تعارض ماركس مع الاقتصاد السياسي
صفحة 1 من اصل 1
تعارض ماركس مع الاقتصاد السياسي
أنور نجم الدين
anwar.nori@gmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 2743 - 2009 / 8 / 19
إنَّ الخطأ الشائع لحد الآن، هو الاعتقاد بأنَّ عمل كارل ماركس، كان يتلخص في تطوير الاقتصاد السياسي، أمَّا في الواقع، وكما بينَّا في مواضيعنا السابقة (انظر ساحة فلسفة وعلم اجتماع)، فإنَّ الاقتصاد السياسي أعلن قبل ماركس بفترة طويلة، طابعه البرجوازي المحض، لذلك كانت المهمة الإنسانية الجديدة، تتلخص في دحض الاقتصاد السياسي، ومنازعته حول مستقبل الإنتاج الرأسمالي بالذات، بدل تجديد أطروحاته البرجوازية المتعفنة، فالأمر إذاً كان يتعلق برفع حجاب هذا العلم البرجوازي، وليس بإعادة الحياة إليه، وحين نقول إنَّ طريقة بحث ماركس طريقة إنجليزية وليست ألمانية، فنعني بذلك أنَّ ماركس، مثله مثل ريكاردو، وعلى العكس من هيغل وفيورباخ، لا يعتمد على طريقة فلسفية، بل على طريقة واقعية مادية، للاستنتاجات عن التاريخ الذي لا يبحث إلا في علاقته بالإنتاج، والتبادل، والاستهلاك، والتوزيع، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور التجارة، والصناعة، فريكاردو يبحث التاريخ أيضاً بطريقة واقعية، فهو يبحث مواد اقتصادية، في الأصل تاريخية، ولكن النقص عند ريكاردو، أو الاقتصاد السياسي عموماً، يعود إلى أنه لا يعالج قوانين التطور التاريخية، ولا يدرس قوانين الطبيعية للمجتمع الرأسمالي بوصفها قوانين عابرة في التاريخ، بل بصفتها حقائق أبدية، قوانين طبيعية أزلية، تسود المجتمع البشري، ما وجد البشر على الأرض، وهذا ما يعارضه كارل ماركس بالضبط، ولم يكن من الممكن، تكامل ونضج المادية التاريخية، بالمعنى الحديث للكلمة، إلا بعد عصر ريكاردو، أي إلا بعد ما أجتازت الصناعة عصر ريكاردو.
((يرى سيابر، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كييف، فيما يختص بالنظرية، على وجه التحديد، أنَّ طريقة ماركس هي طريقة المدرسة الإنجليزية كلها، إنها الطريقة الاستنتاجية التي نرى حسناتها ومساوئها عند أعظم منظري الاقتصاد السياسي – كارل ماركس، رأس المال)).
ولكنَّ المسألة لم تتعلق قط، بتطوير مصطلحات ريكاردية، ولا بالشكل الخلوي الاقتصادي للإنتاج الرأسمالي، أو شكل القيمة للبضاعة، ثمَّ النقد، والأجرة، والربح، وغيرها من المفاهيم الاقتصادية التي ورثتها الإنجليز من سميث وريكاردو، لأنَّ الأمر لم يتعلق بفترة نمو الإنتاج الرأسمالي، أي الفترة الريكاردية التي اجتازتها إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر، كما وأنَّ الأمر لم (يتعلق بالنمو، الكامل تقريباً، للمنازعات الاجتماعية التي تولدها القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي، ولكنه يتعلق بهذه القوانين نفسها وبالإتجاهات التي تظهر وتتحقق بحتمية فولاذية – كارل ماركس، رأس المال).
وهكذا، فبدل الأجرة، والقيمة، والربح، والنزاعات الناتجة منها، والتي تعود في الأساس إلى العصر الريكاردي للرأسمال، يبحث ماركس سير ونمو قوانين الإنتاج الرأسمالي، بوصفها عضوية قابلة للتغيير، فالفترة الريكاردية لتاريخ الصناعة الإنجليزية، لم تكن إطلاقاً صالحةً لتفهم القوانين الاقتصادية الطبيعية للإنتاج الرأسمالي، وكان من غير الممكن تفهم نمو هذه القوانين، دون حدوث الفائض في الإنتاج بالذات، والذي يؤدي بدوره إلى اختلال التوازن الاقتصادي، ثمَّ إلى الأزمات الاقتصادية في الإنتاج الرأسمالي، فمع أزمة عام (1825م) بالذات، انتهت كلُّ أوهام علماء الاقتصاد السياسي بصدد أزلية المجتمع الراسمالي.
((وتتميز الفترة التي تلت، من عام (1820م) إلى عام (1830م) في إنجلترا بفيض من الحياة في حقل الاقتصاد السياسي، وكان ذلك العهد عهد صياغة النظرية الريكاردية وتعميمها، وعهد صراعها ضد جميع المدارس الأخرى المنبثقة عن مذهب آدم سميث - كارل ماركس، رأس المال)).
ولكن هذه الأزمة، أي هذا العهد الذي كان يتخطى العهد الريكاردي، لم تكن سوى جزء من المشهد العمومي للرأسمالية، فحين اجتازت الصناعة الحديثة طفولتها، ودخلت النوبات الدورية حياة هذه الصناعة، انطلق الصراع بين رأس المال الصناعي وملكية الأرض في إنجلترا، وانفجرت الأزمة الاقتصادية في فرنسا في عام (1830م)، و، و، و ...
وهكذا، وكما دقت الثورة البرجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر، ناقوس الخطر للطبقة الإقطاعية السائدة، دقت ثورات البروليتارية في القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، ناقوس الخطر للدولة الحديثة، أي للجمهورية الديمقراطية، لأنَّ فترة نزاعات الطبقية بين العمل ورأس المال على الأجر والأرباح، انتقلت نهائياً إلى الصراع الطبقي الحاسم لأجل الحفاظ أو فناء العالم الرأسمالي، وآنذاك وضح للجميع، وعلى عكس الاقتصاد السياسي، أنَّ هناك أساساً مادياً للسيطرة على القوانين الطبيعية للمنازعات الاجتماعية.
و((استولت البرجوازية في فرنسا وإنجلترا على السلطة السياسية، ومنذ ذلك الحين، اتخذ صراع الطبقات، في النظرية وفي النشاط العملي، أشكالاً اتضحت أكثر فأكثر، وأصبحت مهددة أكثر فأكثر، ودقت الأجراس التي تنعي الاقتصاد البرجوازي العلمي – كارل ماركس، رأس المال)).
فبعد أنْ بلغ الإنتاج الرأسمالي تناقضاتها الداخلية، ظهرت معها صراعات طبقية حاسمة بين طبقتي المجتمع المدني، وعندئذ، لم يحدث استقطاب طبقي بين البرجوازية والبروليتاريا فحسب، بل وانقسم أيضاً باحثو هذه التناقضات، إلى فرقتين متعارضتين، الاقتصاد السياسي، والذي أعلن تماماً إنتماءه إلى الطبقة الحاكمة، والمادية التاريخية التي نصبت أنظارها نحو مستقبل البشرية، وهذا خلال الأزمات الاقتصادية المتكررة، والصراعات الدائرة بين طبقات المجتمع الرأسمالي، وظهور كتاب كـ (رأس المال - نقد الاقتصاد السياسي) والذي يلخص النهاية الحتمية للإنتاج الرأسمالي، لا ظهوره، كان ضرورة تاريخية لتمثيل الحركة الكومونية التي تتلخص رسالتها التاريخية في ثورة على هذا الإنتاج المختل، وإعادة تنظيم الإنتاج الاجتماعي من جديد، خلال تنظيم الكومونات الإنتاجية وإخضاعها للإشراف الجماعي للكومونات الإدارية.
وهكذا، فإنَّ دخول البشرية إلى مسرح التاريخ العالمي، أو التحرر من كلِّ قيد قومي ومحلي، وجعل الفرد على صلة بالمنتجات الإنسانية، المادية كالفكرية، ثمَّ تبعية البشر العمومية لبعضها البعض على صعيد التاريخ العالمي، يعني في نفس الوقت، ظهور مقاييس جديدة للتحقق من التاريخ وحركته المادية، فإذا كان الاقتصاد السياسي، ثمرة تقدم الصناعة الإنجليزية، فالمادية التاريخية في صورتها الناضجة، ثمرة التطور التجاري، والصناعي، والسوق العالمية التي خلقت بالفعل تاريخاً عالمياً مشتركاً للبشر، فالتاريخ العالمي، أصبح الميدان التجريبي المشخص، للأبحاث الجديدة عن التاريخ المادي، وما قام به ماركس، لم يكن تطويراً للاقتصاد السياسي، بل إيضاحاً للاتجاه التاريخي للقوانين الاقتصادية للمجتمع العالمي من وجهة نظر المادية التاريخية، فمع ازدياد قوة الإنتاج، والحاجيات الصناعية للسوق العالمية، بدأت النوبات المتكررة بصورة منتظمة كلَّ عشر سنوات، فالركود – والأزمة - والازدهار، أصبحت سمة مميزة لهذا الإنتاج المختل، أي أصبح قانوناً مطلقاً للإنتاج الرأسمالي، وآنذاك انتهى الوهم الذي كانت تنشره الطبقة المثقفة المتسلطة، والمثقفون الذين يحاولون جر التاريخ وراء مصالح هذه الطبقة، ونعني بهم بالذات ممثلي الاقتصاد السياسي.
إنَّ تعارض ماركس مع الاقتصاد السياسي، يشمل كلَّ فصل من فصول تطور الإنتاج الرأسمالي، وهذا ابتداءً من سر التراكم البدائي للرأسمال، ومروراً بالسلسلة الكاملة لعمليات الإنتاج الرأسمالي، فحسب الاقتصاد السياسي (إنَّ الأولين كدسوا الكنوز فوق الكنوز، في حين أنَّ الآخرين سرعان ما وجدوا أنفسهم مجردين من كلِّ شيء – كارل ماركس، رأس المال)، علمً (لكي يفهم القارئ سير هذا التطور، لا يتحتم علينا الرجوع إلى عهد موغل جداً في القدم، لأنَّ العهد الرأسمالي لا يعود تاريخه إلاَّ إلى القرن السادس عشر – كارل ماركس، راس المال).
لقد كتب التاريخ طفولة الإنتاج الرأسمالي بالدم، فطرد الفلاحين والمنتجين الصغار من أراضيهم لأجل تكوين السوق المحلية بصورة قسرية، و(إكتشاف مناطق الذهب والفضة في أمريكا، وتحويل سكان البلاد الأصليين إلى حياة الرق، ودفنهم في المناجم أو إبادتهم، وبدايات الفتح والنهب لجزر الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى نوع من الجحور التجارية لاصطياد الزنوج، هذه هي الطرق (الغزلية الطاهرة) للتراكم الأولي التي تبشر بالعهد الرأسمالي، في فجره)، (وبعد ذلك بزمن وجيز، اندلعت نيران الحرب التجارية، وميدان هذه الحرب هو المعمورة بأسرها)، (إنَّ مختلف أساليب التراكم الأولي التي أدى العصر الرأسمالي إلى انبثاقها، تتوزع، في البدء، على أساس تاريخي إلى حد ما، بين البرتغال، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وإنجلترا، إلى أن دمجتها إنجلترا جميعها في مجموع منظم، يشمل معاً النظام الإستعماري – كارل ماركس، راس المال).
وعدا ذلك، يدرس ماركس الوجوه المختلفة لسلسلة عمليات الإنتاج الرأسمالي، وسلسلة عمليات الإنتاج هذه، في جوهرها، هي سلسلة عمليات تراكم رأس المال، وبقدر ما تتقدم عملية الإنتاج ثمَّ التراكم، تزداد في نفس الوقت، كتلة العمل الزائد، ثمَّ الكتلة المطلقة للربح، ولكن نمو هذه القوانين، مع أنه يؤدي إلى ارتفاع مطلق في كتلة الربح، فهو يسبب انخفاضاً في معدل الربح، وهذا خلال الازدياد في التركيب العضوي لرأس المال، أي الارتفاع النسبي في قيمة رأس المال الثابت، بالمقارنة مع قيمة رأس المال المتحرك، إنَّ معدل الربح المتوسط، محدد بتركيبه الاجتماعي المتوسط، والنقص النسبي للجزء المتحول لرأس المال الكلي، يؤدي إلى هبوط المعدل العام للربح إذا بقيت درجة استغلال العمل على حالها.
((لقد كان الاقتصاد السياسي الذي لم يعرف تفسير قانون هبوط معدل الربح يرى، حتى الآن في زيادة كتلة الربح، وفي زيادة المقدار المطلق لهذا الأخير، بالنسبة لرأس المال الاجتماعي، نوعاً من التعويض، ولكن هذه الحجة لا تستند إلاَّ إلى أفكار شائعة ومجرد احتمالات – كارل ماركس، رأس المال، ترجمة: الدكتور أنطون حمصي)). ولكن يجب القول ((إنَّ الأسباب التي تؤدي إلى هبوط معدل الربح، لها أيضاً آثارٌ مضادة لهذا الهبوط، أو تبطئه وتشله أحياناً – نفس المصدر)).
إنَّ معدل الربح هو حافز الإنتاج الرأسمالي، فهو الذي ينشط الفائض في الإنتاج، ويسبب اختلال التوازن الاقتصادي، ثمَّ تفجير الأزمات الأقتصادية، وماركس الذي يجد نفسه في التعارض مع الاقتصاد السياسي على طول الخط، يقول هنا:
((وعلماء الاقتصاد الذين يعتبرون، على مثال ريكاردو، نمط الإنتاج الرأسمالي شيئاً مطلقاً يحسون حقاً، أنَّ هذا النمط الإنتاجي يخلق، هنا حده الخاص، ولكنهم لا ينسبون المسؤولية إلى الإنتاج، بل إلى الطبيعة – كارل ماركس، رأس المال)).
وهكذا، فإنَّ الأمر لا يتعلق بإنتاج فائض القيمة لدى كارل ماركس، بل بنمو التناقضات الداخلية للإنتاج الرأسمالي الذي يجلبه قانون القيمة.
((إنَّ نظام الإنتاج الرأسمالي يتضمن نزعة إلى نمو مغلق للقوى الإنتاجية، دون حسبان حساب للقيمة وفائض القيمة الذي تحتوي عليه هذه الأخيرة، ولا للعلاقات الإنتاجية التي يتم في إطارها الإنتاج الرأسمالي – كارل ماركس، رأس المال)).
أين الحل؟
إنَّ الحل الاجتماعي الوحيد لهذه التناقضات، هو إيقاف روح الرأسمالية التاريخية :قانون القيمة! ولا يمكن السيطرة على قانون القيمة وإيقاف فعاليته التاريخية، دون ثورة كومونية في الإنتاج والتوزيع، أي دون السيطرة على الطابع الأعمى لحركة الإنتاج الرأسمالي، وإخضاع سلسلة أفاعيل الإنتاج لمراقبة المجتمع الجماعية، الأمر الذي يجد البشر الشروط التاريخية لتحقيقه تحت أقدامهم، أي في التاريخ المادي، وليس فوق رأسهم، أي في الفلسفة.
((إنَّ تنمية القوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي هي مهمة رأس المال التاريخية ومبررها، ومن أجل ذلك يخلق، على وجه الدقة، دون معرفة منه، الشروط المادية لنمط إنتاجي أعلى – كارل ماركس)).
وهذا النمط، هو الإنتاج الكوموني، ولكن لا تتقدم حركة كومونية (حركة البروليتاريين الكومونيين) إلى مقدمة مسرح الصراع في المستوى الأممي، دون حدوث أزمة اقتصادية شاملة، أي دون انتقال الفائض النسبي من الإنتاج، إلى الفائض المطلق من الإنتاج، أي انتقال الفائض من القطاعات الإنتاجية المختلفة، إلى فائض في كلِّ القطاعات الإنتاجية في المستوى الكوني (ولن تكون الثورة الجديدة ممكنة إلاَّ نتيجة لأزمة جديدة، ولكنها مؤكدة القدوم تماماً كما أنَّ قدوم الأزمة مؤكد – كارل ماركس).
وهل يمكن التحقق من صحة هذه النظرة المادية للتاريخ بصورة تجريبية؟
حسب المعلومات المتوفرة في تاريخ المجتمع الرأسمالي، لم ينقطع الاقتصاد الرأسمالي عن اختلال التوازن والأزمات الدورية، خلال القرنين الأخيرين على الأقل (1825م – 2009م)، وكلُّ تطور للإنتاج الرأسمالي، يعني التحضير لأزمة أعم وأعنف من كلِّ ما سبقها، وإلى أين يتجه العالم أخيراً، إذا لم يخضع الإنتاج في الأخير إلى مراقبة المجتمع الجماعية؟ وما هي هذه المراقبة الجماعية إن لم تكن الكومونة؟
anwar.nori@gmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 2743 - 2009 / 8 / 19
إنَّ الخطأ الشائع لحد الآن، هو الاعتقاد بأنَّ عمل كارل ماركس، كان يتلخص في تطوير الاقتصاد السياسي، أمَّا في الواقع، وكما بينَّا في مواضيعنا السابقة (انظر ساحة فلسفة وعلم اجتماع)، فإنَّ الاقتصاد السياسي أعلن قبل ماركس بفترة طويلة، طابعه البرجوازي المحض، لذلك كانت المهمة الإنسانية الجديدة، تتلخص في دحض الاقتصاد السياسي، ومنازعته حول مستقبل الإنتاج الرأسمالي بالذات، بدل تجديد أطروحاته البرجوازية المتعفنة، فالأمر إذاً كان يتعلق برفع حجاب هذا العلم البرجوازي، وليس بإعادة الحياة إليه، وحين نقول إنَّ طريقة بحث ماركس طريقة إنجليزية وليست ألمانية، فنعني بذلك أنَّ ماركس، مثله مثل ريكاردو، وعلى العكس من هيغل وفيورباخ، لا يعتمد على طريقة فلسفية، بل على طريقة واقعية مادية، للاستنتاجات عن التاريخ الذي لا يبحث إلا في علاقته بالإنتاج، والتبادل، والاستهلاك، والتوزيع، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور التجارة، والصناعة، فريكاردو يبحث التاريخ أيضاً بطريقة واقعية، فهو يبحث مواد اقتصادية، في الأصل تاريخية، ولكن النقص عند ريكاردو، أو الاقتصاد السياسي عموماً، يعود إلى أنه لا يعالج قوانين التطور التاريخية، ولا يدرس قوانين الطبيعية للمجتمع الرأسمالي بوصفها قوانين عابرة في التاريخ، بل بصفتها حقائق أبدية، قوانين طبيعية أزلية، تسود المجتمع البشري، ما وجد البشر على الأرض، وهذا ما يعارضه كارل ماركس بالضبط، ولم يكن من الممكن، تكامل ونضج المادية التاريخية، بالمعنى الحديث للكلمة، إلا بعد عصر ريكاردو، أي إلا بعد ما أجتازت الصناعة عصر ريكاردو.
((يرى سيابر، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كييف، فيما يختص بالنظرية، على وجه التحديد، أنَّ طريقة ماركس هي طريقة المدرسة الإنجليزية كلها، إنها الطريقة الاستنتاجية التي نرى حسناتها ومساوئها عند أعظم منظري الاقتصاد السياسي – كارل ماركس، رأس المال)).
ولكنَّ المسألة لم تتعلق قط، بتطوير مصطلحات ريكاردية، ولا بالشكل الخلوي الاقتصادي للإنتاج الرأسمالي، أو شكل القيمة للبضاعة، ثمَّ النقد، والأجرة، والربح، وغيرها من المفاهيم الاقتصادية التي ورثتها الإنجليز من سميث وريكاردو، لأنَّ الأمر لم يتعلق بفترة نمو الإنتاج الرأسمالي، أي الفترة الريكاردية التي اجتازتها إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر، كما وأنَّ الأمر لم (يتعلق بالنمو، الكامل تقريباً، للمنازعات الاجتماعية التي تولدها القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي، ولكنه يتعلق بهذه القوانين نفسها وبالإتجاهات التي تظهر وتتحقق بحتمية فولاذية – كارل ماركس، رأس المال).
وهكذا، فبدل الأجرة، والقيمة، والربح، والنزاعات الناتجة منها، والتي تعود في الأساس إلى العصر الريكاردي للرأسمال، يبحث ماركس سير ونمو قوانين الإنتاج الرأسمالي، بوصفها عضوية قابلة للتغيير، فالفترة الريكاردية لتاريخ الصناعة الإنجليزية، لم تكن إطلاقاً صالحةً لتفهم القوانين الاقتصادية الطبيعية للإنتاج الرأسمالي، وكان من غير الممكن تفهم نمو هذه القوانين، دون حدوث الفائض في الإنتاج بالذات، والذي يؤدي بدوره إلى اختلال التوازن الاقتصادي، ثمَّ إلى الأزمات الاقتصادية في الإنتاج الرأسمالي، فمع أزمة عام (1825م) بالذات، انتهت كلُّ أوهام علماء الاقتصاد السياسي بصدد أزلية المجتمع الراسمالي.
((وتتميز الفترة التي تلت، من عام (1820م) إلى عام (1830م) في إنجلترا بفيض من الحياة في حقل الاقتصاد السياسي، وكان ذلك العهد عهد صياغة النظرية الريكاردية وتعميمها، وعهد صراعها ضد جميع المدارس الأخرى المنبثقة عن مذهب آدم سميث - كارل ماركس، رأس المال)).
ولكن هذه الأزمة، أي هذا العهد الذي كان يتخطى العهد الريكاردي، لم تكن سوى جزء من المشهد العمومي للرأسمالية، فحين اجتازت الصناعة الحديثة طفولتها، ودخلت النوبات الدورية حياة هذه الصناعة، انطلق الصراع بين رأس المال الصناعي وملكية الأرض في إنجلترا، وانفجرت الأزمة الاقتصادية في فرنسا في عام (1830م)، و، و، و ...
وهكذا، وكما دقت الثورة البرجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر، ناقوس الخطر للطبقة الإقطاعية السائدة، دقت ثورات البروليتارية في القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، ناقوس الخطر للدولة الحديثة، أي للجمهورية الديمقراطية، لأنَّ فترة نزاعات الطبقية بين العمل ورأس المال على الأجر والأرباح، انتقلت نهائياً إلى الصراع الطبقي الحاسم لأجل الحفاظ أو فناء العالم الرأسمالي، وآنذاك وضح للجميع، وعلى عكس الاقتصاد السياسي، أنَّ هناك أساساً مادياً للسيطرة على القوانين الطبيعية للمنازعات الاجتماعية.
و((استولت البرجوازية في فرنسا وإنجلترا على السلطة السياسية، ومنذ ذلك الحين، اتخذ صراع الطبقات، في النظرية وفي النشاط العملي، أشكالاً اتضحت أكثر فأكثر، وأصبحت مهددة أكثر فأكثر، ودقت الأجراس التي تنعي الاقتصاد البرجوازي العلمي – كارل ماركس، رأس المال)).
فبعد أنْ بلغ الإنتاج الرأسمالي تناقضاتها الداخلية، ظهرت معها صراعات طبقية حاسمة بين طبقتي المجتمع المدني، وعندئذ، لم يحدث استقطاب طبقي بين البرجوازية والبروليتاريا فحسب، بل وانقسم أيضاً باحثو هذه التناقضات، إلى فرقتين متعارضتين، الاقتصاد السياسي، والذي أعلن تماماً إنتماءه إلى الطبقة الحاكمة، والمادية التاريخية التي نصبت أنظارها نحو مستقبل البشرية، وهذا خلال الأزمات الاقتصادية المتكررة، والصراعات الدائرة بين طبقات المجتمع الرأسمالي، وظهور كتاب كـ (رأس المال - نقد الاقتصاد السياسي) والذي يلخص النهاية الحتمية للإنتاج الرأسمالي، لا ظهوره، كان ضرورة تاريخية لتمثيل الحركة الكومونية التي تتلخص رسالتها التاريخية في ثورة على هذا الإنتاج المختل، وإعادة تنظيم الإنتاج الاجتماعي من جديد، خلال تنظيم الكومونات الإنتاجية وإخضاعها للإشراف الجماعي للكومونات الإدارية.
وهكذا، فإنَّ دخول البشرية إلى مسرح التاريخ العالمي، أو التحرر من كلِّ قيد قومي ومحلي، وجعل الفرد على صلة بالمنتجات الإنسانية، المادية كالفكرية، ثمَّ تبعية البشر العمومية لبعضها البعض على صعيد التاريخ العالمي، يعني في نفس الوقت، ظهور مقاييس جديدة للتحقق من التاريخ وحركته المادية، فإذا كان الاقتصاد السياسي، ثمرة تقدم الصناعة الإنجليزية، فالمادية التاريخية في صورتها الناضجة، ثمرة التطور التجاري، والصناعي، والسوق العالمية التي خلقت بالفعل تاريخاً عالمياً مشتركاً للبشر، فالتاريخ العالمي، أصبح الميدان التجريبي المشخص، للأبحاث الجديدة عن التاريخ المادي، وما قام به ماركس، لم يكن تطويراً للاقتصاد السياسي، بل إيضاحاً للاتجاه التاريخي للقوانين الاقتصادية للمجتمع العالمي من وجهة نظر المادية التاريخية، فمع ازدياد قوة الإنتاج، والحاجيات الصناعية للسوق العالمية، بدأت النوبات المتكررة بصورة منتظمة كلَّ عشر سنوات، فالركود – والأزمة - والازدهار، أصبحت سمة مميزة لهذا الإنتاج المختل، أي أصبح قانوناً مطلقاً للإنتاج الرأسمالي، وآنذاك انتهى الوهم الذي كانت تنشره الطبقة المثقفة المتسلطة، والمثقفون الذين يحاولون جر التاريخ وراء مصالح هذه الطبقة، ونعني بهم بالذات ممثلي الاقتصاد السياسي.
إنَّ تعارض ماركس مع الاقتصاد السياسي، يشمل كلَّ فصل من فصول تطور الإنتاج الرأسمالي، وهذا ابتداءً من سر التراكم البدائي للرأسمال، ومروراً بالسلسلة الكاملة لعمليات الإنتاج الرأسمالي، فحسب الاقتصاد السياسي (إنَّ الأولين كدسوا الكنوز فوق الكنوز، في حين أنَّ الآخرين سرعان ما وجدوا أنفسهم مجردين من كلِّ شيء – كارل ماركس، رأس المال)، علمً (لكي يفهم القارئ سير هذا التطور، لا يتحتم علينا الرجوع إلى عهد موغل جداً في القدم، لأنَّ العهد الرأسمالي لا يعود تاريخه إلاَّ إلى القرن السادس عشر – كارل ماركس، راس المال).
لقد كتب التاريخ طفولة الإنتاج الرأسمالي بالدم، فطرد الفلاحين والمنتجين الصغار من أراضيهم لأجل تكوين السوق المحلية بصورة قسرية، و(إكتشاف مناطق الذهب والفضة في أمريكا، وتحويل سكان البلاد الأصليين إلى حياة الرق، ودفنهم في المناجم أو إبادتهم، وبدايات الفتح والنهب لجزر الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى نوع من الجحور التجارية لاصطياد الزنوج، هذه هي الطرق (الغزلية الطاهرة) للتراكم الأولي التي تبشر بالعهد الرأسمالي، في فجره)، (وبعد ذلك بزمن وجيز، اندلعت نيران الحرب التجارية، وميدان هذه الحرب هو المعمورة بأسرها)، (إنَّ مختلف أساليب التراكم الأولي التي أدى العصر الرأسمالي إلى انبثاقها، تتوزع، في البدء، على أساس تاريخي إلى حد ما، بين البرتغال، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا، وإنجلترا، إلى أن دمجتها إنجلترا جميعها في مجموع منظم، يشمل معاً النظام الإستعماري – كارل ماركس، راس المال).
وعدا ذلك، يدرس ماركس الوجوه المختلفة لسلسلة عمليات الإنتاج الرأسمالي، وسلسلة عمليات الإنتاج هذه، في جوهرها، هي سلسلة عمليات تراكم رأس المال، وبقدر ما تتقدم عملية الإنتاج ثمَّ التراكم، تزداد في نفس الوقت، كتلة العمل الزائد، ثمَّ الكتلة المطلقة للربح، ولكن نمو هذه القوانين، مع أنه يؤدي إلى ارتفاع مطلق في كتلة الربح، فهو يسبب انخفاضاً في معدل الربح، وهذا خلال الازدياد في التركيب العضوي لرأس المال، أي الارتفاع النسبي في قيمة رأس المال الثابت، بالمقارنة مع قيمة رأس المال المتحرك، إنَّ معدل الربح المتوسط، محدد بتركيبه الاجتماعي المتوسط، والنقص النسبي للجزء المتحول لرأس المال الكلي، يؤدي إلى هبوط المعدل العام للربح إذا بقيت درجة استغلال العمل على حالها.
((لقد كان الاقتصاد السياسي الذي لم يعرف تفسير قانون هبوط معدل الربح يرى، حتى الآن في زيادة كتلة الربح، وفي زيادة المقدار المطلق لهذا الأخير، بالنسبة لرأس المال الاجتماعي، نوعاً من التعويض، ولكن هذه الحجة لا تستند إلاَّ إلى أفكار شائعة ومجرد احتمالات – كارل ماركس، رأس المال، ترجمة: الدكتور أنطون حمصي)). ولكن يجب القول ((إنَّ الأسباب التي تؤدي إلى هبوط معدل الربح، لها أيضاً آثارٌ مضادة لهذا الهبوط، أو تبطئه وتشله أحياناً – نفس المصدر)).
إنَّ معدل الربح هو حافز الإنتاج الرأسمالي، فهو الذي ينشط الفائض في الإنتاج، ويسبب اختلال التوازن الاقتصادي، ثمَّ تفجير الأزمات الأقتصادية، وماركس الذي يجد نفسه في التعارض مع الاقتصاد السياسي على طول الخط، يقول هنا:
((وعلماء الاقتصاد الذين يعتبرون، على مثال ريكاردو، نمط الإنتاج الرأسمالي شيئاً مطلقاً يحسون حقاً، أنَّ هذا النمط الإنتاجي يخلق، هنا حده الخاص، ولكنهم لا ينسبون المسؤولية إلى الإنتاج، بل إلى الطبيعة – كارل ماركس، رأس المال)).
وهكذا، فإنَّ الأمر لا يتعلق بإنتاج فائض القيمة لدى كارل ماركس، بل بنمو التناقضات الداخلية للإنتاج الرأسمالي الذي يجلبه قانون القيمة.
((إنَّ نظام الإنتاج الرأسمالي يتضمن نزعة إلى نمو مغلق للقوى الإنتاجية، دون حسبان حساب للقيمة وفائض القيمة الذي تحتوي عليه هذه الأخيرة، ولا للعلاقات الإنتاجية التي يتم في إطارها الإنتاج الرأسمالي – كارل ماركس، رأس المال)).
أين الحل؟
إنَّ الحل الاجتماعي الوحيد لهذه التناقضات، هو إيقاف روح الرأسمالية التاريخية :قانون القيمة! ولا يمكن السيطرة على قانون القيمة وإيقاف فعاليته التاريخية، دون ثورة كومونية في الإنتاج والتوزيع، أي دون السيطرة على الطابع الأعمى لحركة الإنتاج الرأسمالي، وإخضاع سلسلة أفاعيل الإنتاج لمراقبة المجتمع الجماعية، الأمر الذي يجد البشر الشروط التاريخية لتحقيقه تحت أقدامهم، أي في التاريخ المادي، وليس فوق رأسهم، أي في الفلسفة.
((إنَّ تنمية القوى الإنتاجية للعمل الاجتماعي هي مهمة رأس المال التاريخية ومبررها، ومن أجل ذلك يخلق، على وجه الدقة، دون معرفة منه، الشروط المادية لنمط إنتاجي أعلى – كارل ماركس)).
وهذا النمط، هو الإنتاج الكوموني، ولكن لا تتقدم حركة كومونية (حركة البروليتاريين الكومونيين) إلى مقدمة مسرح الصراع في المستوى الأممي، دون حدوث أزمة اقتصادية شاملة، أي دون انتقال الفائض النسبي من الإنتاج، إلى الفائض المطلق من الإنتاج، أي انتقال الفائض من القطاعات الإنتاجية المختلفة، إلى فائض في كلِّ القطاعات الإنتاجية في المستوى الكوني (ولن تكون الثورة الجديدة ممكنة إلاَّ نتيجة لأزمة جديدة، ولكنها مؤكدة القدوم تماماً كما أنَّ قدوم الأزمة مؤكد – كارل ماركس).
وهل يمكن التحقق من صحة هذه النظرة المادية للتاريخ بصورة تجريبية؟
حسب المعلومات المتوفرة في تاريخ المجتمع الرأسمالي، لم ينقطع الاقتصاد الرأسمالي عن اختلال التوازن والأزمات الدورية، خلال القرنين الأخيرين على الأقل (1825م – 2009م)، وكلُّ تطور للإنتاج الرأسمالي، يعني التحضير لأزمة أعم وأعنف من كلِّ ما سبقها، وإلى أين يتجه العالم أخيراً، إذا لم يخضع الإنتاج في الأخير إلى مراقبة المجتمع الجماعية؟ وما هي هذه المراقبة الجماعية إن لم تكن الكومونة؟
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» كيف يكون الاقتصاد قويا؟
» نظرات في الاقتصاد الإسلامي
» العسكري يصدر مرسوما بقانون للبنك المركزي يمنع تعارض المصالح داخل مجلس الإدارة
» مراجع في علم الاقتصاد
» الاقتصاد الاسلامى
» نظرات في الاقتصاد الإسلامي
» العسكري يصدر مرسوما بقانون للبنك المركزي يمنع تعارض المصالح داخل مجلس الإدارة
» مراجع في علم الاقتصاد
» الاقتصاد الاسلامى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى