عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 2
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 2
عجائب الأثار في التراجم والأخبار ( عبد الرحمن الجبرتي )(2 )
من نصائح الرشاد لمصالح العباد
ثم أن هولاكو خان أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الأزقة وفعلوا ما لم يتقدم مثله.
ثم وصلوا إلى دمشق وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب فخرج هاربا وخرج معه أهل القدرة ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم وتعدوها فوصلوا إلى نابلس ثم إلى الكرك وبيت المقدس فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود وتقل في أعينهم أعداد الجنود فالتقاهم عند عين جالوت فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطونهم.
ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحًا.
ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدًا منصورًا وأحبه الخلق محبة عظيمة وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم وكان السلطان وعد بحلب ثم رجع عن ذلك.
فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر وكذلك السلطان وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبة فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق.
الملك بيبرس ودخل بيبرس مصر سلطانًا وتلقب بالملك الظاهر وذلك سنة ثمان وخمسين وستمائة وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي أحد المماليك البحرية وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات وجهز الحج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار.
فلما وصلوا إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة فقال أمير المحمل لأمير مكة: أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس فقال: دعه يأتيني على الخيل البلق.
فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق وجهزهم صحبة أمير الحج وخرج بعدهم على ثلاث نوق عشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة فحاربوهم فنصرهم الله عليهم وقتل ملك التتار وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له: أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق.
فوقع إلى الأرض وركب السلطان فرسه ودخل إلى مكة وكسا البيت وعاد إلى مصر واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما وحج سنة سبع وستين وستمائة.
ولذلك خبر طويل ذكره العلامة المقريزي في ترجمته في تواريخه وفي الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادًا للشرع وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر حميدة ومنها رد الخلافة لبني العباس وذلك أنه لما جرى على بغداد وقتل الخليفة وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات حضر شخص من أولاد الخلفاء الفارين في الواقعة إلى عرب العراق ومعه عشرة من بني مهارش فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم ولقب بالمستنصر وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان وللمسلمين ثم صلى بالناس ورسم بعمل خلعة خليفة إلى السلطان وكتب له تقليدا وقرأ بظاهر القاهرة بحضرة الجمع وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وفوض إليه الأمور وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمول على رأسه ودخل من باب النصر وزينت القاهرة والأمراء مشاة بين يديه ورتب له اتابكيًا واستادارًا وخازندارًا وحاجبًا وشرابيًا وكاتبًا وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلًا وعشر قطارات جمال إلى أمثال ذلك.
ثم أنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق وجهز معه ملوك الشرق صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم فعدم الخليفة ولم يعلم له خبر.
وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا عند بني خفاجة فتوصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا فأخبر به صاحب دمشق فطلبه وكاتب السلطان في شأنه فأرسل يستدعيه فأرسله مع جماعة من أمراء العرب فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام فلم ير أن يدخل إليها فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها ومنهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقًا كثيرًا وقصد عانة ولقب بالحاكم.
فلما خرج المستنصر وافاه بعانة فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته فلما قدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى ابن مهنا فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة.
واستمرت الخلافة بمصر وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة وهذه من مناقب الملك الظاهر.
ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرًا والأمر لقلاوون فخلعه واستبد بالملك ولقب بالملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري والمدرسة والقبة التي دفن بها وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك.
تولى سنة ثمان وسبعين وستمائة ومات أواخر مدته إحدى عشر سنة.
وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكان بطلًا شجاعًا ذا همة علية ورياسة مرضية خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة ثلاث وتسعين وستمائة ونقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون.
مات في حياة أبيه وكان هو أكبر أولاده مرشحًا للسلطنة.
ولما مات الأشرف تولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي.
أقيم في السلطنة وعمره تسع سنين فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين )كنبغا( الملك العادل فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل وتسلطن عوضه ثم ثار عليه طغى وكبرى فقتلاه وقتلا أيضا.
واستدعى الناصر من الكرك فقدم وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورا عليه والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعمائة وأظهر أنه يريد الحج بعياله فوافقه الأميران على ذلك وشرعا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك برمي الإقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فلما تهيأ لذلك احضر الأمراء تقاد معهم الخيل والجمال ثم ركب إلى بركة الحاج وتعين معه للسفر جماعة من الأمراء.
وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة فرحل من ليلته وخرج إلى الصالحية وعيد بها وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال ونزل بقلعتها وصرح بأنه قد ثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالكرك وترك السلطنة ليستريح وكتب إلى الأمراء بذلك وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك وأعاد من كان معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها خمسمائة هجين والمال والجمال وجميع التقادم وأمر نائب الكرك بالمسير عنه وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر وكتب للناصر تقليدًا بنيابة الكرك.
فعندما وصله التقليد مع آل ملك اظهر البشر وخطب باسم المظفر على منبر الكرك وأنعم على البريد الحاج آل ملك وأعاده فلم يتركه المظفر وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي أخذه من الكرك.
وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه فحثوه على القيام لأخذ ملكه ووعدوه بالنصرة فتحرك لذلك وسار إلى دمشق واتت النواب إليه: وقدم إلى مصر وفر بيبرس وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ومات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وكسور ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام.
وكان ملكًا عظيمًا جليلًا كفوءًا للسلطنة ذا دهاء محبًا للعدل والعمارة وطابت مدته وشاع ومن محاسنه أنه لما أستبد بالملك أسقط جميع المكوس من أعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد وهو الروك الناصري المشهود وأبطل الرشوة وعاقب عليها فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي ولا يقضي إلا بالحق.
فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة.
وفي أيامه كثرت العمائر حتى يقال أن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها وله ولأمرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة وحضر في أوائل دولته القان غازات بجنود التتار فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين.
وبعض مناقبه تحتاج إلى طول ونحن لا نذكر إلا لمعًا فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بالمطولات.
وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان ينقل عنه المؤرخون وللصفي الحلي فيه مرثية رائية بليغة نحو ستين بيتا.
ولما مات دفن على والده بالقبة المنصورية بين القصرين.
وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانا منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك هو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة والتي منها ديوان الصبابة والسكردان وطوق الحمامة وحاطب ليل وقرع سن.
ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمائمهم وفي ذلك يقول بعضهم: جعلوا لأبناء النبي علامة أن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي أيام الأشرف هذا قدمت الإفرنج إلى الإسكندرية على حين غفلة ونهبوا أموالها وأسروا نساءها ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعساكره فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها.
ولهذه الواقعة تاريخ أطلعت عليه في مجلدين ويقال أن الفرنساوي الذي يكون في أذنه قرط أمه أصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة.
وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب فأمر بإخراجهم من مصر فتجمعوا وعصوا فحاربهم وقاتلهم فانهزموا فقبض على كثير منهم فقتل منهم طائفة وغرق منهم طائفة ونفى منهم طائفة وبقي منهم بمصر طائفة التجئوا إلى بعض الأمراء وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن ومنهم صرغتمش واسند مروآلجاي اليوسفي وهم كثيرون مختلفي الأجناس ومنهم من جنس الجركس فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتدخلوا في الدولة فاستقر أمرهم على أن طائفة منهم سكنوا بالطباق ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمراء وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري.
فلما عزم الأشرف على الحج وأخذ في أسباب ذلك انتهزوا عند ذلك الفرصة وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة ويزيلوا السلطان والأمراء.
ولما خرج السلطان من مصر خرج في أبهة عظيمة وتجمل زائد بعد أن رتب الأمور وأستخلف بمصر وثغورها من يثق به وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة ومنهم جملة من الجلبان وأبقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك ولا ينفع الحذر من القدر.
فلما خرج السلطان وبعد عن مصر أثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طائفة من المماليك السلطانية وفعلوا ما فعلوه ونادوا بموت السلطان وولوا أبنه ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان وثار أيضا أصحابهم على السلطان في العقبة فانهزم بعد أمور طالا المجيء إلى مصر وصحبته الأمراء الكبار وبعض المماليك ونهبت الخزينة والحج وذهب البعض إلى الشام والبعض إلى الحجاز والبعض إلى مصر صحبة حريم السلطان وجرى ما هو مسطر في الكتاب من ذبح الأمراء واختفاء السلطان وخنقه وتمكن هؤلاء الأجلاب من الدولة ونهبوا بيوت الأموال وذخائر السلطان واقتسموا محاظيه وكذلك الأمراء ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك وأزالوا عز الدولة القلاوونية وأخذوا لأنفسهم الأمريات والمناصب وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض يجبى إليهم ثمرات كل شيء.
من نصائح الرشاد لمصالح العباد
ثم أن هولاكو خان أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الأزقة وفعلوا ما لم يتقدم مثله.
ثم وصلوا إلى دمشق وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب فخرج هاربا وخرج معه أهل القدرة ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم وتعدوها فوصلوا إلى نابلس ثم إلى الكرك وبيت المقدس فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود وتقل في أعينهم أعداد الجنود فالتقاهم عند عين جالوت فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطونهم.
ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحًا.
ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدًا منصورًا وأحبه الخلق محبة عظيمة وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم وكان السلطان وعد بحلب ثم رجع عن ذلك.
فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر وكذلك السلطان وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبة فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق.
الملك بيبرس ودخل بيبرس مصر سلطانًا وتلقب بالملك الظاهر وذلك سنة ثمان وخمسين وستمائة وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي أحد المماليك البحرية وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات وجهز الحج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار.
فلما وصلوا إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة فقال أمير المحمل لأمير مكة: أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس فقال: دعه يأتيني على الخيل البلق.
فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق وجهزهم صحبة أمير الحج وخرج بعدهم على ثلاث نوق عشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة فحاربوهم فنصرهم الله عليهم وقتل ملك التتار وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له: أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق.
فوقع إلى الأرض وركب السلطان فرسه ودخل إلى مكة وكسا البيت وعاد إلى مصر واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما وحج سنة سبع وستين وستمائة.
ولذلك خبر طويل ذكره العلامة المقريزي في ترجمته في تواريخه وفي الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادًا للشرع وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر حميدة ومنها رد الخلافة لبني العباس وذلك أنه لما جرى على بغداد وقتل الخليفة وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات حضر شخص من أولاد الخلفاء الفارين في الواقعة إلى عرب العراق ومعه عشرة من بني مهارش فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم ولقب بالمستنصر وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان وللمسلمين ثم صلى بالناس ورسم بعمل خلعة خليفة إلى السلطان وكتب له تقليدا وقرأ بظاهر القاهرة بحضرة الجمع وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وفوض إليه الأمور وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمول على رأسه ودخل من باب النصر وزينت القاهرة والأمراء مشاة بين يديه ورتب له اتابكيًا واستادارًا وخازندارًا وحاجبًا وشرابيًا وكاتبًا وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلًا وعشر قطارات جمال إلى أمثال ذلك.
ثم أنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق وجهز معه ملوك الشرق صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم فعدم الخليفة ولم يعلم له خبر.
وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا عند بني خفاجة فتوصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا فأخبر به صاحب دمشق فطلبه وكاتب السلطان في شأنه فأرسل يستدعيه فأرسله مع جماعة من أمراء العرب فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام فلم ير أن يدخل إليها فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها ومنهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقًا كثيرًا وقصد عانة ولقب بالحاكم.
فلما خرج المستنصر وافاه بعانة فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته فلما قدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى ابن مهنا فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة.
واستمرت الخلافة بمصر وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة وهذه من مناقب الملك الظاهر.
ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرًا والأمر لقلاوون فخلعه واستبد بالملك ولقب بالملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري والمدرسة والقبة التي دفن بها وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك.
تولى سنة ثمان وسبعين وستمائة ومات أواخر مدته إحدى عشر سنة.
وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكان بطلًا شجاعًا ذا همة علية ورياسة مرضية خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة ثلاث وتسعين وستمائة ونقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون.
مات في حياة أبيه وكان هو أكبر أولاده مرشحًا للسلطنة.
ولما مات الأشرف تولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي.
أقيم في السلطنة وعمره تسع سنين فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين )كنبغا( الملك العادل فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل وتسلطن عوضه ثم ثار عليه طغى وكبرى فقتلاه وقتلا أيضا.
واستدعى الناصر من الكرك فقدم وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورا عليه والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعمائة وأظهر أنه يريد الحج بعياله فوافقه الأميران على ذلك وشرعا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك برمي الإقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فلما تهيأ لذلك احضر الأمراء تقاد معهم الخيل والجمال ثم ركب إلى بركة الحاج وتعين معه للسفر جماعة من الأمراء.
وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة فرحل من ليلته وخرج إلى الصالحية وعيد بها وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال ونزل بقلعتها وصرح بأنه قد ثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالكرك وترك السلطنة ليستريح وكتب إلى الأمراء بذلك وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك وأعاد من كان معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها خمسمائة هجين والمال والجمال وجميع التقادم وأمر نائب الكرك بالمسير عنه وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر وكتب للناصر تقليدًا بنيابة الكرك.
فعندما وصله التقليد مع آل ملك اظهر البشر وخطب باسم المظفر على منبر الكرك وأنعم على البريد الحاج آل ملك وأعاده فلم يتركه المظفر وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي أخذه من الكرك.
وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه فحثوه على القيام لأخذ ملكه ووعدوه بالنصرة فتحرك لذلك وسار إلى دمشق واتت النواب إليه: وقدم إلى مصر وفر بيبرس وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ومات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وكسور ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام.
وكان ملكًا عظيمًا جليلًا كفوءًا للسلطنة ذا دهاء محبًا للعدل والعمارة وطابت مدته وشاع ومن محاسنه أنه لما أستبد بالملك أسقط جميع المكوس من أعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد وهو الروك الناصري المشهود وأبطل الرشوة وعاقب عليها فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي ولا يقضي إلا بالحق.
فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة.
وفي أيامه كثرت العمائر حتى يقال أن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها وله ولأمرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة وحضر في أوائل دولته القان غازات بجنود التتار فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين.
وبعض مناقبه تحتاج إلى طول ونحن لا نذكر إلا لمعًا فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بالمطولات.
وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان ينقل عنه المؤرخون وللصفي الحلي فيه مرثية رائية بليغة نحو ستين بيتا.
ولما مات دفن على والده بالقبة المنصورية بين القصرين.
وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانا منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك هو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة والتي منها ديوان الصبابة والسكردان وطوق الحمامة وحاطب ليل وقرع سن.
ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمائمهم وفي ذلك يقول بعضهم: جعلوا لأبناء النبي علامة أن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي أيام الأشرف هذا قدمت الإفرنج إلى الإسكندرية على حين غفلة ونهبوا أموالها وأسروا نساءها ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعساكره فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها.
ولهذه الواقعة تاريخ أطلعت عليه في مجلدين ويقال أن الفرنساوي الذي يكون في أذنه قرط أمه أصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة.
وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب فأمر بإخراجهم من مصر فتجمعوا وعصوا فحاربهم وقاتلهم فانهزموا فقبض على كثير منهم فقتل منهم طائفة وغرق منهم طائفة ونفى منهم طائفة وبقي منهم بمصر طائفة التجئوا إلى بعض الأمراء وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن ومنهم صرغتمش واسند مروآلجاي اليوسفي وهم كثيرون مختلفي الأجناس ومنهم من جنس الجركس فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتدخلوا في الدولة فاستقر أمرهم على أن طائفة منهم سكنوا بالطباق ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمراء وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري.
فلما عزم الأشرف على الحج وأخذ في أسباب ذلك انتهزوا عند ذلك الفرصة وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة ويزيلوا السلطان والأمراء.
ولما خرج السلطان من مصر خرج في أبهة عظيمة وتجمل زائد بعد أن رتب الأمور وأستخلف بمصر وثغورها من يثق به وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة ومنهم جملة من الجلبان وأبقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك ولا ينفع الحذر من القدر.
فلما خرج السلطان وبعد عن مصر أثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طائفة من المماليك السلطانية وفعلوا ما فعلوه ونادوا بموت السلطان وولوا أبنه ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان وثار أيضا أصحابهم على السلطان في العقبة فانهزم بعد أمور طالا المجيء إلى مصر وصحبته الأمراء الكبار وبعض المماليك ونهبت الخزينة والحج وذهب البعض إلى الشام والبعض إلى الحجاز والبعض إلى مصر صحبة حريم السلطان وجرى ما هو مسطر في الكتاب من ذبح الأمراء واختفاء السلطان وخنقه وتمكن هؤلاء الأجلاب من الدولة ونهبوا بيوت الأموال وذخائر السلطان واقتسموا محاظيه وكذلك الأمراء ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك وأزالوا عز الدولة القلاوونية وأخذوا لأنفسهم الأمريات والمناصب وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض يجبى إليهم ثمرات كل شيء.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 2
حين أقرأ التاريخ أعلم لماذا زهدت الشعوب في السلاطين ولم تنظر إليهم بعين الرضا
يريد بعضهم الآن أن يجمع السلطان الزكاة وأن هذا من حقه
سبحان الله كأنهم لم يقرؤوا التاريخ
لم يكن الملوك إلا القليل منهم من يتق الله في رعيته وعند الله الحساب
يريد بعضهم الآن أن يجمع السلطان الزكاة وأن هذا من حقه
سبحان الله كأنهم لم يقرؤوا التاريخ
لم يكن الملوك إلا القليل منهم من يتق الله في رعيته وعند الله الحساب
<br>
صلاح الدين رجاء- عضو جديد
- الديانه : الاسلام
البلد : الجزائر
عدد المساهمات : 12
نقاط : 5078
السٌّمعَة : 0
مواضيع مماثلة
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 3
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 4
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 5
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 6
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 7
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 4
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 5
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 6
» عجائب الأثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتي 7
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى