بعينه من أحكام الشريعة، ولا علة لكل حكم بعينه" المصدر نفسه ص 375 ، ويقول : "وعليه فإن جلب المصالح ودرء المفاسد لا وجود لها في الأحكام الشرعية، لا من حيث استنباطها، ولا من حيث تشريعها وليس هما علة للأحكام ولا بوجه من الوجوه، وحتى العلل الشرعية المستنبطة من أدلة شرعية، ليست هي مصالح العباد، وإنما هي المعاني التي دل عليها الدليل الشرعي بغض النظر عن المصالح والمفاسد". المصدر نفسه، ص 385.
ونسب الشوكاني إلى المحصول: "أن الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين: الأول: أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة.. والثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم" إرشاد الفحول، ص 214- 215.
وقد عرّفه البعض بأنه -المناسب- عبارة عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول، قال أبو زيد الدبّوسي، وقاله الشاطبي. وذكر ابن قدامة المقدسي أن المناسب هو الوصف الذي يكون في إثبات الحكم عقيبه مصلحة ( روضة الناظر وجنة المناظر). وضرب علي الشاشي مثلاً فقال: "إذا رأينا شخصاً أعطى فقيراً درهماً غلب على الظن أن الإعطاء لدفع حاجة الفقير وتحصيل مصالح الثواب" أصول الشاشي ، ويستنبط من هذا أن دفع الحاجة وتحصيل الثواب وصف مناسب فيكون علة للإعطاء.
وينقل الشوكاني عن الرازي قوله : "المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فالأول كالغنى علة لوجوب الزكاة، والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر" إرشاد الفحول. وينقل أيضاً عن ابن الحاجب تعريفه للمناسب : "المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحة أو دفع مفسدة" " إرشاد الفحول ، والتعاريف هذه كلها تُدلي بالمعنى نفسه تقريباً.
ويرى سيف الدين الآمدي أن الأصح في تعريف المناسب : "هو عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع الحكم" " إرشاد الفحول ، وهذا التعريف يختلف عن التعاريف السابقة بأنه لا يظهر للعقل دوراً في تقرير المناسبة، وبالتالي في تقرير العلة وبالتالي في التشريع بالعقل.
وعلى الاختلاف في فهم واقع المناسب ينبني اختلاف وتفصيل في قبوله كأصل في الدلالة على التعليل أو ردّه أو التفصيل فيه. ولذلك نجد أئمة الأصول ذكروا في المناسب أقساماً: المؤثر والملائم والغريب.
وعند التحقيق في معنى المناسب يتبين أنه يطلق بإزاء معنيين. الأول: ما ليس للعقل أن يحكم فيه أو يقرر، وليس إلا أن يفهم المناسبة من النص أو النصوص الدالة عليها. والمناسبة بهذا المعنى هي المناسبة بين الحكم والوصف، وهي المناسبة التي جعلها بعض الأئمة من الدلائل على عِلّيّة ذلك الوصف لذلك الحكم. فالمناسبة بهذا المعنى لا بد أن يدل عليها الشرع، وأن يفهم الفقيه أو المجتهد تلك الدلالة فهماً من النص أو النصوص. وزيادة في التأكيد والتوضيح فإن هذا المعنى لا يتضمن أن يعين الفقيه أو المجتهد المناسبة بعقله، لأن هذا هوىً وتشريع بالعقل.
والمعنى الثاني للمناسب هو ما يصح للعقل أن يحكم فيه وأن يقرره -وهذا يتحتم أن يكون خارج أمور التشريع، لأن التشريع تحسين وتقبيح، والعقل لا دور له فيهما- أو أن يكون مما أبيح للإنسان أن يحكم فيه. وهذا المعنى فيه أنواع، فقد يكون فيه ما يُرْجَعُ فيه إلى الخطأ والصواب، أو ما يرجع فيه إلى العرف أو إلى الطبع والمزاج. مثال الأول دخول الحرب بأسلحة قديمة ضد عدوّ يستعمل أحدث أنواع الأسلحة، فهذا يقال فيه إنه خطأ وغير مناسب. والثاني: كالزيارة بعد منتصف الليل أو وقت القيلولة، فهذا أيضاً يُستعمل فيه قول: غير مناسب. والثالث كأن يقال: هذا اللون يناسب هذا اللون أو لا يناسبه، أو هذه الحبّات متناسبة مع بعضها لتكون في سلك واحد. وقد يكون من المناسب أمور يعسر وضعها تحت نوع معين، كقول: هذان الزوجان يناسب كل منهما الآخر، فقد تكون المناسبة عائدة إلى الطباع أو إلى الميول أو إلى الاهتمامات عند كل منهما أو غير ذلك.
وهذا المعنى الثاني للمناسبة لا يفيد في التعليل لأن الذي حكم بها هو العقل وحده. فكانت العلة علة عقلية، وكان الحكم حكماً عقلياً. ولم تكن العلة شرعية ولا الحكم شرعياً.
وقد اتفق القائسون على اعتبار المناسبة التي ذكرناها عند المعنى الأول. وهي المناسبة التي دل عليها الشرع. أو كما قالوا فيها: المناسب الذي شهد له الشرع بالاعتبار. أما المناسب الذي لم يشهد له الشرع بالاعتبار، فهو من قبيل النوع الثاني، أي المناسب بحكم العقل وحده، فهذا قسمان: قسم شهد الشرع بإلغائه، وهذا اتُّفِق على ردّه. وقسم لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء، وهذا اختلف فيه ولذلك رأى البعض أن العبرة ليست بالمناسب. إذ إنه كثيراً ما يكون غير مؤثر في الحكم. وأطلق على غير المؤثر: المناسب الغريب. قال ابن تيمية : "وإن عُلِمَ تأثير الوصف في حكم الأصل بالاستنباط وكان الوصف مناسباً، فإما أن يُعْلَمَ تأثيره في غير الأصل بنص أو إجماع أو أن لا يعلم له تأثير في غير الأصل. فالأول هو المناسب المؤثر والملائم والثاني هو الغريب.." المسودة ص 408 ثم قال : "وكلام القاضي والعراقيين يقتضي أنهم لا يحتجون بالمناسب الغريب ويحتجون بالمؤثر مناسباً كان أو غير مناسب" المسودة. وهذا يدل على اعتبار المناسب أحياناً وعدم اعتباره أحياناً أخرى، وأن المؤثر يعتبر دائماً. وهذا مرده أن المناسب قد يكون بدلالة الشرع -كما قال ابن تيمية بنص أو إجماع- وبالتالي يكون معتبراً، وقد يكون بمحض العقل وبالتالي لا يكون معتبراً.
أقسام المناسب
أما الذين توسعوا في استخراج المناسبة وعدّوها علة، ولو كانت مجردة عن الاعتبار الشرعي، وأفلتوا لعقولهم العنان ليبحثوا ويقدّروا ويقرّروا للأحكام عللاً لا يشهد لها الشرع بدلالة كلية ولا جزئية، فقد وقعوا في أخطاء، ولاحظوا أن تعليلاتهم ومقتضيات عقولهم كثيراً ما تأتي مصادمة للشرع، ولاحظوا أن الشرع كثيراً ما تكون أحكامه مخالفة لمقتضيات المناسب العقلي، مثال ذلك عدة الحرة وعدة الأمة وعورة الحرة وعورة الأمة، وكاعتبار الماء فقط في الطهارة، وعند فقده التراب، وعدم اعتبار المطهرات الكيماوية كالكحول وما شابهها، فهذا مما لا يتفق فيه الشرع مع المناسب العقلي.
عند الوقوع في هذه التناقضات لوحظ أن من المناسب العقلي ما يأتي أحياناً متفقاً مع الشرع، ومنه ما يظهر تصادمه مع الشرع. ومنه ما لا يوجد نص يؤيده ولا نص يرده. فقسموا المناسب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهو المناسب الذي شهد له الشرع بالاعتبار ويطلق عليه المناسب المعتبر.
القسم الثاني: وهو المناسب الذي شهد الشرع بإلغائه، وهو الذي يقرره العقل علة للتشريع، ولكن الشرع يدل على عدم مناسبته وعدم عليته.
القسم الثالث: وهو المناسب -العقلي- الذي لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء. وهو الذي يقال له المناسب المرسل.
وقد قالوا إن المناسب هو المصلحة. فقالوا: المصلحة المرسلة. وهذا من قبيل اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم. إذ مهما كان الوصف الذي جاء لأجله الحكم فإن هذا الوصف مصلحة. والعقل لا يرى مناسباً إلا ما يراه مصلحة. فكل العلل يجمعها وصف المصلحة. ثم إن المصلحة موجودة في كل حكم طلبه الشارع، والمفسدة موجودة في كل حكم نهى عنه الشارع، ودرء المفسدة مصلحة، فتكون المصلحة هي الوصف المناسب في أي حكم، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.
وبناء على هذا، أي تقرير أن الوصف المناسب هو المصلحة، تم تقسيم المصالح من حيث الاعتبار، مثل تقسيم المناسب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المصالح المعتبرة وهي التي شهد لها الشرع بالاعتبار بدليل نص عليها.
القسم الثاني: المصالح الملغاة وهي التي شهد الشرع ببطلانها، وذلك كفتوى يحيى بن يحيى الفقيه المالكي للخليفة عبد الرحمن بن الحكم الأموي لما واقع في نهار رمضان أن عليه صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه ذلك حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله لذلك قال: لو أمرته بتلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به. فهذا قول باطل مخالف لنص السنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي قال له: واقعت أهلي في رمضان. قال له: "أعتق رقبة، قال: لا أجدها. قال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أطيق. قال: أطعم ستين مسكيناً" ( هذه القصة توجد في معظم كتب الأصول التي تتحدث عن المصالح المرسلة . وهذه المصالح لا خلاف في عدم اعتبارها.)
وهذه المصالح لا خلاف في عدم اعتبارها.
القسم الثالث: ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا بالبطلان. وهذا القسم هو ما أطلق عليه المصالح المرسلة. وهي كما هو واضح: المرسلة من الدليل. فلا دليل من الشرع يدل عليها. وإنما تعتبر المصلحة بناء على نظر العقل بأنها تجلب مصلحة أو نفعاً أو صلاحاً، أو تدفع ضرراً أو تدرأ فساداً.
وإلى هذا التقسيم للمصالح والتعليل بالمصلحة يذهب كثير من المعاصرين من الكتاب في الأصول . فمثلاً الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يستنتج أن المصالح علل للأحكام، ولكنه يضع للمصلحة شروطاً يسميها ضوابط فيقول : "على أن الذين اعتبروا العقائد والأمور التعبدية قائمة على المصالح الأخروية، لا يخالفون فيما ذكرناه، وإنما قصدهم أنها غير مستندة إلى وصف مناسب واضح في الأذهان يمكن القياس بموجبه، بخلاف المعاملات وبقية الأحكام المفصلة مباشرة بمصالح الحياة الدنيوية، فهي أو معظمها قائم على أساس العلل الواضحة في الأذهان مما يفسح المجال للقياس عليها" ضوابط المصلحة، ص 87، فهو يَعُدّ المصالح وصفاً مناسباً، لمجرد أن يتضح في الذهن أنها مصالح، وبذلك تكون علة للأحكام.
أما الإمام النبهاني فيناقش موضوع عِلّيّة المصالح بإسهاب تحت عنوان: "جلب المصالح ودرء المفاسد ليسا علة للشريعة بوصفها كلاً ولا علة لأي حكم بعينه" الشخصية الإسلامية، ج3، ص 367. وهو يميز مقصد الشريعة أو الغاية عن العلة، فيقول : "الغاية من الشريعة الإسلامية بوصفها كلاً هو جلب المصالح ودرء المفاسد، وليس جلب المصالح هو علة الشريعة الإسلامية بوصفها كلاً ولا هو الغاية من كل حكم بعينه من أحكام الشريعة، ولا علة لكل حكم بعينه" المصدر نفسه ص 375 ، ويقول : "وعليه فإن جلب المصالح ودرء المفاسد لا وجود لها في الأحكام الشرعية، لا من حيث استنباطها، ولا من حيث تشريعها وليس هما علة للأحكام ولا بوجه من الوجوه، وحتى العلل الشرعية المستنبطة من أدلة شرعية، ليست هي مصالح العباد، وإنما هي المعاني التي دل عليها الدليل الشرعي بغض النظر عن المصالح والمفاسد". المصدر نفسه، ص 385.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية :: أصول الفقه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى