قضية الحاكمية وما أثارته من جدل
صفحة 1 من اصل 1
قضية الحاكمية وما أثارته من جدل
د. يوسف القرضاوي
http://www.qaradawi.net/component/content/article/5091.html
ومما عيب على الأستاذ المودودي: أنه أول مَن نادى بفكرة (الحاكمية)، التي اقتبسها منه الشهيد سيد قطب، ويحملون هذه الفكرة وزر (التكفير) وجماعاته، كما أنها قديما كانت سبب فتنة الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله!
صحيح أن قضية (الحاكمية) قد ألحَّ عليها الأستاذ المودودي إلحاحا بيِّنا، حتى تكاد تُعتبر هي المحور المركزي الذي يدور حوله كثير من أفكاره ونظراته.
والفكرة في ذاتها إسلامية أصولية صحيحة، وقد سبق أن قرَّرها علماء أصول الفقه من قرون، فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يتحدَّث في مقدِّمات كتابه الشهير (المستصفى من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلُّق بالحاكم وهو الشارع، وبالمحكوم عليه وهو المكلَّف، وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف، ثم يقول: (وفي البحث عن الحكم يتبيَّن أن (لا حكم إلا لله)، وأنه لا حكم للرسول، ولا للسيِّد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه، لا حكم لغيره)[1].
ثم يعود إلى الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجَّه إلى المكلَّفين، فيقول: (أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمَن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له.
أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم. ولولا ذلك لكان كلُّ مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجَب عليه أن يقبل عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة مَن أوجب الله تعالى طاعته)[2].
إن إثبات (الحاكمية) لله أمر مقرَّر في الإسلام، وانفراد الله تعالى بالحاكمية لخلقه أحد عناصر التوحيد التي قرَّرها القرآن، وخصوصا في (سورة الأنعام) وهي ثلاثة عناصر أساسية:
1ـ ألا يتخذ غير الله وليًّا، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:14].
2- ألا يبتغي غير الله حَكَمًا، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114].
3- ألا يبتغي غير الله ربًّا، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164].
إلى عدد من الآيات الأخرى التي تُثبت له الاختصاص بالحكم سبحانه، وتنفيه عن غيره، كقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، {إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
وإن كان (الحكم) في الآيات الأخيرة قد يُراد به (الحكم الكوني)، أي التصرُّف المطلق في الكون، بحيث إذا قضى أمرا قال له: كن. فيكون. لا (الحكم الأمري) التشريعي، وهو المراد من كلمة (الحاكمية).
وعلى كلِّ حال، إذا كان المراد من الحاكمية: السيادة والهيمنة التشريعية العليا والمطلقة، التي تملك وحدها الأمر والنهي، والإذن والمنع، والتحليل والتحريم، والإلزام والإيجاب. فهذه لا شك أنها لله وحده، فهو الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وله وحده أن يكلِّف خلقه بما يشاء، ويعفيهم مما شاء.
وأما إن كان المراد بهذه (الحاكمية): منع البشر من التقنين مطلقا، ورفض أيِّ حاكمية بشريَّة مقيَّدة، كما كان رأي الخوارج الساذج قديما، حينما رفضوا التحكيم بين المسلمين فيما تنازعوا فيه، وقالوا: لا حكم إلا لله. واتهموا الإمام المرتضى عليًّا رضي الله عنه، بأنه حكَّم الرجال في دين الله. إن كان هذا هو المراد بالحاكمية، كما قد يُفهم أحيانا من بعض عبارات العلامة المودودي، فهو أمر مرفوض. وقد ردَّ حَبر الأمة ابن عباس على الخوارج، وحاجَّهم بكتاب الله الذي شرع التحكيم بين الزوجين إذا خيف شقاق بينهما، وفي قتل المحرم للصيد: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95].
ويجب على الدراس المنصف هنا :أن يضمَّ كلام المودودي بعضه إلى بعض، ولا يكتفي بكتاب عن آخر، ولا بفترة عن أخرى، فربَّما صنَّف بعض الكتب والرسائل وهو في سنِّ الشباب الدافق المتحمِّس، قبل تقسيم الهند وظهور دولة باكستان الإسلامية، وقبل اكتمال نضجه وتجربته، فقد كتب رسالة (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) في سنة 1940م، وهي في الأصل مقالة مطوَّلة نُشرت في مجلة (الفرقان)، في عددها الخاص بذكرى الإمام المجدِّد ولي الله الدهلوي (ت1176هـ).
نطاق التشريع
انظر ما قاله المودودي بصراحة في كتابه عن (الحكومة الإسلامية) عن التشريع ودور الأمة فيه، فبعد أن تحدَّث عن الحاكمية ومعناها قال: (قد يظنُّ البعض حين يسمع هذه الحقائق الرئيسية: أن الدولة الإسلامية بهذه الصورة لا مجال فيها أمام الإنسان على الإطلاق لقيامه بالتشريع والتقنين؛ لأن الله في هذه الدولة هو المشرِّع الوحيد، ولا عمل للمسلمين سوى اتِّباع قانونه وتشريعاته، التي قدَّمها لهم الرسول عليه الصلاة والسلام.
غير أن الإسلام في الواقع لم يغلق باب التشريع تماما في وجه الإنسان، وإنما حدَّده وضيَّق إطاره بأن جعل الحاكمية والسيادة للقانون الإلهي.
فما هي الدائرة التي يقوم الإنسان فيها بالتشريع في ظلِّ هذا القانون الأعلى؟ هذا ما سأوضحه باختصار فيما يلي:
توضيح الأحكام
ثمة قسم من أمور الحياة الإنسانية أصدر القرآن والسنة فيه حكما قاطعا، أو وضعا له قاعدة خاصَّة، وفي مثل هذه الأمور لا يستطيع أيُّ فقيه أو قاضٍ أو مشرِّع أن يغيِّر ما صدر فيها من أحكام، أو ما تقرَّر لها من قواعد.
لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع التحرُّك في ميدان التشريع في هذه الأمور، فدائرة عمله فيها أن يعرف جيِّدا الحكم الصادر، ثم يحدِّد ويعيِّن مفهومه وأصله، ويتحقَّق من الظروف والحالات التي يختصُّ بها هذا الحكم، ثم يستخرج بالفعل الأشكال والصورة التي ينطبق فيها هذا الحكم على ما قد يقع من المسائل مستقبلا، ويقوم بوضع الدقائق والتفاصيل الجزئية لمجمل الأحكام والقواعد في الحالات الاستثنائية.
القياس
كما تضمُّ حياة الإنسان قسما آخر، يشمل المسائل التي لم تُدْلِ الشريعة فيها بحكم، لكنها أصدرت حكما في أمور تشابهها. وممارسة التشريع في هذا القسم تكون بفَهم أسباب الأحكام وعِللها فَهما دقيقا، وتنفيذها في الأمور التي تكمن فيها نفس العلل والدواعي، وتحديد ما هو مستثنى من هذه الأمور، وما يخلو حقيقة من أسباب الحكم ودواعيه[3].
الاستنباط
كما أن هناك قسما ثالثا، لم تبيِّن فيه الشريعة أحكاما بعينها، وإنما أعطت في شأنه بعض المبادئ العامَّة الجامعة، أو بيَّن الشارع المستحب المطلوب فعله، والمكروه الذي ينبغي منعه وإزالته.
ومهمَّة التشريع في هذه الدائرة: فَهم مبادئ الشريعة وأصولها في هذه المسائل، وكذلك قصد الشارع مما قرَّره من مبادئ، ثم وضع القوانين في الأمور الواقعية الفعلية، بحيث تُبنى على ما أوضحته الشريعة من أصول ومبادئ، وبحيث يتحقَّق منها قصد الشارع وهدفه.
دائرة التشريع الحر
كذلك ثمة قسم من حياة الإنسان سكتت الشريعة عنه تماما، فليس فيه حكم صريح أو قياسي أو مستنبط. وهذا المسكوت في حد ذاته دليل على أن الحاكم الأعلى أعطى الإنسان حق إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم.
ومن ثَمَّ يمارس الإنسان التشريع فيها بحريَّة تامَّة، شريطة أن يتطابق ما يشرعه ويتلاءم مع رُوح الإسلام ومبادئه العامة، ولا يشذُّ في مزاجه عن مزاج الإسلام العام، الذي يكسو نظام الحياة الإسلامي ويسوده.
الاجتهاد
إن التشريع الذي يحرِّك نظام الإسلام القانوني وينمِّيه، ويضيف إليه بمرور وتطوُّر ظروف الزمن وحالاته: إنما يتمُّ عن طريق بحث علمي خالص، وتحقيق عقلي دقيق، ويسمى بالاصطلاح الإسلامي (الاجتهاد).
والمعنى اللغوي لهذا اللفظ: (بذل قُصارى الجهد في إنجاز عمل ما).
ولكن معناه الاصطلاحي: (بذل قُصارى الجهد لمعرفة حكم الإسلام وهدفه في مسألة معيَّنة).
وقد استعمل البعض اصطلاح (الاجتهاد) خطأ في معنى حرية استخدام الرأي، بيد أن أيَّ إنسان يقف على نوعية القانون الإسلامي، هيهات أن يقع في خطأ القول بأن مثل هذا النظام القانوني يتَّسع لأيِّ نوع من الاجتهاد الحرِّ تماما، إذ يشكِّل القرآن والسنة نواة هذا النظام وأصله.
ولا بد لمَن يمارس التشريع: إما أن يتَّخذ هذا الأصل (الكتاب والسنة) أساسا للتشريع، أو أن يظلَّ داخل إطار تلك الحدود التي تتاح له فيها حرية إعمال رأيه. أما ما يحدث من اجتهاد بعد الاستغناء عن هذا الأصل، فهو ليس اجتهادا إسلاميًّا، ولا مكان له في نظام الإسلام القانوني)[4].
ويؤكِّد المودودي: (إن الاجتهاد الصادر عن تأويلات، وتفاسير عشوائية - دون مراعاة لهذه الاحتياطات والشروط - من المستحيل أن يقبله ضمير المسلمين الاجتماعي، أو أن يصبح جزءا حقيقيًّا من نظام الإسلام القانوني، حتى ولو صار في منزلة القانون عن طريق القوة السياسية، وسرعان ما يُلقى به في سلَّة المهملات، بمجرَّد الإطاحة بالقوة السياسية التي نفَّذته)[5].
كيف تصبح للاجتهاد منزلة القانون؟
ويعرض الأستاذ المودودي هنا لمسألة هامَّة، وهي: كيف تصبح الاجتهادات الفقهية قانونا، أو لها منزلة القانون؟ وأجاب بقوله: (توجد في نظام القانون الإسلامي عدَّة حالات صارت لبعض الاجتهادات فيها منزلة القانون.
الأولى: ما يُجمع عليه كافَّة أهل العلم في الأمة.
والثانية: الاجتهادات الشخصية أو الجماعية، التي يبدأ الناس من أنفسهم في اتِّباعها، بعد أن تلقى بينهم قَبولا عامًّا، ومثال ذلك: اتخاذ بعض المدن الإسلامية الكبرى الفقه الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي قانونا لها.
والثالثة: الاجتهادات التي اعترفت بها أيَّة حكومة إسلامية، وأقرَّتها قانونا لها، مثلما اتَّخذت الدولة العثمانية الفقه الحنفي قانونا لها[6].
والرابعة: الاجتهادات التي تقوم بها أيَّة مؤسسة إسلامية ذات صفة دستورية في مجال السياسة.
أما ما يقوم به العلماء من اجتهادات - عدا هذه الحالات - فلا يتعدَّى منزلة الفتاوى.
والأحكام التي يصدرها القضا، لا بدَّ من تنفيذها كقوانين في قضايا خاصَّة، ولها صفة السوابق والنمطية (Precedents)، لكنها ليست قوانين بالمعنى الكامل الصحيح.
وحتى أحكام وأوامر الخلفاء الراشدين التي كانوا يصدرونها بوصفهم قضاة، لم يكن يُعترف بها قوانين في الإسلام؛ لأن نظام القانون الإسلامي يخلو من وجود قوانين من صنع القضاة (Judge Made Law))[7].
أعتقد أننا وجدنا المودودي - في هذه النقول التي أوردناها - ينظر إلى موضوع الحاكمية نظرتنا إليها، ويتيح للعقل المسلم أن يكون له دور في التشريع أو التقنين للأمة عن طريق الاجتهاد، الذي لا زال بابه مفتوحا لأهله، في محلِّه.
وإنما يُغلق في وجوه الدخلاء، الذين ليسوا أهلا للاجتهاد، أو الذين يخرجون عن دائرة ما يسوغ الاجتهاد فيه، إلى الدائرة المغلقة التي لا تقبل الاجتهاد، لأنها دائرة (الثوابت) القطعية، التي حسمتها النصوص المحكمات.
وقد لخَّص المودودي (مبادئ التشريع) في الإسلام في هذه العبارة الموجزة: (أن أدوا ما ذكر من العبادات، ولا تبتدعوا طريقا للعبادة.
أما في مجال المعاملات، فما صدر فيه حكم فأطيعوه ونفِّذوه، وما نُهيتم عنه فانتهوا، وما اختار الشارع (الله ورسوله) الصمت إزاءه، فأنتم أحرار في أمره، بما يتَّفق ونظرتكم الصائبة، على ألا تشذُّوا فيه عن رُوح الإسلام العامة)[8].
[1]- المستصفى لأبي حامد (1/8)، طبعة دار صادر، بيروت، مصورة عن طبعة بولاق.
[2]- المستصفى لأبي حامد الغزالي (1/83) وفي فواتح الرحموت: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ: أن هذا عندنا. وعند المعتزلة: الحاكم العقل. فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممَّن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرِّف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا. وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا (يعني الماتريدية) @صـ 25 مع المستصفى.
[3]- وهذا هو ما يطلق عليه الفقهاء: اسم (القياس)، وهو إلحاق الشيء الذي لم يُنَصُّ عليه بشَبَهه المنصوص عليه، إذا اشتركا في العِلَّة، ولم يوجد بينهما فارق معتبر.
[4]- الحكومة الإسلامية لأبي الأعلى المودودي صـ173 – 175، تعريب أحمد إدريس، مطابع المختار الإسلامي، الطبعة الثانية.
[5]- الحكومة الإسلامية صـ178.
[6]- ودوِّن ذلك في (مجلة الأحكام).
[7]- الحكومة الإسلامية ص178، 179.
[8]- الحكومة الإسلامية صـ184.
http://www.qaradawi.net/component/content/article/5091.html
ومما عيب على الأستاذ المودودي: أنه أول مَن نادى بفكرة (الحاكمية)، التي اقتبسها منه الشهيد سيد قطب، ويحملون هذه الفكرة وزر (التكفير) وجماعاته، كما أنها قديما كانت سبب فتنة الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله!
صحيح أن قضية (الحاكمية) قد ألحَّ عليها الأستاذ المودودي إلحاحا بيِّنا، حتى تكاد تُعتبر هي المحور المركزي الذي يدور حوله كثير من أفكاره ونظراته.
والفكرة في ذاتها إسلامية أصولية صحيحة، وقد سبق أن قرَّرها علماء أصول الفقه من قرون، فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يتحدَّث في مقدِّمات كتابه الشهير (المستصفى من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلُّق بالحاكم وهو الشارع، وبالمحكوم عليه وهو المكلَّف، وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف، ثم يقول: (وفي البحث عن الحكم يتبيَّن أن (لا حكم إلا لله)، وأنه لا حكم للرسول، ولا للسيِّد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه، لا حكم لغيره)[1].
ثم يعود إلى الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجَّه إلى المكلَّفين، فيقول: (أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمَن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له.
أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم. ولولا ذلك لكان كلُّ مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجَب عليه أن يقبل عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة مَن أوجب الله تعالى طاعته)[2].
إن إثبات (الحاكمية) لله أمر مقرَّر في الإسلام، وانفراد الله تعالى بالحاكمية لخلقه أحد عناصر التوحيد التي قرَّرها القرآن، وخصوصا في (سورة الأنعام) وهي ثلاثة عناصر أساسية:
1ـ ألا يتخذ غير الله وليًّا، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:14].
2- ألا يبتغي غير الله حَكَمًا، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114].
3- ألا يبتغي غير الله ربًّا، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164].
إلى عدد من الآيات الأخرى التي تُثبت له الاختصاص بالحكم سبحانه، وتنفيه عن غيره، كقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، {إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
وإن كان (الحكم) في الآيات الأخيرة قد يُراد به (الحكم الكوني)، أي التصرُّف المطلق في الكون، بحيث إذا قضى أمرا قال له: كن. فيكون. لا (الحكم الأمري) التشريعي، وهو المراد من كلمة (الحاكمية).
وعلى كلِّ حال، إذا كان المراد من الحاكمية: السيادة والهيمنة التشريعية العليا والمطلقة، التي تملك وحدها الأمر والنهي، والإذن والمنع، والتحليل والتحريم، والإلزام والإيجاب. فهذه لا شك أنها لله وحده، فهو الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وله وحده أن يكلِّف خلقه بما يشاء، ويعفيهم مما شاء.
وأما إن كان المراد بهذه (الحاكمية): منع البشر من التقنين مطلقا، ورفض أيِّ حاكمية بشريَّة مقيَّدة، كما كان رأي الخوارج الساذج قديما، حينما رفضوا التحكيم بين المسلمين فيما تنازعوا فيه، وقالوا: لا حكم إلا لله. واتهموا الإمام المرتضى عليًّا رضي الله عنه، بأنه حكَّم الرجال في دين الله. إن كان هذا هو المراد بالحاكمية، كما قد يُفهم أحيانا من بعض عبارات العلامة المودودي، فهو أمر مرفوض. وقد ردَّ حَبر الأمة ابن عباس على الخوارج، وحاجَّهم بكتاب الله الذي شرع التحكيم بين الزوجين إذا خيف شقاق بينهما، وفي قتل المحرم للصيد: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95].
ويجب على الدراس المنصف هنا :أن يضمَّ كلام المودودي بعضه إلى بعض، ولا يكتفي بكتاب عن آخر، ولا بفترة عن أخرى، فربَّما صنَّف بعض الكتب والرسائل وهو في سنِّ الشباب الدافق المتحمِّس، قبل تقسيم الهند وظهور دولة باكستان الإسلامية، وقبل اكتمال نضجه وتجربته، فقد كتب رسالة (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) في سنة 1940م، وهي في الأصل مقالة مطوَّلة نُشرت في مجلة (الفرقان)، في عددها الخاص بذكرى الإمام المجدِّد ولي الله الدهلوي (ت1176هـ).
نطاق التشريع
انظر ما قاله المودودي بصراحة في كتابه عن (الحكومة الإسلامية) عن التشريع ودور الأمة فيه، فبعد أن تحدَّث عن الحاكمية ومعناها قال: (قد يظنُّ البعض حين يسمع هذه الحقائق الرئيسية: أن الدولة الإسلامية بهذه الصورة لا مجال فيها أمام الإنسان على الإطلاق لقيامه بالتشريع والتقنين؛ لأن الله في هذه الدولة هو المشرِّع الوحيد، ولا عمل للمسلمين سوى اتِّباع قانونه وتشريعاته، التي قدَّمها لهم الرسول عليه الصلاة والسلام.
غير أن الإسلام في الواقع لم يغلق باب التشريع تماما في وجه الإنسان، وإنما حدَّده وضيَّق إطاره بأن جعل الحاكمية والسيادة للقانون الإلهي.
فما هي الدائرة التي يقوم الإنسان فيها بالتشريع في ظلِّ هذا القانون الأعلى؟ هذا ما سأوضحه باختصار فيما يلي:
توضيح الأحكام
ثمة قسم من أمور الحياة الإنسانية أصدر القرآن والسنة فيه حكما قاطعا، أو وضعا له قاعدة خاصَّة، وفي مثل هذه الأمور لا يستطيع أيُّ فقيه أو قاضٍ أو مشرِّع أن يغيِّر ما صدر فيها من أحكام، أو ما تقرَّر لها من قواعد.
لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع التحرُّك في ميدان التشريع في هذه الأمور، فدائرة عمله فيها أن يعرف جيِّدا الحكم الصادر، ثم يحدِّد ويعيِّن مفهومه وأصله، ويتحقَّق من الظروف والحالات التي يختصُّ بها هذا الحكم، ثم يستخرج بالفعل الأشكال والصورة التي ينطبق فيها هذا الحكم على ما قد يقع من المسائل مستقبلا، ويقوم بوضع الدقائق والتفاصيل الجزئية لمجمل الأحكام والقواعد في الحالات الاستثنائية.
القياس
كما تضمُّ حياة الإنسان قسما آخر، يشمل المسائل التي لم تُدْلِ الشريعة فيها بحكم، لكنها أصدرت حكما في أمور تشابهها. وممارسة التشريع في هذا القسم تكون بفَهم أسباب الأحكام وعِللها فَهما دقيقا، وتنفيذها في الأمور التي تكمن فيها نفس العلل والدواعي، وتحديد ما هو مستثنى من هذه الأمور، وما يخلو حقيقة من أسباب الحكم ودواعيه[3].
الاستنباط
كما أن هناك قسما ثالثا، لم تبيِّن فيه الشريعة أحكاما بعينها، وإنما أعطت في شأنه بعض المبادئ العامَّة الجامعة، أو بيَّن الشارع المستحب المطلوب فعله، والمكروه الذي ينبغي منعه وإزالته.
ومهمَّة التشريع في هذه الدائرة: فَهم مبادئ الشريعة وأصولها في هذه المسائل، وكذلك قصد الشارع مما قرَّره من مبادئ، ثم وضع القوانين في الأمور الواقعية الفعلية، بحيث تُبنى على ما أوضحته الشريعة من أصول ومبادئ، وبحيث يتحقَّق منها قصد الشارع وهدفه.
دائرة التشريع الحر
كذلك ثمة قسم من حياة الإنسان سكتت الشريعة عنه تماما، فليس فيه حكم صريح أو قياسي أو مستنبط. وهذا المسكوت في حد ذاته دليل على أن الحاكم الأعلى أعطى الإنسان حق إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم.
ومن ثَمَّ يمارس الإنسان التشريع فيها بحريَّة تامَّة، شريطة أن يتطابق ما يشرعه ويتلاءم مع رُوح الإسلام ومبادئه العامة، ولا يشذُّ في مزاجه عن مزاج الإسلام العام، الذي يكسو نظام الحياة الإسلامي ويسوده.
الاجتهاد
إن التشريع الذي يحرِّك نظام الإسلام القانوني وينمِّيه، ويضيف إليه بمرور وتطوُّر ظروف الزمن وحالاته: إنما يتمُّ عن طريق بحث علمي خالص، وتحقيق عقلي دقيق، ويسمى بالاصطلاح الإسلامي (الاجتهاد).
والمعنى اللغوي لهذا اللفظ: (بذل قُصارى الجهد في إنجاز عمل ما).
ولكن معناه الاصطلاحي: (بذل قُصارى الجهد لمعرفة حكم الإسلام وهدفه في مسألة معيَّنة).
وقد استعمل البعض اصطلاح (الاجتهاد) خطأ في معنى حرية استخدام الرأي، بيد أن أيَّ إنسان يقف على نوعية القانون الإسلامي، هيهات أن يقع في خطأ القول بأن مثل هذا النظام القانوني يتَّسع لأيِّ نوع من الاجتهاد الحرِّ تماما، إذ يشكِّل القرآن والسنة نواة هذا النظام وأصله.
ولا بد لمَن يمارس التشريع: إما أن يتَّخذ هذا الأصل (الكتاب والسنة) أساسا للتشريع، أو أن يظلَّ داخل إطار تلك الحدود التي تتاح له فيها حرية إعمال رأيه. أما ما يحدث من اجتهاد بعد الاستغناء عن هذا الأصل، فهو ليس اجتهادا إسلاميًّا، ولا مكان له في نظام الإسلام القانوني)[4].
ويؤكِّد المودودي: (إن الاجتهاد الصادر عن تأويلات، وتفاسير عشوائية - دون مراعاة لهذه الاحتياطات والشروط - من المستحيل أن يقبله ضمير المسلمين الاجتماعي، أو أن يصبح جزءا حقيقيًّا من نظام الإسلام القانوني، حتى ولو صار في منزلة القانون عن طريق القوة السياسية، وسرعان ما يُلقى به في سلَّة المهملات، بمجرَّد الإطاحة بالقوة السياسية التي نفَّذته)[5].
كيف تصبح للاجتهاد منزلة القانون؟
ويعرض الأستاذ المودودي هنا لمسألة هامَّة، وهي: كيف تصبح الاجتهادات الفقهية قانونا، أو لها منزلة القانون؟ وأجاب بقوله: (توجد في نظام القانون الإسلامي عدَّة حالات صارت لبعض الاجتهادات فيها منزلة القانون.
الأولى: ما يُجمع عليه كافَّة أهل العلم في الأمة.
والثانية: الاجتهادات الشخصية أو الجماعية، التي يبدأ الناس من أنفسهم في اتِّباعها، بعد أن تلقى بينهم قَبولا عامًّا، ومثال ذلك: اتخاذ بعض المدن الإسلامية الكبرى الفقه الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي قانونا لها.
والثالثة: الاجتهادات التي اعترفت بها أيَّة حكومة إسلامية، وأقرَّتها قانونا لها، مثلما اتَّخذت الدولة العثمانية الفقه الحنفي قانونا لها[6].
والرابعة: الاجتهادات التي تقوم بها أيَّة مؤسسة إسلامية ذات صفة دستورية في مجال السياسة.
أما ما يقوم به العلماء من اجتهادات - عدا هذه الحالات - فلا يتعدَّى منزلة الفتاوى.
والأحكام التي يصدرها القضا، لا بدَّ من تنفيذها كقوانين في قضايا خاصَّة، ولها صفة السوابق والنمطية (Precedents)، لكنها ليست قوانين بالمعنى الكامل الصحيح.
وحتى أحكام وأوامر الخلفاء الراشدين التي كانوا يصدرونها بوصفهم قضاة، لم يكن يُعترف بها قوانين في الإسلام؛ لأن نظام القانون الإسلامي يخلو من وجود قوانين من صنع القضاة (Judge Made Law))[7].
أعتقد أننا وجدنا المودودي - في هذه النقول التي أوردناها - ينظر إلى موضوع الحاكمية نظرتنا إليها، ويتيح للعقل المسلم أن يكون له دور في التشريع أو التقنين للأمة عن طريق الاجتهاد، الذي لا زال بابه مفتوحا لأهله، في محلِّه.
وإنما يُغلق في وجوه الدخلاء، الذين ليسوا أهلا للاجتهاد، أو الذين يخرجون عن دائرة ما يسوغ الاجتهاد فيه، إلى الدائرة المغلقة التي لا تقبل الاجتهاد، لأنها دائرة (الثوابت) القطعية، التي حسمتها النصوص المحكمات.
وقد لخَّص المودودي (مبادئ التشريع) في الإسلام في هذه العبارة الموجزة: (أن أدوا ما ذكر من العبادات، ولا تبتدعوا طريقا للعبادة.
أما في مجال المعاملات، فما صدر فيه حكم فأطيعوه ونفِّذوه، وما نُهيتم عنه فانتهوا، وما اختار الشارع (الله ورسوله) الصمت إزاءه، فأنتم أحرار في أمره، بما يتَّفق ونظرتكم الصائبة، على ألا تشذُّوا فيه عن رُوح الإسلام العامة)[8].
[1]- المستصفى لأبي حامد (1/8)، طبعة دار صادر، بيروت، مصورة عن طبعة بولاق.
[2]- المستصفى لأبي حامد الغزالي (1/83) وفي فواتح الرحموت: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ: أن هذا عندنا. وعند المعتزلة: الحاكم العقل. فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممَّن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرِّف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا. وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا (يعني الماتريدية) @صـ 25 مع المستصفى.
[3]- وهذا هو ما يطلق عليه الفقهاء: اسم (القياس)، وهو إلحاق الشيء الذي لم يُنَصُّ عليه بشَبَهه المنصوص عليه، إذا اشتركا في العِلَّة، ولم يوجد بينهما فارق معتبر.
[4]- الحكومة الإسلامية لأبي الأعلى المودودي صـ173 – 175، تعريب أحمد إدريس، مطابع المختار الإسلامي، الطبعة الثانية.
[5]- الحكومة الإسلامية صـ178.
[6]- ودوِّن ذلك في (مجلة الأحكام).
[7]- الحكومة الإسلامية ص178، 179.
[8]- الحكومة الإسلامية صـ184.
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
هانى الإخوانى- المراقب العام
-
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 1177
نقاط : 6705
السٌّمعَة : 17
العمر : 41
العمل/الترفيه :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى