الديمقراطية و الحكم (المبحث الثالث)
صفحة 1 من اصل 1
الديمقراطية و الحكم (المبحث الثالث)
المبحث الثالث: الأحزاب والتعددية السياسية
مخطط البحث
أولاً- المقدمة
ثانياً- المعنى اللغوي والاصطلاحي للحزب
ثالثاً- الحزبية في المجتمع الإسلامي الأول:
1- النقباء الإثنا عشر قادة الأحزاب.
2- دستور الدولة الإسلامية والأحزاب فيه.
3- التربية النبوية في تفتيت التكتلات الحزبية القبلية.
4- أول صراع حزبي في دولة الإسلام.
5- محاولات تذويب الصراع الجاهلي إلى تنافس حزبي إيماني.
6- حزب المنافقين واقع سياسي.
7- وحدة الحزبية في القضايا الكبرى.
8- حزب الأنصار يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
9- الأحزاب تشارك في اختيار الخليفة الجديد.
رابعاً – الأحزاب السياسية المعاصرة:
آ- الأنظمة الحزبية التنافسية.
ب- الأنظمة الحزبية غير التنافسية.
جـ- الإسلام ضد الأنظم غير التنافسية.
خامساً- أنواع الأحزاب السياسية
سادساً- موقف الإسلام من الأحزاب السياسية:
آ- حجج القائلين بالمنع.
1- ذم الأحزاب في القرآن.
2- الأدلة التي تنهى عن الفرقة.
3- الولاء والبراء على الإسلام.
4- الأدلة التي تنهى عن التنافس في طلب الإمارة.
5- الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس.
6- الأدلة التي توجب الطاعة للأئمة في غير معصية.
7- الرد إلى الله ولرسوله عند التنازع.
8- انعدام السوابق التاريخية.
9- خطأ القياس على تعدد الأحزاب العلمانية.
10- فشل التجارب الحزبية المعاصرة.
ب- مناقشة حجج المانعين.
جـ- حجج المؤيدين للأحزاب والتعددية السياسية:
1- السياسة الشرعية.
2- الأصل في العقود والمعاملات الإباحة.
3- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
4- قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات.
5- حرص الإسلام على صيانة الحقوق والواجبات.
6- السوابق التاريخية.
سابعاً- الأحزاب غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية:
آ- رأي الحركة الإسلامية في تونس.
ب- رأي الحركة الإسلامية في مصر.
جـ- رأي الحركة الإسلامية في سورية.
ثامناً- الحركة الإسلامية تجاوزت فكر التعددية السياسية الإسلامية
تاسعاً- ملخص البحث
***********************************************************************************
أولاً- المقدمة:
إن كلمة الأحزاب ذات وقع سيء في نفوسنا لأسباب عدة منها...
- أنها ذكرت في القرآن في موطن الذم، وسُميت سورة باسمها، وغزوة باسمها، وكان الحديث فيها عن الأحزاب الذين تجمعوا لغزو المدينة وهم قريش وكنانة وغطفان واليهود وغيرهم، وأصبح جزءاً من الدعاء المأثور عندنا والمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)).
- ومنها: أن الأحزاب تعني الجماعات المتفرقة، وهذا يخالف الدعوة إلى الاعتصام بالوحدة والبعد عن الاختلاف: } واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا {.
- ومنها: أن واقع الأحزاب في بلادنا يغلب عليه الجانب السلبي، فقد شهدنا الأحزاب التي تتجمع على المصالح، وتتصارع على السلطة، وكثير من الأفكار المعادية للإسلامية كالقومية العلمانية والشيوعية إنما نشأت على يد هذه الأحزاب، وهي التي رعتها وغذتها وأفسدت عقيدة الأمة وشككتها بدينها.
- ومنها: أنه كثيراً من الأحزاب حين وصلت إلى السلطة تخلَّت عن مبادئها وقلبت ظهر المحن لشعوبها وأذاقتها ويلات الظلم والإرهاب، ولباس الجوع والذل والخوف، وقالت للناس: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
هذا الجانب السلبي من الموضوع...
لكن الجانب الإيجابي والملح من طرف آخر هو أن الأحزاب صارت في ذاكرة الأمة حنيناً تحن إليه بعدما ذاقت فكرة الحزب الواحد، والفرد الواحد، والطائفة المستبدة، فأصبحت تتمنى عودة الصراعات بالكراسي وباليد عوضاً عن الدبابة وبسطار العسكر، وأقبية المخابرات، كما أن من الجانب الإيجابي أن الأحزاب السورية في عهد الاستقلال، كان لها دور كبير في مقاومة المستعمر، وإدارة الصراع ضده، والسعي لاستقلال سورية، وخوض الصراع السياسي ضد المحتل، حتى تحقق الهدف للأمة في حريتها واستقلالها.
ومن الجانب الإيجابي كذلك أن كلمة - حزب – في القرآن كلمة حيادية، جاءت في موضع الذم حين تحدثت عن حزب الشيطان ومواصفته، وقالت ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، وجاءت في موضوع الثناء والمدح حين تحدثت حزب الله ومواصفته، وقالت} ألا إن حزب الله هم الغالبون{ و} هم المفلحون{.
وأخيراً من أهم الجوانب الإيجابية، ونحن ندعو إلى الديمقراطية والشورى والتعددية السياسية وتداول السلطات، تعتبر الأحزاب الركيزة الأساسية الأولى للنظام الديمقراطي، فلا ديمقراطية حقيقية بلا حرية كاملة للأحزاب السياسية، فلا خيار لنا أن نتناول هذا الموضوع بعيداً عن طيوفه السابقة، ونتحدث عنها بصفتها أساساً للمشروع الحضاري الذي يقوم على التعددية الحزبية.
ثانياً- المعنى اللغوي والاصطلاحي للحزب:
الحزب لغة: في القاموس المحيط..
( الحِزبُ: بالكسر، الوِرد، والطائفة، والسلاح، وجماعة الناس، والأحزاب جمعه، وجَمْعٌ كانوا تألبوا وتظاهروا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجندُ الرجل وأصحابه الذين على رأيه (( إني أخاف عليكم يوم الأحزاب)) هم قوم نوح، وعاد وثمود (ومن أهلكه الله من بعدهم، وحازبوا وتحزبوا: صاروا أحزاباً، وقد حزَّبتهم تحزيباَ).
وفي المعجم الوسيط الذي يتابع استحداثات الكلمات المعاصرة:
( الحِزب: الأرض الغليظة الشديدة، والجماعة بها قوة وصلابة، وكل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم، وفي التنزيل العزيز } كل حزب بما لديهم فرحون { وحزب الرجل أعوانه، وفي التنزيل العزيز } أولئك حزب الله {.
الحزب اصطلاحاً:
والحزب في المصطلح الحديث لا يختلف في تكوينه عما أورده المعنى اللغوي، لكن دخلت إليه إضافات جديدة حددت مفهومه بدقة أكثر من ذي قبل.
فقد عرَّفه بعضهم بقوله:
الحزب طائفة متحدة من الناس تعمل بمختلف الوسائل الديمقراطية للفوز بالحكم بقصد تنفيذ برنامج سياسي معين.
فعناصر الحزب الرئيسية ثلاثة:
1- المجموعة المتحدة من الناس.
2- والبرنامج السياسي المطروح.
3- والعمل بمختلف الوسائل الديمقراطية من هذه لمجموعة لتنفي هذا البرنامج المعين.
لكن هناك من يعترض على هذا التعريف لأنه يختص بالأحزاب في الأنظمة الديمقراطية ويعرض تعريفاً آخر بقوله:
الحزب السياسي: مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وإيديولوجية مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة وتحقيق برنامجهم.
ويبدو الحزب السياسي اليوم عاملاً طبيعياً ملازماً لكل نظام سياسي معروف فالحزب السياسي موجود في الأنظمة السلطوية كما في الأنظمة الليبرالية، في البلدان التي هي على طريق النمو كما في البلدان المصنعة، ويندر أن يكون هناك دولة لا وجود لحزب سياسي واحد على الأقل فيها، وهذا الوضع حديث نسبياً، إذا لم يكن لكلمة حزب المدلولات والمعاني نفسها تماماً المعروفة اليوم) ([82]).
والأحزاب السياسية ظاهرة جديدة نسبياً حيث يعود أصل تكوينها إلى الصراع الذي كان قائماً في بريطانيا في القرن السابع عشر بين مناصري الملك ومناصري البرلمان.. فنشوء الأحزاب السياسية في بريطانيا وبقية الدول الأوربية ارتبط بتوسع حق الانتخاب الشعبي فيها) ([83]).
فالحزب السياسي إذن يعود تأسيسه إلى القرن السابع عشر، وتطور فيما بعد ليتم تعقيده وتحديده، لكن كلمة الحزب أعرق بكثير وأقدم من مصطلح الحزب السياسي.
فالحزب كما ذكرنا جاء في القرآن الكريم يحمل فكرة الخلاف الإيديولوجي الكامل، باسم حزب الله، وحزب الشيطان.
ونعود لنتساءل هل يوجد ضمن حزب الله الذي يلتقي على عقيدة واحدة أحزاب تختلف في المنهج والأسلوب عن بعضها دون أن تخرج عن العقيدة الرئيسة؟.
ونجيب بـ نعم؛ لأن كل التكتلات والاتجاهات السياسية في التاريخ الإسلامي، كانت تنطلق من الإسلام، لكن الفهوم تختلف من تجمع لآخر.
وهذا يعود بنا إلى الأصل اللغوي للحزب الذي أسلفنا تعريفه بقولنا:
جماعة من الناس، أو جند الرجل وأصحابه، أو كل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم ولا شك أن الأحزاب السياسية كان لها جذور في المجتمع الإسلامي الأول وفي عهد الراشدين، وإن لم تكن ذات برنامج سياسي يهدف إلى الوصول للسلطة، لكنها تمثل كتلة بشرية لها مصالح مشتركة وتساهم في العمل السياسي.
وحين نتحدث اصطلاحاً ونطلق كلمة الأحزاب في العصر الرائد إنما يعني هذا المعنى الكتلة أو المجموعة من الناس لها مصالح مشتركة وتساهم في العمل السياسي.
ومن هذا المنطلق نشير إلى الحزبية في الإسلامي الأول.
ثالثاً- الحزبية في المجتمع الإسلامي الأول:
1- النقباء الإثنا عشر قادة الأحزاب:
أول وزارة إسلامية على الأرض كانت وزارة إسلامية من زعماء الكتل الموجودة في المدينة وقد تشكلت بالانتخاب في بيعة العقبة الكرى في مكة المكرمة، وأخذت الصيغة القبلية وكان لها مسؤولية سياسية مباشرة في إدارة دفة الحكم في المدينة قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وبعد وصوله، ومن منطلق صعوبة المسؤولية الفردية في الإدارة السياسية، كانت عملية القبلي الحزبي.
( قال كعب بن مالك: وقد كان رسول صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس)، وبعد انتخابهم من قومهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي – يعني المسلمين –)) قالوا: نعم.
والجانب السياسي في هذه البيعة هو جانب النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يكفل كل نقيب قومه بذلك.
2- دستور الدولة الإسلامية والأحزاب فيه:
وحيث أن الدستور شامل لكل الفئات والأديان في المدينة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرئيس المختار بالأغلبية الساحقة من الأمة، وحدد الدستور ابتداءً فئتين معترفاً بهما وهما المسلمون واليهود.
( بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس.
وقبل أن نتحدث عن التنظيم الإسلامي نشير أن لليهود وحكمهم الذاتي لا يتدخل المسلمون في شؤونهم الداخلية لا في عقائدهم ولا في قياداتهم ولا في حكمهم... إنما صفة المواطنة تلزمهم في القضايا السياسية والمالية والخارجية.
وكما هو الحال في الولايات المتحدة التي تترك حرية الحكم الداخلي لكل ولاية، بينما تبقى الأمور العامة شاملة لكل الولايات في الخارجية والدفاع والاقتصاد.
وسنرجئ الحديث بتفصيلاته إلى بحث آخر، ونعود إلى تنظيم الأمة المسلمة الذي قام على أساس الحزبية القبلية كواقع قائم.
الحزبان الكبيران هما حزب يثرب، وحزب المهاجرين من قريش، وهما المعترفان بهما، أما حزب المهاجرين، فقد كان ابتداءً موزعاً على اثني عشر قبيلة، لكن تربية ثلاثة عشر عاماً صهرت هذه الأحزاب في بوتقة واحدة، وأصبحت تمثل حزب المهاجرين.
أما حزب يثرب أو الأنصار فسنة واحدة غير كافية لإلغاء الفوارق القبلية والحزبية فيه، نلاحظ أنه ينقسم ابتداءً إلى حزبين كبيرين هما الأوس والخزرج، ومع ذلك ففي داخله كتله المستقلة، وقد ذكرت كاملة في وثيقة الدستور الإسلامي:
1- المهاجرون من قريش على ربعتهم ([84]) يتعاقلون ([85]) فيما بينهم، وهم يفدون عانيهم ([86]) بالمعروف والقسط بين الناس.
2- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
3- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4- وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5- وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
إذن خمسة أحزاب من الخزرج قد اعترف فيها رسمياً، ومن الأوس ثلاثة:
7- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8- وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9- وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانها بالمعروف والقسط بين المؤمنين) ([87]).
هذه هي استقلالية الأحزاب التسعة في الدولة الإسلامية.
لكن هذه الاستقلالية وتحديد المسؤولية الحزبية تبقى مقيدة بالقيود العامة التالية التي سنستعرضها في فصول قادمة.
3- التربية النبوية في تفتيت التكتلات الحزبية القبلية:
وكانت المحاولة الأولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقليص هذه الأحزاب في الأيام الأولى للدولة، كانت حين وحد بين حزبي المهاجرين وبني النجار في قيادة واحدة بعد وفاة نقيبهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
( قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري: أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو أمامة نقيبهم فقالوا له: يا رسول الله، إن هذا كان منا حيث قد علمت فاجعل منا رجلاً يقيم من أمرنا ما كان يقيم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم) ([88]).
عملية تقليص للتعددية القبلية:
ومهمة هذه العملية صهر هذه الأحزاب في حزبين كبيرين فقط هما المهاجرين والأنصار، وكانت هذه العملية هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعيدة عن الانتماء الحزبي.
قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: (( فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل، تآخوا في الله أخوين أخوين)) ([89]).
قال السهيلي: آخى رسول الله بين أصحابه حين نزلوا المدينة ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، أنزل الله سبحانه: } أولو الأرحام ببعض أولى ببعض في كتاب الله { أعني في الميراث، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة فقال: (( إنما المؤمنون إخوة)) يعني التوادد وشمول الدعوة) ([90]).
4- أول صراع حزبي في دول الإسلام:
وكان هذا الصراع بين حزبي الأوس والخزرج بتخطيط من أحد قادة الحزب اليهودي.
( قال ابن إسحاق: ومر شاس بن قيس، وكان شيخاً قد عسا عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في نفر قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم فاجلس إليهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة، السلاح السلاح، فخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس) ([91]).
فأنزل الله تعالى في شأن شاس بن قيس وما صنع } قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله.. { وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا: } يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين.. { إلى قوله تعالى } وأولئك لهم عذاب عظيم{([92]).
فلا تزال العصبية الحزبية كالجاهلية كامنة في النفوس، ويريد الله تعالى أن يحولها إلى عصبية وتنافس في الحق لا في الصراعات الجاهلية، ونشهد آثار هذه التربية فيما بعد.
5- محاولات تذويب الصراع الجاهلي إلى تنافس حزبي إيماني:
لقد كان الجهاد في سبيل الله هو الذي يعمِّق الأخوة بين الأحزاب، والقرآن الكريم، والتربية النبوية في المسجد يمضيان في رفع النفوس فوق صراعاتها الحزبية.
فهذه بدر من أعظم الدورات في هذا البناء، فقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مع الحزبين الكبيرين، المهاجرين والأنصار لإثارة هذا التنافس.
( وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال... ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا عليَّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس... فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) ([93]).
وحيث كان رئيس الحزب الأكبر من الأنصار، حزب الخزرج غائباً عن المعركة لمرض نزل به قام نائبه الحباب بن المنذر، وقدم الخطة الحربية المناسبة للمواجهة مع قريش.
(.. يا رسول الله انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نفوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني لك حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قد أشرت بالرأي))، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماءٍ من القوم نزل عليه ثم أمر لقُلُب ففوِّرت، وبنى حوضاً على القليب ([94]) الذي نزل عليه، فملئ ماءً، وقذفوا فيه الآنية) ([95]).
وأصبح التنافس على الجهاد في سبيل الله سمة من سمات الحزبين الأوس والخزرج بعد تلك النكسة التي ذكرناها.
( قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال:
وكان مما صنع الله به لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار والأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غِناءَ إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك، فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عدواته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم) ([96]).
وبهذا المستوى الرفيع من التنافس الحزبي الذي أثمرته التربية النبوية، لتكون نموذجاً عن الحزبية في الدولة الإسلامية؛ الحزبية التي تقدم برامجها ومناهجها في خدمة الإسلام وفي خبرات الحكم، وفي إبداع الاختصاصيين، وتنال الشرعية الكبرى في الوجود } وفي ذلك فليتنافس المتنافسون {.
مخطط البحث
أولاً- المقدمة
ثانياً- المعنى اللغوي والاصطلاحي للحزب
ثالثاً- الحزبية في المجتمع الإسلامي الأول:
1- النقباء الإثنا عشر قادة الأحزاب.
2- دستور الدولة الإسلامية والأحزاب فيه.
3- التربية النبوية في تفتيت التكتلات الحزبية القبلية.
4- أول صراع حزبي في دولة الإسلام.
5- محاولات تذويب الصراع الجاهلي إلى تنافس حزبي إيماني.
6- حزب المنافقين واقع سياسي.
7- وحدة الحزبية في القضايا الكبرى.
8- حزب الأنصار يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
9- الأحزاب تشارك في اختيار الخليفة الجديد.
رابعاً – الأحزاب السياسية المعاصرة:
آ- الأنظمة الحزبية التنافسية.
ب- الأنظمة الحزبية غير التنافسية.
جـ- الإسلام ضد الأنظم غير التنافسية.
خامساً- أنواع الأحزاب السياسية
سادساً- موقف الإسلام من الأحزاب السياسية:
آ- حجج القائلين بالمنع.
1- ذم الأحزاب في القرآن.
2- الأدلة التي تنهى عن الفرقة.
3- الولاء والبراء على الإسلام.
4- الأدلة التي تنهى عن التنافس في طلب الإمارة.
5- الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس.
6- الأدلة التي توجب الطاعة للأئمة في غير معصية.
7- الرد إلى الله ولرسوله عند التنازع.
8- انعدام السوابق التاريخية.
9- خطأ القياس على تعدد الأحزاب العلمانية.
10- فشل التجارب الحزبية المعاصرة.
ب- مناقشة حجج المانعين.
جـ- حجج المؤيدين للأحزاب والتعددية السياسية:
1- السياسة الشرعية.
2- الأصل في العقود والمعاملات الإباحة.
3- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
4- قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات.
5- حرص الإسلام على صيانة الحقوق والواجبات.
6- السوابق التاريخية.
سابعاً- الأحزاب غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية:
آ- رأي الحركة الإسلامية في تونس.
ب- رأي الحركة الإسلامية في مصر.
جـ- رأي الحركة الإسلامية في سورية.
ثامناً- الحركة الإسلامية تجاوزت فكر التعددية السياسية الإسلامية
تاسعاً- ملخص البحث
***********************************************************************************
أولاً- المقدمة:
إن كلمة الأحزاب ذات وقع سيء في نفوسنا لأسباب عدة منها...
- أنها ذكرت في القرآن في موطن الذم، وسُميت سورة باسمها، وغزوة باسمها، وكان الحديث فيها عن الأحزاب الذين تجمعوا لغزو المدينة وهم قريش وكنانة وغطفان واليهود وغيرهم، وأصبح جزءاً من الدعاء المأثور عندنا والمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)).
- ومنها: أن الأحزاب تعني الجماعات المتفرقة، وهذا يخالف الدعوة إلى الاعتصام بالوحدة والبعد عن الاختلاف: } واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا {.
- ومنها: أن واقع الأحزاب في بلادنا يغلب عليه الجانب السلبي، فقد شهدنا الأحزاب التي تتجمع على المصالح، وتتصارع على السلطة، وكثير من الأفكار المعادية للإسلامية كالقومية العلمانية والشيوعية إنما نشأت على يد هذه الأحزاب، وهي التي رعتها وغذتها وأفسدت عقيدة الأمة وشككتها بدينها.
- ومنها: أنه كثيراً من الأحزاب حين وصلت إلى السلطة تخلَّت عن مبادئها وقلبت ظهر المحن لشعوبها وأذاقتها ويلات الظلم والإرهاب، ولباس الجوع والذل والخوف، وقالت للناس: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
هذا الجانب السلبي من الموضوع...
لكن الجانب الإيجابي والملح من طرف آخر هو أن الأحزاب صارت في ذاكرة الأمة حنيناً تحن إليه بعدما ذاقت فكرة الحزب الواحد، والفرد الواحد، والطائفة المستبدة، فأصبحت تتمنى عودة الصراعات بالكراسي وباليد عوضاً عن الدبابة وبسطار العسكر، وأقبية المخابرات، كما أن من الجانب الإيجابي أن الأحزاب السورية في عهد الاستقلال، كان لها دور كبير في مقاومة المستعمر، وإدارة الصراع ضده، والسعي لاستقلال سورية، وخوض الصراع السياسي ضد المحتل، حتى تحقق الهدف للأمة في حريتها واستقلالها.
ومن الجانب الإيجابي كذلك أن كلمة - حزب – في القرآن كلمة حيادية، جاءت في موضع الذم حين تحدثت عن حزب الشيطان ومواصفته، وقالت ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، وجاءت في موضوع الثناء والمدح حين تحدثت حزب الله ومواصفته، وقالت} ألا إن حزب الله هم الغالبون{ و} هم المفلحون{.
وأخيراً من أهم الجوانب الإيجابية، ونحن ندعو إلى الديمقراطية والشورى والتعددية السياسية وتداول السلطات، تعتبر الأحزاب الركيزة الأساسية الأولى للنظام الديمقراطي، فلا ديمقراطية حقيقية بلا حرية كاملة للأحزاب السياسية، فلا خيار لنا أن نتناول هذا الموضوع بعيداً عن طيوفه السابقة، ونتحدث عنها بصفتها أساساً للمشروع الحضاري الذي يقوم على التعددية الحزبية.
ثانياً- المعنى اللغوي والاصطلاحي للحزب:
الحزب لغة: في القاموس المحيط..
( الحِزبُ: بالكسر، الوِرد، والطائفة، والسلاح، وجماعة الناس، والأحزاب جمعه، وجَمْعٌ كانوا تألبوا وتظاهروا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجندُ الرجل وأصحابه الذين على رأيه (( إني أخاف عليكم يوم الأحزاب)) هم قوم نوح، وعاد وثمود (ومن أهلكه الله من بعدهم، وحازبوا وتحزبوا: صاروا أحزاباً، وقد حزَّبتهم تحزيباَ).
وفي المعجم الوسيط الذي يتابع استحداثات الكلمات المعاصرة:
( الحِزب: الأرض الغليظة الشديدة، والجماعة بها قوة وصلابة، وكل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم، وفي التنزيل العزيز } كل حزب بما لديهم فرحون { وحزب الرجل أعوانه، وفي التنزيل العزيز } أولئك حزب الله {.
الحزب اصطلاحاً:
والحزب في المصطلح الحديث لا يختلف في تكوينه عما أورده المعنى اللغوي، لكن دخلت إليه إضافات جديدة حددت مفهومه بدقة أكثر من ذي قبل.
فقد عرَّفه بعضهم بقوله:
الحزب طائفة متحدة من الناس تعمل بمختلف الوسائل الديمقراطية للفوز بالحكم بقصد تنفيذ برنامج سياسي معين.
فعناصر الحزب الرئيسية ثلاثة:
1- المجموعة المتحدة من الناس.
2- والبرنامج السياسي المطروح.
3- والعمل بمختلف الوسائل الديمقراطية من هذه لمجموعة لتنفي هذا البرنامج المعين.
لكن هناك من يعترض على هذا التعريف لأنه يختص بالأحزاب في الأنظمة الديمقراطية ويعرض تعريفاً آخر بقوله:
الحزب السياسي: مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وإيديولوجية مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة وتحقيق برنامجهم.
ويبدو الحزب السياسي اليوم عاملاً طبيعياً ملازماً لكل نظام سياسي معروف فالحزب السياسي موجود في الأنظمة السلطوية كما في الأنظمة الليبرالية، في البلدان التي هي على طريق النمو كما في البلدان المصنعة، ويندر أن يكون هناك دولة لا وجود لحزب سياسي واحد على الأقل فيها، وهذا الوضع حديث نسبياً، إذا لم يكن لكلمة حزب المدلولات والمعاني نفسها تماماً المعروفة اليوم) ([82]).
والأحزاب السياسية ظاهرة جديدة نسبياً حيث يعود أصل تكوينها إلى الصراع الذي كان قائماً في بريطانيا في القرن السابع عشر بين مناصري الملك ومناصري البرلمان.. فنشوء الأحزاب السياسية في بريطانيا وبقية الدول الأوربية ارتبط بتوسع حق الانتخاب الشعبي فيها) ([83]).
فالحزب السياسي إذن يعود تأسيسه إلى القرن السابع عشر، وتطور فيما بعد ليتم تعقيده وتحديده، لكن كلمة الحزب أعرق بكثير وأقدم من مصطلح الحزب السياسي.
فالحزب كما ذكرنا جاء في القرآن الكريم يحمل فكرة الخلاف الإيديولوجي الكامل، باسم حزب الله، وحزب الشيطان.
ونعود لنتساءل هل يوجد ضمن حزب الله الذي يلتقي على عقيدة واحدة أحزاب تختلف في المنهج والأسلوب عن بعضها دون أن تخرج عن العقيدة الرئيسة؟.
ونجيب بـ نعم؛ لأن كل التكتلات والاتجاهات السياسية في التاريخ الإسلامي، كانت تنطلق من الإسلام، لكن الفهوم تختلف من تجمع لآخر.
وهذا يعود بنا إلى الأصل اللغوي للحزب الذي أسلفنا تعريفه بقولنا:
جماعة من الناس، أو جند الرجل وأصحابه، أو كل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم ولا شك أن الأحزاب السياسية كان لها جذور في المجتمع الإسلامي الأول وفي عهد الراشدين، وإن لم تكن ذات برنامج سياسي يهدف إلى الوصول للسلطة، لكنها تمثل كتلة بشرية لها مصالح مشتركة وتساهم في العمل السياسي.
وحين نتحدث اصطلاحاً ونطلق كلمة الأحزاب في العصر الرائد إنما يعني هذا المعنى الكتلة أو المجموعة من الناس لها مصالح مشتركة وتساهم في العمل السياسي.
ومن هذا المنطلق نشير إلى الحزبية في الإسلامي الأول.
ثالثاً- الحزبية في المجتمع الإسلامي الأول:
1- النقباء الإثنا عشر قادة الأحزاب:
أول وزارة إسلامية على الأرض كانت وزارة إسلامية من زعماء الكتل الموجودة في المدينة وقد تشكلت بالانتخاب في بيعة العقبة الكرى في مكة المكرمة، وأخذت الصيغة القبلية وكان لها مسؤولية سياسية مباشرة في إدارة دفة الحكم في المدينة قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وبعد وصوله، ومن منطلق صعوبة المسؤولية الفردية في الإدارة السياسية، كانت عملية القبلي الحزبي.
( قال كعب بن مالك: وقد كان رسول صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس)، وبعد انتخابهم من قومهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي – يعني المسلمين –)) قالوا: نعم.
والجانب السياسي في هذه البيعة هو جانب النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يكفل كل نقيب قومه بذلك.
2- دستور الدولة الإسلامية والأحزاب فيه:
وحيث أن الدستور شامل لكل الفئات والأديان في المدينة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرئيس المختار بالأغلبية الساحقة من الأمة، وحدد الدستور ابتداءً فئتين معترفاً بهما وهما المسلمون واليهود.
( بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس.
وقبل أن نتحدث عن التنظيم الإسلامي نشير أن لليهود وحكمهم الذاتي لا يتدخل المسلمون في شؤونهم الداخلية لا في عقائدهم ولا في قياداتهم ولا في حكمهم... إنما صفة المواطنة تلزمهم في القضايا السياسية والمالية والخارجية.
وكما هو الحال في الولايات المتحدة التي تترك حرية الحكم الداخلي لكل ولاية، بينما تبقى الأمور العامة شاملة لكل الولايات في الخارجية والدفاع والاقتصاد.
وسنرجئ الحديث بتفصيلاته إلى بحث آخر، ونعود إلى تنظيم الأمة المسلمة الذي قام على أساس الحزبية القبلية كواقع قائم.
الحزبان الكبيران هما حزب يثرب، وحزب المهاجرين من قريش، وهما المعترفان بهما، أما حزب المهاجرين، فقد كان ابتداءً موزعاً على اثني عشر قبيلة، لكن تربية ثلاثة عشر عاماً صهرت هذه الأحزاب في بوتقة واحدة، وأصبحت تمثل حزب المهاجرين.
أما حزب يثرب أو الأنصار فسنة واحدة غير كافية لإلغاء الفوارق القبلية والحزبية فيه، نلاحظ أنه ينقسم ابتداءً إلى حزبين كبيرين هما الأوس والخزرج، ومع ذلك ففي داخله كتله المستقلة، وقد ذكرت كاملة في وثيقة الدستور الإسلامي:
1- المهاجرون من قريش على ربعتهم ([84]) يتعاقلون ([85]) فيما بينهم، وهم يفدون عانيهم ([86]) بالمعروف والقسط بين الناس.
2- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
3- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4- وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5- وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
إذن خمسة أحزاب من الخزرج قد اعترف فيها رسمياً، ومن الأوس ثلاثة:
7- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8- وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9- وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانها بالمعروف والقسط بين المؤمنين) ([87]).
هذه هي استقلالية الأحزاب التسعة في الدولة الإسلامية.
لكن هذه الاستقلالية وتحديد المسؤولية الحزبية تبقى مقيدة بالقيود العامة التالية التي سنستعرضها في فصول قادمة.
3- التربية النبوية في تفتيت التكتلات الحزبية القبلية:
وكانت المحاولة الأولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقليص هذه الأحزاب في الأيام الأولى للدولة، كانت حين وحد بين حزبي المهاجرين وبني النجار في قيادة واحدة بعد وفاة نقيبهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
( قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري: أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو أمامة نقيبهم فقالوا له: يا رسول الله، إن هذا كان منا حيث قد علمت فاجعل منا رجلاً يقيم من أمرنا ما كان يقيم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم) ([88]).
عملية تقليص للتعددية القبلية:
ومهمة هذه العملية صهر هذه الأحزاب في حزبين كبيرين فقط هما المهاجرين والأنصار، وكانت هذه العملية هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعيدة عن الانتماء الحزبي.
قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: (( فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل، تآخوا في الله أخوين أخوين)) ([89]).
قال السهيلي: آخى رسول الله بين أصحابه حين نزلوا المدينة ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، أنزل الله سبحانه: } أولو الأرحام ببعض أولى ببعض في كتاب الله { أعني في الميراث، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة فقال: (( إنما المؤمنون إخوة)) يعني التوادد وشمول الدعوة) ([90]).
4- أول صراع حزبي في دول الإسلام:
وكان هذا الصراع بين حزبي الأوس والخزرج بتخطيط من أحد قادة الحزب اليهودي.
( قال ابن إسحاق: ومر شاس بن قيس، وكان شيخاً قد عسا عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في نفر قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم فاجلس إليهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة، السلاح السلاح، فخرجوا إليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس) ([91]).
فأنزل الله تعالى في شأن شاس بن قيس وما صنع } قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله.. { وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا: } يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين.. { إلى قوله تعالى } وأولئك لهم عذاب عظيم{([92]).
فلا تزال العصبية الحزبية كالجاهلية كامنة في النفوس، ويريد الله تعالى أن يحولها إلى عصبية وتنافس في الحق لا في الصراعات الجاهلية، ونشهد آثار هذه التربية فيما بعد.
5- محاولات تذويب الصراع الجاهلي إلى تنافس حزبي إيماني:
لقد كان الجهاد في سبيل الله هو الذي يعمِّق الأخوة بين الأحزاب، والقرآن الكريم، والتربية النبوية في المسجد يمضيان في رفع النفوس فوق صراعاتها الحزبية.
فهذه بدر من أعظم الدورات في هذا البناء، فقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مع الحزبين الكبيرين، المهاجرين والأنصار لإثارة هذا التنافس.
( وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال... ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا عليَّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس... فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) ([93]).
وحيث كان رئيس الحزب الأكبر من الأنصار، حزب الخزرج غائباً عن المعركة لمرض نزل به قام نائبه الحباب بن المنذر، وقدم الخطة الحربية المناسبة للمواجهة مع قريش.
(.. يا رسول الله انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نفوِّر ما وراءه من القلب، ثم نبني لك حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قد أشرت بالرأي))، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماءٍ من القوم نزل عليه ثم أمر لقُلُب ففوِّرت، وبنى حوضاً على القليب ([94]) الذي نزل عليه، فملئ ماءً، وقذفوا فيه الآنية) ([95]).
وأصبح التنافس على الجهاد في سبيل الله سمة من سمات الحزبين الأوس والخزرج بعد تلك النكسة التي ذكرناها.
( قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال:
وكان مما صنع الله به لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار والأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غِناءَ إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك، فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عدواته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم) ([96]).
وبهذا المستوى الرفيع من التنافس الحزبي الذي أثمرته التربية النبوية، لتكون نموذجاً عن الحزبية في الدولة الإسلامية؛ الحزبية التي تقدم برامجها ومناهجها في خدمة الإسلام وفي خبرات الحكم، وفي إبداع الاختصاصيين، وتنال الشرعية الكبرى في الوجود } وفي ذلك فليتنافس المتنافسون {.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الديمقراطية و الحكم (المبحث الثالث)
6- حزب المنافقين؛ واقع سياسي:
بعد غزوة بدر وانتصار الإسلام الخالد، أودى بكثير من الأحزاب التسعة لتنضم تحت لواء الأحزاب الثلاثة الكبرى، وهي الأوس والخزرج والمهاجرون، لكن نشأ حزب جديد قاده عبد الله بن أبي الذي وضع خطته الخبيثة في المكر والدسيسة للإسلام من داخل الصف وتحت شعار وستار إسلامي، وكان عبد الله بن أبي أكبر المنافسين على السلطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
( وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة – كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة – وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول ولا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام غيره، ومعه في الأوس رجل هو في قومه في الأوس شريف مطاع، أبو عام عبد عمرو بن صيفي.. فشقيا بشرفهما وضرَّهما، فأما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فيما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن.
7- وحدة المواقف الحزبية في القضايا الكبرى:
وبرز ذلك من خلال أخطر موقفين حين تم غزو المدينة من الأحزاب المعادية:
الموقف الأول: حين نقض بنو قريظة العهد، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس وعلى رأسهم سعد بن معاذ زعيم الحزب، فالأصل أن تختلف مواقف الحزبين، كما اختلفت أيام بني قينقاع وبني النضير بين حزب المنافقين والأحزاب الإسلامية، لكن عظمة الالتحام والصهر في التربية جعلت الموقف واحداً للزعيمين.
( ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير فقال: إنه بلغني أن بني قريظة قد نقضوا العهد الذين بيننا وبينهم وحاربوا، فاذهبوا فانظروا إن كان ما بلغني حقاً، فإن كان باطلاً فأظهروا القول، وإن كان حقاً فتكلموا بكلام تلحنون([97]) لي به أعرفه، لا تفتوا ([98]) أعضاد المسلمين فلما انتهوا إلى كعب بن أسد (زعيم حزب بني قريظة) وجدوا القوم قد نقضوا العهد، فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل أن يلتحم الأمر وألا يطيعوا حيي بن أخطب (زعيم حزب بني النضير اليهودي) فقال كعب: لا نرده أبداً قد قطعته كما قطعته هذه القبال ([99]) لقبال نعله، ووقع كعب بسعد بن معاذ يسبه (مع أنه حليف) فقال أسيد بن الحضير (نائب رئيس الحزب الأوسي) تسب سيدك يا عدو الله؟ ما أنت له بكفء، أما والله يا بن اليهودية لتولين قريش إن شاء الله منهزمة ونغزوك في عقر دارك، فنسير إليك، فتنزل من جحرك هذا على حكمنا، قال كعب: يا بن الحضير، تخوفني بالمسير إلي؟ أما والتوراة لقد رآني أبوك يوم بعاث، لولا نحن لأجلته الخزرج منها، إنكم والله ما لقيتم أحداً يحسن القتال ولا يعرفه، نحن والله نحسن قتالكم، ونالوا من رسول الله ومن المسلمين أقبح الكلام، شتموا سعد بن عبادة شتماً قبيحاً حتى أغضبوه، فقال سعد بن معاذ: دعهم فإنا لم نأت لهذا، ما بيننا وبينهم أشد من المشاتمة؛ السيف) ([100]).
الموقف الثاني: وهو وحدة الموقف من عرض الهدنة الخاصة مع (زعماء حزب غطفان):
(... وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف (زعيمي حزب غطفان): أرأيت إن جعلت لكم ثلث ثمار المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟ قالا: تعطينا نصف ثمار المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك وجاءا في عشرة من قومهم حين تقارب الأمر، وقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وأحضر الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة وهو يريد أن يكتب الصلح بينهم، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدري بما كان الكلام، فلما جاء إلى رسول الله وجد عيينة ماداً رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عيين الهجرس، اقبض رجليك، أتمد رجليك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ (ومعه الرمح) والله لولا وجود رسول الله لأنفذت خصيتيك بالرمح.
ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (زعيمي حزب الأنصار) فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما بما قد أراد من الصلح فقالا:
إن كان هذا أمر من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تُؤمر فيه ولك فيه هوىً فامض لما لك فيه هوىً فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف، وأخذ سعد بن معاذ الكتاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم (وفي رواية فأحببت أن أخفف عنكم) فقالا:
يا رسول الله إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط، أن يأخذوا ثمرة إلا بشرى أو قرى؛ فحين أتانا الله تعالى بك وأكرمنا بك، وهدانا بك نعطي الدنية لا نعطيهم أبداً إلا السيف؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شق الكتاب، فتفل سعد فيه، ثم شقه وقال: بيننا السيف، فقام عيينة وهو يقول: أما والله للتي تركتم خير لكم من الخطة التي أخذتم وما لكم بالقوم من طاقة، فقال عباد بن بشر: يا عيينة أبالسيف تخوفنا؟ ستعلم أينا أجزع) ([101]).
وهكذا نشهد أن الأحزاب التسعة قد تقلصت تقريباً إلى أربعة أحزاب:
1- المهاجرين. 2- حزب الأوس. 3- حزب الخزرج. 4- حزب المنافقين..
ولعل زعيم حزب المنافقين عبد الله بن أبي لم يحضر المعركة، فلم نجد له ذكراً فيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيره رغم معرفته بكيده ومكره وكفره، لكن هذا لم يحرمه حق المشاركة في تقرير المصير للمدينة، طالما أنه معلن إسلامه في الظاهر.
8- حزب الأنصار يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وهذه هي المرة الوحيدة التي انفرد فيها حزب الأنصار بموقف يختلف عن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عقب فتح مكة والموقف من الغنائم في حنين.
( روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا ([102]) عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأُعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قالوا:ا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرين فردهم فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمنَّ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل، قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم، فلَصَدْقتم ولصُدِّقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجِدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا) ([103]).
9- الأحزاب تشارك في اختيار الخليفة الجديد:
بعد وفاة عبد الله بن أبي زعيم حزب النفاق آل أمر هذا الحزب إلى الحل، وبقيت الأحزاب الثلاثة على الساحة حيث انصهرت بقية الأحزاب فيها، وهي حزب المهاجرين وحزب الأوس وحزب الخزرج.
1- دعا حزب الخزرج حزب الأوس إلى لقاء جامع في سقيفة بني ساعدة، وبنو ساعدة هو قوم سعد بن عبادة زعيم الخزرج، وتداولوا في أمر الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله قد التحق بالرفيق الأعلى، ولبى حزب الأوس الدعوة، لكنه لم يكن من أنصار انفراد الحزبين باختيار الخليفة الجديد، لكنه لم يكن ضد المداولات في ذلك، فالمصلحة مشتركة بين الحزبين في أن يكون الأمير الجديد من الأنصار فالبلد بلدهم، والمدينة عاصمة الإسلام، وهم الدرع الواقي لهذا الدين، وقدموا من التضحيات الكبيرة ما يجعل لهم الأحقية في أن يكون الخليفة منهم.
2- كان سعد بن معاذ رضي الله عنه زعيم حزب الأوس قد استشهد منذ خمس سنوات بعد حرب بني قريظة وآلت زعامة الحزب إلى أسيد بن حضير رضي الله عنه، ونرجح أنه هو الذي بعث برسولين إلى زعيمي حزب المهاجرين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر ليشاركوا في انتخاب الخليفة بينما كانت رغبة حزب الخزرج أن يتم الاختيار بين حزبي الأنصار، ووضع حزب المهاجرين تحت الأمر الواقع، قال الحافظ ابن حجر (وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أن أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل انحازوا إلى أبي بكر ومن معه وهؤلاء من الأوس، وفي حديث ابن عباس عن عمر (( تخلفت عنا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، فيجمع بأنهم اجتمعوا ثم تفرقوا، وذلك أن الخزرج والأوس كانوا فريقين وكان بينهم في الجاهلية من الحروب ما هو مشهور، فزال ذلك بالإسلام، وبقي منه شيء في النفوس ([104])، فكأنهم اجتمعوا أولاً، فلما رأي أسيد ومن معه أبا بكر افترقوا عن الخزرج إيثاراً لتأمير المهاجرين).
أما قصة الرسولين فيقول عنها الحافظ في الفتح (وزاد أبو يعلى من رواية مالك عن الزهري فيه:
( فبينما نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدار أن اخرج إلي يا بن الخطاب فقلت: إليك عني فإنا عنك مشاغيل، يعني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمراً يكون فيه حرب، فقلت لأبي بكر – انطلق – فذكره – فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم، فقلت: والله لتأتينهم، فانطلقنا، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة وذكر في آخر الحديث أن الرجلين اللذين لقياهم هما عون بن ساعدة ومعن بن عدي... وهما من الأوس أيضاً) ([105]).
3- وقد تمت المداولات والمفاوضات بين الأحزاب الثلاثة على أربعة اقتراحات..
الأول: أن يكون الخليفة من الأنصار، الثاني: أن يكون من المهاجرين، الثالث: أن يكون أميران في وقت واحد أحدهما من المهاجرين وثانيهما من الأنصار، الرابع: أن يتعاقب الخلافة مهاجري ثم أنصاري ثم مهاجري في تداول سلمي للسلطة.
ورغم أنه لم يكن من المهاجرين إلا ثلاثة الصديق والفاروق وأمين الأمة، لكنهم أقنعوا بالحجج الدامغة أصحاب الاقتراحات الأخرى باختيار أمير من المهاجرين.
وهذه جوانب من هذه المداولات النيابية بين رجالات الأحزاب الكبار من سجلات اجتماع السقيفة، الذي يعتبر البرلمان الثاني للمسلمين بعد بيعة العقبة الكبرى في مكة.
أبو بكر: (فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا ذكره، وكان مما قاله كما روى الزهري: وكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاماً ونحن عشيرته، وأقاربه، وذوو رحمه، ولن تُصلح العرب إلا برجل من قريش، فالناس لقريش تُبع، وأنتم إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في دين الله، وأحب الناس إلينا، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم بفضيلة إخوانكم، وأن لا تحسدوهم على خير.
خطيب الأنصار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.
زيد بن ثابت (من الخزرج): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإنما الإمام من المهاجرين فنحن أنصار الله كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو بكر: جزاكم الله خيراً، الحباب بن المنذر (من الخزرج) والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير.
عمر: أسيفان في غمد واحد، هيهات لا يصطلحان، وأخذ بيد أبي بكر فقال له هذه الثلاثة } إذ هما في الغار { من هما؟ } إذ يقول لصاحبه { من صاحبه؟ } إن الله معنا { مع من؟.
أحد قادة الخزرج: نختار رجلاً من المهاجرين وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، فيكون أجد أن يشفق القرشي إذا زاغ أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري.
أبو بكر رضي الله عنه لسعد بن عبادة زعيم حزب الخزرج، والمرشح المنافس للخلافة:
والله لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فقال له: صدقت، أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم.
4- وتمت البيعة لأبي بكر بعد أن بايعه زعيما حزبي المهاجرين عمر وأبو عبيدة، ثم تبعهم أحد قادة الخزرج، ثم بايع جميع القادة أبا بكر رضي الله عنه.
( قال أبو بكر: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة.
عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وفي رواية فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبايعنه وبايعه المهاجرون، وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب، فقام أسيد بن الحضير (زعيم حزب الأوس) فبايعه وبشير بن سعد (من زعماء الخزرج) وغيرهما من الأنصار فبايعوا أبا بكر، ثم وثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة.
قال القرطبي في المفهم: لو كان عند أحد من المهاجرين والأنصار نص من النبي صلى الله عليه وسلم على تعيين أحد بعينه للخلافة لما اختلفوا في ذلك وتفاوضوا فيه، قال: وهذا قول جمهور أهل السنة) ([106]).
وهكذا نخلص إلى أن الحياة الحزبية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنقطع خلال عشر سنوات ابتدأت ببيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الكبرى بمكة، وانتهت ببيعة الصديق في سقيفة بني ساعدة أثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأحزاب الكبرى مشاركة في الأحداث اليومية تلتقي وتختلف، والحوار هو ديدن هذا اللقاء، وقد تتوتر الأجواء جداً ثم تنتهي بقرار مشترك يمثل الأغلبية في الأمة، والأمم الراقية ليس وجود وتعدد الأحزاب وكثرتها فيها عنوان حضارتها وحريتها، إنما الأغلب في الأمم الراقية والعريقة في الديمقراطية أن يكون فيها حزبان أو ثلاثة يتداولون السلطة ويضعون البرامج، ويدعون الأمة للتصويت على هذه البرامج، والبرنامج الذي يفوز هو الذي يقوم حزبه باستلام الحكم.
رابعاً – الأحزاب السياسية المعاصرة:
الحزب السياسي: هو منظمة سياسية تضم جماعة من الأفراد الذين يتفقون فيما بينهم على الأسس العامة التي يجب أن تتبع في تنظيم الدول، ويسعون للسيطرة على الحكومة أو المشاركة فيها من أجل تطبيق هذه الأسس.
الأنظمة الحزبية: تنقسم الأنظمة السياسية الحزبية إلى أنظمة تنافسية، وأنظمة غير تنافسية.
آ- الأنظمة الحزبية التنافسية:
في ظل هذه الأنظمة تمارس الأحزاب نشاطاتها في مجتمع ديمقراطي... تتنافس فيه الأحزاب السياسية بواسطة الانتخابات للسيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية ومن أهم خصائص الأنظمة التنافسية أن الأحزاب التي تسيطر على مراكز القوة في الحكومة لا تحاول منع الأحزاب الأخرى عن الاستمرار في ممارسة نشاطاتها السياسية، ونشر مبادئها، وكسب التأييد الشعبي لها، وقيادتها لحركات المعارضة في الدولة، وعند هزيمة الأحزاب الموجودة في الحكومة بواسطة الانتخابات الشعبية فإنها تترك السلطة سلمياً وتسلمها للأحزاب الأخرى المنتخبة التي ستخلفها في السيطرة على الحكومة، وتتحول هي بدورها إلى أحزاب المعارضة.
وفي ظل هذا المحيط التنافسي يمكن أن نميز ثلاثة أنواع للأنظمة الحزبية:
1ً- نظام الحزبين.
2ً- نظام تعدد الأحزاب.
3ً- نظام الحزب الديمقراطي المسيطر.
ولا تنص الدساتير والقوانين لهذه الدول على شكل النظام الحزبي المتبع فيها.
ب- الأنظمة الحزبية غير التنافسية:
الخاصية الأساسية المميزة للأنظمة غير التنافسية هي انفراد حزب واحد بالسيطرة على السلطة السياسية، وامتداد هيمنته على كافة مرافق الدولة المدنية والعسكرية، ولا يسمح الحزب الحاكم للأحزاب الأخرى بممارسة أية نشاطات سياسية، وهي إن وجدت تكون إما خاضعة لحزب الحكومة أو تمارس أعمالها بسرية، وتبرر أحزاب الأنظمة غير التنافسية احتكارها للسلطة ومنع الأحزاب الأخرى من المشاركة المشروعة على أساس أنها تمثل الأمة بأكملها مما يلغي الحاجة إلى وجود أحزاب أخرى إلى جانبها.
ويجب التمييز بين الحزب الحاكم في الأنظمة السلطوية غير التنافسية، وبين الحزب الديمقراطي المسيطر، فهما وإن تشابها من حيث انفراد كل منهما بالسلطة، إلا أن الحزب الديمقراطي المسيطر يصل للسلطة عن طريق فوزه بالانتخابات على بقية الأحزاب، ويمارس أعمال الحكم في جو تنافسي ديمقراطي ويسمح للأحزاب الأخرى بحرية ممارسة نشاطاتها السياسية، ومعارضتها للسياسة الحكومية.
... ويصعب تمييز الحكومة عن الحزب الحاكم في الأنظمة غير التنافسية، فتتولى القيادة الحزبية مهمة القيادة السياسية للدولة، وتتحول قرارات الحزب إلى قوانين حكومية رسمية، وتصبح إيديولوجية الحزب هي إيديولوجية الدولة، وتسخر خطط التنمية في الدولة لتحقيقي برامج الحزب، ويسيطر أعضاء الحزب على كل مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية وأجهزتها الإعلامية والعسكرية والأمنية والبيروقراطية، كما يُخضع الحزب لسيطرته أيضاً كل المؤسسات الاجتماعية المهمة مثل الجمعيات الخيرية والتعاونية والأندية الرياضية والثقافية، وجمعيات النساء ومجالس الأحياء ونقابات العمال، وجمعيات المزارعين وتجمعات الطلبة، ومعسكرات الشباب وجمعيات الفنون الجميلة، وجميع أنواع النقابات المهنية وغير ذلك من نشاطات المجتمع المنظمة).
جـ- الإسلام ضد الأنظمة غير التنافسية:
فالإسلام لا يعطي الحق لفرد ولا لحزب ولا لقبيلة ولا لطائفة باحتكار السلطة بالقوة، لأن نظامه كله يقوم على الشورى في كل شيء، والأحزاب السياسية في الأنظمة غير التنافسية تعتمد القوة أو الانقلاب العسكري لتبرير وجودها، وتمنع الناس من النقد والمواجهة، فلا يوجد في الإسلام ميزة لأحد على أحد، وحين ندع منصب الخلافة العظمى التي تُشترط القرشية فيها([107])، وهو استثناء من القاعدة فيبقى كل شيء في الحكم في السلطتين التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية مفتوحة على مصراعيها للأصلح والأكفأ والأجدر.
} يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير { ([108]).
بل يعتبر الإسلام اختيار غير الأكفأ لموقع سياسي أو حزبي ابتداءً من العشرة فما فوق، خيانة لله ولرسوله ولجماعة المسلمين.
( ومن تولى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك، وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين) ([109]).
والحديث الآخر (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم) ([110]).
أما استعمال القوة في السلطة، فقد ورد فيه نص مباشر.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه) ([111]).
وحيث أن لا قدسية لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل الأمة تدخل التنافس السلمي للوصول إلى السلطة ضمن إطار الشورى.
خامساً- أنواع الأحزاب السياسية:
يعتبر مجهود عالم السياسة الفرنسية موريس دوفرجيه من أوائل المحاولات المهمة التي بُذلت لتصنيف الأحزاب، وقد ربط دوفرجيه تنظيم الحزب بأهدافه وسياسته.. ومن هذا الافتراض انطلق ليميز بين أحزاب العضوية المباشرة مثل الحزب الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، والعضوية غير المباشرة مثل بعض الأحزاب الكاثوليكية في أوربا الغربية وحزب العمال البريطاني.
1- أحزاب الفروع: هي الأحزاب التي تسعى لتوسيع قاعدتها وفتح عضويتها للجماهير وتحاول التمسك بعقيدة محددة ومن أمثلتها الأحزاب الاشتراكية الأوربية.
2- الأحزاب الاستبدادية: وهي الأحزاب الشيوعية والفاشية المتصفة بمركزية السلطة.
تصنيفات أخرى:
لقد ظهرت تصنيفات جديدة متعددة أكثر سهولة وأقرب للمواقع من تصنيفات دوفرجيه وصفها العديد من كتاب دراسات السياسة المقارنة، ولعل من أهمها التمييز بين أحزاب العقيدة، والأحزاب العملية، وأحزاب المصالح:
آ- أحزاب العقيدة: ترتكز هذه الأحزاب حول عقيدة محددة تقدم تفسيراً معقولاً للواقع الاجتماعي، وتضع تصوراً محدداً للمجتمع المنشود، والأفراد ينضمون لحزب العقيدة ويلتفون حوله بسبب التصديق والإيمان بالأفكار والتفسيرات التي تقدمها العقيدة التي تتجسد بوضوح في برامج الحزب وأهدافه، وتكون بمثابة المحرك لنشاطاته والمحددة لسياساته ومواقفه.
ب- الأحزاب العملية: ليس لها ارتباط بعقيدة محددة وتتغير مواقفها وسياستها العامة من فترة لأخرى تمشياً مع الظروف، وإذا كانت أحزاب العقيدة تنافس بمادتها العقائدية فإن الأحزاب العملية تنافس بقدرتها على التحرك بين كافة فئات المجتمع، والحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة هما من أمثلة نماذج الأحزاب العملية.
جـ- أحزاب المصالح: تمثل مصالح محددة لجماعة كبيرة، ويفضل بعض الباحثين تقسيم أحزاب المصالح إلى أحزاب الاهتمامات المادية التي تنشأ حول روابط أساسية مثل العرق أو اللغة أو الإقليم الجغرافي أو الدين)([112]).
سادساً- موقف الإسلام من الأحزاب السياسية:
عالج الدكتور صلاح الصاوي شرعية الأحزاب بين المؤيدين والمعارضين بإسهاب كبير في كتابه التعددية السياسية، وسنعرض رأيه ملخصاً لحجج المؤيدين والمعارضين، ثم نعرض الرأي الراجح بعده.
- حجج القائلين في المنع:
1- ذم الأحزاب في القرآن: إن الأحزاب لم تُذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالذم والوعيد، واقتصرت الإشارة فيها إلى أعداء الدين، ولم ترد مرة واحدة من باب الجواز، بل أصبحت سمة لازمة من الذم في الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)).
2- الأدلة التي تنهى عن الفرقة وتخص على الاجتماع: والأحزاب فرق متناحرة من هذه الأدلة من القرآن الكريم.
} إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء { ([113]).
} منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً { ([114]).
} واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا... { ([115]).
أما نصوص الأحاديث فمنها:
(( عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)) ([116]).
(( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه بالسيف كائناً من كان)) ([117]).
(( وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم، وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله)) ([118]).
3- الولاء والبراء على الإسلام لا على التكتلات الحزبية: إن معقد الولاء والبراء هو الإسلام لا غير، وقد تواترت في ذلك النصوص الصحيحة ومنها } وإنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون { ([119]).
4- الأدلة التي تنهى عن التنافس في طلب الإمارة: منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرْنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: (( إنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه)).
5- الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس والطعن في الآخرين: ومنها قوله عز وجل:
} ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلا { ([120]).
وقوله عز وجل: } فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى { ([121]).
وقوله تعالى: } ولا تلمزوا أنفسكم { ([122]).
ومعلوم أن من قواعد التنافس الحزبي هذه الحملات الانتخابية التي يقوم بها المرشحون المتنافسون يزكون فيها أنفسهم، ويدعون فيها الناس إلى انتخابهم، ويقدحون في الآخرين.
6- الأدلة التي توجب الطاعة للأئمة في غير معصية: منها: ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم (( اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([123]).
وما رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود من قوله صلى الله عليه وسلم :
(( إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها قالوا: فيم تأمرنا يا رسول الله؟ قال: تؤدون الحق الذي لهم عليكم وتسألون الله الذي لكم)) ([124]).
فأين تقوم المشروعية لهذا النظام الحزبي مع قيامه ابتداءً على مناقضة هذه النصوص.
7- الرد إلى الله ورسوله عند التنازع: إن التحزب إما أن يكون على أصول كلية أو على اجتهادات فرعية، أو على أمور تتعلق بالحكمة وحسن التدبير في السياسة.
فإن كانت على أصول كلية تخالف الأصول الثابتة في الإسلام، فهي مرفوضة، وهي دين الفرق الضالة الخارجة عن الإسلام.
وإن كانت على اجتهادات فرعية فالأصل، إن تم التنازع فيها أن ترد إلى الله ورسوله لا أن تقوم التكتلات والتحزبات على أساسها: (( فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول..)).
وإن كانت على الحكمة وحسن التدبير، فالأصل فيها النصيحة وكفى، لا العمل على إزالة النظام بنظام آخر.
8- انعدام السوابق التاريخية: فقد حكمت دولة الخلافة العالم الإسلامي قروناً متطاولة ولم يسجل لنا التاريخ سابقة واحدة من هذه القبيل، فكان ذلك كالإجماع من الأمة على تركه.
تاسعاً: تداول السلطة يخالف بيعة الإمام الدائمة حتى الوفاة أو العزل:
إن التعددية تعني تبادل السلطة بين الأطراف المتنافسة، وهذا يناقض مفهوم بيعة الإمام حتى وفاته أو تغيره بنقص في كفاءته أو ردته.
9- خطأ القياس على تعدد الأحزاب العلمانية: فالأحزاب في دولة لا دينية تقوم على الرأي والمصلحة، أما تعددها في المجتمع الإسلامي فيجب أن يقوم على الدين، والخلاف يقود للفتنة.
10- فضل التجارب الحزبية المعاصرة في أغلب البلدان الإسلامية: حيث كانت وبالاً على الأمة.
ب- مناقشة حجج المانعين:
وبعد أن يعرض الدكتور الصاوي هذه الحجج المحرمة للحزبية والأحزاب في البلدان الإسلامية يعود ليفندها واحدة تلو الأخرى.
1- عدم ذكر الأحزاب في النصوص الشعرية إلا مقترنة بالذم والوعيد، لأن مضمونها وهدفها غير مضمون وهدف الأحزاب السياسية المعاصرة، لأن الحزب في المفهوم المعاصر هو مجموعة متآلفة جمع بينها وحدة الاتجاه السياسي، ودورها هو تقديم البرامج التي تنقذ الأمة من الفساد، وتطرح حلولاً لأزماتها، وتحقق السعادة لأبنائها، بينما كانت تلك الأحزاب حرباً على الإسلام والمسلمين.
2- الأدلة التي تنهى عن التفرق والاختلاف، وتأمر بالتزام جماعة المسلمين، إنما تنصرف إلى أهل البدع الذين يتحزبون على أصول كلية تخالف الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أو إلى الفرق المذموم الذي ينشأ عن الاختلاف في الفروع.. أما مجرد الانتصار لما يراه الإنسان أقوى حجة أو أليق بمقاصد الشريعة، أو أرجى تحقيقاً لمصالح المسلمين والسعي لوضع هذه الاجتهادات موضع التنفيذ في إطار من الموضوعية والتجرد للحق، فلا يدخل في ذلك.
3- أما بالنسبة للنصوص التي تعقد الموالاة بين المؤمنين على أساس الإيمان، وتأبى أن يعقد شيء من الولاء على ما دون الإيمان حتى لا تتشرذم الأمة فلا علاقة لها بالتعددية الحزبية إذا جرت على الساحة الإسلامية، لأن انتصار المرء لما يعتقد رجحانه من المصالح العامة والسعي لوضعه موضع التنفيذ لا تعني بالضرورة تكفير المخالف لا سيما وقد تقرر ابتداءً أن تعدد الأحزاب لا يكون إلا في إطار سيادة الشريعة والالتزام المجمل بأصولها الكلية.
4- أما بالنسبة للأدلة التي تنهى عن طلب الإمارة فلا منازعة أن الجمهور على أن طلب الولاية مكروه، وأن اجتنابها هو الحزم، وأن من حرص على طلبها وكل إليها.
يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القائم بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها، أو كان أهلاً ولم يعدل فيها، فيجزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه على ما فرَّط، وأما من كان أهلاً لولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث: (( سبعة يظلهم الله في ظله..)) والحديث المذكور هنا عقب هذا (إن المقسطين على منابر من نور.. وغير ذلك، وإجماع المسلمين منعقد عليه.
بعد غزوة بدر وانتصار الإسلام الخالد، أودى بكثير من الأحزاب التسعة لتنضم تحت لواء الأحزاب الثلاثة الكبرى، وهي الأوس والخزرج والمهاجرون، لكن نشأ حزب جديد قاده عبد الله بن أبي الذي وضع خطته الخبيثة في المكر والدسيسة للإسلام من داخل الصف وتحت شعار وستار إسلامي، وكان عبد الله بن أبي أكبر المنافسين على السلطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
( وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة – كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة – وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول ولا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام غيره، ومعه في الأوس رجل هو في قومه في الأوس شريف مطاع، أبو عام عبد عمرو بن صيفي.. فشقيا بشرفهما وضرَّهما، فأما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فيما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن.
7- وحدة المواقف الحزبية في القضايا الكبرى:
وبرز ذلك من خلال أخطر موقفين حين تم غزو المدينة من الأحزاب المعادية:
الموقف الأول: حين نقض بنو قريظة العهد، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس وعلى رأسهم سعد بن معاذ زعيم الحزب، فالأصل أن تختلف مواقف الحزبين، كما اختلفت أيام بني قينقاع وبني النضير بين حزب المنافقين والأحزاب الإسلامية، لكن عظمة الالتحام والصهر في التربية جعلت الموقف واحداً للزعيمين.
( ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير فقال: إنه بلغني أن بني قريظة قد نقضوا العهد الذين بيننا وبينهم وحاربوا، فاذهبوا فانظروا إن كان ما بلغني حقاً، فإن كان باطلاً فأظهروا القول، وإن كان حقاً فتكلموا بكلام تلحنون([97]) لي به أعرفه، لا تفتوا ([98]) أعضاد المسلمين فلما انتهوا إلى كعب بن أسد (زعيم حزب بني قريظة) وجدوا القوم قد نقضوا العهد، فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل أن يلتحم الأمر وألا يطيعوا حيي بن أخطب (زعيم حزب بني النضير اليهودي) فقال كعب: لا نرده أبداً قد قطعته كما قطعته هذه القبال ([99]) لقبال نعله، ووقع كعب بسعد بن معاذ يسبه (مع أنه حليف) فقال أسيد بن الحضير (نائب رئيس الحزب الأوسي) تسب سيدك يا عدو الله؟ ما أنت له بكفء، أما والله يا بن اليهودية لتولين قريش إن شاء الله منهزمة ونغزوك في عقر دارك، فنسير إليك، فتنزل من جحرك هذا على حكمنا، قال كعب: يا بن الحضير، تخوفني بالمسير إلي؟ أما والتوراة لقد رآني أبوك يوم بعاث، لولا نحن لأجلته الخزرج منها، إنكم والله ما لقيتم أحداً يحسن القتال ولا يعرفه، نحن والله نحسن قتالكم، ونالوا من رسول الله ومن المسلمين أقبح الكلام، شتموا سعد بن عبادة شتماً قبيحاً حتى أغضبوه، فقال سعد بن معاذ: دعهم فإنا لم نأت لهذا، ما بيننا وبينهم أشد من المشاتمة؛ السيف) ([100]).
الموقف الثاني: وهو وحدة الموقف من عرض الهدنة الخاصة مع (زعماء حزب غطفان):
(... وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف (زعيمي حزب غطفان): أرأيت إن جعلت لكم ثلث ثمار المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟ قالا: تعطينا نصف ثمار المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك وجاءا في عشرة من قومهم حين تقارب الأمر، وقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وأحضر الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة وهو يريد أن يكتب الصلح بينهم، وعباد بن بشر قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنع في الحديد، فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدري بما كان الكلام، فلما جاء إلى رسول الله وجد عيينة ماداً رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عيين الهجرس، اقبض رجليك، أتمد رجليك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ (ومعه الرمح) والله لولا وجود رسول الله لأنفذت خصيتيك بالرمح.
ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (زعيمي حزب الأنصار) فاستشارهما في ذلك وهو متكئ عليهما والقوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، وأخبرهما بما قد أراد من الصلح فقالا:
إن كان هذا أمر من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تُؤمر فيه ولك فيه هوىً فامض لما لك فيه هوىً فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف، وأخذ سعد بن معاذ الكتاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم (وفي رواية فأحببت أن أخفف عنكم) فقالا:
يا رسول الله إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط، أن يأخذوا ثمرة إلا بشرى أو قرى؛ فحين أتانا الله تعالى بك وأكرمنا بك، وهدانا بك نعطي الدنية لا نعطيهم أبداً إلا السيف؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شق الكتاب، فتفل سعد فيه، ثم شقه وقال: بيننا السيف، فقام عيينة وهو يقول: أما والله للتي تركتم خير لكم من الخطة التي أخذتم وما لكم بالقوم من طاقة، فقال عباد بن بشر: يا عيينة أبالسيف تخوفنا؟ ستعلم أينا أجزع) ([101]).
وهكذا نشهد أن الأحزاب التسعة قد تقلصت تقريباً إلى أربعة أحزاب:
1- المهاجرين. 2- حزب الأوس. 3- حزب الخزرج. 4- حزب المنافقين..
ولعل زعيم حزب المنافقين عبد الله بن أبي لم يحضر المعركة، فلم نجد له ذكراً فيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيره رغم معرفته بكيده ومكره وكفره، لكن هذا لم يحرمه حق المشاركة في تقرير المصير للمدينة، طالما أنه معلن إسلامه في الظاهر.
8- حزب الأنصار يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وهذه هي المرة الوحيدة التي انفرد فيها حزب الأنصار بموقف يختلف عن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عقب فتح مكة والموقف من الغنائم في حنين.
( روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا ([102]) عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأُعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قالوا:ا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرين فردهم فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمنَّ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل، قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم، فلَصَدْقتم ولصُدِّقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجِدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا) ([103]).
9- الأحزاب تشارك في اختيار الخليفة الجديد:
بعد وفاة عبد الله بن أبي زعيم حزب النفاق آل أمر هذا الحزب إلى الحل، وبقيت الأحزاب الثلاثة على الساحة حيث انصهرت بقية الأحزاب فيها، وهي حزب المهاجرين وحزب الأوس وحزب الخزرج.
1- دعا حزب الخزرج حزب الأوس إلى لقاء جامع في سقيفة بني ساعدة، وبنو ساعدة هو قوم سعد بن عبادة زعيم الخزرج، وتداولوا في أمر الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله قد التحق بالرفيق الأعلى، ولبى حزب الأوس الدعوة، لكنه لم يكن من أنصار انفراد الحزبين باختيار الخليفة الجديد، لكنه لم يكن ضد المداولات في ذلك، فالمصلحة مشتركة بين الحزبين في أن يكون الأمير الجديد من الأنصار فالبلد بلدهم، والمدينة عاصمة الإسلام، وهم الدرع الواقي لهذا الدين، وقدموا من التضحيات الكبيرة ما يجعل لهم الأحقية في أن يكون الخليفة منهم.
2- كان سعد بن معاذ رضي الله عنه زعيم حزب الأوس قد استشهد منذ خمس سنوات بعد حرب بني قريظة وآلت زعامة الحزب إلى أسيد بن حضير رضي الله عنه، ونرجح أنه هو الذي بعث برسولين إلى زعيمي حزب المهاجرين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر ليشاركوا في انتخاب الخليفة بينما كانت رغبة حزب الخزرج أن يتم الاختيار بين حزبي الأنصار، ووضع حزب المهاجرين تحت الأمر الواقع، قال الحافظ ابن حجر (وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أن أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل انحازوا إلى أبي بكر ومن معه وهؤلاء من الأوس، وفي حديث ابن عباس عن عمر (( تخلفت عنا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، فيجمع بأنهم اجتمعوا ثم تفرقوا، وذلك أن الخزرج والأوس كانوا فريقين وكان بينهم في الجاهلية من الحروب ما هو مشهور، فزال ذلك بالإسلام، وبقي منه شيء في النفوس ([104])، فكأنهم اجتمعوا أولاً، فلما رأي أسيد ومن معه أبا بكر افترقوا عن الخزرج إيثاراً لتأمير المهاجرين).
أما قصة الرسولين فيقول عنها الحافظ في الفتح (وزاد أبو يعلى من رواية مالك عن الزهري فيه:
( فبينما نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدار أن اخرج إلي يا بن الخطاب فقلت: إليك عني فإنا عنك مشاغيل، يعني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمراً يكون فيه حرب، فقلت لأبي بكر – انطلق – فذكره – فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم، فقلت: والله لتأتينهم، فانطلقنا، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة وذكر في آخر الحديث أن الرجلين اللذين لقياهم هما عون بن ساعدة ومعن بن عدي... وهما من الأوس أيضاً) ([105]).
3- وقد تمت المداولات والمفاوضات بين الأحزاب الثلاثة على أربعة اقتراحات..
الأول: أن يكون الخليفة من الأنصار، الثاني: أن يكون من المهاجرين، الثالث: أن يكون أميران في وقت واحد أحدهما من المهاجرين وثانيهما من الأنصار، الرابع: أن يتعاقب الخلافة مهاجري ثم أنصاري ثم مهاجري في تداول سلمي للسلطة.
ورغم أنه لم يكن من المهاجرين إلا ثلاثة الصديق والفاروق وأمين الأمة، لكنهم أقنعوا بالحجج الدامغة أصحاب الاقتراحات الأخرى باختيار أمير من المهاجرين.
وهذه جوانب من هذه المداولات النيابية بين رجالات الأحزاب الكبار من سجلات اجتماع السقيفة، الذي يعتبر البرلمان الثاني للمسلمين بعد بيعة العقبة الكبرى في مكة.
أبو بكر: (فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا ذكره، وكان مما قاله كما روى الزهري: وكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاماً ونحن عشيرته، وأقاربه، وذوو رحمه، ولن تُصلح العرب إلا برجل من قريش، فالناس لقريش تُبع، وأنتم إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في دين الله، وأحب الناس إلينا، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم بفضيلة إخوانكم، وأن لا تحسدوهم على خير.
خطيب الأنصار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.
زيد بن ثابت (من الخزرج): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإنما الإمام من المهاجرين فنحن أنصار الله كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو بكر: جزاكم الله خيراً، الحباب بن المنذر (من الخزرج) والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير.
عمر: أسيفان في غمد واحد، هيهات لا يصطلحان، وأخذ بيد أبي بكر فقال له هذه الثلاثة } إذ هما في الغار { من هما؟ } إذ يقول لصاحبه { من صاحبه؟ } إن الله معنا { مع من؟.
أحد قادة الخزرج: نختار رجلاً من المهاجرين وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، فيكون أجد أن يشفق القرشي إذا زاغ أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري.
أبو بكر رضي الله عنه لسعد بن عبادة زعيم حزب الخزرج، والمرشح المنافس للخلافة:
والله لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فقال له: صدقت، أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم.
4- وتمت البيعة لأبي بكر بعد أن بايعه زعيما حزبي المهاجرين عمر وأبو عبيدة، ثم تبعهم أحد قادة الخزرج، ثم بايع جميع القادة أبا بكر رضي الله عنه.
( قال أبو بكر: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة.
عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وفي رواية فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبايعنه وبايعه المهاجرون، وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب، فقام أسيد بن الحضير (زعيم حزب الأوس) فبايعه وبشير بن سعد (من زعماء الخزرج) وغيرهما من الأنصار فبايعوا أبا بكر، ثم وثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة.
قال القرطبي في المفهم: لو كان عند أحد من المهاجرين والأنصار نص من النبي صلى الله عليه وسلم على تعيين أحد بعينه للخلافة لما اختلفوا في ذلك وتفاوضوا فيه، قال: وهذا قول جمهور أهل السنة) ([106]).
وهكذا نخلص إلى أن الحياة الحزبية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنقطع خلال عشر سنوات ابتدأت ببيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الكبرى بمكة، وانتهت ببيعة الصديق في سقيفة بني ساعدة أثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأحزاب الكبرى مشاركة في الأحداث اليومية تلتقي وتختلف، والحوار هو ديدن هذا اللقاء، وقد تتوتر الأجواء جداً ثم تنتهي بقرار مشترك يمثل الأغلبية في الأمة، والأمم الراقية ليس وجود وتعدد الأحزاب وكثرتها فيها عنوان حضارتها وحريتها، إنما الأغلب في الأمم الراقية والعريقة في الديمقراطية أن يكون فيها حزبان أو ثلاثة يتداولون السلطة ويضعون البرامج، ويدعون الأمة للتصويت على هذه البرامج، والبرنامج الذي يفوز هو الذي يقوم حزبه باستلام الحكم.
رابعاً – الأحزاب السياسية المعاصرة:
الحزب السياسي: هو منظمة سياسية تضم جماعة من الأفراد الذين يتفقون فيما بينهم على الأسس العامة التي يجب أن تتبع في تنظيم الدول، ويسعون للسيطرة على الحكومة أو المشاركة فيها من أجل تطبيق هذه الأسس.
الأنظمة الحزبية: تنقسم الأنظمة السياسية الحزبية إلى أنظمة تنافسية، وأنظمة غير تنافسية.
آ- الأنظمة الحزبية التنافسية:
في ظل هذه الأنظمة تمارس الأحزاب نشاطاتها في مجتمع ديمقراطي... تتنافس فيه الأحزاب السياسية بواسطة الانتخابات للسيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية ومن أهم خصائص الأنظمة التنافسية أن الأحزاب التي تسيطر على مراكز القوة في الحكومة لا تحاول منع الأحزاب الأخرى عن الاستمرار في ممارسة نشاطاتها السياسية، ونشر مبادئها، وكسب التأييد الشعبي لها، وقيادتها لحركات المعارضة في الدولة، وعند هزيمة الأحزاب الموجودة في الحكومة بواسطة الانتخابات الشعبية فإنها تترك السلطة سلمياً وتسلمها للأحزاب الأخرى المنتخبة التي ستخلفها في السيطرة على الحكومة، وتتحول هي بدورها إلى أحزاب المعارضة.
وفي ظل هذا المحيط التنافسي يمكن أن نميز ثلاثة أنواع للأنظمة الحزبية:
1ً- نظام الحزبين.
2ً- نظام تعدد الأحزاب.
3ً- نظام الحزب الديمقراطي المسيطر.
ولا تنص الدساتير والقوانين لهذه الدول على شكل النظام الحزبي المتبع فيها.
ب- الأنظمة الحزبية غير التنافسية:
الخاصية الأساسية المميزة للأنظمة غير التنافسية هي انفراد حزب واحد بالسيطرة على السلطة السياسية، وامتداد هيمنته على كافة مرافق الدولة المدنية والعسكرية، ولا يسمح الحزب الحاكم للأحزاب الأخرى بممارسة أية نشاطات سياسية، وهي إن وجدت تكون إما خاضعة لحزب الحكومة أو تمارس أعمالها بسرية، وتبرر أحزاب الأنظمة غير التنافسية احتكارها للسلطة ومنع الأحزاب الأخرى من المشاركة المشروعة على أساس أنها تمثل الأمة بأكملها مما يلغي الحاجة إلى وجود أحزاب أخرى إلى جانبها.
ويجب التمييز بين الحزب الحاكم في الأنظمة السلطوية غير التنافسية، وبين الحزب الديمقراطي المسيطر، فهما وإن تشابها من حيث انفراد كل منهما بالسلطة، إلا أن الحزب الديمقراطي المسيطر يصل للسلطة عن طريق فوزه بالانتخابات على بقية الأحزاب، ويمارس أعمال الحكم في جو تنافسي ديمقراطي ويسمح للأحزاب الأخرى بحرية ممارسة نشاطاتها السياسية، ومعارضتها للسياسة الحكومية.
... ويصعب تمييز الحكومة عن الحزب الحاكم في الأنظمة غير التنافسية، فتتولى القيادة الحزبية مهمة القيادة السياسية للدولة، وتتحول قرارات الحزب إلى قوانين حكومية رسمية، وتصبح إيديولوجية الحزب هي إيديولوجية الدولة، وتسخر خطط التنمية في الدولة لتحقيقي برامج الحزب، ويسيطر أعضاء الحزب على كل مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية وأجهزتها الإعلامية والعسكرية والأمنية والبيروقراطية، كما يُخضع الحزب لسيطرته أيضاً كل المؤسسات الاجتماعية المهمة مثل الجمعيات الخيرية والتعاونية والأندية الرياضية والثقافية، وجمعيات النساء ومجالس الأحياء ونقابات العمال، وجمعيات المزارعين وتجمعات الطلبة، ومعسكرات الشباب وجمعيات الفنون الجميلة، وجميع أنواع النقابات المهنية وغير ذلك من نشاطات المجتمع المنظمة).
جـ- الإسلام ضد الأنظمة غير التنافسية:
فالإسلام لا يعطي الحق لفرد ولا لحزب ولا لقبيلة ولا لطائفة باحتكار السلطة بالقوة، لأن نظامه كله يقوم على الشورى في كل شيء، والأحزاب السياسية في الأنظمة غير التنافسية تعتمد القوة أو الانقلاب العسكري لتبرير وجودها، وتمنع الناس من النقد والمواجهة، فلا يوجد في الإسلام ميزة لأحد على أحد، وحين ندع منصب الخلافة العظمى التي تُشترط القرشية فيها([107])، وهو استثناء من القاعدة فيبقى كل شيء في الحكم في السلطتين التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية مفتوحة على مصراعيها للأصلح والأكفأ والأجدر.
} يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير { ([108]).
بل يعتبر الإسلام اختيار غير الأكفأ لموقع سياسي أو حزبي ابتداءً من العشرة فما فوق، خيانة لله ولرسوله ولجماعة المسلمين.
( ومن تولى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك، وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين) ([109]).
والحديث الآخر (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم) ([110]).
أما استعمال القوة في السلطة، فقد ورد فيه نص مباشر.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه) ([111]).
وحيث أن لا قدسية لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل الأمة تدخل التنافس السلمي للوصول إلى السلطة ضمن إطار الشورى.
خامساً- أنواع الأحزاب السياسية:
يعتبر مجهود عالم السياسة الفرنسية موريس دوفرجيه من أوائل المحاولات المهمة التي بُذلت لتصنيف الأحزاب، وقد ربط دوفرجيه تنظيم الحزب بأهدافه وسياسته.. ومن هذا الافتراض انطلق ليميز بين أحزاب العضوية المباشرة مثل الحزب الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، والعضوية غير المباشرة مثل بعض الأحزاب الكاثوليكية في أوربا الغربية وحزب العمال البريطاني.
1- أحزاب الفروع: هي الأحزاب التي تسعى لتوسيع قاعدتها وفتح عضويتها للجماهير وتحاول التمسك بعقيدة محددة ومن أمثلتها الأحزاب الاشتراكية الأوربية.
2- الأحزاب الاستبدادية: وهي الأحزاب الشيوعية والفاشية المتصفة بمركزية السلطة.
تصنيفات أخرى:
لقد ظهرت تصنيفات جديدة متعددة أكثر سهولة وأقرب للمواقع من تصنيفات دوفرجيه وصفها العديد من كتاب دراسات السياسة المقارنة، ولعل من أهمها التمييز بين أحزاب العقيدة، والأحزاب العملية، وأحزاب المصالح:
آ- أحزاب العقيدة: ترتكز هذه الأحزاب حول عقيدة محددة تقدم تفسيراً معقولاً للواقع الاجتماعي، وتضع تصوراً محدداً للمجتمع المنشود، والأفراد ينضمون لحزب العقيدة ويلتفون حوله بسبب التصديق والإيمان بالأفكار والتفسيرات التي تقدمها العقيدة التي تتجسد بوضوح في برامج الحزب وأهدافه، وتكون بمثابة المحرك لنشاطاته والمحددة لسياساته ومواقفه.
ب- الأحزاب العملية: ليس لها ارتباط بعقيدة محددة وتتغير مواقفها وسياستها العامة من فترة لأخرى تمشياً مع الظروف، وإذا كانت أحزاب العقيدة تنافس بمادتها العقائدية فإن الأحزاب العملية تنافس بقدرتها على التحرك بين كافة فئات المجتمع، والحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة هما من أمثلة نماذج الأحزاب العملية.
جـ- أحزاب المصالح: تمثل مصالح محددة لجماعة كبيرة، ويفضل بعض الباحثين تقسيم أحزاب المصالح إلى أحزاب الاهتمامات المادية التي تنشأ حول روابط أساسية مثل العرق أو اللغة أو الإقليم الجغرافي أو الدين)([112]).
سادساً- موقف الإسلام من الأحزاب السياسية:
عالج الدكتور صلاح الصاوي شرعية الأحزاب بين المؤيدين والمعارضين بإسهاب كبير في كتابه التعددية السياسية، وسنعرض رأيه ملخصاً لحجج المؤيدين والمعارضين، ثم نعرض الرأي الراجح بعده.
- حجج القائلين في المنع:
1- ذم الأحزاب في القرآن: إن الأحزاب لم تُذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنة بالذم والوعيد، واقتصرت الإشارة فيها إلى أعداء الدين، ولم ترد مرة واحدة من باب الجواز، بل أصبحت سمة لازمة من الذم في الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)).
2- الأدلة التي تنهى عن الفرقة وتخص على الاجتماع: والأحزاب فرق متناحرة من هذه الأدلة من القرآن الكريم.
} إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء { ([113]).
} منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً { ([114]).
} واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا... { ([115]).
أما نصوص الأحاديث فمنها:
(( عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)) ([116]).
(( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه بالسيف كائناً من كان)) ([117]).
(( وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم، وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله)) ([118]).
3- الولاء والبراء على الإسلام لا على التكتلات الحزبية: إن معقد الولاء والبراء هو الإسلام لا غير، وقد تواترت في ذلك النصوص الصحيحة ومنها } وإنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون { ([119]).
4- الأدلة التي تنهى عن التنافس في طلب الإمارة: منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرْنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: (( إنا لا نولي هذا الأمر من سأله ولا من حرص عليه)).
5- الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس والطعن في الآخرين: ومنها قوله عز وجل:
} ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلا { ([120]).
وقوله عز وجل: } فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى { ([121]).
وقوله تعالى: } ولا تلمزوا أنفسكم { ([122]).
ومعلوم أن من قواعد التنافس الحزبي هذه الحملات الانتخابية التي يقوم بها المرشحون المتنافسون يزكون فيها أنفسهم، ويدعون فيها الناس إلى انتخابهم، ويقدحون في الآخرين.
6- الأدلة التي توجب الطاعة للأئمة في غير معصية: منها: ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم (( اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([123]).
وما رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود من قوله صلى الله عليه وسلم :
(( إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها قالوا: فيم تأمرنا يا رسول الله؟ قال: تؤدون الحق الذي لهم عليكم وتسألون الله الذي لكم)) ([124]).
فأين تقوم المشروعية لهذا النظام الحزبي مع قيامه ابتداءً على مناقضة هذه النصوص.
7- الرد إلى الله ورسوله عند التنازع: إن التحزب إما أن يكون على أصول كلية أو على اجتهادات فرعية، أو على أمور تتعلق بالحكمة وحسن التدبير في السياسة.
فإن كانت على أصول كلية تخالف الأصول الثابتة في الإسلام، فهي مرفوضة، وهي دين الفرق الضالة الخارجة عن الإسلام.
وإن كانت على اجتهادات فرعية فالأصل، إن تم التنازع فيها أن ترد إلى الله ورسوله لا أن تقوم التكتلات والتحزبات على أساسها: (( فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول..)).
وإن كانت على الحكمة وحسن التدبير، فالأصل فيها النصيحة وكفى، لا العمل على إزالة النظام بنظام آخر.
8- انعدام السوابق التاريخية: فقد حكمت دولة الخلافة العالم الإسلامي قروناً متطاولة ولم يسجل لنا التاريخ سابقة واحدة من هذه القبيل، فكان ذلك كالإجماع من الأمة على تركه.
تاسعاً: تداول السلطة يخالف بيعة الإمام الدائمة حتى الوفاة أو العزل:
إن التعددية تعني تبادل السلطة بين الأطراف المتنافسة، وهذا يناقض مفهوم بيعة الإمام حتى وفاته أو تغيره بنقص في كفاءته أو ردته.
9- خطأ القياس على تعدد الأحزاب العلمانية: فالأحزاب في دولة لا دينية تقوم على الرأي والمصلحة، أما تعددها في المجتمع الإسلامي فيجب أن يقوم على الدين، والخلاف يقود للفتنة.
10- فضل التجارب الحزبية المعاصرة في أغلب البلدان الإسلامية: حيث كانت وبالاً على الأمة.
ب- مناقشة حجج المانعين:
وبعد أن يعرض الدكتور الصاوي هذه الحجج المحرمة للحزبية والأحزاب في البلدان الإسلامية يعود ليفندها واحدة تلو الأخرى.
1- عدم ذكر الأحزاب في النصوص الشعرية إلا مقترنة بالذم والوعيد، لأن مضمونها وهدفها غير مضمون وهدف الأحزاب السياسية المعاصرة، لأن الحزب في المفهوم المعاصر هو مجموعة متآلفة جمع بينها وحدة الاتجاه السياسي، ودورها هو تقديم البرامج التي تنقذ الأمة من الفساد، وتطرح حلولاً لأزماتها، وتحقق السعادة لأبنائها، بينما كانت تلك الأحزاب حرباً على الإسلام والمسلمين.
2- الأدلة التي تنهى عن التفرق والاختلاف، وتأمر بالتزام جماعة المسلمين، إنما تنصرف إلى أهل البدع الذين يتحزبون على أصول كلية تخالف الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أو إلى الفرق المذموم الذي ينشأ عن الاختلاف في الفروع.. أما مجرد الانتصار لما يراه الإنسان أقوى حجة أو أليق بمقاصد الشريعة، أو أرجى تحقيقاً لمصالح المسلمين والسعي لوضع هذه الاجتهادات موضع التنفيذ في إطار من الموضوعية والتجرد للحق، فلا يدخل في ذلك.
3- أما بالنسبة للنصوص التي تعقد الموالاة بين المؤمنين على أساس الإيمان، وتأبى أن يعقد شيء من الولاء على ما دون الإيمان حتى لا تتشرذم الأمة فلا علاقة لها بالتعددية الحزبية إذا جرت على الساحة الإسلامية، لأن انتصار المرء لما يعتقد رجحانه من المصالح العامة والسعي لوضعه موضع التنفيذ لا تعني بالضرورة تكفير المخالف لا سيما وقد تقرر ابتداءً أن تعدد الأحزاب لا يكون إلا في إطار سيادة الشريعة والالتزام المجمل بأصولها الكلية.
4- أما بالنسبة للأدلة التي تنهى عن طلب الإمارة فلا منازعة أن الجمهور على أن طلب الولاية مكروه، وأن اجتنابها هو الحزم، وأن من حرص على طلبها وكل إليها.
يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القائم بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها، أو كان أهلاً ولم يعدل فيها، فيجزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه على ما فرَّط، وأما من كان أهلاً لولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة كحديث: (( سبعة يظلهم الله في ظله..)) والحديث المذكور هنا عقب هذا (إن المقسطين على منابر من نور.. وغير ذلك، وإجماع المسلمين منعقد عليه.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الديمقراطية و الحكم (المبحث الثالث)
وهذا الأصل العام يرد عليه ما يلي:
1ً- استثناء من تتعين عليه الإمارة... ويُستدل على ذلك بقصة يوسف عليه السلام في طلب الولاية من عزيز مصر كما قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام } قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم{.
قال الألوسي في تفسير هذه الآية: وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جُهل أمره وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب.
2ً- إن المتأمل في هذه الأحاديث يستطيع أن يقيد المنع الوارد فيها بمن طلب ذلك لمصلحة نفسه أما من طلبها لمصلحة الدين وتحقيق الأصلح للمسلمين مع كونه أهلاً لها، وقاصداً إلى إقامة الحق والعدل فيها فهو خارج عن دائرة هذه النصوص..
ومورد النزاع هو فيمن يحرصون على طلب الإمارة إنفاذ برامج سياسية معينة يرونها أرضى لله وأنفع للمسلمين، والأمة لا تختارهم لذواتهم، وإنما لما يحملونه من برامج قدَّروا أنها أقوم لمصلحة الأمة وإن إلحاق هذه الصورة بصورة من يطلب الولاية لتعينها عليها أقرب لأن التنافس هنا بين برامج وليس بين أشخاص...
ونستطيع أن نقول في أحكام الظاهر أن من يقدم برنامجاً سياسياً جاداً يقوم على اجتهادات شرعية معتبرة، فإن ذلك يكون دلالة منه في الجملة على أنه ينشد في طلب الولاية تحقيق المصالح العامة.
5- أما الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس، وما تتضمنه من النهي عن الدعاية الانتخابية التي درجت عليها الأحزاب السياسية، فلا يخفى أن هذا النهي يستثني منه ما تدعو إليه الحاجة، وقد قال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: } اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم {.
وعلى هذا فإذا بقيت الدعاية الانتخابية في حدود القصد، ولم تتجاوز ذلك إلى الكذب والتلبيس والتغرير بالعامة فهو مما تتسع له قواعد السياسة الشرعية في هذه الحالة، ويكون الأمر من جنس التعريف للحاجة.
وأما نقد أعمال الآخرين التشهير بهم وتتبع عوراتهم فيجب أن يُعاد فيه النظر على ضوء قواعد الشرع.
6- وأما القول بأن الاختلاف في الدولة الإسلامية لا يصلح أساساً للتحزب، نقول: نعم إن التحزب على أصول كلية بدعية لا يصلح أساساً للعمل السياسي، أما المنازعة في الاجتهادات الفرعية وأن يكون بعضها أولى ببعض من خلال البرامج التي تحوز ثقة الخبراء، وتحصل على تأييد أغلبية الأمة، حيث تتاح له الفرصة ليوضع موضع التنفيذ فلا بأس به، ولا يتنافى مع واجب التزام الطاعة للأئمة ما دام أن السلطة الشرعية قد أقرته ودعت الأمة إلى ممارسته.
7- أما بالنسبة للأدلة التي توجب لزوم الجماعة، وتحذر من مفارقتها، فيتحقق لزوم الجماعة في هذا الإطار بالإقرار المجمل بالإسلام، وعدم الانتماء إلى أية فرقة من الفروق الضالة، وإذا كان الإمام هو الذي أتاح للأمة فرصة العمل الحزبي وقد رأى مصلحة في ذلك فلا يُعد هذا العمل منابذة له ولا خروجاً على طاعته.
8- أما القول بأن التعددية تقتضي تبادل السلطة وهو خلاف المعهود في فقه الإمامة العظمى، فيمكن أن يُناقض بما يلي: إن الإمامة عقد من العقود وتعقدها الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد مع من يتولى أمرها من الأئمة، ويجوز تقييدها بما تقيد به سائر العقود من الشروط والقيود شريطة أن تكون في دائرة الشرعية، فلا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولا تأمر بمنكر ولا تنهى عن معروف، وقد أشار الماوردي في الأحكام السلطانية إلى جواز تعليق تولية الخليفة بالشروط، وأشار أبو يعلي في كتابه " الأحكام السلطانية "كذلك.
9- وأما الاحتجاج بانعدام السوابق التاريخية لهذا العمل، فلا بد من التفريق بين الثوابت والمتغيرات في هذا الباب، فما كان من الثوابت كسيادة الشريعة، وسلطة الأمة، والشورى، والحسبة، ونحوه فإنه من الأصول الثابتة التي لا يجوز التفريط فيها طرفة عين، أما الأساليب العملية التي توضع فيها هذه القيم موضع التنفيذ فهذا الذي تركته الشريعة عفواً للناس يتولون ترتيبه بما يلبي حاجاتهم، ويحقق مصالحهم في إطار سيادة الشريعة، واستلهام مقاصدها العامة.
10- وأما القول بأن التعددية السياسية في ظل الدولة الإسلامية ستفضي إلى الهرج والتقاتل لامتزاج المواقف السياسية بالدين، فيمكن أن يناقش بأن التعددية موضع البحث، هي التي تدور في فلك الالتزام بسيادة الشريعة والإقرار المجمل بالأصول الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، ولا يكون الاختلاف بين فصائلها إلا في موارد الاجتهادات ومجالات الشورى، والأصل أن الإطار الذي يحكم نظرة كل فريق إلى الآخر هو مقولة الأئمة (ما نحن عليه صواب يحتمل الخطأ، وما عليه غيرنا خطأ يحتمل الصواب) وهذه المسائل لا علاقة لها بكفر ولا إيمان.
11- أما الاحتجاج بفشل التجارب الحزبية المعاصرة في بلاد المسلمين فهو احتجاج غريب، فإن كل هذه الأحزاب علمانية التوجه لا نعلم واحداً منها قام على تحكيم الشريعة وإقامة الدين والسعي لإقامة الدولة الإسلامية فكيف يحتج بجرائم تلك الأحزاب على فشل التجربة الحزبية في ظل دولة إسلامية؟
والخلاصة أن أدلة هذا الاتجاه لا تخلو جميعاً من مقال، وبوسع المشروع الحضاري الإسلامي أن يقدم نموذجاً لممارسة حزبية يتلافى بها كثيراً من المثالب التي وجهت لظاهرة تعدد الأحزاب لأن النموذج العربي ليس بملزم بطبيعة الحال) ([125]).
وبعد أن استوفينا حجج المانعين نعود لاستعراض حجج المجيزين لها...
ب- حجج المؤيدين للأحزاب والتعددية السياسية:
( مرتكزات القول بمشروعية التعددية السياسية:
1- السياسة الشرعية:
فهي كما عرَّفها ابن عقيل (السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإن أردت بقولك (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة) ([126])، فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر له بهذه العلامات) ([127]).
وعلى هذا فإن تدبير شؤون الحكم.. وتمكين الأمة من ممارسة حقها في السلطة وتدبير أنظمة الشورى ونموها كل ذلك من مسائل السياسة الشرعية التي لا يٌشترط أن تكون على مثال سبق، بل يُشترط أن لا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية، وأن تتحقق بها المصلحة.
2- الأصل في العقود والمعاملات الإباحة:
حتى يأتي ما يدل على التحريم، وهو أحد الرأيين في هذه المسألة وهو الأليق بمقاصد الشرع، فإذا استخلصنا صياغة لتعددية حزبية تحقق المصلحة، وتصون الأمة من جور الحكام المستبدين، فإن الأصل هو الحل، وعلى مدعي المنع إقامة الدليل.
3- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
فإذا استصحبنا هذه القاعدة لتطبيقها في مجال السياسة والحكم لوجدنا أن الشريعة تأمرنا بجملة من المبادئ الكلية يتوقف وجودها أو حسن القيام بها في واقعنا المعاصر على التعددية السياسية وأهمها الشورى، والرقابة على السلطة، فإذا كانت الشورى لا تتحقق في أرشد تطبيقاتها وأكثرها فاعلية المعاصر إلا من خلال التعددية السياسية.
فإذا أطلقت التعددية المؤطرة بسيادة الشريعة الإسلامية، وفُتح الباب أمام أهل الخبرة والتخصص ليقدموا برامج الحكم المقترحة، كان الاختيار حقيقياً بين هذه البرامج، ولم تكن الدعوى أن التعددية هي الصورة الوحيدة لتحقيق الشورى حتى يثور الاعتراض، إنما كانت الدعوى أن التعددية هي أرشد أو من أرشد تطبيقات مبدأ الشورى في عملية انتقال السلطة في واقعنا المعاصر.
وأما الرقابة على السلطة التي نص عليها الشرع فلإقامة هذا الواجب على وجهه يقتضي قيام تكتلات شعبية تتولى هذه المهمة، وقد أثبتت وقائع التاريخ تسلط أصحاب السلطان واستطالتهم على الذين يأمرون بالقسط من الناس، فلا جدوى من المعارضة الفردية أمام جبروت الطغاة، إنما الجدوى في الكتل الشعبية.
4- قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات: فموارد الأحكام قسمان:
مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها.
يقول الشاطبي: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، فقد يكون الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه) ([128]).
فإذا استصحبنا هذه القاعدة في قضية التعددية السياسية، فإنها تقودنا بمشروعية هذه التعددية رغم ما قد يشوبها من بعض التجاوزات، فالاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية ومنع فتنة الخروج المسلح على الأئمة أحد مقاصد الشريعة في هذا الباب، ولم يقف هذا الخلاف عند حدود الرعيل الأول، بل سرى واستشرى في معظم مسيرة التاريخ الإسلامي، فإذا كان الخلاف حقيقة واقعة والتعددية أمراً واقعاً كذلك سواء علينا شئنا أم أبينا، وأمكن للفكر الإسلامي أن يستنبط صيغة من صيغ التعامل مع هذه المعارضة تكفل استيعابها داخل إطار مشروع يتيح لها مشروعية التعبير ومشروعية العمل في الضوء، ويتيح لها مشروعية وفرصة المشاركة في الحكم إذا قدمت عطاء متميزاً يحوز ثقة الأغلبية، فتوقي الأمة غوائل الخروج المسلح، وحركات التمرد الهوجاء.
5- حرس الإسلام على صيانة الحقوق والحريات:
صيانة الحقوق والحريات العامة كما يقول عليه الصلاة والسلام: (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)).
إذا تهيأ ذلك وعُلم أن التعددية الحزبية هي الإطارات الفعَّالة التي تتيح للأفراد ممارسة حقوقهم وحرياتهم العامة وتحول دون استبداد الحكام بالسلطة، فصارت هي الوسيلة الممكنة عملياً لصيانة هذه الحرمات، وفقاً لقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقاعدة أن الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاً وحرمة.
سابعاً- الأحزاب غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية:
لقد غطى الدكتور الصاوي مبحث الأحزاب والتعددية السياسية في ظل دولة إسلامية يحتكم جميع أبنائها إلى الإسلام، والقضية الكبرى المتنازع عليها هي مصير الأحزاب غير الإسلامية في ظل دولة الإسلام، وكثيراً ما يُطرح هذا السؤال:
هل يُسمح بقيام حزب شيوعي لو حكم الإخوان المسلمون؟
لقد توجه بهذا السؤال العديد من الصحفيين إلى قادة الحركات الإسلامية، فهم يريدون أن يطمئنوا على رأي مدى وجود الديمقراطية في ظل الحكم الإسلامي.
آ- الحركة الإسلامية في تونس:
لقد تبنت حركة الاتجاه الإسلامي في تونس هذا الاتجاه حيث قالت في بيانها التأسيسي:
( رفض مبدأ الانفراد بالسلطة الأحادية لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان، وتعطيل لطاقات الشعب، ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية بممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشعرية والتعاون في ذلك مع جميع القوى الوطنية).
وحجتهم في ذلك أن المذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهود والنصارى لهي من المرونة بحيث تستوعب داخل إطارها الشيوعيين والعلمانيين، إذ لم يكونوا أكفر من اليهود والنصارى وفي الصحيفة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة من المسلمين واليهود ومن دخل في عهدهم عبرة ومنهاج وسابقة لها دلالتها الحضارية التي تشهد على مرونة الإطار السياسي في الدولة الإسلامية) ([129]).
ويعلق الأستاذ الغنوشي على هذه الوثيقة حتى لا يُساء فهمها بقوله:
إن القضية لا تتعلق في النهاية بالنظرية الإسلامية في الحكم فالجميع متفقون على أن الحاكمية للأمة في إطار الشريعة، وأن سلطة الأمة لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولكن الاختلاف يدور حول نظرية التغيير وحول صاحب السلطة، أي مصدر شرعية الدولة ما هو؟ إذا قلنا الشعب فقد وضعنا أنفسنا كأحزاب إسلامية على قدم المساواة مع كل أفراده وتياراته، وإذا قلنا شيئاً آخر فعلينا أن نحدده، ونصرح به ولا يفيد الإبهام) ([130]).
2- رأي الإخوان المسلمون في مصر: كتب الأستاذ مصطفى مشهور، مقالاً تحت عنوان التعددية الحزبية قال فيه: إن الإسلام مع التعددية الحزبية، وحرية الرأي ولا يكره أحداً على الدخول في الدين (لا إكراه في الدين) ويرسم حدود المعاملة مع غير المسلمين في حدود العدل والأمن وحصولهم على حقوقهم كاملة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، والإخوان المسلمون يؤمنون بالتعددية وهم موجودون منذ عام 1928، ولم تتسبب إساءة لأي مسيحي أو يهودي بسبب عقيدته بل هم يقبلون بوجود مسيحيين ضمن الحزب الإسلامي، ويؤمنون بأن الإسلام هو أقوى ضمان للوحدة الوطنية... ولا يمكن أبداً أن يُحدث إنشاء حزب إسلامي وحزب مسيحي فتنة طائفية ويسبب حرباً بين الحزبين، كما أنه من حق كل مواطن أن يفكر في إصلاح وطنه ويختار الإصلاح الذي يراه ويدعو غيره إليه) ([131]).
جـ- رأي الحركة الإسلامية في سورية: جاء في بيان الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها:
من الحقوق الأساسية للمواطنين تأليف الأحزاب السياسية إذا لم تخالف الأمة في عقيدتها، ولم ترتبط بدولة أجنبية في ولائها، فليس للثورة الإسلامية أي تحفظ على أي حزب لأن الثورة تسقط مسوغات وجودها إذا كانت تخشى على الإسلام من منافسة الأحزاب الأخرى) ([132]).
وقد تطور موقف الإخوان المسلمين في سورية في هذا المجال، ولم يعد هذا القيد مخالفة الأمة في عقيدتها – هو الذي يحظر الأحزاب الأخرى، بل صار أرحب من ذلك حيث أعلنت الحركة الإسلامية في سوريا رأيها في ميثاق الشرف الذي طرحته على الأمة، ومما قالت فيه (إن دعوتنا إلى الحوار ترتكز تلقائياً على مجموعة من الثوابت يُفقد الأمة تجاوزها وجودها وقوتها.. وأول هذه الثوابت: أن الإسلام بمقاصده السامية، وقيمه العليا، وشريعته السمحاء يشكل مرجعية حضارية، وهوية ذاتية لأبناء هذه الأمة..).
فلم تعد العقيدة الإسلامية هي ميزان السماح للتعددية في الإسلام، إنما مقاصد الإسلام وقيمه العليا، شريعته السمحاء هي التي تشكل المرجعية الحضارية.
والإسلام بالنسبة لأبناء قطرنا العربي السوري، إما مرجعية دينية، أو انتماء حضاري فهو بالتالي كلي جامع لأبناء الوطن، موحد بينهم، حافظ لوجودهم.
وثاني هذه الثوابت، انتماء قطرنا السوري إلى منظومته العربية، هذا الانتماء الذي ينبغي أن يُعتبر أساساً في بناء أي استراتيجية سياسية مستقبلية..
ثم إن المواجهة بين العروبة والإسلام كانت عنوان مرحلة تاريخية تصرمت، ولقد نشأت تلك المواجهة عن عوامل من الانفعال وسوء الفهم، وحمى الإيدلوجيا التي سادت المناخ العام في فترات ما بعد الاستقلال).
وهذا يعني أن التيار العربي القومي، والتيار الإسلامي قد اقتربا في إطار التكامل لا في إطار المواجهة، وكما كان انتماء قطرنا إلى إسلامية هوية ومرجعية غير مضر بوحدته الوطنية، فإن انتماءه إلى عروبته لا يحمل أي بعد عنصر أو استعلائي حيث يجد أبناء الوطن أجمع سر مواطنتهم في روج العدل والتآخي والمساواة والمشاركة في سراء الوطن وضرائه على حد سواء.
وثالث هذه الثوابت، أن تأكيداتنا السابقة على المرجعية والهوية والانتماء لا تحول أبداً بيننا وبين الاستفادة من تجارب الأمم وخبرات الشعوب ومعطيات العصر التي نعيش، بل إننا مدعوون حسب مرتكزاتنا الحضارية إلى أن نخوض غمار التنافس إلى أقصى مداه، ليكون لنا فضل السبق وأولوية التمكين، وتبقى الحكمة بكل أبعادها ضالتنا لنا أنى وجدناها فنحن أحق الناس بها) ([133]).
وانطلاقاً من هذه الثوابت فأي حزب يقوم من أحد هذه الثوابت دون أن يعارض الثوابت الأخرى فله حق الوجود في الدولة الإسلامية المعاصرة، فلو فرضنا أن حزباً إسلامياً قام على أساس عداء العرب وتحقيرهم، فهذا الحزب يحظر لأنه يخالف قيم الإسلام، ويخالف الانتماء العربي، فمخالفة قيم الإسلام فيما رواه سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله، قال: تبغض العرب فتبغضني)) ([134]).
وهو يخالف الانتماء العربي التاريخي للأمة دون أي مساسٍ بغير العرب في الأمة...
ولو فرضنا أن حزباً قومياً قام على أساس حرب الإسلام والقضاء عليه، فهذا الحزب يحظر لأنه يخالف الانتماء الحضاري للأمة، والقيم التي تلتقي عليها الأديان السماوية كلها في الإخاء والتسامح ولو أن حزباً دينياً قام على أساس حزب العلم والاستفادة من منجزاته في الحياة، فهو حزب محظور لأنه يخالف الثوابت الثلاثة.
إن أي حزب يختار أحد هذه الثوابت ليعمل لها، ويخدم أمته من خلالها، ولا يتعارض مع قيمها له حق الوجود في الساحة الإسلامية.
وانطلاقاً من هذه الثوابت يرد السؤال:
هل يمكن أن نتصور وجود حزب شيوعي في ظل دولة إسلامية؟
والجواب يتضح كما يلي...
إذا أعلن الحزب أن ينطلق من الفهم الاقتصادي للشيوعية لتحرير العمال والأمة من الاستغلال والربا والاحتكار والظلم، وكانت مبادئه ضمن هذا الفهم فلا حرج في ذلك، وله الحق أن يعلن وجوده في ذلك، لكن إن أصر على أن يقدم العقيدة الشيوعية في صلب مبادئه وهي أن لا إله والحياة مادة، والدين خرافة فيحظر عليه ذلك وهو الذي طبق هذا المبدأ عندما حكم فحرم حرية الدعوة إلى الدين وأباح الدعوة إلى الإلحاد في كل أحزاب المنظومات الاشتراكية، ولو أن الحزب الشيوعي أعلن أن العنف هو طريقه إلى التغيير، فيحظر لأن التنافس والتسامح والحرية والديمقراطية هي طريق التغيير في دولة الإسلام ومثل هذا الكلام يُقال على الأحزاب الأخرى.
فلا يُشترط للحزب إذن أن يتبنى قيم الإسلام، أو يتبنى الانتماء العربي، أو يتبنى العلم فمن حقه أن يدعو إلى أي من هذه الثوابت دون التعارض والتناقض مع الثوابت الأخرى، ولكل حقه في التركيز على الجانب الاقتصادي أو العلمي أو القومي أو الإسلامي أو الديني، دون أن يهاجم القيم الأخرى من هذه الثوابت، والذي يساعد في فهم التصور عن الأحزاب في هذا الميثاق، هو تحديد مجموعة من الأهداف هي:
الهدف الأول: بناء الدولة الحديثة. الهدف الثاني: مواجهة تحدي البناء العام، الهدف الثالث: التصدي للمشروع الصهيوني. الهدف الرابع: السعي إلى تحقيق الوحدة العربية.
ويدخل تحت كل هدف مجموعة من الأهداف الجزئية، ولو أن الحزب اختار أياً من هذه الأهداف الكلية أو الجزئية، وتقدم ببرامجه العملية لتحقيقها، فمن حقه ذلك دون أن يعترض عليه أحد.
كما تحدث الميثاق في مجال التعددية السياسية، وهو يقدم نموذج الدولة الحديثة المطلوب بناؤها أنها:
1- دولة تعاقدية. 2- دولة مؤسسية. 3- دولة تداولية. 4- دولة تعددية. 5- دولة قانونية.
ثامناً- الحركة الإسلامية تجاوزت فكر التعددية السياسية الإسلامية:
وخلاصته أن الحرية في ظل الدولة الإسلامية، هذا الفكر هو الذي طرحه الدكتور الصاوي في وثيقته ([135]) وتوجه بمجموعة من الأسئلة:
هل تتيح التعددية فرصة متكافئة لجميع أطرافها في ضوء ما يسفر عنه الاختيار الشعبي أم لا؟
فهل تقبل الدولة الإسلامية ولاية اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين، وتقبل أن تكون مناهجهم هي الحاكمة في بلاد المسلمين؟ الجواب قطعياً بالنفي.
ولكن عرض السؤالين الأخيرين خطأ، لكن السؤال الأول، نجيب عليه بنعم وهو هل تتيح التعددية فرصة متكافئة لجميع أطرافها في ضوء ما يسفر عنه الاختيار الشعبي أم لا، وذلك لأننا لا نملك ونحن خارج السلطة سلطة على أحد نمنعه أو نبقيه ونعود إلى السؤال الثاني:
هل تقبل الدولة الإسلامية ولاية اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين، ونحن مع الوثيقة: لا، لكن ليس هذا السؤال المطروح للنقاش، السؤال المطروح: هل يحق لليهود والنصارى أن يقيموا حزباً في ظل دولة إسلامية؟ والإجابة: نعم؛ لأن الإسلام الذي سمح بوجودهم مع تناقضه الكامل مع عقائدهم يسمح لهم بإقامة حزب يحفظ حقهم في المشاركة في الحياة السياسية التي لم تحظر عليهم إلا موقع الخليفة أو ما يماثله من وزارة التفويض، وهم مكلفون أن يكون حزبهم ضمن قيم الإسلام العامة، وليس ضمن عقيدة الإسلام الخاصة.
والسؤال الثالث: هل نقبل أن تكون مناهجهم هي الحاكمة في بلاد المسلمين، نجيب معه بالنفي، لكن ليس هو السؤال المطروح للإجابة عليه، إنما السؤال المطروح في ظل دولة إسلامية بالاختيار الشعبي النظام الإسلامي دستوراً لها، هل يحق لهم طرح مناهج للإصلاح تناقض هذا الدستور والجواب: لا، وهذا الحق الدستوري محتفظ به في ظل الدولة الديمقراطية وليس في ظل الدولة الإسلامية فحسب، بينما نلاحظ أن الوثيقة الثانية التي طُرحت للنقاش، وتبنت التعددية السياسية، وقدمها د. سليم العوا على ضوء مستجدات الواقع والحجج الكافية فيها.
وعلى إثر النقاش الذي تم للورقتين اتفق المنتدون على ما يلي:
- الاعتراف بحقيقة التعددية السياسية في النظام السياسي الإسلامي.
- إن حدودها تكمن في القيم الأساسية والمقاصد الكلية للشريعة أو ما يمكن تسميته بقواعد النظام العام.
- إن الوسائل الإجرائية من انتخابات وترشيح تسعها نصوص الشريعة ولا تمنع تطورها.
- إن الحركة الإسلامية تقبل مبدأ تداول السلطة.
- كما أكد المنتدون على أن قضية التعددية ينبغي أن تبقى مرتبطة بحقيقة القيم الأساسية، ولكن ما ينبغي للحركة الإسلامية أن تنزلق بازدواجية القيم بدعوى التمييز بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة بما يشكك في أصول وحدة القيم الأساسية الإسلامية.
- وإن فكرة التعددية باعتبارها فكرة حضارية من الأهمية بمكان بحيث يجب أن لا تقف عند التعددية السياسية، بل لا بد أن تحترم كل المستويات الأخرى الحضارية والتربوية التي تؤكد قبول الآخر وجوداً وفكراً) ([136]).
هذا وقد تبنت الحركات الإسلامية عامة هذا الاتجاه نظرياً وعملياً حيث قامت ممارسة التعددية السياسية والمشاركة في الانتخابات مع فصائل الأمة كلها حيث أُتيح لها ذلك، وقبلت بنتائج صناديق الاقتراع، وشاركت في الحياة السياسية، في كلٍ من سورية ولبنان والأردن والكويت ومصر واليمن، وحين في الجزائر وتونس والمغرب.
أما في السودان فقد استلمت السلطة وأقامت دولة إسلامية، وتدرجت في التعامل مع الآخرين من منع الحزبية إلى أن وصلت إلى السماح للأحزاب بكل اتجاهاتها الإسلامية والقومية والسياسية والدينية بكل ألوانها وأطيافها ضمن مبادئ الدستور، ولم تفرض سياسية الحزب الواحد أو سياسة الحزب الحاكم، أو تتبنى هذا المنطق على الأقل.
لكن الحركة الإسلامية انقسمت على أنفسها إلى حزبين كبيرين تتميز العلاقة بينهما دوماً بالتوتر والحدة، ونسأل الله تعالى أن تقدم التجربة السودانية والإسلام حاكم الصورة الناضجة للتعددية السياسية.
وحتى الحركات المتطرفة الإسلامي في مصر – كما رأينا في مكان آخر – تمثل فيها تيار الأغلبية الذي يتخلى عن الجهاد ضد الأنظمة، ويتبنى الجهاد السياسي، جهاد الكلمة، والتعددية السياسية لتنفيذ برامج الحزب ومنطلقاته.
بقي أن نقول إن خصوم الحركات الإسلامية من حكام وأحزاب هم الذين يحظرون على الحركة الإسلامية استعمال حقها في الحياة الحزبية والسياسية، ويريدون أن ينفوا وجودها تحت ستار خطر الأحزاب الدينية عكس ما نشهده في الديمقراطيات الغربية التي توجد فيها أحزاب دينية حاكم وغير حاكمة.
] فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ ([137]).
تاسعاً- ملخص البحث:
ونخلص بعد هذا العرض إلى النتائج التالية:
1- هناك جوانب سلبية في موضوع الأحزاب لذكرها في معرض الذم في القرآن، ولبعض التجارب السيئة للأحزاب المعاصرة في بلادنا، مقابل الجوانب الإيجابية لها، حيث صارت حنيناً يحن لها المواطن العربي في ظل الأنظمة الدكتاتورية، ولا مناص من تناولها ونحن نتحدث عنها بصفتها أساً لمشروعنا الحضاري الذي يقوم على الشورى والتعددية السياسية، الأحزاب ركن أساسي فيه.
2- الحزب لغة: هو الجماعة من الناس، وكل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم، وفي المصطلح مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وإيديولوجية مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة لتحقيق برامجهم.
3- حين نتحدث عن الأحزاب في المجتمع الإسلامي الأول نعني بها: الكتلة أو المجموعة من الناس لها مصالح مشتركة وتساهم في العمل السياسي.
4- لقد كانت أول وزارة إسلامية في بيعة العقبة تقوم على الأساس الحزبي القبلي الذي يشمل كل المدينة.
5- وقامت وثيقة المدينة – وهي بمثابة دستور الدولة – على التعددية السياسية، الدينية والقبلية.
6- وكانت التربية النبوية تسعى لتفتيت التكتلات الحزبية القبلية لتصل إلى المجتمع المدني الذي يقوم الانتماء فيه على أساس الفكرة لا القبلية.
7- ومن محاولات تقليص الحزبية القبلية قامت عملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة.
8- وشهدت المدينة أول صراع حزبي بين الأوس والخزرج مع بداية قيام الدولة الإسلامية كاد أن يؤدي لتصدع الوحدة الإسلامية.
9- برزت عملية تذويب الصراع الجاهلي وتحويله إلى تنافس إيماني من خلال المعارك الجهادية مع المشركين.
10- لقد كان حزب المنافقين واقعاً سياسياً لا يمكن إلغاؤه لإعلانه الانتماء الإسلامي، ولا يمكن تركه على غاربه لمحاولاته الكيد للإسلام والمسلمين.
11- حزب الأنصار بفرعيه الكبيرين الأوس والخزرج يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حرمانه من غنائم حنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن انتماءه للأنصار وانتماء الأنصار له.
12- حزب الأنصار بفرعيه الكبيرين الأوس والخزرج مع حزب المهاجرين يقومان بانتخاب الخليفة الجديد.
13- الأحزاب السياسية المعاصرة منها ما يقوم على الأنظمة الحزبية التنافسية وهي في النظام الديمقراطي والأنظمة الحزبية غير المتنافسة في النظام الديكتاتوري.
14- الإسلام ضد الأنظمة الحزبية غير المتنافسية لأنه ضد الاستبداد من فرد أو فئة أو حزب.
15- تتنوع الأحزاب السياسية ما بين الأحزاب الديمقراطية والأحزاب الاستبدادية، أو من خلال تقسيم ثلاثي آخر؛ هي أحزاب العقيدة والأحزاب العملية وأحزاب المصالح.
16- موقف الإسلام من الأحزاب السياسية، مختلف فيه بين المانعين وبين المجيزين.
17- وتتلخص حجج المانعين منها بـ:
1- ذم الأحزاب في القرآن.
2- الأدلة التي تنهى عن الفرقة.
3- الولاء والبراء على الإسلام لا على الحزب.
4- الأدلة التي تنهى عن طلب الإمارة.
5- الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس.
6- الأدلة التي توجب طاعة الأئمة بغير المعصية.
7- الرد إلى الله والرسول عند التنازع.
8- انعدام السوابق التاريخية.
9- خطأ القياس على الأحزاب العلمانية.
10- فشل التجارب الحزبية المعاصرة.
18- ويرد على هذه الحجج بـ:
1- ذكر الأحزاب في القرآن إنما انصب على الأحزاب الكافرة المعادية للإسلام.
2- الأدلة التي تنهى على التفرق هي حول الأصول أما الفروع فلا ضرر من الاختلاف فيها.
3- الولاء والبراء على أساس الإيمان لا تتعارض مع التعددية الحزبية، التي تقوم على التنافس لا على التبديع أو التكفير.
4- الأدلة التي تنهى عن طلب الإمارة هي أدلة كراهة وتنتفي الكراهة عند الضرورة، ]اجعلني على خزائن الأرض [.
5- الأدلة التي تنهى عن التزكية يُقال فيها ما يُقال في طلب الإمارة، والمزكي هنا آخر، وعند الضرورة جائز ] إني حفيظ عليم [.
6- لا يصح الاختلاف أساساً للتحزب، هذا في الأمور الكلية وليس في الاجتهادات السياسية.
7- أدلة وجوب لزوم الجماعة لا تتعارض مع التنافس الحزبي ضمن الجماعة المسلمة.
8- التعددية تقضي تبادل السلطة والإمامة العظمى ثابتة، وهذا لا قطع فيه، فما يتفق عليه في التشاور بين أبناء الأمة يتعين العمل فيه.
19- حجج المؤيدين للأحزاب:
1- السياسية الشرعية المعاصرة تقتضيها ولا تتعارض مع مقاصد الشرع.
2- الأصل في العقود الإباحة، فإذا كانت تمنع جور المستبدين صارت واجبة.
3- مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يُكف الظلم إلا بالتنافس والمراقبة.
4- قاعدة سد الذرائع والنظر إلى المآلات تقتضي التعددية للاستقرار السياسي والبعد عن
التغيير بالقوة.
5- حرص الإسلام على صيانة الحقوق يتم من خلال البرامج الحزبية المنوعة.
20- وننطلق من التعددية الحزبية الإسلامية للحديث عن الأحزاب غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية، حيث أجاز ذلك حركة الاتجاه الإسلامي في تونس والحركة الإسلامية في مصر والحركة الإسلامية في سورية، انطلاقاً من السماح لليهود والنصارى بالوجود بكتلهم في الدولة الإسلامية، فما الذي يمنع حزب يحقق مصالحهم.
21- تطورت الحركة الإسلامية في سورية، حيث كانت تشترط في ميثاق الثورة الإسلامية للحزب أن لا يخالف عقيدة الأمة ولا يكون ولاؤه لدولة أجنبية إلى أن لا يخرج على قيم الإسلام وثوابت الأمة، وأن يحقق أحد الأهداف الكبرى للأمة.
22- وقد تجاوزت الحركة الإسلامية فكرة التعددية السياسية الإسلامية إلى التعددية السياسية العامة وقرر المؤتمرون بعد مناقشة الوثيقتين (للصاوي والعوا): الاعتراف بالتعددية السياسية في النظام السياسي الإسلامي، وحدودها تكمن في مقاصد الشريعة الكلية، والوسائل الإجرائية من انتخابات وترشيح تسعها نصوص الشريعة ولا تمنع من تطويرها لا بد أن تحترم التعددية السياسية الإسلامية كل المستويات الحضارية الأخرى التي تؤكد قبول الآخر وجوداً وفكراً.
23- ساهمت الحركات الإسلامية في كل من سوريا ولبنان والأردن والكويت ومصر واليمن والجزائر العمل ضمن التعددية السياسية.
24- أسست الحركة الإسلامية في السودان دولة إسلامية، وسمحت بالتعددية السياسية لكل الأحزاب.
25- المشكلة كامنة في رفض الآخرين للحركة الإسلامية تحت ستار رفض الأحزاب الدينية خوفاً من الطائفية، والحقيقة خوفاً من شعبيتها.
1ً- استثناء من تتعين عليه الإمارة... ويُستدل على ذلك بقصة يوسف عليه السلام في طلب الولاية من عزيز مصر كما قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام } قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم{.
قال الألوسي في تفسير هذه الآية: وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جُهل أمره وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب.
2ً- إن المتأمل في هذه الأحاديث يستطيع أن يقيد المنع الوارد فيها بمن طلب ذلك لمصلحة نفسه أما من طلبها لمصلحة الدين وتحقيق الأصلح للمسلمين مع كونه أهلاً لها، وقاصداً إلى إقامة الحق والعدل فيها فهو خارج عن دائرة هذه النصوص..
ومورد النزاع هو فيمن يحرصون على طلب الإمارة إنفاذ برامج سياسية معينة يرونها أرضى لله وأنفع للمسلمين، والأمة لا تختارهم لذواتهم، وإنما لما يحملونه من برامج قدَّروا أنها أقوم لمصلحة الأمة وإن إلحاق هذه الصورة بصورة من يطلب الولاية لتعينها عليها أقرب لأن التنافس هنا بين برامج وليس بين أشخاص...
ونستطيع أن نقول في أحكام الظاهر أن من يقدم برنامجاً سياسياً جاداً يقوم على اجتهادات شرعية معتبرة، فإن ذلك يكون دلالة منه في الجملة على أنه ينشد في طلب الولاية تحقيق المصالح العامة.
5- أما الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس، وما تتضمنه من النهي عن الدعاية الانتخابية التي درجت عليها الأحزاب السياسية، فلا يخفى أن هذا النهي يستثني منه ما تدعو إليه الحاجة، وقد قال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: } اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم {.
وعلى هذا فإذا بقيت الدعاية الانتخابية في حدود القصد، ولم تتجاوز ذلك إلى الكذب والتلبيس والتغرير بالعامة فهو مما تتسع له قواعد السياسة الشرعية في هذه الحالة، ويكون الأمر من جنس التعريف للحاجة.
وأما نقد أعمال الآخرين التشهير بهم وتتبع عوراتهم فيجب أن يُعاد فيه النظر على ضوء قواعد الشرع.
6- وأما القول بأن الاختلاف في الدولة الإسلامية لا يصلح أساساً للتحزب، نقول: نعم إن التحزب على أصول كلية بدعية لا يصلح أساساً للعمل السياسي، أما المنازعة في الاجتهادات الفرعية وأن يكون بعضها أولى ببعض من خلال البرامج التي تحوز ثقة الخبراء، وتحصل على تأييد أغلبية الأمة، حيث تتاح له الفرصة ليوضع موضع التنفيذ فلا بأس به، ولا يتنافى مع واجب التزام الطاعة للأئمة ما دام أن السلطة الشرعية قد أقرته ودعت الأمة إلى ممارسته.
7- أما بالنسبة للأدلة التي توجب لزوم الجماعة، وتحذر من مفارقتها، فيتحقق لزوم الجماعة في هذا الإطار بالإقرار المجمل بالإسلام، وعدم الانتماء إلى أية فرقة من الفروق الضالة، وإذا كان الإمام هو الذي أتاح للأمة فرصة العمل الحزبي وقد رأى مصلحة في ذلك فلا يُعد هذا العمل منابذة له ولا خروجاً على طاعته.
8- أما القول بأن التعددية تقتضي تبادل السلطة وهو خلاف المعهود في فقه الإمامة العظمى، فيمكن أن يُناقض بما يلي: إن الإمامة عقد من العقود وتعقدها الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد مع من يتولى أمرها من الأئمة، ويجوز تقييدها بما تقيد به سائر العقود من الشروط والقيود شريطة أن تكون في دائرة الشرعية، فلا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولا تأمر بمنكر ولا تنهى عن معروف، وقد أشار الماوردي في الأحكام السلطانية إلى جواز تعليق تولية الخليفة بالشروط، وأشار أبو يعلي في كتابه " الأحكام السلطانية "كذلك.
9- وأما الاحتجاج بانعدام السوابق التاريخية لهذا العمل، فلا بد من التفريق بين الثوابت والمتغيرات في هذا الباب، فما كان من الثوابت كسيادة الشريعة، وسلطة الأمة، والشورى، والحسبة، ونحوه فإنه من الأصول الثابتة التي لا يجوز التفريط فيها طرفة عين، أما الأساليب العملية التي توضع فيها هذه القيم موضع التنفيذ فهذا الذي تركته الشريعة عفواً للناس يتولون ترتيبه بما يلبي حاجاتهم، ويحقق مصالحهم في إطار سيادة الشريعة، واستلهام مقاصدها العامة.
10- وأما القول بأن التعددية السياسية في ظل الدولة الإسلامية ستفضي إلى الهرج والتقاتل لامتزاج المواقف السياسية بالدين، فيمكن أن يناقش بأن التعددية موضع البحث، هي التي تدور في فلك الالتزام بسيادة الشريعة والإقرار المجمل بالأصول الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، ولا يكون الاختلاف بين فصائلها إلا في موارد الاجتهادات ومجالات الشورى، والأصل أن الإطار الذي يحكم نظرة كل فريق إلى الآخر هو مقولة الأئمة (ما نحن عليه صواب يحتمل الخطأ، وما عليه غيرنا خطأ يحتمل الصواب) وهذه المسائل لا علاقة لها بكفر ولا إيمان.
11- أما الاحتجاج بفشل التجارب الحزبية المعاصرة في بلاد المسلمين فهو احتجاج غريب، فإن كل هذه الأحزاب علمانية التوجه لا نعلم واحداً منها قام على تحكيم الشريعة وإقامة الدين والسعي لإقامة الدولة الإسلامية فكيف يحتج بجرائم تلك الأحزاب على فشل التجربة الحزبية في ظل دولة إسلامية؟
والخلاصة أن أدلة هذا الاتجاه لا تخلو جميعاً من مقال، وبوسع المشروع الحضاري الإسلامي أن يقدم نموذجاً لممارسة حزبية يتلافى بها كثيراً من المثالب التي وجهت لظاهرة تعدد الأحزاب لأن النموذج العربي ليس بملزم بطبيعة الحال) ([125]).
وبعد أن استوفينا حجج المانعين نعود لاستعراض حجج المجيزين لها...
ب- حجج المؤيدين للأحزاب والتعددية السياسية:
( مرتكزات القول بمشروعية التعددية السياسية:
1- السياسة الشرعية:
فهي كما عرَّفها ابن عقيل (السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإن أردت بقولك (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة) ([126])، فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر له بهذه العلامات) ([127]).
وعلى هذا فإن تدبير شؤون الحكم.. وتمكين الأمة من ممارسة حقها في السلطة وتدبير أنظمة الشورى ونموها كل ذلك من مسائل السياسة الشرعية التي لا يٌشترط أن تكون على مثال سبق، بل يُشترط أن لا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية، وأن تتحقق بها المصلحة.
2- الأصل في العقود والمعاملات الإباحة:
حتى يأتي ما يدل على التحريم، وهو أحد الرأيين في هذه المسألة وهو الأليق بمقاصد الشرع، فإذا استخلصنا صياغة لتعددية حزبية تحقق المصلحة، وتصون الأمة من جور الحكام المستبدين، فإن الأصل هو الحل، وعلى مدعي المنع إقامة الدليل.
3- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
فإذا استصحبنا هذه القاعدة لتطبيقها في مجال السياسة والحكم لوجدنا أن الشريعة تأمرنا بجملة من المبادئ الكلية يتوقف وجودها أو حسن القيام بها في واقعنا المعاصر على التعددية السياسية وأهمها الشورى، والرقابة على السلطة، فإذا كانت الشورى لا تتحقق في أرشد تطبيقاتها وأكثرها فاعلية المعاصر إلا من خلال التعددية السياسية.
فإذا أطلقت التعددية المؤطرة بسيادة الشريعة الإسلامية، وفُتح الباب أمام أهل الخبرة والتخصص ليقدموا برامج الحكم المقترحة، كان الاختيار حقيقياً بين هذه البرامج، ولم تكن الدعوى أن التعددية هي الصورة الوحيدة لتحقيق الشورى حتى يثور الاعتراض، إنما كانت الدعوى أن التعددية هي أرشد أو من أرشد تطبيقات مبدأ الشورى في عملية انتقال السلطة في واقعنا المعاصر.
وأما الرقابة على السلطة التي نص عليها الشرع فلإقامة هذا الواجب على وجهه يقتضي قيام تكتلات شعبية تتولى هذه المهمة، وقد أثبتت وقائع التاريخ تسلط أصحاب السلطان واستطالتهم على الذين يأمرون بالقسط من الناس، فلا جدوى من المعارضة الفردية أمام جبروت الطغاة، إنما الجدوى في الكتل الشعبية.
4- قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات: فموارد الأحكام قسمان:
مقاصد: وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها.
يقول الشاطبي: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، فقد يكون الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه) ([128]).
فإذا استصحبنا هذه القاعدة في قضية التعددية السياسية، فإنها تقودنا بمشروعية هذه التعددية رغم ما قد يشوبها من بعض التجاوزات، فالاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية ومنع فتنة الخروج المسلح على الأئمة أحد مقاصد الشريعة في هذا الباب، ولم يقف هذا الخلاف عند حدود الرعيل الأول، بل سرى واستشرى في معظم مسيرة التاريخ الإسلامي، فإذا كان الخلاف حقيقة واقعة والتعددية أمراً واقعاً كذلك سواء علينا شئنا أم أبينا، وأمكن للفكر الإسلامي أن يستنبط صيغة من صيغ التعامل مع هذه المعارضة تكفل استيعابها داخل إطار مشروع يتيح لها مشروعية التعبير ومشروعية العمل في الضوء، ويتيح لها مشروعية وفرصة المشاركة في الحكم إذا قدمت عطاء متميزاً يحوز ثقة الأغلبية، فتوقي الأمة غوائل الخروج المسلح، وحركات التمرد الهوجاء.
5- حرس الإسلام على صيانة الحقوق والحريات:
صيانة الحقوق والحريات العامة كما يقول عليه الصلاة والسلام: (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)).
إذا تهيأ ذلك وعُلم أن التعددية الحزبية هي الإطارات الفعَّالة التي تتيح للأفراد ممارسة حقوقهم وحرياتهم العامة وتحول دون استبداد الحكام بالسلطة، فصارت هي الوسيلة الممكنة عملياً لصيانة هذه الحرمات، وفقاً لقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقاعدة أن الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاً وحرمة.
سابعاً- الأحزاب غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية:
لقد غطى الدكتور الصاوي مبحث الأحزاب والتعددية السياسية في ظل دولة إسلامية يحتكم جميع أبنائها إلى الإسلام، والقضية الكبرى المتنازع عليها هي مصير الأحزاب غير الإسلامية في ظل دولة الإسلام، وكثيراً ما يُطرح هذا السؤال:
هل يُسمح بقيام حزب شيوعي لو حكم الإخوان المسلمون؟
لقد توجه بهذا السؤال العديد من الصحفيين إلى قادة الحركات الإسلامية، فهم يريدون أن يطمئنوا على رأي مدى وجود الديمقراطية في ظل الحكم الإسلامي.
آ- الحركة الإسلامية في تونس:
لقد تبنت حركة الاتجاه الإسلامي في تونس هذا الاتجاه حيث قالت في بيانها التأسيسي:
( رفض مبدأ الانفراد بالسلطة الأحادية لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان، وتعطيل لطاقات الشعب، ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية بممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشعرية والتعاون في ذلك مع جميع القوى الوطنية).
وحجتهم في ذلك أن المذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهود والنصارى لهي من المرونة بحيث تستوعب داخل إطارها الشيوعيين والعلمانيين، إذ لم يكونوا أكفر من اليهود والنصارى وفي الصحيفة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة من المسلمين واليهود ومن دخل في عهدهم عبرة ومنهاج وسابقة لها دلالتها الحضارية التي تشهد على مرونة الإطار السياسي في الدولة الإسلامية) ([129]).
ويعلق الأستاذ الغنوشي على هذه الوثيقة حتى لا يُساء فهمها بقوله:
إن القضية لا تتعلق في النهاية بالنظرية الإسلامية في الحكم فالجميع متفقون على أن الحاكمية للأمة في إطار الشريعة، وأن سلطة الأمة لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولكن الاختلاف يدور حول نظرية التغيير وحول صاحب السلطة، أي مصدر شرعية الدولة ما هو؟ إذا قلنا الشعب فقد وضعنا أنفسنا كأحزاب إسلامية على قدم المساواة مع كل أفراده وتياراته، وإذا قلنا شيئاً آخر فعلينا أن نحدده، ونصرح به ولا يفيد الإبهام) ([130]).
2- رأي الإخوان المسلمون في مصر: كتب الأستاذ مصطفى مشهور، مقالاً تحت عنوان التعددية الحزبية قال فيه: إن الإسلام مع التعددية الحزبية، وحرية الرأي ولا يكره أحداً على الدخول في الدين (لا إكراه في الدين) ويرسم حدود المعاملة مع غير المسلمين في حدود العدل والأمن وحصولهم على حقوقهم كاملة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، والإخوان المسلمون يؤمنون بالتعددية وهم موجودون منذ عام 1928، ولم تتسبب إساءة لأي مسيحي أو يهودي بسبب عقيدته بل هم يقبلون بوجود مسيحيين ضمن الحزب الإسلامي، ويؤمنون بأن الإسلام هو أقوى ضمان للوحدة الوطنية... ولا يمكن أبداً أن يُحدث إنشاء حزب إسلامي وحزب مسيحي فتنة طائفية ويسبب حرباً بين الحزبين، كما أنه من حق كل مواطن أن يفكر في إصلاح وطنه ويختار الإصلاح الذي يراه ويدعو غيره إليه) ([131]).
جـ- رأي الحركة الإسلامية في سورية: جاء في بيان الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها:
من الحقوق الأساسية للمواطنين تأليف الأحزاب السياسية إذا لم تخالف الأمة في عقيدتها، ولم ترتبط بدولة أجنبية في ولائها، فليس للثورة الإسلامية أي تحفظ على أي حزب لأن الثورة تسقط مسوغات وجودها إذا كانت تخشى على الإسلام من منافسة الأحزاب الأخرى) ([132]).
وقد تطور موقف الإخوان المسلمين في سورية في هذا المجال، ولم يعد هذا القيد مخالفة الأمة في عقيدتها – هو الذي يحظر الأحزاب الأخرى، بل صار أرحب من ذلك حيث أعلنت الحركة الإسلامية في سوريا رأيها في ميثاق الشرف الذي طرحته على الأمة، ومما قالت فيه (إن دعوتنا إلى الحوار ترتكز تلقائياً على مجموعة من الثوابت يُفقد الأمة تجاوزها وجودها وقوتها.. وأول هذه الثوابت: أن الإسلام بمقاصده السامية، وقيمه العليا، وشريعته السمحاء يشكل مرجعية حضارية، وهوية ذاتية لأبناء هذه الأمة..).
فلم تعد العقيدة الإسلامية هي ميزان السماح للتعددية في الإسلام، إنما مقاصد الإسلام وقيمه العليا، شريعته السمحاء هي التي تشكل المرجعية الحضارية.
والإسلام بالنسبة لأبناء قطرنا العربي السوري، إما مرجعية دينية، أو انتماء حضاري فهو بالتالي كلي جامع لأبناء الوطن، موحد بينهم، حافظ لوجودهم.
وثاني هذه الثوابت، انتماء قطرنا السوري إلى منظومته العربية، هذا الانتماء الذي ينبغي أن يُعتبر أساساً في بناء أي استراتيجية سياسية مستقبلية..
ثم إن المواجهة بين العروبة والإسلام كانت عنوان مرحلة تاريخية تصرمت، ولقد نشأت تلك المواجهة عن عوامل من الانفعال وسوء الفهم، وحمى الإيدلوجيا التي سادت المناخ العام في فترات ما بعد الاستقلال).
وهذا يعني أن التيار العربي القومي، والتيار الإسلامي قد اقتربا في إطار التكامل لا في إطار المواجهة، وكما كان انتماء قطرنا إلى إسلامية هوية ومرجعية غير مضر بوحدته الوطنية، فإن انتماءه إلى عروبته لا يحمل أي بعد عنصر أو استعلائي حيث يجد أبناء الوطن أجمع سر مواطنتهم في روج العدل والتآخي والمساواة والمشاركة في سراء الوطن وضرائه على حد سواء.
وثالث هذه الثوابت، أن تأكيداتنا السابقة على المرجعية والهوية والانتماء لا تحول أبداً بيننا وبين الاستفادة من تجارب الأمم وخبرات الشعوب ومعطيات العصر التي نعيش، بل إننا مدعوون حسب مرتكزاتنا الحضارية إلى أن نخوض غمار التنافس إلى أقصى مداه، ليكون لنا فضل السبق وأولوية التمكين، وتبقى الحكمة بكل أبعادها ضالتنا لنا أنى وجدناها فنحن أحق الناس بها) ([133]).
وانطلاقاً من هذه الثوابت فأي حزب يقوم من أحد هذه الثوابت دون أن يعارض الثوابت الأخرى فله حق الوجود في الدولة الإسلامية المعاصرة، فلو فرضنا أن حزباً إسلامياً قام على أساس عداء العرب وتحقيرهم، فهذا الحزب يحظر لأنه يخالف قيم الإسلام، ويخالف الانتماء العربي، فمخالفة قيم الإسلام فيما رواه سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله، قال: تبغض العرب فتبغضني)) ([134]).
وهو يخالف الانتماء العربي التاريخي للأمة دون أي مساسٍ بغير العرب في الأمة...
ولو فرضنا أن حزباً قومياً قام على أساس حرب الإسلام والقضاء عليه، فهذا الحزب يحظر لأنه يخالف الانتماء الحضاري للأمة، والقيم التي تلتقي عليها الأديان السماوية كلها في الإخاء والتسامح ولو أن حزباً دينياً قام على أساس حزب العلم والاستفادة من منجزاته في الحياة، فهو حزب محظور لأنه يخالف الثوابت الثلاثة.
إن أي حزب يختار أحد هذه الثوابت ليعمل لها، ويخدم أمته من خلالها، ولا يتعارض مع قيمها له حق الوجود في الساحة الإسلامية.
وانطلاقاً من هذه الثوابت يرد السؤال:
هل يمكن أن نتصور وجود حزب شيوعي في ظل دولة إسلامية؟
والجواب يتضح كما يلي...
إذا أعلن الحزب أن ينطلق من الفهم الاقتصادي للشيوعية لتحرير العمال والأمة من الاستغلال والربا والاحتكار والظلم، وكانت مبادئه ضمن هذا الفهم فلا حرج في ذلك، وله الحق أن يعلن وجوده في ذلك، لكن إن أصر على أن يقدم العقيدة الشيوعية في صلب مبادئه وهي أن لا إله والحياة مادة، والدين خرافة فيحظر عليه ذلك وهو الذي طبق هذا المبدأ عندما حكم فحرم حرية الدعوة إلى الدين وأباح الدعوة إلى الإلحاد في كل أحزاب المنظومات الاشتراكية، ولو أن الحزب الشيوعي أعلن أن العنف هو طريقه إلى التغيير، فيحظر لأن التنافس والتسامح والحرية والديمقراطية هي طريق التغيير في دولة الإسلام ومثل هذا الكلام يُقال على الأحزاب الأخرى.
فلا يُشترط للحزب إذن أن يتبنى قيم الإسلام، أو يتبنى الانتماء العربي، أو يتبنى العلم فمن حقه أن يدعو إلى أي من هذه الثوابت دون التعارض والتناقض مع الثوابت الأخرى، ولكل حقه في التركيز على الجانب الاقتصادي أو العلمي أو القومي أو الإسلامي أو الديني، دون أن يهاجم القيم الأخرى من هذه الثوابت، والذي يساعد في فهم التصور عن الأحزاب في هذا الميثاق، هو تحديد مجموعة من الأهداف هي:
الهدف الأول: بناء الدولة الحديثة. الهدف الثاني: مواجهة تحدي البناء العام، الهدف الثالث: التصدي للمشروع الصهيوني. الهدف الرابع: السعي إلى تحقيق الوحدة العربية.
ويدخل تحت كل هدف مجموعة من الأهداف الجزئية، ولو أن الحزب اختار أياً من هذه الأهداف الكلية أو الجزئية، وتقدم ببرامجه العملية لتحقيقها، فمن حقه ذلك دون أن يعترض عليه أحد.
كما تحدث الميثاق في مجال التعددية السياسية، وهو يقدم نموذج الدولة الحديثة المطلوب بناؤها أنها:
1- دولة تعاقدية. 2- دولة مؤسسية. 3- دولة تداولية. 4- دولة تعددية. 5- دولة قانونية.
ثامناً- الحركة الإسلامية تجاوزت فكر التعددية السياسية الإسلامية:
وخلاصته أن الحرية في ظل الدولة الإسلامية، هذا الفكر هو الذي طرحه الدكتور الصاوي في وثيقته ([135]) وتوجه بمجموعة من الأسئلة:
هل تتيح التعددية فرصة متكافئة لجميع أطرافها في ضوء ما يسفر عنه الاختيار الشعبي أم لا؟
فهل تقبل الدولة الإسلامية ولاية اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين، وتقبل أن تكون مناهجهم هي الحاكمة في بلاد المسلمين؟ الجواب قطعياً بالنفي.
ولكن عرض السؤالين الأخيرين خطأ، لكن السؤال الأول، نجيب عليه بنعم وهو هل تتيح التعددية فرصة متكافئة لجميع أطرافها في ضوء ما يسفر عنه الاختيار الشعبي أم لا، وذلك لأننا لا نملك ونحن خارج السلطة سلطة على أحد نمنعه أو نبقيه ونعود إلى السؤال الثاني:
هل تقبل الدولة الإسلامية ولاية اليهود والنصارى والملاحدة والوثنيين، ونحن مع الوثيقة: لا، لكن ليس هذا السؤال المطروح للنقاش، السؤال المطروح: هل يحق لليهود والنصارى أن يقيموا حزباً في ظل دولة إسلامية؟ والإجابة: نعم؛ لأن الإسلام الذي سمح بوجودهم مع تناقضه الكامل مع عقائدهم يسمح لهم بإقامة حزب يحفظ حقهم في المشاركة في الحياة السياسية التي لم تحظر عليهم إلا موقع الخليفة أو ما يماثله من وزارة التفويض، وهم مكلفون أن يكون حزبهم ضمن قيم الإسلام العامة، وليس ضمن عقيدة الإسلام الخاصة.
والسؤال الثالث: هل نقبل أن تكون مناهجهم هي الحاكمة في بلاد المسلمين، نجيب معه بالنفي، لكن ليس هو السؤال المطروح للإجابة عليه، إنما السؤال المطروح في ظل دولة إسلامية بالاختيار الشعبي النظام الإسلامي دستوراً لها، هل يحق لهم طرح مناهج للإصلاح تناقض هذا الدستور والجواب: لا، وهذا الحق الدستوري محتفظ به في ظل الدولة الديمقراطية وليس في ظل الدولة الإسلامية فحسب، بينما نلاحظ أن الوثيقة الثانية التي طُرحت للنقاش، وتبنت التعددية السياسية، وقدمها د. سليم العوا على ضوء مستجدات الواقع والحجج الكافية فيها.
وعلى إثر النقاش الذي تم للورقتين اتفق المنتدون على ما يلي:
- الاعتراف بحقيقة التعددية السياسية في النظام السياسي الإسلامي.
- إن حدودها تكمن في القيم الأساسية والمقاصد الكلية للشريعة أو ما يمكن تسميته بقواعد النظام العام.
- إن الوسائل الإجرائية من انتخابات وترشيح تسعها نصوص الشريعة ولا تمنع تطورها.
- إن الحركة الإسلامية تقبل مبدأ تداول السلطة.
- كما أكد المنتدون على أن قضية التعددية ينبغي أن تبقى مرتبطة بحقيقة القيم الأساسية، ولكن ما ينبغي للحركة الإسلامية أن تنزلق بازدواجية القيم بدعوى التمييز بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة بما يشكك في أصول وحدة القيم الأساسية الإسلامية.
- وإن فكرة التعددية باعتبارها فكرة حضارية من الأهمية بمكان بحيث يجب أن لا تقف عند التعددية السياسية، بل لا بد أن تحترم كل المستويات الأخرى الحضارية والتربوية التي تؤكد قبول الآخر وجوداً وفكراً) ([136]).
هذا وقد تبنت الحركات الإسلامية عامة هذا الاتجاه نظرياً وعملياً حيث قامت ممارسة التعددية السياسية والمشاركة في الانتخابات مع فصائل الأمة كلها حيث أُتيح لها ذلك، وقبلت بنتائج صناديق الاقتراع، وشاركت في الحياة السياسية، في كلٍ من سورية ولبنان والأردن والكويت ومصر واليمن، وحين في الجزائر وتونس والمغرب.
أما في السودان فقد استلمت السلطة وأقامت دولة إسلامية، وتدرجت في التعامل مع الآخرين من منع الحزبية إلى أن وصلت إلى السماح للأحزاب بكل اتجاهاتها الإسلامية والقومية والسياسية والدينية بكل ألوانها وأطيافها ضمن مبادئ الدستور، ولم تفرض سياسية الحزب الواحد أو سياسة الحزب الحاكم، أو تتبنى هذا المنطق على الأقل.
لكن الحركة الإسلامية انقسمت على أنفسها إلى حزبين كبيرين تتميز العلاقة بينهما دوماً بالتوتر والحدة، ونسأل الله تعالى أن تقدم التجربة السودانية والإسلام حاكم الصورة الناضجة للتعددية السياسية.
وحتى الحركات المتطرفة الإسلامي في مصر – كما رأينا في مكان آخر – تمثل فيها تيار الأغلبية الذي يتخلى عن الجهاد ضد الأنظمة، ويتبنى الجهاد السياسي، جهاد الكلمة، والتعددية السياسية لتنفيذ برامج الحزب ومنطلقاته.
بقي أن نقول إن خصوم الحركات الإسلامية من حكام وأحزاب هم الذين يحظرون على الحركة الإسلامية استعمال حقها في الحياة الحزبية والسياسية، ويريدون أن ينفوا وجودها تحت ستار خطر الأحزاب الدينية عكس ما نشهده في الديمقراطيات الغربية التي توجد فيها أحزاب دينية حاكم وغير حاكمة.
] فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ ([137]).
تاسعاً- ملخص البحث:
ونخلص بعد هذا العرض إلى النتائج التالية:
1- هناك جوانب سلبية في موضوع الأحزاب لذكرها في معرض الذم في القرآن، ولبعض التجارب السيئة للأحزاب المعاصرة في بلادنا، مقابل الجوانب الإيجابية لها، حيث صارت حنيناً يحن لها المواطن العربي في ظل الأنظمة الدكتاتورية، ولا مناص من تناولها ونحن نتحدث عنها بصفتها أساً لمشروعنا الحضاري الذي يقوم على الشورى والتعددية السياسية، الأحزاب ركن أساسي فيه.
2- الحزب لغة: هو الجماعة من الناس، وكل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم، وفي المصطلح مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وإيديولوجية مشتركة وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة لتحقيق برامجهم.
3- حين نتحدث عن الأحزاب في المجتمع الإسلامي الأول نعني بها: الكتلة أو المجموعة من الناس لها مصالح مشتركة وتساهم في العمل السياسي.
4- لقد كانت أول وزارة إسلامية في بيعة العقبة تقوم على الأساس الحزبي القبلي الذي يشمل كل المدينة.
5- وقامت وثيقة المدينة – وهي بمثابة دستور الدولة – على التعددية السياسية، الدينية والقبلية.
6- وكانت التربية النبوية تسعى لتفتيت التكتلات الحزبية القبلية لتصل إلى المجتمع المدني الذي يقوم الانتماء فيه على أساس الفكرة لا القبلية.
7- ومن محاولات تقليص الحزبية القبلية قامت عملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة.
8- وشهدت المدينة أول صراع حزبي بين الأوس والخزرج مع بداية قيام الدولة الإسلامية كاد أن يؤدي لتصدع الوحدة الإسلامية.
9- برزت عملية تذويب الصراع الجاهلي وتحويله إلى تنافس إيماني من خلال المعارك الجهادية مع المشركين.
10- لقد كان حزب المنافقين واقعاً سياسياً لا يمكن إلغاؤه لإعلانه الانتماء الإسلامي، ولا يمكن تركه على غاربه لمحاولاته الكيد للإسلام والمسلمين.
11- حزب الأنصار بفرعيه الكبيرين الأوس والخزرج يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حرمانه من غنائم حنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن انتماءه للأنصار وانتماء الأنصار له.
12- حزب الأنصار بفرعيه الكبيرين الأوس والخزرج مع حزب المهاجرين يقومان بانتخاب الخليفة الجديد.
13- الأحزاب السياسية المعاصرة منها ما يقوم على الأنظمة الحزبية التنافسية وهي في النظام الديمقراطي والأنظمة الحزبية غير المتنافسة في النظام الديكتاتوري.
14- الإسلام ضد الأنظمة الحزبية غير المتنافسية لأنه ضد الاستبداد من فرد أو فئة أو حزب.
15- تتنوع الأحزاب السياسية ما بين الأحزاب الديمقراطية والأحزاب الاستبدادية، أو من خلال تقسيم ثلاثي آخر؛ هي أحزاب العقيدة والأحزاب العملية وأحزاب المصالح.
16- موقف الإسلام من الأحزاب السياسية، مختلف فيه بين المانعين وبين المجيزين.
17- وتتلخص حجج المانعين منها بـ:
1- ذم الأحزاب في القرآن.
2- الأدلة التي تنهى عن الفرقة.
3- الولاء والبراء على الإسلام لا على الحزب.
4- الأدلة التي تنهى عن طلب الإمارة.
5- الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس.
6- الأدلة التي توجب طاعة الأئمة بغير المعصية.
7- الرد إلى الله والرسول عند التنازع.
8- انعدام السوابق التاريخية.
9- خطأ القياس على الأحزاب العلمانية.
10- فشل التجارب الحزبية المعاصرة.
18- ويرد على هذه الحجج بـ:
1- ذكر الأحزاب في القرآن إنما انصب على الأحزاب الكافرة المعادية للإسلام.
2- الأدلة التي تنهى على التفرق هي حول الأصول أما الفروع فلا ضرر من الاختلاف فيها.
3- الولاء والبراء على أساس الإيمان لا تتعارض مع التعددية الحزبية، التي تقوم على التنافس لا على التبديع أو التكفير.
4- الأدلة التي تنهى عن طلب الإمارة هي أدلة كراهة وتنتفي الكراهة عند الضرورة، ]اجعلني على خزائن الأرض [.
5- الأدلة التي تنهى عن التزكية يُقال فيها ما يُقال في طلب الإمارة، والمزكي هنا آخر، وعند الضرورة جائز ] إني حفيظ عليم [.
6- لا يصح الاختلاف أساساً للتحزب، هذا في الأمور الكلية وليس في الاجتهادات السياسية.
7- أدلة وجوب لزوم الجماعة لا تتعارض مع التنافس الحزبي ضمن الجماعة المسلمة.
8- التعددية تقضي تبادل السلطة والإمامة العظمى ثابتة، وهذا لا قطع فيه، فما يتفق عليه في التشاور بين أبناء الأمة يتعين العمل فيه.
19- حجج المؤيدين للأحزاب:
1- السياسية الشرعية المعاصرة تقتضيها ولا تتعارض مع مقاصد الشرع.
2- الأصل في العقود الإباحة، فإذا كانت تمنع جور المستبدين صارت واجبة.
3- مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يُكف الظلم إلا بالتنافس والمراقبة.
4- قاعدة سد الذرائع والنظر إلى المآلات تقتضي التعددية للاستقرار السياسي والبعد عن
التغيير بالقوة.
5- حرص الإسلام على صيانة الحقوق يتم من خلال البرامج الحزبية المنوعة.
20- وننطلق من التعددية الحزبية الإسلامية للحديث عن الأحزاب غير الإسلامية في ظل الدولة الإسلامية، حيث أجاز ذلك حركة الاتجاه الإسلامي في تونس والحركة الإسلامية في مصر والحركة الإسلامية في سورية، انطلاقاً من السماح لليهود والنصارى بالوجود بكتلهم في الدولة الإسلامية، فما الذي يمنع حزب يحقق مصالحهم.
21- تطورت الحركة الإسلامية في سورية، حيث كانت تشترط في ميثاق الثورة الإسلامية للحزب أن لا يخالف عقيدة الأمة ولا يكون ولاؤه لدولة أجنبية إلى أن لا يخرج على قيم الإسلام وثوابت الأمة، وأن يحقق أحد الأهداف الكبرى للأمة.
22- وقد تجاوزت الحركة الإسلامية فكرة التعددية السياسية الإسلامية إلى التعددية السياسية العامة وقرر المؤتمرون بعد مناقشة الوثيقتين (للصاوي والعوا): الاعتراف بالتعددية السياسية في النظام السياسي الإسلامي، وحدودها تكمن في مقاصد الشريعة الكلية، والوسائل الإجرائية من انتخابات وترشيح تسعها نصوص الشريعة ولا تمنع من تطويرها لا بد أن تحترم التعددية السياسية الإسلامية كل المستويات الحضارية الأخرى التي تؤكد قبول الآخر وجوداً وفكراً.
23- ساهمت الحركات الإسلامية في كل من سوريا ولبنان والأردن والكويت ومصر واليمن والجزائر العمل ضمن التعددية السياسية.
24- أسست الحركة الإسلامية في السودان دولة إسلامية، وسمحت بالتعددية السياسية لكل الأحزاب.
25- المشكلة كامنة في رفض الآخرين للحركة الإسلامية تحت ستار رفض الأحزاب الدينية خوفاً من الطائفية، والحقيقة خوفاً من شعبيتها.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» الديمقراطية و الحكم (المبحث الأول)
» الديمقراطية و الحكم (المبحث الثاني)
» الديمقراطية و الحكم (المبحث الرابع+الحاشية)
» الوطن والمواطنة (المبحث الثالث)
» الوطن والمواطنة (المبحث الخامس + الحاشية)
» الديمقراطية و الحكم (المبحث الثاني)
» الديمقراطية و الحكم (المبحث الرابع+الحاشية)
» الوطن والمواطنة (المبحث الثالث)
» الوطن والمواطنة (المبحث الخامس + الحاشية)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى