الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
صفحة 1 من اصل 1
الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
قواعد الإسلام
أقصد بقواعد الإسلام المرتكزات الأرضية الجغرافية السياسية، والمقومات الاقتصادية، والحجم البشري الذي عليه بعد الله عز وجل يمكن أن تتكِئ القوة الإسلامية الاقتحامية في سبيلها إلى التمكن في الأرض والاستواء في الحكم. وما التمكين إلا من الله عز وجل، لكننا ننظـر في الأسبـاب والإمكانيات الظاهرة وهي من وضعه تعالى وخلقه وتسخيره.
يَعتَمد واضعو السياسات على التخطيط المحسوب المدقق للحاصل والفائت من إعداد المستقبل. والحاصل للحركة الإسلامية الصاحية هو أولا الثقة التامة بالمولى القوي العزيز وبوعدِه الكريم على لسان نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون خلافة على منهاج النبوة بعد العض والجبر.
الفائت هو حال الأمة من التشتت والتمزق، حتى إنك إن ذهبت تحصي المسلمين ومقومات المسلمين لا تُسمِّي أمة واحدة، وإنما تسمي مُزَعاً من جسم مُمزق في دويلات مستقِلٍّ بعضُها عن بعضٍ، تابِعٍ كلُّها للقوى العالمية المهيمنة، وتُسمِّي اقتصاديات هزيلة تنتمي بلا استثناء للعالم المتخلف، بل يُضرَب المثلُ ببعضها للفقر المدقع.
هذا رغم وفر الإمكانيات، رغم الفائض المالي في دويلات النفط، رغم الفائض في الإمكانات الفلاحيـة في بلدان لاَ تعرف أن تستغل الأرض ولا تقدِر. رغم وجود طاقات مادية وبشرية لا تُستثمَر.
تُسَمِّي إن استعرضتَ المسلمين مليارا من الخلـق ويزيد، تُسَمّي كَمّاً ديموغرافيا تَزَاحُمُ الأجيال فيه على مائدة الحياة يشكل عِبْئاً ثقيلا ومشكلا لا يجدُ حلا.
تُسمِّي إن ذكرتَ المسلمين الجوعَ يُجاوِر التخمة، والهزيمة والغُرْبة على وجه الأرض، والهُوية الضائعة إلا من انتسابٍ إلى الإسلامٍ دفينٍ يُذَكِّرُ الزنجيَّ المسلم متى وجَد من هموم معاشه الشحيح فُسحةً للتفكير أنه أخ في الدين لذلك العربي الثري الذي تحدثوا عنه في وسائل الإعلام أنه خَسر على مائدة القِمار في مونتي كارلو أربعمائة ألف دولار في جَلسة واحدة. يذكِّرُهُ انتسابُه للإسلام تلك الأخوة المبدئية التي تلْعن هذه الأثَرَةَ الجاهلية التي مكّنَتْ للظلم الشنيع، ومكن له النظامُ العاض والجبري، ومكن لها التنكر لدين الإسلام دينِ العدل والإنصاف.
أمة متعددة متنوعة منتشرة شعوبا في القوقاز والعرب والإيرانيين والأوربيين. ما بين أسودَ وأسمر وأبيض. أتراك وهنود ومغول وزنوج وماليزيون. متنوعو السِّحْنات واللغات واللهجات. قبلتهم في الصلاة واحدة، حجهم إلى بيت الله الحرام الواحد، عقيدتُهم أن لا إله إلا الله محمد رسول الله على كثير من الجهل بالدين في عوامهم، وعلى كثير من البِدعِ والخُرافات الراسبة من القرون والطارئة الناشئة من الاختلاط الثقافي.
المسلمون المليار ويزيد سُنةٌ وشيعة، أكثرُ من تسعين في المائة من أهل السنة والجماعة انتماءً، لكن الأقلية العددية من الشيعة في إيران هم الذين فَجّروا على عتَبةِ القرن الخامس عشَرَ ثورة نبهت العالم إلى أن الإسلام قوة كامنة لا تنتظر إلا القيادة الحكيمة لتشكيل قوةً تحررية لها الاعتبار.
المسلمون يشكلون على خريطة العالم حزاماً يمتد من أندونسيا إلى شواطئ الأطلسي بالمغرب، من جاكرطا إلى طنجة. وبلاد العرب المسلمين هي بُؤرة هذه الرقعة. للعرب المائةُ والخمسون مليونا، بل المائتا مليونٍ عن قريب، المِيزةُ المنكرَةُ بأنهم أكثر شعوب الأرض تفاوتا في قِسمة الأرزاق وسوء توزيعها. النفط كان يكون ركيزةً لتنمية توفر الرخاء للعرب وللمسلمين أجمعين لولا أنَّ فهم بعض العَرَب للإسلام وتحريفهم له حوَّل دين العدل مُبرِّراً ليبقى هذا أميرا يرتع وذاك صعلوكا لا يشبع.
المسلمون دويلات خلَّفها التقسيم الاستعماري، وقسَّمها التوزيع العضِّيُّ الجبري من قبله، ما منها واحدةٌ تُذْكَرُ إن تحدث العالمُ عن الصناعة والعلوم والاكتفاء الذاتي واليدِ النافذة في سياسة العالم واقتصاده ودبلوماسيته وتقرير مصيره. بل ما منها واحدة تقرر مصيرَ نفسها بحرية دون أن تستأذن الحاميَ القوي أو الحليف الاستراتيجي أو الممول المُوَجِّهَ للسياسة الاقتصادية الاجتماعية التي لا ينبغي أن تَدور عجلتُها إلا وَفْقَ ما يُصْلِحُ الدواليبَ الرأسمالية طاحنةَ المستضعفين في العالم.
المسلمون أقليات مقهورة في آسيا وأفريقيا، وجاليات مشتتة في أرجاء المعمورة. في الاتحاد السوفييتي بالأمس كان المسلمون يمثلون أقلية هي بعد الأقلية المسلمة بالهند أكثر المغلوبين على أمرهم عددا. وهم اليوم، بعد تفتت الاتحاد السوفييتي، جمهوريات تُنازِع القوميةُ فيها الهويةَ الإسلامية التصدُّرَ والبروز.
هناك أقليات في سنغافورة الصغيرة وفي الصين الكبيرة. أقليات في فتنام والفلبين، في سيلان وبرمانيا، في يوغوسلافيا وبلغاريا وبولونيا وهنغاريا وسائر الفتات من الإمبراطورية العثمانية رحمها الله. هنالك في أوربا أقليات باليونان وقبرص، وأغلبية، بل عامة، في ألبانيا عجل الله سراحها من قبضة الماركسيين الخبثاء. هنالك جاليات في فرنسا إسلامية يقدمها حجمها ليكون الإسلام ثاني دين في البلد،وجاليات في إنجلترا وسويسرا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا. وفي الأمريكتين جاليات مهمة تزاحم هنا وهناك، بحجمها العددي لا غيرُ، الجاليات اليهودية المتمكنة في البلاد ثروة وتنظيما ونفوذا.
الأقليات المسلمة تعاني من القِلَّةِ والذِّلَّة والاضطهاد مثل ما تعاني الدويلات الإسلامية التابعة المحكومة بغير ما أنزل الله. وتتكون الجاليات المسلمة في أغلبيتها الساحقة من مستضعفين نزحوا من ديارهم طلبا للقوت. فهم عُمال هامشيون تستغلهم البلاد المضيفة وتأكل أعمارهم. معهم قِلة من الطلبة والخريجين. والكل مهدَّد بسطوة البحر الكافر المحيط، يحتاجون أن تمد الدعوة الإسلامية لهم يد العون لكيلا يذوبوا وتذوب ذريتهم في مجتمع الغربة. وإن مصير أبناء الجاليات المسلمة وبناتهم من الجيل الثاني والثالث لمأساة تُدمِي القلوب.
هل يكون هذا الشتات من البشر مُرتكزا يُرجَى نفعه يوما مع ما وصفنا وما لم نصف مِن الضَّعف والضياع؟
نعم والله إن سرت في الأمة روح جديدة. وإنَّ في أفغانستان الجهاد، أفغانستان الكرامات، أفغانستان التي دحرت أكبر قوة عسكرية في العالم لخيرَ آية يتدبرها المومن ليرى مواقِعَ نصر الله.[1]
وإن في انبعاث الإسلام في أرض روسيا بعد سبعين سنة من القمع الوحشي لآية أخرى على أن الله عز وجل ناصر دينه ولو بعد حين. إلى الجمهوريات المسلمة بالقوقاز وآسيا الوسطى وسائر تلك الربوع سرت الروح الجهادية من أفغانستان الجهاد فأيقظت، بل زادت يقظة، محاضن الإيمان التي حافظ عليها الدعاة عشرات السنين تحت السياط والسفك والتكفير المبرمج. وهكذا التقى الصوفية أهل الحديث فكونوا ما يسميه الروسيون الحاكمون ب"الإسلام الموازي" المناهض للكفر. وإنه لدرس نتلقاه من هناك. بل درسان: لقاء أهل الحديث بالصوفية وهم في بلاد العرب خاصة يسَعِّر بعضُهم الحرب على بعض.ثم درس تمييز العدو بأنه كافر بينما نحن ألِفنا أن نصفه بالمستعمر الظالم، وكأن صفة الكفر حال ثانوي لا قيمة له.
إذا حلَّت الأرانب رَبْعا فسيحا خِصبا فلن تكون لذلك الربع حُرمَةٌ لأن سكانه أرانِبُ. فلو سكنته الأسود لأصبح عرينا عزيزَ الحِمَى له المَنَعة والسطوة. هكذا ديار المسلمين، وخيرات المسلمين، وطاقات المسلمين، والكمُّ العدديُّ الهائل للمسلمين. كل ذلك لا وزن له سياسيا ولا أخلاقيا ما دام المسلون على حالة البعد عن دينهم.
من هذا البعد عن الدين تخطُبُهم الداهية، داهية الخوف والجوع والظلم والتفاهة. أرانب طيِّعة لكل صائد.
والذي يريده الإسلاميون، وهم الرحمة الإحيائيـة التي بها يجدد الله الكبير المتعال الإيمان، هو أن تنبعث الأمة من رقاد، وتتجمع من شتات، وتَحْيَى من موات، لتقوى على حمل الرسالة للعالمين.
أقصد بقواعد الإسلام المرتكزات الأرضية الجغرافية السياسية، والمقومات الاقتصادية، والحجم البشري الذي عليه بعد الله عز وجل يمكن أن تتكِئ القوة الإسلامية الاقتحامية في سبيلها إلى التمكن في الأرض والاستواء في الحكم. وما التمكين إلا من الله عز وجل، لكننا ننظـر في الأسبـاب والإمكانيات الظاهرة وهي من وضعه تعالى وخلقه وتسخيره.
يَعتَمد واضعو السياسات على التخطيط المحسوب المدقق للحاصل والفائت من إعداد المستقبل. والحاصل للحركة الإسلامية الصاحية هو أولا الثقة التامة بالمولى القوي العزيز وبوعدِه الكريم على لسان نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون خلافة على منهاج النبوة بعد العض والجبر.
الفائت هو حال الأمة من التشتت والتمزق، حتى إنك إن ذهبت تحصي المسلمين ومقومات المسلمين لا تُسمِّي أمة واحدة، وإنما تسمي مُزَعاً من جسم مُمزق في دويلات مستقِلٍّ بعضُها عن بعضٍ، تابِعٍ كلُّها للقوى العالمية المهيمنة، وتُسمِّي اقتصاديات هزيلة تنتمي بلا استثناء للعالم المتخلف، بل يُضرَب المثلُ ببعضها للفقر المدقع.
هذا رغم وفر الإمكانيات، رغم الفائض المالي في دويلات النفط، رغم الفائض في الإمكانات الفلاحيـة في بلدان لاَ تعرف أن تستغل الأرض ولا تقدِر. رغم وجود طاقات مادية وبشرية لا تُستثمَر.
تُسَمِّي إن استعرضتَ المسلمين مليارا من الخلـق ويزيد، تُسَمّي كَمّاً ديموغرافيا تَزَاحُمُ الأجيال فيه على مائدة الحياة يشكل عِبْئاً ثقيلا ومشكلا لا يجدُ حلا.
تُسمِّي إن ذكرتَ المسلمين الجوعَ يُجاوِر التخمة، والهزيمة والغُرْبة على وجه الأرض، والهُوية الضائعة إلا من انتسابٍ إلى الإسلامٍ دفينٍ يُذَكِّرُ الزنجيَّ المسلم متى وجَد من هموم معاشه الشحيح فُسحةً للتفكير أنه أخ في الدين لذلك العربي الثري الذي تحدثوا عنه في وسائل الإعلام أنه خَسر على مائدة القِمار في مونتي كارلو أربعمائة ألف دولار في جَلسة واحدة. يذكِّرُهُ انتسابُه للإسلام تلك الأخوة المبدئية التي تلْعن هذه الأثَرَةَ الجاهلية التي مكّنَتْ للظلم الشنيع، ومكن له النظامُ العاض والجبري، ومكن لها التنكر لدين الإسلام دينِ العدل والإنصاف.
أمة متعددة متنوعة منتشرة شعوبا في القوقاز والعرب والإيرانيين والأوربيين. ما بين أسودَ وأسمر وأبيض. أتراك وهنود ومغول وزنوج وماليزيون. متنوعو السِّحْنات واللغات واللهجات. قبلتهم في الصلاة واحدة، حجهم إلى بيت الله الحرام الواحد، عقيدتُهم أن لا إله إلا الله محمد رسول الله على كثير من الجهل بالدين في عوامهم، وعلى كثير من البِدعِ والخُرافات الراسبة من القرون والطارئة الناشئة من الاختلاط الثقافي.
المسلمون المليار ويزيد سُنةٌ وشيعة، أكثرُ من تسعين في المائة من أهل السنة والجماعة انتماءً، لكن الأقلية العددية من الشيعة في إيران هم الذين فَجّروا على عتَبةِ القرن الخامس عشَرَ ثورة نبهت العالم إلى أن الإسلام قوة كامنة لا تنتظر إلا القيادة الحكيمة لتشكيل قوةً تحررية لها الاعتبار.
المسلمون يشكلون على خريطة العالم حزاماً يمتد من أندونسيا إلى شواطئ الأطلسي بالمغرب، من جاكرطا إلى طنجة. وبلاد العرب المسلمين هي بُؤرة هذه الرقعة. للعرب المائةُ والخمسون مليونا، بل المائتا مليونٍ عن قريب، المِيزةُ المنكرَةُ بأنهم أكثر شعوب الأرض تفاوتا في قِسمة الأرزاق وسوء توزيعها. النفط كان يكون ركيزةً لتنمية توفر الرخاء للعرب وللمسلمين أجمعين لولا أنَّ فهم بعض العَرَب للإسلام وتحريفهم له حوَّل دين العدل مُبرِّراً ليبقى هذا أميرا يرتع وذاك صعلوكا لا يشبع.
المسلمون دويلات خلَّفها التقسيم الاستعماري، وقسَّمها التوزيع العضِّيُّ الجبري من قبله، ما منها واحدةٌ تُذْكَرُ إن تحدث العالمُ عن الصناعة والعلوم والاكتفاء الذاتي واليدِ النافذة في سياسة العالم واقتصاده ودبلوماسيته وتقرير مصيره. بل ما منها واحدة تقرر مصيرَ نفسها بحرية دون أن تستأذن الحاميَ القوي أو الحليف الاستراتيجي أو الممول المُوَجِّهَ للسياسة الاقتصادية الاجتماعية التي لا ينبغي أن تَدور عجلتُها إلا وَفْقَ ما يُصْلِحُ الدواليبَ الرأسمالية طاحنةَ المستضعفين في العالم.
المسلمون أقليات مقهورة في آسيا وأفريقيا، وجاليات مشتتة في أرجاء المعمورة. في الاتحاد السوفييتي بالأمس كان المسلمون يمثلون أقلية هي بعد الأقلية المسلمة بالهند أكثر المغلوبين على أمرهم عددا. وهم اليوم، بعد تفتت الاتحاد السوفييتي، جمهوريات تُنازِع القوميةُ فيها الهويةَ الإسلامية التصدُّرَ والبروز.
هناك أقليات في سنغافورة الصغيرة وفي الصين الكبيرة. أقليات في فتنام والفلبين، في سيلان وبرمانيا، في يوغوسلافيا وبلغاريا وبولونيا وهنغاريا وسائر الفتات من الإمبراطورية العثمانية رحمها الله. هنالك في أوربا أقليات باليونان وقبرص، وأغلبية، بل عامة، في ألبانيا عجل الله سراحها من قبضة الماركسيين الخبثاء. هنالك جاليات في فرنسا إسلامية يقدمها حجمها ليكون الإسلام ثاني دين في البلد،وجاليات في إنجلترا وسويسرا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا. وفي الأمريكتين جاليات مهمة تزاحم هنا وهناك، بحجمها العددي لا غيرُ، الجاليات اليهودية المتمكنة في البلاد ثروة وتنظيما ونفوذا.
الأقليات المسلمة تعاني من القِلَّةِ والذِّلَّة والاضطهاد مثل ما تعاني الدويلات الإسلامية التابعة المحكومة بغير ما أنزل الله. وتتكون الجاليات المسلمة في أغلبيتها الساحقة من مستضعفين نزحوا من ديارهم طلبا للقوت. فهم عُمال هامشيون تستغلهم البلاد المضيفة وتأكل أعمارهم. معهم قِلة من الطلبة والخريجين. والكل مهدَّد بسطوة البحر الكافر المحيط، يحتاجون أن تمد الدعوة الإسلامية لهم يد العون لكيلا يذوبوا وتذوب ذريتهم في مجتمع الغربة. وإن مصير أبناء الجاليات المسلمة وبناتهم من الجيل الثاني والثالث لمأساة تُدمِي القلوب.
هل يكون هذا الشتات من البشر مُرتكزا يُرجَى نفعه يوما مع ما وصفنا وما لم نصف مِن الضَّعف والضياع؟
نعم والله إن سرت في الأمة روح جديدة. وإنَّ في أفغانستان الجهاد، أفغانستان الكرامات، أفغانستان التي دحرت أكبر قوة عسكرية في العالم لخيرَ آية يتدبرها المومن ليرى مواقِعَ نصر الله.[1]
وإن في انبعاث الإسلام في أرض روسيا بعد سبعين سنة من القمع الوحشي لآية أخرى على أن الله عز وجل ناصر دينه ولو بعد حين. إلى الجمهوريات المسلمة بالقوقاز وآسيا الوسطى وسائر تلك الربوع سرت الروح الجهادية من أفغانستان الجهاد فأيقظت، بل زادت يقظة، محاضن الإيمان التي حافظ عليها الدعاة عشرات السنين تحت السياط والسفك والتكفير المبرمج. وهكذا التقى الصوفية أهل الحديث فكونوا ما يسميه الروسيون الحاكمون ب"الإسلام الموازي" المناهض للكفر. وإنه لدرس نتلقاه من هناك. بل درسان: لقاء أهل الحديث بالصوفية وهم في بلاد العرب خاصة يسَعِّر بعضُهم الحرب على بعض.ثم درس تمييز العدو بأنه كافر بينما نحن ألِفنا أن نصفه بالمستعمر الظالم، وكأن صفة الكفر حال ثانوي لا قيمة له.
إذا حلَّت الأرانب رَبْعا فسيحا خِصبا فلن تكون لذلك الربع حُرمَةٌ لأن سكانه أرانِبُ. فلو سكنته الأسود لأصبح عرينا عزيزَ الحِمَى له المَنَعة والسطوة. هكذا ديار المسلمين، وخيرات المسلمين، وطاقات المسلمين، والكمُّ العدديُّ الهائل للمسلمين. كل ذلك لا وزن له سياسيا ولا أخلاقيا ما دام المسلون على حالة البعد عن دينهم.
من هذا البعد عن الدين تخطُبُهم الداهية، داهية الخوف والجوع والظلم والتفاهة. أرانب طيِّعة لكل صائد.
والذي يريده الإسلاميون، وهم الرحمة الإحيائيـة التي بها يجدد الله الكبير المتعال الإيمان، هو أن تنبعث الأمة من رقاد، وتتجمع من شتات، وتَحْيَى من موات، لتقوى على حمل الرسالة للعالمين.
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
معضلة التأصيل
المعضلة هي المشكل ذو الرأسين، إن حللت أحدهما انعقد الآخر.
ومِن المعضلات المقيمة في أذهان مفكري المسلمين منذ قرن ويزيد قضية الأصالة والمعاصرة. كيف نربط الحاضر العصري بالماضي الأصيل. ولكل تصورهُ عن الأصالة مفردة وعن المعاصرة، وعنهما مجتمعتين بمقدار،أو بتمازج، أو بتناقض وتنافر.
لم يكن للمشكلة حِدَّتُها قبل الصدمة الاستعمارية، إنما كان عند المسلمين العثمانيين شعور بالاضطرار "لإصلاحات" تضيف إلى الأمة الممتلئة بذاتيتها قوى التدبير العسكري وترتيب "التنظيمات" القانونية.
لما هجم الاستعمار يقضم من أطراف الأمة في الهند وأندونسيا وأفريقيا قاومه المسلمون بذاتية إسلامية لا تشعر إزاءه بنقص حضاري لأنها لم تكن على اطلاع بالفرق الهائل في تطوير الوسائل الصناعية والتسليحية والتنظيمية. ولم يزدَدْ شعور الدولة العثمانية رحمها الله بالحاجة للإصلاحات والتنظيمات إلا بعد أن حل العدو المتفوق قريبا من دارها في الجزائر ومصر وتونس والمغرب.
ثم إن فشل المقاومة البطولية للاستعمار من قبل رجال كعبد القادر الجزائري والمهدي السوداني وعمر المختار بليبيا ومحمد عبد الكريم بالمغرب ، ومن قبلهم أحمد ابن عرفان بالهند، وأمثالهم أشعر المسلمين بالورطَة، لكن لم يفقدهم الثقة بالنفس، ولم يبث فيهم الشك في هُوِيتهم الحضارية الإسلامية. كانوا عند أنفسهم مسلمين يقاتلون كفارا.
وبهذا الاعتزاز بالذات بدأت المقاومة الوطنية للتحرير يقودها رجال يتكِئون على إسلامية الشعب، ويرفعون شعارات ما لبثت أن اختلطت فيها الروح الإسلامية بالنداء الوطني المحلي القومي. وفي الطريق إلى التحرر اقتبس الزعماء أسلحة فكرية من القومية الأوربية الغازية بحكم المناقضة مع المُقابلة تعكس هذه المقابلة صفات الضد على الضد. وهكذا قاتل الوطنيون المحتل، فلم تنته المعركة بجلاء الاستعمار إلا وقد أصبح الناس وطنيين انزوت إسلاميتهم وراء الاهتمام.
ثم استلم الوطنيون الاستقلال كما تُستَلَمُ الحياةُ الجديدة، فإذا في أيديهم إدارة عصرية استدعت بضروراتها المزاحِمة نخبة من "العصريين" طوروها إلى دولة قومية هي هذه التركيبات الشرقية الغربية، العصرية الأصيلة، الأصيلة العصرية، المرتدية أثوابَ الغول، المُمتَشِقَةُ على الإسلاميين الطالبين لحكم إسلامي سلاحَ التفزيع والقمع، تارة لأنهم يهددون أصالة الإسلام الرسمي المحضون في كنَفها، وتارة بدعوى أنهم لا يفهمون العصر،فهم ظلام من ظلام.
كان جسمُ الأمة قبل الصدمة الاستعمارية كيانا رَخوا رثا باليا ضعيفا. كانت قابلية الاستعمار، كما كان يقول مالك بن نبي رحمه الله، تنادي بحالها مَنْ يملأ فراغ الضعف بالقوة. كانت التجزئة السياسية أمرا واقعا مزمنا ابتدأ من القرن الرابع الهجري، منذ استولى الديلم والترك على الدولة المسلمة ثم تنازعوا أطرافها منذئذ مع أقوام آخرين حتى استقرت، في مُعظمها، بيد العثمانيين. وشاخت الأمور في أيديهم، وشكل ظلْمُهم للرعايا،ومنهم العرب، مطية أخرى زادت القابليـة للتجزئة والاستعمار استحكاما.
وجد الرجل الأبيض المتفوق نفسه وقد اكتسب عضلات ما لبثت أن صرعت "الرجل المريض" العثماني. وفي ظروف الحرب العالمية الأولى برز مصطفى كمال وارثا عصريا قوميا لمجد العثمانيين، قلص الإسلام إلى زاوية الإهمال، وحارب الدين وقتل العلماء، و"ترّك" الدولة وعصَّرها بقوة الحديد والإرهاب.
هذا الاستعمار يشبه في عاداته في الحل والترحال،وفي الاستيطان والتناسل الذبابة المكسيكية التي تعمِد إلى كائن حي جريح فتستبطن جرحه وتعمقه، ثم تبيض فيه بَيْضها فيفقِس عن أجيال من الذباب متوارثة، جرثومتها ومادة غِذائها وحياتها من الكائن المحتَل الذي يموت عنصرُه لتحيى العناصر الطفيلية.
دخلت العصرية غازية على الأصالة، وَرَدَ الكفر عاطِشا لاستعباد الضعفاء على الإسلام الموروث.
وحار المسلمون في الوِجهة، ما حيَّرَهم غيرُ المثقَّفين المغربين الذين لهم وعي بما يجري في الساحة وليس معهم إيمانُ العجائز، ذلك الإيمان الفطري الذي به حافظت الشعوب على إسلاميتها وهويتها وأصالتها، فهي اليوم يتجاذبها صَخَب العصر ونسلُ الذباب الطفيلي إلى جانب التعصر والتطور والتنصل من كل دين إلا دين القومية وجلباب الفلكلور.
ويدعوها إلى الإسلام طائفة من بنيها الذين عَزُّوا على المسخ الذبابي.
ما هي الأصالة وما هي العصرية، وكيف أصبح الجمع بينهما مطلبا معضلا، وكيف اشتبك الفكر المسلم في شباك هذا الطرح المعضل ذي الطرفين المتنازعين المتخاصمين؟
الطرح نفسه وارد علينا، داخل على إسلامنا، دخيل فيه، غريب عنه. إنه طرح محايد، بريء من كل دين، ينسُبُك نسبة وثنية مادية إلى "أصل"، ويسحبُك إلى عبادة "العصر" وما في العصر من مكتسبات مادية بشرية. طرح يجردك من عبوديتك لله عز وجل ليدخلك في متاهة المعميات التي يحلو للمثقفين المغربين من ذراري المسلمين أن يتباروا في ريادة مجاهلها.
ما هي التركيبة المُثلى لأساس الشخصية الأصيلة؟ ما هي الصياغة الفكرية لها؟ ما هي الصبغة الثقافية؟ وهكذا تتسلسل الأسئلة والأجوبة والاحتمالات في الذهنيات المغربة طردا وعكسا. وفي الميدان، في المدارس والجامعات، تدور عجلة التعصير والتأصيل.
تدخل المادة البشرية في يد الأساتذة المصنوعين بيد دهاقين العصر المستعمرين، فيتناولون نفسها وفكرها وشكلها وعاداتها بالتطريق والتمزيق حتى تتهيأ للتحويل في كيمياء "الثقافة"، وحتى يُفرز منها عناصر السلامة الفطرية "محلل" التغريب، وحتى تتفاعل لصياغة جديدة بحضور "المُرَكِّبِ" اللاييكي.
الطرح الإسلامي لا يعرف التعميات الفلسفية، بل ينفيها ويطردها. الطرح الإسلامي يسألك عن إيمانك بربك وبمصيرك إليه. ينسبك إلى خالقك، فذاك أصلُك. ويسألك عن دار الامتحان والبلاء هذه الدنيا هل عملت فيها صالحا. ولا تستطيع أن تعمل صالحا بتجاوز نطاقك الضيق إن لم تعرف سنة الله في الكون، وآياته في الخلق، وما أخرج للناس في العصر من منتجات الفكر والصنائع، وما بث فيه من قوى متنافسة، وما أخر فيه وما قدم. هو المقدِّم وهو المؤخر لا إله إلا هو.
في الطرح الإسلامي معادلة لا معضلة. الإسـلام يعلن البشارة بالإنجاح في الدنيا والفوز في الآخرة للذين آمنوا وعملوا الصالحات. والمعضلة الفكرية الخابطة بين الأصالة والعصرنة لا تبرح بالمقلدة للفكر الوثني الإشكالات العقيمة.
أي وزن في السياسة والأخلاق يُرجى للمسلمين ما دام التعبير عن مطمحهم يتراوح بين أصالة مفقودة وعصرنة ممتنعة؟
ماذا يريد الإسلاميون؟ أية شخصية، وأي مجتمع وأي تنظيم، تكفل للمسلمين عودة الروح إلى كيانهم الخَفيف ليكتسي رزانة ويقتني في العالم وزنا؟
من الإسلاميين أنفسهم من يتوق لاستعادة الشخصية المسلمة التي دمرها الاستعمار، والمجتمع الذي انهار أمام صدمة الاستعمار، ومجد "الخلافة" الأموية والعباسية والعثمانية، وقد لَبِسَ كل ذلك في خيال التائقين حُلَلَ البهاء وزهو النصر وكرامة "الأصل" المجيد.
المعضلة هي المشكل ذو الرأسين، إن حللت أحدهما انعقد الآخر.
ومِن المعضلات المقيمة في أذهان مفكري المسلمين منذ قرن ويزيد قضية الأصالة والمعاصرة. كيف نربط الحاضر العصري بالماضي الأصيل. ولكل تصورهُ عن الأصالة مفردة وعن المعاصرة، وعنهما مجتمعتين بمقدار،أو بتمازج، أو بتناقض وتنافر.
لم يكن للمشكلة حِدَّتُها قبل الصدمة الاستعمارية، إنما كان عند المسلمين العثمانيين شعور بالاضطرار "لإصلاحات" تضيف إلى الأمة الممتلئة بذاتيتها قوى التدبير العسكري وترتيب "التنظيمات" القانونية.
لما هجم الاستعمار يقضم من أطراف الأمة في الهند وأندونسيا وأفريقيا قاومه المسلمون بذاتية إسلامية لا تشعر إزاءه بنقص حضاري لأنها لم تكن على اطلاع بالفرق الهائل في تطوير الوسائل الصناعية والتسليحية والتنظيمية. ولم يزدَدْ شعور الدولة العثمانية رحمها الله بالحاجة للإصلاحات والتنظيمات إلا بعد أن حل العدو المتفوق قريبا من دارها في الجزائر ومصر وتونس والمغرب.
ثم إن فشل المقاومة البطولية للاستعمار من قبل رجال كعبد القادر الجزائري والمهدي السوداني وعمر المختار بليبيا ومحمد عبد الكريم بالمغرب ، ومن قبلهم أحمد ابن عرفان بالهند، وأمثالهم أشعر المسلمين بالورطَة، لكن لم يفقدهم الثقة بالنفس، ولم يبث فيهم الشك في هُوِيتهم الحضارية الإسلامية. كانوا عند أنفسهم مسلمين يقاتلون كفارا.
وبهذا الاعتزاز بالذات بدأت المقاومة الوطنية للتحرير يقودها رجال يتكِئون على إسلامية الشعب، ويرفعون شعارات ما لبثت أن اختلطت فيها الروح الإسلامية بالنداء الوطني المحلي القومي. وفي الطريق إلى التحرر اقتبس الزعماء أسلحة فكرية من القومية الأوربية الغازية بحكم المناقضة مع المُقابلة تعكس هذه المقابلة صفات الضد على الضد. وهكذا قاتل الوطنيون المحتل، فلم تنته المعركة بجلاء الاستعمار إلا وقد أصبح الناس وطنيين انزوت إسلاميتهم وراء الاهتمام.
ثم استلم الوطنيون الاستقلال كما تُستَلَمُ الحياةُ الجديدة، فإذا في أيديهم إدارة عصرية استدعت بضروراتها المزاحِمة نخبة من "العصريين" طوروها إلى دولة قومية هي هذه التركيبات الشرقية الغربية، العصرية الأصيلة، الأصيلة العصرية، المرتدية أثوابَ الغول، المُمتَشِقَةُ على الإسلاميين الطالبين لحكم إسلامي سلاحَ التفزيع والقمع، تارة لأنهم يهددون أصالة الإسلام الرسمي المحضون في كنَفها، وتارة بدعوى أنهم لا يفهمون العصر،فهم ظلام من ظلام.
كان جسمُ الأمة قبل الصدمة الاستعمارية كيانا رَخوا رثا باليا ضعيفا. كانت قابلية الاستعمار، كما كان يقول مالك بن نبي رحمه الله، تنادي بحالها مَنْ يملأ فراغ الضعف بالقوة. كانت التجزئة السياسية أمرا واقعا مزمنا ابتدأ من القرن الرابع الهجري، منذ استولى الديلم والترك على الدولة المسلمة ثم تنازعوا أطرافها منذئذ مع أقوام آخرين حتى استقرت، في مُعظمها، بيد العثمانيين. وشاخت الأمور في أيديهم، وشكل ظلْمُهم للرعايا،ومنهم العرب، مطية أخرى زادت القابليـة للتجزئة والاستعمار استحكاما.
وجد الرجل الأبيض المتفوق نفسه وقد اكتسب عضلات ما لبثت أن صرعت "الرجل المريض" العثماني. وفي ظروف الحرب العالمية الأولى برز مصطفى كمال وارثا عصريا قوميا لمجد العثمانيين، قلص الإسلام إلى زاوية الإهمال، وحارب الدين وقتل العلماء، و"ترّك" الدولة وعصَّرها بقوة الحديد والإرهاب.
هذا الاستعمار يشبه في عاداته في الحل والترحال،وفي الاستيطان والتناسل الذبابة المكسيكية التي تعمِد إلى كائن حي جريح فتستبطن جرحه وتعمقه، ثم تبيض فيه بَيْضها فيفقِس عن أجيال من الذباب متوارثة، جرثومتها ومادة غِذائها وحياتها من الكائن المحتَل الذي يموت عنصرُه لتحيى العناصر الطفيلية.
دخلت العصرية غازية على الأصالة، وَرَدَ الكفر عاطِشا لاستعباد الضعفاء على الإسلام الموروث.
وحار المسلمون في الوِجهة، ما حيَّرَهم غيرُ المثقَّفين المغربين الذين لهم وعي بما يجري في الساحة وليس معهم إيمانُ العجائز، ذلك الإيمان الفطري الذي به حافظت الشعوب على إسلاميتها وهويتها وأصالتها، فهي اليوم يتجاذبها صَخَب العصر ونسلُ الذباب الطفيلي إلى جانب التعصر والتطور والتنصل من كل دين إلا دين القومية وجلباب الفلكلور.
ويدعوها إلى الإسلام طائفة من بنيها الذين عَزُّوا على المسخ الذبابي.
ما هي الأصالة وما هي العصرية، وكيف أصبح الجمع بينهما مطلبا معضلا، وكيف اشتبك الفكر المسلم في شباك هذا الطرح المعضل ذي الطرفين المتنازعين المتخاصمين؟
الطرح نفسه وارد علينا، داخل على إسلامنا، دخيل فيه، غريب عنه. إنه طرح محايد، بريء من كل دين، ينسُبُك نسبة وثنية مادية إلى "أصل"، ويسحبُك إلى عبادة "العصر" وما في العصر من مكتسبات مادية بشرية. طرح يجردك من عبوديتك لله عز وجل ليدخلك في متاهة المعميات التي يحلو للمثقفين المغربين من ذراري المسلمين أن يتباروا في ريادة مجاهلها.
ما هي التركيبة المُثلى لأساس الشخصية الأصيلة؟ ما هي الصياغة الفكرية لها؟ ما هي الصبغة الثقافية؟ وهكذا تتسلسل الأسئلة والأجوبة والاحتمالات في الذهنيات المغربة طردا وعكسا. وفي الميدان، في المدارس والجامعات، تدور عجلة التعصير والتأصيل.
تدخل المادة البشرية في يد الأساتذة المصنوعين بيد دهاقين العصر المستعمرين، فيتناولون نفسها وفكرها وشكلها وعاداتها بالتطريق والتمزيق حتى تتهيأ للتحويل في كيمياء "الثقافة"، وحتى يُفرز منها عناصر السلامة الفطرية "محلل" التغريب، وحتى تتفاعل لصياغة جديدة بحضور "المُرَكِّبِ" اللاييكي.
الطرح الإسلامي لا يعرف التعميات الفلسفية، بل ينفيها ويطردها. الطرح الإسلامي يسألك عن إيمانك بربك وبمصيرك إليه. ينسبك إلى خالقك، فذاك أصلُك. ويسألك عن دار الامتحان والبلاء هذه الدنيا هل عملت فيها صالحا. ولا تستطيع أن تعمل صالحا بتجاوز نطاقك الضيق إن لم تعرف سنة الله في الكون، وآياته في الخلق، وما أخرج للناس في العصر من منتجات الفكر والصنائع، وما بث فيه من قوى متنافسة، وما أخر فيه وما قدم. هو المقدِّم وهو المؤخر لا إله إلا هو.
في الطرح الإسلامي معادلة لا معضلة. الإسـلام يعلن البشارة بالإنجاح في الدنيا والفوز في الآخرة للذين آمنوا وعملوا الصالحات. والمعضلة الفكرية الخابطة بين الأصالة والعصرنة لا تبرح بالمقلدة للفكر الوثني الإشكالات العقيمة.
أي وزن في السياسة والأخلاق يُرجى للمسلمين ما دام التعبير عن مطمحهم يتراوح بين أصالة مفقودة وعصرنة ممتنعة؟
ماذا يريد الإسلاميون؟ أية شخصية، وأي مجتمع وأي تنظيم، تكفل للمسلمين عودة الروح إلى كيانهم الخَفيف ليكتسي رزانة ويقتني في العالم وزنا؟
من الإسلاميين أنفسهم من يتوق لاستعادة الشخصية المسلمة التي دمرها الاستعمار، والمجتمع الذي انهار أمام صدمة الاستعمار، ومجد "الخلافة" الأموية والعباسية والعثمانية، وقد لَبِسَ كل ذلك في خيال التائقين حُلَلَ البهاء وزهو النصر وكرامة "الأصل" المجيد.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
مرض الغثائية وداء الأمم
تُكَوِّنُ المقابلة بين الأصالة والمعاصرة "وحدة جدلية" على الشهوة لأذهان مفلسفة لا يستقيم لها التفكير إلا على طرحٍ مُشاكِلٍ للمنوال المنهجي المادي. ويتداول الرهائن الثقافيون في يد الفكر المغرب الموضوعَ للنقد ونقد النقد، وللنقض ونقض النقض. تفكير في معقول ملموس مرغوب فيه هو المعاصرة، هو أن يكون المرء صورة طِبْق الرجل الأبيض "المتنور" المتحضر، وأن يكون المجتمع امتدادا حضاريا للعالم المتقدم، عالم الغرب العتيد. وتفكير في الغامض الجامد، في التراث الذي لا نجْرُؤُ على طرحه كله، ونحتاج أن نتزين به في عالم الثقافات ليبقى لنا بعض اعتبار الذات، لتبقى لنا "أصالة".
وتستعمل الجدلية المنهجية لتتيح "في آخر التحليل" تلفيقا منافقا بين الأصالة والمعاصرة،أو "تجاوزا ديالكتيكيا" نتخفف به من عِبء الغيبيات جميعا، ولتبقى لنا فلسفة الفارابي وتجديد ابن رشد للأرسطية.
مقطوعون يتعلقون بمقطوع. وانشطار في الفكر والشخصية والسلوك.
وينجر بعض الإسلاميين، إما دفْعا لبهتان المستشرقين وتلامذتهم وإمّا تشبثا بأصل تاريخي نلجأ إليه من الهزات، فيدخلون في إشكالية الأصالة والمعاصرة ليدافعوا عن المجد الأموي والحضارة العباسية، وليرسموا الطريق لاستعادة هوية ما قبل الاستعمار.
هكذا يتمسك بعض الإسلاميين بمقطوع منقوض، يتمسكون بنموذج المجتمع المنحل والنظام الحُكْمي المذموم شرعا، فلا هم تمكنوا من النقد الضروري المتبصر للذات، ولا هم استطاعوا عرض مشروعهم المستقبلي على النّمَوْذج النبوي القرآني متجاوزين إغراء البريق الحضاري المجيد الذي اقترن بالملك العاض ثم الجبري. هذا التمسك بالأصالة الغامضة زيغ عن الخط المنهاجي واختزال وتعمية للأمراض التي كانت سبب تفتت الأمة وهزيمتها وضعفها و"لا شيئيتها" و"لا وزنيتها" في عالم اليوم.
ولا ينبئك مِثْلُ خبير، لا يصف لك الأمراض الطارئة على الأمة، والتي كانت ولا تزال السبب في انخذالها حتى انتُهكت حُرمتها، غير الحبيب الطبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن كان غيرُنا من رهائن الفكر المغرب المفلسف "المعقلن" يستعيرون أدواتهم الفكرية وتركيباتهم المفهومية من مرجعيتهم المادية الكافرة بالله ورسله، فنحن نستمع إلى مبلغ الوحي، النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، يخبرنا من زمانه بزماننا، من ماض مُؤَسِّسٍ عن لاحق مخرَّب مُهدَّم مُفتَّت. لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَتُنقَضَنّ عُرا الإسلام عُرْوةً عروةً، فكلما انتقضت عُروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخِرهن الصلاة". رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه.
عُرا الإسلام معاقِد القوة فيه، أصوله وفرائضه.
والنقض "انتشار العَقد من البناء والحبل"، و"النِّقض المنقوض"، و"منه قيل للبعير المهزول نِقض". كما قال الراغب رحمه الله.
البناء الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في اكتماله البشرِيِّ النسبيِّ وحافظ عليه الخلفاء الراشدون المهديون بحفظ الله بدأ انتقاضه وانهدامه وانتشاره بعد ثلاثين سنة من موته صلى الله عليه وسلم. اغتالوا الإمامَ عليا كرم الله وجهه فكسروا قبة البناء، بل أعْملوا المعول في أُسِّهِ لما حوَّلوها ملكا عاضا. كان الانقلاب الأموي الباغي ضربة في الكيان الإسلامي، ترجَّعتْ هزاتها على مدى التاريخ كما تترجع رجات الزلزال.
وما الأنقاض والأنكاث التي نراقبها في جسم الأمة من تجزئة في الوطن الإسلامي، وتفرق طائفي مذهبي، وذَرِّيَّةٍ في الفكر، وتشتتٍ في الوِجهة إلا نتيجة بعيدة "أصيلة" لتلك الضربة ورجاتها. ويا عجبا كيف نُصِمُّ آذاننا ونغمض أعيننا عن هذا الحَدَث الزلزالي في تاريخنا، حدثِ اغتيال الشورى والعدل!
ما فعل الاستعمارُ غيرَ تعميقِ النقض، بل ما كان الاستعمـار إلا لوجود أنقاض وأنكاث حيث كان قَبلُ البناء الحصين المنيع. دعك من عبادة حضارة ما هي إلا مظهر لقوة بقيت في الأمة "رغم" النقض العاض لا بسببه، رغم فساد الحكم وانحلال عروته.
ونستمع إلى المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم يخبرنا بمصير الأنقاض بعد زمان. كيف ازداد التفتت واستفحل واستوحل وتأصل حتى كانت القابلية للاستعمار دعوةً جَفَلَى للأمَم أن هَلُموا إلى مَأْدُبَة.
للباحث المستنير بنور الوحي أن يتأمل تاريخ المسلمين وبإزائه الخبر الحقيق والوصف الدقيق الناطق بالنقض وبتحول الخلافة على منهاج النبـوة إلى ملك عاض ثم جبري.
ونختصر نحن لننـزل مع الدليل المنهاجي النبوي إلى عصر الاستعمار وما حمله إلى أذهان خريجي مدرسة الاستعمار من زبَد فكري يُرْغِـي باحثا عن أصالة غامضة محقورة ومعاصرة هي نبذ الدين والوحي جملة.
اختَصَرت الزمانَ عبارةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "يوشك الأُممُ أن تَداعَى عليكُم كما تَداعَى الأَكَلَةُ على قَصعتها!"
في كلمة "يوشك" الدالة لغة على قرب وُقوع الفعل المَسُوقِ بعدَها تحذيرٌ وتخويف وتهويل. وما تركت الكِناية بالقصعة والآكلين منها معنى من معاني الضَّعف والمفعولية إلا عبرت عنه.
فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم. وليقذِفن الله في قلوبكم الوَهْنَ".
قال قائل: يا رسول الله! وما الوهْنُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ الدنيا وكراهية الموت".
هذا هو مرض الغثائية الذي ينْخَر في كياننا. وليس بعد وصف الله ورسوله لدخائل ما بالعباد كلام. والحديث رواه أبو داود والإمام أحمد بسند صحيح.
الغُثاءُ غثاء السيل وغُثاء القِدْر. وهو "ما يطفَح ويتفرّق من النّبات اليابس وزبَد القدر. ويضرب به المثل فيما يضيع ويذهبُ غيرَ مُعتدٍّ به". هكذا قال علماء اللغة.
الغثائية إذاً مرض الطفوح والتفرق وخفة الوزن. وهي صفات ما يضيع ويذهب غيرَ معتَد به. أي لا قيمة له ولا أثر.
وكُنْهُ الغثائية الظاهرة وسببها الوهْنُ الذي لا يفيد معه كثرة العدد. من مليار مسلم ويزيدون أين كتيبة برَأَتْ من الوهن؟
الوهن حب الدنيا وكراهية الموت.حب الدنيا أثرَةٌ قتلت العدل، وسلطوية عاضة جبرية قتلت الشورى. فصميم الصميم في كياننا المعنوي مقتول. والجثة الغثائية لا يمكن أن تحيى وتفعل إن لم تعد إليها الروح بعودة الشورى والعدل. وهما ممتنعان ما لم نعالج العِلة الكامنَة في النخاع: الوهْنَ.
إن ما يريده الإسلاميون حياة بالإيمان والإحسان تجعل من الفرْد المومن عاملا للصالحات، ومن الأمة قوة اقتحامية ترتفع من الوهدة وترقى إلى العزة متخطية العقبات. وهناك في قاع النفس الفردية، في القلوب، قذف الله رب العزة الوهن. هناك في العلاقات الجماعية وَلَدَ الوهنُ جراثيم الاستبداد والظلم والأثرة. ولا علاج إلا العلاج العميق لمرض الغثائية في القلوب، ولأدواء الأمَم التي سرَتْ فينا منذ تدحرجنا عن العقبة، منذ نقضنا البناء النبوي الراشد.
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بجماع الأدواء المتولدة من الوهن، الناشئة في أحضانه. قال عليه الصلاة والسلام: "سيصيب أمتي داء الأُمم". فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: "الأَشَرُ والبطَر، والتكاثرُ والتناجُش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكونَ البَغْيُ". الحديث أخرجه الحاكم بسند صحيح.
البطَر خِفة تعتري الإنسان إذا طرأت عليه نعمة. قال علماء اللغة: "خفة". والأشَر مثل البَطَر زهوٌ فارغ. والتكاثر والتناجش في الدنيا مِثْلان، والتباغض والتحاسد صنوان. والبغي هو الهيكل المحلول المنقوض للأمة الغثاء، يلفها بسياط العض والجبر بينما يلفَعُها من داخلٍ البَطرُ وأخوهُ، والتّكاثر وحَمُوه، والتباغض وقرينه. وإن محاولة العلاج بالإصلاحات السياسية وحدها لَكَمَنْ يُبَيِّض واجهة مرضوضة منقوضة.
تُكَوِّنُ المقابلة بين الأصالة والمعاصرة "وحدة جدلية" على الشهوة لأذهان مفلسفة لا يستقيم لها التفكير إلا على طرحٍ مُشاكِلٍ للمنوال المنهجي المادي. ويتداول الرهائن الثقافيون في يد الفكر المغرب الموضوعَ للنقد ونقد النقد، وللنقض ونقض النقض. تفكير في معقول ملموس مرغوب فيه هو المعاصرة، هو أن يكون المرء صورة طِبْق الرجل الأبيض "المتنور" المتحضر، وأن يكون المجتمع امتدادا حضاريا للعالم المتقدم، عالم الغرب العتيد. وتفكير في الغامض الجامد، في التراث الذي لا نجْرُؤُ على طرحه كله، ونحتاج أن نتزين به في عالم الثقافات ليبقى لنا بعض اعتبار الذات، لتبقى لنا "أصالة".
وتستعمل الجدلية المنهجية لتتيح "في آخر التحليل" تلفيقا منافقا بين الأصالة والمعاصرة،أو "تجاوزا ديالكتيكيا" نتخفف به من عِبء الغيبيات جميعا، ولتبقى لنا فلسفة الفارابي وتجديد ابن رشد للأرسطية.
مقطوعون يتعلقون بمقطوع. وانشطار في الفكر والشخصية والسلوك.
وينجر بعض الإسلاميين، إما دفْعا لبهتان المستشرقين وتلامذتهم وإمّا تشبثا بأصل تاريخي نلجأ إليه من الهزات، فيدخلون في إشكالية الأصالة والمعاصرة ليدافعوا عن المجد الأموي والحضارة العباسية، وليرسموا الطريق لاستعادة هوية ما قبل الاستعمار.
هكذا يتمسك بعض الإسلاميين بمقطوع منقوض، يتمسكون بنموذج المجتمع المنحل والنظام الحُكْمي المذموم شرعا، فلا هم تمكنوا من النقد الضروري المتبصر للذات، ولا هم استطاعوا عرض مشروعهم المستقبلي على النّمَوْذج النبوي القرآني متجاوزين إغراء البريق الحضاري المجيد الذي اقترن بالملك العاض ثم الجبري. هذا التمسك بالأصالة الغامضة زيغ عن الخط المنهاجي واختزال وتعمية للأمراض التي كانت سبب تفتت الأمة وهزيمتها وضعفها و"لا شيئيتها" و"لا وزنيتها" في عالم اليوم.
ولا ينبئك مِثْلُ خبير، لا يصف لك الأمراض الطارئة على الأمة، والتي كانت ولا تزال السبب في انخذالها حتى انتُهكت حُرمتها، غير الحبيب الطبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن كان غيرُنا من رهائن الفكر المغرب المفلسف "المعقلن" يستعيرون أدواتهم الفكرية وتركيباتهم المفهومية من مرجعيتهم المادية الكافرة بالله ورسله، فنحن نستمع إلى مبلغ الوحي، النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، يخبرنا من زمانه بزماننا، من ماض مُؤَسِّسٍ عن لاحق مخرَّب مُهدَّم مُفتَّت. لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَتُنقَضَنّ عُرا الإسلام عُرْوةً عروةً، فكلما انتقضت عُروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخِرهن الصلاة". رواه الإمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه.
عُرا الإسلام معاقِد القوة فيه، أصوله وفرائضه.
والنقض "انتشار العَقد من البناء والحبل"، و"النِّقض المنقوض"، و"منه قيل للبعير المهزول نِقض". كما قال الراغب رحمه الله.
البناء الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في اكتماله البشرِيِّ النسبيِّ وحافظ عليه الخلفاء الراشدون المهديون بحفظ الله بدأ انتقاضه وانهدامه وانتشاره بعد ثلاثين سنة من موته صلى الله عليه وسلم. اغتالوا الإمامَ عليا كرم الله وجهه فكسروا قبة البناء، بل أعْملوا المعول في أُسِّهِ لما حوَّلوها ملكا عاضا. كان الانقلاب الأموي الباغي ضربة في الكيان الإسلامي، ترجَّعتْ هزاتها على مدى التاريخ كما تترجع رجات الزلزال.
وما الأنقاض والأنكاث التي نراقبها في جسم الأمة من تجزئة في الوطن الإسلامي، وتفرق طائفي مذهبي، وذَرِّيَّةٍ في الفكر، وتشتتٍ في الوِجهة إلا نتيجة بعيدة "أصيلة" لتلك الضربة ورجاتها. ويا عجبا كيف نُصِمُّ آذاننا ونغمض أعيننا عن هذا الحَدَث الزلزالي في تاريخنا، حدثِ اغتيال الشورى والعدل!
ما فعل الاستعمارُ غيرَ تعميقِ النقض، بل ما كان الاستعمـار إلا لوجود أنقاض وأنكاث حيث كان قَبلُ البناء الحصين المنيع. دعك من عبادة حضارة ما هي إلا مظهر لقوة بقيت في الأمة "رغم" النقض العاض لا بسببه، رغم فساد الحكم وانحلال عروته.
ونستمع إلى المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم يخبرنا بمصير الأنقاض بعد زمان. كيف ازداد التفتت واستفحل واستوحل وتأصل حتى كانت القابلية للاستعمار دعوةً جَفَلَى للأمَم أن هَلُموا إلى مَأْدُبَة.
للباحث المستنير بنور الوحي أن يتأمل تاريخ المسلمين وبإزائه الخبر الحقيق والوصف الدقيق الناطق بالنقض وبتحول الخلافة على منهاج النبـوة إلى ملك عاض ثم جبري.
ونختصر نحن لننـزل مع الدليل المنهاجي النبوي إلى عصر الاستعمار وما حمله إلى أذهان خريجي مدرسة الاستعمار من زبَد فكري يُرْغِـي باحثا عن أصالة غامضة محقورة ومعاصرة هي نبذ الدين والوحي جملة.
اختَصَرت الزمانَ عبارةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "يوشك الأُممُ أن تَداعَى عليكُم كما تَداعَى الأَكَلَةُ على قَصعتها!"
في كلمة "يوشك" الدالة لغة على قرب وُقوع الفعل المَسُوقِ بعدَها تحذيرٌ وتخويف وتهويل. وما تركت الكِناية بالقصعة والآكلين منها معنى من معاني الضَّعف والمفعولية إلا عبرت عنه.
فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم. وليقذِفن الله في قلوبكم الوَهْنَ".
قال قائل: يا رسول الله! وما الوهْنُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ الدنيا وكراهية الموت".
هذا هو مرض الغثائية الذي ينْخَر في كياننا. وليس بعد وصف الله ورسوله لدخائل ما بالعباد كلام. والحديث رواه أبو داود والإمام أحمد بسند صحيح.
الغُثاءُ غثاء السيل وغُثاء القِدْر. وهو "ما يطفَح ويتفرّق من النّبات اليابس وزبَد القدر. ويضرب به المثل فيما يضيع ويذهبُ غيرَ مُعتدٍّ به". هكذا قال علماء اللغة.
الغثائية إذاً مرض الطفوح والتفرق وخفة الوزن. وهي صفات ما يضيع ويذهب غيرَ معتَد به. أي لا قيمة له ولا أثر.
وكُنْهُ الغثائية الظاهرة وسببها الوهْنُ الذي لا يفيد معه كثرة العدد. من مليار مسلم ويزيدون أين كتيبة برَأَتْ من الوهن؟
الوهن حب الدنيا وكراهية الموت.حب الدنيا أثرَةٌ قتلت العدل، وسلطوية عاضة جبرية قتلت الشورى. فصميم الصميم في كياننا المعنوي مقتول. والجثة الغثائية لا يمكن أن تحيى وتفعل إن لم تعد إليها الروح بعودة الشورى والعدل. وهما ممتنعان ما لم نعالج العِلة الكامنَة في النخاع: الوهْنَ.
إن ما يريده الإسلاميون حياة بالإيمان والإحسان تجعل من الفرْد المومن عاملا للصالحات، ومن الأمة قوة اقتحامية ترتفع من الوهدة وترقى إلى العزة متخطية العقبات. وهناك في قاع النفس الفردية، في القلوب، قذف الله رب العزة الوهن. هناك في العلاقات الجماعية وَلَدَ الوهنُ جراثيم الاستبداد والظلم والأثرة. ولا علاج إلا العلاج العميق لمرض الغثائية في القلوب، ولأدواء الأمَم التي سرَتْ فينا منذ تدحرجنا عن العقبة، منذ نقضنا البناء النبوي الراشد.
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بجماع الأدواء المتولدة من الوهن، الناشئة في أحضانه. قال عليه الصلاة والسلام: "سيصيب أمتي داء الأُمم". فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: "الأَشَرُ والبطَر، والتكاثرُ والتناجُش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكونَ البَغْيُ". الحديث أخرجه الحاكم بسند صحيح.
البطَر خِفة تعتري الإنسان إذا طرأت عليه نعمة. قال علماء اللغة: "خفة". والأشَر مثل البَطَر زهوٌ فارغ. والتكاثر والتناجش في الدنيا مِثْلان، والتباغض والتحاسد صنوان. والبغي هو الهيكل المحلول المنقوض للأمة الغثاء، يلفها بسياط العض والجبر بينما يلفَعُها من داخلٍ البَطرُ وأخوهُ، والتّكاثر وحَمُوه، والتباغض وقرينه. وإن محاولة العلاج بالإصلاحات السياسية وحدها لَكَمَنْ يُبَيِّض واجهة مرضوضة منقوضة.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
منطق الدعوة ومنطق "الساحة"
ويح الحقائق! ألا تزال الأمة غثاءً وجهاد أفغانستان[1] ونصر الله عز وجل للمجاهدين كالشمس الساطعة ببرهانها! غثاء ذلك الشعب المسلم الأبي الشامخ بإيران، زلزل عرش الطاووس بثورة يتحدث عنها التاريخ مِلْءَ نفَسِه! أغثاءٌ جيلُ رجال الصحوة الذي صافحته يد التوفيق الإلهي فعدَّل من حِمْل الأمة مَيْدَه، وفك مِن عنائها اليائس قيده!
كلا لست من العَمِينَ عن الضياء ولا من الأَعْشَيْنَ عن النور. لكني أشير إلى مكامن الداء الأمَميِّ الذي يندسُّ، له طَوَفانٌ ورَوَغانٌ، خلالَ مَظاهر القوة، ومن تحتِ سرابيل البأس والشدة.
لنتركْ آيَة الكرامة الأفغانية، فهي تحدٍّ لكل جاحد. ذهب مرض الغثائية وزال، نسأل الله رب العزة أن ينصر جنده.
ونترك، إلى حين، مظاهرَ الصحوة العامة، فلنا معها الكلام بدءاً وانتهاء. ولنتأمل الثورة الإسلامية بإيران ففيها من الدروس الإيجابية والسَّلبيّة ما يصلح معيارا عمليّاً عينيّاً لحال المسلمين وقابلياتهم الكامنة وقوتهم الظاهرة.
بهرت الثورة الإسلامية الشيعية العالم بقوتها. هذا فِرْقٌ من الأمة التي كانت قَصعة للآكلين، كانت مفعولا به موضوعا لِمساوَمةِ الاستعمار، يتحول إلى قوة فاعلة، ويدحَضُ بحُجة الحياة تُهمة الموت، وبآيةِ اليقظة وَصمةَ أن الدين أفيونُ الشعوب. قومٌ لَبَّوْا نِداء الاستشهاد في سبيل الله، وآمنوا بالله ورسوله وجنته، وخَفّوا للثأْر التاريخي من يزيدات الظلم وشاهات الخيانة.
فِرْقٌ من الأُمة، ونِقْضٌ من أنقاضها، الْتفّ على لَوْعَةِ ضَياعِ الإمامة باغتيال سيدنا علي كرم الله وجهه، ودفَنَ في سُوَيْدائه كمَد مقتل سيدنا الحسين، واحتَمى في أحضان آل البيت، وتغذت روحانيته بمحبتهم والوَلاء اللانهائي لهم. وشرِبت نفسُه كراهيَّة الظلم من حوض المناحات في عاشوراء، والتعزيات الدائمة في حسين، السلام على حسن وحسين وعلى جدهم وعلى آل بيت النبي الأمين.
وتفجرت الغضبيَّة القرونية في وجه الشاه ونظامه، وكان نظامه حصنا منيعا من حصون الاستعمار الأمريكي حليف دولة اليهـود. كان الشاه حارِسَ المنطقة، ما كان يُحسَبُ أن شعبا أعزلَ ينسِفُ أركان إيوانه، وينفُخُ كالرماد عماد سلطانه.
الغثائية هي حب الدنيا وكراهية الموت. وقد شاهد العالَم أجمعُ كيف تعرضت الصدورُ لسدود النيران، وكيف خرج شعب برُمّته يتقدمه لابسو الأكفان المتقدمون في مسيرة حسينية هي خلاصة المناحات جميعا. برَأ أولئك من مرض الغثائية لا ريب.
وذاك ما أذهَلَ العالَم وأربك أمريكا التي عاشت شهورا طوِيلة مَهانَة العجز عن تحرير رهائنها.
ومن حجز الرهائن نبدأ تأمُّلنا في داء الأمم.
كان المسلون،منذ سقوط الدولة العثمانية شوكة الإسلام رحمها الله، لا يُذْكَرون إلا في معرض التوزيع على مائدة الغنَائم الاستعمارية. ثورة المسلمين الشيعة أبرزت المسلمين إلى الساحة السياسية وهم قوة يرهبُ جانِبُها. ومن منطق الدعوة المطالبة بحق ضائع انتقلت الثورة بالمسلمين إلى منطق الساحة العالمية، إلى مجال المدافعة والمقاتلة والمناجزة. ذلك الكَمُّ الذي لم يكن له وزن في عالم الأقوياء أصبح ثِقلا هائلا، ونوعية من القوة تهدد التوازنات الدولية.
وكان احتجاز الرهائن أسْلُوباً لمْ تأْلَفْهُ الدول القوية المتحضرة جدا أن يمارَس عليها من موقف القوة، وإن كانت هي مارست على الشعوب المستضعفة ألف أسلوب للإذلال والقهر.
طار المسلمون والمستضعفون في الأرض فرحا لثورة إيران، يعُدونها بشيرا للتحرر من قبضة الغاصبين، وتجاوبت معها الشعوب المقهورة في الشرق والغرب، وتناغم معها الدعاةُ الإسلاميون ثقةَ أن نصرَها نصرُهم، وأن كلَّ خطوة تخطوها الثورة إلى الأمام هي نقلة للمسلمين إلى دار العز من دار الهوان.
داء الأمم في خلاصته هو البغي، وجَدَ البغيُ الطاغوتي الأمريكي في البغي الانتقامي الذي حجز الدبلوماسيين مُتَعَلَّقا ليحيك مؤامَرة كالحة طوقت الثورة الإيرانية وحاصرتها وقاتلتها بأيدي القومية العربية البعثية حتى غُصَّتْ بالعُنفِ أمةُ الإسلام، وحتى جانفت المقاصِدُ الثورية سبيل الحق، وحتى تشوهت مَعالِمُ الطريق، وحتى استفحلت أخطاءُ حكومةٍ اختلط عليها منطق الدعوة والبناء بمنطق الهدم والتقويض.
احتدمت القوة الغضبية المكبوتة قرونا فاشتعلت نارا تلفح وجوه الطغاة، ودمدمت على ديار الظلم فخربتها.ولم يكن في الحوزات مشروع واضح للبناء يرسُمُ حدود الوُسْعِ، وصراعات القوى العالمية، وضغوط السياسة العالمية، وقسمة الأقوياء للمقومات الإستراتيجية، ومتطلبات الدولة الحديثة.
كان من علماء الحوزات الشيعية أمثال آية الله باقر الصدر وآية الله مطهري مستبصرون بالعصر استبصارهم بالنصوص. لكن الذي فجر الثورة بقيادة الإمام الخميني رحمه الله هو العقل التقليدي المستظهر بشعبية المساجد والحسينيات وروافد الحوزات.
عاش علماء الشيعة في كِنِّ التقية قرونا طويلة مستمسكين بذكرى اغتصاب الخلافة من الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبِلَوْعة اغتياله، وسفك الدم الزكي الحسيني، وسَوْق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا إلى بَلاط يزيد بن معاوية. وبَقي المِرْجَل في غليانٍ داخلي طقوسي عندما قامت دولة شيعية على يد الأسرة الصفَوية ثم الأسرة القجرية. وطفح المِرجل الغضبي على عرش ابن رِضَى شاه البهلوي.
ظل علماء الشيعة منذ أكثر من قرن، وهم المستقلون اقتصاديا عن الدولة، يصاولون الدولة ويطاولونها، ويقودون الانتفاضات مثل انتفاضة التبغ في إيران منذ قرن، والثورة العراقية ضد الإنجليز في العشرينات من القرن العشرين بتاريخ النصارى. كانت لهم قدَم في الساحة السياسية قديمة، وبثورة الإمام الخميني رحمه الله احتلوا الساحة وانفردوا بها. فبأي منطق تصرفوا. أهي الضغوط والمؤامرة والحرب، أم هو اختيار ناشئ عن علة قد تُعْزَى بسبب إلى داء الأمم؟
الشيخ محمد حسين فضل الله عالم من علماء إخوتنا الشيعة. إنه مرشد "حزب الله" في لبنان، لبنان الأحزان، لبنان الصيغةُ القصوى للانتقاض والتفتت والأشر والبَطَر ولَواحِقِهما. نقرأ ما عند الشيخ محمد حسين من رأي في أسلوب قيادة الاقتحام الإسلامي.
قال في مقدمة كتابه "الإسلام ومنطق القوة": "إن الدول الكبرى، والقوى الغاشمة، تطوِّرُ كل أساليب الحرب، وكل وسائل القوة... وترى ذلك أمرا حضاريا مشروعا من أجل الدفاع عن الحضارة و عن الشعوب الحرة-فيما تقول. فلماذا لا يحق للشعوب الضعيفة أن تطور وسائل المواجهة بأساليب غير مألوفة؟(...)
" إن منطق القوة هو منطق الحياة في ساحة الصراع، ولا منطقَ غيرُه. ولكن وسائل القوة هي التي تتنوع فكرا وكلمة ومنهجا وسلاحا".
هذه هي فئة من المسلمين أحياهم الله تعالى من خمول الذل، وجمعهم من غثاء، وزرع فيهم نبض الحياة ودفع القوة. فهل جاءوا بمشروع من صميم الدعوة ، وأساليب الدعوة، برسالة لبناء الإنسان، وإنقاذ الإنسان من حضارة مريضة، ودلالة الإنسان على قيمته ومصيره إلى دار الجزاء؟ هل جاءوا بالإيمان يطرد الكفر، وبالعافية تذهب السقم، وبالنور يطرد الظلام؟
أم أنهم ضغطتهم الأحداث ضغطتها، فانكشفـت عِلَلُ ساكنة تمُتّ إلى الماضي، إلى "الأصالة"، بصلات، فانخرطوا في منطق العصر، وردوا فعلا بفعل، وواجهوا صراعا أعمى بصراع أكمه؟
لو كنت يا هذا في ساحة لبنان ما كنت تفعل؟ ما كنت تقول؟
ويح الحقائق! ألا تزال الأمة غثاءً وجهاد أفغانستان[1] ونصر الله عز وجل للمجاهدين كالشمس الساطعة ببرهانها! غثاء ذلك الشعب المسلم الأبي الشامخ بإيران، زلزل عرش الطاووس بثورة يتحدث عنها التاريخ مِلْءَ نفَسِه! أغثاءٌ جيلُ رجال الصحوة الذي صافحته يد التوفيق الإلهي فعدَّل من حِمْل الأمة مَيْدَه، وفك مِن عنائها اليائس قيده!
كلا لست من العَمِينَ عن الضياء ولا من الأَعْشَيْنَ عن النور. لكني أشير إلى مكامن الداء الأمَميِّ الذي يندسُّ، له طَوَفانٌ ورَوَغانٌ، خلالَ مَظاهر القوة، ومن تحتِ سرابيل البأس والشدة.
لنتركْ آيَة الكرامة الأفغانية، فهي تحدٍّ لكل جاحد. ذهب مرض الغثائية وزال، نسأل الله رب العزة أن ينصر جنده.
ونترك، إلى حين، مظاهرَ الصحوة العامة، فلنا معها الكلام بدءاً وانتهاء. ولنتأمل الثورة الإسلامية بإيران ففيها من الدروس الإيجابية والسَّلبيّة ما يصلح معيارا عمليّاً عينيّاً لحال المسلمين وقابلياتهم الكامنة وقوتهم الظاهرة.
بهرت الثورة الإسلامية الشيعية العالم بقوتها. هذا فِرْقٌ من الأمة التي كانت قَصعة للآكلين، كانت مفعولا به موضوعا لِمساوَمةِ الاستعمار، يتحول إلى قوة فاعلة، ويدحَضُ بحُجة الحياة تُهمة الموت، وبآيةِ اليقظة وَصمةَ أن الدين أفيونُ الشعوب. قومٌ لَبَّوْا نِداء الاستشهاد في سبيل الله، وآمنوا بالله ورسوله وجنته، وخَفّوا للثأْر التاريخي من يزيدات الظلم وشاهات الخيانة.
فِرْقٌ من الأُمة، ونِقْضٌ من أنقاضها، الْتفّ على لَوْعَةِ ضَياعِ الإمامة باغتيال سيدنا علي كرم الله وجهه، ودفَنَ في سُوَيْدائه كمَد مقتل سيدنا الحسين، واحتَمى في أحضان آل البيت، وتغذت روحانيته بمحبتهم والوَلاء اللانهائي لهم. وشرِبت نفسُه كراهيَّة الظلم من حوض المناحات في عاشوراء، والتعزيات الدائمة في حسين، السلام على حسن وحسين وعلى جدهم وعلى آل بيت النبي الأمين.
وتفجرت الغضبيَّة القرونية في وجه الشاه ونظامه، وكان نظامه حصنا منيعا من حصون الاستعمار الأمريكي حليف دولة اليهـود. كان الشاه حارِسَ المنطقة، ما كان يُحسَبُ أن شعبا أعزلَ ينسِفُ أركان إيوانه، وينفُخُ كالرماد عماد سلطانه.
الغثائية هي حب الدنيا وكراهية الموت. وقد شاهد العالَم أجمعُ كيف تعرضت الصدورُ لسدود النيران، وكيف خرج شعب برُمّته يتقدمه لابسو الأكفان المتقدمون في مسيرة حسينية هي خلاصة المناحات جميعا. برَأ أولئك من مرض الغثائية لا ريب.
وذاك ما أذهَلَ العالَم وأربك أمريكا التي عاشت شهورا طوِيلة مَهانَة العجز عن تحرير رهائنها.
ومن حجز الرهائن نبدأ تأمُّلنا في داء الأمم.
كان المسلون،منذ سقوط الدولة العثمانية شوكة الإسلام رحمها الله، لا يُذْكَرون إلا في معرض التوزيع على مائدة الغنَائم الاستعمارية. ثورة المسلمين الشيعة أبرزت المسلمين إلى الساحة السياسية وهم قوة يرهبُ جانِبُها. ومن منطق الدعوة المطالبة بحق ضائع انتقلت الثورة بالمسلمين إلى منطق الساحة العالمية، إلى مجال المدافعة والمقاتلة والمناجزة. ذلك الكَمُّ الذي لم يكن له وزن في عالم الأقوياء أصبح ثِقلا هائلا، ونوعية من القوة تهدد التوازنات الدولية.
وكان احتجاز الرهائن أسْلُوباً لمْ تأْلَفْهُ الدول القوية المتحضرة جدا أن يمارَس عليها من موقف القوة، وإن كانت هي مارست على الشعوب المستضعفة ألف أسلوب للإذلال والقهر.
طار المسلمون والمستضعفون في الأرض فرحا لثورة إيران، يعُدونها بشيرا للتحرر من قبضة الغاصبين، وتجاوبت معها الشعوب المقهورة في الشرق والغرب، وتناغم معها الدعاةُ الإسلاميون ثقةَ أن نصرَها نصرُهم، وأن كلَّ خطوة تخطوها الثورة إلى الأمام هي نقلة للمسلمين إلى دار العز من دار الهوان.
داء الأمم في خلاصته هو البغي، وجَدَ البغيُ الطاغوتي الأمريكي في البغي الانتقامي الذي حجز الدبلوماسيين مُتَعَلَّقا ليحيك مؤامَرة كالحة طوقت الثورة الإيرانية وحاصرتها وقاتلتها بأيدي القومية العربية البعثية حتى غُصَّتْ بالعُنفِ أمةُ الإسلام، وحتى جانفت المقاصِدُ الثورية سبيل الحق، وحتى تشوهت مَعالِمُ الطريق، وحتى استفحلت أخطاءُ حكومةٍ اختلط عليها منطق الدعوة والبناء بمنطق الهدم والتقويض.
احتدمت القوة الغضبية المكبوتة قرونا فاشتعلت نارا تلفح وجوه الطغاة، ودمدمت على ديار الظلم فخربتها.ولم يكن في الحوزات مشروع واضح للبناء يرسُمُ حدود الوُسْعِ، وصراعات القوى العالمية، وضغوط السياسة العالمية، وقسمة الأقوياء للمقومات الإستراتيجية، ومتطلبات الدولة الحديثة.
كان من علماء الحوزات الشيعية أمثال آية الله باقر الصدر وآية الله مطهري مستبصرون بالعصر استبصارهم بالنصوص. لكن الذي فجر الثورة بقيادة الإمام الخميني رحمه الله هو العقل التقليدي المستظهر بشعبية المساجد والحسينيات وروافد الحوزات.
عاش علماء الشيعة في كِنِّ التقية قرونا طويلة مستمسكين بذكرى اغتصاب الخلافة من الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبِلَوْعة اغتياله، وسفك الدم الزكي الحسيني، وسَوْق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا إلى بَلاط يزيد بن معاوية. وبَقي المِرْجَل في غليانٍ داخلي طقوسي عندما قامت دولة شيعية على يد الأسرة الصفَوية ثم الأسرة القجرية. وطفح المِرجل الغضبي على عرش ابن رِضَى شاه البهلوي.
ظل علماء الشيعة منذ أكثر من قرن، وهم المستقلون اقتصاديا عن الدولة، يصاولون الدولة ويطاولونها، ويقودون الانتفاضات مثل انتفاضة التبغ في إيران منذ قرن، والثورة العراقية ضد الإنجليز في العشرينات من القرن العشرين بتاريخ النصارى. كانت لهم قدَم في الساحة السياسية قديمة، وبثورة الإمام الخميني رحمه الله احتلوا الساحة وانفردوا بها. فبأي منطق تصرفوا. أهي الضغوط والمؤامرة والحرب، أم هو اختيار ناشئ عن علة قد تُعْزَى بسبب إلى داء الأمم؟
الشيخ محمد حسين فضل الله عالم من علماء إخوتنا الشيعة. إنه مرشد "حزب الله" في لبنان، لبنان الأحزان، لبنان الصيغةُ القصوى للانتقاض والتفتت والأشر والبَطَر ولَواحِقِهما. نقرأ ما عند الشيخ محمد حسين من رأي في أسلوب قيادة الاقتحام الإسلامي.
قال في مقدمة كتابه "الإسلام ومنطق القوة": "إن الدول الكبرى، والقوى الغاشمة، تطوِّرُ كل أساليب الحرب، وكل وسائل القوة... وترى ذلك أمرا حضاريا مشروعا من أجل الدفاع عن الحضارة و عن الشعوب الحرة-فيما تقول. فلماذا لا يحق للشعوب الضعيفة أن تطور وسائل المواجهة بأساليب غير مألوفة؟(...)
" إن منطق القوة هو منطق الحياة في ساحة الصراع، ولا منطقَ غيرُه. ولكن وسائل القوة هي التي تتنوع فكرا وكلمة ومنهجا وسلاحا".
هذه هي فئة من المسلمين أحياهم الله تعالى من خمول الذل، وجمعهم من غثاء، وزرع فيهم نبض الحياة ودفع القوة. فهل جاءوا بمشروع من صميم الدعوة ، وأساليب الدعوة، برسالة لبناء الإنسان، وإنقاذ الإنسان من حضارة مريضة، ودلالة الإنسان على قيمته ومصيره إلى دار الجزاء؟ هل جاءوا بالإيمان يطرد الكفر، وبالعافية تذهب السقم، وبالنور يطرد الظلام؟
أم أنهم ضغطتهم الأحداث ضغطتها، فانكشفـت عِلَلُ ساكنة تمُتّ إلى الماضي، إلى "الأصالة"، بصلات، فانخرطوا في منطق العصر، وردوا فعلا بفعل، وواجهوا صراعا أعمى بصراع أكمه؟
لو كنت يا هذا في ساحة لبنان ما كنت تفعل؟ ما كنت تقول؟
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
الغلوُّ والتطرف
يفسر أهل اللغة الاقتحام بأنه "توسُّطُ شِدّةٍ مُخيفة" أي الدخول في معترَك ساخن. وما سؤالنا عن الذات الإسلامية وأمراضِها،ما اعتبارنا للتجربة الشيعية الثورية، إلاَّ لأن الإسلاميين في طريقهم إلى الحكم وبعد استيلائهم عليه يدخلون في "شدة مخيفة" لا يصمد فيها جسم مُنطوٍ على علل مُضنية، حاملٍ لجراثيمَ مُفنية.
من العِلل الغثائية الدائية الغُلُوُّ في الدين. حذّرَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إياكم والغُلُوَّ في الدين؟ فإنما هَلك من كان قبْلكم بالغلو في الدين". رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح.
والغلُوُّ عرَّفه الشيخ المحدث المُناوِيُّ رحمه الله أنه "التشديد في الدين ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء، والكشفُ عن عِلَلِها وغوامض مُتعَبّداتها".
وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحذر من الغلُوِّ أهْـلَ الكتاب الذين منعهم عن متابعة الحق اتباعهم للهوى و"التشديد ومجاوزة الحد" حيث قال سبحانه: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غيرَ الحق. ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضَلُّوا من قبلُ وأضلوا كثيرا وضلوا عن سَواء السبيل".[1]
التشديد وتجاوُز الحَدِّ ظاهِرَةٌ كانتْ حادة في صفوفِ الشباب الإسلامي، وهي آخذةٌ في الاعتدال بحمد الله كاشف البلاء. يُغالي البعضُ في تقييمها ويبالِغ، خاصَّة الأعداءُ الذين يروْن في كل ملْتَحٍ إرهابيا وفي كل متحجبةٍ رمزا للتطرف. وقلَّما يُعطي المُتحاملون على التائبين والتائبات والعابدين والعابدات حقّاً للسبب الباعِث عَلَى نفور الشباب من المجتمع وإنكارِهم لأوضاعه، ذلك الإنكارَ الذي يبلُغ أحيانا حدّ الهجْر والتكفير.
إذا كان الغُلُوُّ ظاهِرَةً مَرَضيَّةً في الشباب المنبعث بالإيمان، وكان هلَكَةً للمتعنِّتين في خصوصيات أنفسهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلك المتنطعون"، فإنَّ حُمَّى الغُلُوِّ ما هي إلا عَرَض من أعراض المرض المُزمِن الدفين، مرَض الانتقاض في عُرَا الدين، مرضِ الفساد في نظامه، ألا وهو الحكمُ بغير ما أنزل الله.
يُخبِر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأصل العِلَلِ ومَبادِئها كما أخبر بالغثائية وحذر من داء الأمم فيقول: "هلاك أمتي على يدَيْ غِلْمةٍ من قريش" حديث صحيح رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كان استيلاءُ بني أُمية على الحكم، واغتصابُهم لسُدَّته، وتعاقُبُ غِلْمتهم وسفهائهم على مقام شريف تعاقب عليه زمانَ الرُّشد أبو بكر الصديقُ وعمر الفاروق وعثمانُ ذو النورين وعلي الإمامُ رضي الله عنهم، كارثةً على الإسلام رضَّت جسمَه وفتحت في جنبه جرحاً انسلت إليه جراثيم الأوبئة، منها الغلوُّ في الدين.
كان الإمامُ الحَسَنُ بن علي رضي الله عنهما يرَى أن طائفة من الخوارج مَا انفصلوا عن الجماعة وتشددوا في النكير على الحكام إلا غضبا للدين وَرفضا لجوْر الوُلاةِ من بني أمَيَّةَ. وكذلك حَكمَ على الظاهرة أهلُ المدينة والقراء الذين خرجوا على الحجاج صنيعةِ الغِلمة ورمزِ الجَوْر. وحكمُ الإمامِ الحسنِ ومَن رأى رأيَه من أهلِ الحَقِّ يُرجِعُ ظاهِرةَ التطرُّفِ إلى نِصابها النِّسْبِيِّ مِنْ كونها رفضاً لواقعٍ مكروه أغْضَب فِتيةً مومنين على مُنْكَرٍ لا يُحتمَل.
ظاهرةُ الغُلُوِّ في شباب الصحوة مُتَنَفَّسٌ قبلَ كل شيء لغَضَبٍ مَكْبوت. فتية استيقظوا لجرائم البغي فكرهوا البغاة، ولم يجدوا حولَهم إلا غُثاءً مِن الناس وهم المتشبعون بروحِ الجِهاد. انطلقوا في "غزوات" حُرَّة، معهم بضاعة مُجزاة من العلم، وحصيلة تقارب الصفرَ من الحكمة والتجربة، فشرَدوا في دروب التقلقل، وانكمشوا في جماعات منغلقة توالدت فيها أنواع "الاجتهادات" الشاذة، وتصرف فيها الأميرُ المُطاعُ وهو في مقتبل العمُر واغترار الزعامة. والزاد من معرفة الدين كما صنعه نظام التعليم الرسمي البئيس، وكما لفقته اطلاعات مَكتبية مشتتة، وكما فهمه عقل "طازج"،لم يتمرَّس بأهل الذكر ولم يسألهم ولم يثق بهم، ولا يراهم إلا خوَنَةً للدين.
بإزاء كل نظام جبريٍّ في بلاد المسلمين جهاز رسمي من الموظفين الدينيين. لا يُقبل في صف هذه الوظيفة "الجوقية" إلا ضعفاء الإرادة من أهل العلم، الخجولون من كل مواجهة، الساكتون عن الحق جُبنا أو تأوُّلاً، المستعدون لتحريق البَخورِ على أعتاب النظام الحاكم.
هؤلاءِ العلماءُ الضائعون السائرون في رِكابِ الهلَكة الطاغوتية أصبحوا في نظر الشباب المتشدد رموزاً للخيانة. وَهُمْ في الواقع، باستثناء ساقطي الهمة وهم قلة، ضحايا فتنة تسوق الأمة، شبابَها المتنطعَ وعلماءَها الخاملين، في "منطق الساحة".
هلَك المتنطعون لَمّا تَصدَّوْا لسيْلِ الفتنة، ليس معهم إلا إخلاصُهم للقضية الكبْرَى التي وجدوا فيها رَفْعاً لقيمتهم المهدورة.وفي أثناء المعركة التي يحسبونها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر التفتت إليهم العِلَّة الموروثة في الحُكم فحاربتهم، والتفّتْ عليهم العِلةُ الموروثة في النفوس، التي لم تهذبها تربية ولم يتعدها تعليم سليم ولم ترعها ربانية تتجاوز بهم آفاق الأشَر والبطر وأخواتهما، فدكتهم تحت كلكلها. هلكة في هلكة في هلكة.
قال الإمام النوويّ رحمه الله في شرح التنطع: "التقعر في الكلام بالتشدّق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشيِّ اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم".
يَتوبُ شاب نصفَ توبة، ويتعلم نصفَ تعليم، ويكتشف يوما أن له قدرة على الخطابة وتصفيف الكلام، فيستخفه البَطر وينتصبُ مفتيا وإماما مجتهدا يتخطى ما أصَّله علماء الأمة الراسخـون ليقعد بجانب مالك وأبي حنيفة والشافعي وعلى رأسه وهْم الرجولة والفحولة. ويحتقر كل رأي لا يوافق رأيه، ويُبَدِّعُ المسلمين، ويكفر المخالفين، ويشير إلى مواقع الجاهلية في كل ما يتحرك فيه الناس ويسكنون.
وقد يتبنى مذهبا منسوبا لإمام مجتهد، غالبا ما يكون مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يجول في أقواله جولة، فيخرج بالفتوى الجاهزة لكل شاذة وفاذّة من عالَمٍ مضى وانقضى إلى عالم يتأجج بمشاكل جديدة يغمض عينيه لكيلا يراها.لأنها لم يرد بها نص، فهي كُفر وبهتان وظلام جاهلي.حكما قاطعا بلا مقدمات ولا مرافعة.
لاَ يدور بخَلَدِ الشاب المتنطع المعجَب هو وسربُه بالفصاحة والكلام المنَمَّق ودقائق الإعراب -إن وُجد- أن أحكام الشريعة مراتبُ،وأن للشريعة مقاصدَ، وأن مصلحة العباد والاجتهاد في تحصيلها علَّةٌ تستهدي بالدليل، وأن الأدلة قد تتعارض فيلزَم الترجيح، وأن ما شادَه سلَفُنا الصالح من قواعدِ الأصول سنَدٌ لا غنى لنا عنه.
إننا إذ نقسو على الشباب الإسلامي الضائع في متاهات العزلة والانفراد الشاذ نعطي للعامل النفسي الفكري الذاتي فينا حقه من المسؤولية عن خفة وزن الحركة الإسلامية الهامشية.نفعل ذلك لنشخص المرض تشخيصا صحيحا حتى يتأتى العلاج.
يريد الإسلاميون اقتحام عقبة الحكم، وهم اليومَ المرشَّحون الوحيدون لإنقاذ الأمة باعتراف الخصم والعدو. فإن خفيَت عنا هشاشة في تكوين أحد أجنحتنا فإن دخولنا في "الشدة المخيفة" يكون تعرضا لتهشمنا جميعا.
فنريد من شباب الصحوة أن يلتمس البُرءَ لنفسه قبل كلِّ كلام. من كانت وِجهتُه وموضوعُ عنايته ومراقبته أفعالَ الناس وأخطاءَ المجتمع وهو عن ذات خطيئته وموبقات أخطائه غائب، كيف يُصلح؟ من كانت الغفلة عن الله عز وجل ساكنة قلبَه وإن كثرت صلاته وصيامه ونفله كيف يُذَكِّرُ الناس بالله ويزعم أنه داعٍ إليه؟
من كان تحت جِلْبابه الأبيَض الجديد وعمامته الناصعة إيمانٌ خَلَقٌ وَفِكرٌ رَثٌّ وتصوُّر وَرائيٌّ للدين، كيف يكون للأمة منقذا؟ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. نسأله التوفيق، لا حول ولا قوة إلا به.
يفسر أهل اللغة الاقتحام بأنه "توسُّطُ شِدّةٍ مُخيفة" أي الدخول في معترَك ساخن. وما سؤالنا عن الذات الإسلامية وأمراضِها،ما اعتبارنا للتجربة الشيعية الثورية، إلاَّ لأن الإسلاميين في طريقهم إلى الحكم وبعد استيلائهم عليه يدخلون في "شدة مخيفة" لا يصمد فيها جسم مُنطوٍ على علل مُضنية، حاملٍ لجراثيمَ مُفنية.
من العِلل الغثائية الدائية الغُلُوُّ في الدين. حذّرَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إياكم والغُلُوَّ في الدين؟ فإنما هَلك من كان قبْلكم بالغلو في الدين". رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح.
والغلُوُّ عرَّفه الشيخ المحدث المُناوِيُّ رحمه الله أنه "التشديد في الدين ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء، والكشفُ عن عِلَلِها وغوامض مُتعَبّداتها".
وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحذر من الغلُوِّ أهْـلَ الكتاب الذين منعهم عن متابعة الحق اتباعهم للهوى و"التشديد ومجاوزة الحد" حيث قال سبحانه: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غيرَ الحق. ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضَلُّوا من قبلُ وأضلوا كثيرا وضلوا عن سَواء السبيل".[1]
التشديد وتجاوُز الحَدِّ ظاهِرَةٌ كانتْ حادة في صفوفِ الشباب الإسلامي، وهي آخذةٌ في الاعتدال بحمد الله كاشف البلاء. يُغالي البعضُ في تقييمها ويبالِغ، خاصَّة الأعداءُ الذين يروْن في كل ملْتَحٍ إرهابيا وفي كل متحجبةٍ رمزا للتطرف. وقلَّما يُعطي المُتحاملون على التائبين والتائبات والعابدين والعابدات حقّاً للسبب الباعِث عَلَى نفور الشباب من المجتمع وإنكارِهم لأوضاعه، ذلك الإنكارَ الذي يبلُغ أحيانا حدّ الهجْر والتكفير.
إذا كان الغُلُوُّ ظاهِرَةً مَرَضيَّةً في الشباب المنبعث بالإيمان، وكان هلَكَةً للمتعنِّتين في خصوصيات أنفسهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلك المتنطعون"، فإنَّ حُمَّى الغُلُوِّ ما هي إلا عَرَض من أعراض المرض المُزمِن الدفين، مرَض الانتقاض في عُرَا الدين، مرضِ الفساد في نظامه، ألا وهو الحكمُ بغير ما أنزل الله.
يُخبِر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأصل العِلَلِ ومَبادِئها كما أخبر بالغثائية وحذر من داء الأمم فيقول: "هلاك أمتي على يدَيْ غِلْمةٍ من قريش" حديث صحيح رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كان استيلاءُ بني أُمية على الحكم، واغتصابُهم لسُدَّته، وتعاقُبُ غِلْمتهم وسفهائهم على مقام شريف تعاقب عليه زمانَ الرُّشد أبو بكر الصديقُ وعمر الفاروق وعثمانُ ذو النورين وعلي الإمامُ رضي الله عنهم، كارثةً على الإسلام رضَّت جسمَه وفتحت في جنبه جرحاً انسلت إليه جراثيم الأوبئة، منها الغلوُّ في الدين.
كان الإمامُ الحَسَنُ بن علي رضي الله عنهما يرَى أن طائفة من الخوارج مَا انفصلوا عن الجماعة وتشددوا في النكير على الحكام إلا غضبا للدين وَرفضا لجوْر الوُلاةِ من بني أمَيَّةَ. وكذلك حَكمَ على الظاهرة أهلُ المدينة والقراء الذين خرجوا على الحجاج صنيعةِ الغِلمة ورمزِ الجَوْر. وحكمُ الإمامِ الحسنِ ومَن رأى رأيَه من أهلِ الحَقِّ يُرجِعُ ظاهِرةَ التطرُّفِ إلى نِصابها النِّسْبِيِّ مِنْ كونها رفضاً لواقعٍ مكروه أغْضَب فِتيةً مومنين على مُنْكَرٍ لا يُحتمَل.
ظاهرةُ الغُلُوِّ في شباب الصحوة مُتَنَفَّسٌ قبلَ كل شيء لغَضَبٍ مَكْبوت. فتية استيقظوا لجرائم البغي فكرهوا البغاة، ولم يجدوا حولَهم إلا غُثاءً مِن الناس وهم المتشبعون بروحِ الجِهاد. انطلقوا في "غزوات" حُرَّة، معهم بضاعة مُجزاة من العلم، وحصيلة تقارب الصفرَ من الحكمة والتجربة، فشرَدوا في دروب التقلقل، وانكمشوا في جماعات منغلقة توالدت فيها أنواع "الاجتهادات" الشاذة، وتصرف فيها الأميرُ المُطاعُ وهو في مقتبل العمُر واغترار الزعامة. والزاد من معرفة الدين كما صنعه نظام التعليم الرسمي البئيس، وكما لفقته اطلاعات مَكتبية مشتتة، وكما فهمه عقل "طازج"،لم يتمرَّس بأهل الذكر ولم يسألهم ولم يثق بهم، ولا يراهم إلا خوَنَةً للدين.
بإزاء كل نظام جبريٍّ في بلاد المسلمين جهاز رسمي من الموظفين الدينيين. لا يُقبل في صف هذه الوظيفة "الجوقية" إلا ضعفاء الإرادة من أهل العلم، الخجولون من كل مواجهة، الساكتون عن الحق جُبنا أو تأوُّلاً، المستعدون لتحريق البَخورِ على أعتاب النظام الحاكم.
هؤلاءِ العلماءُ الضائعون السائرون في رِكابِ الهلَكة الطاغوتية أصبحوا في نظر الشباب المتشدد رموزاً للخيانة. وَهُمْ في الواقع، باستثناء ساقطي الهمة وهم قلة، ضحايا فتنة تسوق الأمة، شبابَها المتنطعَ وعلماءَها الخاملين، في "منطق الساحة".
هلَك المتنطعون لَمّا تَصدَّوْا لسيْلِ الفتنة، ليس معهم إلا إخلاصُهم للقضية الكبْرَى التي وجدوا فيها رَفْعاً لقيمتهم المهدورة.وفي أثناء المعركة التي يحسبونها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر التفتت إليهم العِلَّة الموروثة في الحُكم فحاربتهم، والتفّتْ عليهم العِلةُ الموروثة في النفوس، التي لم تهذبها تربية ولم يتعدها تعليم سليم ولم ترعها ربانية تتجاوز بهم آفاق الأشَر والبطر وأخواتهما، فدكتهم تحت كلكلها. هلكة في هلكة في هلكة.
قال الإمام النوويّ رحمه الله في شرح التنطع: "التقعر في الكلام بالتشدّق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشيِّ اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم".
يَتوبُ شاب نصفَ توبة، ويتعلم نصفَ تعليم، ويكتشف يوما أن له قدرة على الخطابة وتصفيف الكلام، فيستخفه البَطر وينتصبُ مفتيا وإماما مجتهدا يتخطى ما أصَّله علماء الأمة الراسخـون ليقعد بجانب مالك وأبي حنيفة والشافعي وعلى رأسه وهْم الرجولة والفحولة. ويحتقر كل رأي لا يوافق رأيه، ويُبَدِّعُ المسلمين، ويكفر المخالفين، ويشير إلى مواقع الجاهلية في كل ما يتحرك فيه الناس ويسكنون.
وقد يتبنى مذهبا منسوبا لإمام مجتهد، غالبا ما يكون مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يجول في أقواله جولة، فيخرج بالفتوى الجاهزة لكل شاذة وفاذّة من عالَمٍ مضى وانقضى إلى عالم يتأجج بمشاكل جديدة يغمض عينيه لكيلا يراها.لأنها لم يرد بها نص، فهي كُفر وبهتان وظلام جاهلي.حكما قاطعا بلا مقدمات ولا مرافعة.
لاَ يدور بخَلَدِ الشاب المتنطع المعجَب هو وسربُه بالفصاحة والكلام المنَمَّق ودقائق الإعراب -إن وُجد- أن أحكام الشريعة مراتبُ،وأن للشريعة مقاصدَ، وأن مصلحة العباد والاجتهاد في تحصيلها علَّةٌ تستهدي بالدليل، وأن الأدلة قد تتعارض فيلزَم الترجيح، وأن ما شادَه سلَفُنا الصالح من قواعدِ الأصول سنَدٌ لا غنى لنا عنه.
إننا إذ نقسو على الشباب الإسلامي الضائع في متاهات العزلة والانفراد الشاذ نعطي للعامل النفسي الفكري الذاتي فينا حقه من المسؤولية عن خفة وزن الحركة الإسلامية الهامشية.نفعل ذلك لنشخص المرض تشخيصا صحيحا حتى يتأتى العلاج.
يريد الإسلاميون اقتحام عقبة الحكم، وهم اليومَ المرشَّحون الوحيدون لإنقاذ الأمة باعتراف الخصم والعدو. فإن خفيَت عنا هشاشة في تكوين أحد أجنحتنا فإن دخولنا في "الشدة المخيفة" يكون تعرضا لتهشمنا جميعا.
فنريد من شباب الصحوة أن يلتمس البُرءَ لنفسه قبل كلِّ كلام. من كانت وِجهتُه وموضوعُ عنايته ومراقبته أفعالَ الناس وأخطاءَ المجتمع وهو عن ذات خطيئته وموبقات أخطائه غائب، كيف يُصلح؟ من كانت الغفلة عن الله عز وجل ساكنة قلبَه وإن كثرت صلاته وصيامه ونفله كيف يُذَكِّرُ الناس بالله ويزعم أنه داعٍ إليه؟
من كان تحت جِلْبابه الأبيَض الجديد وعمامته الناصعة إيمانٌ خَلَقٌ وَفِكرٌ رَثٌّ وتصوُّر وَرائيٌّ للدين، كيف يكون للأمة منقذا؟ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. نسأله التوفيق، لا حول ولا قوة إلا به.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: الأسلاميون و مطلب العدل :دراسة تاريخية
فقه التجديد
كان الخوارج الأولون أكثر الناس عبادة، جاء وصفهم في حديث نبوي شريف يصفهم أكمل الوصف وأدقه، وهو الوصف المعصوم الصادر عن الوحي، لا كشهادة مؤرخ يرى ظواهرَ الأحداث. روى الإمام البخاريّ رحمه الله عن سيدنا علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداثُ الأسنان (أي شباب) سفهاء الأحلام (خفاف العقول) يقولون من خيرِ قول البَرِيّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرَهم، يمرُقون من الدين كما يمرُق السهم من الرمِيَّة". الحديث.
حداثة السن سِمة مشتركة بين الخوارج المارقين الموصوفين في الحديث وبين شبابنا الأعـزاء أمل الأمة. ونرجو أن لا يبقى عند أحدهم نصيب من رقة دين الذين لا يتجاوز إيمانهم حناجرهم رغم تعبّدهم الشديد الذي وصفه الحديث الشريف قبل ظهورهم وأكده التاريخ بعد.
لا يُجاوز إيمانُهم حناجرهم، ولا يدخُلُ إلى قُلوبِهم، فهو إيمان منافقين، هو عدَم، أو إيمان أعْرابٍ يُطلِقون كلمة "إيمان" على هاجس غامضٍ أو ميل سطحي للدين. قال الله عز وجل عن الأعراب: "قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم".[1]
وقد ذهبت أجيال رقيقي الدين من سكان البادية الذين وصفهم القرآن بإسلاميةٍ لا ترقى إلى مرتبة الإيمان لانغلاق القلوب، وتبقى صفة الأعرابية تدمَغُ كلَّ مَن حالت صِفاته النفسية أصلا عن دخول الإيمان في قلبه.
هنالك صنف آخر من رقيقي الدين اكتسبوا بعضَ إيمان ثم ضعف هذا الإيمان وبَلِيَ حتى تلاشَى، فتقهقروا إلى مرتبة الأعرابية مع من انغلقوا في إسلامية سطحية أصلا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمانَ لَيَخْلُقُ (أي يَبْلَى) في جوف أحدكم كما يخلُقُ الثوب. فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمانَ في قلوبكم". رواه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الحاكم: رواتُه ثقات ووافقه الذهبي.
مَنع الإيمانَ أن يدخل إلى القلوب أصلا أمراض نفسية حائلة، أو دخَل مَدخلا ما فطرأت عليه الأمراض وأنهكته، فبلي وتلاشى. وهكذا يَتأصل في الفرد مرض الغثائية وداءُ الأمم وجرثومة الغلو. وهكذا تطرأ في الأمة أسباب الهَلَكة حتى يكونَ البغي وتستبدَّ الغِلْمة ويفسُد الحكم.
وحيث لا إيمانَ فلا قلوبَ تسمع كلامَ الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم فتتذكر وتأتَمر. قال الله تعالى: "إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب".[2] وسلامة القلب من الأمراض مطلب شريف سأله إبراهيم عليه السلام ربَّه حيث قال: "ولا تُخزِني يومَ يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم".[3]
في تشخيص الأمراض الغثائية الذاتية المهلكة ينبغي أن نحفِرَ عليها وننقِّبَ بِمِسْبَارِ الكتاب والسنة ليكون التشخيصُ أَوْثق، وليكون العلاجُ طِبا نبويا قرآنيا لا يُملِّسُ على العاهة بل يستأصلها بإذن الله تعالى.
إن الله عز وجل أعلم بما خلق، وإنه سبحانه أشار إلى أصل البلاء ومباءَة الداء وعش الآفة: ألا وهي النفسُ وسلطانها المانعُ العبدَ عن الهُدَى، الصارفُ له عن العبودية لربه عز وجل، التائه به في الشهوات والأنانية، وسُكْرِ الهَوَى، وضلال العقل، وأسْرِ العادة. من استيلاء سلطان النفسِ يتولد الأشَر والبطرَ، وينشأ التكاثر والتناجُشُ (وهي المُزَايدة) في الدنيا، ويكون التحاسد والتباغض والبغي.
النفس تحب الدنيا وتكره الموت. وحبُّ الدنيا والحِرص عليها، على لذاتها المادية ورئاساتها، سَدٌّ حاجز للإيمان أن يدخل القلب، وسبب الغثائية المباشر بشهادة الحديث الشريف، وداعٍ أبديٌّ للفُرقةِ والتفتُّتِ والخلافِ العِدائيِّ. كان علماؤنا يُسمُّون الفِرَق الضالة والمبتدعة أهل أهواء. يُرجعون الظاهرَة إلى أسبابها.
إن المسلم إما أن يكون في سبيل الله عز وجل، عبداً مطيعا له، مُحبا، متقربا بالفرض والنفل، مومنا بلقاء ربه، مستعدا لذلك اللقاء، مشتاقا إليه، مستغفرا لذنبه، منيبا، ذاكرا، متفكرا. فذاك سائر في سبيل السعادة.
وإما أن يكون عبدا لنفسه، خاضعا لسلطانها، مطيعا لهواه، مسترسلا في شهواته. فذاك الشقي.
ومن كان سائرا في سبيل الهوى، أنى له أن يَحْمل الأمانة العظمى، أمانة رسالة الله، مبلغا عن رسول الله، عليه صلاة الله وسلام الله!
من كانت نفسُه منطويَة على خُبثها ومرضها أنى يكون شِفاء لغثائية الأمة وأعرابيتها وهو حاملٌ الجرثومة بين جنبيه!
إن تحقيق العبودية لله عز وجل، والتحرر الكلي من سلطان الهوَى هو الشرط الأول الضروري لتأهيل الفرد المومن للانخراطِ عن كفاءة في صف جند الله. وإن جندَ الله لا يكون جندا لله إلا إن سلمت القلوبُ فصلَحَتْ لتكون وِعاء لرحمة الله عز وجل الجامعةِ المؤلفة.قال تعالى يخاطب عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بلسان المِنة والنعمة: "هو الذي أيدك بنصره وبالمومنين وألف بين قلوبهم".[4]
وإن مستقَرَّ الإرادةِ القَلْبُ المومن الفردُ، يشتركُ مع جند الله المنظم في التعبير عن الإرادة الجهادية، وتخطيطها وتنفيذها. فإذا كان قلبُ المومن الفرد منضَمّاً على أعرابية، أو كان الإيمان فيه قد خَلُقَ واندثر، فلن يكون الحديث عن التآلف والعضوية إلا حديثَ زور، ولن تكون الإرادة إلا تعبيرا عن طموحات نفسية اجتمع عليها الناس مثلما نرى عند الأحزاب في الأمم التي لا خبرَ عندها بداء الأمم.
وإن القضاء على الأنانية التي تستعبد الفردَ لهوى نفسه أو لهوى غيره لَمَطْلبٌ أساسي. كما هو أساسي تحريره من الذهنية الرعَوية، ذهنية القطيع، ومن العادة التي تحشره في زمرة الإمعات التي لا إرادة لها.
وما يتحقق ذلك إلا بالعبودية المطلقة لله تعالى الخالق الرزاق المحيي المميت الباعث رب الجنة والنار.وأصل الدين وأُسُّه حب الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: "محبة الله سبحانه، والأُنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه أصل الدين وأصل أعماله وإراداته. كما أن معرفته والعلمَ بأسمائه وصفاته وأفعاله أجلُّ علوم الدين كلِّها. فمعرفته أجل المعارف، وإرادةُ وجهه أجلُّ المقاصد، وعبادتُه أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته، ومدحُه وتمجيدُه أشرفُ الأقوال. وذلك أساسُ الحنيفية مِلةِ إبراهيم عليه السلام".[5]
من كان لا يحب إلا نفسَه، ولا يمجد سواها، ولا يشتغل بغيرها، ولا يسعى إلا في مبتغاها فليس من المِلة الحنيفية حقا. والحنيفية إخلاص الوجه والوِجهة والعبودية لله عز وجل وحدَه لا شريك له.
في هذا الكتاب نتحدث كثيرا عن ماضي المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم، وعن العالم المضطرب وما يموج فيه، وعن الحكم ومشاكله. ويكون كلامُنا "ثقافة" كسائر الثقافات، لا يكون حقا يقتحم معاقل الباطل إن لَم نُؤصِّلْ المومن الفرد في العبودية لله عز وجل، عبوديتُه له سبحانه هي هويتُه لا غيرُ. وإن لم نؤصِّل جماعة المومنين المريدة الفاعلة في إخلاص لله عز وجل إخلاصاً يستوعب الحياة والممات والدنيا والآخرة. وتلك هي جماعة المومنين المخاطبين بالقرآن، المكلفين بأمانته، المطوَّقين المشرفين بقوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا". ما خاطب بالقرآن غيرهم من الذين أسلموا و"التزموا".والإيمان سلامة القلب، الإيمان شفاء، الإيمان عافية، الإيمان بضع وسبعون شعبة.
من هنا يكون فقهُ تجديد الإيمان، وتحريك الإيمان، وتربية الإيمان مِحورَ كل عمل إسلامي، وإلاَّ دارت رَحَا الناس على خواء النفوس وخراب الذمم، ونتانة الهوى، وسوء المُنقَلب في الدنيا والآخرة. نعوذ بالله.
وقد أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يتَجدد بأمرين. أولُهما صحبة "من" يبعثه الله عز وجل ليجدد الدين. جاء في حديث رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
وصحبَة "المَنْ" لا تتقيد بزمان، فالمرء على دين خليله كما أخبر الصادق الأمين. وكل حضور صادق مع المومنين له روحانيته وتأثيره التجديدي: الجماعات في المسجد ومجالس الإيمان وحِلَقُ العلم وزيارة الصالحين والمشاركة في أعمال البِر.
الركن الثاني من أركان تجديد الإيمان العبادة بأنواعها، ويجمعها ذكر الله فهو اللب، وأفضل الذكر قول لا إله إلا الله. روى الإمام أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جددوا إيمانكم" قالوا: يا رسول الله! وكيف نجدد إيماننا؟ قال: "أكثروا من قول لا إله إلا الله".
وركن ثالث ضروري: صدق الرجوع إلى الله تعالى، وصدق النية، وإخلاص العبودية له اعترافا وطاعة. وأعلى الصدق صدق طلب وجه الله عز وجل. فذلك هو التطلع إلى مقامات الإحسان والإيقان. وما يُلَقّاها إلا ذو حظ عظيم.
[1] سورة الحجرات، الآية 14.
[2] سورة ق، الآية 37.
[3] سورة الشعراء، الآيات 87-89.
[4] سورة الأنفال، الآيتان 63-64.
كان الخوارج الأولون أكثر الناس عبادة، جاء وصفهم في حديث نبوي شريف يصفهم أكمل الوصف وأدقه، وهو الوصف المعصوم الصادر عن الوحي، لا كشهادة مؤرخ يرى ظواهرَ الأحداث. روى الإمام البخاريّ رحمه الله عن سيدنا علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيخرج قوم في آخر الزمان أحداثُ الأسنان (أي شباب) سفهاء الأحلام (خفاف العقول) يقولون من خيرِ قول البَرِيّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرَهم، يمرُقون من الدين كما يمرُق السهم من الرمِيَّة". الحديث.
حداثة السن سِمة مشتركة بين الخوارج المارقين الموصوفين في الحديث وبين شبابنا الأعـزاء أمل الأمة. ونرجو أن لا يبقى عند أحدهم نصيب من رقة دين الذين لا يتجاوز إيمانهم حناجرهم رغم تعبّدهم الشديد الذي وصفه الحديث الشريف قبل ظهورهم وأكده التاريخ بعد.
لا يُجاوز إيمانُهم حناجرهم، ولا يدخُلُ إلى قُلوبِهم، فهو إيمان منافقين، هو عدَم، أو إيمان أعْرابٍ يُطلِقون كلمة "إيمان" على هاجس غامضٍ أو ميل سطحي للدين. قال الله عز وجل عن الأعراب: "قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم".[1]
وقد ذهبت أجيال رقيقي الدين من سكان البادية الذين وصفهم القرآن بإسلاميةٍ لا ترقى إلى مرتبة الإيمان لانغلاق القلوب، وتبقى صفة الأعرابية تدمَغُ كلَّ مَن حالت صِفاته النفسية أصلا عن دخول الإيمان في قلبه.
هنالك صنف آخر من رقيقي الدين اكتسبوا بعضَ إيمان ثم ضعف هذا الإيمان وبَلِيَ حتى تلاشَى، فتقهقروا إلى مرتبة الأعرابية مع من انغلقوا في إسلامية سطحية أصلا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمانَ لَيَخْلُقُ (أي يَبْلَى) في جوف أحدكم كما يخلُقُ الثوب. فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمانَ في قلوبكم". رواه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الحاكم: رواتُه ثقات ووافقه الذهبي.
مَنع الإيمانَ أن يدخل إلى القلوب أصلا أمراض نفسية حائلة، أو دخَل مَدخلا ما فطرأت عليه الأمراض وأنهكته، فبلي وتلاشى. وهكذا يَتأصل في الفرد مرض الغثائية وداءُ الأمم وجرثومة الغلو. وهكذا تطرأ في الأمة أسباب الهَلَكة حتى يكونَ البغي وتستبدَّ الغِلْمة ويفسُد الحكم.
وحيث لا إيمانَ فلا قلوبَ تسمع كلامَ الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم فتتذكر وتأتَمر. قال الله تعالى: "إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب".[2] وسلامة القلب من الأمراض مطلب شريف سأله إبراهيم عليه السلام ربَّه حيث قال: "ولا تُخزِني يومَ يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم".[3]
في تشخيص الأمراض الغثائية الذاتية المهلكة ينبغي أن نحفِرَ عليها وننقِّبَ بِمِسْبَارِ الكتاب والسنة ليكون التشخيصُ أَوْثق، وليكون العلاجُ طِبا نبويا قرآنيا لا يُملِّسُ على العاهة بل يستأصلها بإذن الله تعالى.
إن الله عز وجل أعلم بما خلق، وإنه سبحانه أشار إلى أصل البلاء ومباءَة الداء وعش الآفة: ألا وهي النفسُ وسلطانها المانعُ العبدَ عن الهُدَى، الصارفُ له عن العبودية لربه عز وجل، التائه به في الشهوات والأنانية، وسُكْرِ الهَوَى، وضلال العقل، وأسْرِ العادة. من استيلاء سلطان النفسِ يتولد الأشَر والبطرَ، وينشأ التكاثر والتناجُشُ (وهي المُزَايدة) في الدنيا، ويكون التحاسد والتباغض والبغي.
النفس تحب الدنيا وتكره الموت. وحبُّ الدنيا والحِرص عليها، على لذاتها المادية ورئاساتها، سَدٌّ حاجز للإيمان أن يدخل القلب، وسبب الغثائية المباشر بشهادة الحديث الشريف، وداعٍ أبديٌّ للفُرقةِ والتفتُّتِ والخلافِ العِدائيِّ. كان علماؤنا يُسمُّون الفِرَق الضالة والمبتدعة أهل أهواء. يُرجعون الظاهرَة إلى أسبابها.
إن المسلم إما أن يكون في سبيل الله عز وجل، عبداً مطيعا له، مُحبا، متقربا بالفرض والنفل، مومنا بلقاء ربه، مستعدا لذلك اللقاء، مشتاقا إليه، مستغفرا لذنبه، منيبا، ذاكرا، متفكرا. فذاك سائر في سبيل السعادة.
وإما أن يكون عبدا لنفسه، خاضعا لسلطانها، مطيعا لهواه، مسترسلا في شهواته. فذاك الشقي.
ومن كان سائرا في سبيل الهوى، أنى له أن يَحْمل الأمانة العظمى، أمانة رسالة الله، مبلغا عن رسول الله، عليه صلاة الله وسلام الله!
من كانت نفسُه منطويَة على خُبثها ومرضها أنى يكون شِفاء لغثائية الأمة وأعرابيتها وهو حاملٌ الجرثومة بين جنبيه!
إن تحقيق العبودية لله عز وجل، والتحرر الكلي من سلطان الهوَى هو الشرط الأول الضروري لتأهيل الفرد المومن للانخراطِ عن كفاءة في صف جند الله. وإن جندَ الله لا يكون جندا لله إلا إن سلمت القلوبُ فصلَحَتْ لتكون وِعاء لرحمة الله عز وجل الجامعةِ المؤلفة.قال تعالى يخاطب عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بلسان المِنة والنعمة: "هو الذي أيدك بنصره وبالمومنين وألف بين قلوبهم".[4]
وإن مستقَرَّ الإرادةِ القَلْبُ المومن الفردُ، يشتركُ مع جند الله المنظم في التعبير عن الإرادة الجهادية، وتخطيطها وتنفيذها. فإذا كان قلبُ المومن الفرد منضَمّاً على أعرابية، أو كان الإيمان فيه قد خَلُقَ واندثر، فلن يكون الحديث عن التآلف والعضوية إلا حديثَ زور، ولن تكون الإرادة إلا تعبيرا عن طموحات نفسية اجتمع عليها الناس مثلما نرى عند الأحزاب في الأمم التي لا خبرَ عندها بداء الأمم.
وإن القضاء على الأنانية التي تستعبد الفردَ لهوى نفسه أو لهوى غيره لَمَطْلبٌ أساسي. كما هو أساسي تحريره من الذهنية الرعَوية، ذهنية القطيع، ومن العادة التي تحشره في زمرة الإمعات التي لا إرادة لها.
وما يتحقق ذلك إلا بالعبودية المطلقة لله تعالى الخالق الرزاق المحيي المميت الباعث رب الجنة والنار.وأصل الدين وأُسُّه حب الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: "محبة الله سبحانه، والأُنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه أصل الدين وأصل أعماله وإراداته. كما أن معرفته والعلمَ بأسمائه وصفاته وأفعاله أجلُّ علوم الدين كلِّها. فمعرفته أجل المعارف، وإرادةُ وجهه أجلُّ المقاصد، وعبادتُه أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته، ومدحُه وتمجيدُه أشرفُ الأقوال. وذلك أساسُ الحنيفية مِلةِ إبراهيم عليه السلام".[5]
من كان لا يحب إلا نفسَه، ولا يمجد سواها، ولا يشتغل بغيرها، ولا يسعى إلا في مبتغاها فليس من المِلة الحنيفية حقا. والحنيفية إخلاص الوجه والوِجهة والعبودية لله عز وجل وحدَه لا شريك له.
في هذا الكتاب نتحدث كثيرا عن ماضي المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم، وعن العالم المضطرب وما يموج فيه، وعن الحكم ومشاكله. ويكون كلامُنا "ثقافة" كسائر الثقافات، لا يكون حقا يقتحم معاقل الباطل إن لَم نُؤصِّلْ المومن الفرد في العبودية لله عز وجل، عبوديتُه له سبحانه هي هويتُه لا غيرُ. وإن لم نؤصِّل جماعة المومنين المريدة الفاعلة في إخلاص لله عز وجل إخلاصاً يستوعب الحياة والممات والدنيا والآخرة. وتلك هي جماعة المومنين المخاطبين بالقرآن، المكلفين بأمانته، المطوَّقين المشرفين بقوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا". ما خاطب بالقرآن غيرهم من الذين أسلموا و"التزموا".والإيمان سلامة القلب، الإيمان شفاء، الإيمان عافية، الإيمان بضع وسبعون شعبة.
من هنا يكون فقهُ تجديد الإيمان، وتحريك الإيمان، وتربية الإيمان مِحورَ كل عمل إسلامي، وإلاَّ دارت رَحَا الناس على خواء النفوس وخراب الذمم، ونتانة الهوى، وسوء المُنقَلب في الدنيا والآخرة. نعوذ بالله.
وقد أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يتَجدد بأمرين. أولُهما صحبة "من" يبعثه الله عز وجل ليجدد الدين. جاء في حديث رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
وصحبَة "المَنْ" لا تتقيد بزمان، فالمرء على دين خليله كما أخبر الصادق الأمين. وكل حضور صادق مع المومنين له روحانيته وتأثيره التجديدي: الجماعات في المسجد ومجالس الإيمان وحِلَقُ العلم وزيارة الصالحين والمشاركة في أعمال البِر.
الركن الثاني من أركان تجديد الإيمان العبادة بأنواعها، ويجمعها ذكر الله فهو اللب، وأفضل الذكر قول لا إله إلا الله. روى الإمام أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جددوا إيمانكم" قالوا: يا رسول الله! وكيف نجدد إيماننا؟ قال: "أكثروا من قول لا إله إلا الله".
وركن ثالث ضروري: صدق الرجوع إلى الله تعالى، وصدق النية، وإخلاص العبودية له اعترافا وطاعة. وأعلى الصدق صدق طلب وجه الله عز وجل. فذلك هو التطلع إلى مقامات الإحسان والإيقان. وما يُلَقّاها إلا ذو حظ عظيم.
[1] سورة الحجرات، الآية 14.
[2] سورة ق، الآية 37.
[3] سورة الشعراء، الآيات 87-89.
[4] سورة الأنفال، الآيتان 63-64.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
مواضيع مماثلة
» نشأة العباسيين..نظرية تاريخية جديدة
» دراسة حول العقود الإلكترونية ..دراسة فقهية مقارنة
» التميز هادم العدل
» صدمات تاريخية
» كتب تاريخية و موسوعات في التاريخ
» دراسة حول العقود الإلكترونية ..دراسة فقهية مقارنة
» التميز هادم العدل
» صدمات تاريخية
» كتب تاريخية و موسوعات في التاريخ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى