أمريكا، بؤرة الأزمات والحروب
صفحة 1 من اصل 1
أمريكا، بؤرة الأزمات والحروب
أمريكا، بؤرة الأزمات والحروب
أنور نجم الدين
anwar.nori@gmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22
تتطور الصناعة والتجارة في العالم، ويتقدم معها فقرٌ لا مثيل له في تاريخ البشرية، وذلك لأنَّه أصبح في المجتمع فائضٌ في وسائل العيش، وتعاني البشرية على العموم ممَّا تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية من الأزمات على طول تاريخها، فالأزمة المالية الأمريكية التي تتميز باختلال التوازن في الميزان التجاري، والازدياد في البطالة، وعجز الميزانية، والفقر، تتفاعل مع كل قطاع إنتاجي داخل الولايات المتحدة وخارجها.
و في نفس الوقت أصبح غلاء المواد الغذائية أبرز ظاهرةٍ من ظواهر العصر في طول العالم وعرضه، هذا ورغم أنَّ إنتاج المواد الغذائية في العالم، أكثر من استهلاكها بنسبة 10%، فالعرض يزيد على الطلب، أي أنَّ الإنتاج أكثر من الاستهلاك، وبموجب هذا القانون يجب أن تنخفض أسعار المواد الغذائية، ولكن على العكس من ذلك فالأسعار ترتفع باستمرار، إذن مالذي حدث؟ هل انقلب العالم ضد نفسه؟
معظم الاقتصاديين يبحثون عن نتائج هذه الكوارث، إمَّا في القانون السحري للعرض والطلب، وإمَّا في فترات الجفاف وقلة المواد الغذائية، ولكن في الواقع إن الظاهرة هذه - أي الفيض في إنتاج السلع- هي ظاهرة من ظواهر إشباع السوق، إنَّ العرض أكثر من الطلب، ولكن الأسعار ترتفع باستمرار، وهل هذه ظاهرة جديدة في تاريخ العالم؟
كلا بالطبع، إنَّ ظاهرة الفيض في الإنتاج، قديمةٌ قدمَ التطور الصناعي، والقدرة الانفجارية للأزمات، تزيد باستمرار مع ازدياد حجم التطور الصناعي والتجاري في العالم؛ لأنَّ كلَّ أزمةٍ جديدة، تبحث شروط انفجارها في سطح أوسع من الأزمة التي سبقتها، انظروا إلى أزمة الثلاثينيات في القرن الماضي، ففي خريف سنة 1929، ظهرت مؤشرات أزمة عالمية، أعم وأشمل من كلِّ ما شاهده تاريخ المجتمع الصناعي من الأزمات إلى ذلك الحين، لقد انطلقت الأزمة من بورصة ولستريت (Wall Street) بتاريخ: 24/10/1929، والمعروف بالخميس الأسود في تاريخ الولايات المتحدة، حيث عرضت الشركات 13 مليون سهمٍ، مقابل تراجع الطلب على الأسهم، ومن ثَمَّ انخفضت قيمتها وعجزت الشركات والمعامل عن تسديد ديونها، وأغلقت عشرات البنوك، ثم إغلاق المعامل، وازدياد البطالة، وانخفاض القوى الشرائية، والفيض في الإنتاج.. إلخ. ومع تطور الأزمة، انتقل الوباء إلى أوروبا والدول المنتجة للمواد الأولية خلال وقت قصير، وهذا بعدما بدأت البنوك الأمريكية بسحب أموالها من البنوك الأوروبية، وتراجع الطلب على المواد الأولية في الدول الصناعية على الأخص، ووصل عدد العاطلين عن العمل في بريطانيا العظمى إلى 3 ملايين شخص في عام 1931، وانخفض الإنتاج الصناعي في إيطاليا وألمانيا بنسبة 30%، أمَّا في أوروبا، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 9 ملايين شخص. وهكذا وصلت الأزمة الاقتصادية ذِرْوَتها في سنة 1933، ولكن لم تصل الأزمة إلى حد استخدام الحديد والنار قبل عام 1939، أي قبل اشتعال أكبر حرب من الحروب العالمية في تاريخ البشرية، وكانت حصة الولايات المتحدة في تلك الأزمة، أكبرَ من أية دولة أخرى من الدول الصناعية في العالم، لقد انخفض الإنتاج الأمريكي إلى النصف خلال 3 سنوات، انخفض إنتاج السيارات 12%، وفي بداية سنة 1933، وصل عدد البطالة في أمريكا إلى 17 مليون شخص، وتوقفت حركة العقارات، وانخفضت فجأة أسعار المنتجات الزراعية، وبدأت الحكومة الأمريكية بتدمير قسم من هذا الفائض، فكان بالطبع من الأفضل بالنسبة للرأسمالية الأمريكية، تدمير هذه المنتجات الفائضة بدل بيعها، نظرًا لأنَّه لن تكون هناك وسيلة أخرى لارتفاع أسعارها سوى تدميرها، هذه هي مهزلة الرأسمالية فلغرض ارتفاع الطلب على هذه المنتجات ورفع أسعارها، بدأت الحكومة الأمريكية بإحراق الحيوانات والمنتجات الزراعية في سنة 1933، وهكذا فإنَّ كل اختلال في التوازن الإنتاجي، هو ظاهرة تأتي بسبب الفيض في الإنتاج وليس النقص فيه.
إنَّ النظام الرأسمالي يتحرك دون أن يحسب حسابًا لكمية القيمة المُنْتَجة، ذلك لأنَّ تَحَرُّك الإنتاج يجري بصورة عمياء، إنَّ الإنتاج لا يخضع للوعي الجماعي للبشر، ولا يسمح النظام الرأسمالي بإخضاع عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك لمراقبة المجتمع المشتركة، نظرًا لعدم تطابق المصالح بين الطبقة التي تملك كل نتاج الإنتاج الاجتماعي، والطبقة المنتجة التي لا تملك سوى قوةِ عملها.
إن الهدف من الإنتاج الرأسمالي هو الربح وليست تلبية حاجات الانسانية. ويركض كل رأسمالي وراء أكبر كمية ممكنة من الأرباح، أما في عالم المزاحمة لا يسير الإنتاج دوما، بصورة تتفق مع مطامح الرأسماليين الفردية. وهكذا، لا يتقاسم الرأسماليين الأرباح كإخوان إلا في فترات معينة.
في فترات مختلفة من تطور الإنتاج الاجتماعي، يهبط المعدل العام للربح في المستوى الكلي للانتاج الرأسمالي. ونتيجة لذلك يضطر كل رأسمالي إلى تحسين شروط إنتاجه وإدخال أساليب جديدة في الإنتاج واستخدام طرق حديثة في العمل، إلخ.
ههنا يكمن سر ارتفاع الأسعار فبدافع هذه التحسينات، سيضطر كل رأسمالي إلى رفع القيمة الفردية لإنتاجه، ويجب أن تكون القيمة هذه أعلى من الطرائق الجديدة التي يضطر الرأسمالي إلى استخدامها لأجل البقاء في المنافسة. فقانون المنافسة، أي قانون صراع البقاء الذي نجده في العالم الحيواني هو الذي يحرك الرأسماليين نحو اكتساب مصالحهم. هكذا ترتفع الأسعار وتنخفض معها القوى الشرائية للطبقات الفقيرة في العالم، ويتدهور الوضع المعيشي للأكثرية الساحقة للمجتمع البشري. إن الإعاقة الأساسية أمام رأس المال هنا هو: إن الازدياد في نسبة رأس المال الثابت بالمقارنة مع رأس المال المتحرك، ستؤدي إلى عدم كفاية استغلال العمل الاجتماعي من قبل رأس المال الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى: أولا الفيض في الإنتاج، ثانيا الارتفاع في الأسعار.
إن هذا التناقض داخل الإنتاج الرأسمالي، لا يجد الحل إلا خارج الإنتاج. وماهو هذا الميدان الخارجي إن لم يكن حياة الطبقات الفقيرة والعلاقات الاستهلاكية للمجتمع والاستغلال البشع للعمل واللجوء إلى القوة؟
إن ما يقرر توسيع الإنتاج أو تقليصه، هو الربح ونسبته إلى رأس المال الاجتماعي، فتوسيع الإنتاج أو تقليصه في النظام الرأسمالي، لا يأتي من ضرورة تلبية حاجات المجتمع، لأن الرأسماليين ينطلقون دائما من مصالحهم الخاصة، وليس من مصلحة المجتمع.
وحين تهدد التناقضات مصالحهم الطبقية فآنذاك يواجه العالم مغامرات الرأسماليين التي تهدد أحيانا حياة البشرية بأجمعها، لأن إنماءً جديدًا لرأس المال غير ممكن، دون التوظيفات الجديدة لرأس المال، ثم ارتفاع الأرباح، لا إلى حد المتوسط العام، بل يجب أن يكون أعلى منه بكثير نظرا للتغيرات التي طرأت على ميدان الإنتاج الرأسمالي.
وهكذا، لو رجعنا إلى الأزمة المالية الأمريكية من وجهة النظر هذه لرأينا أنَّ الأزمة التي تعيش معها على الأخص الولايات المتحدة الأمريكية، ليست تعبيرًا عن اختلال التوازن في الإنتاج الأمريكي وحسب، بل تعبيرٌ عن أزمة عالمية أيضًا، لكلِّ بلدٍ من البلدان قسطُه فيها، ابتداءً من أمريكا الشمالية وأوروبا، مرورًا بآسيا وأفريقيا وانتهاءً بأمريكا اللاتينية، أمَّا الأزمة المالية الأمريكية أكثر إثارة للأزمات الدورية التي يمر بها العالم، وكما يقول دافيد مكمين، باحث اقتصادي أمريكي، هي مرحلة أكثر إثارة للدورات التجارية تميل إلى الظهور كل 56 سنة مرة (1761، 1817، 1873، 1929، 1985) وتنقسم هذه الدورات إلى دورات قصيرة، أي إلى كلَّ 9 سنوات مرة (9، 18، 36، 54) وهذه الدورات مشابهة لدوران الشمس والقمر حول بعضهما البعض، ويسميها دافيد دورات 9 / 56 سنة. وهكذا، فبعض الدورات تستمر لعدة عقود، وبعضها الآخر يستمر لعدة قرون، وفيما بين هذه الأزمات، تتنازع القوة الإنتاجية المتعاظمة للرأسمالية مع أسسها الاقتصادية، وتبدأ بالبحث عن مجالات خارجية للتفريغ، وتبدأ التفريغ عادة بإغلاق المشاريع، وتخفيض الأجور، والفائض السكاني، وتنويم رأس المال أو تدميره، وتنتهي أحيانًا بإشعال حربٍ للخروج النهائي من هذه التناقضات، وليس من المستغرب أن نعدد جملة كاملة من الحروب الأمريكية فيما بين أزماتها الاقتصادية، وأشار دافيد إلى حدوث 8 حروب أمريكية فيما بين 1788 - 1974.
ومن خلال أبحاث كيندل بيريار، نلاحظ أنَّ الأزمات والحروب في الولايات المتحدة تحدث على صورة سلسلة تاريخية متصلة من الركود، والاضطرابات، والأزمات، والحروب، والازدهار، لم تنقطع عن بعضها البعض خلال أكثر من قرنين، فاعتبارًا من حرب 1763، تلت الحروب الأمريكية، أزماتٌ متتالية دون انقطاع، وحسب سلسلة كل 9 سنوات مرة.
وفيما يخص القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يعدد كيندل جملة من الحروب والأزمات على الشكل التالي: (الحرب : عام 1763 - الأزمة : عام 1772، الحرب : عام 1783 - الأزمة : عام 1792، الحرب : عام 1815 - الأزمة : عام 1825، الحرب : عام 1856 - الأزمة : عام 1866) وهكذا، فكلُّ حرب تنتهي باتساع حدود الإنتاج، وكلُّ أزمة تبدأ بتحضير أرضية جديدة لحرب جديدة، وبهذا المعنى، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية بؤرة الأزمات والحروب، نظرًا لتقدمها اللامتناهي، في الصناعة والتجارة والحضارة، فالأزمات والحروب الأمريكية، تحدث بصورة منتظمة، وعلى شكل سلسلة متصلة، تبدأ بالركود وتنتهي بالحروب، وليست الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان، سوى تعبيرٍ عن هذه السلسة للتناقضات الداخلية، التي تعيش معها الرأسمالية الأمريكية منذ أمد بعيد، والمستمرة إلى أن ينتهي هذا الشكل من الإنتاج والتوزيع الاجتماعي، لأنَّ الإنتاج الرأسمالي، لا يجدُ الحلَّ لهذه التناقضات، ضمن شروط وجوده الخاصة إطلاقًا، والسبب هو أنَّ حافز الإنتاج الرأسمالي، وتطوير قواه الإنتاجية، هو الربح، وإنَّ مصدر تناقضاته هو الربح أيضًا ولكن مع ذلك، فإنَّ هدف الإنتاج الرأسمالي يخلق مع تطوره الطبيعي، أسلوبًا إنتاجيًّا جديدًا في أحشاء الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج.
أنور نجم الدين
anwar.nori@gmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22
تتطور الصناعة والتجارة في العالم، ويتقدم معها فقرٌ لا مثيل له في تاريخ البشرية، وذلك لأنَّه أصبح في المجتمع فائضٌ في وسائل العيش، وتعاني البشرية على العموم ممَّا تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية من الأزمات على طول تاريخها، فالأزمة المالية الأمريكية التي تتميز باختلال التوازن في الميزان التجاري، والازدياد في البطالة، وعجز الميزانية، والفقر، تتفاعل مع كل قطاع إنتاجي داخل الولايات المتحدة وخارجها.
و في نفس الوقت أصبح غلاء المواد الغذائية أبرز ظاهرةٍ من ظواهر العصر في طول العالم وعرضه، هذا ورغم أنَّ إنتاج المواد الغذائية في العالم، أكثر من استهلاكها بنسبة 10%، فالعرض يزيد على الطلب، أي أنَّ الإنتاج أكثر من الاستهلاك، وبموجب هذا القانون يجب أن تنخفض أسعار المواد الغذائية، ولكن على العكس من ذلك فالأسعار ترتفع باستمرار، إذن مالذي حدث؟ هل انقلب العالم ضد نفسه؟
معظم الاقتصاديين يبحثون عن نتائج هذه الكوارث، إمَّا في القانون السحري للعرض والطلب، وإمَّا في فترات الجفاف وقلة المواد الغذائية، ولكن في الواقع إن الظاهرة هذه - أي الفيض في إنتاج السلع- هي ظاهرة من ظواهر إشباع السوق، إنَّ العرض أكثر من الطلب، ولكن الأسعار ترتفع باستمرار، وهل هذه ظاهرة جديدة في تاريخ العالم؟
كلا بالطبع، إنَّ ظاهرة الفيض في الإنتاج، قديمةٌ قدمَ التطور الصناعي، والقدرة الانفجارية للأزمات، تزيد باستمرار مع ازدياد حجم التطور الصناعي والتجاري في العالم؛ لأنَّ كلَّ أزمةٍ جديدة، تبحث شروط انفجارها في سطح أوسع من الأزمة التي سبقتها، انظروا إلى أزمة الثلاثينيات في القرن الماضي، ففي خريف سنة 1929، ظهرت مؤشرات أزمة عالمية، أعم وأشمل من كلِّ ما شاهده تاريخ المجتمع الصناعي من الأزمات إلى ذلك الحين، لقد انطلقت الأزمة من بورصة ولستريت (Wall Street) بتاريخ: 24/10/1929، والمعروف بالخميس الأسود في تاريخ الولايات المتحدة، حيث عرضت الشركات 13 مليون سهمٍ، مقابل تراجع الطلب على الأسهم، ومن ثَمَّ انخفضت قيمتها وعجزت الشركات والمعامل عن تسديد ديونها، وأغلقت عشرات البنوك، ثم إغلاق المعامل، وازدياد البطالة، وانخفاض القوى الشرائية، والفيض في الإنتاج.. إلخ. ومع تطور الأزمة، انتقل الوباء إلى أوروبا والدول المنتجة للمواد الأولية خلال وقت قصير، وهذا بعدما بدأت البنوك الأمريكية بسحب أموالها من البنوك الأوروبية، وتراجع الطلب على المواد الأولية في الدول الصناعية على الأخص، ووصل عدد العاطلين عن العمل في بريطانيا العظمى إلى 3 ملايين شخص في عام 1931، وانخفض الإنتاج الصناعي في إيطاليا وألمانيا بنسبة 30%، أمَّا في أوروبا، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 9 ملايين شخص. وهكذا وصلت الأزمة الاقتصادية ذِرْوَتها في سنة 1933، ولكن لم تصل الأزمة إلى حد استخدام الحديد والنار قبل عام 1939، أي قبل اشتعال أكبر حرب من الحروب العالمية في تاريخ البشرية، وكانت حصة الولايات المتحدة في تلك الأزمة، أكبرَ من أية دولة أخرى من الدول الصناعية في العالم، لقد انخفض الإنتاج الأمريكي إلى النصف خلال 3 سنوات، انخفض إنتاج السيارات 12%، وفي بداية سنة 1933، وصل عدد البطالة في أمريكا إلى 17 مليون شخص، وتوقفت حركة العقارات، وانخفضت فجأة أسعار المنتجات الزراعية، وبدأت الحكومة الأمريكية بتدمير قسم من هذا الفائض، فكان بالطبع من الأفضل بالنسبة للرأسمالية الأمريكية، تدمير هذه المنتجات الفائضة بدل بيعها، نظرًا لأنَّه لن تكون هناك وسيلة أخرى لارتفاع أسعارها سوى تدميرها، هذه هي مهزلة الرأسمالية فلغرض ارتفاع الطلب على هذه المنتجات ورفع أسعارها، بدأت الحكومة الأمريكية بإحراق الحيوانات والمنتجات الزراعية في سنة 1933، وهكذا فإنَّ كل اختلال في التوازن الإنتاجي، هو ظاهرة تأتي بسبب الفيض في الإنتاج وليس النقص فيه.
إنَّ النظام الرأسمالي يتحرك دون أن يحسب حسابًا لكمية القيمة المُنْتَجة، ذلك لأنَّ تَحَرُّك الإنتاج يجري بصورة عمياء، إنَّ الإنتاج لا يخضع للوعي الجماعي للبشر، ولا يسمح النظام الرأسمالي بإخضاع عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك لمراقبة المجتمع المشتركة، نظرًا لعدم تطابق المصالح بين الطبقة التي تملك كل نتاج الإنتاج الاجتماعي، والطبقة المنتجة التي لا تملك سوى قوةِ عملها.
إن الهدف من الإنتاج الرأسمالي هو الربح وليست تلبية حاجات الانسانية. ويركض كل رأسمالي وراء أكبر كمية ممكنة من الأرباح، أما في عالم المزاحمة لا يسير الإنتاج دوما، بصورة تتفق مع مطامح الرأسماليين الفردية. وهكذا، لا يتقاسم الرأسماليين الأرباح كإخوان إلا في فترات معينة.
في فترات مختلفة من تطور الإنتاج الاجتماعي، يهبط المعدل العام للربح في المستوى الكلي للانتاج الرأسمالي. ونتيجة لذلك يضطر كل رأسمالي إلى تحسين شروط إنتاجه وإدخال أساليب جديدة في الإنتاج واستخدام طرق حديثة في العمل، إلخ.
ههنا يكمن سر ارتفاع الأسعار فبدافع هذه التحسينات، سيضطر كل رأسمالي إلى رفع القيمة الفردية لإنتاجه، ويجب أن تكون القيمة هذه أعلى من الطرائق الجديدة التي يضطر الرأسمالي إلى استخدامها لأجل البقاء في المنافسة. فقانون المنافسة، أي قانون صراع البقاء الذي نجده في العالم الحيواني هو الذي يحرك الرأسماليين نحو اكتساب مصالحهم. هكذا ترتفع الأسعار وتنخفض معها القوى الشرائية للطبقات الفقيرة في العالم، ويتدهور الوضع المعيشي للأكثرية الساحقة للمجتمع البشري. إن الإعاقة الأساسية أمام رأس المال هنا هو: إن الازدياد في نسبة رأس المال الثابت بالمقارنة مع رأس المال المتحرك، ستؤدي إلى عدم كفاية استغلال العمل الاجتماعي من قبل رأس المال الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى: أولا الفيض في الإنتاج، ثانيا الارتفاع في الأسعار.
إن هذا التناقض داخل الإنتاج الرأسمالي، لا يجد الحل إلا خارج الإنتاج. وماهو هذا الميدان الخارجي إن لم يكن حياة الطبقات الفقيرة والعلاقات الاستهلاكية للمجتمع والاستغلال البشع للعمل واللجوء إلى القوة؟
إن ما يقرر توسيع الإنتاج أو تقليصه، هو الربح ونسبته إلى رأس المال الاجتماعي، فتوسيع الإنتاج أو تقليصه في النظام الرأسمالي، لا يأتي من ضرورة تلبية حاجات المجتمع، لأن الرأسماليين ينطلقون دائما من مصالحهم الخاصة، وليس من مصلحة المجتمع.
وحين تهدد التناقضات مصالحهم الطبقية فآنذاك يواجه العالم مغامرات الرأسماليين التي تهدد أحيانا حياة البشرية بأجمعها، لأن إنماءً جديدًا لرأس المال غير ممكن، دون التوظيفات الجديدة لرأس المال، ثم ارتفاع الأرباح، لا إلى حد المتوسط العام، بل يجب أن يكون أعلى منه بكثير نظرا للتغيرات التي طرأت على ميدان الإنتاج الرأسمالي.
وهكذا، لو رجعنا إلى الأزمة المالية الأمريكية من وجهة النظر هذه لرأينا أنَّ الأزمة التي تعيش معها على الأخص الولايات المتحدة الأمريكية، ليست تعبيرًا عن اختلال التوازن في الإنتاج الأمريكي وحسب، بل تعبيرٌ عن أزمة عالمية أيضًا، لكلِّ بلدٍ من البلدان قسطُه فيها، ابتداءً من أمريكا الشمالية وأوروبا، مرورًا بآسيا وأفريقيا وانتهاءً بأمريكا اللاتينية، أمَّا الأزمة المالية الأمريكية أكثر إثارة للأزمات الدورية التي يمر بها العالم، وكما يقول دافيد مكمين، باحث اقتصادي أمريكي، هي مرحلة أكثر إثارة للدورات التجارية تميل إلى الظهور كل 56 سنة مرة (1761، 1817، 1873، 1929، 1985) وتنقسم هذه الدورات إلى دورات قصيرة، أي إلى كلَّ 9 سنوات مرة (9، 18، 36، 54) وهذه الدورات مشابهة لدوران الشمس والقمر حول بعضهما البعض، ويسميها دافيد دورات 9 / 56 سنة. وهكذا، فبعض الدورات تستمر لعدة عقود، وبعضها الآخر يستمر لعدة قرون، وفيما بين هذه الأزمات، تتنازع القوة الإنتاجية المتعاظمة للرأسمالية مع أسسها الاقتصادية، وتبدأ بالبحث عن مجالات خارجية للتفريغ، وتبدأ التفريغ عادة بإغلاق المشاريع، وتخفيض الأجور، والفائض السكاني، وتنويم رأس المال أو تدميره، وتنتهي أحيانًا بإشعال حربٍ للخروج النهائي من هذه التناقضات، وليس من المستغرب أن نعدد جملة كاملة من الحروب الأمريكية فيما بين أزماتها الاقتصادية، وأشار دافيد إلى حدوث 8 حروب أمريكية فيما بين 1788 - 1974.
ومن خلال أبحاث كيندل بيريار، نلاحظ أنَّ الأزمات والحروب في الولايات المتحدة تحدث على صورة سلسلة تاريخية متصلة من الركود، والاضطرابات، والأزمات، والحروب، والازدهار، لم تنقطع عن بعضها البعض خلال أكثر من قرنين، فاعتبارًا من حرب 1763، تلت الحروب الأمريكية، أزماتٌ متتالية دون انقطاع، وحسب سلسلة كل 9 سنوات مرة.
وفيما يخص القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يعدد كيندل جملة من الحروب والأزمات على الشكل التالي: (الحرب : عام 1763 - الأزمة : عام 1772، الحرب : عام 1783 - الأزمة : عام 1792، الحرب : عام 1815 - الأزمة : عام 1825، الحرب : عام 1856 - الأزمة : عام 1866) وهكذا، فكلُّ حرب تنتهي باتساع حدود الإنتاج، وكلُّ أزمة تبدأ بتحضير أرضية جديدة لحرب جديدة، وبهذا المعنى، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية بؤرة الأزمات والحروب، نظرًا لتقدمها اللامتناهي، في الصناعة والتجارة والحضارة، فالأزمات والحروب الأمريكية، تحدث بصورة منتظمة، وعلى شكل سلسلة متصلة، تبدأ بالركود وتنتهي بالحروب، وليست الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان، سوى تعبيرٍ عن هذه السلسة للتناقضات الداخلية، التي تعيش معها الرأسمالية الأمريكية منذ أمد بعيد، والمستمرة إلى أن ينتهي هذا الشكل من الإنتاج والتوزيع الاجتماعي، لأنَّ الإنتاج الرأسمالي، لا يجدُ الحلَّ لهذه التناقضات، ضمن شروط وجوده الخاصة إطلاقًا، والسبب هو أنَّ حافز الإنتاج الرأسمالي، وتطوير قواه الإنتاجية، هو الربح، وإنَّ مصدر تناقضاته هو الربح أيضًا ولكن مع ذلك، فإنَّ هدف الإنتاج الرأسمالي يخلق مع تطوره الطبيعي، أسلوبًا إنتاجيًّا جديدًا في أحشاء الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» التفنن فى اختلاق الأزمات
» نظرات فى مقال هل يتباطأ الزمن خلال الأزمات؟
» ويسألونك عن ديمقراطية أمريكا
» الأسطورة العربية عن أمريكا
» كورونا بين أمريكا والصين
» نظرات فى مقال هل يتباطأ الزمن خلال الأزمات؟
» ويسألونك عن ديمقراطية أمريكا
» الأسطورة العربية عن أمريكا
» كورونا بين أمريكا والصين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى