شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:00 pm

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب

(الجزء الأول )

بقلم: د. ماجدة حمود.

بدا ميل الكواكبي للصحافة منذ شبابه المبكر قبل أن يبلغ العشرين من عمره، فقد رأى فيها خير منبر يواجه عبره الفساد، وينشر الوعي للنهوض من بؤس التخلف، بدأ عمله أو بالأحرى كفاحه في "الفرات" جريدة حلب الرسمية، التي كانت تصدر باللغتين العربية والتركية، حرّر فيها حوالي أربع سنوات‏ .

(1872_ 1876) ثم هجرها ليصدر صحيفة "الشهباء" (1877) التي تعدّ أول صحيفة عربية تصدر في حلب، وقد كانت أسبوعية تصدر كل يوم خميس، أوقفتها السلطة العثمانية بعد صدور العدد السادس عشر بشكل نهائي، بعد أن أوقفتها قبل ذلك مرتين، لكنه لم ييأس، فسارع إلى إصدار صحيفة "الاعتدال" باسم صديقه (شريف زادة سعيد) في عام (1879) وقد صدرت باللغتين العربية والتركية بناء على أوامر السلطة العثمانية، رغم ذلك أوقفتها الحكومة بعد صدور عشرة أعداد، وقد كان يحرّر وحده كل الجريدة كغيره من رواد النهضة ("أديب إسحاق" و"فرح أنطون"…).‏

رغم هذه المعاناة لم يستطع التوقف عن الكتابة للصحافة، فعاد ليسهم في كتابة المقالات في الصحف والمجلات"القاهرة" و"نور الإسلام" بالإضافة إلى "المؤيد"(1899) و"المقطم" و"المنار" (1900) .‏

يمكن المرء أن يلاحظ أن الكواكبي كتب في الصحيفتين الأخيرتين مقالات ودراسات أعدّها سلفا لتكون فصولا من كتابه "طبائع الاستبداد" أما أن تصبح هذه المقالات فصولا لكتاب "أم القرى" كما يرى الباحث "جان دايه"(1) فهذا ما لا يمكن أن نقبله، إذ من المعروف أن كتاب "أم القرى" ظهر عام (1898) قبل أن يكتب في صحيفتي "المؤيد" و"المنار" بل يقال أنه كتبه في حلب، وهرّبه معه إلى مصر ليطبعه فيها، إذ اطّلع عليه هناك صديقه المؤرخ (كامل الغزي).‏

ولم يكتف بالمشاركة في الكتابة لهذه الصحف والمجلات، بل نجده قد أصدر في القاهرة صحيفة العرب (1900) التي أوقفها الخديوي عباس، بعد صدور ثلاثة أعداد، دون أن ندري المبرر السياسي لإيقاف هذه الصحيفة من قبله، مع أن القاهرة كانت عمليا خارج سلطة عبد الحميد، يضاف إلى ذلك كان الخديوي على علاقة جيدة مع الكواكبي(2).‏

قد يكون للعلاقة التي بدأت بالتحسن بين الخديوي وبين السلطنة العثمانية أثر في إغلاق هذه الصحيفة، كذلك يمكننا القول بأن الأفكار الجريئة والأصيلة التي يطرحها الكواكبي عبر مقالاته من شأنها أن تقلق أي حاكم!‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:01 pm

لِمَ لجأ الكواكبي للكتابة الصحفية:‏

نلاحظ إصرار الكواكبي على الكتابة الصحفية، سواء في صحف الآخرين أم في صحف يملكها ويديرها ويحرّرها بنفسه، لكن ما يثير الدهشة ذلك الإصرار على إصدار صحيفة خاصة به، رغم الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت به، هل السبب يكمن في الإصرار على الحرية في التعبير والاستقلالية في الرأي؟ خاصة أن الكتابة بدت للكواكبي رسالة تنويرية، بل كانت على ما يبدو فعل وجود ووعي وتحرر، ليس فقط على صعيد الذات وإنما على صعيد الجماعة أيضا، إذ عن طريق الكتابة تتم ممارسة النقد التنويري الذي كان الشغل الشاغل له، فهذا النقد كما يعرّفه علي حرب، "ليس مجرد مواجهة للسلطة بقول الحقيقة بقدر ما هو يقظة من السبات أو مغادرة لحال العجز والهامشية، على النحو الذي يتيح للمرء أن يتغير عما هو عليه، فكرا ومؤسسة، معرفة وسلطة، خطابا وممارسة، النقد بهذا المعنى هو امتلاك إمكانيات جديدة للحياة والوجود، سواء على مستوى القول والتفكير، أو على مستوى الفعل والتدبير"(3) وعبر هذا النقد يستطيع المثقف أن يحسّ بفاعليته، ويمارس التأثير في وعي الناس، ولا شك أن الصحافة كانت إحدى أهم الوسائل التي بدأت تظهر فعاليتها، فكان رواد النهضة أول من اندفع للكتابة فيها، فهي أهم صلة بين المثقف وبين الناس.‏

وقد وجدناه في افتتاحية العدد الأول من الشهباء (1877) يحدد الدافع الذي يكمن وراء إصدار الصحيفة "بادرنا متّكلين على عنايته تعالى لإيجاد هذه الجريدة العربية والجريدة الأدبية الموضوعة لنشر الحوادث السياسية والوقائع المحلية، مع تحليتها أحيانا ببعض جمل سياسية ونبذ علمية وأدبية وغير ذلك من الأبحاث والمقالات المفيدة لاتساع دائرة المعارف العمومية، واكتساب الآداب المدنية، وكشف أسرار الأمور، وتنبيه أفكار الجمهور، ومساعدة الدولة على انتظام حركات السياسة المحلية وصيانة الحقوق من الشطط…"(4).‏

لعل من الدوافع الخفية لتقديم هذه الصحف التأكيد على الهوية العربية في زمن كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية، لذلك يبيّن لنا الكواكبي أن هوية هذه الجريدة هي هوية عربية ذات ملامح سياسية وأدبية.‏

إذاً يقف الدافع الإصلاحي إلى جانب الدافع الداخلي الذي يكمن في أعماق الكواكبي، والذي يحدّثنا عنه صراحة في افتتاحية العدد الأول، إنه "الحمية العربية والغيرة الوطنية على إيجاد أثر حميد في وطننا السعيد الذي طالما رأيناه محتاجا للسان يترجم عنه وإليه، ويخلص له النصح فيما له وفيما عليه".‏

نلحظ هنا أن الانتماء للعروبة وإعلاء كلمتها نوع من الإحساس بالخصوصية، كما هو دليل على الرغبة في نهضة الأمة التي طال عهدها بالضعف، كل ذلك نستطيع أن نعدّه دافعا حقيقيا وراء إصدار الصحيفة، فقد لمس حاجة أمته إلى لسان حال يترجم همومها ويفضح ظالميها، فيخلص لها النصح، ويوجه لها النقد البناء، خاصة بعد أن لاحظ العوام، في كثير من الأحيان، يرفضون الأفكار الإصلاحية، كما لاحظ جهل بعض المسؤولين بالقوانين الإصلاحية والنظم الجديدة، فأراد توضيحها لهم ليرسّخ وجودها في الأذهان، وبذلك يوسّع أفق العوام ومعارفهم، ويسهم في إصلاح المسؤولين، وهو يصرّح بأن هذا العمل لن يستطيع فرد القيام به وحده، لذلك يحتاج إلى غيرة الواعين من أبناء الوطن وحميتهم على إخوانهم ووطنهم، فيدعوهم إلى مدّ يد المساعدة لهم ليستطيعوا الإسهام بعملية تطوير الوطن، وبذلك يؤسس للصحافة الملتزمة التي تعتمد على جهد جماعي، وعلى وعي غيور ناقد ونية مخلصة تعمل على نهضة الأمة.‏

بناء على ذلك نجد محتويات صحفه ثقافية سياسية، فهي تهجس بالهم العام إلى جانب تقديم المعرفة العلمية والأدبية، فإذا كنا لا نستطيع القول بأن الغاية الأدبية هي الدافع الأساسي لإصدار هذه الجريدة فإن بإمكاننا أن نلمس الغاية التثقيفية لعامة الناس عن طريق المعرفة التي تقوم على العلم والأدب معا، وهو بذلك يبدو واعيا لدور الصحافة في تقديم الأسرار للجمهور التي تكون عادة بعيدة عن متناوله، عندئذ تستطيع الصحافة ممارسة دورها في إيقاظ الأفكار وتوجيه عامة الناس للدفاع عن حقوقها، وفي الوقت نفسه تساعد الدولة على تفهم الحركات السياسية المحلية بتقديم وجهة نظرها، كما تساعدها على ممارسة العدل بين رعاياها، وذلك بصيانة حقوق العامة فتبتعد عن الظلم، وبذلك نجده يبغي من إصدار صحيفته إصلاح عامة الناس عن طريق بثّ المعرفة، وإصلاح السلطة الحاكمة خاصة حين تحسّ بأن هناك سلطة تراقبها هي سلطة الصحافة التي هي الضمير الحي للأمة.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:02 pm

الخطاب الصحفي ولغة الأدب:‏

لا يستطيع الكواكبي أن يعبّر عما يجول بذهنه بعيدا عن حرارة قلبه، لهذا نفتقد لديه اللغة الصحفية المبتذلة التي تعنى باليومي وتهمل جمال التعبير، حتى في تلك المقالات التي من المتوقع أن يعلو فيها صوت العقل نظرا لحساسية الموضوع، فمثلا بعد توقيف جريدة "الشهباء" إثر صدور العدد الثاني منها، نجده يبيّن لنا في افتتاحية العدد الثالث (24 تشرين الثاني_6 كانون الأول 1877) كيف استقبلها الأهالي بالسرور والابتهاج، غير أنه لا بد أن يوجد بعض أصحاب غايات من تابع ومتبوع، لا يلائمهم انتشار المعارف، فمثل هؤلاء (والمعنى الأقلون) ربما كانوا وجلين غير ممنونين من هذا المشروع …عثروا فيه على ما تأوّلوه بذلة!‏

يلفت نظرنا هذا الانسجام بين الفكرة وطريقة التعبير عنها، فهو يصف لنا أولئك الذين حاربوا جريدته، أساؤوا إليها حين قدموا بعض التفسيرات التي تدلّ على ضعة نفوسهم، فهم لا يتمتعون بالحرية التي تجعل الإنسان يحسن الظن بالآخرين ويتسّع صدره لهم، لذلك قدموا تفسيرات لا تصدر إلا عن عبيد أذلاء، وقد كان لاقتران التأويل الذي يقومون به لأفكار الكواكبي بصفة الذلة التي تقترن بالنفوس عادة لا بالكلمات، مصدر جمال تعبيري وتصويري معا، خاصة أنه قد أشار إلى أن هؤلاء عبيد تابعون لغيرهم.‏

إذاً هناك فساد في أخلاق الرجال، مما يساعد في طغيان الاستبداد، هذا ما يشير إليه في افتتاحية العدد السادس (15_ 27 كانون الأول 1877) فكثيرا "ما نتصفح ألوفا من القوم فلا نجد ثقة كاملة في أنفسنا لأحد منهم، لأننا نرى العفيف وليس فيه حمية، وذو الحمية لا يعرف النظام، والعارف به لا نشاط فيه، وهكذا لا نجد إلا من هو فحل من جهة أو جهتين… فنلتزم إلى اختيار الأخف ضررا على أن السياسة لا تقبل المسامحة مطلقا ومتى اختل فيها ركن فقدت الانتظام"‏

إنه يختار عبارة أدبية (نتصفح ألوفا…) عوضا عن أن يستخدم عبارة عادية (ننظر إلى أخلاق القوم) ومثل هذا الفعل (نتصفح) يوحي لنا بالرؤية الشاملة السريعة، التي تجعله يصل إلى نتيجة توحي بفساد الأخلاق ليس لدى عامة الناس فقط وإنما لدى النخبة التي تتولى الأمور لدى السلطان، مما ينعكس سلبا على الحياة السياسية، فيؤدي إلى الانهيار والتخلف، وبذلك تصبح السياسة رجلا تكوّنه عدة عوامل أصيلة، لا يصحّ فيها أي تنازل أخلاقي أو تسامح!‏

وفي هذه الافتتاحية ذاتها يتحدث الكواكبي عن أحد الأمراض التي تنغل في جسد الأمة، وهو مرض التعصب الديني والمذهبي، فيقارن بين المسلمين في ظل الدولة العثمانية والمسلمين الفاتحين في العهد الأول للإسلام الذين "دخلوا هذه البلاد وفتحوا أكثرها بسيف جاذبية العدالة ومكارم الشيم، ولما فسدت أخلاق أخلافهم من حيث تشويش وجه حقيقة التصلب في الدين بعاهة تشديد التعصب له، صادفت بلادنا شرور الحروب الصليبية التي لا زلنا نشاهد آثار أضرارها سياسيا وأدبيا، وربما يظن أننا ننسب عاهة التعصب لإسلام ذلك العصر دون مسيحييه، فنقول:كلا، بل كانت النصارى أشد تعصبا من‏ الإسلام…‏

يلفت نظرنا صورة الفتح الإسلامي الذي لم يتم بسيف عادي، وإنما بسيف العدالة والقيم النبيلة، التي من أهمها الانفتاح على الآخر ونبذ التعصب، ويحاول الكواكبي أن يبيّن كيف كان المسلمون غير أمناء على روح دينهم، فقد تمّ تشويه الوجه الحقيقي له، فلم يجد لفظة تجسّد هذا التشويه سوى "العاهة" التي أساءت لجوهر الدين كما أساءت لعلاقة المسلمين مع غيرهم، وهو ينبه إلى أن هذه العاهة لم تصب المسلمين فقط وإنما أصابت المسيحيين أيضا، وقد نوّع في أسلوبه فلم يكتف بسرد الوقائع وإنما نجده يلجأ إلى العرض، وقد أضفى الحوار جوا من الحيوية والواقعية على مقالته.‏

لا ننسى الدور الكبير الذي أداه الكواكبي وغيره من رواد النهضة الذين كتبوا في الصحافة، فقد استطاعت اللغة العربية أن تتخلى عن جمودها بفضل جهوده التأليفية والصحفية، لو تأملنا لغة افتتاحية العدد الأول (28 نيسان_10 أيار 1877) للاحظنا كيف نهضت اللغة العربية على يديه من حالتها السكونية القاموسية، فأصبحت لغة الحياة، سنتأمل فقط جماليات الافتتاحية التي كانت تكتسي عادة، في زمنه، ألفاظا تقليدية أقرب إلى الجمود، مما يودع اللغة في قالب مكرر تكاد لا تبارحه، يقول الكواكبي "حمدا لمن أحاط علما بكل ماض وآت، وقصّ لعباده أنباء الأمم بالآيات البينات، ليتدبروا حكمته في تغيير الأحوال وتدبير الكائنات، والصلاة والسلام على جميع أنبيائه الباذلين نفوسهم في سبيل إرشاد المخلوقات، وبعد فكلما نظرنا إلى ما حرّرته يد العناية على جهة هذا الزمن ومكنت أهله من اقتطاف المعارف في كل وطن، تسرنا هذه الترقيات التي بلّغت أبناء العصر ذروة النجاح، وسلكت بهم سبل الهدى والفلاح…"‏

للوهلة الأولى نجد الكواكبي أنه لم يبرح الأسلوب الشائع في عصره، لكن حين نتأمل تراكيب جمله نلاحظ أنها تحتوي على تراكيب إرشادية، تتخذ من الحكمة الإلهية وسيرة الأنبياء مثلا أعلى في نشر رسالة الإيمان والصلاح، التي هي في حقيقتها رسالة تطوير وتغيير وعدم الركون إلى ما هو سائد.‏

وقد بدا لنا الكواكبي هنا أمينا للتراكيب التقليدية، لكنه كان مهتما بأن يلبس هذه التراكيب روحا جديدة هي روح التغيير واستخدام العقل، لهذا جعل سيرة الأنبياء الذين هم قدوة لنا، إذ يجسدون لنا سيرة المصلحين الذين يلجؤون إلى التدبير والتفكر، لذلك يجعل سيرتهم تلك أول ما يفتتح به العدد الأول من جريدته.‏

إن علاقة الأدب بالصحافة بدت ضرورة للكاتب، ليس فقط من أجل تعبير أكثر حيوية وجاذبية، وإنما من أجل تجاوز ضغط الرقابة أيضا، لما يتيحه استخدام أسلوب الهزل والتلميح والرمز من إمكانات تعبيرية حرة، إذ يبتعد الكاتب بفضلها عن التصريح ويكتفي بالتلميح، وبذلك يتجاوز قيود الرقابة الصارمة، وقد بدا لنا الكواكبي واعيا لهذه الأهمية، فها هو ذا يصرح في افتتاحية العدد الثالث من "الشهباء" "أكثر ما يقع من مشتقات الاجتهاد أمام سهام الاضطهاد، وكان أكثر ما يقع ذلك في أوائل انتشارها في المملكة أو البلدة، فكان من قدر على الثبات وتحمّل العناء، ومنهم من أجبرته ظروفه للخوض في الرقراق، وتجنب المخاطرة في الأعماق، ومنهم من تباعد عن مصارع الانتقام باستعمال الحكمة في إفادة المرام، وذلك بنحو تخريج الحقائق على قوالب الهزل…فصاروا يطلعون القارئ على ما يرومون بنحو التلميح والكناية والرمز والإشارة…"‏

إذاً الصحافة مهنة المتاعب للمخلصين غير المتملقين، فأي اجتهاد وإعمال للعقل فيها، لابد أن يوجّه المستبد إليه سهام الاضطهاد، لذلك كان الصحفيون أنواعا، فمنهم من يواجه بثبات، ويدفع ثمن قول الحقيقة، متلقيا العقاب بعناد، ونجد منهم من يخاف المواجهة تكبّله ظروفه القاسية، لذلك يشبّه الكواكبي هذين النوعين من الكتاب بنوعين من السبّاحين الأول يخاف عواقب الغوص فيبقى على السطح الرقيق للماء، والثاني جريء يغوص في الأعماق دون خوف، وهكذا بدا التعبير الأدبي، هنا، خير معين للكواكبي على تقديم أفكاره، فبدا الانسجام واضحا بين الرؤية الفكرية والرؤية الجمالية.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:02 pm

تأملات في أسلوب المقالة الصحفية لدى الكواكبي:‏

1_الأسلوب القصصي:‏

لاحظنا الكواكبي كيف لجأ إلى أسلوب القصة في كتابه "أم القرى" ويبدو لنا أن هذا الأسلوب مكون أساسي من مكونات موهبته الأدبية، لذلك برز أيضا في مقالاته الصحفية، باعتباره أحد الطرق الحيوية التي تسهم في تقديم أفكاره، وإضفاء مصداقية الواقع عليها، وهي تفسح أمامه المجال لتجسيد أفكار متنوعة ووجهات نظر قد تصل حد التناقض حين تقدم معاناة الإنسان من الاستبداد، وبعد ذلك تقدم وجهة نظر المنافقين أنصار الاستبداد، ففي (جريدة العرب) ينطلق الكواكبي متحدثا بحرية عن المظالم التي أحدثها الحكم العثماني، وذلك على لسان جماعة من الحجيج "أدوا الفريضة هذه السنة، وسمعوا رجلا هذه السنة في بيت الله وهو أكثر الناس علما وتنسّكا يردد دعوة إلى الله بتمام التضرع ولوعة القلب، فبهتوا وكانت دعوته هكذا لا تتعدى هذا المعنى: يا أرحم الراحمين ويا أحكم الحاكمين أنقذ هذه البلاد المقدسة والمقامات المباركة من يد الترك وسلّمها إلى دولة…وديعة.‏

[فيقول المنافقون] معاذ الله فهذه دعوة لم يسمع بمثلها لا في ذلك المقام بل في أي مكان من عهد السعادة إلى عهد حكومتكم، ولم يخطر ببال إنسان حتى في خياله أنه يسمع بمثلها، والرجال الذين يحكون هذه الحكاية لا احتمال في أنهم يكذبون فيما يحكون لغرض من الأغراض"(5).‏

ينقل لنا هذا المقال مشهدين، الأول مشهد مؤثر لإنسان متبتّل في بيت الله الحرام أثناء أدائه فريضة الحج يدعو الله بحرقة أن يخلصه من ظلم الدولة العثمانية، وأن يبدلّها بدولة أخرى عادلة، أما المشهد الثاني فيعرض لنا جماعة المنافقين وقد اجتمعوا لدى الحاكم المستبد، يكذّبون قصة الرجل المتبتّل، ويمدحون عهد السلطة العثمانية، وتأكيدا على قولهم هذا نجدهم يصفون عهدها بالعهد السعيد‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍، وأن كل من نقل هذه الحادثة لابد أن يكون كاذبا، يختلق حكايات تسيء للسلطة من أجل أن ينفذ مآرب شخصية.‏

قدّم الكواكبي في مقالته (عبر هذين المشهدين) صورتين متناقضتين: الأولى لإنسان متديّن يدعو الله أن يخلّصه من حكم الدولة المستبدة فيختار لذلك أقدس مكان (الكعبة)، والثانية لإنسان منافق يعايش السلطان مادحا، ويتهم كل من يهاجمه بالكذب! فيختار هنا (بلاط السلطان).‏

وفي المقال نفسه نجده يمعن في تصوير شخصية المنافق، الذي لا يردعه أي وازع ديني أو أخلاقي، وقد أشار الكواكبي إلى مسؤولية هذا المنافق عن تشوّيه الدين، لهذا نجده يعلن شروط الخلافة مستندا إلى ما جاء في الكتب الإسلامية المعتبرة، واستنبط من أحكام الشريعة المحمدية الطاهرة (التي تؤكد أن الخليفة عربي من قريش) حتى لا يبقى لحاذق لا يخشى الله رب العالمين أن يهرف بما يشاء… ليرضى من يعبده، ويأخذ دنانيره من الظلمة الطغاة، ويموّه على البسطاء من الناس بما يهواه معبوده من الأكاذيب والأضاليل التي تنصرها البراطيل."‏

تمتلك شخصية المنافق، جليس السلطان، صفات سلبية تدمر الدين والحكم السليم، فهي تناصر الاستبداد، بعبوديتها له، وبرفض أحكام الشريعة وتزوّيرها، فتجسد لنا سمات الشخصية المرتزقة، تسعى وراء المال بأية وسيلة، دون أي رادع ديني أو أخلاقي، لذلك ليس مستغربا أن تحرّف الدين من أجل السلطان، وتكذّب على العوام بما يحقق لها مكاسب مادية تفوز بها من المستبد، الذي يصبح إلهها المعبود، تنشر عنه الأكاذيب وتقوم بكل الموبقات، كل ذلك من أجل أن تفوز بذهبه.‏

ونجد وصفا دقيقا لشخصية الوالي الفاسد وأثر بيئة حلب على فساده في مقال آخر (في "النحلة" 1نيسان 1879) وهو هنا لا ينقل لنا الصفات بشكل محايد، بل يحاول أن ينقل معها الرأي العام السائد بين الناس حين يأتيهم مأمور جديد، وقد رأوا منه تعففا فنجدهم يقولون: إنه الآن على فطرته لكن سيشرب ماء حلب، يعنون أن شربها يغيّر طبيعة الإنسان … كثيرا من الولاة الذين اشتهروا بالعفة والشهامة جاؤوا إلى حلب وفسدوا بعد برهة وتكني العامة عن ذلك بأنه نزل الميدان أو سحب رجله لبطلان عزّته، ومن جملة أولئك الولاة والينا الآن ذي الدولة كامل باشا الذي كان متصرفا في بيروت تسع سنين والتزم طريق العفة والاستقامة فيها، كما هو مشهور غير أنه لما جاء إلى حلب وبعد نحو نصف عام تمكن ماؤها من أضلاعه، ونزل الميدان، وسبق الأخوان، لأنه ذو معارف ودراية، يعرف كيف يستنـزف القطر ويستدرّ الضرع، ولعل من يعرفه في بيروت أو غيرها يستغرب ذلك عنه، فيقول لا غرابة فإن الرشوة من الدواعي الطبيعية في حلب، حتى لو جاهد المأمور تعففا لقام عليه جمهور رفقائه وعزلوه، وبناء عليه لو جاءنا سليمان بن داود لما رأيناه بعد حين إلا وهو من المنقلبين" (6).‏

إن الشخصية هنا تبدو ذات ملامح عامة، لكن عناصر التخييل أضفت عليها الحيوية والطرافة، إذ نجد تناغما بينها وبين الطبيعة، فإذا كانت الطبيعة في حلب قد عراها الفساد حتى استشرى فيها بين الناس، لذلك لن يكون غريبا سريان هذا الفساد في دماء الولاة سريان الماء في الجسد، ولعل مقولة العامة "نزل الميدان" و"سحب رجله" دليل على شيوع الفساد حتى ملأ جميع الأمكنة ووصل الساحات العامة، فأي والٍ جديد لابد أن يمرّ عليها، ويسحب رجله إلى الفساد، ولا يكتفي والي حلب بأن ينـزل الميدان كغيره، بل نجده يسبق إخوانه في الفساد، نلاحظ هنا أن هذه المقولات الشعبية ("نزل الميدان" و"سحب رجله") زادت من تألق المقالة وحيويتها، كما وضّحت ملامح الشخصية بشكل أفضل، فاستطاعت أن تنقلها من التعميم (ولاة) إلى التشخيص (كامل باشا) مما يتيح لنا التعرف على ماضي الشخصية النظيف (تسع سنوات في بيروت) ثم انهياره في الوقت الحاضر بعد نصف عام من تغلغل مياه حلب في دمه، فسرى إليه ما في طبيعتها من فساد.‏

وقد ساعدت اللغة التصويرية على تجسيد ملامح الشخصية الفاسدة (تمكّن ماؤها من أضلاعه، بات يستنـزّف القطر، ويستدرّ الضرع) ومما ساعد على جمال التصوير استخدام الأفعال المشددة التي توحي لنا دلالتها بشدة النهب والأذى الذي تعرض له الناس بسبب هذا الوالي!‏

يلفت نظرنا الربط بين الشخصية والمكان، حتى إنه جعل الفساد جزءا من مكونات المكان تسري صفاته في دماء ساكنيه، فإن حاول أحد الولاة الغرباء التعفف، أي الشذوذ عن غيره، قام الأهالي من الأغنياء بمحاربته، لذلك عمّ الفساد، ولم يستطع أحد الامتناع عن النـزول إلى ساحته.‏

وكي تتضح معالم الصورة التي يريد رسمها للفساد الذي هو مرادف للاستبداد في رأي الكواكبي، يتوقف عند الأهالي الذين تمكّن الفساد فيهم كما تمكّن في طبيعة بلدهم، فيصف خلودهم للخمول وتعودّهم أن لا يطالبوا بحقّ، ومما يتمثلون به في تهوين ذلك على نفوسهم وتسفيه آراء الأنفة والشهامة قولهم "أتلاكم البيضة حجرا" وقولهم "إنما السلام في مسالمة الحكام" وقولهم "إذا أردت الأمر أن يمشي ارشِ ثم ارشِ ثم ارشِ" ومنهم من يعتذر عن المأمورين في الرشوة بقولهم: "من له فم لابد أن يأكل" ومنهم يرون أن "ليس من المروءة أن لا يعطى المأمور تعبه" ومن قبيل ذلك قولهم "لا توكل العشرة حتى تطعم التسعة" وبناء عليه فإذا كان الأهالي قد ألفوا الذل والرشوة إلى هذه الدرجة فلا يبقى حاجة لبيان مقدار استبداد المأمورين"(7).‏

لعل ما يشكل لقاء بين أسلوب القصة وأسلوب الصحافة هو استخدام لغة الحياة اليومية، خاصة تلك التي تقدم لنا نبض الحياة وصورة الإنسان، وهو يواجه الواقع أو يزيّفه أو يستسلم له، وقد لاحظنا، قبل قليل، كيف اجتمعت الملامح الخاصة بملامح عامة لشخصية الوالي اللاهث وراء الفساد، حين جسّده لنا عبر أفعال تخصه دون غيره، خاصة تلك الشدة والمبالغة في استنـزاف الناس ونهبهم، لكننا نجد الكواكبي، في هذا المقال، يقدم لنا الشخصية العامة للأهالي متجسدة عبر لغة الجماعة التي تصب الناس في قالب واحد، يقف في مقابل الوالي المستبد، لا لينازعه ويواجه استبداده، كما يتبادر للذهن، بل ليشجعه على تصرفاته! ويبرر سلوكه المنحرف! لذلك بدت شخصية العامة ذات صفات سلبية: الكسل والرضوخ… إنهم يعيشون أوهاما تتحول إلى ما يشبه المقولات الشعبية المغلوطة التي تقلب حقائق الحياة، وتبرر الضعف الذي يرونه قدرا لهم، فهم ضعفاء لا يستطيعون مواجهة الحاكم القوي، كما لا تقوى البيضة الضعيفة على مواجهة الحجر! كما تشيع بينهم مقولات تدعو إلى مسالمة المستبد، كي يأمنوا حياتهم، لأن أية مواجهة للمستبد تعني موتا مؤكدا!‏

لا يقدم لنا الكواكبي وجهة النظر الجماعية التي تدافع عن ذلّ العامة وضعفها فقط، وإنما يتخيل حالة أخرى، تفاجئ المتلقي وتثير عجبه، إذ يقدّم دفاع العامة عن فساد الوالي عبر منطق فاسد يقول: لتسيير الأمور لابد من الرشوة! فهي مفتاح أي عمل في ظل الانهيار الأخلاقي، لذلك تتحول رشوة الوالي إلى حق له تؤديه العامة نظير جهده!‏

وهو يهدف من تجسيد هذا المنطق المنحرف إلى إبراز أن هذا الخلل الأخلاقي الذي تعاني منه العامة قد أدى إلى خلل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك ليس غريبا أن نفتقد المروءة والشهامة لدى الشخصية (بالمعنى العام والخاص) كما نفتقد النـزاهة والعدل لدى الوالي، إذ ثمة تلازم بين فساد الحاكم والمحكوم!‏

قد يظن البعض أن الكواكبي عبر تجسيده فساد البيئة وأثرها على عامة الناس، ثم التوقف عند وجهة نظرها في الفساد ودفاعها عنه، أنه يريد بذلك أن يشيع اليأس والإحباط لدى المتلقي، لكن هذا الظن يدحضه إصرار الكواكبي على الإصلاح، وبث روح الرفض والنهضة عبر تشخيص الحالة وإبراز تدهورها، من أجل أن يستفزّ الهمم لتغيير هذا البؤس!! وقد كانت الكتابة الصحفية أحد جوانب الإصلاح لديه، لذلك استعان بأساليب تعتمد تجسيد الصورة القبيحة للحاكم والمحكوم، ليس فقط من أجل التشويق وإنما من أجل تقديم صورة منفرّة لحالة الذلّ والاستكانة التي تنتاب العامة، تؤدي بها إلى فساد التصورات والمنطق!! فتدمر أي أمل في تغيير الأحوال، وبذلك يسعى إلى تحريض العامة على رفض واقعهم، والعمل على تغيير حياتهم البائسة.‏

والكواكبي في مقالاته الصحفية، كما في كتبه، لا ييأس من إصلاح العامة التي تعاني من "الوهم وفساد التصورات" لذلك يدعو المصلح في كتاباته إلى تفهّم العامة و"مجاراتهم أول الأمر على أفكارهم، فيبثّ فيهم نصائحه بصورة مترددة، حتى إذا أدركوها انجذبوا إليها…إن إقناع العامة بما يخالف مشاربهم المألوفة لهم أمر لا يخلو من صعوبة لكن لا بد للعاقل إذا كان في قافلة لا غنى له عن مرافقتها، ورآها تاهت عن الطريق من أن يرشدهم إلى الطريق المؤدية لنجاته ونجاتهم جميعا، ولو تكلف في اقتناعهم هضيمة نبذ آرائه وهزئهم بها في أول الأمر…"(8)‏

يلفت نظرنا هذا التشبيه الدقيق والحيوي لحال المصلح مع قومه، الذي يربط حياتهم بحياته، فهو ملزم بإنقاذهم كي ينقذ حياته، إنه يسير معهم في قافلة واحدة (هي الحياة) لا يمكن له الاستغناء عن رفقتهم، لذلك عليه أن يحاول أن يرشدهم إلى الطريق الصحيح، أي يحاول إنقاذهم من أوهامهم وفساد أفكارهم التي تنعكس على أخلاقهم وتصرفاتهم، ومثل هذه المهمة لن تكون سهلة، سيواجه بالنبذ والسخرية في البداية لكن إصراره على إنقاذ قومه، عبر مسايرتهم أحيانا وتوجيههم أحيانا أخرى لابد أن يؤثر فيهم.‏

هذه الصورة السلبية لشخصية العامة لن تكون سمة عامة في مقالات الكواكبي، فقد قدّم معاناة الفلاحين وكفاحهم الذين كانوا يستلمون الأرض البور ويقومون بإحيائها عملا بالحديث الشريف "من أحيا مواتا فهو لـه" فكانت تلك الأراضي تحتاج إلى بذل أتعاب ونفقات جسيمة، لم يتوصلوا إلى القيام بها إلا بصرف جميع ما تملك أيديهم وأكثر إلى أن ابتدؤوا الآن باستغلال بعض محصولات تلك الأراضي التي عجنت بدموعهم وسقيت دماء قلوبهم." لذلك يبدو استيلاء الولاة على الأرض بعد إحيائها، وعلى ثمرة تعب الفلاحين يعدّ من أشنع الأفعال! خاصة أن هؤلاء الولاة يخالفون بذلك ما أمرهم به رسول الله صلوات الله عليه وسلامه في الحديث الشريف الذي ذكره الكواكبي (من أحيا مواتا فهو له) وبذلك يلجأ في مقالاته إلى توظيف ثقافته الإسلامية إلى جانب موهبته الأدبية، لذلك يبدو لنا الخطاب الصحفي لديه خطابا مؤثرا.‏

ويمكن أن يلاحظ المتتبع ملامح أخرى للقصة في مقالاته مثل مقدرته على تقديم أعماق النفس البشرية، فيظهر ذلك بالتغلغل إلى كوامن الشخصية ومعرفة طبيعتها، فنجده يقول في جريدة الشهباء العدد الخامس (1877) "إذا تتبعنا تقلب الهيئة الاجتماعية بحلب منذ سقوط الدولة السلجوقية إلى الآن، يظهر لنا أنها لم تصادف سياسة حسنة إلا في عهد قريب، فنستنتج أساسا لما نشاهده_بكل أسف_ من استيلاء الفساد على الفكر العام فيها فيما يتعلق بأمر السياسة، ذلك من حيث أن مرور هذه القرون الأربعة، وهم في ضيم تلك السياسة المطلقة العنان جعلهم يألفون أمورا كثيرة مضرة وبالتمادي صارت طباعا لهم يركنون إليها، ويحافظون عليها…ولا يخفى أن إصلاح الفكر العام دونه صعوبات كثيرة، لأن العامة تأبى من يخالف ما تقرر عندها، فلا يصغي التائه إلى نصيحة المرشد إلا بتكلف."‏

يلفت نظرنا هذه الحساسية التي ترافق المعرفة بما يجول في أعماق العامة، زمن الفساد، إنهم لا يعلنون رفضهم له بسبب إلفتهم له، فالإنسان يركن مع الزمن للشاذ والفاسد بحكم الإلفة، لذلك لم يعد التمادي بالاستبداد يقابل بالنفور، إذ أصبح الضعف والركود جزءا من التكوين النفسي للعامة، وعادة يومية تسري في دماء العامة، وهنا نجد الكواكبي يبحث عن صفة تليق بكل إنسان يألف طبعه الاستبداد فلا يجد سوى هذه الصفة الموحية (التائه) ولا شك أن معظم العوام يستحقون هذا الوصف، إذ ليس سهلا إقناعهم بتغيير أفكارهم وسلوكهم أي تجاوز ضياعهم! وردّهم إلى جادة الصواب!‏

يلفت نظرنا هنا قوله: "لم نصادف سياسة حسنة إلا في عهد قريب" لا شك أن هذه الجملة تعدّ نوعا من اللغة التصالحية مع السلطة المستبدة، التي اضطر إليها الكواكبي كي تسمح له نشر لغته الثائرة والمحرضة، فتسهم أفكاره في مقاومة الاستبداد وإيقاظ العامة من سباتهم ونزع فتيل إلفتهم للاستبداد.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:03 pm

2_الكواكبي مؤرخا وأديبا في صحافته:‏

يحاول في مقالاته الصحفية أن يؤرخ لأحداث هامة، أسهمت في بناء الدولة العثمانية، ومما يلاحظ أن الكواكبي لا يقدم الحدث التاريخي بمعزل عن النظرة الناقدة، ولعل ما يؤكد أصالة موهبته الأدبية أننا لا نجد هذه النظرة بلغة جافة، تسيطر عادة على المؤرخ الناقد! وإنما نجد المقالة التاريخية تقدم بلغة أدبية تعتمد التشبيه الفني الذي يغني الفكرة، ويمنحها حرية التعبير، فمثلا في مقالته الافتتاحية في العدد الرابع من جريدة "الشهباء" وجدناه يتحدث عن أخطاء الدولة العثمانية التاريخية وذلك حين اتجهت إلى الدول الغربية في فتوحاتها، ونسيت الدول الشرقية، فيقول: "إن الأقدار حكمت على الدولة العلية بأن تصرف ثلاثماية سنة استغرقت أيام صبوتها وشبابها في فتوحات لم تجدها نفعا قدر ما جلبته عليها من أتعاب المحافظة عليها في أيام الكهولة والشيخوخة…لو فرض معترض يقول: كيف الشهباء تصف الأمم بالصبوة والشباب والكهولة والشيخوخة؟ نقول: نعم إن لكل دولة فرصة وهي أيام صبوتها وصولة هي أيام شبابها، ورسوخا هي أيام كهولتها وانحطاطا وهي أيام شيخوختها، وما بعد ذلك إلا المهالك… (هناك) دولة استعملت أيام فرصتها في التأهل للانتفاع بقوتها…ثم أعملت صولتها في تشييد أركان عزتها، ثم تفرغت في أيام رسوخها لمعاناة حفظ صحتها على وجه الحكمة، طالت حياتها وعادت لها نشأتها الأولى، وربما تكرر ذلك مرتين، لكن لابد أن تكون غايته إلى الزوال، ويجب عليها حينئذ ما يجب على التاجر إذا شاخ."(9)‏

يتأمل هنا الكواكبي في تاريخ الدولة العثمانية، وفي أخطائها التاريخية التي ارتكبتها، فلا يجد وسيلة تعبيرية تجسد هذه الأخطاء وتبيّن فداحتها سوى تشبيه حالة الدولة بحالة الإنسان الذي يمر بمحطات مصيرية في حياته تتلخص في (الشباب والكهولة والشيخوخة) فإذا اغتنم أوقات شبابه وكهولته استطاع أن يؤسس حياته على أسس متينة عزيزة، يضمن بها شيخوخته، وهو يبيّن أن الشباب (سواء أكان شباب الإنسان أم الأمة) يجب أن يعني مرحلة العمل الجاد الذي يؤسس فيها المرء لمراحل حياته التالية، ثم تأتي مرحلة الكهولة التي ترسخ ما سبقها من جهد وتضفي عليه الصحة والحكمة، فإذا ضاعت هاتان المرحلتان جلبت الضياع للمرحلة الأخيرة (الشيخوخة) وهذا ما حصل للدولة العثمانية التي أفسدت شبابها وكهولتها، حين أخطأت العمل واتجهت بالفتح نحو الدول الغربية، مهملة شأن الدول الشرقية، فضيعت قوتها وشبابها في هدر قوتها، لذلك يدعوها الكواكبي، عن طريق التشبيه الذي يتيح له التلميح بما يريد، لذلك يدعوها أن تفعل ما يفعله التاجر إذا شاخ! أي أن تترك الحكم بعد أن بلغت مرحلة الشيخوخة العاجزة.‏

للوهلة الأولى يبدو لنا هنا الكواكبي متأثرا بمقولة ابن خلدون في مقدمته بأن "الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط…الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدّهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون، والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفّه من البداوة إلى الحضارة…فتكسر سورة العصبية بعض الشيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع، ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم، وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية…فهذه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلّفها"(10) .‏

قد يكون الكواكبي قد تأثر بفكرة تقسيم حياة الدولة، كما تقسم حياة الأجيال، لكنه بدا لنا في تشبيهه لحياة الدولة بحياة الإنسان لا حياة الأجيال، قد تجاوز مرحلة التأثر الحرفي، الذي يعني قصورا في المخيلة والفكر، إلى تشبيه يحمل سمات خاصة به، إذ لم نجده يستخدم فكرة العصبية وعلاقتها بمرحلة البداوة، وهي الفكرة الأساسية لدى ابن خلدون، بل نجده يقرن حياة الدولة بمراحل حياة الإنسان، فتوقف عند مرحلة العمل والعطاء التي هي مرحلة الشباب ثم مرحلة الكهولة أي رسوخ لكل ما فعله في المرحلة السابقة، في حين وجدنا مع بداية الجيل الثاني لدى ابن خلدون تبدأ مرحلة الانهيار بفقدان العصبية، ثم تأتي مرحلة الشيخوخة التي تعني انهيار العصبية بشكل نهائي لديه، في حين قد لا تعني هذا الانهيار لدى الكواكبي فيما لو أحسن الإنسان (الذي هو المعادل الفني للدولة) استغلال مرحلة الشباب والكهولة، فتطول حياته دون أن تهان كرامته.‏

إذاً يرى المؤرخ الكواكبي أن بقاء أية دولة لابد أن يقترن بمدى الجد والعمل اللذين تتميز بهما، شرط أن يكون هذا العمل في الاتجاه الصحيح، يعتمد المنطق والتفكر، في حين يرى ابن خلدون في العصبية الدافع الأول للحفاظ على الدولة.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:03 pm

3_ المقالة وأسلوب الرسالة:‏

يبدو لنا تطور أسلوب المقالة الصحفية لدى الكواكبي واضحا مع مرور الزمن وتزايد الخبرة، فقد لجأ إلى كافة الوسائل التي تقرب مقالته من قلوب القراء، وتتيح له حرية التعبير، فيتخلص من كبت السلطان ومصادرته لفكره، وقد لاحظنا أن جرأة الكواكبي زادت في الصحيفة الأخيرة التي أصدرها في القاهرة (صحيفة العرب) نظرا لبعده عن مركز السلطة، وللحرية التي تتمتع بها الصحافة في مصر.‏

من تلك الوسائل كان أسلوب الرسالة، حيث وجدنا ثلاث مقالات تعتمد هذا الأسلوب في عدد واحد ("رسالة الخلافة" و"خطاب إلى السلطان" و"ردّ رنان على رسالة تركي") فمثلا بعد أن أعلن السلطان عبد الحميد نفسه خليفة على المسلمين، كتب الكواكبي مقالا بأسلوب الرسالة، وقد بدا متعمّدا لهذا الأسلوب حتى إنه جعل عنوانه "رسالة الخلافة" كي يشير إلى أهمية الدلالات التي تحتويها، إنها دلالات تمسّ أسس الحكم التي تبيّن بطلان تسمية السلطان عبد الحميد بالخليفة، لذلك حدد في الافتتاحية هوية المرسل والمرسل إليه "أرسلها فاضل من العلماء الحكماء لحضرة السلطان عبد الحميد".‏

يلفت نظرنا اللغة الصريحة التي تجرؤ على ذكر اسم السلطان عبد الحميد، دون أن تكني أو ترمّز، وإن كنا لاحظنا إغفال اسم المرسل والتركيز على ذكر صفاته فقط (عالم، فاضل، حكيم) للدلالة على أهمية ما يقوله، إذ لا ينطق عن هوى، بل ينطق نتيجة علم وحكمة وفضل، لذلك لا يمكن أن تهمل رسالته، التي هي تعريف بالخلافة وشروط الخليفة، وبالتالي بيان بطلان خلافة عبد الحميد، إذ لا يمكن للسلطان أن تنطبق عليه هذه الشروط التي أهمها إجماع العلماء على انتماء الخليفة لقريش، وهو يقولها بصراحة في رسالته "لو سمعتم جلالتكم شروط الخلافة لاستعظمتم أمرها، واستثقلتم حملها، ولرأيتم أن العبور على صراطها الحاد من أصعب المصاعب، وأخطر الأخطار وأثقل الأعباء…"(11).‏

لا يكتفي الكواكبي بتوجيه الرسالة في افتتاحية المقال إلى السلطان عبد الحميد، بل يعمد إلى استخدام أدوات الخطاب المباشر مثل تكرار ضمير المخاطب خمس مرات في سطر واحد، ومخاطبته باستخدام الاسم الذي يخاطب به الملوك عادة: جلالتكم، لا بما يخاطب به الخليفة: أمير المؤمنين.‏

استغل الكواكبي في هذه الرسالة مقدرته اللغوية والفنية لإيصال وجهة نظره، ولإقناع السلطان بعظم ما يقترفه من إثم، فيما لو أعلن نفسه خليفة، لذلك وجدناه يستخدم هذه الصورة (لرأيتم أن العبور على صراطها الحاد من أصعب المصاعب) فقد جعل إعلان الخلافة شبيها بالسير على صراط حاد سيؤدي إلى سقوط السلطان في الهاوية والضلال، وقد استغل، هنا، دلالات لفظة (صراط) الدينية التي توحي بالصراط المستقيم الذي يؤدي إلى طريق من أنعم الله عليهم، وقد تحول عند الكواكبي إلى صراط حاد يؤدي إلى طريق الضالين الذين غضب الله عليهم!‏

لنلاحظ أيضا استخدامه للأفعال ذات الدلالات القوية المعبرة عن هذا الإثم (استعظمتم، استثقلتم…) والألفاظ التي تصفه (أصعب، أخطر، أثقل) إنها صفات تصف الحد الأقصى من دلالات الخطورة والمصاعب والأعباء (لهذا قدمها بصيغة أفعال التفضيل) .‏

وظّف الكواكبي كل ثقافته المعرفية والدينية ومقدرته الفنية، كي يستطيع إقناع السلطان بالتراجع عن قراره، إنه بذلك يستخدم في كتاباته الصحفية سلطة العالم وموهبة الأديب، كي يحقق غايته ليس فقط في مخاطبة السلطان وإنما في مخاطبة عامة الناس أيضا، ليقنعهم بخطورة الإثم الذي يرتكبه السلطان.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:04 pm

4_ المقالة وأسلوب البحث العلمي:‏

لاحظنا كيف وظّف الكواكبي كل ما يتقنه من أدوات معرفية وثقافية وفنية لتقديم مقالة متميزة تجمع بين اللغة العلمية واللغة الجمالية، فإذا كنا قد تحدثنا سابقا عن بعض ملامح اللغة الجمالية، فإنه يحسن بنا ألا نغفل إنجازا مهما لديه فقد استطاع، بفضل إحساسه المرهف بمسؤولية الكلمة الصحفية، أن يحوّل بعض مقالاته إلى مقالات علمية، تستمد مادتها الأولية من أمهات الكتب التراثية، وعلى سبيل المثال نجده في مقال "الطاعة لأولي الأمر" في جريدة العرب يقدم بحثا علميا حول الآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (سورة النساء ، آية رقم 59)فقد لاحظ الكواكبي استغلال السلاطين وأمراء السوء، ومازالوا، هذه الآية، إذ تحولت على أيديهم إلى سلاح يقهر الناس على قبول استبدادهم، ويبيّن لهم أن الطاعة للحاكم أمر إلهي ورد في الكتاب، فيكسبون طاعة عمياء ، لذلك يكررون الاستشهاد بهذه الآية، يرسّخون في الأذهان تفسيراتهم المغلوطة لها، غير مراعين ما يجب عليهم من العدل والإحسان والطاعة للكتاب والسنة، وكي يضفي على كلامه مصداقية نجده يحوّل المقالة إلى بحث يورد فيه أقوال بعض المفسرين الثقاة في تفسير هذه الآية، كالزمخشري الذي نجد الكواكبي يعلق على شرحه، ويبرز أهم النتائج والتفسيرات قائلا: "كيف تلزم طاعة أمراء الجور، وقد جنح الله الأمر بطاعة أولي الأمر (شرطه) بما لا يبقى معه شك، وهو أمرهم أولا بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم أخيرا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردّون شيئا إلى الكتاب وإلى السنة، وإنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله وأحق أسمائهم اللصوص المتغلبة ثم نجده يبين وظيفة الواو في (وأولي الأمر منكم) إذ إن العطف بها يقتضي المناسبة بين المعطوف (أولي الأمر) والمعطوف عليه (الله تعالى والرسول) لذلك يستشهد بسيرة الخلفاء الراشدين، ويورد قولا لأحدهم "أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم".‏

وهو بصورة خفية يقارن بين انحراف السلطان العثماني الذي يستغل الآية كي يضمن ولاء العامة رغم ظلمه لهم وبين الخليفة الراشدي الذي يحثّ الناس على طاعته مادام يلتزم بما أمره الله والرسول من عدل، فإذا أخلّ في هذا الالتزام فلا طاعة لهم عليه!‏

وبعد تفسير الزمخشري لهذه الآية، يأتي بتفسير آخر للبغدادي، فيتوقف عند جانب دلالي آخر في هذه الآية، فيبين التنوع الكبير الذي تحمله دلالة "أولي الأمر" فقد قيل أمراء المسلمين وقيل المراد أمراء السرايا، وقيل أولو العلم، فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام، ثم يبيّن أن الطاعة لأولي الأمر ماداموا على الحق، فإن خالفوا الشرع لا تجب طاعتهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لا طاعة لبشر في معصية الله، وإنما الطاعة في المعروف" .‏

بعد ذلك يأتي بشرح الخطيب الشربيني الذي يضيف ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم "السمع والطاعة على المرء فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".‏

ثم يأتي بشرح القاضي البيضاوي ليؤكد أن الله أمر الناس بطاعة أولي الأمر بعد أن أمر أولي الأمر بالعدل، تنبيها على أن وجوب طاعتهم ماداموا على الحق، وقيل المراد بهم على الشرع…‏

يلفت نظرنا تعليق الكواكبي الذي يتوقف عند هذه الآية قائلا: "تقرأ وتفسر بكل الاعتناء في مملكتنا، كأنها وحدها عبارة عن القرآن كله، ولكنها تفسر تفسيرا مخالفا بالكلية لأقوال المفسرين الكرام، وكثيرا ما يكتفي بذكر (أولي الأمر) ويقال على الدوام أن المراد بهم هو السلطان، مع أن كلمة (أولو) جاءت جمعا بمعنى الأصحاب، ولا يبين أبدا ما يجب عليهم من الطاعة لله ولرسوله.‏

إذاً الغاية من التوقف عند أقوال جماعة المفسرين هي العودة إلى الأصول، وكشف الانحراف الذي يمارسه ذوي السلطة حين يرددون هذه الآية، دون غيرها، وهم لا يكتفون بذلك بل يرددون تفسيرات بعيدة عن الصواب، وهم يتعمّدون مثل هذه التفسيرات المحدودة كي تخدم مصالحهم، وبذلك يعطون لاستبدادهم شرعية دينية! والدين منها براء!‏

لذلك نسمعه يقول في المقالة نفسها "وهكذا يا أولي الآداب كثير من تأويلات ما أنزل بها من سلطان ولا روي عن النبي (ص) ولا عن خلفائه الراشدين ولا عمن تبعهم بإحسان، ولا يطابق العقل والحكمة ولا الإنسانية والعرفان، بل يجعل عباد الله أسارى وأرقاء لمن يتبع هواه، ولا يكترث بسواه، فافهموا رعاكم الله، كيف تمكن الاستبداد منا، وصيرنا بحيث لا نستطيع التخلص من نير الظلم، والاعتراف لا العمل بما يهواه من يذلنا ويقهرنا، حسبما يرضاه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، نسأله تعالى أن يبيد بحوله وقوته من يفتري عليه الكذب، ويخدع عباده ويضلهم عن الصراط المستقيم (12).‏

إن الغاية من هذا المقال أن يبين مدى استغلال السلطة المستبدة لهذه الآية الكريمة، ومدى الانحراف في التفسير الذي تنشره، وتؤسس رؤيتها الأيدلوجية عليه، لتخدع بها العامة، دون أن يهمّها الابتعاد عن أصول الشريعة (القرآن والسنة) والابتعاد عن إجماع المفسرين من علماء المسلمين، وهو بذلك يبيّن للمتلقي أن آراءه في تفسير هذه الآية تنسجم مع أراء هؤلاء المفسرين، أي تنسجم مع الفهم الحقيقي للدين الذي قدّمه علماء العصور الماضية.‏

وهكذا نجد الكواكبي، في مقالاته، يفضح أساليب المستبدين في استغلال العاطفة الدينية، وتقديم تفسيرات مشوهة لآيات قرآنية، ليبرروا بها ظلمهم، لذلك يتوجه في نهاية المقال بالدعاء لله تعالى أن يقضي على هؤلاء المستبدين الذين يحرّفون كلام الله عن مواضعه، فيضلون الناس ويظلمونهم باسم الدين!‏

نظرا لأهمية هذه الآية فقد لاحظنا اهتمام الكواكبي بها، فقد ذكرها شارحا ومبينا مدى استغلال المستبد لها في جميع مؤلفاته ("أم القرى" و"طبائع الاستبداد" ومقالاته الصحفية") معتمدا في تفسيرها على جهده الشخصي وعلى جهد الذين سبقوه من المفسرين الفقهاء المشهود لهم بالعلم والدين.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:04 pm

5_المقالة وأسلوب المناظرة والمقارنة:‏

يبدو لنا أن موضوع الخلافة كان موضوعا ملحا (عام 1900) لهذا سنجده في مقال آخر بعنوان "ردّ رنّان على رسالة تركي" لجأ فيه إلى أسلوب المناظرة، وقد وجدناه واعيا لهذا الأسلوب، الذي يدعوه بـ"المناظرة القلمية" فهو يتخيل أنها وقعت بين تركي مغولي وعربي قرشي في موضوع الساعة (في ذلك الوقت) وهو أيهما أحق بالخلافة العرب أو الأتراك؟‏

يذكر الكواكبي دفاع الفاضل التركي عن بني قومه، ووصفه لهم بـالشجاعة والإقدام، ثم نجده يورد هجومه على العرب، فهم ضعفاء، والدليل أنهم اليوم لا يستطيعون الدفاع عن بيضة الدين، فهم ليسوا من أولي البأس والقوة، كما لا عتب ولا ملامة إذا سلبهم الأتراك حقوقهم في الإمامة، وهو يؤكد رأيه هذا بصورة شرعية، حين يقول: إن حديث "الأئمة من قريش" حديث ضعيف الإسناد! رواه أبو بكر لفضّ الخلاف فقط.‏

يلاحظ المتأمل أنه قدّم وجهة نظر المناظر التركي على وجهة نظره الخاصة، وهو لا يسفّه وجهة نظره تلك، لذلك يمنح التركي صفة "الفاضل" دلالة على احترام الآخر المخالف له في الرأي، حتى إننا نجده يذكر الصفات الإيجابية التي يراها التركي في الأتراك (الإقدام والشجاعة والدفاع عن الدين) والصفات السلبية التي وسم بها قوم الكواكبي!! وخاصة صفات الضعف والعجز عن حماية الدين!‏

ثم يبين بأن الدليل الديني _ الذي يستند إليه العرب (وهو الحديث الشريف الذي ذكره أبو بكر) _ دليل ضعيف لا يؤكد أحقيتهم بالخلافة، مادام حديثا ضعيفا لا يملك سندا قويا.‏

بعد أن أفسح المجال للمناظر التركي أن يعرض رأيه ويمدح قومه ويهاجم العرب، نجده يفسح المجال للمناظر العربي دون أن يفصح عن اسمه، بل نلمح هويته (عربي قرشي) لذلك نستنتج أنه يتكلم بلسان الكواكبي، الذي يمثل وجهة نظر العرب، فنجده يبدأ بأقوى حجج التركي (الحديث الشريف) في عدم أحقية العرب بالخلافة، فيبين أنه حديث قوي الإسناد، ويأتي بدليل على قوته أنه أفلح في فضّ الخلاف بين المهاجرين والأنصار إثر وفاة الرسول (ص) كما أنه مذكور في أهم كتب الحديث لفخر المحدّثين (البخاري).‏

ثم يبدأ بتفنيد الصفات السلبية التي ألحقها المناظر التركي بالعرب، فيقارن بين أسوأ الخلفاء العرب وأفضل خلفاء الدولة العثمانية؟ فيجري مقارنة بين أشأم العرب من الخلفاء يزيد بن معاوبة وقتله للحسين وبين أعدل خلفاء آل عثمان سليمان القانوني الذي أعدم في عصره آلاف المسلمين في إسبانيا دون أن يحرك ساكنا فقد كان مشغولا بالتمتع بملذاته!‏

فإذا كان أشأم خليفة عربي قد قتل حفيد رسول الله (ص) والفئة القليلة التي كانت معه، فإن أعدل خليفة عثماني قتل في زمنه آلاف المسلمين دون أن يحرّك ساكنا! وقد وجدناه يمعن في الحديث عن انحراف سليمان القانوني، وهو أفضل سلاطينهم، فنجده لا يهتم إلا بأن يذكره المسلمون في الخطب، معترفين بسلطته، حتى لو كان هذا الاعتراف اسميا. إذ حين تمّ إنقاذ خمسين ألفا من المسلمين الهاربين من إسبانيا، واحتموا بحكومة إسلامية في شمال إفريقيا، أرسل لهم سليمان القانوني يقول "سمعنا أنكم أسستم حكومة في شمال إفريقيا فاذكرونا في الخطب" فإذا كان أعدل ملوك آل عثمان لا يهمه شيء من أمر المسلمين مهما وصلوا إليه من هوان إلا الاعتراف بسلطته، مع أن الدولة قوية قادرة على حماية الإسلام، ولم ينازل لحمايته، فهل ينتظر من الأتراك خير في هذا العصر وهم ضعفاء وحكومتهم فاسدة؟‏

وبذلك يردّ على ادعاء المناظر التركي حين وصف الأتراك بالشجاعة وحمايتهم للدين الإسلامي، فهم حين كانوا أقوياء عجزوا عن قتال الإسبان والدفاع عن المسلمين في الأندلس، فكيف يستطيعون اليوم حمايتهم وهم ضعفاء! وهو يعلن بطريقة غير مباشرة ضرورة استقلال العرب عن الأتراك، ماداموا عاجزين عن حماية الإسلام.‏

وكي يؤكد أحقية العرب في الخلافة نجد الكواكبي يمعن في المناظرة فيقارن بين خليفة عربي قديم، عُرف بتصرفاته المجنونة، كما عرف بأحكامه الجائرة (الحاكم بأمر الله) وبين سلطان معاصر للكواكبي (عبد الحميد خان) فيبيّن أن المسلمين في عهد الأول لم يصبهم الضرر كما أصابهم في عهد الثاني، فقد قتل ملايين المسلمين في عهد عبد الحميد أثناء الحرب التركية الروسية، إذ خاض هذه الحرب مع أنه لم يكن مستعدا لها، بل لم يخضها بأسلحته كافة!! حيث لم يستخدم السلاح الذي كان متفوقا فيه على الروس (وهو سلاح البحرية).‏

بالإضافة إلى ذلك نجده يسلط الضوء على تصرفات السلطان التي تصل حد التناقض، إذ تارة ينفي أحد الولاة الجيدين ويتهمه بالخيانة وتارة يعيده للعمل في منصب رفيع (كما فعل مع الوالي مدحت باشا حين وظّفه واليا على الأناضول) ثم أمر بمحاكمته ثانية؟‏

وقد شمل التناقض ليس الأشخاص فقط، وإنما التعامل مع مؤسسات الدولة، فهو تارة يقرّ القانون الأساسي ومجلس المبعوثان (البرلمان) وتارة يقضي عليه ويفرّق أعضاءه، وقد وجدناه يذكر الكثير من التصرفات غير المعقولة لعبد الحميد، ثم نجده يقول بسخرية هذه أمور معقولة تبين ماهية الرجل، وما هو منطو عليه، ومقاصده نحو الإسلام وأهله!!(13)‏

نلاحظ هنا استخدام لغة المنطق البعيدة عن الاستعانة بلغة الأدب، لعل حساسية الموضوع وراء هذا الاستخدام، فهو يريد أن يقنع عامة الناس بوجهة نظره بأقرب الطرق إلى العقل، فيلجأ إلى ذكر التصرفات التي لا تدل على أن هذا الحاكم يستحق الخلافة، فقد وصل به الأمر إلى تصرفات غير معقولة لا يمكن أن تقارن بتصرفات الحاكم بأمر الله المجنونة!! حيث تبدو تصرفاته عاقلة لم تؤذِ المسلمين بقدر ما آذتهم تصرفات السلطان عبد الحميد!‏

إن أسلوب المناظرة أتاح للمتلقي تأمل وجهتي نظر مختلفتين، كما أتاح له تفهم مدى الغبن الذي عاناه العرب، في العهد العثماني، خاصة في أواخر أيامها، مما يجعله يتعاطف مع دعوة الكواكبي لضرورة استقلال العرب عن الدولة العثمانية، وهذا هو الهدف الأساسي من إصراره على إصدار جريدة خاصة به، مهما تكبد من خسائر! لنلاحظ دلالة الاسم الذي اختاره لجريدته الأخيرة (العرب).‏

أعتقد أن اعتماد أسلوب المناظرة في المقالة أمر لا يستطيع القيام به إلا كاتب متميز، يمتلك قدرات فكرية عالية يضاف إليها ثقافة واسعة ومرونة في الرؤية بكل ما تعنيه من سعة أفق وانفتاح، وقد امتلك الكواكبي هذه الصفات فاستطاع أن يقدم لنا مناظرات متميزة، وإن كنا قد لاحظنا أنه قد أفسح المجال واسعا أمام وجهة النظر العربية، أكثر بكثير مما أفسحه لوجهة النظر التركية، وهذا أمر لا نستطيع أن نلومه عليه خاصة في ذلك العصر حين كنا نفتقد مثل هذه المناظرات، ولا ننسى أن للقهر الذي عاناه الكواكبي هو وقومه العرب أثرا في الحماسة لوجهة النظر العربية.‏

وقد كان أحد أركان أسلوب المناظرة لديه اعتماده المقارنة، بل نستطيع أن نعدّها أحد أبرز مميزات الكواكبي في معظم مقالاته، فهو لا يكتفي بالمقارنة بين الحكام كما لمسنا قبل قليل، وإنما نجده يقارن بين الأتراك وغيرهم من المعتدين على الشعوب الأخرى، يقول في افتتاحية العدد الأول من جريدة العرب "على أننا لو قسنا فظائع الأتراك في اليمن لفظائع الإسبانية في أميريكا لوجدنا أن الثانية أقل شرا، وأهون مصابا من الأولى، فإن الإسبان لما استولوا على أميريكا، رأوا أن الأميركانيين يغايرونهم في الجنسية والديانة والمعتقد، فشددوا عليهم وطأة الظلم قصد إجبارهم على تغيير معتقداتهم وتبديل أديانهم حتى يسهل إخضاع بلادهم بأسرها، أما الأتراك فإنهم استولوا على اليمن، أي على أمة العرب، التي كانت سبب سعادتهم بإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهداية الذي استناروا به حتى صارت لهم دولة وسطوة واقتدار…" (14)‏

تبدو لنا المقارنة بين تصرفات الأتراك في اليمن وتصرفات الأوروبيين أثناء غزو أمريكا، ليست في صالح الأتراك، الذين ارتكبوا في اليمن مذابح ضد المسلمين ، بل كان لأهل اليمن دور في نشر الإسلام، بل هم سبب هداية الأتراك إلى الدين الإسلامي وخلاصهم من الوثنية في الماضي، فكيف يجرؤون اليوم على ذبحهم وهم إخوانهم في الدين!! في حين كان سكان أمريكا من الهنود الحمر يخالفون الإسبان في الدين، لذلك أرادوا تنصيرهم كي يسهل إخضاعهم، فشتان بين أهالي اليمن الذين كان لهم الفضل في نشر الإسلام وانتقال الأتراك من ظلمة الوثنية إلى نور الإيمان، وبين أهالي أمريكا الذين كانوا على الوثنية!‏

قد لا نستطيع اليوم أن نقبل بمنطق هذه المقارنة، التي تعدّ ما فعله الإسبان أقل سوءا مما فعله العثمانيون في اليمن، لكن علينا أن نحاكم الأمور وفق مقاييس عصر الكواكبي، آخذين بعين الاعتبار معاناته وقومه من وطأة الحكم العثماني، كما أنه يخاطب متلقيا يعطي الإسلام القيمة العليا في حياته، لذلك يريد أن يوصل إليه استباحة الأتراك دم المسلمين، وهو يزيد من فظاعة تصرفات الأتراك، فيهزّ مشاعر المسلمين ويستفزّها، حين يوضح أنهم ذبحوا أولئك الذين أسهموا في نشر الدين الإسلامي!‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:04 pm

6_ أسلوب السخرية :‏

يحتاج أسلوب السخرية إلى مقدرة غير عادية، ليس فقط على صعيد الموهبة الأدبية، وإنما على صعيد الموهبة النفسية والقدرة على التقاط ما يثير الابتسامة والمرارة معا، ومثل هذا يحتاج إلى حساسية خاصة، تشمل الأعماق الداخلية للمبدع والعالم الخارجي، كما يحتاج إلى المعرفة والقدرة على التقاط ما يستحق تسليط الضوء عليه، لهذا يبدو لنا أسلوب السخرية أسلوبا نادرا في الأدب كما في الصحافة.‏

وقد لجأ الكواكبي إلى هذا الأسلوب أحيانا، ففي مقاله الذي توقفنا عليه قبل قليل (في جريدة "النحلة" 1 نيسان 1879) نجده يسخر من انتشار الفساد في مدينته (حلب) حتى جعله جزءا من طبيعتها، لذلك فإن أي وال نزيه يأتيها لابد أن يفقد نزاهته بعد فترة، أي بعد أن يسري ماؤها في دمه، فيغير أخلاقه، ويبدّل طبيعته، ومثل هذه السخرية خير تعبير عن مدى الفساد المستشري ليس لدى الإنسان بل تجاوز ذلك إلى أحد أهم مظاهر الطبيعة ا(الماء) الذي لا يمكن للإنسان الاستغناء عنه! لهذا بات داء الفساد مستشريا كالوباء، وعبر هذه السخرية نتعرف على حقيقة مؤلمة، وهي أن جميع الولاة منحرفون، فهم يشربون الماء الذي يسري فسادا في دمائهم!‏

تتكرر السخرية من الولاة في مقال آخر نشره في جريدة الأهرام (12 حزيران 1879) فقد وجدناه يقول "جاء مبعوثان لمأمورية الإصلاح (دولتلو مظهر باشا وعزتلو نوريان أفندي، فاستقبلهما الأهلون بمزيد من الاحتفال والمسرة، وأهّلوهما بالأفكار المقام الأعلى بغية أنهما عنصر حياة إصلاحنا… وقد كان من باكورة أعمال هذين الموظفين أنهما رحلا إلى مرعش، بعد أن أنس بلدنا فيهما عدة أيام دون أن نسمع عن أعمالهما المهمة سوى القول (سيصير هذا الأمر وسيتمّ الأمر الآخر وما شاكل من ألفاظ التنفّيس والتسويف) وبلّغنا من نثق به أن أحدهما قال علانية: إن بلدنا بعيد عن الإصلاح على أن حضرة الوزير لم يشأ مبارحة بلدنا دون أن يبقي من أعماله أثرا للذكرى ذلك أنه استدعى أحد الموظفين وطلب منه تعيين ابنه ليكون كاتبا بمعيتهما براتب قدره ألف غرش، مع أنه يجهل التركية وضعيف في العربية أيضا، ولم تسبق له خدمة تؤهله إلى ذلك، وقد رماه الناس بالتنديد ولكن:, إذا المليح أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع (15)‏

يفضح هذا المقال مقدار البؤس الذي عاناه الناس في ظل السلطة العثمانية التي تدّعي الإصلاح، فترسل مبعوثين (وزيرين) من أجل القضاء على الفساد فيزيدان المدينة فسادا! لذلك لا يجد الكواكبي أسلوبا يعبر عن بؤس هذه الحال سوى لغة السخرية، فيجسد لنا في البداية كيف احتفل بقدومهما الأهالي للاعتقاد بأن الخير آت والفساد مول، فحل هذان المنقذان المكان الأرفع في أذهان الناس، لكن يفاجأ الناس بأن أول إنجاز لهما هو ترك حلب والسفر إلى مرعش للترويح عن النفس! ويستمر في السخرية فيبيّن كيف استأنست حلب بحضورهما دون أن يفعلا شيئا سوى الكلام وبذل الوعود!‏

ويمكن أن يلاحظ المرء هنا إلى جانب السخرية مقدرة الكواكبي على التعبير الدقيق الذي يعتمد على الحساسية اللغوية التي لمسناها لديه في كتبه وفي مقالاته، لذلك لا يكتفي بالإشارة إلى أن هذين الوزيرين يستخدمان ألفاظ التسويف بل يضيف إليها ألفاظ التنفّيس، ومثل هذه الألفاظ التي تدلّ على فهم عميق لنفسية العامة التي ترتاح للوعود وتصدقها بعد أن طفح كيل الفساد! فيخفّ إحساسها بالتوتر، إذ نفّس الكلام عن ضيقها! كما يدلّ على فهم عميق لأعماق المسؤولين الذين يكثرون من الوعود ليمتصوا نقمة الناس! نلاحظ أن هذه المماطلة (التسويف) تحيل الأفعال إلى وعود لن تتحقق في المستقبل، وهي تكاد تقوم بالدور نفسه والإيحاءات ذاتها للفظة (التنفيس) لذلك تعمّد أن يكونا في صيغة صرفية واحدة! كي يفيد من جماليات التكرار التي تتخذ دلالات تحريضية! وتتعزز السخرية من هؤلاء المصلحين!‏

وهو يستمر في السخرية، فيبينّ أن أحد المبعوثين صرّح بأن البلد بعيد عن الإصلاح ليريح ضميره!! لكن السخرية المؤسية التي تقطر مرارة هي التي لحظناها في الفقرة الأخيرة، حين ترك أحدهما أثرا يخلّد ذكراه وذلك حين أمر بتعيين ابنه موظفا براتب ضخم دون أن يملك من المؤهلات سوى أنه ابن مسؤول كبير! أتى لإصلاح البلدة فزادها فسادا!‏

يمكننا أن نقول: بلغت اللغة الساخرة ذروتها، حين أتى بتناص شعري، يصف الوزير المفسد بـالمليح، ثم بيّن ساخرا أن محاسنه الكثيرة التي لمسنا بعضها قبل قليل تشفع له مثل هذا الخطأ! وزيادة في السخرية لا يجعلها شفاعة واحدة، بل ألف شفيع! كأنه يشير إلى الدلالة النقيضة للفظة محاسن أي المفاسد التي ارتكبها في البلدة التي لحظنا منها الإهمال واستغلال المنصب!‏

لاشك أن أسلوب السخرية يحتاج إلى مقدرة لغوية وتخييلية متميزة، وقد تجلت هذه المقدرة لدى الكواكبي منذ وقت مبكر في مقالاته، خاصة تلك التي تتخذ طابع النقد الاجتماعي وتلمح إلى النقد السياسي، يقول في صحيفة "الاعتدال (العدد الأول عام 1879) في مقال يحمل عنوانا ساخرا هو (آثار جغرافية في حلب) إذ نظن للوهلة الأولى أننا أمام مقال تاريخي، يتحدث عن مواقع أثرية في مدينته، نفاجأ بأن هذه المواقع هي أقذار وأوساخ متراكمة عبر الزمن!‏

"إن في حلب بعض آثار جغرافية مهمة، نرى لبيانها لزوما قويا لأجل تصحيح تاريخ جغرافية حلب، فمن ذلك صحراء سوق الجمعة…وفيها سلسلة جبال تحاكي جبال أورال في ارتفاعها، وهي متكوّنة من أوساخ المدينة…ولشهرة هذه الصحراء لا حاجة إلى تحديدها.‏

ومن تلك الآثار أيضا بحيرة الكلاسة، وهي مستنقعة تتكون من اجتماع مياه القاذورات …في هذه الأيام نضب ماؤها، ولا نعلم هل هذا من شدة حرارة هذا الصيف وهو الغالب أم من ثمرة دائرة همة دائرة البلدية الثانية…‏

ومن الآثار مزابل الحمامين التي هي في جسامتها وارتفاعها وشكلها المربع والمستدير تحاكي أهرامات مصر المشهورة، وهي تتكون من الروث الطري، ويتسلق على هذا الشكل لأجل التجفيف، ولها فائدتان للمدينة: الأولى بخارها، والثانية: دخانها الذي ينتشر في سماء المدينة، فيظللها ويلطف عنها الحرارة صيفا والبرد شتاء!!! وهذا كله من بعض فضل دائرة البلدية." (16)‏

يستخدم هنا أسلوب السخرية اللاذع الذي يحفر ألما في الوجدان، إذ عادة تحتفل المدن بآثارها التي تجلب لها السمعة الحسنة، لكن آثار حلب من نوع آخر (جبال من الأوساخ، بحيرة من مياه القاذورات، مزابل ترتفع كالهرم) مما يسيء إلى سمعتها!‏

لذلك يصفها هذا الوصف الساخر: آثار مهمة، يرى الكواكبي لزاما عليه أن يشير إليها، كي ينتبه المسؤولون إليها ويسعون إلى إصلاحها، كي يتمّ إنقاذ حلب من هذا التشوّيه في المنظر وقبح الرائحة!‏

كذلك يلجأ إلى الصورة الساخرة إذ تحولت فضلات المدينة إلى معلم أثري هام يضاهي في عظمته الأهرامات المصرية!‏

وقد تتخذ السخرية للوهلة الأولى طابع التعليل العقلي لكن حين نتأمل هذا التعليل نجده بعيدا عن المنطق، فقمامة الحمامين التي تتكون من الروث الطري لها فائدتان: البخار والدخان، وهذا كلام يتخذ طابع التحليل العلمي، وحين نمعن النظر في هاتين الفائدتين نجد أنهما يتجليان أولا في بخار ينشر روائح نتنة، وثانيا في دخان يلطف الحرارة صيفا والبرد شتاء!!! وهذا غير معقول!‏

إن السخرية التي يمارسها الكواكبي في مقالاته ليست أسلوبا جماليا، يضفي تنوعا على أساليبه فقط، وإنما هو أسلوب يساعده على أداء رسالته التنويرية، إنه يلجأ إلى كافة الوسائل التي تساعده، ولعل الوصف الساخر أحد أهم عوامل الإبلاغ اللاذع لرسالته، كي يستطيع عبر هذه الرسالة أن يحفّز المتلقي وينمّي مشاعر المرارة في أعماقه، لتؤرّقه وتحرّضه على التغيير، ومن جهة أخرى يحرّض المسؤولين على أداء واجبهم في الإصلاح، خاصة حين يبيّن مدى إهمالهم حتى إن الطبيعة تقوم بما عجزوا عنه، فتجفف المستنقع القذر بحرارتها رأفة بحال الإنسان وسمعة المدينة! لذلك نجده يختم المقال بعبارة غير بريئة واخزة بسخريتها (هذا كله من بعض فضل دائرة البلدية) تجسد مسؤولية رجال الدولة، وتبيّن مدى إهمالهم في الإصلاح مما أدى إلى ظهور هذه المعالم المنفرة في المدينة!‏

هنا لم يكتفِ بالتخييل الساخر، بل نجده يستخدم لفظا ينضح سخرية هو "فضل" التي توحي لنا بدلالات نقيضة (سوء تصرف، إهمال…) ومن طرف خفي يوحي لنا أن أمثال هذا الإهمال نلمسه بكثرة لذا جعل لفظة فضل مسبوقة بـ(بعض) إذ إن هناك آثارا كثيرة لإهمالهم لم يحدثنا عنها!‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:05 pm

المقالة والموروث الديني:‏

تحتاج لغة المقالة إلى لغة ترتبط بالحياة اليومية، أي ترتبط بلغة الناس وهمومهم، ولو تأملنا لغتنا اليوم، بعد حوالي مئة سنة من وفاة الكواكبي للاحظنا أن الكثير من مفرداتها ذات صلة بالموروث الديني، فما بالكم في زمن الكواكبي!‏

تمتاز لغة الكواكبي بحيويتها ونزوعها نحو الجمال التعبيري، ولعل أحد مصادر هذه الحيوية وهذا الجمال اعتمادها على لغة مألوفة لدى المتلقي، تعيش في وجدانه، وتؤثر في سلوكه اليومي هي لغة الموروث الديني، وقد استطاع أن يضفي عليها رؤية خاصة به، نابعة من رغبته في التغيير والثورة على الحكم العثماني، لذلك نلاحظ أن لغة الحمدلة التقليدية، تتحول على يديه إلى لغة حيوية موّظفة لخدمة آرائه التنويرية "الحمد لله المنتقم الجبار والصلاة والسلام على النبي العربي وآله وأصحابه، أما بعد فقد أصدرنا هذه الجريدة باسم "العرب" بعد الاتكال على الله الموفق لصالح الأعمال، عاهدنا النفس على أن تتوخى سبيل الصدق والحق والإنصاف…" (17)‏

يتحول الأسلوب التقليدي (الحمدلة) على يد الكواكبي من قالبه الجامد إلى لغة حيوية تجسّد معاناة الكواكبي وقومه من استبداد الحاكم الغريب، لهذا نجده يتوقف في افتتاحية العدد الأول من جريدة "العرب" عند صفات الله تعالى الكثيرة، التي تصل إلى تسع وتسعين صفة، فيختار صفتين (المنتقم والجبار) اللتين توحيان بانتقام الله من الظالمين ويذكرهم بأن الله أقوى من جبروتهم، وبذلك يبثّ الأمل في قلوب العرب، موحيا لهم بإمكانية القضاء على جبروت الدولة العثمانية ماداموا يؤمنون بالله ويتخذون من قوته تعالى وانتقامه من الظالمين مثلا أعلى لهم، وحين يأتي دور الصلاة على النبي نجده يؤكد عروبته للأتراك، ومن طرف خفي يذكّر المسلمين من قومه بهذه الحقيقة في زمن بات السلطان العثماني يدعي ما لا يحق له فينادي بنفسه خليفة للنبي العربي، بعد ذلك يبيّن لقومه مفهوم التوكّل على الله لابد أن يقترن بصالح الأعمال وأفضل الصفات الأخلاقية التي دعا الدين إليها.‏

وبذلك تزود الحمدلة المسلم بما يحتاجه في صراعه مع الحاكم من مثل أعلى يقتديه، وهو مستمد من أركان إيمانه بالله والرسول، كما يذكره بحقائق قد تغيب عن ذهنه، فيستغل الحاكم جهله بها، ثم ينقي ذهنه من شوائب الأفكار التي تسيء إلى فعاليته، وتبقيه في حالة الجمود والتواكل، فيدعوه باسم الدين إلى العمل والتزام مكارم الأخلاق.‏

وهو يحرص في العدد نفسه على ذكر الغرض الوحيد الذي دفعه لإصدار هذه الجريدة "هو الدفاع عن حقوق العرب…التي اغتصبها قوم لا أخلاق لهم ولا ذمة ولا شرف، قد عاثوا في الأرض مفسدين، ولم يعبؤوا بنصوص الشرع الإلهي ومحكماته، فتراهم لا يكترثون بحدود السنة النبوية وبيّناتها، بل يتبعون أهواءهم في جميع أعمالهم، فيضلّون عن سبيل الله، ويضلّون عباد الله، فبئس ما هم يعملون، وتعسا لأناس إليهم يميلون وآثارهم يقتفون، وباتباعهم كثيرا من الذنوب والمخازي يقترفون…" (18)‏

تبدو لنا لغة التناص الديني واضحة، فقد استخدم لغة القرآن ألفاظا وتراكيب فبدت جزءا حيويا من لغته [عاثوا في الأرض فسادا ("سورة المائدة"، آية 33) يتبعون أهواءهم ("سورة القصص"، آية 50) يضلون عن سبيل الله ويضلون عباد الله (سورة "ص " آية 26) فبئس ما هم يعملون ("سورة المائدة"، آية 62) وتعسا لأناس إليهم يميلون (سورة "محمد" آية 8)…] فيستغل ما تحمله من قوة تعبيرية ودلالة قدسية تزيد من وضوح الدلالة وتأثيرها بما تمتلكه من مخزون عاطفي، إذ يرددها المسلم في عباداته.‏

نلاحظ أنه أجرى على هذه التراكيب بعض التحوير لتناسب مقصده وتساعده على التأثير في المسلمين من أجل مقاومة الطغيان التركي، ومثل هذا التناص يبدو سمة أساسية من سمات أسلوبه.‏

وقد نجده يستعين بالنص القرآني بشكل صريح، أي دون أي تغيير أو تحوير، ففي موضوع خطير كشروط الخلافة، يبيّن أن علماء المسلمين قد استخرجوها من قوله تعالى لنبيه داود عليه السلام "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله"(سورة ص، آية 26) .‏

إن من يقبل بالسلطان العثماني خليفة لاشك أنه إنسان جاهل لا علم له بأحكام الشريعة، لذلك يضع النص القرآني بين يديهم، باعتباره الحكم الفصل والحجة الدامغة التي توضّح للمسلمين أن الصفة الأساسية للخليفة هي أن يحكم بين الناس بالعدل، لذلك نجده بعد ذلك يفصّل في الشروط، فيرى وجوب أن يمتلك الخليفة صفات الرجال ذوي الكمال! أي صفات القوة والشجاعة التي تلزم لتنفيذ الأحكام وإقرار الحق.‏

وحين يتعرض الكواكبي للاضطهاد على يد الوالي (دولتلو كامل باشا) الذي أغلق جريدته "الشهباء" ثلاث مرات، فلا يجد الكواكبي أمامه إلا الخيال الذي يستمد مكوناته من المرجعية الدينية، كي يوضح مدى الاضطهاد الذي تعرض له، فنجده يقول: "إن حضرة الوالي…ماذا يجيب إذا سئل في محكمة الإنسانية عن سبب مقاومته، وبذل جهده في صدّ هذا المشروع الخيري ومعارضة القائمين به وإضرارهم ماديا وأدبيا، هل له من جواب يدفع عنه الحكم الحق، بأن السبب ليس إلا ما في فطرته من عداء للحرية".‏

إن محكمة الإنسانية التي يتخيلها الكواكبي وفق المنظور الديني تشكّل عزاء له، فقد جعلها صورة عن يوم الحساب، حيث يقف كل إنسان بين يدي الله تعالى للمحاكمة، لذلك يتخيل الوالي الذي آذاه في ماله وفي سمعته، فكبّده خسائر مادية ومعنوية حين أمر بإغلاق صحيفته، وقد مثل في هذه المحكمة، ليتلقى عقابه في الآخرة، مادام لا يلقاه في الدنيا، وبفضل هذا التخييل الديني يفرّغ الكواكبي بعض غضبه، ويحس تعويضا عن خسائره، مما يدفعه إلى متابعة نضاله متجاوزا إحباطه.‏

كذلك رأيناه يستغل لغة الموروث الديني في مقالاته لتأكيد وحدة المسلمين، فمثلا نجده في صحيفة "الشهباء" (ع4، 1_13 كانون الأول عام 1877) يكتب مقالا يشيد بمساندة مسلمي الهند للدولة العثمانية، أثناء الحرب بينها وبين روسيا، وذلك بإرسال المال إليها، فيقول الكواكبي "إن إعانتهم المتواصلة إلينا الآن على ما يظهر منهم من اشتراكهم معنا في الحواس سرورا وكدرا أعظم دليل لما لهم من الميل والاحترام لمركز الخلافة الإسلامية، كما تقتضيه الشعائر الدينية اتباعا لمضمون الحديث الشريف "مثل المؤمنين في توادّهم كمثل الجسد إذا شكا بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى".‏

وبما أن الكواكبي إنسان متدين لذلك نجده حريصاً على الدقة في تقديم النص الديني، وحين لا تسعفه الذاكرة على ذلك، يسرع إلى التصريح، بأنه لم يذكر الحديث الشريف بحروفه الصحيحة، لهذا وجدناه يقول (اتباعا لمضمون الحديث الشريف) فهو يذكر معناه اعتمادا على ذاكرته دون نصه الحرفي، وفي هذا دليل على إدراكه لحساسية النص الديني من جهة، فيستطيع أن يحوز ثقة المتلقي من جهة أخرى، ليتمكن من التأثير فيه، وبذلك يستغل ثقافته الدينية، التي تسعفه في تقديم الخطاب الديني بكل ما يحمله من دلالات مؤثرة تؤكد وحدة المسلمين.‏

إن استخدام التناص الديني لدى الكواكبي يبدو لنا استخداما لا واعيا أحيانا باعتباره جزءا من لاوعيه المقدس الذي كوّن أعماقه عن طريق التربية والثقافة التي تلقاها، حتى باتت جزءا من كيانه، باختصار إنها أثر من آثار البيئة المتدينة التي نشأ فيها، ولكن أحيانا يبدو لنا استخدام هذا التناص استخداما واعيا من قبله، فهو يريد أن يوظّف الدلالات المقدسة للخطاب الديني التي تحرك وجدان الناس وتؤثر في فكرهم أكثر من أي خطاب آخر، إذ تكاد تشكل الثقافة الوحيدة التي كانوا يتلقونها في حياتهم.‏




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty رد: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أبريل 21, 2011 11:06 pm

الحواشي:‏

1. جان دايه "صحافة الكواكبي" ج1، مؤسسة فكر للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 1984، ص13.‏
2. جان دايه "صحافة الكواكبي" ج2 "جريدة العرب" فجر النهضة، انطلياس، ط1، 2000، ص21.‏
3. علي حرب، "مجلة عالم الفكر" الكويتية، يناير_ مارس،2001، ع(29) ص118.‏
4. صحافة الكواكبي ج1، ص139.‏
5. صحافة الكواكبي ج2، ص51.‏
6. صحافة الكواكبي ج1، ص172.‏
7. المصدر السابق، ص173.‏
8. المصدر السابق نفسه، 149.‏
9. نفسه، ص146.‏
10. ابن خلدون "مقدمة ابن خلدون" دار القلم، بيروت، دون تاريخ، ص134_135.‏
11. صحافة الكواكبي، ج2، ص55.‏
12. المصدر السابق، ص62_65، بتصرف.‏
13. المصدر السابق نفسه، ص58_61، بتصرف.‏
14. نفسه، ص40.‏
15. صحافة الكواكبي، ج1، ص174.‏
16. المصدر السابق، ص165_166.‏
17. صحافة الكواكبي، ج2، ص37.‏
18. المصدر السابق، ص43.

http://www.daralameer.com/newsdetails.php?id=221&cid=35




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضــة والأدب (1) Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28719
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى