التعامُلُ مع المبتدِعِ بين رَدِّ بدعته ومُرَاعاةِ حُقوقِ إسلامِه
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان
صفحة 1 من اصل 1
التعامُلُ مع المبتدِعِ بين رَدِّ بدعته ومُرَاعاةِ حُقوقِ إسلامِه
أهل البدع وأصحاب الفسق طائفتان مخالفتان لأهل الحق. وسوف أخص مقالي بإحدى الطائفتين، وهم المبتدعة، لغموض شأنها، ولقلّة التأصيل فيها.
ولا شك أن لأهل البدع تقسيماتٍ عديدة، تختلف باختلاف مناط التقسيم.لكنَّ أهمَّ تقسيماتهم: ما يتعلق بالـحُكم عليهم إسلامًا وكفرًا، وإيمانًا وفسقًا؛ لأن هذا التقسيم هو الذي ستُبنَى عليه أحكامٌ كثيرةٌ فيما يتعلّق بحكم المبتدع في الدنيا، وحكمه في الآخرة أيضًا.
والحكم على المبتدع بالإسلام أو الكفر، وبالإيمان أو الفسق، مرجعه إلى أمرين: إلى النظرِ في البدعة نفسها، والنظرِ في حال المبتدع نفسه.
وبـيان ذلك: أن البدعةَ إمـا أن تـكون بدعةً كُـفْريـةً، أو غيرَ كُـفريـةٍ.والبدعـة الكُـفريـة: إما أن تكون مناقضةً لصريح دلالة الشهادتين(1)، فهذه يُكَفَّرُ أصحابها على التعيين، ولا نعذرهم في أحكامنا عليهم بجهلٍ أو تأوّلٍ أو شُبْهةٍ.أو أن تكون البدعةُ الكُفريةُ غيرَ مناقضةٍ لصريح دلالة الشهادتين، لكنها تُعارِضُ أمرًا مقطوعًا به في الدين، وهذه يُمكنُ الإعذارُ فيها بالأعذار التي مرجعها إلى الجهل أوالخطأ، لكن إن أُقيمت الحجة على أصحابها (إقامةً صحيحة) فحينئذٍ يُمكن لأهل العلم تكفيرُهم(2).وإما أن تكون بدعتُهم بدعةً غيرَ كفريةٍ أصلاً، وهي التي لا تعارض أمرًا مقطوعًا به في الدين، فهذه لا يُكفَّرُ بها أحدٌ.. لا المتأوِّل ولا المعاند، لكنه قد يُفَسَّقُ إذا أُقيمت الحجة عليه، فتبيَّن إصراره وعنادُه.
فهذه ثلاثة أقسام للبدعة، مع بيان أحوال أصحابها إيمانًا وفسقًا وكفرًا.
وسأخصُّ هذا المقال بالمبتدع المسلم، وهو من كانت بدعته غيرَ كُفرية أصلاً، أو من كانت بدعتُه كفريةً، لكنها لا تناقِضُ دلالةَ الشهادتين، ولذلك يُعذر فيها بالجهل والخطأ، قبل إقامة الحجة الصحيحة عليه(3).
فهؤلاء: تستحق بِدَعُهم التشديدَ في ردّها، والحرصَ على استيفاءِ بيانِ بطلانها، بكل ما من شأنه أن يحقق مصلحة قَمْعِ هذا الرأي الذي يُحرّف حقائقَ الدين؛ إذْ في كُلِّ بدعةٍ تحريفٌ لحقائق الدين، بحسب غلظها أو خفّتها(4).فيجب أن تُرَدَّ تلك البدع، بكل قوّة ووضوح، دون مداراة أو مجاملة (ما أمكن ذلك)، وبالوسائل الشرعية الممكنة جميعها.
لكن هذا التشديدَ والغِلَظَ يخصّ البدعةَ نفسَها والرأي المبتدعَ عينَه، دون قائله وصاحبه، والذي هو غالبًا من المتأوّلين، الذين الأصل فيهم الإعذارُ بالجهل والشُّبَهِ الصارفةِ عن الحق. وتأوّلُ المبتدع (الذي يُعذَرُ معه عندنا في الظاهر) يستوجب أن يكون الأصلُ عدمَ التشديدِ عليه، بل ينبغي أن يكون إعذارُهُ واضحًا في تعاملنا معه، من جهة الرفق به وعدم تنفيره بالغلظة عن الحق وأهل الحق.ولا يصحُّ أن نُـقَرِّرَ إعذارَه، ثمّ نُغْفِلُ تقريرَنا هذا في منهج تعاملِنا معه.بل لا ننسى أن المبتدع قد يكون مأجورًا في بدعته (لا عليها)، ومن جهتين: من جهة أنه اجتهدَ فـأخـطأ، ومن جهة أنه قد يكون دَاعِـيْـهِ إلى البدعـة حُـبَّ الله تعالى وحبَّ رسولـه -صلى الله عليه وسلم-، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة عمن يقيم بدعةَ المولد، وأنه يؤجر على محبّته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، لا على بدعتـــه(5).
بل الذي ينبغي علينا أن لا نَغْفُلَ عنه أبدًا تجاه المبتدع الذي لم يَـكْفُرْ، أي الذي لم يخرج عن الإسلام، أنّ حقوقَ المسلم على المسلم (التي بيّنتها نصوصُ الوحيين) تشمله، وله فيها ما لغيره من جميع المسلمين، سواء أفسّقْناهُ ببدعته(6)، أو كان عدلًا عندنا.فللمبتدع على السُّنّي أن يُوَفِّـيَهُ حقَّهُ الإسلاميَّ العامّ، الذي ألزمت النصوصُ به كلَّ مسلمٍ لكلِّ مسلمٍ لم يخرج عن الإسلام.ولا يجوز على السُّنّي أن يَنْتَقِصَ المبتدعَ حقًّا أوجبه اللهُ تعالى له بالآراء وحظوظ النفس أوبالـمُعَاداةِ والـمُباغضةِ غيرِ المنضبطة بالشرع(7)؛ إلا إذا كان للمبتدع إفسادٌ، فيُـنْـتَـقَصُ من حقوقه بقدْرِ ما يدفع إفسادَهُ(8)، دون تجاوُزٍ ولا اعتداءٍ على هذا القَدْر!!
وهذا يعني أن عقوبة المبتدع حُكْمٌ مَصْلَحِيٌّ، ليس هو بالحكم الثابت في حقّ كل مبتدع. وإذا قلنا عن حُكمٍ ما: إنه مصلحي، فهذا يعني أنه لا يُشرَعُ العمل به إلا إذا علمنا أنه سيؤدّي إلى مصالحه، وإلا فلا يُشرَعُ العملُ به.ويعني أيضًا أنه لا يحق لكل أحد أن يقرِّر مشروعيته، ولكنّ تقريرَ ذلك محصورٌ في أهل العدل والتحرير من أهل العلم.
وخلاصة ذلك: أن عقوبةَ المبتدع خلافُ الأصل الذي نرجع إليه عند عدم العلم بحصولِ المصلحةِ المرجوّةِ من العقوبة، وهذا الأصلُ المرجوعُ إليه حينها هو: أنه مسلمٌ، له ما للمسلمين من الحقوق.كما نَخْلُصُ من ذلك أيضًا: بأن مشروعيةَ عقوبةِ المبتدع تختلفُ من شخصٍ إلى شخص، ومن حالٍ إلى حال، وأن هذه العقوبة أيضًا مَظِنّةُ اختلافٍ بين أهل العلم: فهذا يرى عقوبةَ مبتدعٍ معيّنٍ لتحقُّقِ المصلحة منها عنده، والآخر لا يرى عقوبته لعدم تحقُّقِ المصلحة منها عنده، فلا يسوغُ الإنكار على أحدهما قبل أن نُثبِتَ له خطأه.
وأما من ظن أن البدعة وحدها تستوجبُ عقوبةَ صاحبِها مطلقًا، فأباح لنفسه أن ينتقص من حقوق المسلم المبتدِعِ ما شاء من حقوقِهِ الثابتةِ له بالإسلام، فقد أخطأ خطأً بيِّـنًا، وأوشك أن يستوجب عقوبةَ خالقِه على ظُلمه واعتدائه.
وسأضرب هنا مَـثَلًا بأحد أظهر الحقوق التي يُظَـنُّ أنها مُـنْـتَـقَصَةٌ من الحقوق الإسلاميّة للمبتدع ، ألا وهو تحريم هجر المسلم فوق ثلاثة أيام، لقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقيان فَـيُـعْرِضُ هذا ويُعرضُ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ صاحبَه بالسلام»(9).
فقد تعارضتِ الأقوالُ والمذاهبُ المنسوبةُ إلى السلف في هجر المبتدع، فلا يصحُّ بعد هذا التعارُضِ أن أنقلَها دون تحرير.
ومن أهمّ ما أُذكِّرُ به لتحرير مذاهب السلف في مسألة هجر المبتدع: ما سنثبته قريبا (إن شاء الله) من أن المسلمين من أهل البدع عند السلف مقبولو الشهادةِ والرواية، وهذا يدل على أنهم عدولٌ عندهم، فلا يصح أن أُقَرّر هذا الأصل عن السلف ثم أنقضُه بقولٍ أنسبُه إليهم، بأن أدّعي أن حكمَ التعامل مع المبتدع عندهم هو هجرُه مطلقًا؛ لأن هذا يُناقضُ ما دلَّ عليه موقفُ السلف الذي قرَّرَ أن من أهل البدع مَن يكون عدلا مؤمنًا عندهم، بدليل قبولهم شهادةَ أهلِ البدع وروايتِهم، ويعارضُ (قبل ذلك) حُكمَ السلف (وحُكمَنا) لأهل البدع بالإسلامِ، ويعارضُ أيضًا إعذارَهم بالتأوّل.
وقد تأتي عباراتٌ عن السلف في هذا الباب قد يظنها بعضُنا متناقضة، وقد يكون التناقُضُ في فهمنا لها، لا في تلك العبارات! فيعمد بعضُنا إلى انتقاء ما يريد، وترك ما لا يريد، لا لعدم اطلاعه على ما لا يرتضيه، ولا لكونه قد وجّهَ ما لا يرتضيه توجيها سائغا على ما وَفْقِ ما يرتضيه، ولكنه أغفله وتَعَامَى عنه لأنه لا يرتضيه فقط!!
ومن أمثلة ما جاء عن أئمة السنة الذين اختَلفَ النقلُ عنهم في شأن هجر المبتدع: ما جاء عن الإمامِ أحمد (عليه رحمة ُالله) (10).فلا يصحُّ أن أنتقي من أقواله ما أهوى دون ما لا أهوى، ولا أن أنسب إليه مذهبًا بناءً على قولٍ دون موازنته ببقية أقواله.
وممن حرّر مذهب الإمام أحمد في شأن هجر المبتدع: شيخُ الإسلام ابن تيمية، حيث ذهب هو أولاً إلى أن هجرَ المبتدعِ خاضعٌ حُكمُه للمصلحة(11)، بل قال (رحمه الله): « وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين: في قوّتهم وضعفهم، وقلّتهم وكثرتهم؛ فإن المقصودَ به زَجْرُ المهجورِ وتأديبُـهُ، ورجوعُ العامة عن مِثْلِ حاله.فإن كانت المصلحة في ذلك راجحةً، بحيث يُفضي هجرُهُ إلى ضعف الشرّ وخِفْيتِه، كان مشروعًا.وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشرّ، والهاجرُ ضعيفٌ، بحيث يكون مفسدةُ ذلك راجحةً على مصلحته، لم يُشرع الهجر؛ بل يكون التأليفُ لبعض الناس أنفعَ من الهجر، والهجرُ لبعض الناس أنفعَ من التأليف...(ثم استدلّ لذلك، إلى أن قال وجواب الأئمة كأحمدَ وغيرِه في هذا الباب مبنيٌّ على هذا الأصل.ولهذا كان يُفرِّقُ بين الأماكنِ التي كثُرت فيها البدع ،كما كَثُرَ القَدَرُ في البصرة، والتجهُّم(12) بخراسان، والتشيُّعُ بالكوفة، وبين ما ليس كذلك...» (13).
وتحريرُ ابنِ تيمية لمذهبه هذا، و الذي نسبه إلى أئمة الإسلام قاطبةً، وإلى الإمام أحمد خاصةً، مرجِّحًا فيه أن مشروعيةَ هجرِ المبتدع ترجعُ إلى المصلحة = تحريرٌ يجعل هجرَ المبتدع كهجر السُّنّي سواءً بسواء؛ لأن هجرَ السُّني أيضًا قد يجوز أو يجبُ لمصلحة دينيةٍ؛ والأصل في هجرهما عدم الجواز؛ لعموم النصِّ الناهي عن هجر المسلم فوق ثلاث؛ إلا إذا دعت مصلحةٌ دينيةٌ ظاهرةٌ إليه.
ومثالٌ آخر للحقوق التي يُظَنُّ أنها مُنـتَقَصةٌ من الحقِّ الإسلاميِّ العامِّ للمبتدع، بسبب الفهم القاصر لبعض عبارات السلف: ما يُمكنُ أن نفهمه من عبارةٍ للإمام مالكٍ (رحمه الله)، أنه قال عن القدرية: « لا يُصلَّى عليهم، ولا يُسلَّم على أهل القدر، ولا على أهل الأهواء جميعهم، ولا يُصلَّى خلفَهم، ولا تُـقْـبَلُ شهادتهم ».ولكن انظر كيف فَهِمَ العلماءُ هذه العبارة، فقد فسَّرها الإمامُ المُحرِّرُ أبو عمر ابن عبد البرّ بما يراه حريًّا بمذهب الإمام مالك، فقال: « أما قوله: لا يُصَلَّى خلفهم، فإن الإمامة يُتخيَّرُ لها أهلُ الكمال في الدين من أهل التلاوة والفقه، هذا في الإمام الراتب(14).وأما قوله: لا يُصَلَّى عليهم، فإنه يريد لا يُصلِّي عليهم أئمةُ الدين وأهلُ العلم؛ لأن ذلك زجرٌ لهم وخزيٌ؛ لابتداعهم، رجاءَ أن ينتهوا عن مذهبهم، وكذلك تركُ ابتداءِ السلام عليهم.وأما أن تُتركَ الصلاةُ عليهم جُملةً إذا ماتوا، فلا، بل السنةُ الـمُجْتَمَعُ عليها أن يُصلَّى على كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، مبتدعًا كان، أو مرتكبًا للكبائر(15). ولا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار أئمةِ الفتوى يقول في ذلك بقول مالك.وقد ذكرنا أقاويلَ العلماء في قبول شهاداتهم، في كتاب الشهادات، وأن مالكًا شذَّ عنهم في ذلك؛ إلا أحمد بن حنبل، قال: ما تُعجبني شهادة الجهمية ولا الرافضة ولا القدرية، قال إسحاق: وكذلك كل صاحب بدعة(16)...» (17).
ويحق لابن عبد البر أن يتأوَّل عبارات الإمام مالكٍ، لا لكونه عالـمًا بمذهبه فقط، ولا لكون ظاهر مقالته خطأً جليًّا يُنزّهُ الإمامُ عن مثله، ولا لكونه قولا شاذًّا عن مذاهب العلماء (حسب تعبير ابن عبد البر)، بل لكونه يعارضُ أقوالاً ومواقفَ أخرى للإمام مالك! من مثل قوله، وقد سُئل: «كيف رويتَ عن داود بن الحصين، وثور بن زيد، وغيرهم، وكانوا يُرمون بالقدر؟ فقال: إنهم كانوا لأن يخرُّوا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا »(18).
فما ذكره الإمام مالك من ذلك التشديدِ على أهل البدع إنما هو تأديبٌ لهم، فلا يُشرَعُ إلا إذا ظن العلماءُ المحرّرون (لا كل أحد) أن ذلك التشديدَ سيُؤدّبهم ويردعهم، أو كان لهم إفسادٌ لا يُدفَعُ إلا بتلك العقوبات التي يُحدِّدُها العلماءُ وحدهم أيضًا.وهذا يعني أن تلك العقوبات ليست هي الأصل في التعامل مع أهل البدع، إلا إذا كانت مؤدّيةً لمصالحِها، وأنهم في ذلك كالمسلم العاصي تمامًا، فلا يُـختَصُّ أهلُ البدع بتلك الأحكام! وإنما خصّهم مالكٌ وغيره من السلف بالذكر أحيانًا؛ لأن تأوُّلَ المبتدعِ وصلاحَه قد يُظَنُّ معه أن إيقاع ذلك التعزيرِ به غيرُ جائز مطلقًا.
وهذا هو صريحُ تقريرِ شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا، حيث قال: « والتعزير لمن ظهر منه تركُ الواجبات وفعل المحرّمات، كتارك الصلاة والتظاهُرِ بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.وهذا حقيقة قول السلف والأئمة: إن الدُّعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يُناكَحون.فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا فرّقوا بين الداعية وغير الداعية(19)؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحقّ العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرًّا من المنافقين الذين كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقبَلُ علانيتهم، ويكِلُ سرائرَهم إلى الله...» (20)، ثم صرّحَ عَقِبَ هذا الكلام أن مناطَ ذلك راجعٌ إلى المصلحة المترتِّبة عليه، في كلامه المنقول آنفًا عن الهجر.
وبسبب أمثال تلك العبارات التي تحتاج إلى تريّثٍ وعلمٍ لفهمها، وتحتاج آحادُها إلى عرضٍ على الكتاب والسنة، جاء الخطأ في تعاملنا مع المبتدع.وتَرسَّخَ هذا الخطأُ أيضًا بسبب الخلط بين أمرين: أمرِ خطورةِ البدعة على الدين، وأمرِ منهجِ التعامل مع صاحب البدعة، الذي نُقرِّرُ أن الأصلَ فيه التأوّلُ الذي يُعذَرُ صاحبُه ويُؤجَر؛ وما كان ينبغي أن نخلط بين هذين الأمرين!!
ولا شك أنّ الانفصالَ التّامَّ بين البدعةِ و المتلبِّسِ بها غيرُ مُمكنٍ وغيرُ صحيح؛ ولذلك إذا انضمّت إلى البدعة دعوةٌ إليها، ومعاداةٌ لأهل السنة المخالفين للبدعة = استحقّ هذا الداعي من التشديد عليه بقدر ما يدفع إفسادَه، مع اعتقادنا (وثبوت هذا الاعتقاد) أنه قد يكون معذورًا مأجورًا في واقع الحال؛ لتأوّله وللشُّبَهِ التي عنده.فدَفْعُ الإفسادِ شيءٌ، وحُكمُ صاحبِهِ من جهة الإعذار شيءٌ آخر.
وهذا التقرير (أعود فأقول): إنه يعني أن التشديدَ مع أهل البدع خلافُ الأصل فيهم (وهذا أوّلاً)، (وثانيًا): أنّ التشديدَ معهم ينبغي أن يكون بالقَدْرِ الذي نظنّ أنه سيُصلحه(21) أو يدفع إفسادَه، دون مجاوزة هذا الحدّ؛ لأنه ما زال مسلمًا.وإذا كان صاحبَ تَدَيُّنٍ وتعظيمٍ لحرمات الدين مع بدعته، فهذا يستحق من هذه الجهة ما يستحقُّهُ المؤمنون من الإكرام وحفظ الحقوق.(وثالثاً): أن الموازنة بين: صلاح المبتدع وعصيانه (من غير وجه البدعة)، وبدعتِه غلظةً وخِفّةً، ودرجة إعذاره(22)، وإن كان له إفسادٌ ببدعته (دعوةً أو قتالًا عليها) أو ليس له إفساد ببدعته = فالموازنة بين هذه الأمور الأربعة، مع ما يثبتُ للمبتدع غير المكفَّر (أي المسلم) من حق الإسلام العام، هي الوسيلة الدقيقة والعميقة والعادلة لمعرفة منهج التعامل مع صاحب البدعة المعيَّن.وهذا مما لا يستطيع تنزيلَه على الأعيان جميعُ الناس، بل لا يقدر على تحقيقه إلا العلماءُ الراسخون المحرِّرون.
وهذا شيخُ الإسلام ابن تيمية يقرِّرُ ذلك فيقول :« وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خيرٌ وشرٌّ، وفجورٌ وطاعةٌ ومعصيةٌ، وسنةٌ وبدعةٌ = استحقَّ من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقَّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر.فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا.وهذا كاللصِّ الفقير: تُقطَعُ يدُهُ، ويُعطَى من بيت المال ما يكفيه.هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهلُ السنة والجماعة، وخالفهم الخوارجُ والمعتزلةُ ومن وافقهم، فلم يجعلوا الناسَ: إلا مستحقًّا للثواب فقط، وإلا مستحقًّا للعقاب فقط...» (23).
وبذلك يتضح أن تصوّرنا بأن منهج التعامل مع المبتدعة والبدع منهجٌ واحد خطأٌ كبير في التصوُّرِ، ويخالف ما كان عليه السلف:
فانظر تعظيمَهم لبعض من تلبّس ببدعة، إذا كان فيه من العلم والإيمان ما يغلب فسادَ بدعته: كقتادة بن دعامة القدري.
وانظر تفريقهم بين الداعية وغير الداعية، وبين المعاند والمتأوّل.
هل تظنّ أن السلف والأئمة كانوا يقدّمون كبار الفساق وناشري الفجور والفواحش والزنا والربا غير المتلبّسين ببدعة على أولئك الجلّة من العلماء الذين ضلّوا فابتدعوا، كقتادة القدري، وعبد الرزاق الشيعي، وعُبيد الله بن موسى العبسي الشيعي، وأبي معاوية الضرير رأس المرجئة وداعيتهم، والعزّ ابن عبد السلام الأشعري، وغيرهم ممن وُصفوا ببدعة، وربما وُصفوا بغلوٍّ فيها، أو دعوةٍ إليها، ومع ذلك.. لا تكاد ترى (بعدما وُصِفوا به من البدعة وحالِـهم معها) في ترجماتهم إلا ما يدل على إجلال الأئمة لهم، وحفاوتهم بهم وبعلومهم، أو على حُكمهم عليهم بالعدالة والثقةِ، وأنهم من المعظِّمين لـحُـرُمات الدّين، مما جَوَّزَ للأئمة قَبولَ رواياتهم عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وأوجبَ قَبول شهاداتهم في القضاء أيضًا؛ لأنهم رَأَوْا فيهم من مراقبة الله تعالى ومن إجلال مقام الوقوف أمامه سبحانه ما يحجزهم عن الكذب على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، و يمنعهم عن شهادة الزور.
والله إن من يُقَدّمُ كبارَ الفُسّاق بوصفهم أنهم من طائفتنا: (أهل السنة)، لمجرّد أنهم لم يتلبّسوا ببدعة، مع عظيم إجرامِهم، على أولئك الـجِلّةِ من أهل العلم والصلاح والجهاد، لمجرّد أنهم اجتهدوا فأخطـؤوا وابتدعوا، بإخراجهم عن طائـفتنا: ( ليسوا من أهل السنة) = إنه لظالم لنفسه مبين!
وتالله إن تقسيمًا يقع جرّاءَه ذلك الظلمُ.. ليس من دين الله تعالى!!
فإمّا أنه تقسيمٌ كان يُطبَّق على حسب التعامل الشرعي المشروح آنفاً، وحينها يكون تقسيمًا اعتباريًّا، المقصودُ منه التأكيدُ على خطورة البدعة، وخطورة الاغترار بصلاح صاحبها في تسويق بدعته.. إلى هنا فقط، دونما يمارسه بعضُنا من التقديم المطلق للفاسق من أهل السنّة (!!) على المبتدع، ودون أن يؤدي ذلك الوصفُ إلى الإلغاء المطلق لحقوقٍ واجبةٍ لذلك المبتدع المسلم، ودون أن يُنسي تقريرُ ذلك التقسيمِ وطولُ استعماله أنه يجبُ أن تُراعَى فيه مصالحُه ومفاسدُه.
وإما أن تقول: إنه تقسيمٌ شرعيٌّ ثابت، يقتضي تقديمَ الفجرة الأشقياء ممن لم يتلبَّس ببدعة، على البررة الأتقياء ممن تلبّس ببدعة !! بحجّة أنّ السلف درجوا عليه، وبزعم أنه من الدين !!!
لكن هذا الإصرار على الباطل يقدح في السلف والدين، لظلمه وجوره!!!
ولا شك أن الصواب هو الاحتمال الأول، وهو أن هذا التقسيم مصلحيٌّ اعتباري، فيخضع تطبيقُه واستعماله لمصالحه ومفاسده، وإذا أُحسنَ استخدامُه فقط.
ولكي تعلم أن تقسيم الأمة إلى سُني وبِدعي تقسيمٌ اعتباريٌّ مصلحيّ، عليك أن تتأمّلَ الأوصافَ الشرعيةَ التي أَنزلتِ العِبَادَ منازلهم من الدين، وأن تنظر في المبتدع: أيُّ الأوصاف منها وَصْفُه؟ وفي أيِّ منازلها وضعتْـهُ الشريعةُ؟
ولا يخفى أن الشريعة قد أنزلت المخاطَبين بالشرع على أربعة منازل فقط، ليس إلا هي، وهي منزلة: المسلم المؤمن، والمسلم الفاسق، والمنافق، والكافر المشرك.والوصفان الأولان يشملهما وصف الإسلام، والوصفان الأخيران يشملهما وصف الكفر.فالمكلَّفون كلُّهم: إما مسلمٌ (عدلاً كان، أو فاسقًا)، وإمّا كافرٌ (منافقًا كان أو معلنًا بكفره).هذه هي منازل الناس التي لا يخرجون عنها، والتي رتّبتِ الشريعةُ عليها أحكامًا.
وهنا أسألك :في أيِّ منزلة يقع المبتدعُ عندك؟ هل المبتدع عدلٌ مؤمنٌ؟ أم أنه مسلمٌ فاسق؟ أم أنه منافقٌ زنديقٌ؟ أم أنه كافرٌ خارجٌ من الملّة؟ فإنك (إن كنتَ من أهل العلم، أو نظرتَ في أحكامهم على المبتدعة) ستقول: إن المبتدع لا يـصحُّ أن يُنزَّل مطلقًا في أحد تلك الـمنازل الشرعية، لأنه قد يـكـون مـؤمنا عـدلا (ولـذلك قـبلوا شـــــــــهـادتـه(24) وقبلوا روايته أيضًا (25)، وقد يكون فاسقا (إذا أتى ما يُفَسَّقُ به غيرُهُ من المعاصي سوى البدعة ، أو إذا كانت بدعته مُفسِّقةً وأُقيمت الحُجّةُ عليه فأصرّ عليها)، وقد يكون منافقًا (إذا أبطن الكفر)، وقد يكون كافرًا (إذا ارتدّ عن الدين، كأن تكون بدعتُه كُفْريةً، وأُقيمت الحُجّةُ عليه، فأصرَّ على بدعته).فتبيّنَ بذلك أن المبتدعَ ليس مساويًا لواحدٍ من تلك الأوصاف الشرعية الأربعة، فخرج بذلك عنها جميعِها. بل تبيّنَ أن المبتدع من هذه الجهة كمن أظهر السنةَ وعدمَ التلبُّسِ بالبدعة، من جهة أنه قد يكون مؤمنًا، أومسلما فاسقًا، أومنافقًا، وقد يكفر.والسبب في ذلك أن المبتدع متأوّلٌ، والتأوُّلُ ما دام غيرَ مُضادٍّ للشهادتين فالأصلُ فيه الإعذارُ وعدمُ اللومِ والمؤاخذةِ عليه: ظاهرًا وباطنًا، وفي الدنيا والآخرة.
المهم أنه قد ظهر لك أن وَصْفَ (المبتدع) ليس منزلةً من المنازل الشرعية الأربعة، وأن الابتداعَ قد تُرافقه العدالةُ الدينية، وقد تتخلّفُ العدالةُ عن المبتدع المتأوّل لا من جهة البدعة التي تأوّلها، ولكنها تتخلّفُ عنه بمعاصٍ يقترفها أو نفاقٍ أو كُفرٍ، أو إذا ثبت عنادُه في بدعته وعدم تأوّله فيها.فلا يصح أن يُنزَّلَ المبتدعُ عندنا منزلةً بين المنزلتين (بين الإيمان والفسق)، ولا دون الفسق وفوق الكفر (ليكون منزلةً أخرى بين منزلتين) (26)؛ لعدم وجود منزلةٍ بين المنزلتين عند أهل السنة. فضلًا عن أن نُـفَسِّقَهُ مطلقًا، أو نكفّره مطلقًا !! هذا كله مخالفٌ لحكم الشرع في المبتدع، مخالفٌ لمواقف أئمة الإسلام فيه.
فكيف نتوهّمُ بعد ذلك (أو نُوهِم): أن المبتدع شرٌّ في نفسه وعند ربه عزّ وجل ببدعته مطلقا من الفاسق الذي ينشر الخنا والفواحش لأنه لم يتلبّس ببدعة؟!! نعم.. لقد وقع هذا التوهُّم عندما قلنا عن المبتدع: إنه ليس من أهل السنة، فجعلناه بذلك خارجًا عن طائفتنا ؟!! في حين أننا قلنا عن ذلك الفاجر: إنه من أهل السنة (فاسق سُنّي)، فأدخلناه في طائفتنا ؟!! لا والله ! لا يكون المؤمنُ التقيُّ (كقتادة والعزّ ابن عبد السلام) إلا من طائفة المؤمنين (والله حسيبهما)، ولا يكون الفاجرُ الشقيُّ إلا من طائفة الفجرة الفاسقين !!!
وانظر ماذا قال الخليفةُ الراشدُ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عمن كفّروه هو وكلَّ المؤمنين في زمنه ممن لم يدخل في بدعتهم، وهم الخوارج الذين قد جاء فيهم من النصوص وفي التحذير من بدعتهم ما لم يجئ في غيرهم.فقد صحَّ عنه (رضي الله عنه) أنه سُئل عنهم : «أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا.قيل فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.قيل: فما هم ؟قال: قومٌ بغوا علينا، فقاتلناهم»(27).
فعلّق شيخُ الإسلام ابن تيميّة على جواب علي (رضي الله عنه) بقوله :« فقد صرّحَ عليٌّ (رضي الله عنه) بأنهم مؤمنون، ليسوا كفارا، ولامنافقين»(28).
وقال يعقوب بن يوسف المطوّعي (وهو أحد تلامذة أحمد الثقات الأثبات): «كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي شيعيًّا، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقرّبه ويدنيه. فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن شيعي، فقال: سبحان الله! رجلٌ أحب قومًا من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) نقول له: لا تحبهم؟!! هو ثقة».
ولمّا أنكر خلف بن سالم على يحيى بن معين ذهابَه إلى هذا الراوي (عبدالرحمن بن صالح الأزدي)، قال له ابن معين: «اغْرُبْ، لا صلّى الله عليك ! عنده والله سبعون حديثًا، ما سمعت منها شيئًا ». وقال عنه ابن معين مّرّةً أخرى: « ثقةٌ صدوقٌ شيعيٌّ، لأن يخرَّ من السماء أحبُّ إليه من أن يكذب في نصفِ حرفٍ » (29).
وقال أبو داود للإمام أحمد: «لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء، فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله ! لمَ لا تقرئهم؟! قلتُ: نكلّمهم؟ قال: نعم، إلا أن يكون داعيًا، ويخاصم فيه»(30).
وقال ابن حبان في كتابه (الثقات) عن جعفر بن سليمان الضُّبَعي: «كان يُبغضُ الشيخين (ثم أسند) عن جرير بن يزيد بن هارون، قال: بعثني أبي إلى جعفر بن سليمان، فقلتُ له: بلغنا أنك تسبُّ أبا بكر وعمر، قال: أمّا السبّ فلا، ولكنّ البُغضَ ما شئتَ ! قال: وإذا هو شيعيّ مثل الحمار(31).(ثم قال ابن حبان وكان جعفر بن سليمان من الثقات المتقنين في الروايات، غير أنه كان ينتحلُ الميلَ إلى أهل البيت، ولم يكن بداعيةٍ إلى مذهبه.وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلافٌ أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعةٌ ولم يكن يدعو إليها أنّ الاحتجاج بأخباره جائز(32).فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره، ولهذه العلة ما تركوا حديثَ جماعةٍ ممن كانوا ينتحلون البدع ويدعون إليها، وإن كانوا ثقاتًا، واحتججنا بأقوامٍ ثقات انتحالُهم كانتحالهم سواء، غير أنهم لم يكونوا يدعون إلى ما ينتحلون.وانتحالُ العبد بينه وبين ربِّه، إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه، وعلينا قبول الروايات عنهم إذا كانوا ثقاتا »(33).
ووصف الإمام أبو داود أحدَ الرواة وهو عمرو بن ثابت بأنه كان رجُلَ سوء، وأنه كان يقول: «لما مات النبي –صلى الله عليه وسلم- كفر الناس إلا خمسة »، وجعل أبو داود يذمه، ثم قال: «المشؤوم ليس يشبه حديثُه أحاديثَ الشيعة [ يعني أن أحاديثه مستقيمة]» (34).
الخلاصة:
1- يجب أن نفرّق بين البدعة وصاحبها: فالبدعة نُشَدّد في بيان منافاتها للشريعة، ونبذل غاية الجهد في إبطالها، ولا تبرأ الذّممُ بغير ذلك. وأما المبتدع فَـيُـتعامل معه على أنه مسلم، ومادام مسلمًا فله الحق العامّ للمسلم على المسلم، ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بقدر ما يدفع إفسادَه أو يستوجبه استصلاحُه، دون تجاوز هذا الحدّ، ومع حفظ باقي حقوقه.وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: «فالرادُّ على أهل البدع مجاهدٌ، والمجاهدُ قد يكون عدلاً في سياسته، وقد لا يكون.وقد يكون فيه فُجُورٌ...» (35)، فما كلّ ردٍّ على أهل البدع يُـحْمَدُ صاحبُه؛ إلا أن يكون متقيِّدًا بقيود الشريعة.
ولا يصحُّ مع حُكمنا على المبتدع بأنه مسلم، بل أنه معذور في تأوّله (كما هو الأصل)، أن نَحْرِمَهُ من حقوقٍ جاءت النصوص بإثباتها له، هي حقوق المسلم على المسلم، ثم نُعارضها بفهمٍ سقيمٍ وانتقاءٍ ظالمٍ من أقوال السلف أو أفعالهم !!
2- أن الـمبتدع قد يكون أقرب إلينا وأحب، بل قد يستحق من الإجلال والإكرام، ما لا يستحقّه السنّي الفاسق؛ فإن البدعة والفسق كليهما خلافُ المنهجِ النبويِّ وخلاف السنّة، فلا يصح أنْ أُقدّمَ الفاسق (بوصفه أنه سني) مطلقاً على صاحب البدعة بإخراجه عن دائرة أهل السنة (بوصفه أنه بدعي).
فالتقديم والتأخير بين صاحب البدعة والفاسق يجب أن يكون مبنيًّا على مقدار ما عند كل واحدٍ منهما من الخير والشرّ. ومن الخطأ المنتشر بيننا تصوُّرُ أن شرَّ المبتدع مطلقاً أعظم من شر الفاسق(36)!!
وإذا كانت البدعةُ تحرِّفُ حقائقَ الدين، فإن المعاصيَ والانغماسَ في الفسوق يؤدّي إلى الجهل بحقائق الدين، ليؤدّي ذلك إلى إعراضٍ عن حقائقه، إعراضٍ قد يصل إلى درجة الكفر، كما قال أحدُ الزهاد وكثيرٌ من العلماء: المعاصي بريدُ الكفر؛ فلا فرقَ كبيرًا (من هذه الجهة) بين المعاصي والبدع!! خاصة في زمننا، عندما أصبح نَشْرُ الفساد العملي أقوى وأظهر من نشر الفساد الاعتقادي، وبصورة أبشع من كل مراحل التاريخ السابقة، وعلى وجه مرتبطٍ بمَحْوِ حضارتنا الإسلامية، من خلال إحلال القِيَمِ الغربيّة محلَّها. أعود فأقول: لم يَعُدْ هناك وجهٌ لتقديم خطورة البدعة مطلقًا على المعاصي المُمَنْـهَجَةِ المُهدَّفة في زماننا خاصّة، فلا يصحُّ أن يكونَ موقفُنا من أهل المعاصي (وهم معاندون مُسْتَخِفّون بالحرمات) أخفّ من موقفنا من صاحب البدعة، كما يستلزمه وَصْفُ الفاسق غير المتلبِّس ببدعة عندنا: أنه سُني، والمبتدع بأنه: ليس منا: ليس من أهل السنة(37)!
فإلى متى نغلو في إسقاط حقوق أصحابِ البدع المسلمين، ونَـنْسَى أن إسلامَهم قد جمعنا بهم على دينٍ واحد (ماداموا مسلمين)، وأن اختلافَهم معنا لم يُخرجْهم عن أن يكونوا مِنّا، في الدنيا والآخرة، وأنهم مثلُنا في عدم حِرْمانهم من رحمة الله وفي أنهم غيرُ مخلّدين في النار، وأنهم بذلك يستحقّون من حقوق الأُلفة والأُخوّة في الدنيا بقدر ما اجتمعنا معهم فيه من أجلِّ وأعظمِ أمورِ الآخرة!!! فكيف إذا كنّا في مواجهة خَصْمٍ ليس منّا ولا منهم، خصمٍ لا يُريدُنا ولا يريدُهم، فيأكل هذا الخصمُ بعضَنا ببعض!!!
يا معشرَ أهل السنة: قولوا الحق، ورُدّوا على الباطل؛ لكن لا تَسْلُبُوا مسلمًا حقَّه الإسلاميَّ العام، ولا تقدّموا من يستهينُ بحرمات الله على من يعظّمها، ولو ضلّ فابتدع، ما دام معذورًا مأجورًا؛ أفنقدّم المأزور على المأجور "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" [القلم:35-36].
يا معشر أتباع السلف: ليس من منهج السلف تقديمُ ناشرٍ للخنا والزنا والربا؛ لأنه غير متلبِّسٍ ببدعة، على عالم فاضل عابد مجاهد؛ لأنه تلبّس ببدعة؛ لأنّ شرّ الثاني ليس مطلقاً أعظمُ من شرّ الأول، بل ربما لم يكن بينهما تقارب. وإلا فهل يستطيع أحدٌ أن يقدّم بعض من أقام بيوت الخنا والربا من كبار الفُسّاق في زماننا على العز ابن عبد السلام أو تقيِّ الدين السبكي أو الباقلاني أو الأشعري لمذهبهم العقدي؟!!!
إن كنّا لا نُحسن استخدامَ تقسيم الناس إلى سُنّي وبدعي، إلا على ذلك الوجه الظالم الجائر، الذي ليس من منهج السلف، فخيرٌ لنا أن لا نستخدمه.وقد بيّنتُ آنفًا أن استخدامه المصلحي مبنيٌّ على أمرين:
التشديد في التنفير من البدعة نفسها، وأن لا يُتَشَدَّد مع صاحبها إلا بقدر ما يدفع إفسادَه، مع حفظ ما لا يُهدَرُ من حقوقه، وأن لا يقودنا هذا التقسيمُ إلى تقديم صاحب الشرّ الأعظم (كمَرَدَةِ الفُسّاق) على صاحب الشر الأخف (كالعالم الصالح المبتدع)، وكما لم يُلْغِ فسقُ الفاسق حقَّهُ الإسلاميَّ العامّ إلغاءً مطلقاً، فكذلك لا يُلغي الابتداعُ حقَّ المبتدعِ المسلمِ في الحقِّ الإسلاميِّ العامِّ الإلغاءَ المطلقَ.
وأرجو أن يقرأ المسلمون (علماءَ ودعاةً وعمومَ المسلمين) هذا النداء بعمق وتعقّل، وأن يعلموا أنه نداء محبّ شفيق، ومن عاش مع السنّة حتى جاوز الأربعين، لكنّنا نمرّ بمرحلةٍ خطيرة، تستوجب المحاسبة والنقد وتصحيح المسار، وتستلزم إقامة العدل، الذي لا قوام لأمّةٍ بدونه، وإن ظَلَمَنا المخالفون لنا، فإن الظلم لا يُدفع إلا بالعدل، كما لا يُدفع الباطلُ إلا بالحق(38)!! ولا يعني ذلك عدمَ دفْعِ الظُّلم ومُصاولتِهِ، لأن العدل هو: ردُّ المظالم، والانتصافُ للمظلوم والانتصارُ له، والأخذ على يد الظالم وردعُه، لكن دون تجاوز حدِّ العدل.وهذا حُكم السُّني والبِدعي، من ظَلَمَ منهما أو ظُلِمَ.
والله هو المستغاث، وإليه الملجأ في نصر هذه الأمّة.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) وعبادك الصالحين.
والله أعلم.
والحمد لله على ما لا أُحصيه من نعمته، والصلاة والسلام على محمد وأزواجه وذريته. *
د. الشريف حاتم العوني: كاتب سعودي
ولا شك أن لأهل البدع تقسيماتٍ عديدة، تختلف باختلاف مناط التقسيم.لكنَّ أهمَّ تقسيماتهم: ما يتعلق بالـحُكم عليهم إسلامًا وكفرًا، وإيمانًا وفسقًا؛ لأن هذا التقسيم هو الذي ستُبنَى عليه أحكامٌ كثيرةٌ فيما يتعلّق بحكم المبتدع في الدنيا، وحكمه في الآخرة أيضًا.
والحكم على المبتدع بالإسلام أو الكفر، وبالإيمان أو الفسق، مرجعه إلى أمرين: إلى النظرِ في البدعة نفسها، والنظرِ في حال المبتدع نفسه.
وبـيان ذلك: أن البدعةَ إمـا أن تـكون بدعةً كُـفْريـةً، أو غيرَ كُـفريـةٍ.والبدعـة الكُـفريـة: إما أن تكون مناقضةً لصريح دلالة الشهادتين(1)، فهذه يُكَفَّرُ أصحابها على التعيين، ولا نعذرهم في أحكامنا عليهم بجهلٍ أو تأوّلٍ أو شُبْهةٍ.أو أن تكون البدعةُ الكُفريةُ غيرَ مناقضةٍ لصريح دلالة الشهادتين، لكنها تُعارِضُ أمرًا مقطوعًا به في الدين، وهذه يُمكنُ الإعذارُ فيها بالأعذار التي مرجعها إلى الجهل أوالخطأ، لكن إن أُقيمت الحجة على أصحابها (إقامةً صحيحة) فحينئذٍ يُمكن لأهل العلم تكفيرُهم(2).وإما أن تكون بدعتُهم بدعةً غيرَ كفريةٍ أصلاً، وهي التي لا تعارض أمرًا مقطوعًا به في الدين، فهذه لا يُكفَّرُ بها أحدٌ.. لا المتأوِّل ولا المعاند، لكنه قد يُفَسَّقُ إذا أُقيمت الحجة عليه، فتبيَّن إصراره وعنادُه.
فهذه ثلاثة أقسام للبدعة، مع بيان أحوال أصحابها إيمانًا وفسقًا وكفرًا.
وسأخصُّ هذا المقال بالمبتدع المسلم، وهو من كانت بدعته غيرَ كُفرية أصلاً، أو من كانت بدعتُه كفريةً، لكنها لا تناقِضُ دلالةَ الشهادتين، ولذلك يُعذر فيها بالجهل والخطأ، قبل إقامة الحجة الصحيحة عليه(3).
فهؤلاء: تستحق بِدَعُهم التشديدَ في ردّها، والحرصَ على استيفاءِ بيانِ بطلانها، بكل ما من شأنه أن يحقق مصلحة قَمْعِ هذا الرأي الذي يُحرّف حقائقَ الدين؛ إذْ في كُلِّ بدعةٍ تحريفٌ لحقائق الدين، بحسب غلظها أو خفّتها(4).فيجب أن تُرَدَّ تلك البدع، بكل قوّة ووضوح، دون مداراة أو مجاملة (ما أمكن ذلك)، وبالوسائل الشرعية الممكنة جميعها.
لكن هذا التشديدَ والغِلَظَ يخصّ البدعةَ نفسَها والرأي المبتدعَ عينَه، دون قائله وصاحبه، والذي هو غالبًا من المتأوّلين، الذين الأصل فيهم الإعذارُ بالجهل والشُّبَهِ الصارفةِ عن الحق. وتأوّلُ المبتدع (الذي يُعذَرُ معه عندنا في الظاهر) يستوجب أن يكون الأصلُ عدمَ التشديدِ عليه، بل ينبغي أن يكون إعذارُهُ واضحًا في تعاملنا معه، من جهة الرفق به وعدم تنفيره بالغلظة عن الحق وأهل الحق.ولا يصحُّ أن نُـقَرِّرَ إعذارَه، ثمّ نُغْفِلُ تقريرَنا هذا في منهج تعاملِنا معه.بل لا ننسى أن المبتدع قد يكون مأجورًا في بدعته (لا عليها)، ومن جهتين: من جهة أنه اجتهدَ فـأخـطأ، ومن جهة أنه قد يكون دَاعِـيْـهِ إلى البدعـة حُـبَّ الله تعالى وحبَّ رسولـه -صلى الله عليه وسلم-، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة عمن يقيم بدعةَ المولد، وأنه يؤجر على محبّته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، لا على بدعتـــه(5).
بل الذي ينبغي علينا أن لا نَغْفُلَ عنه أبدًا تجاه المبتدع الذي لم يَـكْفُرْ، أي الذي لم يخرج عن الإسلام، أنّ حقوقَ المسلم على المسلم (التي بيّنتها نصوصُ الوحيين) تشمله، وله فيها ما لغيره من جميع المسلمين، سواء أفسّقْناهُ ببدعته(6)، أو كان عدلًا عندنا.فللمبتدع على السُّنّي أن يُوَفِّـيَهُ حقَّهُ الإسلاميَّ العامّ، الذي ألزمت النصوصُ به كلَّ مسلمٍ لكلِّ مسلمٍ لم يخرج عن الإسلام.ولا يجوز على السُّنّي أن يَنْتَقِصَ المبتدعَ حقًّا أوجبه اللهُ تعالى له بالآراء وحظوظ النفس أوبالـمُعَاداةِ والـمُباغضةِ غيرِ المنضبطة بالشرع(7)؛ إلا إذا كان للمبتدع إفسادٌ، فيُـنْـتَـقَصُ من حقوقه بقدْرِ ما يدفع إفسادَهُ(8)، دون تجاوُزٍ ولا اعتداءٍ على هذا القَدْر!!
وهذا يعني أن عقوبة المبتدع حُكْمٌ مَصْلَحِيٌّ، ليس هو بالحكم الثابت في حقّ كل مبتدع. وإذا قلنا عن حُكمٍ ما: إنه مصلحي، فهذا يعني أنه لا يُشرَعُ العمل به إلا إذا علمنا أنه سيؤدّي إلى مصالحه، وإلا فلا يُشرَعُ العملُ به.ويعني أيضًا أنه لا يحق لكل أحد أن يقرِّر مشروعيته، ولكنّ تقريرَ ذلك محصورٌ في أهل العدل والتحرير من أهل العلم.
وخلاصة ذلك: أن عقوبةَ المبتدع خلافُ الأصل الذي نرجع إليه عند عدم العلم بحصولِ المصلحةِ المرجوّةِ من العقوبة، وهذا الأصلُ المرجوعُ إليه حينها هو: أنه مسلمٌ، له ما للمسلمين من الحقوق.كما نَخْلُصُ من ذلك أيضًا: بأن مشروعيةَ عقوبةِ المبتدع تختلفُ من شخصٍ إلى شخص، ومن حالٍ إلى حال، وأن هذه العقوبة أيضًا مَظِنّةُ اختلافٍ بين أهل العلم: فهذا يرى عقوبةَ مبتدعٍ معيّنٍ لتحقُّقِ المصلحة منها عنده، والآخر لا يرى عقوبته لعدم تحقُّقِ المصلحة منها عنده، فلا يسوغُ الإنكار على أحدهما قبل أن نُثبِتَ له خطأه.
وأما من ظن أن البدعة وحدها تستوجبُ عقوبةَ صاحبِها مطلقًا، فأباح لنفسه أن ينتقص من حقوق المسلم المبتدِعِ ما شاء من حقوقِهِ الثابتةِ له بالإسلام، فقد أخطأ خطأً بيِّـنًا، وأوشك أن يستوجب عقوبةَ خالقِه على ظُلمه واعتدائه.
وسأضرب هنا مَـثَلًا بأحد أظهر الحقوق التي يُظَـنُّ أنها مُـنْـتَـقَصَةٌ من الحقوق الإسلاميّة للمبتدع ، ألا وهو تحريم هجر المسلم فوق ثلاثة أيام، لقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقيان فَـيُـعْرِضُ هذا ويُعرضُ هذا، وخيرُهما الذي يبدأ صاحبَه بالسلام»(9).
فقد تعارضتِ الأقوالُ والمذاهبُ المنسوبةُ إلى السلف في هجر المبتدع، فلا يصحُّ بعد هذا التعارُضِ أن أنقلَها دون تحرير.
ومن أهمّ ما أُذكِّرُ به لتحرير مذاهب السلف في مسألة هجر المبتدع: ما سنثبته قريبا (إن شاء الله) من أن المسلمين من أهل البدع عند السلف مقبولو الشهادةِ والرواية، وهذا يدل على أنهم عدولٌ عندهم، فلا يصح أن أُقَرّر هذا الأصل عن السلف ثم أنقضُه بقولٍ أنسبُه إليهم، بأن أدّعي أن حكمَ التعامل مع المبتدع عندهم هو هجرُه مطلقًا؛ لأن هذا يُناقضُ ما دلَّ عليه موقفُ السلف الذي قرَّرَ أن من أهل البدع مَن يكون عدلا مؤمنًا عندهم، بدليل قبولهم شهادةَ أهلِ البدع وروايتِهم، ويعارضُ (قبل ذلك) حُكمَ السلف (وحُكمَنا) لأهل البدع بالإسلامِ، ويعارضُ أيضًا إعذارَهم بالتأوّل.
وقد تأتي عباراتٌ عن السلف في هذا الباب قد يظنها بعضُنا متناقضة، وقد يكون التناقُضُ في فهمنا لها، لا في تلك العبارات! فيعمد بعضُنا إلى انتقاء ما يريد، وترك ما لا يريد، لا لعدم اطلاعه على ما لا يرتضيه، ولا لكونه قد وجّهَ ما لا يرتضيه توجيها سائغا على ما وَفْقِ ما يرتضيه، ولكنه أغفله وتَعَامَى عنه لأنه لا يرتضيه فقط!!
ومن أمثلة ما جاء عن أئمة السنة الذين اختَلفَ النقلُ عنهم في شأن هجر المبتدع: ما جاء عن الإمامِ أحمد (عليه رحمة ُالله) (10).فلا يصحُّ أن أنتقي من أقواله ما أهوى دون ما لا أهوى، ولا أن أنسب إليه مذهبًا بناءً على قولٍ دون موازنته ببقية أقواله.
وممن حرّر مذهب الإمام أحمد في شأن هجر المبتدع: شيخُ الإسلام ابن تيمية، حيث ذهب هو أولاً إلى أن هجرَ المبتدعِ خاضعٌ حُكمُه للمصلحة(11)، بل قال (رحمه الله): « وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين: في قوّتهم وضعفهم، وقلّتهم وكثرتهم؛ فإن المقصودَ به زَجْرُ المهجورِ وتأديبُـهُ، ورجوعُ العامة عن مِثْلِ حاله.فإن كانت المصلحة في ذلك راجحةً، بحيث يُفضي هجرُهُ إلى ضعف الشرّ وخِفْيتِه، كان مشروعًا.وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشرّ، والهاجرُ ضعيفٌ، بحيث يكون مفسدةُ ذلك راجحةً على مصلحته، لم يُشرع الهجر؛ بل يكون التأليفُ لبعض الناس أنفعَ من الهجر، والهجرُ لبعض الناس أنفعَ من التأليف...(ثم استدلّ لذلك، إلى أن قال وجواب الأئمة كأحمدَ وغيرِه في هذا الباب مبنيٌّ على هذا الأصل.ولهذا كان يُفرِّقُ بين الأماكنِ التي كثُرت فيها البدع ،كما كَثُرَ القَدَرُ في البصرة، والتجهُّم(12) بخراسان، والتشيُّعُ بالكوفة، وبين ما ليس كذلك...» (13).
وتحريرُ ابنِ تيمية لمذهبه هذا، و الذي نسبه إلى أئمة الإسلام قاطبةً، وإلى الإمام أحمد خاصةً، مرجِّحًا فيه أن مشروعيةَ هجرِ المبتدع ترجعُ إلى المصلحة = تحريرٌ يجعل هجرَ المبتدع كهجر السُّنّي سواءً بسواء؛ لأن هجرَ السُّني أيضًا قد يجوز أو يجبُ لمصلحة دينيةٍ؛ والأصل في هجرهما عدم الجواز؛ لعموم النصِّ الناهي عن هجر المسلم فوق ثلاث؛ إلا إذا دعت مصلحةٌ دينيةٌ ظاهرةٌ إليه.
ومثالٌ آخر للحقوق التي يُظَنُّ أنها مُنـتَقَصةٌ من الحقِّ الإسلاميِّ العامِّ للمبتدع، بسبب الفهم القاصر لبعض عبارات السلف: ما يُمكنُ أن نفهمه من عبارةٍ للإمام مالكٍ (رحمه الله)، أنه قال عن القدرية: « لا يُصلَّى عليهم، ولا يُسلَّم على أهل القدر، ولا على أهل الأهواء جميعهم، ولا يُصلَّى خلفَهم، ولا تُـقْـبَلُ شهادتهم ».ولكن انظر كيف فَهِمَ العلماءُ هذه العبارة، فقد فسَّرها الإمامُ المُحرِّرُ أبو عمر ابن عبد البرّ بما يراه حريًّا بمذهب الإمام مالك، فقال: « أما قوله: لا يُصَلَّى خلفهم، فإن الإمامة يُتخيَّرُ لها أهلُ الكمال في الدين من أهل التلاوة والفقه، هذا في الإمام الراتب(14).وأما قوله: لا يُصَلَّى عليهم، فإنه يريد لا يُصلِّي عليهم أئمةُ الدين وأهلُ العلم؛ لأن ذلك زجرٌ لهم وخزيٌ؛ لابتداعهم، رجاءَ أن ينتهوا عن مذهبهم، وكذلك تركُ ابتداءِ السلام عليهم.وأما أن تُتركَ الصلاةُ عليهم جُملةً إذا ماتوا، فلا، بل السنةُ الـمُجْتَمَعُ عليها أن يُصلَّى على كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، مبتدعًا كان، أو مرتكبًا للكبائر(15). ولا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار أئمةِ الفتوى يقول في ذلك بقول مالك.وقد ذكرنا أقاويلَ العلماء في قبول شهاداتهم، في كتاب الشهادات، وأن مالكًا شذَّ عنهم في ذلك؛ إلا أحمد بن حنبل، قال: ما تُعجبني شهادة الجهمية ولا الرافضة ولا القدرية، قال إسحاق: وكذلك كل صاحب بدعة(16)...» (17).
ويحق لابن عبد البر أن يتأوَّل عبارات الإمام مالكٍ، لا لكونه عالـمًا بمذهبه فقط، ولا لكون ظاهر مقالته خطأً جليًّا يُنزّهُ الإمامُ عن مثله، ولا لكونه قولا شاذًّا عن مذاهب العلماء (حسب تعبير ابن عبد البر)، بل لكونه يعارضُ أقوالاً ومواقفَ أخرى للإمام مالك! من مثل قوله، وقد سُئل: «كيف رويتَ عن داود بن الحصين، وثور بن زيد، وغيرهم، وكانوا يُرمون بالقدر؟ فقال: إنهم كانوا لأن يخرُّوا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا »(18).
فما ذكره الإمام مالك من ذلك التشديدِ على أهل البدع إنما هو تأديبٌ لهم، فلا يُشرَعُ إلا إذا ظن العلماءُ المحرّرون (لا كل أحد) أن ذلك التشديدَ سيُؤدّبهم ويردعهم، أو كان لهم إفسادٌ لا يُدفَعُ إلا بتلك العقوبات التي يُحدِّدُها العلماءُ وحدهم أيضًا.وهذا يعني أن تلك العقوبات ليست هي الأصل في التعامل مع أهل البدع، إلا إذا كانت مؤدّيةً لمصالحِها، وأنهم في ذلك كالمسلم العاصي تمامًا، فلا يُـختَصُّ أهلُ البدع بتلك الأحكام! وإنما خصّهم مالكٌ وغيره من السلف بالذكر أحيانًا؛ لأن تأوُّلَ المبتدعِ وصلاحَه قد يُظَنُّ معه أن إيقاع ذلك التعزيرِ به غيرُ جائز مطلقًا.
وهذا هو صريحُ تقريرِ شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا، حيث قال: « والتعزير لمن ظهر منه تركُ الواجبات وفعل المحرّمات، كتارك الصلاة والتظاهُرِ بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.وهذا حقيقة قول السلف والأئمة: إن الدُّعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يُناكَحون.فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا فرّقوا بين الداعية وغير الداعية(19)؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحقّ العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرًّا من المنافقين الذين كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقبَلُ علانيتهم، ويكِلُ سرائرَهم إلى الله...» (20)، ثم صرّحَ عَقِبَ هذا الكلام أن مناطَ ذلك راجعٌ إلى المصلحة المترتِّبة عليه، في كلامه المنقول آنفًا عن الهجر.
وبسبب أمثال تلك العبارات التي تحتاج إلى تريّثٍ وعلمٍ لفهمها، وتحتاج آحادُها إلى عرضٍ على الكتاب والسنة، جاء الخطأ في تعاملنا مع المبتدع.وتَرسَّخَ هذا الخطأُ أيضًا بسبب الخلط بين أمرين: أمرِ خطورةِ البدعة على الدين، وأمرِ منهجِ التعامل مع صاحب البدعة، الذي نُقرِّرُ أن الأصلَ فيه التأوّلُ الذي يُعذَرُ صاحبُه ويُؤجَر؛ وما كان ينبغي أن نخلط بين هذين الأمرين!!
ولا شك أنّ الانفصالَ التّامَّ بين البدعةِ و المتلبِّسِ بها غيرُ مُمكنٍ وغيرُ صحيح؛ ولذلك إذا انضمّت إلى البدعة دعوةٌ إليها، ومعاداةٌ لأهل السنة المخالفين للبدعة = استحقّ هذا الداعي من التشديد عليه بقدر ما يدفع إفسادَه، مع اعتقادنا (وثبوت هذا الاعتقاد) أنه قد يكون معذورًا مأجورًا في واقع الحال؛ لتأوّله وللشُّبَهِ التي عنده.فدَفْعُ الإفسادِ شيءٌ، وحُكمُ صاحبِهِ من جهة الإعذار شيءٌ آخر.
وهذا التقرير (أعود فأقول): إنه يعني أن التشديدَ مع أهل البدع خلافُ الأصل فيهم (وهذا أوّلاً)، (وثانيًا): أنّ التشديدَ معهم ينبغي أن يكون بالقَدْرِ الذي نظنّ أنه سيُصلحه(21) أو يدفع إفسادَه، دون مجاوزة هذا الحدّ؛ لأنه ما زال مسلمًا.وإذا كان صاحبَ تَدَيُّنٍ وتعظيمٍ لحرمات الدين مع بدعته، فهذا يستحق من هذه الجهة ما يستحقُّهُ المؤمنون من الإكرام وحفظ الحقوق.(وثالثاً): أن الموازنة بين: صلاح المبتدع وعصيانه (من غير وجه البدعة)، وبدعتِه غلظةً وخِفّةً، ودرجة إعذاره(22)، وإن كان له إفسادٌ ببدعته (دعوةً أو قتالًا عليها) أو ليس له إفساد ببدعته = فالموازنة بين هذه الأمور الأربعة، مع ما يثبتُ للمبتدع غير المكفَّر (أي المسلم) من حق الإسلام العام، هي الوسيلة الدقيقة والعميقة والعادلة لمعرفة منهج التعامل مع صاحب البدعة المعيَّن.وهذا مما لا يستطيع تنزيلَه على الأعيان جميعُ الناس، بل لا يقدر على تحقيقه إلا العلماءُ الراسخون المحرِّرون.
وهذا شيخُ الإسلام ابن تيمية يقرِّرُ ذلك فيقول :« وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خيرٌ وشرٌّ، وفجورٌ وطاعةٌ ومعصيةٌ، وسنةٌ وبدعةٌ = استحقَّ من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقَّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر.فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا.وهذا كاللصِّ الفقير: تُقطَعُ يدُهُ، ويُعطَى من بيت المال ما يكفيه.هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهلُ السنة والجماعة، وخالفهم الخوارجُ والمعتزلةُ ومن وافقهم، فلم يجعلوا الناسَ: إلا مستحقًّا للثواب فقط، وإلا مستحقًّا للعقاب فقط...» (23).
وبذلك يتضح أن تصوّرنا بأن منهج التعامل مع المبتدعة والبدع منهجٌ واحد خطأٌ كبير في التصوُّرِ، ويخالف ما كان عليه السلف:
فانظر تعظيمَهم لبعض من تلبّس ببدعة، إذا كان فيه من العلم والإيمان ما يغلب فسادَ بدعته: كقتادة بن دعامة القدري.
وانظر تفريقهم بين الداعية وغير الداعية، وبين المعاند والمتأوّل.
هل تظنّ أن السلف والأئمة كانوا يقدّمون كبار الفساق وناشري الفجور والفواحش والزنا والربا غير المتلبّسين ببدعة على أولئك الجلّة من العلماء الذين ضلّوا فابتدعوا، كقتادة القدري، وعبد الرزاق الشيعي، وعُبيد الله بن موسى العبسي الشيعي، وأبي معاوية الضرير رأس المرجئة وداعيتهم، والعزّ ابن عبد السلام الأشعري، وغيرهم ممن وُصفوا ببدعة، وربما وُصفوا بغلوٍّ فيها، أو دعوةٍ إليها، ومع ذلك.. لا تكاد ترى (بعدما وُصِفوا به من البدعة وحالِـهم معها) في ترجماتهم إلا ما يدل على إجلال الأئمة لهم، وحفاوتهم بهم وبعلومهم، أو على حُكمهم عليهم بالعدالة والثقةِ، وأنهم من المعظِّمين لـحُـرُمات الدّين، مما جَوَّزَ للأئمة قَبولَ رواياتهم عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وأوجبَ قَبول شهاداتهم في القضاء أيضًا؛ لأنهم رَأَوْا فيهم من مراقبة الله تعالى ومن إجلال مقام الوقوف أمامه سبحانه ما يحجزهم عن الكذب على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، و يمنعهم عن شهادة الزور.
والله إن من يُقَدّمُ كبارَ الفُسّاق بوصفهم أنهم من طائفتنا: (أهل السنة)، لمجرّد أنهم لم يتلبّسوا ببدعة، مع عظيم إجرامِهم، على أولئك الـجِلّةِ من أهل العلم والصلاح والجهاد، لمجرّد أنهم اجتهدوا فأخطـؤوا وابتدعوا، بإخراجهم عن طائـفتنا: ( ليسوا من أهل السنة) = إنه لظالم لنفسه مبين!
وتالله إن تقسيمًا يقع جرّاءَه ذلك الظلمُ.. ليس من دين الله تعالى!!
فإمّا أنه تقسيمٌ كان يُطبَّق على حسب التعامل الشرعي المشروح آنفاً، وحينها يكون تقسيمًا اعتباريًّا، المقصودُ منه التأكيدُ على خطورة البدعة، وخطورة الاغترار بصلاح صاحبها في تسويق بدعته.. إلى هنا فقط، دونما يمارسه بعضُنا من التقديم المطلق للفاسق من أهل السنّة (!!) على المبتدع، ودون أن يؤدي ذلك الوصفُ إلى الإلغاء المطلق لحقوقٍ واجبةٍ لذلك المبتدع المسلم، ودون أن يُنسي تقريرُ ذلك التقسيمِ وطولُ استعماله أنه يجبُ أن تُراعَى فيه مصالحُه ومفاسدُه.
وإما أن تقول: إنه تقسيمٌ شرعيٌّ ثابت، يقتضي تقديمَ الفجرة الأشقياء ممن لم يتلبَّس ببدعة، على البررة الأتقياء ممن تلبّس ببدعة !! بحجّة أنّ السلف درجوا عليه، وبزعم أنه من الدين !!!
لكن هذا الإصرار على الباطل يقدح في السلف والدين، لظلمه وجوره!!!
ولا شك أن الصواب هو الاحتمال الأول، وهو أن هذا التقسيم مصلحيٌّ اعتباري، فيخضع تطبيقُه واستعماله لمصالحه ومفاسده، وإذا أُحسنَ استخدامُه فقط.
ولكي تعلم أن تقسيم الأمة إلى سُني وبِدعي تقسيمٌ اعتباريٌّ مصلحيّ، عليك أن تتأمّلَ الأوصافَ الشرعيةَ التي أَنزلتِ العِبَادَ منازلهم من الدين، وأن تنظر في المبتدع: أيُّ الأوصاف منها وَصْفُه؟ وفي أيِّ منازلها وضعتْـهُ الشريعةُ؟
ولا يخفى أن الشريعة قد أنزلت المخاطَبين بالشرع على أربعة منازل فقط، ليس إلا هي، وهي منزلة: المسلم المؤمن، والمسلم الفاسق، والمنافق، والكافر المشرك.والوصفان الأولان يشملهما وصف الإسلام، والوصفان الأخيران يشملهما وصف الكفر.فالمكلَّفون كلُّهم: إما مسلمٌ (عدلاً كان، أو فاسقًا)، وإمّا كافرٌ (منافقًا كان أو معلنًا بكفره).هذه هي منازل الناس التي لا يخرجون عنها، والتي رتّبتِ الشريعةُ عليها أحكامًا.
وهنا أسألك :في أيِّ منزلة يقع المبتدعُ عندك؟ هل المبتدع عدلٌ مؤمنٌ؟ أم أنه مسلمٌ فاسق؟ أم أنه منافقٌ زنديقٌ؟ أم أنه كافرٌ خارجٌ من الملّة؟ فإنك (إن كنتَ من أهل العلم، أو نظرتَ في أحكامهم على المبتدعة) ستقول: إن المبتدع لا يـصحُّ أن يُنزَّل مطلقًا في أحد تلك الـمنازل الشرعية، لأنه قد يـكـون مـؤمنا عـدلا (ولـذلك قـبلوا شـــــــــهـادتـه(24) وقبلوا روايته أيضًا (25)، وقد يكون فاسقا (إذا أتى ما يُفَسَّقُ به غيرُهُ من المعاصي سوى البدعة ، أو إذا كانت بدعته مُفسِّقةً وأُقيمت الحُجّةُ عليه فأصرّ عليها)، وقد يكون منافقًا (إذا أبطن الكفر)، وقد يكون كافرًا (إذا ارتدّ عن الدين، كأن تكون بدعتُه كُفْريةً، وأُقيمت الحُجّةُ عليه، فأصرَّ على بدعته).فتبيّنَ بذلك أن المبتدعَ ليس مساويًا لواحدٍ من تلك الأوصاف الشرعية الأربعة، فخرج بذلك عنها جميعِها. بل تبيّنَ أن المبتدع من هذه الجهة كمن أظهر السنةَ وعدمَ التلبُّسِ بالبدعة، من جهة أنه قد يكون مؤمنًا، أومسلما فاسقًا، أومنافقًا، وقد يكفر.والسبب في ذلك أن المبتدع متأوّلٌ، والتأوُّلُ ما دام غيرَ مُضادٍّ للشهادتين فالأصلُ فيه الإعذارُ وعدمُ اللومِ والمؤاخذةِ عليه: ظاهرًا وباطنًا، وفي الدنيا والآخرة.
المهم أنه قد ظهر لك أن وَصْفَ (المبتدع) ليس منزلةً من المنازل الشرعية الأربعة، وأن الابتداعَ قد تُرافقه العدالةُ الدينية، وقد تتخلّفُ العدالةُ عن المبتدع المتأوّل لا من جهة البدعة التي تأوّلها، ولكنها تتخلّفُ عنه بمعاصٍ يقترفها أو نفاقٍ أو كُفرٍ، أو إذا ثبت عنادُه في بدعته وعدم تأوّله فيها.فلا يصح أن يُنزَّلَ المبتدعُ عندنا منزلةً بين المنزلتين (بين الإيمان والفسق)، ولا دون الفسق وفوق الكفر (ليكون منزلةً أخرى بين منزلتين) (26)؛ لعدم وجود منزلةٍ بين المنزلتين عند أهل السنة. فضلًا عن أن نُـفَسِّقَهُ مطلقًا، أو نكفّره مطلقًا !! هذا كله مخالفٌ لحكم الشرع في المبتدع، مخالفٌ لمواقف أئمة الإسلام فيه.
فكيف نتوهّمُ بعد ذلك (أو نُوهِم): أن المبتدع شرٌّ في نفسه وعند ربه عزّ وجل ببدعته مطلقا من الفاسق الذي ينشر الخنا والفواحش لأنه لم يتلبّس ببدعة؟!! نعم.. لقد وقع هذا التوهُّم عندما قلنا عن المبتدع: إنه ليس من أهل السنة، فجعلناه بذلك خارجًا عن طائفتنا ؟!! في حين أننا قلنا عن ذلك الفاجر: إنه من أهل السنة (فاسق سُنّي)، فأدخلناه في طائفتنا ؟!! لا والله ! لا يكون المؤمنُ التقيُّ (كقتادة والعزّ ابن عبد السلام) إلا من طائفة المؤمنين (والله حسيبهما)، ولا يكون الفاجرُ الشقيُّ إلا من طائفة الفجرة الفاسقين !!!
وانظر ماذا قال الخليفةُ الراشدُ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عمن كفّروه هو وكلَّ المؤمنين في زمنه ممن لم يدخل في بدعتهم، وهم الخوارج الذين قد جاء فيهم من النصوص وفي التحذير من بدعتهم ما لم يجئ في غيرهم.فقد صحَّ عنه (رضي الله عنه) أنه سُئل عنهم : «أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا.قيل فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.قيل: فما هم ؟قال: قومٌ بغوا علينا، فقاتلناهم»(27).
فعلّق شيخُ الإسلام ابن تيميّة على جواب علي (رضي الله عنه) بقوله :« فقد صرّحَ عليٌّ (رضي الله عنه) بأنهم مؤمنون، ليسوا كفارا، ولامنافقين»(28).
وقال يعقوب بن يوسف المطوّعي (وهو أحد تلامذة أحمد الثقات الأثبات): «كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي شيعيًّا، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقرّبه ويدنيه. فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن شيعي، فقال: سبحان الله! رجلٌ أحب قومًا من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) نقول له: لا تحبهم؟!! هو ثقة».
ولمّا أنكر خلف بن سالم على يحيى بن معين ذهابَه إلى هذا الراوي (عبدالرحمن بن صالح الأزدي)، قال له ابن معين: «اغْرُبْ، لا صلّى الله عليك ! عنده والله سبعون حديثًا، ما سمعت منها شيئًا ». وقال عنه ابن معين مّرّةً أخرى: « ثقةٌ صدوقٌ شيعيٌّ، لأن يخرَّ من السماء أحبُّ إليه من أن يكذب في نصفِ حرفٍ » (29).
وقال أبو داود للإمام أحمد: «لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء، فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله ! لمَ لا تقرئهم؟! قلتُ: نكلّمهم؟ قال: نعم، إلا أن يكون داعيًا، ويخاصم فيه»(30).
وقال ابن حبان في كتابه (الثقات) عن جعفر بن سليمان الضُّبَعي: «كان يُبغضُ الشيخين (ثم أسند) عن جرير بن يزيد بن هارون، قال: بعثني أبي إلى جعفر بن سليمان، فقلتُ له: بلغنا أنك تسبُّ أبا بكر وعمر، قال: أمّا السبّ فلا، ولكنّ البُغضَ ما شئتَ ! قال: وإذا هو شيعيّ مثل الحمار(31).(ثم قال ابن حبان وكان جعفر بن سليمان من الثقات المتقنين في الروايات، غير أنه كان ينتحلُ الميلَ إلى أهل البيت، ولم يكن بداعيةٍ إلى مذهبه.وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلافٌ أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعةٌ ولم يكن يدعو إليها أنّ الاحتجاج بأخباره جائز(32).فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره، ولهذه العلة ما تركوا حديثَ جماعةٍ ممن كانوا ينتحلون البدع ويدعون إليها، وإن كانوا ثقاتًا، واحتججنا بأقوامٍ ثقات انتحالُهم كانتحالهم سواء، غير أنهم لم يكونوا يدعون إلى ما ينتحلون.وانتحالُ العبد بينه وبين ربِّه، إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه، وعلينا قبول الروايات عنهم إذا كانوا ثقاتا »(33).
ووصف الإمام أبو داود أحدَ الرواة وهو عمرو بن ثابت بأنه كان رجُلَ سوء، وأنه كان يقول: «لما مات النبي –صلى الله عليه وسلم- كفر الناس إلا خمسة »، وجعل أبو داود يذمه، ثم قال: «المشؤوم ليس يشبه حديثُه أحاديثَ الشيعة [ يعني أن أحاديثه مستقيمة]» (34).
الخلاصة:
1- يجب أن نفرّق بين البدعة وصاحبها: فالبدعة نُشَدّد في بيان منافاتها للشريعة، ونبذل غاية الجهد في إبطالها، ولا تبرأ الذّممُ بغير ذلك. وأما المبتدع فَـيُـتعامل معه على أنه مسلم، ومادام مسلمًا فله الحق العامّ للمسلم على المسلم، ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بقدر ما يدفع إفسادَه أو يستوجبه استصلاحُه، دون تجاوز هذا الحدّ، ومع حفظ باقي حقوقه.وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: «فالرادُّ على أهل البدع مجاهدٌ، والمجاهدُ قد يكون عدلاً في سياسته، وقد لا يكون.وقد يكون فيه فُجُورٌ...» (35)، فما كلّ ردٍّ على أهل البدع يُـحْمَدُ صاحبُه؛ إلا أن يكون متقيِّدًا بقيود الشريعة.
ولا يصحُّ مع حُكمنا على المبتدع بأنه مسلم، بل أنه معذور في تأوّله (كما هو الأصل)، أن نَحْرِمَهُ من حقوقٍ جاءت النصوص بإثباتها له، هي حقوق المسلم على المسلم، ثم نُعارضها بفهمٍ سقيمٍ وانتقاءٍ ظالمٍ من أقوال السلف أو أفعالهم !!
2- أن الـمبتدع قد يكون أقرب إلينا وأحب، بل قد يستحق من الإجلال والإكرام، ما لا يستحقّه السنّي الفاسق؛ فإن البدعة والفسق كليهما خلافُ المنهجِ النبويِّ وخلاف السنّة، فلا يصح أنْ أُقدّمَ الفاسق (بوصفه أنه سني) مطلقاً على صاحب البدعة بإخراجه عن دائرة أهل السنة (بوصفه أنه بدعي).
فالتقديم والتأخير بين صاحب البدعة والفاسق يجب أن يكون مبنيًّا على مقدار ما عند كل واحدٍ منهما من الخير والشرّ. ومن الخطأ المنتشر بيننا تصوُّرُ أن شرَّ المبتدع مطلقاً أعظم من شر الفاسق(36)!!
وإذا كانت البدعةُ تحرِّفُ حقائقَ الدين، فإن المعاصيَ والانغماسَ في الفسوق يؤدّي إلى الجهل بحقائق الدين، ليؤدّي ذلك إلى إعراضٍ عن حقائقه، إعراضٍ قد يصل إلى درجة الكفر، كما قال أحدُ الزهاد وكثيرٌ من العلماء: المعاصي بريدُ الكفر؛ فلا فرقَ كبيرًا (من هذه الجهة) بين المعاصي والبدع!! خاصة في زمننا، عندما أصبح نَشْرُ الفساد العملي أقوى وأظهر من نشر الفساد الاعتقادي، وبصورة أبشع من كل مراحل التاريخ السابقة، وعلى وجه مرتبطٍ بمَحْوِ حضارتنا الإسلامية، من خلال إحلال القِيَمِ الغربيّة محلَّها. أعود فأقول: لم يَعُدْ هناك وجهٌ لتقديم خطورة البدعة مطلقًا على المعاصي المُمَنْـهَجَةِ المُهدَّفة في زماننا خاصّة، فلا يصحُّ أن يكونَ موقفُنا من أهل المعاصي (وهم معاندون مُسْتَخِفّون بالحرمات) أخفّ من موقفنا من صاحب البدعة، كما يستلزمه وَصْفُ الفاسق غير المتلبِّس ببدعة عندنا: أنه سُني، والمبتدع بأنه: ليس منا: ليس من أهل السنة(37)!
فإلى متى نغلو في إسقاط حقوق أصحابِ البدع المسلمين، ونَـنْسَى أن إسلامَهم قد جمعنا بهم على دينٍ واحد (ماداموا مسلمين)، وأن اختلافَهم معنا لم يُخرجْهم عن أن يكونوا مِنّا، في الدنيا والآخرة، وأنهم مثلُنا في عدم حِرْمانهم من رحمة الله وفي أنهم غيرُ مخلّدين في النار، وأنهم بذلك يستحقّون من حقوق الأُلفة والأُخوّة في الدنيا بقدر ما اجتمعنا معهم فيه من أجلِّ وأعظمِ أمورِ الآخرة!!! فكيف إذا كنّا في مواجهة خَصْمٍ ليس منّا ولا منهم، خصمٍ لا يُريدُنا ولا يريدُهم، فيأكل هذا الخصمُ بعضَنا ببعض!!!
يا معشرَ أهل السنة: قولوا الحق، ورُدّوا على الباطل؛ لكن لا تَسْلُبُوا مسلمًا حقَّه الإسلاميَّ العام، ولا تقدّموا من يستهينُ بحرمات الله على من يعظّمها، ولو ضلّ فابتدع، ما دام معذورًا مأجورًا؛ أفنقدّم المأزور على المأجور "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" [القلم:35-36].
يا معشر أتباع السلف: ليس من منهج السلف تقديمُ ناشرٍ للخنا والزنا والربا؛ لأنه غير متلبِّسٍ ببدعة، على عالم فاضل عابد مجاهد؛ لأنه تلبّس ببدعة؛ لأنّ شرّ الثاني ليس مطلقاً أعظمُ من شرّ الأول، بل ربما لم يكن بينهما تقارب. وإلا فهل يستطيع أحدٌ أن يقدّم بعض من أقام بيوت الخنا والربا من كبار الفُسّاق في زماننا على العز ابن عبد السلام أو تقيِّ الدين السبكي أو الباقلاني أو الأشعري لمذهبهم العقدي؟!!!
إن كنّا لا نُحسن استخدامَ تقسيم الناس إلى سُنّي وبدعي، إلا على ذلك الوجه الظالم الجائر، الذي ليس من منهج السلف، فخيرٌ لنا أن لا نستخدمه.وقد بيّنتُ آنفًا أن استخدامه المصلحي مبنيٌّ على أمرين:
التشديد في التنفير من البدعة نفسها، وأن لا يُتَشَدَّد مع صاحبها إلا بقدر ما يدفع إفسادَه، مع حفظ ما لا يُهدَرُ من حقوقه، وأن لا يقودنا هذا التقسيمُ إلى تقديم صاحب الشرّ الأعظم (كمَرَدَةِ الفُسّاق) على صاحب الشر الأخف (كالعالم الصالح المبتدع)، وكما لم يُلْغِ فسقُ الفاسق حقَّهُ الإسلاميَّ العامّ إلغاءً مطلقاً، فكذلك لا يُلغي الابتداعُ حقَّ المبتدعِ المسلمِ في الحقِّ الإسلاميِّ العامِّ الإلغاءَ المطلقَ.
وأرجو أن يقرأ المسلمون (علماءَ ودعاةً وعمومَ المسلمين) هذا النداء بعمق وتعقّل، وأن يعلموا أنه نداء محبّ شفيق، ومن عاش مع السنّة حتى جاوز الأربعين، لكنّنا نمرّ بمرحلةٍ خطيرة، تستوجب المحاسبة والنقد وتصحيح المسار، وتستلزم إقامة العدل، الذي لا قوام لأمّةٍ بدونه، وإن ظَلَمَنا المخالفون لنا، فإن الظلم لا يُدفع إلا بالعدل، كما لا يُدفع الباطلُ إلا بالحق(38)!! ولا يعني ذلك عدمَ دفْعِ الظُّلم ومُصاولتِهِ، لأن العدل هو: ردُّ المظالم، والانتصافُ للمظلوم والانتصارُ له، والأخذ على يد الظالم وردعُه، لكن دون تجاوز حدِّ العدل.وهذا حُكم السُّني والبِدعي، من ظَلَمَ منهما أو ظُلِمَ.
والله هو المستغاث، وإليه الملجأ في نصر هذه الأمّة.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) وعبادك الصالحين.
والله أعلم.
والحمد لله على ما لا أُحصيه من نعمته، والصلاة والسلام على محمد وأزواجه وذريته. *
د. الشريف حاتم العوني: كاتب سعودي
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: التعامُلُ مع المبتدِعِ بين رَدِّ بدعته ومُرَاعاةِ حُقوقِ إسلامِه
الهوامش:
(1) فالناقضُ الذي لا إعذارَ معه أبدًا هو الناقضُ الصريحُ للدلالة اللغوية التي تُفهَمُ من الشهادتين ، لا للوازمهما. ودلالة الشهادتين اللغوية الصريحة مما لا ينبغي الخلافُ فيه ، فكذلك يجبُ أن يكونَ ناقضُها الصريحُ: مما لا ينبغي أن يُختَلَفَ فيه.
فناقضُ (لا إله إلا الله) الصريح ، هو: إنكار وجود الخالق ، أو جَعْلُ غيرِ الله إلـهًا ، أو ادعاءُ إلـهٍ مع الله ؛ لأن هذا هو المناقِضُ للدلالة اللغوية لها ، فناقضُ دلالةِ الإثبات: هو نَفْيُ الـمُثْـبَتِ ، أو استبدالُ الـمُثْـبَتِ بغيره ، وأما ناقضُ دلالةِ النفي: فهو إثبات الشَّريك لله تعالى.
وناقضُ (أن محمدًا رسولُ الله) الصريح ، هو: تكذيبه –صلى الله عليه وسلم- في شيء مما جاء به ، أو اعتقاد أنه لا طاعة له ، أو بُغضُه –صلى الله عليه وسلم- ؛ لأن مقتضى الإيمان بالرسالة هو: التصديقُ بجميع ما جاء به الرسولُ، واعتقادُ استحقاقه للطاعة المطلقة ، ومحبتُه على ما هدانا الله به من الخيرات وأنقذنا من الشرور.
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا: « وهكذا الأقوال التي يُكَفَّرُ قائلها ، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون عنده ولم تثبت ، أو لم يتمكَّن من فهمها ، وقد يكون عرضت له شُبُهات يعذره الله بها.فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحقّ ، وأخطأ ، فإن الله يغفر له خطأَه كائنًا ما كان ! سواء كان في المسائل النظرية ، أو العملية.هذا الذي عليه أصحابُ النبي –صلى الله عليه وسلم- وجماهيرُ أئمة الإسلام.وما قَسَّموا المسائل إلى أصولٍ يُكفَّرُ بإنكارها ، ومسائلَ فروعٍ لا يُكَفَّرُ بإنكارها...» ، مجموع الفتاوى (23/346).ونحوه فيها (19/206- 227). فشيخ الإسلام هنا يُقرِّرُ أن المبتدعةَ أصحابَ المقالاتِ الكُفريةِ (فضلًا عمن هم أقرب إلى الحق) ليسو فقط ممن لا يستحقّون التكفير قبل أمورٍ ثلاثة: بلوغ الحجة ، وفهمِها ، وإزالةِ عوارض الشبهة عنهم ، بل صَرَّحَ أنهم مؤمنون ! مغفورٌ ذلك الخطأُ الكُفْريُّ منهم !! بسبب إعذارهم بالجهل والتأول والشُّبَه.
ومع تقرير ابن تيمية لذلك ، فقد قرّر هو وغيره من علماء المسلمين تكفيرَ طوائف من المنتسبين للإسلام (كالقرامطة وغيرهم)، ممن ناقضوا صريحَ دلالةِ الشهادتين ، من غير إعذارٍ ولا توقُّفٍ لمعرفة ما عندهم من الشُّبه والجهالات.(فانظر مجموع الفتاوى 28/553 وحاشية ابن عابدين 4/244).
فالنقل الأول عن شيخ الإسلام يدلُّ على وجود بدعٍ كفريةٍ وبدع غير كفرية ، وهو ظاهر ، لكني أذكره لمن لا يطمئنّ قلبه إلا بأمثاله.وأما التقرير الثاني المذكور بعده عن شيخ الإسلام وعن غيره من العلماء فيدل على وجود بدع لا يُعذر فيها أحدٌ بأيِّ عذر.وهذه هي الأقسام الثلاثة للبدعة التي ذكرتها في الأصل ، قد قرّرها العلماء من قبل.
(3) فكل الذي أريده من القارئ أن يقصر نظره في هذا المقال على المبتدع الذي يوافقني في كونه مازال مسلمًا عندي وعنده ، مع كونه مبتدعًا عندي وعنده أيضًا.
(4) وكونُ البدعة تحريفًا لحقائق الدين هو أخشى ما يُخشى منها، وهو وجهُ الخطر الأعظم والخوف الأشدِّ منها.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/123).
(6) المبتدع لكونه متأوّلًا لا يُفسَّق بمجرّد البدعة ، إلا إذا قام الدليل الصحيح بعدم إعذاره بالتأوّل ، كأن تُقام عليه الحجّة ، وتُزالَ عنه الشُّبْـهةُ في بدعةٍ مُفسِّقَةٍ ، فَيَـثْبُتَ عندنا عِنادُه ثبوتًا ندينُ الله تعالى به.
ومن أطلق من أهل السنة القول بتفسيق مبتدع ، وأردنا حملَ إطلاقه على موافقة الصواب: فإما أنه يخصُّ ذلك المبتدعَ المعيّن ؛ لقيام موجِبِ تفسيقه عند العالم.أو أنه أراد بالفسق معناه اللغوي ، وهو الخروج عن تعاليم الشريعة ، بغضِّ النظر عن كونه آثمـًا في بدعته أم معذورًا فيها ، وبغضِّ النظر عن كونه معظّـمًا للحُرُمات أو ليس معظِّـمًا لها ، مع أن الفاسق في الاصطلاح لا يُطلقُ على غير الآثم ولا على المعظِّمِ للحرمات ، وإنما يُطلقُ على الآثم بفعله للمحظور لعدم إعذاره فيه ، ولا يوصَفُ بكونه فاسقًا إلا أن يكون مستهينًا بالـحُرُمات عند مَن وصفه بذلك.
وهذا كقول ابن القيّم الصريح فيه: «الفاسقُ باعتقاده: إذا كان متحفِّظًا في دينه، فإن شهادته مقبولة ، وإن حكمنا بفسقه ، كأهل البدع والأهواء الذين لا نُكَفِّرهم ، كالرافضة ، والخوارج ، والمعتزلة ، ونحوهم ، هذا منصوصُ الأئمة...» ، الطُّـرُق الحُكمية لابن القيم (1/461).فهنا أطلق ابنُ القيم الفسقَ على المتحفِّظ في الدين ، وليس هذا هو الفاسقَ في الاصطلاح.
(7) وهذا كالذي كان قد نبّهَ عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية ، عندما تكلّم عن ضوابط هجر المبتدع ، ومتى تُشرع ، ثم قال بعد ذلك: « وإذا عُرِفَ هذا ، فالـهَجْرَةُ الشرعية: هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسولُه –صلى الله عليه وسلم-، فالطاعةُ لا بُدّ أن تكون خالصةً لله صوابًا.فمن هجر لهوًى في نفسه ، أو هجر هجرًا غيرَ مأمورٍ به ، كان خارجًا عن هذا.وما أكثر ما تفعلُ النفوسُ ما تهواه، ظانّةً أنها تفعله طاعةً لله !! ».مجموع الفتاوى (28/207).
(8) ويدخل في(دفع إفساده): استصلاحُه هو وعودته إلى الحق.
(9) أخرجه البخاري (رقم6077، 6237) ، ومسلم (رقم2560).
(10) انظر اختلاف النقول عن الإمام أحمد في ذلك في الآداب الشرعية لابن مفلح (1/229-236 ، 237-239)
(11) كما نقل ذلك عنه ابنُ مفلح في الآداب الشرعية (1/ 233).
(12) في المصدر (والتنجيم) ، والظاهر أنه تصحيف ، صوابه ما أثبتّه ، وانظر مجموع الفتاوى (20/301).
(13) مجموع الفتاوى (28/206-207).وانظر كلامًا نحوه في المسوّدة لآل تيمية (1/524-528).
(14) فهنا يحمل ابنُ عبد البرّ عبارةَ الإمامِ مالكٍ على أن اختيارَ الإمامِ الراتبِ للإمامة يجب أن يُحرَصَ فيه أن يكون على أحسن الأوصاف، لا أنّ الصلاةَ خلف أهل البدع لا تجوز ؛ فإن القاعدة عند عامة أهل السنة في ذلك معلومة ، وهي: أن كلَّ من صحّت صلاتُه لنفسه فقد صحّت لغيره ؛ وحينئذٍ نقول: المسلمُ المبتدعُ لا يكون مسلمًا إلا أن تكون صلاتُه صحيحةً لنفسه.وانظر لذلك شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/569-570).
ولـمّا كان قولُ الإمام مالكٍ لا يصحُّ في هذا الأصل إلا أن يكون هو قولَ المحقّقين من أهلِ السنة ؛ لأنه من أكبر أئمة السنة ، كان ذلك صارفًا صحيحًا (لا يُشَكُّ في صحّته) نَصْرِفُ به عبارته عن ظاهرها !! خاصةً مع صارفٍ آخر: وهو بقية أقواله التي تُعارضُ هذا القول ، والذي سيأتي أحدها في أصل المقال بعد قليل.
وقد عقد الإمامُ البخاري بابًا في صحيحه (باب إمامة المفتون والمبتدع ) ، ثم بدأ بنقلٍ علّقه جازمًا عن الحسن البصري (وهو صحيح عنه ، كما تراه في تغليق التعليق 2/292-293) ، أنه قال:«صلِّ ، وعليه بدعته » ، ثم أسند إلى عُبيد الله بن عدي بن الخِيار: « أنه دخل على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وهو محصورٌ ، فقال: إنك إمامُ عامةٍ ، ونزل بك ما نرى ، ويُصلِّي لنا إمامُ فتنةٍ ، ونتحرّج؟ فقال: الصلاة أحسنُ ما يعمل الناسُ ، فإذا أحسنَ الناسُ فأحسِنْ ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم ».(فتح الباري 2/188 رقم695).
(15) وهنا يُقرّر ابن عبد البرّ: أن بعض عقوبات المبتدع المعيّن إذا رأى العالمُ مشروعيّتها لما تحققه من المصالح ، فإنها قد تُشرعُ وتجوزُ للعالم وحده ، دون بقية المسلمين ، فلا يجوز ذلك لهم.
وهذا تقريرٌ صحيح في نفسه ؛ لأنّ بعضَ العقوبات لا يجوز أن يمارسها المسلمون كلُّهم ضدَّ المبتدع: إما لكون ذلك محرّمًا في الشرع أصلاً ، كالصلاة على المبتدع المسلم التي لا يجوز أن يتركها المسلمون كلهم (كما قال ابن عبد البر) ، وإما لأن عوامَّ المسلمين لن يستطيع أغلبُهم الوقوفَ ببعضِ العقوبات عند حدِّها المشروع ، وسيُبالغون فيها حتى تخرجَ عن حدّها الجائز إلى الحدّ المحرّم.
وهنا أذكّر العلماءَ بواجبهم تجاه العامة في شأن ما يرونه من عقوباتٍ يقرّرون مشروعيتها تجاه أحد المبتدعة: بأن يُراعوا عَجْزَ أغلب العوام عن تقديرها قدرَها ، وعن فَهْمِ المقصود منها ، وأنها قد لا تستوجب تكفيرًا ، وربما أنها لا تستوجب تفسيقًا أيضًا !!
(16) عبارة الإمامين أحمد وإسحاق جاءت في سؤالات الكوسج لهما (رقم2913) ، قال الكوسج: «قلت: كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة صاحب الهوى ، إذا كان فيهم عدلًا ، لا يستحلّ شهادة الزور؟ قال [أي أحمد]: ما يُعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والـمُغْلِيَة.
قال إسحاق: كما قال ، وكذلك كل صاحب بدعة يدعو إليها ».
وقوله (المغلية): أي الغُلاة.
(17) الاستذكار لابن عبد البر (26/103-104).
(18) التهذيب لابن حجر (2/32).
(19) التفريق بين الداعية وغير الداعية يدلُّ على أن العقوبة ليست بسبب البدعة التي يشترك فيها الاثنان ( الداعية وغير الداعية) ، وإنما لمصلحة عدم نشر البدعة.وتعليق تلك العقوبات بالمصالح يجعلها منوطةً بها ، فلا تكون مشروعةً إلا إذا كانت محقِّقةً لها ، وأن تقديرها يختلف من حالٍ إلى حال.
(20) مجموع الفتاوى (28/205).
(21) القناعات والعقائد لا تتبدّل إلا بالإقناع العقلي والأدلة ، وأما محاولة تغيير العقائد بمجرّد الترغيب أو الترهيب وحدهما فإنه لا يُجدي شيئًا.ولذلك فالأصل أن لا نلجأ إلى عقوبةٍ أو إغراءٍ لتغيير القناعات ؛ بل غالبًا ما تكون نتائجُ ذلك عكسيةً.أما أن يُلجأ إلى الترغيب والترهيب مع الإثباتات العقلية والأدلة الصحيحة ، فهذا هو المنهج الصحيح ، كما مع المؤلفة قلوبهم.والترغيب والإحسان هو الأعظم أثرًا في الغالب والأنجع لمن أراد الإقناع ، وما أبعد الإقناع عمن أرادها من خلال العقوبة !
ولذلك قُعِّدَ للجدل أن يكون بالأحسن من الأقوال "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل :125] "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" [العنكبوت:46].ولا يُلجَأُ إلى العقوبة إلا في أضيق الحدود ، كما لو ظهرتْ أدلةُ العنادِ والاستكبارِ من المخالِف ورأينا المصلحة في عقوبته ، أو اتّضحتْ براهينُ إعراضِه عن سماعِ ما يجب عليه الإنصاتُ إليه.
(22) حيث إن درجة الإعذار تختلف بسبب جهاتٍ عِدّة :(1) من جهة ظهور أدلة الحق في نفسها أو خفاء أدلته (2) ومن جهة كثرة شُبَهِ الباطل وقوتها أو قِلّتها وضعفها (3) ومن جهة كون بلد المبتدع ومجتمعه على السنة أم على البدعة ، فلا يكون من ابتدع في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في الإعذار كمن نشأ في زمننا في بلد لا تكاد تعرف فيه أحدًا من أهـل السنة (4) ومن جـهة قوة ذكـاء المبتدع أو ضعف فهمه ، فليس الذي تُلبِّسُ عليه أدنى شبهة ؛ لغبائه (وإن كان ما زال في حيّز التكليف)، كمن لا تنطلي عليه الأُغلوطات ؛ لفرط ذكائه.
وهذه الأعذار تُـبَـيِّنُ لك الخطأَ الكبيرَ الذي وقع فيه من كفَّرَ الملايين من أهل الشهادتين بأعيانهم!!! بشُبهة أن الحجة قد قامت عليهم جميعِهم !!! أما كان يكفيه العُذرُ الأخيرُ منها (وهو الرابع) ، ليعلم مقدارَ ما أفرط فيه مقالُه ، ولكي يُدرك عظيمَ تجاوزِه في التصوُّرِ للواقعِ المشاهَدِ !!! فكما أن الـحُكم على كافرٍ بالإسلام بغير تثبّتٍ من دخوله فيه خطأٌ كبيرٌ ، فأكبر منه:إخراجُ مسلمٍ إلى الكفر! وأكبر وأخطر: إخراجُ العددِ من المسلمين !! فكيف بملايين المسلمين!!!
ولا يجوز أن نُصَغِّر الخطأ إذا صدر من أحدنا ، ونُعظِّمه إذا صدر من غيرنا !!
(23) مجموع الفتاوى (28/209).وجاء في المطبوع :« لا مستحقا» هكذا على النفي في الجملتين الأخيرتين ، وهوخطأ ظاهر ، صوابه بالاستثناء.
(24) وهذا ما قرّره الإمام الشافعي في كتابه الأم في باب (ما تجوز به شهادة أهل الأهواء).(7/509-511).
وهذا هو مذهب عامة الفقهاء ، وفي بيان ذلك يقول ابن عبد البر: « اتفق ابن أبي ليلى ، وابن شُبرمة ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، والحسن بن يحيى ، وعثمان البتّي ، وداود ، والطبري ، وسائرُ من تكلّم في الفقه ؛ إلا مالكا وطائفة من أصحابه ، على قبول شهادة أهل البدع: القدريةِ وغيرهم ، إذا كانوا عدولا ، ولا يستحلّون الزور ، ولا يشهد بعضُهم على تصديق بعضٍ في خبره ويمينه ، كما تصنع الخطّابية...(ثم قال كلُّ مَن يُـجيز شهادتَهم لا يرى استتابتَهم ولا عَرْضَهم على السيف » ، الاستذكار لابن عبد البر (26/104).وانظر أيضًا اختلاف العلماء لمحمد بن نصر المروزي (286-287).
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى أن موقف الإمام مالك والإمام أحمد في ردِّ شهادة أهل الأهواء ليس مبنيّا على التأثيم والتكذيب ، وإنما هو من باب الزجر والتأديب لردعهم ولمنع بدعهم من الانتشار.انظر مجموع الفتاوى (13/125) ، والطرق الحكمية لابن القيم (1/461-466). والذي يقطع بصحة هذا البيان: أن الإمامين مالكا وأحمدَ لم يتركا الروايةَ عن أهل البدع مطلقًا ، ولو كانت البدعةُ عندهما مفسِّقةً لتركا الرواية عنهم ؛ لإجماع الأئمة على ترك رواية الفاسق.
(25) وهذا هو الراجح ، والذي اتفق عليه المحدثون من أئمة النقد (رُغم دعاوى الاختلاف المحكيّة عنهم): أن روايةَ من لم يُقدح فيه بغير البدعة مقبولةٌ ، بشرطين: أن لا يكون ممن أُقيمت الحجةعليه فثبت عِنادُهُ ، وأن لا يروي حديثا منكرا من مثله يؤيّد به بدعته ، فيُـرَدُّ حديثُه حينها للظِنّة.وقد بينتُ ذلك باختصار في شرحي المطبوع لموقظة الذهبي.
(26) وإن صحّ على تجوُّزٍ أن يُقالَ عن البدعة نفسها (لا عن المبتدع): «هي أصغر من الكُفر ، وأكبر من الفسق» ، كما في الكُلِّـيّات للكَفَوِيّ (243).لكنها عبارةٌ تحتاج بيانًا ، فلا يصح إطلاقُها هكذا !
(27) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم39097) ، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (رقم591 ،592 ،593) ، وغيرهما.
(28) منهاج السنة النبوية (5/244).
(29) تاريخ بغداد للخطيب: (10/261-263)، وتهذيب التهذيب:(6/197-198).
(30) مسائل أبي داود للإمام أحمد (276).
(31) ليس هذا الشتم من منهج النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وكيف يكون المسلم الثقة مثل الحمار !!!
(32) التفريق بين الداعية وغير الداعية يدل على أن مناط ترك الرواية ليس هو انعدام الثقة بنقل الداعية ؛ لأن الداعية وغير الداعية مشتركان في البدعة التي هي الطعن ، ولذلك ما زال الداعية عند ابن حبان ثقةً كما قال :«وإن كانوا ثقاتا».وإنما سببُ تركِ رواية الداعية هو الهجر والتأديب ، ولكي لا تكون الرواية عنه سببا في الترويج لبدعته.وهذا ما صرّحَ به ابن حبان في مقدمة صحيحه ، حيث ذكر مسألة الرواية عن أهل البدع ، وضرب لهم مثلًا بالمرجئة والرافضة ، وفرّق بين الداعية وغير الداعية ، ثم قال :« فإن الداعي إلى مذهبه والذابَّ عنه حتى يصير إمامًا فيه ، وإن كان ثقةً ، ثم روينا عنه ، جعلنا للاتباع لمذهبه طريقًا ، وسوّغنا للمتعلِّمِ الاعتمادَ عليه وعلى قوله ، فالاحتياطُ تركُ رواية الأئمة الدعاة منهم...».الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بَلَبَان (1/160).
(33) الثقات لابن حبان (6/140-141).
(34) سؤالات أبي عبيد الآجُرّي لأبي داود (رقم591).
(35) مجموع الفتاوى (4/13).
(36) وقد ذكر هذا الأمرَ شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة ، حيث قال :« وجنسُ البدع (وإن كان شرًّا) لكنّ الفجورَ شرٌّ من وجه آخر ؛ وذلك أن الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرّا من الوجه الذي هو حرام محض، لكن مقرونًا باعتقاده لتحريمه ، وتلك حسنة ٌ في أصل الاعتقاد. وأما المبتدعُ فلا بُدّ أن تشتمل بدعته على حقّ وباطلٍ ، ولكن يعتقد أن باطلَها حقٌّ أيضًا ، ففيه من الحُسْنِ ما ليس في الفجور ، ومن السيئ ما ليس في الفجور ، وكذلك العكس ». الاستقامة لابن تيمية(1/ 455)
وبكلام ابن تيمية هذا (الذي يدل على صحته النظرُ الشرعيُّ في المسألة) ينبغي أن نفهم كلامه الآخر في الموازنة بين البدع وأهلها والمعاصي وأهلها، كقوله في مجموع الفتاوى (28/470) «ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلّظة شرٌّ من الذنوب التي يعتقدُ أصحابُها أنها ذنوب» ، وكقوله فيه (20/103): « أن أهل البدع شرٌّ من أهل المعاصي الشهوانية ، بالسنة والإجماع ».فبكلام ابن تيمية الأول يتّضح أن الإطلاق هنا غيرُ مرادٍ عنده ، وكيف يريد الإطلاق؟! وهو نفسُه يرى قبولَ شهادةِ أهل البدع ، دون أهل الفسوق !! كما سبق عزو ذلك إليه. كما أن شيخ الإسلام نفسه يقرّر أن المبتدع هو والعاصي سواء في اجتماع موجبات الإكرام وضدّها فيه ، وأنه لا يُطلَـقُ القولُ فيه بموجبات الإكرام أو الإهانة ، ولكن بحسب ما فيه من خيرٍ وشر ، وسبق نقلُ كلامه في ذلك.
ولا ننسى المواقفَ العملية لشيخ الإسلام مع خصومه من أهل البدع ، وفيهم الغُلاة في بدعتهم ، من ثنائه الخاص على آحادهم (كتقي الدين السبكي) ، والشفاعة فيهم (كما فعل مع البكري)،والعفو عنهم بعد قُدرته عليهم ، حتى كان يقول للسلطان الذي يستشيره في قتلهم (وهم رؤوس أهل البدع في زمنه) ، بعدما مدحهم عنده وأثنى عليهم وشكرهم :« إن هؤلاء لو ذهبوا ، لم تجد مثلهم في دولتك!!»، فكان يقول أحدُهم :«ما رأينا أتقى من ابن تيميّة ! سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا ».فانظر العقود الدرية لابن عبد الهادي (187) ، والجامع لسيرة شيخ الإسلام (260-261، 478-479، 606-607).
وهكذا لا ينبغي أن ننتقي من كلام العالم ما نريدُ أن نتقَوَّى به على رأينا ، دون تحقيق رأيه فيه من عموم مواطنه.ولعلّي لو لم أذكر هذين النقلين عن ابن تيمية لظن بعضُهم أنهما يَرُدّان على تقريري لمذهبه فيه ، ولذلك أحببت بيانَ أن فهمهما لا يصحُّ أن يكون بانتقائيـّةِ وفَهْمِ أهلِ الجهالة!!
ومن هذا الباب كلامٌ في مواطن عديدة لابن تيمية (كالذي في مجموع الفتاوى 11/468-471) ، يجب أن يُفهمَ بكامل سياقه ، وبعرضه على أقواله الأخرى ، والأهم من ذلك أن يُعرَضَ على الكتاب والسنة.ولولا حرصي على الاختصار لنقلتُ ما قد يشتبه (كالنقل المشار إليه) ، لأبيِّنه.ولولا احتمال ادّعاء ذهاب نقلٍ عليَّ يؤثر في نتيجة هذا المقال ، لأعرضتُ عن تلك الإشارة اكتفاءً بإنصاف الباحث عن الحق !! كما أنه (في هذا السياق نفسه) يجب أن نراعي احتمالَ تغيُّرِ اجتهاد الإمام ، كما كان قد نقل الإمام الذهبي عن أبي الحسن الأشعري أنه أشْهَدَ على نفسه بأنه لا يُكفِّر أحدًا من أهل القبلة ، ثم قال الذهبي: «قلتُ: وبنحو هذا أدين ، وكذلك كان شيخُنا ابنُ تيمية في أواخر أيامه ، يقول: أنا لا أكفِّرُ أحدا من الأمة ، ويقول: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: {لا يحافظُ على الوضوء إلا مؤمن} ، فمن لازَمَ الصلوات بوضوء فهو مسلم » ، سير أعلام النبلاء (15/88).
ولن يتأخّرَ الـمُزايِدُون غيرَهم على الحميّة السُّنِّـيّة (بلا إنصاف) عن هذه الساحة ، ولو بالكذب ! فيروي أحدهم أن الإمامَ مالكًا قال: «لو أن رجلا ركب الكبائر كلها (!!!)، بعد أن لا يُشرك بالله، ثم تخلّى من هذه الأهواء والبدع (وذكر كلاما) دخل الجنّة ».أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/325) ، من رواية أحد أجلاد الكذابين ، وهوالنضر بن سلمة شاذان المروزي (لسان الميزان: رقم 8140).
ومثله في البُعد عن العلم والإنصاف: ما رُوي عن الإمام أحمد (وحاشاه منه) أنه قال: « قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة ، وقبور أهل البدعة من الزُّهاد حفرة.فُسّاق أهل السنة أولياء الله ، وزُهّاد أهل البدعة أعداءُ الله ».أسنده القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/12).ومثل هذا الكلام لا يقوله عالم !! بل يتورّع عما دونه في الغُلُوِّ والـمُجازفة عوامُّ المسلمين !!! ولو لم يكن في هذه العبارة إلا إغراءُ أهلِ السنة بارتكاب الكبائر لكفاها سوءًا !! وانظر سياق ابن القيم لهذه العبارة مساقَ الذمّ لها، وأنه لا يشفع لها طِيبُ مقصدها ، ولايُحسِّنها أن مُنطلقَها (وهو بيانُ وجهِ تقديمِ البدعة على المعصية في الخطورة) منطلقٌ صحيح ، وذلك في إعلام الموقّعين (3/329).
(37) ولا يكاد يُوجَدُ وَجْهٌ يُظنّ معه أن البدعة أعظم ضررًا من الفسق مطلقاً، إلا وفيه ما ينقض ذلك الإطلاق.وقد بيّنتُ ذلك في أصل المقال في أظهر وجهٍ يُظَنُّ معه هذا الظن ، وهو: أن البدعة تحريفٌ لحقائق الدين، دون الفسق.فالمعاصي تؤدي إلى الإعراض عن حقائق الدين ، وهذا الإعراض قد يصل إلى حدّ الكفر.
وقد يُقال أيضاً: إنّ البدعة يبقى ضررها حتى بعد موت أصحابها، بخلاف الفسق.أقول: لئن تنزّلتُ في قبول ذلك في تاريخنا الغابر، فماذا تقول في العصر الحاضر، حين أصبح للفسق مدارسُ ومناهجُ ومؤلفاتٌ وبرامج، تدوم وتعمُّ بشرورها، حتى بعد موت أصحابها ؟!!
(38) جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 257): « فصل: في حظر حبس أهل البدع لبدعتهم: قال المرُّوذي: سألت أبا عبدالله [أحمد بن حنبل] عن قوم من أهل البدع يتعرّضون ويُكَفِّرون؟ قال: لا تتعرّضوا لهم.قلتُ: وأي شيء تكرهُ من أن يُـحْبَسوا ؟! قال: لهم والِداتٌ وأخوات. قلتُ:فإنهم قد حبسوا رجلا وظلموه ، وقد سألوني أن أتكلّم في أمره حتى يخرج؟ قال: إن كان يُحبس منهم أحدٌ ، فلا ».فما أعدل أهل السنة وما أرحمهم !!! هذا كلام أحمد في الذين يتعرّضون لنا بالأذى والتكفير ، أنه لا يُسعى في سَجْنهم لمجرّد بدعتهم ؛ لما يُـخشى من تجاوزِ الوُلاةِ في عقوبتهم قَدْرَها المشروع !!!
المصدر: موقع الإسلام اليوم
(1) فالناقضُ الذي لا إعذارَ معه أبدًا هو الناقضُ الصريحُ للدلالة اللغوية التي تُفهَمُ من الشهادتين ، لا للوازمهما. ودلالة الشهادتين اللغوية الصريحة مما لا ينبغي الخلافُ فيه ، فكذلك يجبُ أن يكونَ ناقضُها الصريحُ: مما لا ينبغي أن يُختَلَفَ فيه.
فناقضُ (لا إله إلا الله) الصريح ، هو: إنكار وجود الخالق ، أو جَعْلُ غيرِ الله إلـهًا ، أو ادعاءُ إلـهٍ مع الله ؛ لأن هذا هو المناقِضُ للدلالة اللغوية لها ، فناقضُ دلالةِ الإثبات: هو نَفْيُ الـمُثْـبَتِ ، أو استبدالُ الـمُثْـبَتِ بغيره ، وأما ناقضُ دلالةِ النفي: فهو إثبات الشَّريك لله تعالى.
وناقضُ (أن محمدًا رسولُ الله) الصريح ، هو: تكذيبه –صلى الله عليه وسلم- في شيء مما جاء به ، أو اعتقاد أنه لا طاعة له ، أو بُغضُه –صلى الله عليه وسلم- ؛ لأن مقتضى الإيمان بالرسالة هو: التصديقُ بجميع ما جاء به الرسولُ، واعتقادُ استحقاقه للطاعة المطلقة ، ومحبتُه على ما هدانا الله به من الخيرات وأنقذنا من الشرور.
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا: « وهكذا الأقوال التي يُكَفَّرُ قائلها ، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون عنده ولم تثبت ، أو لم يتمكَّن من فهمها ، وقد يكون عرضت له شُبُهات يعذره الله بها.فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحقّ ، وأخطأ ، فإن الله يغفر له خطأَه كائنًا ما كان ! سواء كان في المسائل النظرية ، أو العملية.هذا الذي عليه أصحابُ النبي –صلى الله عليه وسلم- وجماهيرُ أئمة الإسلام.وما قَسَّموا المسائل إلى أصولٍ يُكفَّرُ بإنكارها ، ومسائلَ فروعٍ لا يُكَفَّرُ بإنكارها...» ، مجموع الفتاوى (23/346).ونحوه فيها (19/206- 227). فشيخ الإسلام هنا يُقرِّرُ أن المبتدعةَ أصحابَ المقالاتِ الكُفريةِ (فضلًا عمن هم أقرب إلى الحق) ليسو فقط ممن لا يستحقّون التكفير قبل أمورٍ ثلاثة: بلوغ الحجة ، وفهمِها ، وإزالةِ عوارض الشبهة عنهم ، بل صَرَّحَ أنهم مؤمنون ! مغفورٌ ذلك الخطأُ الكُفْريُّ منهم !! بسبب إعذارهم بالجهل والتأول والشُّبَه.
ومع تقرير ابن تيمية لذلك ، فقد قرّر هو وغيره من علماء المسلمين تكفيرَ طوائف من المنتسبين للإسلام (كالقرامطة وغيرهم)، ممن ناقضوا صريحَ دلالةِ الشهادتين ، من غير إعذارٍ ولا توقُّفٍ لمعرفة ما عندهم من الشُّبه والجهالات.(فانظر مجموع الفتاوى 28/553 وحاشية ابن عابدين 4/244).
فالنقل الأول عن شيخ الإسلام يدلُّ على وجود بدعٍ كفريةٍ وبدع غير كفرية ، وهو ظاهر ، لكني أذكره لمن لا يطمئنّ قلبه إلا بأمثاله.وأما التقرير الثاني المذكور بعده عن شيخ الإسلام وعن غيره من العلماء فيدل على وجود بدع لا يُعذر فيها أحدٌ بأيِّ عذر.وهذه هي الأقسام الثلاثة للبدعة التي ذكرتها في الأصل ، قد قرّرها العلماء من قبل.
(3) فكل الذي أريده من القارئ أن يقصر نظره في هذا المقال على المبتدع الذي يوافقني في كونه مازال مسلمًا عندي وعنده ، مع كونه مبتدعًا عندي وعنده أيضًا.
(4) وكونُ البدعة تحريفًا لحقائق الدين هو أخشى ما يُخشى منها، وهو وجهُ الخطر الأعظم والخوف الأشدِّ منها.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/123).
(6) المبتدع لكونه متأوّلًا لا يُفسَّق بمجرّد البدعة ، إلا إذا قام الدليل الصحيح بعدم إعذاره بالتأوّل ، كأن تُقام عليه الحجّة ، وتُزالَ عنه الشُّبْـهةُ في بدعةٍ مُفسِّقَةٍ ، فَيَـثْبُتَ عندنا عِنادُه ثبوتًا ندينُ الله تعالى به.
ومن أطلق من أهل السنة القول بتفسيق مبتدع ، وأردنا حملَ إطلاقه على موافقة الصواب: فإما أنه يخصُّ ذلك المبتدعَ المعيّن ؛ لقيام موجِبِ تفسيقه عند العالم.أو أنه أراد بالفسق معناه اللغوي ، وهو الخروج عن تعاليم الشريعة ، بغضِّ النظر عن كونه آثمـًا في بدعته أم معذورًا فيها ، وبغضِّ النظر عن كونه معظّـمًا للحُرُمات أو ليس معظِّـمًا لها ، مع أن الفاسق في الاصطلاح لا يُطلقُ على غير الآثم ولا على المعظِّمِ للحرمات ، وإنما يُطلقُ على الآثم بفعله للمحظور لعدم إعذاره فيه ، ولا يوصَفُ بكونه فاسقًا إلا أن يكون مستهينًا بالـحُرُمات عند مَن وصفه بذلك.
وهذا كقول ابن القيّم الصريح فيه: «الفاسقُ باعتقاده: إذا كان متحفِّظًا في دينه، فإن شهادته مقبولة ، وإن حكمنا بفسقه ، كأهل البدع والأهواء الذين لا نُكَفِّرهم ، كالرافضة ، والخوارج ، والمعتزلة ، ونحوهم ، هذا منصوصُ الأئمة...» ، الطُّـرُق الحُكمية لابن القيم (1/461).فهنا أطلق ابنُ القيم الفسقَ على المتحفِّظ في الدين ، وليس هذا هو الفاسقَ في الاصطلاح.
(7) وهذا كالذي كان قد نبّهَ عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية ، عندما تكلّم عن ضوابط هجر المبتدع ، ومتى تُشرع ، ثم قال بعد ذلك: « وإذا عُرِفَ هذا ، فالـهَجْرَةُ الشرعية: هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسولُه –صلى الله عليه وسلم-، فالطاعةُ لا بُدّ أن تكون خالصةً لله صوابًا.فمن هجر لهوًى في نفسه ، أو هجر هجرًا غيرَ مأمورٍ به ، كان خارجًا عن هذا.وما أكثر ما تفعلُ النفوسُ ما تهواه، ظانّةً أنها تفعله طاعةً لله !! ».مجموع الفتاوى (28/207).
(8) ويدخل في(دفع إفساده): استصلاحُه هو وعودته إلى الحق.
(9) أخرجه البخاري (رقم6077، 6237) ، ومسلم (رقم2560).
(10) انظر اختلاف النقول عن الإمام أحمد في ذلك في الآداب الشرعية لابن مفلح (1/229-236 ، 237-239)
(11) كما نقل ذلك عنه ابنُ مفلح في الآداب الشرعية (1/ 233).
(12) في المصدر (والتنجيم) ، والظاهر أنه تصحيف ، صوابه ما أثبتّه ، وانظر مجموع الفتاوى (20/301).
(13) مجموع الفتاوى (28/206-207).وانظر كلامًا نحوه في المسوّدة لآل تيمية (1/524-528).
(14) فهنا يحمل ابنُ عبد البرّ عبارةَ الإمامِ مالكٍ على أن اختيارَ الإمامِ الراتبِ للإمامة يجب أن يُحرَصَ فيه أن يكون على أحسن الأوصاف، لا أنّ الصلاةَ خلف أهل البدع لا تجوز ؛ فإن القاعدة عند عامة أهل السنة في ذلك معلومة ، وهي: أن كلَّ من صحّت صلاتُه لنفسه فقد صحّت لغيره ؛ وحينئذٍ نقول: المسلمُ المبتدعُ لا يكون مسلمًا إلا أن تكون صلاتُه صحيحةً لنفسه.وانظر لذلك شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/569-570).
ولـمّا كان قولُ الإمام مالكٍ لا يصحُّ في هذا الأصل إلا أن يكون هو قولَ المحقّقين من أهلِ السنة ؛ لأنه من أكبر أئمة السنة ، كان ذلك صارفًا صحيحًا (لا يُشَكُّ في صحّته) نَصْرِفُ به عبارته عن ظاهرها !! خاصةً مع صارفٍ آخر: وهو بقية أقواله التي تُعارضُ هذا القول ، والذي سيأتي أحدها في أصل المقال بعد قليل.
وقد عقد الإمامُ البخاري بابًا في صحيحه (باب إمامة المفتون والمبتدع ) ، ثم بدأ بنقلٍ علّقه جازمًا عن الحسن البصري (وهو صحيح عنه ، كما تراه في تغليق التعليق 2/292-293) ، أنه قال:«صلِّ ، وعليه بدعته » ، ثم أسند إلى عُبيد الله بن عدي بن الخِيار: « أنه دخل على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وهو محصورٌ ، فقال: إنك إمامُ عامةٍ ، ونزل بك ما نرى ، ويُصلِّي لنا إمامُ فتنةٍ ، ونتحرّج؟ فقال: الصلاة أحسنُ ما يعمل الناسُ ، فإذا أحسنَ الناسُ فأحسِنْ ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم ».(فتح الباري 2/188 رقم695).
(15) وهنا يُقرّر ابن عبد البرّ: أن بعض عقوبات المبتدع المعيّن إذا رأى العالمُ مشروعيّتها لما تحققه من المصالح ، فإنها قد تُشرعُ وتجوزُ للعالم وحده ، دون بقية المسلمين ، فلا يجوز ذلك لهم.
وهذا تقريرٌ صحيح في نفسه ؛ لأنّ بعضَ العقوبات لا يجوز أن يمارسها المسلمون كلُّهم ضدَّ المبتدع: إما لكون ذلك محرّمًا في الشرع أصلاً ، كالصلاة على المبتدع المسلم التي لا يجوز أن يتركها المسلمون كلهم (كما قال ابن عبد البر) ، وإما لأن عوامَّ المسلمين لن يستطيع أغلبُهم الوقوفَ ببعضِ العقوبات عند حدِّها المشروع ، وسيُبالغون فيها حتى تخرجَ عن حدّها الجائز إلى الحدّ المحرّم.
وهنا أذكّر العلماءَ بواجبهم تجاه العامة في شأن ما يرونه من عقوباتٍ يقرّرون مشروعيتها تجاه أحد المبتدعة: بأن يُراعوا عَجْزَ أغلب العوام عن تقديرها قدرَها ، وعن فَهْمِ المقصود منها ، وأنها قد لا تستوجب تكفيرًا ، وربما أنها لا تستوجب تفسيقًا أيضًا !!
(16) عبارة الإمامين أحمد وإسحاق جاءت في سؤالات الكوسج لهما (رقم2913) ، قال الكوسج: «قلت: كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة صاحب الهوى ، إذا كان فيهم عدلًا ، لا يستحلّ شهادة الزور؟ قال [أي أحمد]: ما يُعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والـمُغْلِيَة.
قال إسحاق: كما قال ، وكذلك كل صاحب بدعة يدعو إليها ».
وقوله (المغلية): أي الغُلاة.
(17) الاستذكار لابن عبد البر (26/103-104).
(18) التهذيب لابن حجر (2/32).
(19) التفريق بين الداعية وغير الداعية يدلُّ على أن العقوبة ليست بسبب البدعة التي يشترك فيها الاثنان ( الداعية وغير الداعية) ، وإنما لمصلحة عدم نشر البدعة.وتعليق تلك العقوبات بالمصالح يجعلها منوطةً بها ، فلا تكون مشروعةً إلا إذا كانت محقِّقةً لها ، وأن تقديرها يختلف من حالٍ إلى حال.
(20) مجموع الفتاوى (28/205).
(21) القناعات والعقائد لا تتبدّل إلا بالإقناع العقلي والأدلة ، وأما محاولة تغيير العقائد بمجرّد الترغيب أو الترهيب وحدهما فإنه لا يُجدي شيئًا.ولذلك فالأصل أن لا نلجأ إلى عقوبةٍ أو إغراءٍ لتغيير القناعات ؛ بل غالبًا ما تكون نتائجُ ذلك عكسيةً.أما أن يُلجأ إلى الترغيب والترهيب مع الإثباتات العقلية والأدلة الصحيحة ، فهذا هو المنهج الصحيح ، كما مع المؤلفة قلوبهم.والترغيب والإحسان هو الأعظم أثرًا في الغالب والأنجع لمن أراد الإقناع ، وما أبعد الإقناع عمن أرادها من خلال العقوبة !
ولذلك قُعِّدَ للجدل أن يكون بالأحسن من الأقوال "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [النحل :125] "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" [العنكبوت:46].ولا يُلجَأُ إلى العقوبة إلا في أضيق الحدود ، كما لو ظهرتْ أدلةُ العنادِ والاستكبارِ من المخالِف ورأينا المصلحة في عقوبته ، أو اتّضحتْ براهينُ إعراضِه عن سماعِ ما يجب عليه الإنصاتُ إليه.
(22) حيث إن درجة الإعذار تختلف بسبب جهاتٍ عِدّة :(1) من جهة ظهور أدلة الحق في نفسها أو خفاء أدلته (2) ومن جهة كثرة شُبَهِ الباطل وقوتها أو قِلّتها وضعفها (3) ومن جهة كون بلد المبتدع ومجتمعه على السنة أم على البدعة ، فلا يكون من ابتدع في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في الإعذار كمن نشأ في زمننا في بلد لا تكاد تعرف فيه أحدًا من أهـل السنة (4) ومن جـهة قوة ذكـاء المبتدع أو ضعف فهمه ، فليس الذي تُلبِّسُ عليه أدنى شبهة ؛ لغبائه (وإن كان ما زال في حيّز التكليف)، كمن لا تنطلي عليه الأُغلوطات ؛ لفرط ذكائه.
وهذه الأعذار تُـبَـيِّنُ لك الخطأَ الكبيرَ الذي وقع فيه من كفَّرَ الملايين من أهل الشهادتين بأعيانهم!!! بشُبهة أن الحجة قد قامت عليهم جميعِهم !!! أما كان يكفيه العُذرُ الأخيرُ منها (وهو الرابع) ، ليعلم مقدارَ ما أفرط فيه مقالُه ، ولكي يُدرك عظيمَ تجاوزِه في التصوُّرِ للواقعِ المشاهَدِ !!! فكما أن الـحُكم على كافرٍ بالإسلام بغير تثبّتٍ من دخوله فيه خطأٌ كبيرٌ ، فأكبر منه:إخراجُ مسلمٍ إلى الكفر! وأكبر وأخطر: إخراجُ العددِ من المسلمين !! فكيف بملايين المسلمين!!!
ولا يجوز أن نُصَغِّر الخطأ إذا صدر من أحدنا ، ونُعظِّمه إذا صدر من غيرنا !!
(23) مجموع الفتاوى (28/209).وجاء في المطبوع :« لا مستحقا» هكذا على النفي في الجملتين الأخيرتين ، وهوخطأ ظاهر ، صوابه بالاستثناء.
(24) وهذا ما قرّره الإمام الشافعي في كتابه الأم في باب (ما تجوز به شهادة أهل الأهواء).(7/509-511).
وهذا هو مذهب عامة الفقهاء ، وفي بيان ذلك يقول ابن عبد البر: « اتفق ابن أبي ليلى ، وابن شُبرمة ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، والحسن بن يحيى ، وعثمان البتّي ، وداود ، والطبري ، وسائرُ من تكلّم في الفقه ؛ إلا مالكا وطائفة من أصحابه ، على قبول شهادة أهل البدع: القدريةِ وغيرهم ، إذا كانوا عدولا ، ولا يستحلّون الزور ، ولا يشهد بعضُهم على تصديق بعضٍ في خبره ويمينه ، كما تصنع الخطّابية...(ثم قال كلُّ مَن يُـجيز شهادتَهم لا يرى استتابتَهم ولا عَرْضَهم على السيف » ، الاستذكار لابن عبد البر (26/104).وانظر أيضًا اختلاف العلماء لمحمد بن نصر المروزي (286-287).
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى أن موقف الإمام مالك والإمام أحمد في ردِّ شهادة أهل الأهواء ليس مبنيّا على التأثيم والتكذيب ، وإنما هو من باب الزجر والتأديب لردعهم ولمنع بدعهم من الانتشار.انظر مجموع الفتاوى (13/125) ، والطرق الحكمية لابن القيم (1/461-466). والذي يقطع بصحة هذا البيان: أن الإمامين مالكا وأحمدَ لم يتركا الروايةَ عن أهل البدع مطلقًا ، ولو كانت البدعةُ عندهما مفسِّقةً لتركا الرواية عنهم ؛ لإجماع الأئمة على ترك رواية الفاسق.
(25) وهذا هو الراجح ، والذي اتفق عليه المحدثون من أئمة النقد (رُغم دعاوى الاختلاف المحكيّة عنهم): أن روايةَ من لم يُقدح فيه بغير البدعة مقبولةٌ ، بشرطين: أن لا يكون ممن أُقيمت الحجةعليه فثبت عِنادُهُ ، وأن لا يروي حديثا منكرا من مثله يؤيّد به بدعته ، فيُـرَدُّ حديثُه حينها للظِنّة.وقد بينتُ ذلك باختصار في شرحي المطبوع لموقظة الذهبي.
(26) وإن صحّ على تجوُّزٍ أن يُقالَ عن البدعة نفسها (لا عن المبتدع): «هي أصغر من الكُفر ، وأكبر من الفسق» ، كما في الكُلِّـيّات للكَفَوِيّ (243).لكنها عبارةٌ تحتاج بيانًا ، فلا يصح إطلاقُها هكذا !
(27) أخرجه ابن أبي شيبة (رقم39097) ، ومحمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (رقم591 ،592 ،593) ، وغيرهما.
(28) منهاج السنة النبوية (5/244).
(29) تاريخ بغداد للخطيب: (10/261-263)، وتهذيب التهذيب:(6/197-198).
(30) مسائل أبي داود للإمام أحمد (276).
(31) ليس هذا الشتم من منهج النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وكيف يكون المسلم الثقة مثل الحمار !!!
(32) التفريق بين الداعية وغير الداعية يدل على أن مناط ترك الرواية ليس هو انعدام الثقة بنقل الداعية ؛ لأن الداعية وغير الداعية مشتركان في البدعة التي هي الطعن ، ولذلك ما زال الداعية عند ابن حبان ثقةً كما قال :«وإن كانوا ثقاتا».وإنما سببُ تركِ رواية الداعية هو الهجر والتأديب ، ولكي لا تكون الرواية عنه سببا في الترويج لبدعته.وهذا ما صرّحَ به ابن حبان في مقدمة صحيحه ، حيث ذكر مسألة الرواية عن أهل البدع ، وضرب لهم مثلًا بالمرجئة والرافضة ، وفرّق بين الداعية وغير الداعية ، ثم قال :« فإن الداعي إلى مذهبه والذابَّ عنه حتى يصير إمامًا فيه ، وإن كان ثقةً ، ثم روينا عنه ، جعلنا للاتباع لمذهبه طريقًا ، وسوّغنا للمتعلِّمِ الاعتمادَ عليه وعلى قوله ، فالاحتياطُ تركُ رواية الأئمة الدعاة منهم...».الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بَلَبَان (1/160).
(33) الثقات لابن حبان (6/140-141).
(34) سؤالات أبي عبيد الآجُرّي لأبي داود (رقم591).
(35) مجموع الفتاوى (4/13).
(36) وقد ذكر هذا الأمرَ شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة ، حيث قال :« وجنسُ البدع (وإن كان شرًّا) لكنّ الفجورَ شرٌّ من وجه آخر ؛ وذلك أن الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرّا من الوجه الذي هو حرام محض، لكن مقرونًا باعتقاده لتحريمه ، وتلك حسنة ٌ في أصل الاعتقاد. وأما المبتدعُ فلا بُدّ أن تشتمل بدعته على حقّ وباطلٍ ، ولكن يعتقد أن باطلَها حقٌّ أيضًا ، ففيه من الحُسْنِ ما ليس في الفجور ، ومن السيئ ما ليس في الفجور ، وكذلك العكس ». الاستقامة لابن تيمية(1/ 455)
وبكلام ابن تيمية هذا (الذي يدل على صحته النظرُ الشرعيُّ في المسألة) ينبغي أن نفهم كلامه الآخر في الموازنة بين البدع وأهلها والمعاصي وأهلها، كقوله في مجموع الفتاوى (28/470) «ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلّظة شرٌّ من الذنوب التي يعتقدُ أصحابُها أنها ذنوب» ، وكقوله فيه (20/103): « أن أهل البدع شرٌّ من أهل المعاصي الشهوانية ، بالسنة والإجماع ».فبكلام ابن تيمية الأول يتّضح أن الإطلاق هنا غيرُ مرادٍ عنده ، وكيف يريد الإطلاق؟! وهو نفسُه يرى قبولَ شهادةِ أهل البدع ، دون أهل الفسوق !! كما سبق عزو ذلك إليه. كما أن شيخ الإسلام نفسه يقرّر أن المبتدع هو والعاصي سواء في اجتماع موجبات الإكرام وضدّها فيه ، وأنه لا يُطلَـقُ القولُ فيه بموجبات الإكرام أو الإهانة ، ولكن بحسب ما فيه من خيرٍ وشر ، وسبق نقلُ كلامه في ذلك.
ولا ننسى المواقفَ العملية لشيخ الإسلام مع خصومه من أهل البدع ، وفيهم الغُلاة في بدعتهم ، من ثنائه الخاص على آحادهم (كتقي الدين السبكي) ، والشفاعة فيهم (كما فعل مع البكري)،والعفو عنهم بعد قُدرته عليهم ، حتى كان يقول للسلطان الذي يستشيره في قتلهم (وهم رؤوس أهل البدع في زمنه) ، بعدما مدحهم عنده وأثنى عليهم وشكرهم :« إن هؤلاء لو ذهبوا ، لم تجد مثلهم في دولتك!!»، فكان يقول أحدُهم :«ما رأينا أتقى من ابن تيميّة ! سعينا في دمه ، فلما قدر علينا عفا عنا ».فانظر العقود الدرية لابن عبد الهادي (187) ، والجامع لسيرة شيخ الإسلام (260-261، 478-479، 606-607).
وهكذا لا ينبغي أن ننتقي من كلام العالم ما نريدُ أن نتقَوَّى به على رأينا ، دون تحقيق رأيه فيه من عموم مواطنه.ولعلّي لو لم أذكر هذين النقلين عن ابن تيمية لظن بعضُهم أنهما يَرُدّان على تقريري لمذهبه فيه ، ولذلك أحببت بيانَ أن فهمهما لا يصحُّ أن يكون بانتقائيـّةِ وفَهْمِ أهلِ الجهالة!!
ومن هذا الباب كلامٌ في مواطن عديدة لابن تيمية (كالذي في مجموع الفتاوى 11/468-471) ، يجب أن يُفهمَ بكامل سياقه ، وبعرضه على أقواله الأخرى ، والأهم من ذلك أن يُعرَضَ على الكتاب والسنة.ولولا حرصي على الاختصار لنقلتُ ما قد يشتبه (كالنقل المشار إليه) ، لأبيِّنه.ولولا احتمال ادّعاء ذهاب نقلٍ عليَّ يؤثر في نتيجة هذا المقال ، لأعرضتُ عن تلك الإشارة اكتفاءً بإنصاف الباحث عن الحق !! كما أنه (في هذا السياق نفسه) يجب أن نراعي احتمالَ تغيُّرِ اجتهاد الإمام ، كما كان قد نقل الإمام الذهبي عن أبي الحسن الأشعري أنه أشْهَدَ على نفسه بأنه لا يُكفِّر أحدًا من أهل القبلة ، ثم قال الذهبي: «قلتُ: وبنحو هذا أدين ، وكذلك كان شيخُنا ابنُ تيمية في أواخر أيامه ، يقول: أنا لا أكفِّرُ أحدا من الأمة ، ويقول: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: {لا يحافظُ على الوضوء إلا مؤمن} ، فمن لازَمَ الصلوات بوضوء فهو مسلم » ، سير أعلام النبلاء (15/88).
ولن يتأخّرَ الـمُزايِدُون غيرَهم على الحميّة السُّنِّـيّة (بلا إنصاف) عن هذه الساحة ، ولو بالكذب ! فيروي أحدهم أن الإمامَ مالكًا قال: «لو أن رجلا ركب الكبائر كلها (!!!)، بعد أن لا يُشرك بالله، ثم تخلّى من هذه الأهواء والبدع (وذكر كلاما) دخل الجنّة ».أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/325) ، من رواية أحد أجلاد الكذابين ، وهوالنضر بن سلمة شاذان المروزي (لسان الميزان: رقم 8140).
ومثله في البُعد عن العلم والإنصاف: ما رُوي عن الإمام أحمد (وحاشاه منه) أنه قال: « قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة ، وقبور أهل البدعة من الزُّهاد حفرة.فُسّاق أهل السنة أولياء الله ، وزُهّاد أهل البدعة أعداءُ الله ».أسنده القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/12).ومثل هذا الكلام لا يقوله عالم !! بل يتورّع عما دونه في الغُلُوِّ والـمُجازفة عوامُّ المسلمين !!! ولو لم يكن في هذه العبارة إلا إغراءُ أهلِ السنة بارتكاب الكبائر لكفاها سوءًا !! وانظر سياق ابن القيم لهذه العبارة مساقَ الذمّ لها، وأنه لا يشفع لها طِيبُ مقصدها ، ولايُحسِّنها أن مُنطلقَها (وهو بيانُ وجهِ تقديمِ البدعة على المعصية في الخطورة) منطلقٌ صحيح ، وذلك في إعلام الموقّعين (3/329).
(37) ولا يكاد يُوجَدُ وَجْهٌ يُظنّ معه أن البدعة أعظم ضررًا من الفسق مطلقاً، إلا وفيه ما ينقض ذلك الإطلاق.وقد بيّنتُ ذلك في أصل المقال في أظهر وجهٍ يُظَنُّ معه هذا الظن ، وهو: أن البدعة تحريفٌ لحقائق الدين، دون الفسق.فالمعاصي تؤدي إلى الإعراض عن حقائق الدين ، وهذا الإعراض قد يصل إلى حدّ الكفر.
وقد يُقال أيضاً: إنّ البدعة يبقى ضررها حتى بعد موت أصحابها، بخلاف الفسق.أقول: لئن تنزّلتُ في قبول ذلك في تاريخنا الغابر، فماذا تقول في العصر الحاضر، حين أصبح للفسق مدارسُ ومناهجُ ومؤلفاتٌ وبرامج، تدوم وتعمُّ بشرورها، حتى بعد موت أصحابها ؟!!
(38) جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 257): « فصل: في حظر حبس أهل البدع لبدعتهم: قال المرُّوذي: سألت أبا عبدالله [أحمد بن حنبل] عن قوم من أهل البدع يتعرّضون ويُكَفِّرون؟ قال: لا تتعرّضوا لهم.قلتُ: وأي شيء تكرهُ من أن يُـحْبَسوا ؟! قال: لهم والِداتٌ وأخوات. قلتُ:فإنهم قد حبسوا رجلا وظلموه ، وقد سألوني أن أتكلّم في أمره حتى يخرج؟ قال: إن كان يُحبس منهم أحدٌ ، فلا ».فما أعدل أهل السنة وما أرحمهم !!! هذا كلام أحمد في الذين يتعرّضون لنا بالأذى والتكفير ، أنه لا يُسعى في سَجْنهم لمجرّد بدعتهم ؛ لما يُـخشى من تجاوزِ الوُلاةِ في عقوبتهم قَدْرَها المشروع !!!
المصدر: موقع الإسلام اليوم
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى