شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد

اذهب الى الأسفل

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 20, 2011 8:49 am

مقدمة:
قد يسعف النظر في الأسس التاريخية والجذور المعرفية لنشوء العلوم الإنسانية، في فقه الإشكالات المرتبطة بأبعادها الغائية والمقصدية، وذلك من حيث مظاهر تفعيلها، وشروط إعمالها، وتمثلاتها الوجودية في الواقع البشري، كما يعين على التماس أجوبة عن باقي الأسئلة المصاحبة؛ لأنّ التفكير في بدايات ظهور هذه العلوم وظروف تأسيسها تبين عن محددات العقل الباحث في تحديد الغايات والمقاصد، التي رسمها الفكر الإنساني لتلك العلوم.
تحاول هذه الدراسة رصد هذا الاقتفاء التاريخي، وتتبع آثاره المعرفية، علّها تظفر بفهم أعمق لأحد أهم الإشكالات العلمية المتعلقة بوجود العلوم في الفكر الإسلامي، وفلسفة تأسيسها، إسهاماً منها في البحث عن أوجه البيان المعرفي "الإبستمولوجي" لتلك القضايا.
وعلى هذا التأسيس النظري تظهر إشكالات لها ارتباط بنشأة العلوم، من أهمها: إمكانية إنشاء علوم جديدة كعلم مقاصد الشريعة، وبيان مدى صحة ذلك في النظر العلمي، وثباته في الواقع الوجودي بين العلوم من حيث الضرورات والمسوغات. وبناء عليه تتمحور الدراسة حول التساؤلات الآتية:
كيف تم إنشاء العلوم في الفكر الإسلامي؟ وما هي الأسس العلمية والمنهجية التي قامت عليها؟ وما هي القيم المقصدية من وجود تلك العلوم؟ وهل هناك حاجة ملحة لتأسيس علم جديد هو علم مقاصد الشريعة؟


عدل سابقا من قبل سامح عسكر في السبت يناير 31, 2015 6:18 am عدل 2 مرات




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28509
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty رد: نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 20, 2011 8:49 am

أولاً: في تاريخ العلوم ونشأتها؛ العلوم الإسلامية الأصلية والتبعية
تنـزع الأصول المعرفية لنشأة العلوم إلى حقيقة الوعي الكلي بحقيقة الوجود، فهماً وفقهاً وتفسيراً، بما يكشف ذلك عن ارتباط مادي وفلسفي في الحياة. ويتطلب ذلك أمرين: فهم الذات وفهم الكون. إنّ فهم الذات عموماً، يؤسس للنظر الإنساني ومنطلقاته، الذي يستكشف به الإنسان مكوناته الأصيلة، سواء ما نـزع إلى الجوانب الروحية أو ما ارتبط بالهوامش المادية فيه. أما فقه الكون فيؤسس للمعارف الوجودية والإلهية القائمة على توجيه الأنظار في العلاقة الوثيقة بين التمثل الثقافي للإنسان، والمعرفة الاعتقادية في الوجود، في حين يشير تفسير ذلك الإدراك إلى إنتاج معارف علمية تخضع للتفسير الفلسفي لمحيط الإنسان، وبيان حقائق الاجتماع البشري. فكانت كل العلوم الناشئة والمتفرعة عنها تنتهي أبعادها المعرفية في استيعاب الحقائق الإنسانية، وخدمة وجودها بالفعل، وامتداد حضورها بالقوة.
ولا تشذ علوم الزمن الإسلامي عن السياق التاريخي لعلوم باقي الأزمان، من حيث أصولها في النشأة والتأسيس، وإن عرفت اتجاهات معرفية ومسارات إدراكية مغايرة، في جانب المقاصد الإنسانية والغايات الوجودية، فالمنهج القرآني يشكل طفرة جديدة لعلوم سابقة العهد والنشوء والتطور والإنتاج، ويؤسس لانطلاقة مغايرة في مسار علوم حديثة التاريخ بالتكوين والإعمال، ستعرف تأثيراً وتأثراً معها، إما من حيث التكامل المعرفي، أو من حيث الاستعارة المنهجية أو التقصيد الكوني.
إنَّ مهمة الاستئناف الثقافي والحضاري التي شغلت العقل الإسلامي بآلياته العلمية والمعرفية، هي التي رسمت خارطة سبل إنشاء العلوم الإسلامية بخصائص مميزة، وأدوات مستقلة تستجيب للضرورات الداعية لفهم الذات الإنسانية، وفقه الحياة الكونية، وتفسير القضايا الكلية للعلاقة بين الإنسان والنص والوجود.
ومن الميزات اللافتة في ظهور العلوم الإسلامية، أنَّ أغلبها -إن لم تكن كلها- تم إنشاؤها على محامل الضرورات الشديدة في طلب غايات الإنسان الوجودية، وخدمة قضاياه الحياتية؛ أي إنَّ لها تمثُّلات يعيشها الاجتماع البشري، وتكونت عبر تاريخها المعرفي وهي تحمل في داخلها عوامل استمرارها وقوة بقائها، ويبدو ذلك في تفتق علوم أخرى خادمة لبقائها واستمرارها، وتلك مسألة لها أهميتها الخاصة في التكامل العلمي والمعرفي "الإبستمولوجي" للعلوم الإسلامية.
تستوقف الدارس لتاريخ العلوم الإسلامية منذ نشأتها ومسالك تطورها ثلاث ملحوظات أساسية:
1. أغلب هذه العلوم تفتقت بدايتها في نسق عملي وظيفي في مواقع الوجود، بعيداً عن التجريد والنظر، كعلوم الفقه واللغة والعقيدة والتفسير والحديث؛ أي إنها علوم استصحبت بنيتها مع تفاعلات الإنسان والكون.
2. أغلب هذه العلوم ما إن تطور بها الزمن، واشتدت بها أحوال الإنسان، حتى أنجبت من رحمها علوماً تبعية لها، وملازمة لصيرورتها التاريخية، كأصول الفقه، وأصول اللغة، وأصول الحديث، إلخ؛ لأجل تصويب أخطاء علوم الفقه واللغة والحديث، ...، وتسوية مسارها.
3. هذه العلوم عرفت تراجعاً بين الفينة والأخرى، وأبعدتها العوامل الناشئة عن غلبة الزمن وقهر التطور عن هذه المقاصد والغايات، التي لأجلها أنشئت، وقام عمرانها. إنّ هذه الملاحظ تثير فضولنا للإجابة عن أسئلة متعددة، منها سؤال الدواعي الحقيقة لولادة تلك العلوم الجديدة، والعلل المؤثرة في ذلك، ومنتهى بعدها الإشكالي من حيث التأسيس والتقصيد، وما إذا كان لعلل حضورها تفسيرات تنسجم مع حقائقها الأولى ومبادئها الإنشائية؟
تفصح القاعدة السُّننية في التاريخ البشري عن استحالة إنشاء علم من العلوم وتأسيسه عبثاً من دون قصد، بل قدّر وجودها على سبيل احتياج أصل الإبداع، ولا بدّ له من دوافع معرفية أو علمية لإيجاده وابتكاره. لذلك، من غير الأجدى فصل النبش التاريخي لبعض العلوم الأصولية عن العلوم المنتجة، بالنظر إلى الترابط التاريخي الوثيق، بل الموضوعي الحاكم في هذا التعلُّق، فلا يمكن مثلاً الحديث عن الشروط التاريخية لنشوء علم أصول الفقه، دون إرجاع النظر في ذلك إلى بدايات التشكل الموضوعي لعلم الفقه، وهكذا مع علم اللغة وأصول اللغة، وعلم الحديث وأصول الحديث.
إنَّ الظهور المتأخر للعلوم "الأصولية" أو التبعية الضابطة لمجالاتها الأصلية، يؤكد أن العلوم الأولية عرفت قصوراً موضوعياً، وصرفاً واضحاً عن الأبعاد العلمية المرسومة سلفاً لها، وإلا ما الغاية من وجودها في صورة قواعد مبادئ، تظهر في غالبيتها وضعاً لحكم أو تقريراً لمسألة، أو تصحيحاً لقضية. "فكلما كانت العلوم أكثر تشعباً، والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم، كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر." ومثال ذلك علم أصول الفقه الذي أنشئ على صيغ دالة على هذا القانون؛ إذ ظهر في تشكيلات قواعده المؤكدة وعباراته الجازمة في البيان والتقرير.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28509
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty رد: نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 20, 2011 8:50 am

ثانياً: العلوم الإسلامية، بداية تشكُّلها ومقاصدها الوجودية
1. الوحي وتفتُّق العلوم الإسلامية:
أزعم أن بدايات تشكل العلوم في الفكر الإسلامي يعود إلى علوم خمسة، كان مبدأ تفتقها مرتبط بمعين الوحي؛ أي النص القرآني والنص الحديثي. وتُعدُّ هذه العلوم أساس كل العلوم الأخرى المتناسلة عنها عبر السياق التاريخي، وهي المطلوبة بالاعتبار الأول والقصد الأصلي، كما سيتضح فيما بعد، وما سواها مطلوب لغيره ومقصود على سبيل الوساطة والاستخدام.
وتنتظم هذه العلوم ضمن خصوصيات النسق الوجودي والتفصيلي لحياة الإنسان المسلم، التي يجمعها ناظم إنساني متكامل في علاقته مع الكون والوجود، تنتهي أبعادها القصدية عند كليِّة العبادة ﮋﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﮊ (الذاريات: 56) وقد نبَّه أبو حامد الغزالي إلى ما يشير إلى ذلك بقوله: "فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث، والتفسير، علوم جزئية؛ لأن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة، والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة، والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء، وهو الموجود."
فما هي المواقع المعرفية والحضارية لهذه العلوم الأساسية الاعتبار، ضمن أطراف القراءة الإنسانية للوحي والوجود؟
أ. الوحي وظهور علم التفسير: تسرح القراءة الإنسانية في مجال النص القرآني بقدر ما تتيحه الخبرة والقدرة على استكناه المعاني المطلقة التي أودعت في النصوص، وذلك ما خلص إليه العقل التفسيري، الذي لم يعط مفاتيحه إلا لمن أوتي تشريفاً لا يحوزه كثير من الناس، فكانت بذلك البداية الحقيقية لعلم التفسير، الذي إليه ترد كافة المعارف الأخرى استعانةً وتبييناً؛ "إذ كتاب الله تعالى لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه."
وعلى امتداد التلاوة الكلية للنص القرآني كان لزاماً استحضار أسس الفهم الإنساني للخطاب الإلهي، من حيث تفسير معانيه الكبرى، وتأويلها وفق القضايا التاريخية المتعينة، فاستُحضر علم التفسير بوصفه مطلوباً تستدعيه الضرورة العلمية لتحقيق قيم التعبد والاستخلاف والشهود في الكون، بل إن علم التفسير أصبحت له من القداسة ما تجعله صعب الإدراك، ولا يُحظى به إلا ذوو خصوصية وتشريف، كالدعاء الذي خص به النبي  ابن عباس رضي الله عنه عندما قال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل." وهو علم لا يستقيم للعالم في واحد من العلوم النظرُ فيه كما قال الزمخشري: "إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق مسلكها، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم...." حتى تكتمل لديه خصوصيات القراءة في الكتاب الموجبة لفقه الحياة والكون.
ب. الوحي والسُّنة وعلم الحديث: والسنة هي الامتداد الشرعي للنص القرآني ضمن مكون الوحي ﮋﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ (النجم: 3-4)، إلا أن المثال النبوي الحديثي من جوانب القول والفعل والتقرير أسَّس للتجربة المثالية، التي ينبغي استثمارها في السياق البشري، لاعتبارات تأكيدية وتقريرية لا تخرج عن ذلك النسق، وهو الأمر الذي عجَّل بظهور علم الحديث وفقهه.
ولئن تأخرت العناية بالحديث الشريف كتابةً وحفظاً وتدويناً، فإنّ استحضاره في صيرورة التعبد والفهم السليم للنص القرآني، بدا جلياً في مصاحبة الجيل الفريد للنبي ، واستهدائهم بهديه، والاحتكام إليه في حالة الشجار والتسليم بقضائه: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﮊ (الأحزاب: 36) واستمر ذلك التناسق في وحدة تلقائية بحسب الوفاء للنص الحديثي وفاء ضمنياً للنص القرآني.
ت. الوحي والغاية من خلق الإنسان: ترسو مطالب القراءة المعرفية للنص القرآني، بناء على علم التفسير عند المعاني المقصودة بالقصد الأصلي من خلق الإنسان ابتداء، وتستعين في فقه القضايا العقدية والإيمانية للإنسان التي تيسر سبل العبادة والتدين، فكان لزاماً من تأسيس العلم المخصوص بذلك وهو علم العقيدة. يقول أبو إسحاق الشاطبي في هذا السياق: "وأما الإيمان فإنه عمل من أعمال القلوب، وهو التصديق، وهو ناشئ عن العلم، والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى بعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها، أما العلم فإنه وسيلة، وأعلى ذلك العلم بالله، ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه، وهو الإيمان بالله." وقد عبر عنه أبو حامد الغزالي في النص السابق بالعلم الكلي من العلوم الدينية.
ولا تنفك الاستعانة بعلم العقيدة عن الشروط الموضوعية لنشوء علمي الفقه والتفسير، بوصفه يملأ فقرة مهمة في الحضور الإنساني المتكامل للاستخلاف، ويتمثل ذلك في جانب التوحيد والعبودية للخالق الواحد، وهي المهمة التي أسندت لهذا العلم منذ بداياته الأولى. وعليه؛ فإن قضايا الإيمان والتوحيد والربوبية وبيان العقيدة الجديدة عُدَّت جوهرية في ترسيخ مبدأ التعبد الإنساني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن علم العقيدة المقصود هنا، ليس هو علم الكلام أو علم التوحيد بما هو "علم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، ويسمى أصحابه بالمتكلمين أو متكلمي الإسلام؛" لأنَّ ذلك يمثل مرحلة علمية أخرى لم يستقل فيها علم العقيدة عن مجاله بعد.
ث. الوحي وضرورة التشريع: تفتقر القراءة الكلية والجزئية للنص القرآني إلى الآلية المثلى الكفيلة بتفسيره وبيانه، وذلك ما مكَّن للوجود اللغوي موقعه ضمن أطراف عملية القراءة الكونية للوحي، بل إنَّ السر الإعجازي المرتبط بالجانب اللغوي؛ أي اللسان العربي ضاعف من تلك الحاجة الملحة والأهمية الاعتبارية، فمنح علم اللغة أحقيته في مشروع البداية مع تلك العلوم القارئة.
ولا يمكن التشكيك في التمكين اللغوي للسان العربي في مرحلة ما قبل الوحي، إلا أن ثباته الوجودي من جانب الفعل والقوة لن يستقيم إلا مع الفرض القرآني المتمثل في نصوص الوحي؛ لأنّ هناك قيمة مضافة لهذا اللسان، انسجمت مع مكونات الحفظ والسلامة للذكر المرتبط به، فاللغة بوصفها لساناً تداولياً متشبعاً بالشروط والضوابط السليقية، أكدت استقرارها وحضورها الدائم منذ بداية الوحي، "لأنَّه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن عَلِمَهُ انتفت عليه الشُّبَه التي دخلت على من جهل لسانها." إلا أن اعتباراتها القاعدية والأصولية لم تسجل حضورها إلا في مراحل متأخرة، ولأسباب سنذكرها فيما بعد، وذلك ما يفسر الاحتفاء الوجودي والضروري بالمنطق اللغوي في مرحلة ما بعد النص. فكان لهذا التناسق والتكامل في الحضور بين اللسان التداولي والنـزول القرآني الأثر الكبير في ثباتية التنـزيل، والتأكيد الضروري والقاطع في ضمان استمرارية حفظ الذِّكر.
ج. الوحي؛ فقه النص وبيانه العملي: يتمثل القصد الوسيط أو المطلوب من فعل القراءة الإنسانية للنص القرآني، في تحقيق التمثل العملي للأحكام الشرعية ذات الصبغة الاكتسابية، وفق الأدلة التفصيلية الراجعة إلى النصوص الكلية للقرآن الكريم. وينحصر ذلك في فقه الخطاب الشرعي الذي يضمن الولوج المناسب والصحيح للمقصود القرآني، والنهائي الذي هو فقه العقيدة، لذلك لم يتخلف علم الفقه عن الحضور منذ البدايات الأولى لحضور النص الشرعي.
وقد نشأت المعرفة الفقهية في البدء على ضرورة فقه الخطاب الشرعي العام، الذي يحمل جماع الكليات الفقهية، حتى يتحقق في السعي الإنساني، فكانت الأحكام الفقهية في تمثلاتها تتصرف على العهد النبوي مشخصة وماثلة مع الصحابة رضوان الله عليهم، ولم تكن حركة علمية منتظمة، في الاعتبارات العلمية والخصائص المنهجية إلا مع ظهور بوادرها وبداياتها، خاصة مع التوجيهات النبوية، وحينها عُرف تفتق مواهب بعض الصحابة حسب كل علم.
وقد أفصح الفقه في هذه المرحلة عن تجلياته المقصدية، من حيث هو تصريف عملي للأحكام الشرعية في الواقع الإنساني، يطلب به المسلم مقصد العبادة والتسبيح بحمد الرب الخالق.
2. تصنيف العلوم ومراتب الوظيفة:
سبقت الإشارة إلى أن كل العلوم المرتبطة بالمجال التداولي الإسلامي تعود في مصدرها إلى النص القرآني، بوصفه المعين الأول الذي وجه الأنظار إلى ابتكار المعارف، واستنباط الأصول الخادمة على القصد الأول من النـزول والتنـزيل؛ الذي هو سلامة التعبد والتدين، كما أن هذا المعين لا ينضب في التماس الآليات والوسائل العلمية في تمكين الأنظار المعرفية، ووصلها بالثابت الإنساني مع الكون، فظهر علم الفقه، ونشأ علم الحديث، وابتكر علم العقيدة، وعلم اللغة، وعلم التفسير.
إن التشابك التاريخي بين العلوم، والتداخل المعرفي بينها منذ نشأتها، يحاصرنا في تحديد العلم المقصود بالقصد الأصلي أو الأول، وتمييزه من العلم المطلوب بالقصد التبعي أو الثاني. كما يمنعنا من رسم الخط التاريخي لعلم من العلوم في صورته المتعينة والجلية، الأمر الذي يدفعنا إلى تقديرات تحققها قرائن موضوعية وعلمية، نرجحها على الظن الغالب. وبناء عليه يمكن تصنيف هذه العلوم إلى صنفين:
أ. علوم أصلية: وهي العلوم التي نشأت ابتداءً على أساس الاستيعاب والتحقق منها في مواقع الوجود الإنساني؛ أي إنها مقصودة بالتنـزيل والتطبيق والعمل الإفرادي. ويدخل في ذلك علم التفسير وعلم الفقه وعلم العقيدة وعلم اللغة، وغير ذلك من العلوم التي لها اعتبارات خادمة لتلك المقاصد والأهداف، فهي علوم لها ارتباطات مباشرة وأبعاد منهجية مع المنهل القرآني من حيث الأصل، ومع الإنسان المتلقي من حيث العمل والإعمال.
ب. علوم تبعية: وهذه العلوم توصف بالعلم على سبيل الجواز؛ لأنّها استحدثت من أجل خدمة المقتضيات العلمية للعلوم الموضوعية، فهي وسائل وآليات خاصة لاستكمال مهمة العلوم الأولى، والبحث في شروطها. وتحقيق النظر في مسائلها ضرب من التجريد والنظر البعيد عن الأصول العلمية؛ لأنّها قامت على أساس مشكلات علمية حاصلة في المصادر، لا في تطبيقات تلك الأصول وتنـزيلاتها؛ فأصول الفقه مثلاً تم تأسيسه بعدما حل الضعف في الإمكانات العملية للفقه، وقصوره عن استكمال مهمته، وإلا لم تدْعُ الضرورة إلى تقعيده حين تكون للفقه قيامة وحضور. ثم لأن هذه العلوم كان لها ورود مضمر في العلوم الأصلية، وإن لم يتم الاستدلال على إيحاءاتها بصورة واضحة ومتعينة، فهي جزء لا يتجزأ منها. وتجريدها عن جذورها نظر في الغالب يجانب سلامة النظر وصحة العلم.
كما أن مقتضيات الشروط الواقعية والضرورة الشرعية التي أملت العناية اللازمة بالعلوم الأصلية، واشترطت أيضاً حضورها في السياق التاريخي للأمة منذ بداية الرسالة، جعلت تلك العلوم رهينة بالتطوير والتقصيد العملي على مستوى التمثل والعمل. وهذه المقتضيات نفسها استصحبت في تسويغ الاعتبار العلمي للعلوم المنظمة الرديفة، التي أنشئت إنقاذاً وتصحيحاً للعلوم الأصلية، فكان ذلك الاستصحاب مبنياً على قاعدة إتمام الواجب. وذلك ما ألمح إليه السُّبكي بخصوص الحاجة إلى أصول الفقه كما أصول اللغة؛ لأنّه لما "فسدت الألسن وتغيرت الفهوم فيُحتَاجُ إليه كما يحتاج إلى النحو."
إذن شكّلت العلوم الأولية؛ أي أمهات العلوم الواجب حفظها والعناية بها، دراسة وفقهاً وتمثلاً في الحياة الإنسانية بوصفها مداخل أساسية في العبادة الكونية والاستخلاف الحضاري، فإن ما يقوِّي من قيامها وإصلاح شأنها -حتى تستكمل غايتها ليعتبر من أساسها أيضاً، ويستعير الحكم الأصلي المندرج في خاصية الوجوب، بناء على القاعدة المشهورة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب." وقد أشار إلى ذلك الشاطبي في قاعدة احترازية من دخول ما لا ينبني عليه عمل قائلاً: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب و عمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً."
لذلك فإن تمامية الواجب المتعين في قيامة تلك العلوم وازدهارها، وفق المتطلبات الأساسية في الكون والوجود، تطال العلوم الضابطة المركبة إضافياً مع الأصول، كعلم أصول الفقه وأصول الحديث وأصول اللغة وأصول التفسير وأصول العقيدة، التي ينبغي أن تستصحب معها شرط تلازمية العمل في مسائلها. وقد ذكر ابن تيمية كلاماً في هذا السياق يقضي فيه بوجوبية الإعمال الفهمي للغة في فقه الخطاب الشرعي، وذلك على سبيل إتمام وجوبه فقال: "فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب." وهو الأمر الذي استوجب الحضور التاريخي لهذه العلوم وإنشائها على سبيل التقصيد العلمي، بحفظ المعارف العلمية المشخصة، وتفعيلها في الفقه والتفسير والحديث واللغة والعقيدة.
3. تشكّلُ العلوم في القيم المقصدية:
لعلوم الزمن الإسلامي خصوصية متفردة عن غيرها، تتمثل في معادها الأول إلى معين الوحي ونصوصه الملازمة له؛ لأنّ وجودها الفعلي ارتبط ببداية الرسالة القرآنية، وتكونت في رحم التاريخ النبوي المصاحب لها، الأمر الذي يجعل النظر في تاريخ العلوم يربط استحداثها من حيث المقاصد العلمية مع القيم الكبرى الخاصة بتلك الرسالة.
يتحقق السياق الوجودي للعلوم الإسلامية الكبرى الحاكمة، وهي علم الفقه وعلم التفسير وعلم العقيدة وعلم الحديث وعلم اللغة في تناغمها مع كليات مقصدية، وهي التعبد الإلهي والاستخلاف الأرضي والشهود الإنساني.
أ. التعبد الإلهي: ويتصور ذلك في معنى الآية الكريمة ﮋﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﮊ (الذاريات: 56)، ومن الآيات الدالة على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﮋﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮊ (هود:1-2)، وقوله سبحانه: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﮊ (الأنبياء:25) قال الشاطبي: "بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها، إلا تذكرة، إلا كذا، وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم، والآيات في هذا المعنى لا تحصى." لذلك فإن الغاية من البحث في العلوم الإسلامية لا تخرج عن خدمة العقيدة، "وما تم ذلك إلا بتكون الذهنية الإسلامية على مبدأ التوحيد المعرفي المتأتي من التوحيد الإيماني، الذي سلك قدرات الإنسان المعرفية في خط واحد، وهو ما جعلها تتجه إلى الله الواحد في كل ما تروم من الحقيقة."
ب. الاستخلاف الأرضي: إن الاستخلاف الإنساني في الأرض وعد إلهي في السنن الحضارية، تحقيقه الوفاء،كلما تمثل الإنسان الشروط الإيمانية، وما يستتبعها من لواحق العمل ذي القيم الصالحة في الأرض وبين الناس، وهو المقصد الأسمى من تفعيل القيم العلمية للإنسان في الوجود. ﮋﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮊ (سورة النور: 55)
ت. الشهود الإنساني: يبقى الشهود الثقافي نهاية التكليف الإلهي للإنسان، وغاية استحقاقات الوفاء بالأمانة المعروضة عليه، ثم إن الأمة بما هي مستأمنة في الوجود والكون بحكم مقتضيات الوسطية ومستلزمات الخيرية لقوله تعالى: ﮋﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﮊ (آل عمران: 81) فهي أيضاً مستأمنة على البلاغ والبيان للأمم الأخرى، عملاً بالميثاق الإلهي المأخوذ، ومقتضيات الشهادة الإنسانية المتعينة، سيراً على الهدي القرآني ﮋﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﮊ (البقرة: 143).
إن التقصيد الإنساني التكليفي الدائر حول هذه الغايات الكبرى من الوجود البشري، لا تمر إلا عبر تمثلات واقعية، وتشخيصية للقيم الإنسانية المطلوب العناية بها، والاهتمام بقدرها علماً وعملاً.
ثالثاً: تطور العلوم، من العلوم الأصلية إلى علوم أصولها
كانت العلوم الستة المذكورة، تمثل أمهات العلوم في تاريخ الفكر الإسلامي، التي عنونت جماعه وكلياته الكبرى، وهي التي تفرعت عنها باقي العلوم والمعارف المتوالية عبر التاريخ والثقافة. فكيف تخلقت العلوم الأخرى الضابطة؟ وما موقعها من السياق الوجودي والشرط التاريخي لنشوء العلوم الموضوعية؟
1. من فقه الحياة إلى فقه الأصول:
لا يستقيم الجدل في مسألة تخلّق أصول الفقه في رحم الاجتهادات الفقهية الأولى، على زمن الفقه النبوي، غير أن تعميره علماً مشتد العود، قائم الأركان، لم يكتب له إلا في أزمنة متأخرة عن ذلك، الأمر الذي يدعو ضرورةً إلى الاستفهام عن دواعي البحث في هذا العلم، ومسوغاتها، وإمكانات استمرارها عبر تاريخ العِلْمين.
إن أهم داعٍ ضروري لنشوء علم أصول الفقه هو ضبط النظر الفقهي وفق البوصلة العلمية الموكولة له ابتداء، ضبطاً في الاتجاه الموضوعي المتعلق بالتمثل العلمي السليم لنصوص الوحي تعبداً واستخلافاً؛ أو ضبطاً في الاتجاه المسلكي المرسوم سليقة وتمثلاً في الاجتهاد والنظر، فتم البحث في التأسيس لقواعد علمية وضوابط أصولية يتوسل بها في إصلاح الاجتهاد الفقهي وضبطه، حتى يعود إلى قوته، وهو ما بدأ ظهوره مع علم أصول الفقه على اجتهاد الشافعي. وفي هذا السياق يقول ابن خلدون: "واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية،[...]فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة،[...] احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه." وبذلك يمكن القول: إن ظهور علم أصول الفقه كان ظهوراً استثنائياً وظرفياً، على خلاف أصله الفقه الذي بدأ وجوده ضرورياً سياقياً. وذلك ما أشار إليه الشاطبي لمّا تنبه إلى بداية خروج علم أصول الفقه عن مهمته بقوله: "كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له، ومحققاً للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له."
2. من تفسير النص إلى أصول التفسير:
مع توالي الأزمان وتباعد المسافات الوقتية عن مرحلة النبوة، التي نشأ فيها علم التفسير محتضناً بقواعده المنصهرة في الأفهام والمدارك لدى الصحابة ومرشدهم الأول؛ إذ لم يحن بعد زمن سؤال البحث في قواعد التفسير ونظامه؛ لأنّه استرشد دوماً بالتوجهات النبوية، أضحى تفسير النصوص وفهمها يشكو -بسبب ضعف استمرار الوضع السليم المرتبط بالتعبد- من فتور في تطور علم التفسير ورقيّ مناهجه، مع إغفال القضايا الكبرى لعلم التفسير كالناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول والمحكم والمتشابه وغيرها، وكان ذلك سبباً من دواعي ظهور مدونات تنحو منحىً منهجياً في ترشيد النظر الباني والتفسيري، كتدوين ابن تيمية لمقدمة "تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل. فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحق المبين." وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى هذا الأمر بقوله: "واعلم أن القرآن نـزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه... ولم يزل متناقلاً بين الصدر الأول والسلف، حتى صارت المعارف علوماً، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة،" الأمر الذي سيدعو حتماً، إلى ضرورة إنقاذ الوضع العلمي للتفسير، فاتجهت الأنظار إلى إحداث علم أصول التفسير، حتى يستعيد تفسير الخطاب الشرعي هيبته، وتصوّب الأفهام وتتجنب الزلل.
3. من اعتقاد الأصول إلى أصول الاعتقاد:
قضية العقيدة كما القضايا الفقهية العملية، استصحبها الإنسان المسلم في تاريخ حياته تمثلاً واعتقاداً، انطلاقاً من الفهم القرآني والتوجيه النبوي، فاتخذ العلم بها مسلكاً في التلقين والبيان والشرح، إلا أنه مع تقادم الثبات على قيم الإيمان الملقنة سلفاً، تخلفت القلوب عن الوفاء بحاجاتها العقدية، إثر قصور النظر في البيان العقدي، وورود أخطاء في ذلك، واحتدام الخلاف والجدل في المسائل الكلامية، وذلك ما نبه إليه الأشعري عازماً على التأليف في قواعد علم العقيدة؛ إذ قال: "فإنه لا بدّ لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات، ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات من بين مقِّصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين معتمد للكذب الحكاية إرادة التشنيع على من يخالف...،" فتطلب ذلك كله من العقل الإسلامي التفكير في إرساء قواعد علمية، وأصول نظرية تضبط الشأن الإيماني، وتجنبه الزلل عن حقيقة صلب العقيدة الصحيحة، فظهر علم أصول العقيدة ممثلاً في علم أصول الدين أو علم الكلام كما يسميه البعض؛ لأنّ "أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية وأدلتها من الكتاب والسّنة كثير، وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة، إلا أنه عَرَضَ بعد ذلك خلافٌ في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل، وزيادة إلى النقل، فحدث بذلك علم الكلام،" فاعتبر بذلك وجهة ضرورية في الإصلاح والتمكن من ناصية السبيل السوي والقوي في تصحيح الاعتقاد.
4. من ورود الحديث إلى علم أصول الحديث:
لقد أسهم الإشراف النبوي المباشر على فقه الحديث وتفسير النص القرآني، في فهمها الفهم السليم، الذي يخدم مقاصد التعبد والاستخلاف والشهود الإنساني. كما كان لذلك الإشراف الكلمة الفصل في التحكيم النبوي لقضايا المسائل الطارئة على عهد الرعيل الأول، فاتخذ العلم بالحديث النبوي حفظاً وفهماً منهجاً تلقائياً يضمر أصولاً وقواعد لا تحتاج إلى إثباتها بالنظر وبيانها بالتدليل، بل إن التحكيم النبوي أرجأ كل ذلك إلى أجل غير مسمى، ستتم تسميته حين اختلف الصحابة فيما بعد، وافتقر إلى الأسانيد الصحيحة التي تضمن صحة الحديث وسلامة فهمه.
فلما كثر الوضع وشكك في أقوال منسوبة إلى المحكم الأول، اتجه العقل المسلم إلى بناء تلك القواعد وإحداث الأصول الجديدة التي تنخل الحديث النبوي، بتمييز الصحيح من الضعيف، والسليم من الموضوع وتصنيف الرواة، وهو العلم الذي اصطلح عليه علم أصول الحديث.
5. من استثمار اللغة إلى ضبط اللغة:
ما حدث لباقي العلوم حدث لعلم اللسان العربي، وتمثلاته الفعلية في فقه الخطاب الشرعي، من حيث التبادل العلمي في الحفظ والرعاية. غير أن التغيرات التاريخية التي حصلت لمجتمع ما بعد العهد النبوي على الخصوص، من توافد ألسنة جديدة على المجال اللغوي، وتوارد ثقافات متنوعة على الحقل الثقافي الإسلامي، عجَّل بخدش سلامة اللسان العربي، كما لحقها ما يعرف باللحن والفساد المؤثرين في ذلك الحفظ المتبادل. يقول ابن خلدون في بيان السياق التاريخي لنشأة علم أصول اللغة: "ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل، ولا كتاب، فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن؛ لأنّه بلسان العرب وعلى منهاج لغتهم." فكان ذلك كافياً في استحداث علم منهجي ضابط ينهض بمهمة الحفظ هذه للسان العربي، فتشكل بذلك علم أصول اللغة، استكمالاً للوظيفة المتعينة للغة في ابتدائها، من خلال حفظ لسانها الموكل له ذات الوظيفة. يقول الجرجاني في رفعة قدره: "وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت على فوائد جليلة ومعان شريفة، ورأيت له أثرًا في الدين عظيماً، وفائدة جسيمة، ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنـزيل وإصلاح أنواع الخلل فيما يتعلق بالتأويل...." إلى آخر القول في أهمية العلم بالقواعد اللغوية ومبادئها القيمة على سلامة اللسان العربي.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28509
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty رد: نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 20, 2011 8:51 am

رابعاً: مقارنة بين العلوم الأصلية والعلوم التبعية
1. في العملية والنظرية:
تفتقت أمهات العلوم الكبرى تأسيساً على النظر في تحقيق مقاصد كلية، وهي التعبد الإلهي والاستخلاف الأرضي والشهود الإنساني، بوصفها مقاصد نهائية ووجودية في علاقة الإنسان بالوحي، فترتب على ذلك حضور هذه العلوم؛ كعلم الفقه والتفسير واللغة والحديث والعقيدة حضوراً عملياً وتمثلياً في مواقع الوجود الإنساني. أما العلوم التبعية التي نشأت بعدها فتكونت على أسس نظرية تجريدية، تبحث في تحقيق غايات وجودية لتلك العلوم وخدمتها ليتم التمكن فيها، فغلب عليها طابع التجريد والنظر؛ كعلم أصول الفقه وأصول الدين وعلم أصول اللغة وغيرها. فهذه العلوم لها بُعد نظري من جانب الاستثمار التبعي، وإن كان لها بُعد عملي من جانب القصد الأصلي. وفي السياق نفسه يرى ابن خلدون أن مسائل علم الكلام كلام صرف وليست براجعة إلى عمل.
2. في القصدية والآلية:
المراد بخاصيتي القصدية والآلية؛ هو أن هناك علوماً ارتبط النظر فيها بالقصد الأول بضرورتها القصوى والمباشرة مع القيم العليا للكيان الإنساني، وهي قيم التعبد والاستخلاف والشهود، وأن هناك علوماً أخرى استعين بها لأجل تحقيق الشروط الأساسية لاعتبار القصد الأول، فهي علوم آلية استفرغ الوسع في درسها بالقصد التبعي لا الأصلي، وذلك ما أشار إليه ابن خلدون بقوله: "وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه؛ لأنّهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة، وصيّرها من المقاصد، وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة."
3. في القراءة والتصحيح:
توجه العقل المسلم إلى النظر في كتاب الوحي بقصد قراءته قراءة تستجيب لمتطلباته الإنسانية والوجودية، وبيان مقتضياتها المعرفية في التمثل، فتمخض عبر تلك القراءة انبثاق تلك العلوم الأولى الأمهات، التي عُدّت بمثابة القراءة المثالية والضرورية، غير أن دواعي الزمن بكل تداعياتها الاجتماعية والمعرفية وغيرها، انحرفت بتلك القراءة عن مسارها المستقيم ومقاصدها المرسومة، فتطلّب الأمر النظر في تصحيح تلك العلوم القارئة وإنقاذها من الزيغ، وتكفلت العلوم المنهجية الآلية بأداء تلك المهام الموكلة إليها والمتعلقة بها.
فعلوم الأصول؛ أصول الفقه وأصول الحديث وأصول العقيدة وأصول اللغة ظهرت استجابة لتطوير النظر العلمي والفهم العقلي. ولعل كلمة (أصول) تشير إلى معنى التقعيد والتأسيس لمبادئ النظر والبحث، بقصد الإسهام في بلوغ استنتاجات صائبة واجتهادات صحيحة.
أمام هذا المشهد التاريخي للعلوم، هل هناك من إمكانية في استحداث علوم أخرى جديدة؟ وما موقع دعوات النظر في تأسيس علوم جديدة كعلم المقاصد مثلاً؟
خامساً: إشكال تأسيس علم جديد هو "علم المقاصد"
1. في دعوى استقلال المقاصد:
لقد نتج عن البحث المتزايد في علم أصول الفقه، بما في ذلك مقاصد الشريعة، اختلاف الدارسين والعلماء في استقلال مقاصد الشريعة علماً منفرداً عن علم أصول الفقه، وعدّه علماً مستقلاً بمباحثه الخاصة، وقواعده المتفردة، وغاياته المتميزة، فتنوعت الآراء بين مؤيد موافق ومعارض متحفظ. وسوف أعرض تلك الآراء مقتصراً على أهمها، من حيث قوتها وأهل الاختصاص فيها.
أما الاتجاه الأول، فتعود انطلاقة موقفه إلى الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة"، الذي دعا فيه إلى إعادة صوغ مسائل أصول الفقه المتعارفة، ووضع أشرف معادن الفقه فيها، باستخلاص علم جديد هو علم مقاصد الشريعة، فهو يقول: "فنحن إذا أردنا أن ندوّن أصولاً قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم، ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله."
ويبدو أن داعي الشيخ ابن عاشور إلى هذا القول مردُّه إلى إرادة تدوين أصول قطعية للتفقه في الدين، لكون علم أصول الفقه بالصورة التي أضحى عليها لا يستجيب للمعاني القطعية في ذلك التفقه، من حيث ورود الخلاف على أغلب مسائله، وإلحاق أجزاء مهمة منها بمراتب الظنيات.
وقد كان هذا الرأي مظنة ارتياح لدى الشيخ أحمد الريسوني، وإن لم يتم الإفصاح عنه بصورة واضحة، فقال: "هل سيفضي بنا التوسع في مباحث المقاصد على تحقيق ما دعا إليه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من استخلاص مقاصد الدين وقطعياته، وتسمياتها باسم علم مقاصد الشريعة، أم أن المقاصد جزء لا ينبغي أن يتجزأ عن أصول الفقه، كما يرى عدد من الأصوليين المعاصرين." ولكن الريسوني أطلق موقفه في علمية المقاصد واستقلالها، ثم قيده بوصفه ركناً من علم أصول الفقه فقال: "فالمقاصد علم وركن من علم...والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، وبالمقاصد لا بالوسائل."
الاتجاه الثاني: يتحفظ من تلك الدعوى الداعية إلى استقلال المقاصد الشرعية عن علم أصول الفقه. ومن أبرز رواد هذا الاتجاه جمال الدين عطية، الذي يدعو إلى عدم التسرع في فصل المقاصد الشرعية عن علم أصول الفقه، بل الأجدى في نظره هو إجراء محاولات علمية لتفعيل ذلك الترابط بين مقاصد الشريعة وعلم الأصول، فهو يقول: "وأنا لست متأكداً من غلبة فائدة استقلال علم المقاصد؛ إذ يرتكز اهتمامي حالياً على ربطه بعلم الأصول، وإدخاله ضمن آليات الاستنباط؛ لأن هذا مكسب أساسي أخشى أن يتعطل إذا عجلنا باستقلاله عن علم أصول الفقه."
بل عارض عطية رأي ابن عاشور بشكل صريح، معتبراً أن استقلال المقاصد بعلميتها سيكون له الأثر السلبي على كلا العلمين، فقال: "أما رأي ابن عاشور في تأسيس علم مستقل لمقاصد الشريعة وترك علم أصول الفقه على حاله، فأرى أنه ضار بكلا "العلمين"؛ إذ يجمّد الأصول على حالها ويحرمها من روح المقاصد، كما أنه يبعد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حالياً، والذي ينبغي أن نحرص على تطويره."
إلى جانب هذا الموقف يستوقفنا رأي الشيخ ابن بيّة، الذي يرى أن مقاصد الشريعة هي أصول الفقه ذاتها، فهو يقول في سياق حديثه عن تداخل مجموعة من المباحث بين المقاصد والأصول: "...مقصودنا من هذا هو الإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها، وهذه المناحي والمدارك أمثلة للوشائج الحميمة والتداخل والتواصل. ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها." وإنما تم استدعاء النظر والبحث في مقاصد الشريعة بوصفها جزءاً من أصول الفقه، لأجل الاستنجاد بها في مسائل الأصول، وهو ما عبّر عنه بقوله: "...إنه يستنجد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحىً من مسائل الأصول."
وبناء على التلازم العلمي والتكامل المنهجي بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، رأى ابن بيّه أن علم أصول الفقه في حاجة ماسة إلى التفعيل، أكثر من إحلال علم مقاصد الشريعة محلّه، أو استحداثه علماً مستقلاً، منبهاً إلى ضرورة استثمار المقاصد والاستنجاد بها في ذلك التفعيل والاستثمار، فقال: "فإن المجالاتِ التي يجب الاستنجاد بالمقاصد فيها واستثمارها تتمثلُ أولاً: فِي تفعيل أصول الفقه على ضوء إعمال المقاصد في بنيتها؛ لتوسيعِ دائرة الاستحسان والاستصلاح، واستنباط الأقيسة ومراعاة المآلات والذرائع، إلى آخر ما أشرنا إليه... ."
وهذا الاتجاه يحتفظ لنفسه برأي عدم إقالة مقاصد الشريعة من حمى علم الأصول، ومن وظيفتها الأساسية المتمثلة في تفعيل أصول الفقه وتطوير آليات استثماره؛ لأنّ ذلك سيؤثر -لا محالة- على روحه التشريعية.
2. رؤية ذاتية في إشكال استقلال المقاصد:
تأتي الدعوة في اعتقادي إلى تأسيس علم جديد نابع من علم أصول الفقه من عدم استصحاب الأسس المقصدية لنشوء علم أصول الفقه، والشروط التاريخية والعلمية للاستعانة به. ويتأكد هذا الأمر حينما يتم ربط هذه الدعوة بمقاصد التجديد الاجتماعي والحضاري في كيان الأمة، لذلك فإن النظر في هذا الاختيار العلمي ينبغي أن يحمل على السياق التاريخي الذي نشأت فيه تلك الدعوة.
وتجدر الإشارة إلى أن ما حصل للمعرفة الأصولية من حيث العناية بها وإفرادها بالدراسة والبحث، هو ما يحصل في الآونة الأخيرة مع المعرفة المقاصدية؛ فأصول الفقه لم يدرس علماً مستقلاً تم تقعيده وإنشاؤه من فراغ، وإنما تخلق ونشأ في رحم الفقه، وكذا مقاصد الشريعة؛ إذ عاشت بدايتها الأولى في علم الفقه، إلا أن إيلاء علم أصول الفقه بالاهتمام، وعدّ مقاصد الشريعة فرعاً عنه، حال دون منح العناية الكافية نفسها لمبحث المقاصد؛ لأنّها كانت تشكل روحاً تسري في الآليات المنهجية المستثمرة، ومعنى مضمراً في الخطاب الفقهي.
لذلك فإن تجربة الانبثاق العلمي لأصول الفقه، واستقلاله المعرفي من جوانب الدراسة العلمية والنظر العقلي، لا ينبغي أن يتكرر في نظري مع ما يراد الاصطلاح عليه "بعلم مقاصد الشريعة"، وذلك لأسباب أذكرها على سبيل الإيجاز، وأهمها:
أ. بقراءتنا العلمية للبناء السياقي لنشأة العلوم، نلمس انتفاءً بيّناً لإشكال مظنة الدعوة الضرورية لتأسيس العلوم، أو لخلق علم جديد اسمه "علم المقاصد"، على سبيل الاستقلال عن علم أصول الفقه؛ لأنّ علم أصول الفقه، المؤسس سلفاً، مصححاً ومنقذاً للمعرفة الفقهية، ارتبط بناؤه على إشكال ضبط الاجتهاد الفقهي وفق مساره المرسوم، فكان لشرط الضبط ورود في حالته العلمية، لكن يفتقر علم المقاصد إلى هذا الشرط؛ لأن علم أصول الفقه لا يستصحب في ذاته إشكالاً معرفياً؛ لأنّه متمدد الأبعاد في النظر، وإنما الإشكال حسب اعتقادنا في تفعيل قواعده، وهو رأي الشيخ ابن بيّه، ثم كذلك في الغياب النظري لإعمالها واستثمارها، ومبادئ المقاصد جزء من ذلك.
ب. لا ينبغي إغفال الانتساب التاريخي والانصهار العلمي بين علمي أصول الفقه و"علم مقاصد الشريعة" مع علم الفقه، ولعل الولادة "القسرية" لعلم أصول الفقه، وما آلت إليه من انـزياحات علمية على مستوى النظر، من تجريدية علم الأصول وتخلفه عن الخدمة القويمة للفقه، يعسّر من مسألة إنجاب علم جديد على مستوى الفعل في ثوب المقاصد، بل ستكون ولادته "قيصرية"، تضر مبدئياً بصحة علم الفقه أولاً، وبعلم أصوله ثانياً، الأمر الذي يقلل في اعتقادنا من جدوى ذلك الاستقلال، بناء على هذا النـزيف العلمي المتسلسل.
ت. إن صلب الإشكال الذي تفتقت عنه دعاوى تأسيس علم جديد، وهو علم المقاصد، تتركز في تطوير الاجتهاد الفقهي، حتى يساير واقع العالم وضرورات العصر. ويبدو أن هذا الشرط يختفي في هذا الشأن؛ لأنّه يستحيل النظر الفقهي بالاعتماد المنفرد على لمقاصد، بل لا بدّ من المرور بإعمال (قواعد) و(أصول) الفقه، والمقاصد جزء لا يتجزأ منه كما سلف. فالعلة إذن من إنشاء علم جديد مستقل كعلم المقاصد هو أن علم أصول الفقه لم يعد يفي بالحاجات العلمية، التي أسس من أجلها سلفاً. وعليه ينبغي استبداله وإحلال علم جديد محلّه هو علم المقاصد، في حين أن العلوم تعلن عن ظهورها حالة وجود فراغ حقيقي، إما لأجل حاجة ضرورية لا بديل لها من قبل، وإما بعد استفراغ الوسع في استثمار العلم القائم، مع عدم القدرة على سداد الحاجة، ولا يمكن استدراكها إلا باستحداث علم جديد. إلا أنه لا يوجد مثل هذا الأمر في قانون التاريخ السياقي للعلوم حتى يحدث علم المقاصد علماً جديداً إما بديلاً أو مستقلاً؛ لأنّ حقيقة المسألة لا تنحصر في علم أصول الفقه بقدر ما تتمثل في طرق تفعيله، واستثمار جميع قواعده، بما في ذلك قواعد النظر المقصدي.
ث. إن الدعوة إلى إنشاء علم جديد، إما بديل أو مستحدث، دون استفراغ الوسع الاجتهادي، وإمعان النظر العلمي في العلم القائم على سبيل الاستثمار والتوظيف والتفعيل، سيدفع بالتأكيد إلى التفكير في إنشاء علوم أخرى بالمسوغات نفسها والحيثيات المذكورة سلفاً، وإن لم تدع الضرورات العلمية إليها، سواء كانت علمية أو تاريخية أو سياقية، الأمر الذي سيؤثر في فاعلية العلوم وقدرتها على أداء مهمتها التي لأجلها أنشئت، لذلك فإن خصوصية التحفظ من منطق التفكير التأسيسي للعلوم تضمر في الغياب من جانب الوجود.
كانت هذه أهم الشروط العلمية في نظرنا التي تفتقر إليها دعاوى إنشاء علم جديد هو علم المقاصد، أو جعله بديلاً عن علم أصول الفقه.
ومع كل ما ذكر، فإنه لا ينبغي أن يفهم من كلامنا على -سبيل القطع- ميلنا إلى تجنب تحقيق النظر في المباحث المقاصدية في استقلال عن علم أصول الفقه، فذلك أمر قد حصل بإفراده بالبحث مع بعض الأصوليين كالعز بن عبد السلام والشاطبي، وإنما محل خلافنا مع الاتجاه الأول هو البحث في المقاصد بوصفها علماً خاصاً مستقلاً، سواء من جانب النظر أو من جانب الاجتهاد في التحقيق الفقهي والواقعي، وهو ما أشير إليه في كلام الشيخ الريسوني بقوله: "فالمقاصد علم وركن من علم" فهو علم من حيث البحث والدراسة في النظر على سبيل المجاز، لكنه ركن من علم من حيث الاجتهاد والتنـزيل في الواقع على سبيل الاختصاص والحقيقة.
خاتمة:
لقد أنتج الزمن الإسلامي علوماً كبرى مقصودة لذاتها، بالنظر المبني على العمل والتحقق في الوجود الإنساني في علاقته بالكون، ومنها تفتقت علوم أخرى رديفة استدعت حضورَها الضرورةُ العلمية لغايات تصحيحية، تروم بها إنقاذ العلوم الأولية وضبطها من باب وجوب إتمام الواجب. كما أنَّ تلك العلوم والمعارف المنتجة في المجال التداولي الإسلامي تنتهي أبعادها العلمية والعملية عند خدمة كليات كبرى، ومقاصد عظمى من الوجود الإنساني من القراءة السليمة لعالمي الوحي والكون، وتلك المقاصد هي التعبد الإلهي والاستخلاف الأرضي والشهود الإنساني.
وقد يحيلنا هذا الأمر إلى التحقيق في مسألة أساسية، تتعلق بتأسيس علم جديد كعلم المقاصد مثلاً، الذي اختلف فيه الدارسون والمحققون بين مؤيد ومعارض. ويبدو في نظرنا أن اتجاه الاعتراض على الدعوى يترجح عن مقابله، وأولى بالاعتبار، بالنظر إلى تداخل أسباب ورد ذكرها في متن هذه الدراسة.
حسبُ هذه الدراسة أنها أسهمت في إيراد إشكال نشأة العلوم وتطورها، وفهم الأسس التي انبنى عليها عمران تلك العلوم، كما أنها تركت وسع النظر في عدد من الإشكالات المتناسلة لمن سنحت له الفرصة، وجدّت له المناسبة من الدارسين والباحثين، ولعل من المناسب البحث في الإشكالات الآتية:
-مسألة تأسيس العلوم: دراسة علمية في نشوء العلوم الإسلامية وتطورها دراسة مستفيضة تكشف عن الأسس العلمية والمنهجية المعتمد عليها في نشأة العلوم.
-العلوم الإسلامية والقيم المقصدية في مواقع الوجود، بحث في المقاصد الكلية الكبرى من إنتاج العلوم واستثمارها في مجالات التمثل الإنساني ومواقع وجوده.
-استقلال علم المقاصد بين السياق المنهجي والضرورة العلمية، دراسة علمية تاريخية في دعاوى استقلال علم المقاصد ومدى صحتها وقوتها في الاستمرار والنجاح، وآليات الاشتغال على المنهح المقاصدي على سبيل الاستقلال.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

نشأة العلوم الإسلامية وتطورها:تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجاً/ د. الحسان شهيد Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28509
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى