قراءة في كتاب: فقه الواقع وأثره في الاجتهاد تأليف: ماهر حسين حصوة
2 مشترك
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
قراءة في كتاب: فقه الواقع وأثره في الاجتهاد تأليف: ماهر حسين حصوة
سعت هذه الدراسة إلى رسم معالم واضحة لفقه الواقع، بحيث تتمايز ساحته عن بقية الساحات في الجسم الفقهي، وذلك من خلال بيان مفهوم فقه الواقع، وأهميته للاجتهاد، وتأصيله بالاستدلال له من الكتاب والسنة واجتهاد الصحابة والمصادر التبعية، إضافة إلى تبيين أثره في الاجتهاد وبناء الأحكام؛ من خلال التمييز بين النصوص التي يؤثر فيها البُعد الزماني والمكاني، من النصوص التي تتصف بثبات أحكامها، والأحكام المعللة، وفقه تطبيقها على أرض الواقع من خلال تنقيح المناط وتحقيقه، وعوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع، وأثر فقه الواقع في الترجيح الفقهي، وأثره –كذلك- في الحكم والفتوى والقضاء، مع وضع ضوابط للاجتهاد المعاصر في كيفية التعامل مع النصوص الثابتة والواقع المتغير.
تتشكل بنية الفصل الأول "مفهوم فقه الواقع وأهميته وأدلة اعتباره" من مدخل عام وثلاثة أركان: مفهوم فقه الواقع، وثأهميته، وأدلة اعتباره. ويتناول الباحث مفهوم فقه الواقع من خلال تفكيك المصطلح والتعريف بجزئياته، ثم الانتقال إلى المصطلح المركب، ويخلص إلى أنَّ الواقع بوصفه مصطلحاً فقهياً، لم يكن له وجود، ولم تكن له هُوية واضحة المعالم عند المتقدمين، بيد أن المصطلح ظهر وسطع نجمه عند المعاصرين. ثم ينتقل الباحث إلى الحديث عن المصطلح بشقيه: "فقه الواقع" من جهة التركيب، حيث تنحصر آراء المعاصرين في جهتين؛ الأولى تُعرِّف المصطلح من وجهة نظر سياسية، في حين تقصره الثانية على النظرة الاجتهادية الفقهية، ويخلص الباحث بعد مناقشة التعريفات إلى أن هذا المصطلح يتكون من جناحين هما: فقه واقع النص، وفقه واقع تطبيق النص؛ إذ إنَّ فقه واقع النص يبيّن الأوصاف المؤثرة التي ذكرت في سياق تقرير الحكم المقتضية إعماله أو عدم إعماله، أمَّا فقه واقع تطبيق النص فيشمل الظروف والأحوال النازلة التي يطالب الفقيه باستكناهها؛ استظهاراً للأوصاف المؤثرة التي يدار عليها الحكم، ومجموع الأمرين؛ أي فقه واقع النص، وفقه واقع تطبيق النص، وهو الذي قصده الباحث بفقه الواقع.
أما أهمية فقه الواقع فتظهر من خلال النظر في مآلات إعمال هذا الفقه أو إهماله؛ ففهم النص ومعرفته يثمران نضجاً في فهم الدين؛ نظراً لأنَّ بعض النصوص لا يمكن معرفتها حق المعرفة إلا بفهم السياق، والظروف، والملابسات التي أدت إلى نـزولها أو ورودها، وفي هذا المقام يستدل الباحث برأي الإمام الشاطبي؛ إذ جعل معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها – في عصر التنـزيل- سبباً من أسباب الصواب في فهم القرآن. وتظهر كذلك هذه الأهمية في تطبيق الأحكام، وإنـزال النص على الواقع؛ فعمل الفقيه يشبه إلى حدٍ كبير عمل الطبيب؛ ذلك أن الطبيب قبل أن يصف الدواء عليه أن يُشخِّص الداء، ويتعرف إلى حال المريض من جميع جوانبه. كذلك الفقيه عليه أن يحيط بالواقع المراد بيان الحكم الشرعي فيه من جميع جوانبه؛ كي يستطيع إنـزال النص المناسب على الواقع، فالفقه الصحيح للنص، في الكتاب والسنة، يقتضي فهم الواقع محل النص في ضوء الاستطاعات المتوفرة، ويمكن القول إنَّ انتهاء الباحث إلى أن هذه القضية هي المعادلة المطلوبة للاجتهاد؛ كي يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحي مرجعيته، ويقوَّم الواقع بقيم الدين فهماً وتنـزيلاً.
ومن جوانب الأهمية التي تناولها الباحث، معالجة المسائل المستجدة؛ إذ يتعين قبل النطق بالحكم في هذه المسائل فَهْم المسألة فهماً متكاملاً؛ لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فاستخلاص الحكم الشرعي للمسائل المنظورة يقوم على ثنائية؛ تتمثل بتحريك النص الثابت والقواعد التشريعية العامة، مع استصحاب لمقاصد الشارع على الوقائع المتغيرة. وهذه العملية تشمل أمرين؛ الأول: استخراج دلالات النص بطرق الاستدلال المعروفة في علم أصول الفقه. والثاني: تكييف الواقعة التي يطبق عليها حكم النص، أي: صياغة الواقعة صياغة قانونية، والتعبير عنها ووصفها حسبما يتجمع لها من خصائص؛ أي من المفاهيم القانونية المطروحة، فهي تعبير فقهي أو قانوني عن الواقعة، وهذا يتضمن تحرير الواقعة الحادثة بتفصيلاتها، ورفعها إلى مرتبة من مراتب التجريد القانوني. وبهذين العملين يلتقي حكم النص الثابت مع الواقع المتغير. واختتم الباحث جوانب الأهمية في اختبار صحة الفتوى، فلكل حكم فقهي أثر في الواقع قد يكون إيجابياً؛ إذا كان استخلاص الفتوى جرى وفقاً لقواعد منهجية ضابطة، وقد يحدث خلل في أي مستوى من المستويات؛ فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحكم في الواقع أثراً سلبياً.
وقد بنى الباحث تأصيله لفقه الواقع على أربعة أركان هي: استقصاء الأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية، واجتهادات الصحابة، ثم الأدلة التبعية. ومن الأدلة التي أوردها الباحث لتأصيله من خلال آي القرآن الكريم، المنهج التشريعي في القرآن، ومراعاته للواقع إبَّان نـزول النصوص، ويظهر ذلك في أمثلة عدة، من أبرزها: التدرج في الأحكام، فلم يكن التشريع الإسلامي بمنأى عن حيثيات الواقع، وقد أخذ بأيدي المكلفين خطوة خطوة؛ ليصل إلى الهدف المرجو، وأكبر مثالٍ على ذلك المنهج التشريعي في تحريم الخمر، الذي سلك الشارع فيه مسلك التدرج في التحريم.
أما السنة النبوية الشريفة فقد كان لمعرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بواقع الصحابة وأحوالهم وتقدير ظروفهم؛ أثر كبير في البناء التشريعي، وجاء الركن الثالث من أركان التأصيل لهذا الفقه من خلال اجتهاد الصحابة، ويجد الباحث من خلال نظره في اجتهادات الصحابة أثراً كبيراً لفقه الواقع، فقد كانوا يتعاملون مع الواقع فهماً وتنـزيلاً للأحكام على هذا الواقع، بما يحقق مقاصد الشارع والمصلحة المرجوة.
أما الركن الأخير في هذا البناء التأصيلي فقد جاء لأدلة اعتبار فقه الواقع من خلال الأدلة التبعية؛ إذ يرى الباحث أنَّ اعتبار التشريع للواقع عند بناء الأحكام هو الذي حدا إلى وجود الخطط التشريعية التي تهدف إلى التعامل مع الواقع بإنتاجاته المختلفة؛ مما يُعطي المجتهد مرونة منضبطة في التعامل مع النصوص ضمن البعد المقاصدي والمصلحي؛ وهذا يجعل التطبيق الآني للنصوص مستبعداً. ولذلك نجد من المصادر التي تعالج الواقع، وتنظر إلى الظروف المحيطة عند الاجتهاد ما يُغني الشريعة الإسلامية، ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان، ومن هذه المصادر: الاستحسان، والاستصلاح، وسد الذريعة، والعُرف، وهي مصادر تشريعية، أو كما يعبر عنها الباحث بأنها خطط تشريعية تتعامل مع الواقع، وتعالج التطبيق الآني للنصوص، الذي قد يذهب بحكمة التشريع ومقاصده.
وقد تناول الفصل الثاني "أثر فقه الواقع في الاجتهاد وبناء الأحكام" فعرض أثر الواقع في تكوين شخصية المجتهد الفقهية، والنصوص التي يؤثر فيها البُعد الزماني والمكاني في التشريع، ثم الأحكام المعللة بالمصالح والأعراف والذرائع وفقه تطبيقها. ثم عرض عوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع، وأثر الواقع في الترجيح الفقهي، وختم الفصل بعرض نماذج لأثر فقه الواقع في الاجتهاد والفتوى.
ويسنتطق الباحث ضمن حديثه عن أثر الواقع في الاجتهاد وبناء الأحكام، الظروف المحيطة بنشأة بعض المذاهب الفقهية، ومدى انعكاس الواقع على فتاوى أئمة المذاهب، أما النصوص التي تتناول أحكاماً تخضع للاجتهاد ضمن البعدين الزماني والمكاني فقد قسمها الباحث إلى نوعين: نوع يؤثر فيه البعد الزماني والمكاني من حيث بقاء الالتزام به، وهو المتعلق بالأفعال الجِبِلِّيِّة المتعلِّقة بالرسول -عليه الصلاة والسلام- كملبسه ومأكله ومشربه، ونوع يؤثر فيه البعد الزماني والمكاني من حيث التنـزيل، وهي النصوص التي تناولت جانب الإفتاء والإمامة والقضاء.
أما المسألة الثالثة وهي الأحكام المعللة بالمصالح والأعراف والذرائع وفقه تطبيقها، فقد بدأ الباحث بالتأسيس لها اعتماداً على أن الحكم بِعِلَّتِه وجوداً وعدماً؛ قدّم للفقهاء منهجية منضبطة في تطبيق الأحكام الشرعية في الأزمنة والأماكن والأحوال المتغايرة. وعلى الفقيه استخراج العلة من النص بطرقه ومسالكه المعروفة، والتحقق من وجود العلة في الفرع المقيس، الذي يراد تطبيق الحكم عليه؛ تحقيقاً لمقصود الشارع من جلب المصلحة ودفع المفسدة. ثم يمضي الباحث إلى الأحكام المبنية على العُرف، التي تتغير بتغير العُرف، فما بُني من النصوص والأحكام على عُرف زمني كان قائماً في عصر النبوة، ثم تغير في عصر لاحق؛ ينبغي أن يعاد النظر فيه بناءً على العُرف الجديد، وقد كَثّف الباحث حديثه في هذه النقطة حول العُرف الحادث وعلاقته مع النص التشريعي؛ لِما للعُرف الحادث من علاقة بفقه الواقع المتغير، الذي يعود على بعض الأحكام بالتغيير.
ثم أفرد الباحث مسألة الأحكام المعلَّلة بسد الذريعة وتغير حكمها بانتفاء العلة بالبحث؛ لِما لسدّ الذريعة من أهمية في الاجتهاد، من خلال النظر إلى واقع تطبيق النص، وما سيؤول إليه التطبيق من نتائج تحكم مشروعية الفعل من عدمه عند بناء الحكم الشرعي. وقد استشهد الباحث لهذا الأصل بجملة أدلة من القرآن والسنة. ثم انطلق إلى مسألة أخرى، وهي عوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع؛ فعرض من خلالها تغير الأحكام الاجتهادية بسبب فساد الزمان، وتغيير الأحكام الاجتهادية بسبب التقدم العلمي وتطور الوسائل، والفرق بين الحكم الشرعي والفتوى والقضاء، وأثر فقه الواقع في ترجيح الآراء الفقهية، ومعنى مراعاة الخلاف، وانتهى بالعوامل التي تؤثر في الاجتهاد الانتقائي.
ثم عرض للفرق بين الحكم الشرعي والفتوى والقضاء، وخلص إلى أن الحكم الشرعي يتضمن الحكم المجرّد، والفتوى والقضاء يُبنيان أساساً على الواقع، فيجعل الظروف المحيطة بالواقعة عنصراً أساسياً في بناء الحكم الشرعي؛ مما يستدعي الاقتضاء التبعي للحكم. وعمل الفقيه والقاضي هنا يكمن في التوفيق بين الحكم التشريعي العام والحكم التطبيقي الخاص، وهذا يحتاج إلى تحقيق المناط العام وتحقيق المناط الخاص، وكل ذلك من صلب العلم بالواقع.
واختتم الباحث الفصل الثاني بعرض نماذج لأثر فقه الواقع في الاجتهاد والفتوى، وقد استعرض الباحث نماذج مختلفة عند المتقدمين والمتوسطين والمتأخرين في كيفية اعتبار الواقع والظروف المحيطة عند الاجتهاد، ووضعها في الحسبان عند الإفتاء.
وقد خصص الباحث الفصل الأخير من هذه الدراسة "ضوابط الاجتهاد في الواقع المعاصر" لمعالجة قضية الضوابط؛ إذ يؤسس الباحث على ما سبق أن بيّنه في الفصلين السابقين من هذه الدراسة من أنَّ للواقع دوراً كبيراً في تطبيق الأحكام، وأنَّ الاجتهاد مستمر إلى قيام الساعة ؛ ليخلص إلى الحديث عن الضوابط التي تكفل اجتهاداً صحيحاً يراعي الثوابت والمتغيرات، وتكفلُ فهماً سليماً للنصوص وكيفية تطبيقها في واقع متغير وفي ظروف متغايرة. ويرى أن الأمر يستلزم تفكيكاً لعناصر الاجتهاد والضوابط التي ينبغي مراعاتها لكل عنصر من هذه العناصر المتمثلة في المجتهد نفسه والشروط الواجب توفرها فيه، وكذا الآلية الصحيحة والضوابط في التعامل مع النصوص في الوقائع المتغايرة، وكذلك الواقعة التي يراد معرفة الحكم الشرعي لها.
ويعزو الباحث التناقض في كثير من الفتاوى إلى عدم وجود المنهجية المتزنة في التعامل مع عناصر الاجتهاد؛ ذلك أن البعض يدعو إلى تحييد النصوص إزاء الواقع الجديد، وبناء الأحكام على مطلق المصلحة في نظره، ومنهم من يغض الطرف عن الواقع برمته ويدعو إلى تطبيق النصوص تطبيقاً آنياً دون مراعاة المقاصد، ودون فقه الموازنات والأولويات؛ وربما يخرج عن مقصود الشارع، ويؤدي إلى المشقة والعنت المنهي عنه شرعاً.
وبناء على ما سبق فقد تناول الباحث في هذا الفصل مسألتين؛ الأولى: شروط المجتهد ومحل الاجتهاد، والثانية: الضوابط التي ينبغي للمجتهد أن يراعيها في فقهه للنصوص في ظل الواقع المتغير. وتتكون بنية المسألة الأولى من جزأين، هما: شروط المجتهد، ومحل الاجتهاد وما يتعلق فيه. أما شروط المجتهد فيرى الباحث أن النصوص الشرعية ثابتة، والوقائع متغايرة، والأحداث متسارعة، ومن ثمّ كان لا بدّ لمن يتصدىّ للاجتهاد في الواقع أن يتحمل هذا العبء، وأن يكون مزوداً بآلية صحيحة في التعامل مع النصوص مبنية على أسس من الاستدلال سليمة؛ ليستخرج مكنونات النص، بما يحقق مقاصده وغاياته وأهدافه. ويستنبط الباحث شروط المجتهد من خلال بعض النصوص الواردة عن بعض السابقين، كالشاطبي مثلاً، الذي ركَّز على شرط فهم مقاصد الشريعة على كمالها، الأمر الذي يستلزم فهم الجزئيات في ضوء الكليات، ويوجه الاستنباط باتجاه مقاصد الشريعة بما يجلب المصلحة ويدفع المفسدة، وهذا الشرط يؤسس لمنهجية في الاستنباط، لا سيّما في فقه واقع النص، بربط الأحكام بمقاصدها، ومن ثمّ استنباط المناط أو تنقيحه تبعاً لمقصد الشارع.
أما الجزء الآخر في هذه المسألة فهي محل الاجتهاد وما يتعلق فيه؛ إذ يرى الباحث أن أهمية هذا الضابط تكمن في الاجتهاد المعاصر، بأن يكون الاجتهاد في النص ولو كان قطعياً مُفسِّراً؛ وذلك بمعرفة شروط تطبيقه وظروف تنـزيله على الواقع العملي، بحيث يستخرج مقصده ويحقق مأربه، وذلك يتطلب فقه الواقع المتعلق بالنصوص وفقه مقاصدها وعللها، ويتطلب فقه الواقع التطبيقي بمعرفة الظروف المحيطة عند التطبيق، وفقه الموازنات والأولويات بقياس النتائج المترتبة عند التطبيق، وهو ما يعبر عنه أصولياً بالنظر إلى مآلات الأفعال، وجملة ذلك من فقه الواقع.
وفيما يتعلق بالضوابط التي ينبغي للمجتهد أن يراعيها في فقهه للنصوص في ظل الواقع المتغير؛ يرى الباحث أن الاجتهاد إعمال للنصوص وفحواها ومقاصدها في الواقع، فكيف نستثمر النصوص الثابتة لتؤتي ثمارها ضمن منهجية واضحة تراعي إعمال النصوص وتحقيق مقاصدها، ولا تغفل المتغيرات والظروف المتغايرة، وهي المعادلة التي يؤكد الباحث ضرورة تفعيلها في ظل الاجتهاد المعاصر، ثم يتوصل الباحث إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية تتعامل مع النصوص لاستثمار مقاصد النص، وإنـزاله من الفقه النظري إلى الواقع التطبيقي تحقيقاً عملياً؛ لكون الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الضوابط هي: فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، وجمع النصوص في الموضوع الواحد مع تعليلاتها، ورد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، ثم التمييز بين الجانب التشريعي من السنة النبوية من الجانب غير التشريعي، وكذلك التمييز بين الوسائل والمقاصد في الأحكام، وأخيراً فهم النصوص في ضوء بعدها الدلالي اللغوي والشرعي والعرفي، واختتم الباحث هذه المسألة بعرض نماذج لبعض الاجتهادات التي لم تراعِ الضوابط المتقدمة.
أما الضابط الأول فهو فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها؛ ويستند الباحث في هذا المقام إلى رأي الدكتور القرضاوي في أن من حُسْن الفقه للسنة النبوية النظر فيما بني من الأحاديث على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة منصوص عليها في الحديث، أو مستنبطة منه، أو مفهومه من الواقع الذي سيق فيه الحديث. فالناظر المتعمقّ يجد أن من الأحاديث ما بُني على رعاية ظروف زمنية خاصة؛ ليحقق مصلحة معتبرة، أو يدرأ مفسدة معينة، أو يعالج مشكلة قائمة في ذلك الوقت. ويوضح الباحث ذلك بكون الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عاماً ودائماً، ولكنه عند التأمل يتبيّن أنه مبنيٌ على علة، يزول بزوالها كما يبقى ببقائها. ومن ثمّ لا بدّ لفهم الحديث فهماً سليماً دقيقاً من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، ثم يُمثل الباحث لهذه المسألة بمجموعة من الأحاديث النبوية التي تبيّن مدى أهمية فهم الآيات والأحاديث في ضوء أسباب ورودها والملابسات التي أحاطت بها.
ويختم الباحث هذه القضية بقواعد للتعامل مع النصوص. فهذه القواعد تتمركز في أنه إذا وردت نصوص شرعية تحتاج إلى التفسير والبيان فإن هذه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تُفسَّر، ويحدد نطاق تطبيقها ومجال إعمالها في ضوء المصالح التي وردت هذه النصوص لتحقيقها، والحِكَم التي جاءت من أجلها، وهذا المنهج لا يلتزم التفسير الحرفي للنص الشرعي، بل يستلهم الحِكَم والمصالح التي جاءت النصوص لغايتها، مسترشداً بما عرف من عادة الشرع في الأحكام، مستعيناً بروح الشريعة، وعللها المنصوصة، وأحكامها المستنبطة، فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة وتعرف إلى تلك المصلحة، فسّر النص في ضوئها، وحدَّد نطاق تطبيقه، ومجال إعماله على أساسها.
ثم يتناول الباحث الضابط الثاني، وهو جمع النصوص في الموضوع الواحد مع تعليلاتها، ورد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، ويرى الباحث من خلال هذا الضابط أن الاجتهاد في فقه واقع النص باستخراج العلة والوصف المؤثر الذي بُني عليه الحكم لجلب المصلحة ودفع المفسدة يُعين على فقه تطبيق النص بمعرفة المتغيرات التي قد تتشكل منها علَّة الحكم، أو التي لا تتحقق فيها علَّة الحكم؛ مما يستدعي حكماً آخر يحقق مقصود الشارع. ثم يُؤصِّل الباحث لهذا الضابط من الحديث النبوي الشريف، لينطلق بعد ذلك إلى التمييز بين الجانب التشريعي من السنة النبوية من الجانب غير التشريعي؛ فليس كل ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتصف بصفة واحدة من ناحية وجوب الالتزام، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يتحدث في الأصل بصفة التبليغ والتشريع، ولكنه قد يتصرف بمقتضى الخبرة الدنيوية كما في حادثة تأبير النخل، وبصفة القضاء كونه كان يقضي بين الخصوم، وبصفة كونه قائداً عسكرياً.
ثم عرض الباحث لضابط آخر هو التمييز بين الوسائل؛ أي: المسالك المفضية إلى تحقيق المصالح الشرعية، والمقاصد في الأحكام؛ إذ يرى أنَّ التمييز بين ما هو مقصد للحكم الشرعي مما هو وسيلة إليه له أهمية كبيرة في الاجتهاد؛ لأنَّ المقصد يتصف بالثبات والدوام، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العُرف أو غير ذلك من المؤثرات. ووجه الافتراق بين الوسائل والمقاصد هو نسبية الوسائل من حيث كونها وسيلة باعتبار، ومقصداً باعتبار آخر، والوجه الآخر كون الوسائل دون المقاصد رتبة.
وينتهي الباحث من هذا الضابط بعرض أمرين؛ أولهما: تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام، ودار حرب؛ إذ يرى أن هذه التسمية استندت إلى الواقع، ولم تستند إلى أساس شرعي، وكان الهدف منها ترتيب بعض الأحكام الشرعية في المعاملات ونحوها، وإذا تغير هذا الظرف فلا بأس من إيجاد تقسيمات جديدة تناسب الواقع الدولي. والأمر الآخر هو إثبات دخول الشهر القمري وخروجه بالحساب الفلكي؛ إذ عرض الباحث نظرة المتقدمين في إثبات دخول الشهر وخروجه بالحساب الفلكي، وتابع الباحث الشيخ أحمد شاكر في رأيه في هذه المسألة؛ إذ يري الشيخ أحمد شاكر أن أول الشهر يجب أن يكون في هذه الكرة الأرضية يوماً واحداً، ويجب الرجوع إلى نقطة واحدة معينة، وهي مكة المكرمة.
ويختم الباحث الضوابط بضرورة فهم النصوص في ضوء بُعدها الدلالي اللغوي والشرعي والعرفي، فكثير من الألفاظ والمصطلحات تغير مفهومها ومدلولاتها عما كانت عليه إبّان تشريعها وتنـزيلها؛ لذلك ينبغي على المجتهد فهم النصوص في ظل مدلولها إبّان التشريع؛ حتى لا تحرَّف الأحاديث والآيات عن مقاصدها وغاياتها.
وانتهى الباحث من هذا الفصل بعرض نماذج لبعض الاجتهادات التي لم تراعِ الضوابط المتقدمة؛ إذ يرى الباحث أنَّ الاجتهاد، حتى يكون صحيحاً، يجب أن يصدر من أهله، وأن يقع في محله، وأن يضبط بضوابط تقوم على الاستدلال والفهم السليم. فإذا لم تراعَ هذه الضوابط المتعلقة بالجوانب الثلاثة، كأن يصدر الاجتهاد من غير أهله، وكأن يقع في غير محله، كما في الاجتهاد مع النص القطعي الدلالة القطعي الثبوت، أو الحكم المجمع عليه، وكأن يتجاوز الاجتهاد الضوابط التي تقدمت، فالنتيجة: التناقض الصارخ، والاختلاف المذموم، وعدم المواءمة بين ثوابت الشرع ومقتضيات العصر.
في الختام، لم يقل المؤلف إنه أخرج فقه الواقع للوجود من العدم، بيد أنه قال: على الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت فقه الواقع، غير أنها لم تتعامل مع هذا الفقه وحدة واحدة متكاملة؛ لذا يمكن القول إن هذه الدراسة قامت لتسد حاجة ضرورية في المكتبة العربية الإسلامية، فضلاً عن كونها تتميز بمعالجة هذا الموضوع من شتى جوانبه بصورة أكثر شمولية واستيعاباً لجزئياته المترامية الأطراف، معالجة قائمة على الوصف والتحليل والاستنباط، وجاءت هذه الدراسة لتؤسس لمنهجية واضحة المعالم في التعامل مع النص في ضوء الواقع المتغير، إضافة إلى بيان آلية النظر في الأوصاف المؤثرة من الواقع في الاجتهاد الفقهي من خلال الاستنباط وفقه التطبيق، وهذه الدراسة إذ تؤكد على ضرورة الاستفادة من نتاجات الدراسات المتخصصة في جوانب المعرفة المتعددة لا سيّما الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية؛ لما لذلك من أهمية في فهم الواقع المراد بناء الحكم الفقهي عليه؛ تنير الطريق إلى دروب ما زال المجال فيها رحباً للبحث والدرس.
حمزة عبد الكريم حماد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
تتشكل بنية الفصل الأول "مفهوم فقه الواقع وأهميته وأدلة اعتباره" من مدخل عام وثلاثة أركان: مفهوم فقه الواقع، وثأهميته، وأدلة اعتباره. ويتناول الباحث مفهوم فقه الواقع من خلال تفكيك المصطلح والتعريف بجزئياته، ثم الانتقال إلى المصطلح المركب، ويخلص إلى أنَّ الواقع بوصفه مصطلحاً فقهياً، لم يكن له وجود، ولم تكن له هُوية واضحة المعالم عند المتقدمين، بيد أن المصطلح ظهر وسطع نجمه عند المعاصرين. ثم ينتقل الباحث إلى الحديث عن المصطلح بشقيه: "فقه الواقع" من جهة التركيب، حيث تنحصر آراء المعاصرين في جهتين؛ الأولى تُعرِّف المصطلح من وجهة نظر سياسية، في حين تقصره الثانية على النظرة الاجتهادية الفقهية، ويخلص الباحث بعد مناقشة التعريفات إلى أن هذا المصطلح يتكون من جناحين هما: فقه واقع النص، وفقه واقع تطبيق النص؛ إذ إنَّ فقه واقع النص يبيّن الأوصاف المؤثرة التي ذكرت في سياق تقرير الحكم المقتضية إعماله أو عدم إعماله، أمَّا فقه واقع تطبيق النص فيشمل الظروف والأحوال النازلة التي يطالب الفقيه باستكناهها؛ استظهاراً للأوصاف المؤثرة التي يدار عليها الحكم، ومجموع الأمرين؛ أي فقه واقع النص، وفقه واقع تطبيق النص، وهو الذي قصده الباحث بفقه الواقع.
أما أهمية فقه الواقع فتظهر من خلال النظر في مآلات إعمال هذا الفقه أو إهماله؛ ففهم النص ومعرفته يثمران نضجاً في فهم الدين؛ نظراً لأنَّ بعض النصوص لا يمكن معرفتها حق المعرفة إلا بفهم السياق، والظروف، والملابسات التي أدت إلى نـزولها أو ورودها، وفي هذا المقام يستدل الباحث برأي الإمام الشاطبي؛ إذ جعل معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها – في عصر التنـزيل- سبباً من أسباب الصواب في فهم القرآن. وتظهر كذلك هذه الأهمية في تطبيق الأحكام، وإنـزال النص على الواقع؛ فعمل الفقيه يشبه إلى حدٍ كبير عمل الطبيب؛ ذلك أن الطبيب قبل أن يصف الدواء عليه أن يُشخِّص الداء، ويتعرف إلى حال المريض من جميع جوانبه. كذلك الفقيه عليه أن يحيط بالواقع المراد بيان الحكم الشرعي فيه من جميع جوانبه؛ كي يستطيع إنـزال النص المناسب على الواقع، فالفقه الصحيح للنص، في الكتاب والسنة، يقتضي فهم الواقع محل النص في ضوء الاستطاعات المتوفرة، ويمكن القول إنَّ انتهاء الباحث إلى أن هذه القضية هي المعادلة المطلوبة للاجتهاد؛ كي يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحي مرجعيته، ويقوَّم الواقع بقيم الدين فهماً وتنـزيلاً.
ومن جوانب الأهمية التي تناولها الباحث، معالجة المسائل المستجدة؛ إذ يتعين قبل النطق بالحكم في هذه المسائل فَهْم المسألة فهماً متكاملاً؛ لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فاستخلاص الحكم الشرعي للمسائل المنظورة يقوم على ثنائية؛ تتمثل بتحريك النص الثابت والقواعد التشريعية العامة، مع استصحاب لمقاصد الشارع على الوقائع المتغيرة. وهذه العملية تشمل أمرين؛ الأول: استخراج دلالات النص بطرق الاستدلال المعروفة في علم أصول الفقه. والثاني: تكييف الواقعة التي يطبق عليها حكم النص، أي: صياغة الواقعة صياغة قانونية، والتعبير عنها ووصفها حسبما يتجمع لها من خصائص؛ أي من المفاهيم القانونية المطروحة، فهي تعبير فقهي أو قانوني عن الواقعة، وهذا يتضمن تحرير الواقعة الحادثة بتفصيلاتها، ورفعها إلى مرتبة من مراتب التجريد القانوني. وبهذين العملين يلتقي حكم النص الثابت مع الواقع المتغير. واختتم الباحث جوانب الأهمية في اختبار صحة الفتوى، فلكل حكم فقهي أثر في الواقع قد يكون إيجابياً؛ إذا كان استخلاص الفتوى جرى وفقاً لقواعد منهجية ضابطة، وقد يحدث خلل في أي مستوى من المستويات؛ فيكون الأثر المترتب على الفتوى أو على الحكم في الواقع أثراً سلبياً.
وقد بنى الباحث تأصيله لفقه الواقع على أربعة أركان هي: استقصاء الأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية، واجتهادات الصحابة، ثم الأدلة التبعية. ومن الأدلة التي أوردها الباحث لتأصيله من خلال آي القرآن الكريم، المنهج التشريعي في القرآن، ومراعاته للواقع إبَّان نـزول النصوص، ويظهر ذلك في أمثلة عدة، من أبرزها: التدرج في الأحكام، فلم يكن التشريع الإسلامي بمنأى عن حيثيات الواقع، وقد أخذ بأيدي المكلفين خطوة خطوة؛ ليصل إلى الهدف المرجو، وأكبر مثالٍ على ذلك المنهج التشريعي في تحريم الخمر، الذي سلك الشارع فيه مسلك التدرج في التحريم.
أما السنة النبوية الشريفة فقد كان لمعرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بواقع الصحابة وأحوالهم وتقدير ظروفهم؛ أثر كبير في البناء التشريعي، وجاء الركن الثالث من أركان التأصيل لهذا الفقه من خلال اجتهاد الصحابة، ويجد الباحث من خلال نظره في اجتهادات الصحابة أثراً كبيراً لفقه الواقع، فقد كانوا يتعاملون مع الواقع فهماً وتنـزيلاً للأحكام على هذا الواقع، بما يحقق مقاصد الشارع والمصلحة المرجوة.
أما الركن الأخير في هذا البناء التأصيلي فقد جاء لأدلة اعتبار فقه الواقع من خلال الأدلة التبعية؛ إذ يرى الباحث أنَّ اعتبار التشريع للواقع عند بناء الأحكام هو الذي حدا إلى وجود الخطط التشريعية التي تهدف إلى التعامل مع الواقع بإنتاجاته المختلفة؛ مما يُعطي المجتهد مرونة منضبطة في التعامل مع النصوص ضمن البعد المقاصدي والمصلحي؛ وهذا يجعل التطبيق الآني للنصوص مستبعداً. ولذلك نجد من المصادر التي تعالج الواقع، وتنظر إلى الظروف المحيطة عند الاجتهاد ما يُغني الشريعة الإسلامية، ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان، ومن هذه المصادر: الاستحسان، والاستصلاح، وسد الذريعة، والعُرف، وهي مصادر تشريعية، أو كما يعبر عنها الباحث بأنها خطط تشريعية تتعامل مع الواقع، وتعالج التطبيق الآني للنصوص، الذي قد يذهب بحكمة التشريع ومقاصده.
وقد تناول الفصل الثاني "أثر فقه الواقع في الاجتهاد وبناء الأحكام" فعرض أثر الواقع في تكوين شخصية المجتهد الفقهية، والنصوص التي يؤثر فيها البُعد الزماني والمكاني في التشريع، ثم الأحكام المعللة بالمصالح والأعراف والذرائع وفقه تطبيقها. ثم عرض عوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع، وأثر الواقع في الترجيح الفقهي، وختم الفصل بعرض نماذج لأثر فقه الواقع في الاجتهاد والفتوى.
ويسنتطق الباحث ضمن حديثه عن أثر الواقع في الاجتهاد وبناء الأحكام، الظروف المحيطة بنشأة بعض المذاهب الفقهية، ومدى انعكاس الواقع على فتاوى أئمة المذاهب، أما النصوص التي تتناول أحكاماً تخضع للاجتهاد ضمن البعدين الزماني والمكاني فقد قسمها الباحث إلى نوعين: نوع يؤثر فيه البعد الزماني والمكاني من حيث بقاء الالتزام به، وهو المتعلق بالأفعال الجِبِلِّيِّة المتعلِّقة بالرسول -عليه الصلاة والسلام- كملبسه ومأكله ومشربه، ونوع يؤثر فيه البعد الزماني والمكاني من حيث التنـزيل، وهي النصوص التي تناولت جانب الإفتاء والإمامة والقضاء.
أما المسألة الثالثة وهي الأحكام المعللة بالمصالح والأعراف والذرائع وفقه تطبيقها، فقد بدأ الباحث بالتأسيس لها اعتماداً على أن الحكم بِعِلَّتِه وجوداً وعدماً؛ قدّم للفقهاء منهجية منضبطة في تطبيق الأحكام الشرعية في الأزمنة والأماكن والأحوال المتغايرة. وعلى الفقيه استخراج العلة من النص بطرقه ومسالكه المعروفة، والتحقق من وجود العلة في الفرع المقيس، الذي يراد تطبيق الحكم عليه؛ تحقيقاً لمقصود الشارع من جلب المصلحة ودفع المفسدة. ثم يمضي الباحث إلى الأحكام المبنية على العُرف، التي تتغير بتغير العُرف، فما بُني من النصوص والأحكام على عُرف زمني كان قائماً في عصر النبوة، ثم تغير في عصر لاحق؛ ينبغي أن يعاد النظر فيه بناءً على العُرف الجديد، وقد كَثّف الباحث حديثه في هذه النقطة حول العُرف الحادث وعلاقته مع النص التشريعي؛ لِما للعُرف الحادث من علاقة بفقه الواقع المتغير، الذي يعود على بعض الأحكام بالتغيير.
ثم أفرد الباحث مسألة الأحكام المعلَّلة بسد الذريعة وتغير حكمها بانتفاء العلة بالبحث؛ لِما لسدّ الذريعة من أهمية في الاجتهاد، من خلال النظر إلى واقع تطبيق النص، وما سيؤول إليه التطبيق من نتائج تحكم مشروعية الفعل من عدمه عند بناء الحكم الشرعي. وقد استشهد الباحث لهذا الأصل بجملة أدلة من القرآن والسنة. ثم انطلق إلى مسألة أخرى، وهي عوامل تغير الأحكام الاجتهادية في الواقع؛ فعرض من خلالها تغير الأحكام الاجتهادية بسبب فساد الزمان، وتغيير الأحكام الاجتهادية بسبب التقدم العلمي وتطور الوسائل، والفرق بين الحكم الشرعي والفتوى والقضاء، وأثر فقه الواقع في ترجيح الآراء الفقهية، ومعنى مراعاة الخلاف، وانتهى بالعوامل التي تؤثر في الاجتهاد الانتقائي.
ثم عرض للفرق بين الحكم الشرعي والفتوى والقضاء، وخلص إلى أن الحكم الشرعي يتضمن الحكم المجرّد، والفتوى والقضاء يُبنيان أساساً على الواقع، فيجعل الظروف المحيطة بالواقعة عنصراً أساسياً في بناء الحكم الشرعي؛ مما يستدعي الاقتضاء التبعي للحكم. وعمل الفقيه والقاضي هنا يكمن في التوفيق بين الحكم التشريعي العام والحكم التطبيقي الخاص، وهذا يحتاج إلى تحقيق المناط العام وتحقيق المناط الخاص، وكل ذلك من صلب العلم بالواقع.
واختتم الباحث الفصل الثاني بعرض نماذج لأثر فقه الواقع في الاجتهاد والفتوى، وقد استعرض الباحث نماذج مختلفة عند المتقدمين والمتوسطين والمتأخرين في كيفية اعتبار الواقع والظروف المحيطة عند الاجتهاد، ووضعها في الحسبان عند الإفتاء.
وقد خصص الباحث الفصل الأخير من هذه الدراسة "ضوابط الاجتهاد في الواقع المعاصر" لمعالجة قضية الضوابط؛ إذ يؤسس الباحث على ما سبق أن بيّنه في الفصلين السابقين من هذه الدراسة من أنَّ للواقع دوراً كبيراً في تطبيق الأحكام، وأنَّ الاجتهاد مستمر إلى قيام الساعة ؛ ليخلص إلى الحديث عن الضوابط التي تكفل اجتهاداً صحيحاً يراعي الثوابت والمتغيرات، وتكفلُ فهماً سليماً للنصوص وكيفية تطبيقها في واقع متغير وفي ظروف متغايرة. ويرى أن الأمر يستلزم تفكيكاً لعناصر الاجتهاد والضوابط التي ينبغي مراعاتها لكل عنصر من هذه العناصر المتمثلة في المجتهد نفسه والشروط الواجب توفرها فيه، وكذا الآلية الصحيحة والضوابط في التعامل مع النصوص في الوقائع المتغايرة، وكذلك الواقعة التي يراد معرفة الحكم الشرعي لها.
ويعزو الباحث التناقض في كثير من الفتاوى إلى عدم وجود المنهجية المتزنة في التعامل مع عناصر الاجتهاد؛ ذلك أن البعض يدعو إلى تحييد النصوص إزاء الواقع الجديد، وبناء الأحكام على مطلق المصلحة في نظره، ومنهم من يغض الطرف عن الواقع برمته ويدعو إلى تطبيق النصوص تطبيقاً آنياً دون مراعاة المقاصد، ودون فقه الموازنات والأولويات؛ وربما يخرج عن مقصود الشارع، ويؤدي إلى المشقة والعنت المنهي عنه شرعاً.
وبناء على ما سبق فقد تناول الباحث في هذا الفصل مسألتين؛ الأولى: شروط المجتهد ومحل الاجتهاد، والثانية: الضوابط التي ينبغي للمجتهد أن يراعيها في فقهه للنصوص في ظل الواقع المتغير. وتتكون بنية المسألة الأولى من جزأين، هما: شروط المجتهد، ومحل الاجتهاد وما يتعلق فيه. أما شروط المجتهد فيرى الباحث أن النصوص الشرعية ثابتة، والوقائع متغايرة، والأحداث متسارعة، ومن ثمّ كان لا بدّ لمن يتصدىّ للاجتهاد في الواقع أن يتحمل هذا العبء، وأن يكون مزوداً بآلية صحيحة في التعامل مع النصوص مبنية على أسس من الاستدلال سليمة؛ ليستخرج مكنونات النص، بما يحقق مقاصده وغاياته وأهدافه. ويستنبط الباحث شروط المجتهد من خلال بعض النصوص الواردة عن بعض السابقين، كالشاطبي مثلاً، الذي ركَّز على شرط فهم مقاصد الشريعة على كمالها، الأمر الذي يستلزم فهم الجزئيات في ضوء الكليات، ويوجه الاستنباط باتجاه مقاصد الشريعة بما يجلب المصلحة ويدفع المفسدة، وهذا الشرط يؤسس لمنهجية في الاستنباط، لا سيّما في فقه واقع النص، بربط الأحكام بمقاصدها، ومن ثمّ استنباط المناط أو تنقيحه تبعاً لمقصد الشارع.
أما الجزء الآخر في هذه المسألة فهي محل الاجتهاد وما يتعلق فيه؛ إذ يرى الباحث أن أهمية هذا الضابط تكمن في الاجتهاد المعاصر، بأن يكون الاجتهاد في النص ولو كان قطعياً مُفسِّراً؛ وذلك بمعرفة شروط تطبيقه وظروف تنـزيله على الواقع العملي، بحيث يستخرج مقصده ويحقق مأربه، وذلك يتطلب فقه الواقع المتعلق بالنصوص وفقه مقاصدها وعللها، ويتطلب فقه الواقع التطبيقي بمعرفة الظروف المحيطة عند التطبيق، وفقه الموازنات والأولويات بقياس النتائج المترتبة عند التطبيق، وهو ما يعبر عنه أصولياً بالنظر إلى مآلات الأفعال، وجملة ذلك من فقه الواقع.
وفيما يتعلق بالضوابط التي ينبغي للمجتهد أن يراعيها في فقهه للنصوص في ظل الواقع المتغير؛ يرى الباحث أن الاجتهاد إعمال للنصوص وفحواها ومقاصدها في الواقع، فكيف نستثمر النصوص الثابتة لتؤتي ثمارها ضمن منهجية واضحة تراعي إعمال النصوص وتحقيق مقاصدها، ولا تغفل المتغيرات والظروف المتغايرة، وهي المعادلة التي يؤكد الباحث ضرورة تفعيلها في ظل الاجتهاد المعاصر، ثم يتوصل الباحث إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية تتعامل مع النصوص لاستثمار مقاصد النص، وإنـزاله من الفقه النظري إلى الواقع التطبيقي تحقيقاً عملياً؛ لكون الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الضوابط هي: فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، وجمع النصوص في الموضوع الواحد مع تعليلاتها، ورد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، ثم التمييز بين الجانب التشريعي من السنة النبوية من الجانب غير التشريعي، وكذلك التمييز بين الوسائل والمقاصد في الأحكام، وأخيراً فهم النصوص في ضوء بعدها الدلالي اللغوي والشرعي والعرفي، واختتم الباحث هذه المسألة بعرض نماذج لبعض الاجتهادات التي لم تراعِ الضوابط المتقدمة.
أما الضابط الأول فهو فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها؛ ويستند الباحث في هذا المقام إلى رأي الدكتور القرضاوي في أن من حُسْن الفقه للسنة النبوية النظر فيما بني من الأحاديث على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة منصوص عليها في الحديث، أو مستنبطة منه، أو مفهومه من الواقع الذي سيق فيه الحديث. فالناظر المتعمقّ يجد أن من الأحاديث ما بُني على رعاية ظروف زمنية خاصة؛ ليحقق مصلحة معتبرة، أو يدرأ مفسدة معينة، أو يعالج مشكلة قائمة في ذلك الوقت. ويوضح الباحث ذلك بكون الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عاماً ودائماً، ولكنه عند التأمل يتبيّن أنه مبنيٌ على علة، يزول بزوالها كما يبقى ببقائها. ومن ثمّ لا بدّ لفهم الحديث فهماً سليماً دقيقاً من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، ثم يُمثل الباحث لهذه المسألة بمجموعة من الأحاديث النبوية التي تبيّن مدى أهمية فهم الآيات والأحاديث في ضوء أسباب ورودها والملابسات التي أحاطت بها.
ويختم الباحث هذه القضية بقواعد للتعامل مع النصوص. فهذه القواعد تتمركز في أنه إذا وردت نصوص شرعية تحتاج إلى التفسير والبيان فإن هذه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تُفسَّر، ويحدد نطاق تطبيقها ومجال إعمالها في ضوء المصالح التي وردت هذه النصوص لتحقيقها، والحِكَم التي جاءت من أجلها، وهذا المنهج لا يلتزم التفسير الحرفي للنص الشرعي، بل يستلهم الحِكَم والمصالح التي جاءت النصوص لغايتها، مسترشداً بما عرف من عادة الشرع في الأحكام، مستعيناً بروح الشريعة، وعللها المنصوصة، وأحكامها المستنبطة، فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة وتعرف إلى تلك المصلحة، فسّر النص في ضوئها، وحدَّد نطاق تطبيقه، ومجال إعماله على أساسها.
ثم يتناول الباحث الضابط الثاني، وهو جمع النصوص في الموضوع الواحد مع تعليلاتها، ورد الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات، ويرى الباحث من خلال هذا الضابط أن الاجتهاد في فقه واقع النص باستخراج العلة والوصف المؤثر الذي بُني عليه الحكم لجلب المصلحة ودفع المفسدة يُعين على فقه تطبيق النص بمعرفة المتغيرات التي قد تتشكل منها علَّة الحكم، أو التي لا تتحقق فيها علَّة الحكم؛ مما يستدعي حكماً آخر يحقق مقصود الشارع. ثم يُؤصِّل الباحث لهذا الضابط من الحديث النبوي الشريف، لينطلق بعد ذلك إلى التمييز بين الجانب التشريعي من السنة النبوية من الجانب غير التشريعي؛ فليس كل ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتصف بصفة واحدة من ناحية وجوب الالتزام، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يتحدث في الأصل بصفة التبليغ والتشريع، ولكنه قد يتصرف بمقتضى الخبرة الدنيوية كما في حادثة تأبير النخل، وبصفة القضاء كونه كان يقضي بين الخصوم، وبصفة كونه قائداً عسكرياً.
ثم عرض الباحث لضابط آخر هو التمييز بين الوسائل؛ أي: المسالك المفضية إلى تحقيق المصالح الشرعية، والمقاصد في الأحكام؛ إذ يرى أنَّ التمييز بين ما هو مقصد للحكم الشرعي مما هو وسيلة إليه له أهمية كبيرة في الاجتهاد؛ لأنَّ المقصد يتصف بالثبات والدوام، والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العُرف أو غير ذلك من المؤثرات. ووجه الافتراق بين الوسائل والمقاصد هو نسبية الوسائل من حيث كونها وسيلة باعتبار، ومقصداً باعتبار آخر، والوجه الآخر كون الوسائل دون المقاصد رتبة.
وينتهي الباحث من هذا الضابط بعرض أمرين؛ أولهما: تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام، ودار حرب؛ إذ يرى أن هذه التسمية استندت إلى الواقع، ولم تستند إلى أساس شرعي، وكان الهدف منها ترتيب بعض الأحكام الشرعية في المعاملات ونحوها، وإذا تغير هذا الظرف فلا بأس من إيجاد تقسيمات جديدة تناسب الواقع الدولي. والأمر الآخر هو إثبات دخول الشهر القمري وخروجه بالحساب الفلكي؛ إذ عرض الباحث نظرة المتقدمين في إثبات دخول الشهر وخروجه بالحساب الفلكي، وتابع الباحث الشيخ أحمد شاكر في رأيه في هذه المسألة؛ إذ يري الشيخ أحمد شاكر أن أول الشهر يجب أن يكون في هذه الكرة الأرضية يوماً واحداً، ويجب الرجوع إلى نقطة واحدة معينة، وهي مكة المكرمة.
ويختم الباحث الضوابط بضرورة فهم النصوص في ضوء بُعدها الدلالي اللغوي والشرعي والعرفي، فكثير من الألفاظ والمصطلحات تغير مفهومها ومدلولاتها عما كانت عليه إبّان تشريعها وتنـزيلها؛ لذلك ينبغي على المجتهد فهم النصوص في ظل مدلولها إبّان التشريع؛ حتى لا تحرَّف الأحاديث والآيات عن مقاصدها وغاياتها.
وانتهى الباحث من هذا الفصل بعرض نماذج لبعض الاجتهادات التي لم تراعِ الضوابط المتقدمة؛ إذ يرى الباحث أنَّ الاجتهاد، حتى يكون صحيحاً، يجب أن يصدر من أهله، وأن يقع في محله، وأن يضبط بضوابط تقوم على الاستدلال والفهم السليم. فإذا لم تراعَ هذه الضوابط المتعلقة بالجوانب الثلاثة، كأن يصدر الاجتهاد من غير أهله، وكأن يقع في غير محله، كما في الاجتهاد مع النص القطعي الدلالة القطعي الثبوت، أو الحكم المجمع عليه، وكأن يتجاوز الاجتهاد الضوابط التي تقدمت، فالنتيجة: التناقض الصارخ، والاختلاف المذموم، وعدم المواءمة بين ثوابت الشرع ومقتضيات العصر.
في الختام، لم يقل المؤلف إنه أخرج فقه الواقع للوجود من العدم، بيد أنه قال: على الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت فقه الواقع، غير أنها لم تتعامل مع هذا الفقه وحدة واحدة متكاملة؛ لذا يمكن القول إن هذه الدراسة قامت لتسد حاجة ضرورية في المكتبة العربية الإسلامية، فضلاً عن كونها تتميز بمعالجة هذا الموضوع من شتى جوانبه بصورة أكثر شمولية واستيعاباً لجزئياته المترامية الأطراف، معالجة قائمة على الوصف والتحليل والاستنباط، وجاءت هذه الدراسة لتؤسس لمنهجية واضحة المعالم في التعامل مع النص في ضوء الواقع المتغير، إضافة إلى بيان آلية النظر في الأوصاف المؤثرة من الواقع في الاجتهاد الفقهي من خلال الاستنباط وفقه التطبيق، وهذه الدراسة إذ تؤكد على ضرورة الاستفادة من نتاجات الدراسات المتخصصة في جوانب المعرفة المتعددة لا سيّما الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية؛ لما لذلك من أهمية في فهم الواقع المراد بناء الحكم الفقهي عليه؛ تنير الطريق إلى دروب ما زال المجال فيها رحباً للبحث والدرس.
حمزة عبد الكريم حماد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: قراءة في كتاب: فقه الواقع وأثره في الاجتهاد تأليف: ماهر حسين حصوة
الكتاب غير موجةود في مصر للأسف الشديد .. لقد سألتُ عنه طوب الأرض !!
<br>
يحيى رضا جاد- كـاتــــب
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 36
نقاط : 5167
السٌّمعَة : 3
مواضيع مماثلة
» كتاب مبادئ في تأليف الخرائط للدكتور محمد الناصر عمران
» قراءة فى كتاب الزيادات في كتاب الفتن والملاحم الطارقات
» قراءة في كتاب جزء فيه أحاديث مستخرجة من كتاب الخلافة
» قراءة فى كتاب أين القمر؟
» قراءة فى كتاب العرف
» قراءة فى كتاب الزيادات في كتاب الفتن والملاحم الطارقات
» قراءة في كتاب جزء فيه أحاديث مستخرجة من كتاب الخلافة
» قراءة فى كتاب أين القمر؟
» قراءة فى كتاب العرف
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى