بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
تحديات وطنية
المبحث الأول: الوحدة العربية
المبحث الثاني: الحرية
المبحث الثالث: الإعلام
المبحث الرابع: القضية الفلسطينية
المبحث الخامس: الخلافة الإسلامية
المبحث الأول
الوحــدة العربيـــة
مخطط البحث
تمهيد: لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
أولاً- العرب وأصولهم.
ثانياً- الملك العربي: 1ً- الملك باليمن ومراحله الخمسة.
2ً- الملك بالعراق.
3ً- الملك بالشام.
4ً- الإمارة بالحجاز.
ثالثاً- العرب في العهد النبوي وأول وحدة في التاريخ.
رابعاً- الوحدة في عهد الراشدين:
1ً- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة).
2ً- توحيد العراق والشام والجزيرة في عهد الصديق.
3ً- انضمام مصر وليبية في عهد الفاروق.
4ً- قيام الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج ضمن إطار الوحدة الإسلامية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين.
المرحلة الثانية: النصف الثاني منه.
سادساً – تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث العربي قبل الحكم وبعده.
سابعاً- الحركة الإسلامية والوحدة العربية.
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية.
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة.
عاشراً- الوحدة العربية اليوم:
1- معوقات الوحدة العربية.
2- الطريق إلى الوحدة العربية اليوم.
3- بيننا وبين دعاة القومية.
حادي عشر– ملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الوحدة العربية
تمهيد - لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
الحديث عن الوحدة العربية هو من مفرزات هذا القرن، وكان من أهم طروحات دعاة القومية العربية ويكاد يكون القاسم المشترك بينهم جميعاً، فإذا كان شعار البعث العربي الاشتراكي هو الوحدة والحرية والاشتراكية، فشعار القوميين العرب وحدة وتحرر وثأر، والاتحاد الاشتراكي المصري ينطلق من الحرية والاشتراكية والوحدة، والحركات التي قامت في العهد العثماني طرحت كلها شعار وحدة الأمة العربية، وكان أساساً من مباحثات الشريف حسين ومكماهون، وحزب عصبة العمل القومي يقول: (إننا نريد وحدة سورية، فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم) وهو أول حزب قومي في عهد الانتداب الفرنسي عام 1933، أما قبل الانتداب فكان حزب العربية الفتاة هو الذي حمل هذه الراية في العهد العثماني وقد تأسس عقب الانقلاب العثماني عام 1908 بأربعة أيام وهدفه (النهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم الحية) كما تقول المادة الأولى من الدستور) آنذاك لم تكن التجزئة قائمة، وكانت الأمة العربية كلها ضمن الدولة العثمانية.
وإذا تجاوزنا الأحزاب إلى الدول، فمعظم دساتير الدول العربية تنص على مطلب الوحدة العربية، كما قال القوتلي رئيس سورية في عيد الاستقلال الأول: إننا لن نقبل أن يرتفع فوق علم هذه البلاد سوى علم واحد هو علم الوحدة العربية).
ولقد تجذر شعور الوحدة العربية لدى الشباب العربي في كل مكان، من دون أن يتجسد في هذا القرن إلا في وحدات جزئية أو اتحادات إقليمية، لم تمثل طموح العرب ولا رغبتهم في أن يرى العرب في دولة واحدة يرفرف عليها علم واحد.
وشاركت الحركات الإسلامية في هذا المبدأ، ونصت عليها في مبادئها، في الوقت الذي كانت الحركات الإقليمية هي التي تمثل أنظمة الحكم، فقد تحدث الإمام البنا رحمه الله عن الوحدة العربية بصفتها مطلباً وهدفاً من مطالب الإخوان المسلمين وبصفتها نواة للوحدة الإسلامية وكان الصراع قائماً بين دعاة الإسلام في النصف الثاني من هذا القرن حول أولوية الوحدة العربية أو أولوية الدولة الإسلامية، وعندما قامت الوحدة الوحيدة اليتيمة في هذا القرن بين سورية ومصر كان الإخوان المسلمون في سورية من أشد المتحمسين لها وكانت تظاهراتهم في تأييدها تفوق كل التظاهرات، وعندما وقع الانفصال بين جناحي الجمهورية العربية المتحدة، كان الإخوان المسلمون هم الهيئة السياسية الوحيدة التي رفضت التوقيع على وثيقة الانفصال.
الزمن يمر والقرن ينتهي والتجزئة مستمرة، وعرى الوحدة منفصمة، والشعور العربي بالرغبة في الوحدة يطغى ويتنامى.
سيكون حديثنا في هذا البحث لأضخم مشكلات هذا العصر، عن الجذور التاريخية للعرب وللوحدة العربية وإبراز أن الإسلام في التاريخ هو وحده الذي أنشأ الوحدة العربية، وأقامها واقعاً حياً على الأرض وهو الذي حافظ عليها من الاندثار طيلة أربعة عشر قرناً، وهو اليوم يحمل هذا اللواء، وهو الوحيد القادر على توحيد هذه الأمة نواة لوحدة الأمة المسلمة، {وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (سورة الأنفال من الآية 63).
أولاً- العرب وأصولهم:
أما أصول العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام، بحسب السلالات التي ينحدرون منها:
1- العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواهما.
2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتُسمى بالعرب القحطانية.
3- العرب العدنانية: قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام.
العرب العاربة: وهي شعب قحطان فمهدها بلاد اليمن..
( قال ابن هشام: فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان، وبعض أهل اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول إسماعيل أبو العرب كلها).
وروى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه قال: وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير ومذحج وأنمار وكندة، فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة .
وهكذا نرى أن الغساسنة في الشام والمناذرة في العراق من أصل واحد وينتمون إلى سبأ ومعظم قبائل اليمن كذلك، والأوس والخزرج في المدينة من أولاد عمرو بن عامر من اليمن.
ثانياً- الملك العربي:
لقد قام للعرب دويلات موزعة محدودة في اليمن والشام والحيرة والحجاز:
- الملك في اليمن: وقد مر بمراحل متعددة:
الأولى: في عهدهم الزاهر أيام السد: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور}.
ويقدِّر المؤرخون أن هذا الأمر كان قبل قرابة سبعة قرون قبل الميلاد، واستمر ثلاثة قرون بعده.
الثانية: وهي خلال عهدهم الزاهر أيام الملك سليمان عليه السلام، وقصة ملكة سبأ مذكورة في القرآن وكانوا قد انحرفوا عن التوحيد، وصاروا يعبدون الشمس، {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إن وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون}.
الثالثة: بعد أن انهار السد، وتفرق شملهم في كل صقع: {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، وربك على كل شيء حفيظ}.
ويقدر المؤرخون أن هذا الأمر قد تم قبل ثلاثة قرون من البعثة النبوية، وهي صورة لحضارة قامت على أساس العقيدة، وانهارت حين خرجت عن منهج الله بعد أن عاشت قروناً طوالا.
الرابعة: وهي مرحلة استيلاء أبي كرب تبان أسعد على ملك اليمن، وامتداد نفوذه حتى وصل إلى مكة والمدينة، وهو الذي ساق الجبرين من يهود المدينة إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر, وهو الذي أدخل النصرانية إلى اليمن، وجاء ابنه حسان الذي امتد نفوذه إلى العراق وبعده أخوه عمرو.
الخامسة: مرحلة دخول النصرانية إلى نجران، والتي صادفت وجود ذي نواس على رأس الحكم، الذي كان يهودياً، وسار بجنوده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين القتل وبين الدخول في دينه، فاختاروا القتل، وقصة الغلام والراهب والساحر والملك التي رواها الإمام مسلم والترمذي تدل على عظمة هؤلاء المؤمنين، وثباتهم على الحق في وجه الطاغية ذي نواس.
وحكى الله قصتهم في قوله سبحانه: {قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد، إن الذين فتنووا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}.
السادسة: انهيار حكمهم بعد ذلك، وابتداء استيلاء الأجنبي على أرضهم، حيث استولى الأحباش عليها ثأراً من ذي النواس باسم النصرانية عام 525 م، وبقوا على ذلك حتى استعادوا استقلالهم بمعونة الفرس بقيادة معد يكرب بن سيف بن ذي يزن الحميري، الذي اغتيل من الحبشة الذين أبقاهم لخدمته، وبموته انقطع الملك عن بيت ذي يزن، وولى كسرى غلاماً فارسياً على صنعاء، وجعل اليمن ولاية فارسية، فلم تزل الولاة من الفرس تتعاقب على اليمن حتى كان آخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 638 م، وبإسلامه انتهى نفوذ الفرس على اليمن وبلادها.
ب- الملك بالحيرة:
في عهد ملوك الطوائف – قبل قرنين من الميلاد – هاجر القحطانيون وسكنوا ريف العراق وتبعهم بعض العدنانيين، وعندما استعاد الفرس قوتهم عام 226م على عهد أردشير استولوا على العرب المقيمين على تخوم ملكه، ورأى أنه لا يستطيع أن يحكم العرب ما لم يجعل عليهم رجلاً منهم له عصبة تؤيده وتمنعه، وكان عمرو بن عدي أول ملوك الحيرة، وتتابع الملوك بعده، وكان أشدهم النعمان بن المنذر الذي غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها له عدي بن زيد العبادي، وكانت وقعة ذي قار المشهورة بين العرب والعجم حيث انتصر فيها العرب، وكان ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو نعيم عن سعيد عن أبيه عن جده أن بكر بن وائل قدموا مكة في الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، إيتهم وأعرض عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقالوا: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال: إن بيننا وبين الفرس حرباً، فإذا فرغنا بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا بذي قارهم والفرس، قال لهم شيخهم: ما اسم الرجل دعاكم إلى ما دعاكم إليه, قالوا: محمد، قال: فهو شعاركم, فنُصروا على الفرس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بي نصروا).
وكان ذلك تحقيقاً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى مع وفد شيباني وفيهم هانئ بن قبيصة والنعمان بن شريك والمثنى بن حارثة ومفروق بن عمرو (من قادة ذي قار) قال لهم: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ قالوا: اللهم لك هذا.
فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً حتى خرج على أصحابه فقال لهم: احمدوا الله كثيراً فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم وبي نصروا).
وولى كسرى بعده (أي النعمان) على الحيرة حاكماً فارسياً، ثم أعاد الملك إلى آل لخم عام 632م حتى تولى المنذر الملقب بالمغرور، ولم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم خالد رضي الله عنه بعساكر المسلمين.
جـ- الملك بالشام:
( لما خرج عمرو بن عامر إلى اليمن مع قومه تفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر ونزلت الأوس والخزرج المدينة، ونزلت خزاعة مكة، ونزلت أزد السراة ونزلت أزد عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه).
وانتهت ولاية الضجاعمة من قضاعة على الشام بعد قدوم آل جفنة (الغسانييين) إليها، فوَّلتهم الروم ملوكاً على عرب الشام، وكانت قاعدتهم دومة الجندل، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالاً لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم الغساني في عهد أمير المؤمنين وهو الذي ارتد وذهب إلى قيصر عندما أراد عمر رضي الله عنه أن ينتصف للأعرابي منه وقال له: الإسلام سوى بينكما).
العرب العدنانية: وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معه، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها، وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: (( كذب النسابون)) فلا يتجاوز وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون.
وولد عدنان رجلين: معد بن عدنان، وعك بن عدنان.
قال ابن هشام: فصارت عك في داك اليمن، وتفرقت بطون معد من ولده نزار، فكان لنزار أربعة أولاد تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وإنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما.
فكان من ربيعة: أسد، وعنزة، وعبد القيس، وابنا وائل بكر وتغلب، وحنيفة وغيرها.
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس عيلان بن مضر، وبطون إلياس ابن مضر.
فمن قيس عيلان: بنو سليم، وبنو هوزان، وبنو غطفان، ومن غطفان: عبس، وزبيان، وأشجع وغنى، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة، وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، بطون كنانة من خزيمة، ومن كنانة قريش وهم أولاد فهر بن مالك بن النضرين بن كنانة.
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى: من أشهرها جمح وسهم وعدي وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من بن عبد مناف أربع فصائل عبد شمس، ونوفل والمطلب وهاشم، وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم).
( قال صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب، متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب فهاجرت عبد القيس وبطون من بكر بن وائل وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها، وخرجت بنو حنيفة إلى اليمامة، فنزلوا بحجر قصبة اليمامة، وأقامت سائر بكر بن وائل في طول الأرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر فأطراف سواد العراق فهيت، وسكنت بنو تميم ببادية البصرة، وأقامت بنو سُليم بالقرب من المدينة من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي الجبلين إلى ما ينتهي إلى الحرة، وسكنت ثقيف بالطائف، وهوازان في شرقي مكة بنواحي أوطاس وهي على الجادة بين مكة والبصرة، وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة بينهم وبين تيماء بحتر من طيء، وبينهم وبين الكوفة خمس ليالٍ.
وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران، وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم وكوَّن لهم وحدة شرفتهم ورفعت من أقدارهم).
د- الإمارة بالحجاز:
بقي إسماعيل عليه الصلاة والسلام وولداه ثاب ثم قيدار على إمرة مكة، ثم رجع أمر مكة إلى مضاض بن عمرو الجرهمي جدهما، وبقي الأمر في جرهم قرابة عشرين قرناً من الزمان، ثم غلبتهم خزاعة بعد بغيهم وصار أمر مكة لها حيث استمرت ثلاثمائة عام إلى أن جاء قصي بن كلاب الذي تزوج بنت حليل بن حبشة الخزاعي، وانتقل أمر مكة له بعد حرب عنيفة احتكموا بعدها ليعمر بن عوف أحد بني بكر، فقضى بأن قصياً أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكان هذا في القرن الخامس للميلاد، ونظم قصي بعبقريته أمر مكة وقطعها رباعاً في قومه، وأسس دار الندوة، وكانت مجمع قريش وفيها تُفْصَل مهام أمورها وتفض مشاكلها, وجمع مآثر قومه بيده اللواء فلا تعقد الحرب إلا بيده, والحجابة فلا يفتح باب الكعبة أحداً إلا هو, وسقاية الحاج، حيث يملأ حياض مكة بالماء، ويقذف التمر والزبيب ليشرب من شاء أن يشرب، ورفادة الحاج وهو طعام يصنع للحجاج على طريقة الضيافة، ثم توزعت قريش هذه المآثر، فكانت السقاية والرفادة لبني هاشم، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، حتى جاء الإسلام فأبقى الحجابة لهم كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( ألا وإن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج)).
ثالثاً- العرب في العهد النبوي:
أيام العرب: لقد كان تاريخ الجاهلية هو تاريخ الصراعات والحروب بين القبائل العربية تتمثل أمجادها فيها، (ماعدا ذي قار فكل فخار العرب في ذبح بعضهم بعضاً فيما بينهم, والشعر العربي يحي قصة هذه الأمجاد, وكما قال المغيرة بن شبعة: ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً.
فقد كان هناك عرب موزعون في أصقاع الأرض وأصلهم وموطنهم الرئيسي في شبه الجزيرة العربية الحجاز ونجد واليمن، وتوزعوا إلى الشام والعراق، لكن لا يجمعهم جامع على الإطلاق، فكان هناك ملوك محليون، لكن لم تكن هناك وحدة عربية على الإطلاق، ولم تكن قائمة في ذهن العرب، فكانت القبلية أو الإقليمية هي التي تحكمهم منذ عشرين قرناً حتى عهد النبوة.
وأكرم الله هذه الأمة بالإسلام وبالقرآن وبرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خير كتبه وخير رسالاته، وخيرة الله تعالى من خلقه، وكانوا كما قال الله تعالى فيهم: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
وقوله عز وجل: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} .
التقوا على شخص قائدهم ونبيهم وحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وعندما كانت حجة الوداع قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وأنزل الله تعالى على نبيه قوله عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..}.
عندما نزلت هذه الآية كانت الجزيرة العربية كلها في وحدة كاملة يحكمها سيد واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوحدة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً على الإطلاق، وقد اكتملت في عام الوفود العام التاسع للهجرة حيث جاءه زعماء العرب وقادتهم من أقصى الأرض العربية يبايعونه على الإسلام.
لقد كانت حدود الدولة النبوية من الفرات وخليج البصرة شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً ومن تبوك شمالاً إلى بحر العرب في عدن جنوباً، وكانت المدينة العاصمة، وله ولاته في أصقاع هذه الأرض وبلغ عدد ولاته صلى الله عليه وسلم قرابة عشرين والياً.
لقد كانت اليمن ثلاث ولايات: الجند ومخالفيها، وصنعاء ومخالفيها، وحضرموت ومخالفيها، تتابع عليها عشرة ولاة من الصحابة، بينما توزع الولاة الباقون على تيماء ومكة وعُمان والبحرين والطائف والحبشة وقضاعة والشام ونجد.
وهؤلاء غير زعماء القبائل الذين أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقى لهم زعامتهم وإمرتهم على قومهم بعد أم أسلموا مثل أكيدر بن عبد الملك على دومة الجندل (على خلاف في إسلامه) ويحنة بن رؤية على إيلات، وعدي بن حاتم على طيء، وصرد بن عبد الله الأزذ، والأقرع بن حابس، وقيس بن عاصم على تميم وغيرهم.
المبحث الأول: الوحدة العربية
المبحث الثاني: الحرية
المبحث الثالث: الإعلام
المبحث الرابع: القضية الفلسطينية
المبحث الخامس: الخلافة الإسلامية
المبحث الأول
الوحــدة العربيـــة
مخطط البحث
تمهيد: لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
أولاً- العرب وأصولهم.
ثانياً- الملك العربي: 1ً- الملك باليمن ومراحله الخمسة.
2ً- الملك بالعراق.
3ً- الملك بالشام.
4ً- الإمارة بالحجاز.
ثالثاً- العرب في العهد النبوي وأول وحدة في التاريخ.
رابعاً- الوحدة في عهد الراشدين:
1ً- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة).
2ً- توحيد العراق والشام والجزيرة في عهد الصديق.
3ً- انضمام مصر وليبية في عهد الفاروق.
4ً- قيام الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج ضمن إطار الوحدة الإسلامية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين.
المرحلة الثانية: النصف الثاني منه.
سادساً – تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث العربي قبل الحكم وبعده.
سابعاً- الحركة الإسلامية والوحدة العربية.
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية.
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة.
عاشراً- الوحدة العربية اليوم:
1- معوقات الوحدة العربية.
2- الطريق إلى الوحدة العربية اليوم.
3- بيننا وبين دعاة القومية.
حادي عشر– ملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الوحدة العربية
تمهيد - لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
الحديث عن الوحدة العربية هو من مفرزات هذا القرن، وكان من أهم طروحات دعاة القومية العربية ويكاد يكون القاسم المشترك بينهم جميعاً، فإذا كان شعار البعث العربي الاشتراكي هو الوحدة والحرية والاشتراكية، فشعار القوميين العرب وحدة وتحرر وثأر، والاتحاد الاشتراكي المصري ينطلق من الحرية والاشتراكية والوحدة، والحركات التي قامت في العهد العثماني طرحت كلها شعار وحدة الأمة العربية، وكان أساساً من مباحثات الشريف حسين ومكماهون، وحزب عصبة العمل القومي يقول: (إننا نريد وحدة سورية، فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم) وهو أول حزب قومي في عهد الانتداب الفرنسي عام 1933، أما قبل الانتداب فكان حزب العربية الفتاة هو الذي حمل هذه الراية في العهد العثماني وقد تأسس عقب الانقلاب العثماني عام 1908 بأربعة أيام وهدفه (النهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم الحية) كما تقول المادة الأولى من الدستور) آنذاك لم تكن التجزئة قائمة، وكانت الأمة العربية كلها ضمن الدولة العثمانية.
وإذا تجاوزنا الأحزاب إلى الدول، فمعظم دساتير الدول العربية تنص على مطلب الوحدة العربية، كما قال القوتلي رئيس سورية في عيد الاستقلال الأول: إننا لن نقبل أن يرتفع فوق علم هذه البلاد سوى علم واحد هو علم الوحدة العربية).
ولقد تجذر شعور الوحدة العربية لدى الشباب العربي في كل مكان، من دون أن يتجسد في هذا القرن إلا في وحدات جزئية أو اتحادات إقليمية، لم تمثل طموح العرب ولا رغبتهم في أن يرى العرب في دولة واحدة يرفرف عليها علم واحد.
وشاركت الحركات الإسلامية في هذا المبدأ، ونصت عليها في مبادئها، في الوقت الذي كانت الحركات الإقليمية هي التي تمثل أنظمة الحكم، فقد تحدث الإمام البنا رحمه الله عن الوحدة العربية بصفتها مطلباً وهدفاً من مطالب الإخوان المسلمين وبصفتها نواة للوحدة الإسلامية وكان الصراع قائماً بين دعاة الإسلام في النصف الثاني من هذا القرن حول أولوية الوحدة العربية أو أولوية الدولة الإسلامية، وعندما قامت الوحدة الوحيدة اليتيمة في هذا القرن بين سورية ومصر كان الإخوان المسلمون في سورية من أشد المتحمسين لها وكانت تظاهراتهم في تأييدها تفوق كل التظاهرات، وعندما وقع الانفصال بين جناحي الجمهورية العربية المتحدة، كان الإخوان المسلمون هم الهيئة السياسية الوحيدة التي رفضت التوقيع على وثيقة الانفصال.
الزمن يمر والقرن ينتهي والتجزئة مستمرة، وعرى الوحدة منفصمة، والشعور العربي بالرغبة في الوحدة يطغى ويتنامى.
سيكون حديثنا في هذا البحث لأضخم مشكلات هذا العصر، عن الجذور التاريخية للعرب وللوحدة العربية وإبراز أن الإسلام في التاريخ هو وحده الذي أنشأ الوحدة العربية، وأقامها واقعاً حياً على الأرض وهو الذي حافظ عليها من الاندثار طيلة أربعة عشر قرناً، وهو اليوم يحمل هذا اللواء، وهو الوحيد القادر على توحيد هذه الأمة نواة لوحدة الأمة المسلمة، {وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (سورة الأنفال من الآية 63).
أولاً- العرب وأصولهم:
أما أصول العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام، بحسب السلالات التي ينحدرون منها:
1- العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواهما.
2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتُسمى بالعرب القحطانية.
3- العرب العدنانية: قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام.
العرب العاربة: وهي شعب قحطان فمهدها بلاد اليمن..
( قال ابن هشام: فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان، وبعض أهل اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول إسماعيل أبو العرب كلها).
وروى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه قال: وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير ومذحج وأنمار وكندة، فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة .
وهكذا نرى أن الغساسنة في الشام والمناذرة في العراق من أصل واحد وينتمون إلى سبأ ومعظم قبائل اليمن كذلك، والأوس والخزرج في المدينة من أولاد عمرو بن عامر من اليمن.
ثانياً- الملك العربي:
لقد قام للعرب دويلات موزعة محدودة في اليمن والشام والحيرة والحجاز:
- الملك في اليمن: وقد مر بمراحل متعددة:
الأولى: في عهدهم الزاهر أيام السد: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور}.
ويقدِّر المؤرخون أن هذا الأمر كان قبل قرابة سبعة قرون قبل الميلاد، واستمر ثلاثة قرون بعده.
الثانية: وهي خلال عهدهم الزاهر أيام الملك سليمان عليه السلام، وقصة ملكة سبأ مذكورة في القرآن وكانوا قد انحرفوا عن التوحيد، وصاروا يعبدون الشمس، {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إن وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون}.
الثالثة: بعد أن انهار السد، وتفرق شملهم في كل صقع: {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، وربك على كل شيء حفيظ}.
ويقدر المؤرخون أن هذا الأمر قد تم قبل ثلاثة قرون من البعثة النبوية، وهي صورة لحضارة قامت على أساس العقيدة، وانهارت حين خرجت عن منهج الله بعد أن عاشت قروناً طوالا.
الرابعة: وهي مرحلة استيلاء أبي كرب تبان أسعد على ملك اليمن، وامتداد نفوذه حتى وصل إلى مكة والمدينة، وهو الذي ساق الجبرين من يهود المدينة إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر, وهو الذي أدخل النصرانية إلى اليمن، وجاء ابنه حسان الذي امتد نفوذه إلى العراق وبعده أخوه عمرو.
الخامسة: مرحلة دخول النصرانية إلى نجران، والتي صادفت وجود ذي نواس على رأس الحكم، الذي كان يهودياً، وسار بجنوده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين القتل وبين الدخول في دينه، فاختاروا القتل، وقصة الغلام والراهب والساحر والملك التي رواها الإمام مسلم والترمذي تدل على عظمة هؤلاء المؤمنين، وثباتهم على الحق في وجه الطاغية ذي نواس.
وحكى الله قصتهم في قوله سبحانه: {قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد، إن الذين فتنووا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}.
السادسة: انهيار حكمهم بعد ذلك، وابتداء استيلاء الأجنبي على أرضهم، حيث استولى الأحباش عليها ثأراً من ذي النواس باسم النصرانية عام 525 م، وبقوا على ذلك حتى استعادوا استقلالهم بمعونة الفرس بقيادة معد يكرب بن سيف بن ذي يزن الحميري، الذي اغتيل من الحبشة الذين أبقاهم لخدمته، وبموته انقطع الملك عن بيت ذي يزن، وولى كسرى غلاماً فارسياً على صنعاء، وجعل اليمن ولاية فارسية، فلم تزل الولاة من الفرس تتعاقب على اليمن حتى كان آخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 638 م، وبإسلامه انتهى نفوذ الفرس على اليمن وبلادها.
ب- الملك بالحيرة:
في عهد ملوك الطوائف – قبل قرنين من الميلاد – هاجر القحطانيون وسكنوا ريف العراق وتبعهم بعض العدنانيين، وعندما استعاد الفرس قوتهم عام 226م على عهد أردشير استولوا على العرب المقيمين على تخوم ملكه، ورأى أنه لا يستطيع أن يحكم العرب ما لم يجعل عليهم رجلاً منهم له عصبة تؤيده وتمنعه، وكان عمرو بن عدي أول ملوك الحيرة، وتتابع الملوك بعده، وكان أشدهم النعمان بن المنذر الذي غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها له عدي بن زيد العبادي، وكانت وقعة ذي قار المشهورة بين العرب والعجم حيث انتصر فيها العرب، وكان ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو نعيم عن سعيد عن أبيه عن جده أن بكر بن وائل قدموا مكة في الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، إيتهم وأعرض عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقالوا: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال: إن بيننا وبين الفرس حرباً، فإذا فرغنا بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا بذي قارهم والفرس، قال لهم شيخهم: ما اسم الرجل دعاكم إلى ما دعاكم إليه, قالوا: محمد، قال: فهو شعاركم, فنُصروا على الفرس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بي نصروا).
وكان ذلك تحقيقاً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى مع وفد شيباني وفيهم هانئ بن قبيصة والنعمان بن شريك والمثنى بن حارثة ومفروق بن عمرو (من قادة ذي قار) قال لهم: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ قالوا: اللهم لك هذا.
فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً حتى خرج على أصحابه فقال لهم: احمدوا الله كثيراً فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم وبي نصروا).
وولى كسرى بعده (أي النعمان) على الحيرة حاكماً فارسياً، ثم أعاد الملك إلى آل لخم عام 632م حتى تولى المنذر الملقب بالمغرور، ولم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم خالد رضي الله عنه بعساكر المسلمين.
جـ- الملك بالشام:
( لما خرج عمرو بن عامر إلى اليمن مع قومه تفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر ونزلت الأوس والخزرج المدينة، ونزلت خزاعة مكة، ونزلت أزد السراة ونزلت أزد عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه).
وانتهت ولاية الضجاعمة من قضاعة على الشام بعد قدوم آل جفنة (الغسانييين) إليها، فوَّلتهم الروم ملوكاً على عرب الشام، وكانت قاعدتهم دومة الجندل، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالاً لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم الغساني في عهد أمير المؤمنين وهو الذي ارتد وذهب إلى قيصر عندما أراد عمر رضي الله عنه أن ينتصف للأعرابي منه وقال له: الإسلام سوى بينكما).
العرب العدنانية: وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معه، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها، وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: (( كذب النسابون)) فلا يتجاوز وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون.
وولد عدنان رجلين: معد بن عدنان، وعك بن عدنان.
قال ابن هشام: فصارت عك في داك اليمن، وتفرقت بطون معد من ولده نزار، فكان لنزار أربعة أولاد تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وإنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما.
فكان من ربيعة: أسد، وعنزة، وعبد القيس، وابنا وائل بكر وتغلب، وحنيفة وغيرها.
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس عيلان بن مضر، وبطون إلياس ابن مضر.
فمن قيس عيلان: بنو سليم، وبنو هوزان، وبنو غطفان، ومن غطفان: عبس، وزبيان، وأشجع وغنى، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة، وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، بطون كنانة من خزيمة، ومن كنانة قريش وهم أولاد فهر بن مالك بن النضرين بن كنانة.
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى: من أشهرها جمح وسهم وعدي وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من بن عبد مناف أربع فصائل عبد شمس، ونوفل والمطلب وهاشم، وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم).
( قال صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب، متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب فهاجرت عبد القيس وبطون من بكر بن وائل وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها، وخرجت بنو حنيفة إلى اليمامة، فنزلوا بحجر قصبة اليمامة، وأقامت سائر بكر بن وائل في طول الأرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر فأطراف سواد العراق فهيت، وسكنت بنو تميم ببادية البصرة، وأقامت بنو سُليم بالقرب من المدينة من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي الجبلين إلى ما ينتهي إلى الحرة، وسكنت ثقيف بالطائف، وهوازان في شرقي مكة بنواحي أوطاس وهي على الجادة بين مكة والبصرة، وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة بينهم وبين تيماء بحتر من طيء، وبينهم وبين الكوفة خمس ليالٍ.
وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران، وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم وكوَّن لهم وحدة شرفتهم ورفعت من أقدارهم).
د- الإمارة بالحجاز:
بقي إسماعيل عليه الصلاة والسلام وولداه ثاب ثم قيدار على إمرة مكة، ثم رجع أمر مكة إلى مضاض بن عمرو الجرهمي جدهما، وبقي الأمر في جرهم قرابة عشرين قرناً من الزمان، ثم غلبتهم خزاعة بعد بغيهم وصار أمر مكة لها حيث استمرت ثلاثمائة عام إلى أن جاء قصي بن كلاب الذي تزوج بنت حليل بن حبشة الخزاعي، وانتقل أمر مكة له بعد حرب عنيفة احتكموا بعدها ليعمر بن عوف أحد بني بكر، فقضى بأن قصياً أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكان هذا في القرن الخامس للميلاد، ونظم قصي بعبقريته أمر مكة وقطعها رباعاً في قومه، وأسس دار الندوة، وكانت مجمع قريش وفيها تُفْصَل مهام أمورها وتفض مشاكلها, وجمع مآثر قومه بيده اللواء فلا تعقد الحرب إلا بيده, والحجابة فلا يفتح باب الكعبة أحداً إلا هو, وسقاية الحاج، حيث يملأ حياض مكة بالماء، ويقذف التمر والزبيب ليشرب من شاء أن يشرب، ورفادة الحاج وهو طعام يصنع للحجاج على طريقة الضيافة، ثم توزعت قريش هذه المآثر، فكانت السقاية والرفادة لبني هاشم، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، حتى جاء الإسلام فأبقى الحجابة لهم كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( ألا وإن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج)).
ثالثاً- العرب في العهد النبوي:
أيام العرب: لقد كان تاريخ الجاهلية هو تاريخ الصراعات والحروب بين القبائل العربية تتمثل أمجادها فيها، (ماعدا ذي قار فكل فخار العرب في ذبح بعضهم بعضاً فيما بينهم, والشعر العربي يحي قصة هذه الأمجاد, وكما قال المغيرة بن شبعة: ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً.
فقد كان هناك عرب موزعون في أصقاع الأرض وأصلهم وموطنهم الرئيسي في شبه الجزيرة العربية الحجاز ونجد واليمن، وتوزعوا إلى الشام والعراق، لكن لا يجمعهم جامع على الإطلاق، فكان هناك ملوك محليون، لكن لم تكن هناك وحدة عربية على الإطلاق، ولم تكن قائمة في ذهن العرب، فكانت القبلية أو الإقليمية هي التي تحكمهم منذ عشرين قرناً حتى عهد النبوة.
وأكرم الله هذه الأمة بالإسلام وبالقرآن وبرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خير كتبه وخير رسالاته، وخيرة الله تعالى من خلقه، وكانوا كما قال الله تعالى فيهم: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
وقوله عز وجل: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} .
التقوا على شخص قائدهم ونبيهم وحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وعندما كانت حجة الوداع قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وأنزل الله تعالى على نبيه قوله عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..}.
عندما نزلت هذه الآية كانت الجزيرة العربية كلها في وحدة كاملة يحكمها سيد واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوحدة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً على الإطلاق، وقد اكتملت في عام الوفود العام التاسع للهجرة حيث جاءه زعماء العرب وقادتهم من أقصى الأرض العربية يبايعونه على الإسلام.
لقد كانت حدود الدولة النبوية من الفرات وخليج البصرة شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً ومن تبوك شمالاً إلى بحر العرب في عدن جنوباً، وكانت المدينة العاصمة، وله ولاته في أصقاع هذه الأرض وبلغ عدد ولاته صلى الله عليه وسلم قرابة عشرين والياً.
لقد كانت اليمن ثلاث ولايات: الجند ومخالفيها، وصنعاء ومخالفيها، وحضرموت ومخالفيها، تتابع عليها عشرة ولاة من الصحابة، بينما توزع الولاة الباقون على تيماء ومكة وعُمان والبحرين والطائف والحبشة وقضاعة والشام ونجد.
وهؤلاء غير زعماء القبائل الذين أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقى لهم زعامتهم وإمرتهم على قومهم بعد أم أسلموا مثل أكيدر بن عبد الملك على دومة الجندل (على خلاف في إسلامه) ويحنة بن رؤية على إيلات، وعدي بن حاتم على طيء، وصرد بن عبد الله الأزذ، والأقرع بن حابس، وقيس بن عاصم على تميم وغيرهم.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
رابعاً- الوحدة العربية في عهد الراشدين: من المحيط إلى الخليج:
أما الوحدة العربية التي يتغنى بها العرب اليوم من المحيط إلى الخليج، فهذه لم تقع في تاريخ العرب إلا في عهد الراشدين رضوان الله عليهم، حيث وصل عقبة بن نافع إلى المحيط الأطلسي في أقصى المغرب العربي ووصل عمرو بن العاص إلى أراضي النوبة في السودان، وامتدت الفتوحات في الشرق فلم تقف عند حدود الأرض العربية وخليج البصرة إنما مضت في الشرق حتى اقتحمت بلاد فارس وما بعدها، وقد مرت عملية الوحدة بمراحل متعددة:
آ- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة):
الطور الأول: وهي حروب عربية – عربية، حيث انتفض معظم العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في المصطلح الإسلامي حروب الردة، وفي المصطلح القومي حروب الردة كذلك، فقد حاول زعماء القبائل أن يعودوا إلى العهد القبلي، فكل قبيلة دولة، وأن بقي التفرق والتمزق هو الأصل كما هو الحال في امتداد القرون الطويلة، لكن الإسلام العظيم الذي دخل في قلوب المؤمنين الصادقين، وعظمة القيادات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاعت في بحر من الأهوال والدماء، وفي عزم وتصميم لا يقبل الوهن استطاعت أن تعيد للأمة وحدتها وأن تعيد إليها دينها، تقول عائشة رضوان الله عليها:
لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي اقترفوا فيه وقال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم، وكثر عدوهم فقال له الناس إن هؤلاء جل المسلمين والعرب على ما ترى قد انتفضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال له أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة).
وكان خالد رضي الله عنه هو البطل المجلي في إعادة الوحدة إلى جزيرة العرب، فقد هزم الكذابين المتنبيئين طليحة بن خويلد الأسدي، ومسيلمة بن حبيب الحنفي، غير أن طليحة أسلم وحسن إسلامه، وكانت معركة اليمامة من أعنف المعارك التي خاضها المسلمون إذ قتل منهم ما ينوف عن ألف – وهو رقم أكبر من كل شهداء المسلمين منذ أن جاء الإسلام إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي قتل فيه من بني حنيفة عشرة آلاف مقاتل، وقتل الأسود العنسي المتنبئ الثالث في اليمن وعادت الجزيرة لوحدتها مرة أخرى.
الطور الثاني: حرب المسلمين في العراق: وكان على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، والمثنى بن حارثة الشيباني – والقعقاع بن عمرو التميمي، وهي حرب عربية – عربية فارسية، حيث حارب الفرس ابتداءً بالعرب التابعين لهم، ثم بقياداتهم وجنودهم، وحرَّر خالد رضي الله عنه العراق العربي كله.
وعلى رأسه الحيرة مركز دولة المناذرة، وانضمت العراق العربية كلها إلى وحدة الجزيرة العربية.
الطور الثالث: حرب المسلمين في الشام، وكان على رأسها يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة عامر ابن الجراح وعمرو بن العاص، وانضم إليهم خالد رضي الله عنهم، وكانت المعركة الفاصلة في اليرموك وانضمت دمشق بعدها إلى المسلمين، وأعلن هرقل نهايته المحتومة في سورية، فقال بعد هزيمته في اليرموك: سلام عليك يا سوريا سلاماً لا لقاء بعده.
وخلال السنوات الثلاث الأولى وفي بداية خلافة عمر رضي الله عنه انضمت الشام وتحررت من الروم، وأصبحت الوحدة العربية تضم المشرق العربي كله، وكانت هذه كذلك أول وحدة في تاريخ العرب منذ أن كان لهم تاريخ.
وإذا كان لنا أن نتحدث عن بطل لهذه الوحدة العربية بعد الصديق والفاروق لكان خالد رضوان الله عليه الذي قال فيه الصديق: لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد وقال فيه عمر بعد عزله: رحم الله أبا بكر لقد كان أعلم مني بالرجال.
الطور الرابع: حرب المسلمين في المغرب العربي: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، وجعلت الأرطبون نفسه داهية الروم وقائدهم يقول: خدعني عمرو، هذا أدهى العرب، هذا أدهى الخلق، وهكذا لم ينته عهد عمر رضوان الله عليه إلا وكان المغرب والمشرق العربي تحت راية واحدة وفي دولة واحدة وخليفة واحد، وقامت الوحدة العربية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العرب منذ أن كان لهم تاريخ.
الطور الخامس: توحيد المغرب العربي كله مع المشرق العربي: حيث تم ذلك في عهد عثمان رضي الله عنه على يد عبد الله بن أبي سرح الذي فتح أفريقية وعقبة بن نافع الذي وصل إلى المحيط الأطلسي.
وحتى يتم تعريب أفريقية (وندب عثمان الناس إلى أفريقية، فخرج إليها عشرة آلاف من قريش والأنصار والمهاجرين، وكان عبد الله بن أبي سرح قد صالح بطريق أفريقية جرجير على ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار أو ثلاثمائة قنطار ذهباً) ().
كان هذا في عام سبع وعشرين للهجرة، أي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة عشر عاماً فقط، وتمت بذلك وحدة العرب الكبرى لأول مرة في التاريخ على عهد عثمان رضي الله عنه، وهذا في المنطق القومي العربي، أما في المنطق الإسلامي فسنتحدث عن ذلك في بحث الخلافة الإسلامية، وعن إنهاء امبراطوريتي قيصر وكسرى وتحويل ثلثي المعمور آنذاك إلى أرض إسلامية، وكان قادة الفتح معظمهم من العرب والجيوش التي حملت لواء الإسلام معظمها من العرب، فتقبلت الأمم العروبة والإسلام معاً، ومضت تنصهر في هذا الدين وفي لسان دعاته وقادته.
واستمرت الوحدة العربية ضمن إطار الوحدة الإسلامية حتى انهارت الخلافة العثمانية، وانفصل العرب عنها وقامت فكرة الدعوة إلى الوحدة العربية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
لا بد حين ندرس هذا الواقع من التفريق بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين، والمرحلة الثانية هي النصف الثاني منه.
- المرحلة الأولى: كان أبرز معالمها ثلاثة أمور:
الأول: اتفاقيات سايكس بيكو، الثاني وعد بلفور وقيام إسرائيل، الثالث: قيام الجامعة العربية.
- أما اتفاقيات سايكس بيكو فقد مزقت الوطن العربي ووزعته إلى دويلات متعددة، وقامت باستعمار هذا الوطن، وبذلك حولت النضال من البعد القومي للوحدة، إلى النضال الوطني للتحرير من الاستعمار، وصار الاستقلال هو الهدف الطاغي على هذه المرحلة، وربت الأجيال على تنمية وتعبئة روح الإقليمية في كل قطر.
لقد انتهت الوحدة العربية أو الخلافة العربية التي طالب بها الشريف حسين إلى الصيغة التالية في نص المعاهدة:
( المادة الأولى: إن فرنسا وبريطانيا مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربة مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين (أ) (داخلية سورية) و(ب) (داخلية العراق) المبينتين في الخريطة الملحقة بهذا ويكون لفرنسا في منطقة (أ) وانكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية: يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (شقة سورية الساحلية) ولانكلترا بالواسطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة الحمراء (فلسطين) يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شركة مكة.
المادة الرابعة: تنال انكلترا ما يلي: 1- ميناء حيفا وعكا. 2- يضمن مقدار محدود من ماء دجلة والفرات في المنطقة (أ) للمنطقة (ب) وتتعهد حكومة جلالة الملك من جهتها أن لا تدخل في مفاوضات ما مع دولة أخرى للتنازل عن قبرص إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية مقدماً).
وهكذا آلت الخلافة العربية والدولة العربية الواحدة إلى هذه المزق المبعثرة، وصار الشريف حسين ممثل العرب في الدولة العثمانية لا يمثل إلا شركة مكة.
- وعد بلفور: لقد كانت اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، أما وعد بلفور فكان بعد سنة أي 1917، ونصه: (إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وسوف تبذل مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، وليكن معلوماً أنه لا يُسمح بإجراء شيء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين الآن أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى، وبمركزهم السياسي فيها).
وقد لا نجد في بداية الأمر علاقة مباشرة بين التمزق العربي ووعد بلفور وإقامة الوطن لليهود في فلسطين والذي تحول إلى دولة فيما بعد، لكننا عندما نتصور هذا الإسفين الذي دُق في قلب الوطن العربي وصار جسماً غريباً في قلبه، نعرف كيف استنزفت طاقات الأمة في مكافحته لأدركنا دور هذا العائق الكبير للوحدة العربية، وحتى لا نضرب في التيه، فمؤتمر كامبل يغنينا في هذا المجال عن أي تعليق.
( فقد عقد مؤتمر كامبل في لندن بصورة سرية منذ عام 1905 واستمرت جلساته حتى عام 1907، وكان هدف المؤتمر العمل على تشكيل جبهة استعمارية من الدول الأوربية وهي انكلترا وفرنسا، إيطاليا، اسبانيا، البرتغال، بلجيكا، هولندا، وذلك لمواجهة التوسع الألماني ولتحقيق الأهداف التوسعية في أفريقيا وآسيا، وانتهى المؤتمر إلى:
إن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية إنما يكمن في المناطق العربية لكونها نقطة التقاء بين الشرق والغرب، ولتوفر عدة عوامل لملكها مثل وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال، فإذا توحدت هذه الشعوب فستحل الضربة القاضية على الدول الاستعمارية، وعليه فلا بد من بقاء المنطقة متأخرة ومفككة، والعمل على إنشاء دويلات مصطنعة، كما أكد على ضرورة زرع دولة دخيلة تفصل أفريقية عن آسيا العربية).
وهكذا اتخذت الدول الاستعمارية قراراها بإنشاء إسرائيل.
لقد كانت سوريا تحمل الهم العربي أكثر من غيرها، وكانت بلاد الشام منطلق القومية العربية.
وأكبر دعاة الوحدة فيها، وحين تمزقت بلاد الشام إلى أربع مزق، وراحت تناضل لإنهاء الاستعمار الجاثم على صدرها، ضاعت الوحدة العربية في متاهات الحركات الوطنية التي لا تملك إلا العمل للخلاص من المستعمرين فيها.
الأمر الثالث: قيام الجامعة العربية:
أدركت انكلترا أم الاستعمار في هذا القرن العشرين أن العرب حين يتحررون من الاستعمار سوف يعودون للعمل للوحدة العربية، وخشيت أن يأخذ هذا العمل مداه، ولو تم ذلك لأصبحت إسرائيل في خطر ماحق، ومن أجل ذلك، وحتى تجهض مشروع الوحدة، جاءت ببديل مسخ تعلق العرب بأذياله وهو الجامعة العربية.
( فقد صرح وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن في 24 / فبراير – شباط 1943 بما يلي:
( إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة تقوم بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية).
وأخذت مصر زمام المبادرة فأعلن رئيس وزرائها مصطفى النحاس في 31 ديسمبر – تشرين الثاني 1943 أنه على مصر أن تبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية.. وتم الاتفاق على تأليف جامعة الدول العربية في أعقاب لقاء القاهرة في فبراير 1944، أي بعد سنة من تصريح إيدن، واتفقوا على أن تضم الدول المستقلة فقط).
ولننظر كيف أجهضت الجامعة العربية مشروع الوحدة العربية من خلال عرض ميثاق الجامعة أو أهم بنوده.
وتؤلف جامعة للدول العربية من الدول العربية المستقلة التي تقبل الانضمام إليها، ويكون لهذه الجامعة مجلس يُسمى مجلس جامعة الدول العربية، يمثل به الدول المشتركة في الجامعة على قدم المساواة، وتكون مهمتهم مراعاة تنفيذ ما تبرمه هذه الدول فيما بينها من الاتفاقات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيها وصيانة لاستقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل الممكنة وللنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها.
وتكون قرارات هذا المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ فيها الطرفان إلى المجلس لفحص هذا الخلاف، ففي هذه الأحوال تكون قرارات مجلس الجامعة نافذة ملزمة، ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة، ولكل دولة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام أو روحها، ولا يجوز بأية حال إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة منها، ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما).
وحين نقف ملياً أمام هذا المشروع وعلاقته بالوحدة العربية نلاحظ ما يلي:
1- تطور مفهوم الاستقلال؛ فبعد أن كان استقلالاً من استعمار الدول الأجنبية، صار استقلالاً عن الدول العربية، فلكل دولة علمها وحدودها ودستورها والمحافظة على استقلالها، وتراب وطنها وصارت هي المحافظة على الحدود بين الدول العربية المجاورة عوضاً عن أن تكون هي إلغاء هذه الحدود.
2- قرارات هذا المجلس ملزمة لمن يقبلها، فلا يستطيع المجلس أن يفرض قراراً على دولة عارضت، وهذا يعني استمرار الانفصال الكامل بين هذه الدول، وإلغاء فكرة الوحدة العربية كاملة.
3- ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة.
4- فالوحدات السابقة في التاريخ إنما كانت تتم عن طريق القوة والغلبة والسيطرة، كما شهدنا أهمها في الوحدة أيام نور الدين وصلاح الدين، وحيث ألغي استعمال القوة للوحدة، فقد ألغيت عملياً الوحدة ولن يتنازل حاكم بمحض إرادته عن سلطاته، ولن تقوم الوحدة عملياً بين هذه الدول.
5- وحيث أن هذه الدول موقعة على ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على:
( 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضوٍ في الهيئة أو استقلاله السياسي أو سلامة أو استقلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة).
لقد تكرس الانفصال التام بين الدول العربية من خلال ميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة وانحصرت العلاقة بالتعاون والتنسيق بدلاً عن الوحدة وانصهار الكيانات في كيان واحد، وتحولت الوحدة العربية إلى خيال وحلم من أحلام الشعب العربي.
- المرحلة الثانية: النصف الثاني من القرن العشرين:
مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين انتهى سلطان الأحزاب الوطنية التقليدية، وتمكنت الأحزاب القومية من الوصول إلى السلطة والتي جعلت الوحدة العربية الهدف الأول من شعاراتها وفي أول أولوياتها واهتماماتها، ففي عام 1952 قامت الثورة المصرية ضد الملكية، وفي عام 1956 تمكن التجمع القومي الذي يمثل البعث العربي مع الشيوعيين من الانتصار على التيار الإسلامي، وانتهى بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ولأن وحدة سورية ومصر كانت هي الوحدة اليتيمة الوحيدة في هذا القرن، وبانتخاب شعبي حرٍ دون اللجوء إلى القوة فلا بد من وقفة عندها ملياً، لنرى أسباب صعودها وأسباب انهيارها.
الوضع السوري عند الوحدة: كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان ويعاني من جموح الضباط الاشتراكيين الحورانيين والضباط المستقلين الموالين للاشتراكيين، والضباط من الحزب السوري القومي وجماعته وضباط عبد الحميد السراج، هذا الذي أصبح بصلة مباشرة مع الكيان المصري عبر القيادة المشتركة العربية وعبر السفارة المصرية، وكان هؤلاء الضباط جميعهم يتنافسون في الطموح إلى تحقيق مآربهم، ولكل فئة منهم غاربة يعرفها البقية، واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا أنفسهم باعتبارهم حماة الديار فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأصبحوا بحاجة لمن يوزع بينهم الأدوار ويضبط تنافرهم، فوجدوا في شخص الضابط الشرس عفيف البزري.
الجميع يعلم بأن سورية – قلب العروبة النابض – منذ عهد التتريك زمن العثمانيين والجميع يعلم أن شباب هذا البلد منذ ذلك الزمن طلاب وحدة عربية شاملة، كانوا يحلمون بذلك اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم عشوائياً، بل عليه أن يتم عن طريق تشريعي يمثل الأمة بأسرها ويضع أساس هذا الارتباط الجذري المصيري.
في ظل هذه الظروف السائدة نزولاً عند رغبة ضباط القوات المسلحة هب وزير الخارجية صلاح البيطار وهو بعثي إلى مصر ليلتقي مع الإخوة المصريين، أي مجلس الثورة لإحكام خيوط الوحدة، وكان ذلك دون علم رئيس الوزراء خالد العظم.
ولما تمهدت الأمور واشتدت الارتباطات وأحكمت حلقاتها سافر وفد عسكري برئاسة العقيد عفيف البزرة الذي أمطروه رتبة فريق، ووصل إلى مصر ليطالب بالوحدة الفورية، واجتمع الوفد مع بعض ضباط الثورة، وقد أخطأ البزرة أثناء الحديث ولفظ كلمة اتحاد بدلاً من الوحدة فثار أحد ضباط مجلس الثورة يصحح اللفظ ويقول: إحنا منتكلم عن وحدة مش اتحاد.
واجتمع الوفد أخيراً مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحب بالوفد، ثم استمع إلى مطالبه، فقال: إن هذا الأمر يحتاج إلى قرار من المجلس التشريعي السوري والسلطات السورية، فقالوا له: إن هذه أمور كلها معروفة ومضمونة ونحن نطلب تحقيق الوحدة فوراً، ولا نخرج من هذا الاجتماع إلا بعد أن نقرأ الفاتحة على نشأة الوحدة، ووافقهم عبد الناصر، وقرئت الفاتحة، ونشأت الوحدة كأنها مراسم خطوبة.
ولما وصل الخبر إلى سورية هاجت وماجت جماهير حركتها مخابرات السراج، ولم يجد الرسميون في سورية بداً من الذهاب إلى القاهرة لاستجلاء الأمر، وقد حاول خالد العظم استبدال الوحدة باتحاد، ولكنه لم يفلح، وبقي محتفظاً برأيه في هذا الاتجاه، ولما انعقد المجلس النيابي برئاسة أكرم الحوراني لطرح الوحدة عارضها كل من خالد بكداش وصالح عقيل وهاني السباعي، ولكن الوحدة أقرت بما يشبه الإجماع، ولم يمنع ذلك الوزيرين عقيل والسباعي من السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.
وتنازل فخامة الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، فاتحاً بذلك عهداً جديداً تتحقق فيه أحلام السوريين جميعاً ببدء وحدة عربية شاملة رائدتها مصر الشقيقة الكبرى في الأسرة العربية).
وجاء في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة:
والمجتمعون إذ يعلنون قراراتهم هذه يحسون بأعمق السعادة وأجل ألوان الفخر إذ شاركوا في الخطوة الإيجابية في طريق وحدة العرب حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، والمجتمعون إذ يقررون وحدة البلدين يعلنون أن وحدتهم تتوخى شمل العرب، ويؤكدون أن باب الوحدة مفتوح لكل بلد عربي يريد أن يشترك معها في وحدة أو اتحاد يدفع عن العرب الأذى والسوء ويعزز سيادة العروبة ويحفظ كيانها...).
وكان الانفصال بعد ثلاث سنوات:
في 28 أيلول 1961 حدث في سورية انقلاب عسكري.. وأعلنت الحكومة المؤقتة في 30 أيلول 1961 عن برنامجها السياسي.. وأصدرت جماعة من السياسيين في 2 تشرين أول بياناً تم فيه الإعلان عن الدعم والتأييد الكاملين لخطوة الجيش الجبارة، وناشدت جميع الدول العربية أن تنظر بجدية إلى هذا النظام وأهدافه التقدمية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ووقع هذا البيان كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار وزعيم المستقلين خالد العظم وصبري العسلي وغيرهم.. ودعم كل من شكري القوتلي وفارس الخوري وسلطان الأطرش نظام الانفصال، أما بالنسبة لموقف حزب البعث من الانقلاب وبغض النظر عن موقف قادته المذكورين أعلاه، كان معارضاً له، ولقد أصدرت القيادة القومية لحزب البعث في بيروت بيانيين متعارضين ومتناقضين، فأحدهما كان ضد هذا الانقلاب والآخر معه، فيما بعد اعترف حزب البعث بالبيان الأول فقط... وأشار الحزب الشيوعي السوري في الوقت الذي أيَّد فيه خروج سورية من الوحدة إلى أن فشل الوحدة لا يعني على الإطلاق فشل مفهوم ومبدأ الوحدة، واستقبلت الأوساط البورجوازية والإقطاعية حركة الانفصال بترحيب واسع، فقدم إلى دمشق عقب الانقلاب وفود تمثل أصحاب المصانع والشركات المؤسسة ومن التجار وكبار الملاك والإقطاعيين وغيرهم ليعلنوا عن تأييدهم الكامل لحكومة الانفصال.. ومن أجل أن تحوز حكومة الانفصال على اعتراف الدول العربية، فقد أسرعت للإعلان عن أنها سوف تبقى مخلصة لمبادئ الوحدة العربية رغم خروج سورية المؤقت من الجمهورية العربية المتحدة، فوجهت حكومة الانفصال دعوة إلى جميع الأقطار العربية تحثهم فيها على العمل الجاد لإقامة اتحاد فيدرالي طوعي يقوم على أساس المساواة بين جميع الأقطار المشتركة فيه، وأشير في مشروع الاتحاد الفيدرالي المقدم إلى أن السلطات التشريعية والتنفيذية داخل كل قطر سوف تستمر في تنفيذ مهامها في داخل القطر وفي مجال العلاقات الدولية ويقضي المشروع بعدم التدخل من جانب أي قطر في الشؤون الداخلية لقطر آخر وما إلى ذلك من الشروط الأخرى الخاصة باحترام الحريات الشخصية والدستورية لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، وأشير بنفس الوقت إلى أن هذا الاتحاد لا يتعارض مطلقاً مع أن تقوم بين بعض الأقطار الداخلة في الاتحاد وحدة اندماجية.. ولا في هذا المشروع – كما كان يتوقع له – التأييد من جانب الحكومة العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم الذي كان يكن العداء لحكومة الجمهورية العربية المتحدة.. أما حكومة مصر فقد أعلنت عن رفضها حتى لمناقشة هذا المشروع).
المحاولات الأخرى للوحدة العربية:
لقد نشأ عن فشل الوحدة العربية رد فعل قوي لدى الحاكمين في عدم إعادة التجربة في الوحدة الفورية بين الأنظمة الحاكمة، بينما بقيت الجماهير تنادي بالوحدة العربية الشاملة وتتلهف لها، وواضح أن القرار في النهاية هو بيد الأنظمة الحاكمة، فقد رافق تجربة الجمهورية العربية المتحدة تجربة اتحاد عربي بينها وبين اليمن انتهى مع قيام الانفصال.
وبعد الانفصال عن مصر وعودة الجمهورية العربية السورية، وقيام ثورة 8 شباط 1963 في العراق، والتي كان يؤيدها حزب البعث هناك، جرت محاولة جديدة للتقارب بين النظامين العراقي والسوري (وتحت الضغط من جانب حزب البعث وجهت حكومة خالد العظم دعوة لتشكيل اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، وجاء في إعلان وزير الخارجية السورية مايلي: إن سورية العربية تعلن بأنه لم يعد هناك أية صعوبات على طريق الاتحاد مع العراق الشقيق، ونأمل أن يكون هذا الاتجاه مركز استقطاب للدول العربية الأخرى).
( أما التجربة الثالثة فتمثلت في الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958 كرد فعلٍ على الوحدة المصرية السورية، وانتهت بقيام ثورة العراق الأولى في تموز – يوليو من العام نفسه، ثم جاءت التجربة الرابعة لإقامة وحدة بني كل من مصر والعراق وسورية عام 1963، وظلت هذه المحاولة حبراً على ورق ولم تر النور، وجرت التجربة الخامسة بعد قيام الثورة الليبية في أيلول – سبتمبر 1969، وتبنيها من جديد دعوة الوحدة العربية وإنشاء اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 الذي ضم كلاً من مصر وسورية وليبيا ولكنه لم يدم طويلاً وتجمد ثم انتهى).
أما الوحدة العربية التي يتغنى بها العرب اليوم من المحيط إلى الخليج، فهذه لم تقع في تاريخ العرب إلا في عهد الراشدين رضوان الله عليهم، حيث وصل عقبة بن نافع إلى المحيط الأطلسي في أقصى المغرب العربي ووصل عمرو بن العاص إلى أراضي النوبة في السودان، وامتدت الفتوحات في الشرق فلم تقف عند حدود الأرض العربية وخليج البصرة إنما مضت في الشرق حتى اقتحمت بلاد فارس وما بعدها، وقد مرت عملية الوحدة بمراحل متعددة:
آ- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة):
الطور الأول: وهي حروب عربية – عربية، حيث انتفض معظم العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في المصطلح الإسلامي حروب الردة، وفي المصطلح القومي حروب الردة كذلك، فقد حاول زعماء القبائل أن يعودوا إلى العهد القبلي، فكل قبيلة دولة، وأن بقي التفرق والتمزق هو الأصل كما هو الحال في امتداد القرون الطويلة، لكن الإسلام العظيم الذي دخل في قلوب المؤمنين الصادقين، وعظمة القيادات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاعت في بحر من الأهوال والدماء، وفي عزم وتصميم لا يقبل الوهن استطاعت أن تعيد للأمة وحدتها وأن تعيد إليها دينها، تقول عائشة رضوان الله عليها:
لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي اقترفوا فيه وقال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم، وكثر عدوهم فقال له الناس إن هؤلاء جل المسلمين والعرب على ما ترى قد انتفضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال له أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة).
وكان خالد رضي الله عنه هو البطل المجلي في إعادة الوحدة إلى جزيرة العرب، فقد هزم الكذابين المتنبيئين طليحة بن خويلد الأسدي، ومسيلمة بن حبيب الحنفي، غير أن طليحة أسلم وحسن إسلامه، وكانت معركة اليمامة من أعنف المعارك التي خاضها المسلمون إذ قتل منهم ما ينوف عن ألف – وهو رقم أكبر من كل شهداء المسلمين منذ أن جاء الإسلام إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي قتل فيه من بني حنيفة عشرة آلاف مقاتل، وقتل الأسود العنسي المتنبئ الثالث في اليمن وعادت الجزيرة لوحدتها مرة أخرى.
الطور الثاني: حرب المسلمين في العراق: وكان على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، والمثنى بن حارثة الشيباني – والقعقاع بن عمرو التميمي، وهي حرب عربية – عربية فارسية، حيث حارب الفرس ابتداءً بالعرب التابعين لهم، ثم بقياداتهم وجنودهم، وحرَّر خالد رضي الله عنه العراق العربي كله.
وعلى رأسه الحيرة مركز دولة المناذرة، وانضمت العراق العربية كلها إلى وحدة الجزيرة العربية.
الطور الثالث: حرب المسلمين في الشام، وكان على رأسها يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة عامر ابن الجراح وعمرو بن العاص، وانضم إليهم خالد رضي الله عنهم، وكانت المعركة الفاصلة في اليرموك وانضمت دمشق بعدها إلى المسلمين، وأعلن هرقل نهايته المحتومة في سورية، فقال بعد هزيمته في اليرموك: سلام عليك يا سوريا سلاماً لا لقاء بعده.
وخلال السنوات الثلاث الأولى وفي بداية خلافة عمر رضي الله عنه انضمت الشام وتحررت من الروم، وأصبحت الوحدة العربية تضم المشرق العربي كله، وكانت هذه كذلك أول وحدة في تاريخ العرب منذ أن كان لهم تاريخ.
وإذا كان لنا أن نتحدث عن بطل لهذه الوحدة العربية بعد الصديق والفاروق لكان خالد رضوان الله عليه الذي قال فيه الصديق: لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد وقال فيه عمر بعد عزله: رحم الله أبا بكر لقد كان أعلم مني بالرجال.
الطور الرابع: حرب المسلمين في المغرب العربي: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، وجعلت الأرطبون نفسه داهية الروم وقائدهم يقول: خدعني عمرو، هذا أدهى العرب، هذا أدهى الخلق، وهكذا لم ينته عهد عمر رضوان الله عليه إلا وكان المغرب والمشرق العربي تحت راية واحدة وفي دولة واحدة وخليفة واحد، وقامت الوحدة العربية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العرب منذ أن كان لهم تاريخ.
الطور الخامس: توحيد المغرب العربي كله مع المشرق العربي: حيث تم ذلك في عهد عثمان رضي الله عنه على يد عبد الله بن أبي سرح الذي فتح أفريقية وعقبة بن نافع الذي وصل إلى المحيط الأطلسي.
وحتى يتم تعريب أفريقية (وندب عثمان الناس إلى أفريقية، فخرج إليها عشرة آلاف من قريش والأنصار والمهاجرين، وكان عبد الله بن أبي سرح قد صالح بطريق أفريقية جرجير على ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار أو ثلاثمائة قنطار ذهباً) ().
كان هذا في عام سبع وعشرين للهجرة، أي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة عشر عاماً فقط، وتمت بذلك وحدة العرب الكبرى لأول مرة في التاريخ على عهد عثمان رضي الله عنه، وهذا في المنطق القومي العربي، أما في المنطق الإسلامي فسنتحدث عن ذلك في بحث الخلافة الإسلامية، وعن إنهاء امبراطوريتي قيصر وكسرى وتحويل ثلثي المعمور آنذاك إلى أرض إسلامية، وكان قادة الفتح معظمهم من العرب والجيوش التي حملت لواء الإسلام معظمها من العرب، فتقبلت الأمم العروبة والإسلام معاً، ومضت تنصهر في هذا الدين وفي لسان دعاته وقادته.
واستمرت الوحدة العربية ضمن إطار الوحدة الإسلامية حتى انهارت الخلافة العثمانية، وانفصل العرب عنها وقامت فكرة الدعوة إلى الوحدة العربية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
لا بد حين ندرس هذا الواقع من التفريق بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين، والمرحلة الثانية هي النصف الثاني منه.
- المرحلة الأولى: كان أبرز معالمها ثلاثة أمور:
الأول: اتفاقيات سايكس بيكو، الثاني وعد بلفور وقيام إسرائيل، الثالث: قيام الجامعة العربية.
- أما اتفاقيات سايكس بيكو فقد مزقت الوطن العربي ووزعته إلى دويلات متعددة، وقامت باستعمار هذا الوطن، وبذلك حولت النضال من البعد القومي للوحدة، إلى النضال الوطني للتحرير من الاستعمار، وصار الاستقلال هو الهدف الطاغي على هذه المرحلة، وربت الأجيال على تنمية وتعبئة روح الإقليمية في كل قطر.
لقد انتهت الوحدة العربية أو الخلافة العربية التي طالب بها الشريف حسين إلى الصيغة التالية في نص المعاهدة:
( المادة الأولى: إن فرنسا وبريطانيا مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربة مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين (أ) (داخلية سورية) و(ب) (داخلية العراق) المبينتين في الخريطة الملحقة بهذا ويكون لفرنسا في منطقة (أ) وانكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية: يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (شقة سورية الساحلية) ولانكلترا بالواسطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة الحمراء (فلسطين) يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شركة مكة.
المادة الرابعة: تنال انكلترا ما يلي: 1- ميناء حيفا وعكا. 2- يضمن مقدار محدود من ماء دجلة والفرات في المنطقة (أ) للمنطقة (ب) وتتعهد حكومة جلالة الملك من جهتها أن لا تدخل في مفاوضات ما مع دولة أخرى للتنازل عن قبرص إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية مقدماً).
وهكذا آلت الخلافة العربية والدولة العربية الواحدة إلى هذه المزق المبعثرة، وصار الشريف حسين ممثل العرب في الدولة العثمانية لا يمثل إلا شركة مكة.
- وعد بلفور: لقد كانت اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، أما وعد بلفور فكان بعد سنة أي 1917، ونصه: (إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وسوف تبذل مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، وليكن معلوماً أنه لا يُسمح بإجراء شيء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين الآن أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى، وبمركزهم السياسي فيها).
وقد لا نجد في بداية الأمر علاقة مباشرة بين التمزق العربي ووعد بلفور وإقامة الوطن لليهود في فلسطين والذي تحول إلى دولة فيما بعد، لكننا عندما نتصور هذا الإسفين الذي دُق في قلب الوطن العربي وصار جسماً غريباً في قلبه، نعرف كيف استنزفت طاقات الأمة في مكافحته لأدركنا دور هذا العائق الكبير للوحدة العربية، وحتى لا نضرب في التيه، فمؤتمر كامبل يغنينا في هذا المجال عن أي تعليق.
( فقد عقد مؤتمر كامبل في لندن بصورة سرية منذ عام 1905 واستمرت جلساته حتى عام 1907، وكان هدف المؤتمر العمل على تشكيل جبهة استعمارية من الدول الأوربية وهي انكلترا وفرنسا، إيطاليا، اسبانيا، البرتغال، بلجيكا، هولندا، وذلك لمواجهة التوسع الألماني ولتحقيق الأهداف التوسعية في أفريقيا وآسيا، وانتهى المؤتمر إلى:
إن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية إنما يكمن في المناطق العربية لكونها نقطة التقاء بين الشرق والغرب، ولتوفر عدة عوامل لملكها مثل وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال، فإذا توحدت هذه الشعوب فستحل الضربة القاضية على الدول الاستعمارية، وعليه فلا بد من بقاء المنطقة متأخرة ومفككة، والعمل على إنشاء دويلات مصطنعة، كما أكد على ضرورة زرع دولة دخيلة تفصل أفريقية عن آسيا العربية).
وهكذا اتخذت الدول الاستعمارية قراراها بإنشاء إسرائيل.
لقد كانت سوريا تحمل الهم العربي أكثر من غيرها، وكانت بلاد الشام منطلق القومية العربية.
وأكبر دعاة الوحدة فيها، وحين تمزقت بلاد الشام إلى أربع مزق، وراحت تناضل لإنهاء الاستعمار الجاثم على صدرها، ضاعت الوحدة العربية في متاهات الحركات الوطنية التي لا تملك إلا العمل للخلاص من المستعمرين فيها.
الأمر الثالث: قيام الجامعة العربية:
أدركت انكلترا أم الاستعمار في هذا القرن العشرين أن العرب حين يتحررون من الاستعمار سوف يعودون للعمل للوحدة العربية، وخشيت أن يأخذ هذا العمل مداه، ولو تم ذلك لأصبحت إسرائيل في خطر ماحق، ومن أجل ذلك، وحتى تجهض مشروع الوحدة، جاءت ببديل مسخ تعلق العرب بأذياله وهو الجامعة العربية.
( فقد صرح وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن في 24 / فبراير – شباط 1943 بما يلي:
( إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة تقوم بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية).
وأخذت مصر زمام المبادرة فأعلن رئيس وزرائها مصطفى النحاس في 31 ديسمبر – تشرين الثاني 1943 أنه على مصر أن تبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية.. وتم الاتفاق على تأليف جامعة الدول العربية في أعقاب لقاء القاهرة في فبراير 1944، أي بعد سنة من تصريح إيدن، واتفقوا على أن تضم الدول المستقلة فقط).
ولننظر كيف أجهضت الجامعة العربية مشروع الوحدة العربية من خلال عرض ميثاق الجامعة أو أهم بنوده.
وتؤلف جامعة للدول العربية من الدول العربية المستقلة التي تقبل الانضمام إليها، ويكون لهذه الجامعة مجلس يُسمى مجلس جامعة الدول العربية، يمثل به الدول المشتركة في الجامعة على قدم المساواة، وتكون مهمتهم مراعاة تنفيذ ما تبرمه هذه الدول فيما بينها من الاتفاقات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيها وصيانة لاستقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل الممكنة وللنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها.
وتكون قرارات هذا المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ فيها الطرفان إلى المجلس لفحص هذا الخلاف، ففي هذه الأحوال تكون قرارات مجلس الجامعة نافذة ملزمة، ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة، ولكل دولة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام أو روحها، ولا يجوز بأية حال إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة منها، ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما).
وحين نقف ملياً أمام هذا المشروع وعلاقته بالوحدة العربية نلاحظ ما يلي:
1- تطور مفهوم الاستقلال؛ فبعد أن كان استقلالاً من استعمار الدول الأجنبية، صار استقلالاً عن الدول العربية، فلكل دولة علمها وحدودها ودستورها والمحافظة على استقلالها، وتراب وطنها وصارت هي المحافظة على الحدود بين الدول العربية المجاورة عوضاً عن أن تكون هي إلغاء هذه الحدود.
2- قرارات هذا المجلس ملزمة لمن يقبلها، فلا يستطيع المجلس أن يفرض قراراً على دولة عارضت، وهذا يعني استمرار الانفصال الكامل بين هذه الدول، وإلغاء فكرة الوحدة العربية كاملة.
3- ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة.
4- فالوحدات السابقة في التاريخ إنما كانت تتم عن طريق القوة والغلبة والسيطرة، كما شهدنا أهمها في الوحدة أيام نور الدين وصلاح الدين، وحيث ألغي استعمال القوة للوحدة، فقد ألغيت عملياً الوحدة ولن يتنازل حاكم بمحض إرادته عن سلطاته، ولن تقوم الوحدة عملياً بين هذه الدول.
5- وحيث أن هذه الدول موقعة على ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على:
( 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضوٍ في الهيئة أو استقلاله السياسي أو سلامة أو استقلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة).
لقد تكرس الانفصال التام بين الدول العربية من خلال ميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة وانحصرت العلاقة بالتعاون والتنسيق بدلاً عن الوحدة وانصهار الكيانات في كيان واحد، وتحولت الوحدة العربية إلى خيال وحلم من أحلام الشعب العربي.
- المرحلة الثانية: النصف الثاني من القرن العشرين:
مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين انتهى سلطان الأحزاب الوطنية التقليدية، وتمكنت الأحزاب القومية من الوصول إلى السلطة والتي جعلت الوحدة العربية الهدف الأول من شعاراتها وفي أول أولوياتها واهتماماتها، ففي عام 1952 قامت الثورة المصرية ضد الملكية، وفي عام 1956 تمكن التجمع القومي الذي يمثل البعث العربي مع الشيوعيين من الانتصار على التيار الإسلامي، وانتهى بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ولأن وحدة سورية ومصر كانت هي الوحدة اليتيمة الوحيدة في هذا القرن، وبانتخاب شعبي حرٍ دون اللجوء إلى القوة فلا بد من وقفة عندها ملياً، لنرى أسباب صعودها وأسباب انهيارها.
الوضع السوري عند الوحدة: كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان ويعاني من جموح الضباط الاشتراكيين الحورانيين والضباط المستقلين الموالين للاشتراكيين، والضباط من الحزب السوري القومي وجماعته وضباط عبد الحميد السراج، هذا الذي أصبح بصلة مباشرة مع الكيان المصري عبر القيادة المشتركة العربية وعبر السفارة المصرية، وكان هؤلاء الضباط جميعهم يتنافسون في الطموح إلى تحقيق مآربهم، ولكل فئة منهم غاربة يعرفها البقية، واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا أنفسهم باعتبارهم حماة الديار فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأصبحوا بحاجة لمن يوزع بينهم الأدوار ويضبط تنافرهم، فوجدوا في شخص الضابط الشرس عفيف البزري.
الجميع يعلم بأن سورية – قلب العروبة النابض – منذ عهد التتريك زمن العثمانيين والجميع يعلم أن شباب هذا البلد منذ ذلك الزمن طلاب وحدة عربية شاملة، كانوا يحلمون بذلك اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم عشوائياً، بل عليه أن يتم عن طريق تشريعي يمثل الأمة بأسرها ويضع أساس هذا الارتباط الجذري المصيري.
في ظل هذه الظروف السائدة نزولاً عند رغبة ضباط القوات المسلحة هب وزير الخارجية صلاح البيطار وهو بعثي إلى مصر ليلتقي مع الإخوة المصريين، أي مجلس الثورة لإحكام خيوط الوحدة، وكان ذلك دون علم رئيس الوزراء خالد العظم.
ولما تمهدت الأمور واشتدت الارتباطات وأحكمت حلقاتها سافر وفد عسكري برئاسة العقيد عفيف البزرة الذي أمطروه رتبة فريق، ووصل إلى مصر ليطالب بالوحدة الفورية، واجتمع الوفد مع بعض ضباط الثورة، وقد أخطأ البزرة أثناء الحديث ولفظ كلمة اتحاد بدلاً من الوحدة فثار أحد ضباط مجلس الثورة يصحح اللفظ ويقول: إحنا منتكلم عن وحدة مش اتحاد.
واجتمع الوفد أخيراً مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحب بالوفد، ثم استمع إلى مطالبه، فقال: إن هذا الأمر يحتاج إلى قرار من المجلس التشريعي السوري والسلطات السورية، فقالوا له: إن هذه أمور كلها معروفة ومضمونة ونحن نطلب تحقيق الوحدة فوراً، ولا نخرج من هذا الاجتماع إلا بعد أن نقرأ الفاتحة على نشأة الوحدة، ووافقهم عبد الناصر، وقرئت الفاتحة، ونشأت الوحدة كأنها مراسم خطوبة.
ولما وصل الخبر إلى سورية هاجت وماجت جماهير حركتها مخابرات السراج، ولم يجد الرسميون في سورية بداً من الذهاب إلى القاهرة لاستجلاء الأمر، وقد حاول خالد العظم استبدال الوحدة باتحاد، ولكنه لم يفلح، وبقي محتفظاً برأيه في هذا الاتجاه، ولما انعقد المجلس النيابي برئاسة أكرم الحوراني لطرح الوحدة عارضها كل من خالد بكداش وصالح عقيل وهاني السباعي، ولكن الوحدة أقرت بما يشبه الإجماع، ولم يمنع ذلك الوزيرين عقيل والسباعي من السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.
وتنازل فخامة الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، فاتحاً بذلك عهداً جديداً تتحقق فيه أحلام السوريين جميعاً ببدء وحدة عربية شاملة رائدتها مصر الشقيقة الكبرى في الأسرة العربية).
وجاء في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة:
والمجتمعون إذ يعلنون قراراتهم هذه يحسون بأعمق السعادة وأجل ألوان الفخر إذ شاركوا في الخطوة الإيجابية في طريق وحدة العرب حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، والمجتمعون إذ يقررون وحدة البلدين يعلنون أن وحدتهم تتوخى شمل العرب، ويؤكدون أن باب الوحدة مفتوح لكل بلد عربي يريد أن يشترك معها في وحدة أو اتحاد يدفع عن العرب الأذى والسوء ويعزز سيادة العروبة ويحفظ كيانها...).
وكان الانفصال بعد ثلاث سنوات:
في 28 أيلول 1961 حدث في سورية انقلاب عسكري.. وأعلنت الحكومة المؤقتة في 30 أيلول 1961 عن برنامجها السياسي.. وأصدرت جماعة من السياسيين في 2 تشرين أول بياناً تم فيه الإعلان عن الدعم والتأييد الكاملين لخطوة الجيش الجبارة، وناشدت جميع الدول العربية أن تنظر بجدية إلى هذا النظام وأهدافه التقدمية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ووقع هذا البيان كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار وزعيم المستقلين خالد العظم وصبري العسلي وغيرهم.. ودعم كل من شكري القوتلي وفارس الخوري وسلطان الأطرش نظام الانفصال، أما بالنسبة لموقف حزب البعث من الانقلاب وبغض النظر عن موقف قادته المذكورين أعلاه، كان معارضاً له، ولقد أصدرت القيادة القومية لحزب البعث في بيروت بيانيين متعارضين ومتناقضين، فأحدهما كان ضد هذا الانقلاب والآخر معه، فيما بعد اعترف حزب البعث بالبيان الأول فقط... وأشار الحزب الشيوعي السوري في الوقت الذي أيَّد فيه خروج سورية من الوحدة إلى أن فشل الوحدة لا يعني على الإطلاق فشل مفهوم ومبدأ الوحدة، واستقبلت الأوساط البورجوازية والإقطاعية حركة الانفصال بترحيب واسع، فقدم إلى دمشق عقب الانقلاب وفود تمثل أصحاب المصانع والشركات المؤسسة ومن التجار وكبار الملاك والإقطاعيين وغيرهم ليعلنوا عن تأييدهم الكامل لحكومة الانفصال.. ومن أجل أن تحوز حكومة الانفصال على اعتراف الدول العربية، فقد أسرعت للإعلان عن أنها سوف تبقى مخلصة لمبادئ الوحدة العربية رغم خروج سورية المؤقت من الجمهورية العربية المتحدة، فوجهت حكومة الانفصال دعوة إلى جميع الأقطار العربية تحثهم فيها على العمل الجاد لإقامة اتحاد فيدرالي طوعي يقوم على أساس المساواة بين جميع الأقطار المشتركة فيه، وأشير في مشروع الاتحاد الفيدرالي المقدم إلى أن السلطات التشريعية والتنفيذية داخل كل قطر سوف تستمر في تنفيذ مهامها في داخل القطر وفي مجال العلاقات الدولية ويقضي المشروع بعدم التدخل من جانب أي قطر في الشؤون الداخلية لقطر آخر وما إلى ذلك من الشروط الأخرى الخاصة باحترام الحريات الشخصية والدستورية لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، وأشير بنفس الوقت إلى أن هذا الاتحاد لا يتعارض مطلقاً مع أن تقوم بين بعض الأقطار الداخلة في الاتحاد وحدة اندماجية.. ولا في هذا المشروع – كما كان يتوقع له – التأييد من جانب الحكومة العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم الذي كان يكن العداء لحكومة الجمهورية العربية المتحدة.. أما حكومة مصر فقد أعلنت عن رفضها حتى لمناقشة هذا المشروع).
المحاولات الأخرى للوحدة العربية:
لقد نشأ عن فشل الوحدة العربية رد فعل قوي لدى الحاكمين في عدم إعادة التجربة في الوحدة الفورية بين الأنظمة الحاكمة، بينما بقيت الجماهير تنادي بالوحدة العربية الشاملة وتتلهف لها، وواضح أن القرار في النهاية هو بيد الأنظمة الحاكمة، فقد رافق تجربة الجمهورية العربية المتحدة تجربة اتحاد عربي بينها وبين اليمن انتهى مع قيام الانفصال.
وبعد الانفصال عن مصر وعودة الجمهورية العربية السورية، وقيام ثورة 8 شباط 1963 في العراق، والتي كان يؤيدها حزب البعث هناك، جرت محاولة جديدة للتقارب بين النظامين العراقي والسوري (وتحت الضغط من جانب حزب البعث وجهت حكومة خالد العظم دعوة لتشكيل اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، وجاء في إعلان وزير الخارجية السورية مايلي: إن سورية العربية تعلن بأنه لم يعد هناك أية صعوبات على طريق الاتحاد مع العراق الشقيق، ونأمل أن يكون هذا الاتجاه مركز استقطاب للدول العربية الأخرى).
( أما التجربة الثالثة فتمثلت في الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958 كرد فعلٍ على الوحدة المصرية السورية، وانتهت بقيام ثورة العراق الأولى في تموز – يوليو من العام نفسه، ثم جاءت التجربة الرابعة لإقامة وحدة بني كل من مصر والعراق وسورية عام 1963، وظلت هذه المحاولة حبراً على ورق ولم تر النور، وجرت التجربة الخامسة بعد قيام الثورة الليبية في أيلول – سبتمبر 1969، وتبنيها من جديد دعوة الوحدة العربية وإنشاء اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 الذي ضم كلاً من مصر وسورية وليبيا ولكنه لم يدم طويلاً وتجمد ثم انتهى).
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
سادساً- تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث الاشتراكي:
قبل أن يصل إلى الحكم قال:
( المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها:
العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها ولهذا فإن حزب العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر.
2- الأمة العربية وحدة ثقافية جميع الفوارق بين أبنائها عرضية زائفة تزول جميعها بتغطية الوجدان العربي.
3- الوطن العربي للعرب ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته).
وبعد أن وصل إلى الحكم، أصبحت الوحدة عنده لقاءً بين القوى الثورية فقط، والقوى الاشتراكية.
( إن الاشتراكية هي المضمون الواقعي للوحدة العربية، وإن بناء الاشتراكية يجعل الوحدة الإطار البشري والاقتصادي الأكثر انسجاماً.. لذا فإن الوحدة العربية والاشتراكية قضيتان متلازمتان على الصعيد التاريخي والاقتصادي).
ومن أجل هذا كانت تجارب الوحدة فقط مع الأنظمة الاشتراكية، مصر، وليبية والعراق، ومع ذلك لم تتمكن هذه الوحدات الاشتراكية أن تصمد أكثر من أشهر، وقام حزب البعث في سورية والعراق، وعجز خلال عشرين عاماً من إقامة وحدة بين شطري الحزب، بل أن يقيم وحدة عربية في أرجاء الوطن العربي ولأن الحزب وصل إلى السلطة في قطرين عربيين، وهو الحزب الجماهيري الداعي للوحدة العربية، كان هو الذي يمثل واقع التيار القومي، وتطبيقه للوحدة تاركين الآراء النظرية في مهب الريح حيث لا وجود لها على أرض الواقع.
سابعاً- الحركات الإسلامية والوحدة العربية:
لقد كان الإمام الشهيد حسن البنا المؤسس الأول للإخوان المسلمين رمزاً من رموز الوحدة العربية فهو الذي ربط مصر بالأقطار العربية، وكانت الحركة الإسلامية في العالم العربي تخضع لقيادة واحدة تمثلت في ارتباطها بالمرشد العام، بينما اعتبرت الحركات الأخرى على رأسها المراقب العام وذلك في الأقطار العربية الأخرى، ولهذا دلالته الهامة فمسؤولوا الأقطار هم تابعون لمرشد عام واحد، وتجسد هذا فيما بعد بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تمثلت فيه كل الأقطار العربية وفي رسالة المؤتمر الخامس تحدث صراحة عن وحدة العرب فقال:
وحدة العرب أمر لابد منه لإعادة الإسلام، وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية).
وهذه عوامل الوحدة العربية في فكر الإخوان المسلمين:
( جـ- وقد ذكر البنا وغيره من كتاب الإخوان أن العوامل التي تؤدي إلى الوحدة الكاملة للأمة العربية تتمثل فيما يلي:
1- الوحدة الجغرافية: فالأرض واحدة تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في اتصال والتحام لا تقسمها الفواصل الكونية أو التضاريس مع تميزها بثروتها الطبيعية واستغنائها بخيراتها.
2- الوحدة الروحية: فالمسلمون يقدسون الإسلام عقيدة وغيرهم يعتزون به شريعة قومية عادلة ونظاماً اجتماعياً ترعرع في أوطانهم.
3- الوحدة اللغوية، فاللغة واحدة للمسلمين وغير المسلمين من العرب الذين يحوطونها بمشاعرهم.
4- وحدة الآمال والآلام التي يمثلها تاريخ ضخم مشترك في القديم والجديد.
5- الوحدة الفكرية والثقافية والاجتماعية بتشابه العادات والتقاليد في شعوبه).
كما طالب الإخوان المسلمون بتجاوز الجامعة العربية ووضعوا الطريق الصحيح للوحدة.
( هـ- وقد رأى الإخوان أنه لكي تنجح الجامعة العربية في تحقيق الوحدة العربية وآمال العرب فمن الضروري التزام هذه الأسس بجانب ما سبق.
1- ستظل الوحدة بطيئة الجنى ما دامت مقصورة على ناحيتها الرسمية بين الحكومات، فيجب الإسراع في توحيد الثقافات حتى تتقارب الأفهام ويفتح الباب للاندماج الكامل، وهذا يستدعي تغييراً في مناهج وسياسة التعليم في المعاهد والمدارس العربية، وتوجيه الثقافات وجهة واحدة تخدم أهداف الوحدة، ومعنى ذا وضع المعاهدة الثقافية بين الدول العربية موضع التطبيق.
2- العمل لتحقيق الوحدة السياسية برفع الحدود، والوحدة الاقتصادية.
3- الجامعة العربية أداة لجمع كلمة العرب وتوجيههم قوة واحدة لتحقق رسالتهم في الحياة (نشر المثل العليا) أي الإسلام.
4- أجزاء الوطن العربي تنتظر من الجامعة النجدة لتحقيق حريته أو إتمامها فيجب أن تؤمن الجامعة العربية بحقها في حماية العرب وصيانة استقلالهم فلا تكون آلة في يد غيرهم، ومن الضروري بث ذلك في نفوس الشعب حتى يحتشد وراء هذا الميثاق).
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية:
1- في تبني القضايا العربية: لقد كان الإخوان المسلمون يعيشون الوحدة العربية واقعاً حياً، فالقضايا العربية تملك عليهم مشاعرهم يرفعون بها المذكرات للحكومات والجهات المختصة (وتأتي في مقدمة القضايا العربية القضية الفلسطينية وقضية مصر، وكما قال السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية (نستطيع أن نؤكد بأن هيئة أو حزباً أو جماعة ما في بلادنا لم تساهم بنشاط عملي شعبي واسع في سبيل نصرة فلسطين وإنقاذها كما ساهم الإخوان المسلمون، أما قضية مصر فقد أيد الإخوان المسلمون في سورية مطلبيها الرئيسيين، الجلاء ووحدة وادي النيل.. ولم يكن تأييد الإخوان لنضال الشعب العربي المغربي ضد الاستعمار الفرنسي بأقل من تأييدهم لمصر، بل أثار الإخوان المسلمون في مذكرة رفعوها إلى مجلس الجامعة العربية المنعقدة في دمشق بتاريخ 9 شعبان 1370 هـ الموافق 15 / 5 / 1951 م قضية الإمارات العربية.. وطالبوا الجامعة بوجوب العمل لتحريرها واستقلالها) .
2- الموقف من وحدة مصر وسوريا:
ولقد كان موقف الإخوان المسلمين في سورية موقفاً في غاية المبدئية والموضوعية، فرغم الصراع الذي كان قائماً بين الإخوان والمسلمين وعبد الناصر في مصر، تناسى الإخوان هذه الجراح وكان تأييدهم للوحدة منقطع النظير والمظاهرات التي قادها الإخوان المسلمون في العاصمة دمشق تأييداً للوحدة لم تشهدها دمشق من أي حزب سياسي آخر، ووافق الإخوان المسلمون على حل تنظيمهم السياسي مراعاة لمصلحة الأمة العليا، وحرصاً على نجاح الوحدة بين القطرين لأن عبد الناصر اشترط إلغاء الأحزاب السياسية في سورية كأساس للموافقة على الوحدة معها، بينما رفض الشيوعيون ذلك.
3- الموقف من الانفصال بين القطرين:
وبالموقف المشرف نفسه، ورغم المضايقات والملاحقات التي شهدها الإخوان المسلمون بأشخاصهم وزعماءهم في عهد الوحدة، فقد رفضوا التوقيع على وثيقة الانفصال حيث كان الأستاذ عصام العطاء المراقب العام للإخوان المسلمين هو الذي يمثل الجماعة في لقاء الأحزاب والفئات السياسية عقب الانفصال في الوقت الذي وقع على وثيقة الانفصال عن مصر اثنان من زعماء حزب البعث الاشتراكي السوري هما أكرم الحوراني وصالح البيطار، وكان كتاب – اشتراكية الإسلام – للدكتور مصطفى السباعي معتمداً لدى الإعلام المصري وينقل منه حلقات في الإذاعة المصرية أثناء عهد الانفصال.
4ً- بعد قرابة عشرين عاماً، وحين كان بيان الثورة الإسلامية يمثل فكر الإخوان المسلمين السوريين عام 1980 آنذاك، جاء الحديث عن الوحدة العربية كما يلي:
( في السياسة الخارجية: أولاً: الوحدة العربية:
لم يكن يخطر على بال أحد من قادة الحركة الإسلامية الحديثة أن الزمن سيتمخض عن تمزيق هذا العالم الواحد بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما سار إليه واستقر عليه، إلا أن إرادة الأعداء المتربصين كانت أقوى من آمال المخلصين...
- مرض التجزئة: ومنذ ذلك التاريخ كان التوجه الأساسي لدى المخلصين من قادة هذه الأمة يتمثل في إزالة حاجز التجزئة وإعادة الوطن العربي الممزق إلى وحدته الكاملة تمهيداً لاتحاد المسلمين، شعوراً منهم أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجباتها تجاه ذاتها وتجاه الإسلام وتجاه الإنسانية إلا من خلال الوحدة الشاملة، وفي إطار الدولة الواحدة، لأن هذا هو الحل الأمثل الذي يسمح بالتوظيف الأمثل للطاقات البشرية والمادية بصورة متكاملة متوازنة.. والثورة الإسلامية في سورية تعتبر بداية الانفصال في دولة الوحدة بين مصر وسورية، مع كل البواعث الأليمة التي أدت إلى هذا المآل، نهاية التوجهات الحقيقية نحو الوحدة، وبداية التدعيم الكثيف للنزعات العرقية والطائفية والإقليمية والقطرية....
إن من العار الذي ما بعده عار على شعب يتكلم بلغة واحدة، ويدين بعقيدة واحدة، ويعبد رباً واحداً أن يُعتبر أبناؤه في بعض الأقطار العربية غرباء، وفي الوقت الذي يسرح فيه الغرباء الحقيقيون في هذه الأقطار.
إن أمتنا كلها وبمجموع أفرادها تبوء بإثم التمزق والانقسام ما لم يعملوا على استئصال أسبابه، والقضاء على بواعته، والعودة بالأمة إلى سابق وحدتها، وغابر مجدها).
( 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضوٍ في الهيئة أو استقلاله السياسي أو سلامة أو استقلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة).
لقد تكرس الانفصال التام بين الدول العربية من خلال ميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة وانحصرت العلاقة بالتعاون والتنسيق بدلاً عن الوحدة وانصهار الكيانات في كيان واحد، وتحولت الوحدة العربية إلى خيال وحلم من أحلام الشعب العربي.
- المرحلة الثانية: النصف الثاني من القرن العشرين:
مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين انتهى سلطان الأحزاب الوطنية التقليدية، وتمكنت الأحزاب القومية من الوصول إلى السلطة والتي جعلت الوحدة العربية الهدف الأول من شعاراتها وفي أول أولوياتها واهتماماتها، ففي عام 1952 قامت الثورة المصرية ضد الملكية، وفي عام 1956 تمكن التجمع القومي الذي يمثل البعث العربي مع الشيوعيين من الانتصار على التيار الإسلامي، وانتهى بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ولأن وحدة سورية ومصر كانت هي الوحدة اليتيمة الوحيدة في هذا القرن، وبانتخاب شعبي حرٍ دون اللجوء إلى القوة فلا بد من وقفة عندها ملياً، لنرى أسباب صعودها وأسباب انهيارها.
الوضع السوري عند الوحدة: كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان ويعاني من جموح الضباط الاشتراكيين الحورانيين والضباط المستقلين الموالين للاشتراكيين، والضباط من الحزب السوري القومي وجماعته وضباط عبد الحميد السراج، هذا الذي أصبح بصلة مباشرة مع الكيان المصري عبر القيادة المشتركة العربية وعبر السفارة المصرية، وكان هؤلاء الضباط جميعهم يتنافسون في الطموح إلى تحقيق مآربهم، ولكل فئة منهم غاربة يعرفها البقية، واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا أنفسهم باعتبارهم حماة الديار فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأصبحوا بحاجة لمن يوزع بينهم الأدوار ويضبط تنافرهم، فوجدوا في شخص الضابط الشرس عفيف البزري.
الجميع يعلم بأن سورية – قلب العروبة النابض – منذ عند التتريك زمن العثمانيين والجميع يعلم أن شباب هذا البلد منذ ذلك الزمن طلاب وحدة عربية شاملة، كانوا يحلمون بذلك اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم عشوائياً، بل عليه أن يتم عن طريق تشريعي يمثل الأمة بأسرها ويضع أساس هذا الارتباط الجذري المصيري.
في ظل هذه الظروف السائدة نزولاً عند رغبة ضباط القوات المسلحة هب وزير الخارجية صلاح البيطار وهو بعثي إلى مصر ليلتقي مع الإخوة المصريين، أي مجلس الثورة لإحكام خيوط الوحدة، وكان ذلك دون علم رئيس الوزراء خالد العظم.
ولما تمهدت الأمور واشتدت الارتباطات وأحكمت حلقاتها سافر وفر عسكري برئاسة العقيد عفيف البزرة الذي أمطروه رتبة فريق، ووصل إلى مصر ليطالب بالوحدة الفورية، واجتمع الوفد مع بعض ضباط الثورة، وقد أخطأ البزرة أثناء الحديث ولفظ كلمة اتحاد بدلاً من الوحدة فثار أحد ضباط مجلس الثورة يصحح اللفظ ويقول: إحنا منتكلم عن وحدة مش اتحاد.
واجتمع الوفد أخيراً مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحب بالوفد، ثم استمع إلى مطالبه، فقال: إن هذا الأمر يحتاج إلى قرار من المجلس التشريعي السوري والسلطات السورية، فقالوا له: إن هذه أمور كلها معروفة ومضمونة ونحن نطلب تحقيق الوحدة فوراً، ولا نخرج من هذا الاجتماع إلا بعد أن نقرأ الفاتحة على نشأة الوحدة، ووافقهم عبد الناصر، وقرئت الفاتحة، ونشأت الوحدة كأنها مراسم خطوبة.
ولما وصل الخبر إلى سورية هاجت وماجت جماهير حركتها مخابرات السراج، ولم يجد الرسميون في سورية بداً من الذهاب إلى القاهرة لاستجلاء الأمر، وقد حاول خالد العظم استبدال الوحدة باتحاد، ولكنه لم يفلح، وبقي محتفظاً برأيه في هذا الاتجاه، ولما انعقد المجلس النيابي برئاسة أكرم الحوراني لطرح الوحدة عارضها كل من خالد بكداش وصالح عقيل وهاني السباعي، ولكن الوحدة أقرت بما يشبه الإجماع، ولم يمنع ذلك الوزيرين عقيل والسباعي من السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.
وتنازل فخامة الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، فاتحاً بذلك عهداً جديداً تتحقق فيه أحلام السوريين جميعاً ببدء وحدة عربية شاملة رائدتها مصر الشقيقة الكبرى في الأسرة العربية).
وجاء في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة:
والمجتمعون إذ يعلنون قراراتهم هذه يحسون بأعمق السعادة وأجل ألوان الفخر إذ شاركوا في الخطوة الإيجابية في طريق وحدة العرب حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، والمجتمعون إذ يقررون وحدة البلدين يعلنون أن وحدتهم تتوخى شمل العرب، ويؤكدون أن باب الوحدة مفتوح لكل بلد عربي يريد أن يشترك معها في وحدة أو اتحاد يدفع عن العرب الأذى والسوء ويعزز سيادة العروبة ويحفظ كيانها...).
وكان الانفصال بعد ثلاث سنوات:
في 28 أيلول 1961 حدث في سورية انقلاب عسكري.. وأعلنت الحكومة المؤقتة في 30 أيلول 1961 عن برنامجها السياسي.. وأصدرت جماعة من السياسيين في 2 تشرين أول بياناً تم فيه الإعلان عن الدعم والتأييد الكاملين لخطوة الجيش الجبارة، وناشدت جميع الدول العربية أن تنظر بجدية إلى هذا النظام وأهدافه التقدمية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ووقع هذا البيان كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار وزعيم المستقلين خالد العظم وصبري العسلي وغيرهم.. ودعم كل من شكري القوتلي وفارس الخوري وسلطان الأطرش نظام الانفصال، أما بالنسبة لموقف حزب البعث من الانقلاب وبغض النظر عن موقف قادته المذكورين أعلاه، كان معارضاً له، ولقد أصدرت القيادة القومية لحزب البعث في بيروت بيانيين متعارضين ومتناقضين، فأحدهما كان ضد هذا الانقلاب والآخر معه، فيما بعد اعترف حزب البعث بالبيان الأول فقط... وأشار الحزب الشيوعي السوري في الوقت الذي أيَّد فيه خروج سورية من الوحدة إلى أن فشل الوحدة لا يعني على الإطلاق فشل مفهوم ومبدأ الوحدة، واستقبلت الأوساط البورجوازية والإقطاعية حركة الانفصال بترحيب واسع، فقدم إلى دمشق عقب الانقلاب وفود تمثل أصحاب المصانع والشركات المؤسسة ومن التجار وكبار الملاك والإقطاعيين وغيرهم ليعلنوا عن تأييدهم الكامل لحكومة الانفصال.. ومن أجل أن تحوز حكومة الانفصال على اعتراف الدول العربية، فقد أسرعت للإعلان عن أنها سوف تبقى مخلصة لمبادئ الوحدة العربية رغم خروج سورية المؤقت من الجمهورية العربية المتحدة، فوجهت حكومة الانفصال دعوة إلى جميع الأقطار العربية تحثهم فيها على العمل الجاد لإقامة اتحاد فيدرالي طوعي يقوم على أساس المساواة بين جميع الأقطار المشتركة فيه، وأشير في مشروع الاتحاد الفيدرالي المقدم إلى أن السلطات التشريعية والتنفيذية داخل كل قطر سوف تستمر في تنفيذ مهامها في داخل القطر وفي مجال العلاقات الدولية ويقضي المشروع بعدم التدخل من جانب أي قطر في الشؤون الداخلية لقطر آخر وما إلى ذلك من الشروط الأخرى الخاصة باحترام الحريات الشخصية والدستورية لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، وأشير بنفس الوقت إلى أن هذا الاتحاد لا يتعارض مطلقاً مع أن تقوم بين بعض الأقطار الداخلة في الاتحاد وحدة اندماجية.. ولا في هذا المشروع – كما كان يتوقع له – التأييد من جانب الحكومة العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم الذي كان يكن العداء لحكومة الجمهورية العربية المتحدة.. أما حكومة مصر فقد أعلنت عن رفضها حتى لمناقشة هذا المشروع).
المحاولات الأخرى للوحدة العربية:
لقد نشأ عن فشل الوحدة العربية رد فعل قوي لدى الحاكمين في عدم إعادة التجربة في الوحدة الفورية بين الأنظمة الحاكمة، بينما بقيت الجماهير تنادي بالوحدة العربية الشاملة وتتلهف لها، وواضح أن القرار في النهاية هو بيد الأنظمة الحاكمة، فقد رافق تجربة الجمهورية العربية المتحدة تجربة اتحاد عربي بينها وبين اليمن انتهى مع قيام الانفصال.
وبعد الانفصال عن مصر وعودة الجمهورية العربية السورية، وقيام ثورة 8 شباط 1963 في العراق، والتي كان يؤيدها حزب البعث هناك، جرت محاولة جديدة للتقارب بين النظامين العراقي والسوري (وتحت الضغط من جانب حزب البعث وجهت حكومة خالد العظم دعوة لتشكيل اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، وجاء في إعلان وزير الخارجية السورية مايلي: إن سورية العربية تعلن بأنه لم يعد هناك أية صعوبات على طريق الاتحاد مع العراق الشقيق، ونأمل أن يكون هذا الاتجاه مركز استقطاب للدول العربية الأخرى).
( أما التجربة الثالثة فتمثلت في الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958 كرد فعلٍ على الوحدة المصرية السورية، وانتهت بقيام ثورة العراق الأولى في تموز – يوليو من العام نفسه، ثم جاءت التجربة الرابعة لإقامة وحدة بني كل من مصر والعراق وسورية عام 1963، وظلت هذه المحاولة حبراً على ورق ولم تر النور، وجرت التجربة الخامسة بعد قيام الثورة الليبية في أيلول – سبتمبر 1969، وتبنيها من جديد دعوة الوحدة العربية وإنشاء اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 الذي ضم كلاً من مصر وسورية وليبيا ولكنه لم يدم طويلاً وتجمد ثم انتهى).
5ً- وأخيراً، مشروع الميثاق الوطني الذي تقدم به الإخوان المسلمون في سورية للعاملين في الحقل السياسي السوري، وتم إقراره ميثاقاً وطنياً في مؤتمر المعارضة السورية بلندن، فقد كانت الثوابت الثلاثة في المشروع، وأضحت جزءاً من المقدمة في الميثاق هي الانتماء الإسلامي هوية ومرجعية، والانتماء للمنظومات العربية، والاستفادة من تحارب الأمم.
وبصدد الثابت الثاني الذي يمثل فكر الإخوان المسلمين قال الميثاق:
( إن انتماء قطرنا إلى منظومته العربية يعتبر أساساً في بناء أي استراتيجية سياسية مستقبلية، ومن الضروري أن يعبر هذا الانتماء عن نفسه في تجسد واقعي فعال، يوثق الروابط ويؤكد العلائق، ويسير بالأمة في طريق التوحد ضمن سياسات منضبطة ومدروسة، ولا يجوز أن يبقى ممثلاُ في رؤى ذهنية أو في مشاعر وأحلام عاطفية.
ثم إن المواجهة بين العروبة والإسلام كانت عنوان مرحلة تاريخية تصرمت، ولقد نشأت تلك المواجهة عن عوامل من الانفعال وسوء الفهم، وحمى الإيديولوجيا التي سادت المناخ العام في فترات ما بعد الاستقلال..).
كما كانت الوحدة العربية هي الهدف الرابع من أهداف الأمة، والتي نص عليها الميثاق بما يلي:
( الهدف الرابع: السعي إلى تحقيق الوحدة العربية:
إن السعي لتحقيق الوحدة العربية على أسس متينة من الروابط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية واجب شرعي وضرورة قومية، وإلى أن تتوفر الشروط الموضوعية لهذه الوحدة لابد من العمل على إعادة التضامن العربي، وتجاوز كل الخلافات البينية، وفتح الحدود بين جميع الدول العربية، وإقامة سوق عربية مشتركة للارتقاء بالعلاقات العربية – العربية إلى مستوى التحديات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تواجه الأمة) ().
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة:
كثيراً ما تتراءى لنا أوضاعنا مشابهة للأوضاع المتردية للمسلمين يوم احتل الصليبيون القدس واحتلوا الكثير من الأرض الإسلامية، ولم يتمكن العرب المسلمون من الانتصار على خصومهم إلا من خلال الوحدة، فقد كانت الإمارات العربية في صراع مرير على السلطة تتحالف مع الصليبيين ضد بعضها بعضاً، وانطلق عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين من جعل الأولوية الكبرى لحرب الصليبيين، وأن هذه الحرب لن يتحقق فيها النصر ما لم تتوحد الأمة كلها لحربهم، ومضوا في عمليات التحرير والتوحيد حيث بلغت قمتها من توحد مصر وسورية واليمن والشام كلها، وباركت الخلافة الإسلامية في بغداد هذا التوحد، وكان الإسلام هو أساس هذه الوحدة، والجهاد في سبيل الله هو سبيلها لمواجهة جيوش الفرنجة المتجمعة من أوربا (ومات نور الدين سنة 569 هـ فاضطربت البلاد الشامية والجزيرة ودعي صلاح الدين لضبطها فأقبل على دمشق (مصر) سنة 570 هـ 117 م، فاستقبله بحفاوة وانصرف إلى ما وراءها فاستولى على بعلبك وحماة وحلب، ثم ترك حلب للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وانصرف إلى الإصلاح الداخلي في مصر والشام، كما اهتم بدفع غارات الصليبيين ومهاجمة حصونهم وقلاعهم في بلاد الشام.. ودانت لصلاح الدين البلاد من آخر حدود النوبة جنوباً وبرقة غرباً إلى بلاد الأرمن شمالً وبلاد الجزيرة والموصل شرقاً، وكان أعظم انتصار له على الفرنج في فلسطين والساحل الشامي يوم حطين سنة 583هـ، 1187 م الذي تلاه استرداد طبرية وعكا ويافا إلى ما بعد بيروت، ثم افتتاح بيت المقدس في نفس العام ووقائع أخرى على أبواب صور، فدفاع مجيد عن عكا).
( مناقبه: كان خليقاً بالإمارة، مهيباً شجاعاً، مجاهداً كثير الغزو، عالي الهمة، جواداً كريماً حسناً إلى أمرائه وغيرهم، وكان بسيطاً في ملبسه ومأكله وركبه، ومن عدله أنه لم يعاقب على المظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فأمنت البلاد مع سعتها، وقل المفسدون ببركة العدل واتباع الشريعة المظهرة، وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء وجميع الناس بلا تفرقة.
وفاته: بعد أن انتهى من المعاهدة بينه وبين ريتشارد قلب الأسد، قام بجولة في بلاد الشام التي كانت تحت سيطرته ليطمئن على أحوالها، وعلى مسيرة الإصلاحات، ثم عاد إلى دمشق، ومكث فيها أياماً طلباً للراحة وعازماً المسير بعد فترة إلى مصر ليستطلع أحوالها إلا أن المرض عاجله، وما لبث أن توفي في دمشق ودفن فيها).
فقد قامت الوحدة بين هذه الأقطار العربية على القوة ومفهوم الفتح الإسلامي والجهاد في سبيل الله (وافتتح بسيفه من اليمن إلى الموصل، ومن طرابلس الغرب إلى النوبة)، وكان الدين هو الذي يحركه في كل خطواته.
فـ (كان صلاح الدين فقيهاً درس الفقه الشافعي بالإضافية للحديث والعقيدة وروى الحديث أناس عنه وكان يحفظ القرآن، والتنبه في الفقه، والحماسة في الشعر، ومثله كان أمراؤه ووزراؤه، ومنهم وزيره الشهير ومستشاره القاضي الفاضل الذي قال صلاح الدين عنه فيما رواه السبكي (لم أفتح البلاد بسيفي وإنما برأي القاضي الفاضل) وكذلك كان الأمير ضياء الدين عيسى أكبر أمراء الجيش وكذلك الأمير بهاء الدين قراقوش عالماً فقيهاً إلا أنه كرس نفسه للخدمة الإدارية والعسكرية، فقد كان والي صلاح على عكا ثم على القاهرة فكان من أحكم القادة وأشجعهم).
قبل أن يصل إلى الحكم قال:
( المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها:
العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها ولهذا فإن حزب العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر.
2- الأمة العربية وحدة ثقافية جميع الفوارق بين أبنائها عرضية زائفة تزول جميعها بتغطية الوجدان العربي.
3- الوطن العربي للعرب ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته).
وبعد أن وصل إلى الحكم، أصبحت الوحدة عنده لقاءً بين القوى الثورية فقط، والقوى الاشتراكية.
( إن الاشتراكية هي المضمون الواقعي للوحدة العربية، وإن بناء الاشتراكية يجعل الوحدة الإطار البشري والاقتصادي الأكثر انسجاماً.. لذا فإن الوحدة العربية والاشتراكية قضيتان متلازمتان على الصعيد التاريخي والاقتصادي).
ومن أجل هذا كانت تجارب الوحدة فقط مع الأنظمة الاشتراكية، مصر، وليبية والعراق، ومع ذلك لم تتمكن هذه الوحدات الاشتراكية أن تصمد أكثر من أشهر، وقام حزب البعث في سورية والعراق، وعجز خلال عشرين عاماً من إقامة وحدة بين شطري الحزب، بل أن يقيم وحدة عربية في أرجاء الوطن العربي ولأن الحزب وصل إلى السلطة في قطرين عربيين، وهو الحزب الجماهيري الداعي للوحدة العربية، كان هو الذي يمثل واقع التيار القومي، وتطبيقه للوحدة تاركين الآراء النظرية في مهب الريح حيث لا وجود لها على أرض الواقع.
سابعاً- الحركات الإسلامية والوحدة العربية:
لقد كان الإمام الشهيد حسن البنا المؤسس الأول للإخوان المسلمين رمزاً من رموز الوحدة العربية فهو الذي ربط مصر بالأقطار العربية، وكانت الحركة الإسلامية في العالم العربي تخضع لقيادة واحدة تمثلت في ارتباطها بالمرشد العام، بينما اعتبرت الحركات الأخرى على رأسها المراقب العام وذلك في الأقطار العربية الأخرى، ولهذا دلالته الهامة فمسؤولوا الأقطار هم تابعون لمرشد عام واحد، وتجسد هذا فيما بعد بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تمثلت فيه كل الأقطار العربية وفي رسالة المؤتمر الخامس تحدث صراحة عن وحدة العرب فقال:
وحدة العرب أمر لابد منه لإعادة الإسلام، وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية).
وهذه عوامل الوحدة العربية في فكر الإخوان المسلمين:
( جـ- وقد ذكر البنا وغيره من كتاب الإخوان أن العوامل التي تؤدي إلى الوحدة الكاملة للأمة العربية تتمثل فيما يلي:
1- الوحدة الجغرافية: فالأرض واحدة تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في اتصال والتحام لا تقسمها الفواصل الكونية أو التضاريس مع تميزها بثروتها الطبيعية واستغنائها بخيراتها.
2- الوحدة الروحية: فالمسلمون يقدسون الإسلام عقيدة وغيرهم يعتزون به شريعة قومية عادلة ونظاماً اجتماعياً ترعرع في أوطانهم.
3- الوحدة اللغوية، فاللغة واحدة للمسلمين وغير المسلمين من العرب الذين يحوطونها بمشاعرهم.
4- وحدة الآمال والآلام التي يمثلها تاريخ ضخم مشترك في القديم والجديد.
5- الوحدة الفكرية والثقافية والاجتماعية بتشابه العادات والتقاليد في شعوبه).
كما طالب الإخوان المسلمون بتجاوز الجامعة العربية ووضعوا الطريق الصحيح للوحدة.
( هـ- وقد رأى الإخوان أنه لكي تنجح الجامعة العربية في تحقيق الوحدة العربية وآمال العرب فمن الضروري التزام هذه الأسس بجانب ما سبق.
1- ستظل الوحدة بطيئة الجنى ما دامت مقصورة على ناحيتها الرسمية بين الحكومات، فيجب الإسراع في توحيد الثقافات حتى تتقارب الأفهام ويفتح الباب للاندماج الكامل، وهذا يستدعي تغييراً في مناهج وسياسة التعليم في المعاهد والمدارس العربية، وتوجيه الثقافات وجهة واحدة تخدم أهداف الوحدة، ومعنى ذا وضع المعاهدة الثقافية بين الدول العربية موضع التطبيق.
2- العمل لتحقيق الوحدة السياسية برفع الحدود، والوحدة الاقتصادية.
3- الجامعة العربية أداة لجمع كلمة العرب وتوجيههم قوة واحدة لتحقق رسالتهم في الحياة (نشر المثل العليا) أي الإسلام.
4- أجزاء الوطن العربي تنتظر من الجامعة النجدة لتحقيق حريته أو إتمامها فيجب أن تؤمن الجامعة العربية بحقها في حماية العرب وصيانة استقلالهم فلا تكون آلة في يد غيرهم، ومن الضروري بث ذلك في نفوس الشعب حتى يحتشد وراء هذا الميثاق).
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية:
1- في تبني القضايا العربية: لقد كان الإخوان المسلمون يعيشون الوحدة العربية واقعاً حياً، فالقضايا العربية تملك عليهم مشاعرهم يرفعون بها المذكرات للحكومات والجهات المختصة (وتأتي في مقدمة القضايا العربية القضية الفلسطينية وقضية مصر، وكما قال السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية (نستطيع أن نؤكد بأن هيئة أو حزباً أو جماعة ما في بلادنا لم تساهم بنشاط عملي شعبي واسع في سبيل نصرة فلسطين وإنقاذها كما ساهم الإخوان المسلمون، أما قضية مصر فقد أيد الإخوان المسلمون في سورية مطلبيها الرئيسيين، الجلاء ووحدة وادي النيل.. ولم يكن تأييد الإخوان لنضال الشعب العربي المغربي ضد الاستعمار الفرنسي بأقل من تأييدهم لمصر، بل أثار الإخوان المسلمون في مذكرة رفعوها إلى مجلس الجامعة العربية المنعقدة في دمشق بتاريخ 9 شعبان 1370 هـ الموافق 15 / 5 / 1951 م قضية الإمارات العربية.. وطالبوا الجامعة بوجوب العمل لتحريرها واستقلالها) .
2- الموقف من وحدة مصر وسوريا:
ولقد كان موقف الإخوان المسلمين في سورية موقفاً في غاية المبدئية والموضوعية، فرغم الصراع الذي كان قائماً بين الإخوان والمسلمين وعبد الناصر في مصر، تناسى الإخوان هذه الجراح وكان تأييدهم للوحدة منقطع النظير والمظاهرات التي قادها الإخوان المسلمون في العاصمة دمشق تأييداً للوحدة لم تشهدها دمشق من أي حزب سياسي آخر، ووافق الإخوان المسلمون على حل تنظيمهم السياسي مراعاة لمصلحة الأمة العليا، وحرصاً على نجاح الوحدة بين القطرين لأن عبد الناصر اشترط إلغاء الأحزاب السياسية في سورية كأساس للموافقة على الوحدة معها، بينما رفض الشيوعيون ذلك.
3- الموقف من الانفصال بين القطرين:
وبالموقف المشرف نفسه، ورغم المضايقات والملاحقات التي شهدها الإخوان المسلمون بأشخاصهم وزعماءهم في عهد الوحدة، فقد رفضوا التوقيع على وثيقة الانفصال حيث كان الأستاذ عصام العطاء المراقب العام للإخوان المسلمين هو الذي يمثل الجماعة في لقاء الأحزاب والفئات السياسية عقب الانفصال في الوقت الذي وقع على وثيقة الانفصال عن مصر اثنان من زعماء حزب البعث الاشتراكي السوري هما أكرم الحوراني وصالح البيطار، وكان كتاب – اشتراكية الإسلام – للدكتور مصطفى السباعي معتمداً لدى الإعلام المصري وينقل منه حلقات في الإذاعة المصرية أثناء عهد الانفصال.
4ً- بعد قرابة عشرين عاماً، وحين كان بيان الثورة الإسلامية يمثل فكر الإخوان المسلمين السوريين عام 1980 آنذاك، جاء الحديث عن الوحدة العربية كما يلي:
( في السياسة الخارجية: أولاً: الوحدة العربية:
لم يكن يخطر على بال أحد من قادة الحركة الإسلامية الحديثة أن الزمن سيتمخض عن تمزيق هذا العالم الواحد بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما سار إليه واستقر عليه، إلا أن إرادة الأعداء المتربصين كانت أقوى من آمال المخلصين...
- مرض التجزئة: ومنذ ذلك التاريخ كان التوجه الأساسي لدى المخلصين من قادة هذه الأمة يتمثل في إزالة حاجز التجزئة وإعادة الوطن العربي الممزق إلى وحدته الكاملة تمهيداً لاتحاد المسلمين، شعوراً منهم أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجباتها تجاه ذاتها وتجاه الإسلام وتجاه الإنسانية إلا من خلال الوحدة الشاملة، وفي إطار الدولة الواحدة، لأن هذا هو الحل الأمثل الذي يسمح بالتوظيف الأمثل للطاقات البشرية والمادية بصورة متكاملة متوازنة.. والثورة الإسلامية في سورية تعتبر بداية الانفصال في دولة الوحدة بين مصر وسورية، مع كل البواعث الأليمة التي أدت إلى هذا المآل، نهاية التوجهات الحقيقية نحو الوحدة، وبداية التدعيم الكثيف للنزعات العرقية والطائفية والإقليمية والقطرية....
إن من العار الذي ما بعده عار على شعب يتكلم بلغة واحدة، ويدين بعقيدة واحدة، ويعبد رباً واحداً أن يُعتبر أبناؤه في بعض الأقطار العربية غرباء، وفي الوقت الذي يسرح فيه الغرباء الحقيقيون في هذه الأقطار.
إن أمتنا كلها وبمجموع أفرادها تبوء بإثم التمزق والانقسام ما لم يعملوا على استئصال أسبابه، والقضاء على بواعته، والعودة بالأمة إلى سابق وحدتها، وغابر مجدها).
( 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضوٍ في الهيئة أو استقلاله السياسي أو سلامة أو استقلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة).
لقد تكرس الانفصال التام بين الدول العربية من خلال ميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة وانحصرت العلاقة بالتعاون والتنسيق بدلاً عن الوحدة وانصهار الكيانات في كيان واحد، وتحولت الوحدة العربية إلى خيال وحلم من أحلام الشعب العربي.
- المرحلة الثانية: النصف الثاني من القرن العشرين:
مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين انتهى سلطان الأحزاب الوطنية التقليدية، وتمكنت الأحزاب القومية من الوصول إلى السلطة والتي جعلت الوحدة العربية الهدف الأول من شعاراتها وفي أول أولوياتها واهتماماتها، ففي عام 1952 قامت الثورة المصرية ضد الملكية، وفي عام 1956 تمكن التجمع القومي الذي يمثل البعث العربي مع الشيوعيين من الانتصار على التيار الإسلامي، وانتهى بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ولأن وحدة سورية ومصر كانت هي الوحدة اليتيمة الوحيدة في هذا القرن، وبانتخاب شعبي حرٍ دون اللجوء إلى القوة فلا بد من وقفة عندها ملياً، لنرى أسباب صعودها وأسباب انهيارها.
الوضع السوري عند الوحدة: كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان ويعاني من جموح الضباط الاشتراكيين الحورانيين والضباط المستقلين الموالين للاشتراكيين، والضباط من الحزب السوري القومي وجماعته وضباط عبد الحميد السراج، هذا الذي أصبح بصلة مباشرة مع الكيان المصري عبر القيادة المشتركة العربية وعبر السفارة المصرية، وكان هؤلاء الضباط جميعهم يتنافسون في الطموح إلى تحقيق مآربهم، ولكل فئة منهم غاربة يعرفها البقية، واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا أنفسهم باعتبارهم حماة الديار فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأصبحوا بحاجة لمن يوزع بينهم الأدوار ويضبط تنافرهم، فوجدوا في شخص الضابط الشرس عفيف البزري.
الجميع يعلم بأن سورية – قلب العروبة النابض – منذ عند التتريك زمن العثمانيين والجميع يعلم أن شباب هذا البلد منذ ذلك الزمن طلاب وحدة عربية شاملة، كانوا يحلمون بذلك اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم عشوائياً، بل عليه أن يتم عن طريق تشريعي يمثل الأمة بأسرها ويضع أساس هذا الارتباط الجذري المصيري.
في ظل هذه الظروف السائدة نزولاً عند رغبة ضباط القوات المسلحة هب وزير الخارجية صلاح البيطار وهو بعثي إلى مصر ليلتقي مع الإخوة المصريين، أي مجلس الثورة لإحكام خيوط الوحدة، وكان ذلك دون علم رئيس الوزراء خالد العظم.
ولما تمهدت الأمور واشتدت الارتباطات وأحكمت حلقاتها سافر وفر عسكري برئاسة العقيد عفيف البزرة الذي أمطروه رتبة فريق، ووصل إلى مصر ليطالب بالوحدة الفورية، واجتمع الوفد مع بعض ضباط الثورة، وقد أخطأ البزرة أثناء الحديث ولفظ كلمة اتحاد بدلاً من الوحدة فثار أحد ضباط مجلس الثورة يصحح اللفظ ويقول: إحنا منتكلم عن وحدة مش اتحاد.
واجتمع الوفد أخيراً مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحب بالوفد، ثم استمع إلى مطالبه، فقال: إن هذا الأمر يحتاج إلى قرار من المجلس التشريعي السوري والسلطات السورية، فقالوا له: إن هذه أمور كلها معروفة ومضمونة ونحن نطلب تحقيق الوحدة فوراً، ولا نخرج من هذا الاجتماع إلا بعد أن نقرأ الفاتحة على نشأة الوحدة، ووافقهم عبد الناصر، وقرئت الفاتحة، ونشأت الوحدة كأنها مراسم خطوبة.
ولما وصل الخبر إلى سورية هاجت وماجت جماهير حركتها مخابرات السراج، ولم يجد الرسميون في سورية بداً من الذهاب إلى القاهرة لاستجلاء الأمر، وقد حاول خالد العظم استبدال الوحدة باتحاد، ولكنه لم يفلح، وبقي محتفظاً برأيه في هذا الاتجاه، ولما انعقد المجلس النيابي برئاسة أكرم الحوراني لطرح الوحدة عارضها كل من خالد بكداش وصالح عقيل وهاني السباعي، ولكن الوحدة أقرت بما يشبه الإجماع، ولم يمنع ذلك الوزيرين عقيل والسباعي من السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.
وتنازل فخامة الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، فاتحاً بذلك عهداً جديداً تتحقق فيه أحلام السوريين جميعاً ببدء وحدة عربية شاملة رائدتها مصر الشقيقة الكبرى في الأسرة العربية).
وجاء في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة:
والمجتمعون إذ يعلنون قراراتهم هذه يحسون بأعمق السعادة وأجل ألوان الفخر إذ شاركوا في الخطوة الإيجابية في طريق وحدة العرب حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، والمجتمعون إذ يقررون وحدة البلدين يعلنون أن وحدتهم تتوخى شمل العرب، ويؤكدون أن باب الوحدة مفتوح لكل بلد عربي يريد أن يشترك معها في وحدة أو اتحاد يدفع عن العرب الأذى والسوء ويعزز سيادة العروبة ويحفظ كيانها...).
وكان الانفصال بعد ثلاث سنوات:
في 28 أيلول 1961 حدث في سورية انقلاب عسكري.. وأعلنت الحكومة المؤقتة في 30 أيلول 1961 عن برنامجها السياسي.. وأصدرت جماعة من السياسيين في 2 تشرين أول بياناً تم فيه الإعلان عن الدعم والتأييد الكاملين لخطوة الجيش الجبارة، وناشدت جميع الدول العربية أن تنظر بجدية إلى هذا النظام وأهدافه التقدمية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ووقع هذا البيان كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار وزعيم المستقلين خالد العظم وصبري العسلي وغيرهم.. ودعم كل من شكري القوتلي وفارس الخوري وسلطان الأطرش نظام الانفصال، أما بالنسبة لموقف حزب البعث من الانقلاب وبغض النظر عن موقف قادته المذكورين أعلاه، كان معارضاً له، ولقد أصدرت القيادة القومية لحزب البعث في بيروت بيانيين متعارضين ومتناقضين، فأحدهما كان ضد هذا الانقلاب والآخر معه، فيما بعد اعترف حزب البعث بالبيان الأول فقط... وأشار الحزب الشيوعي السوري في الوقت الذي أيَّد فيه خروج سورية من الوحدة إلى أن فشل الوحدة لا يعني على الإطلاق فشل مفهوم ومبدأ الوحدة، واستقبلت الأوساط البورجوازية والإقطاعية حركة الانفصال بترحيب واسع، فقدم إلى دمشق عقب الانقلاب وفود تمثل أصحاب المصانع والشركات المؤسسة ومن التجار وكبار الملاك والإقطاعيين وغيرهم ليعلنوا عن تأييدهم الكامل لحكومة الانفصال.. ومن أجل أن تحوز حكومة الانفصال على اعتراف الدول العربية، فقد أسرعت للإعلان عن أنها سوف تبقى مخلصة لمبادئ الوحدة العربية رغم خروج سورية المؤقت من الجمهورية العربية المتحدة، فوجهت حكومة الانفصال دعوة إلى جميع الأقطار العربية تحثهم فيها على العمل الجاد لإقامة اتحاد فيدرالي طوعي يقوم على أساس المساواة بين جميع الأقطار المشتركة فيه، وأشير في مشروع الاتحاد الفيدرالي المقدم إلى أن السلطات التشريعية والتنفيذية داخل كل قطر سوف تستمر في تنفيذ مهامها في داخل القطر وفي مجال العلاقات الدولية ويقضي المشروع بعدم التدخل من جانب أي قطر في الشؤون الداخلية لقطر آخر وما إلى ذلك من الشروط الأخرى الخاصة باحترام الحريات الشخصية والدستورية لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، وأشير بنفس الوقت إلى أن هذا الاتحاد لا يتعارض مطلقاً مع أن تقوم بين بعض الأقطار الداخلة في الاتحاد وحدة اندماجية.. ولا في هذا المشروع – كما كان يتوقع له – التأييد من جانب الحكومة العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم الذي كان يكن العداء لحكومة الجمهورية العربية المتحدة.. أما حكومة مصر فقد أعلنت عن رفضها حتى لمناقشة هذا المشروع).
المحاولات الأخرى للوحدة العربية:
لقد نشأ عن فشل الوحدة العربية رد فعل قوي لدى الحاكمين في عدم إعادة التجربة في الوحدة الفورية بين الأنظمة الحاكمة، بينما بقيت الجماهير تنادي بالوحدة العربية الشاملة وتتلهف لها، وواضح أن القرار في النهاية هو بيد الأنظمة الحاكمة، فقد رافق تجربة الجمهورية العربية المتحدة تجربة اتحاد عربي بينها وبين اليمن انتهى مع قيام الانفصال.
وبعد الانفصال عن مصر وعودة الجمهورية العربية السورية، وقيام ثورة 8 شباط 1963 في العراق، والتي كان يؤيدها حزب البعث هناك، جرت محاولة جديدة للتقارب بين النظامين العراقي والسوري (وتحت الضغط من جانب حزب البعث وجهت حكومة خالد العظم دعوة لتشكيل اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، وجاء في إعلان وزير الخارجية السورية مايلي: إن سورية العربية تعلن بأنه لم يعد هناك أية صعوبات على طريق الاتحاد مع العراق الشقيق، ونأمل أن يكون هذا الاتجاه مركز استقطاب للدول العربية الأخرى).
( أما التجربة الثالثة فتمثلت في الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958 كرد فعلٍ على الوحدة المصرية السورية، وانتهت بقيام ثورة العراق الأولى في تموز – يوليو من العام نفسه، ثم جاءت التجربة الرابعة لإقامة وحدة بني كل من مصر والعراق وسورية عام 1963، وظلت هذه المحاولة حبراً على ورق ولم تر النور، وجرت التجربة الخامسة بعد قيام الثورة الليبية في أيلول – سبتمبر 1969، وتبنيها من جديد دعوة الوحدة العربية وإنشاء اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 الذي ضم كلاً من مصر وسورية وليبيا ولكنه لم يدم طويلاً وتجمد ثم انتهى).
5ً- وأخيراً، مشروع الميثاق الوطني الذي تقدم به الإخوان المسلمون في سورية للعاملين في الحقل السياسي السوري، وتم إقراره ميثاقاً وطنياً في مؤتمر المعارضة السورية بلندن، فقد كانت الثوابت الثلاثة في المشروع، وأضحت جزءاً من المقدمة في الميثاق هي الانتماء الإسلامي هوية ومرجعية، والانتماء للمنظومات العربية، والاستفادة من تحارب الأمم.
وبصدد الثابت الثاني الذي يمثل فكر الإخوان المسلمين قال الميثاق:
( إن انتماء قطرنا إلى منظومته العربية يعتبر أساساً في بناء أي استراتيجية سياسية مستقبلية، ومن الضروري أن يعبر هذا الانتماء عن نفسه في تجسد واقعي فعال، يوثق الروابط ويؤكد العلائق، ويسير بالأمة في طريق التوحد ضمن سياسات منضبطة ومدروسة، ولا يجوز أن يبقى ممثلاُ في رؤى ذهنية أو في مشاعر وأحلام عاطفية.
ثم إن المواجهة بين العروبة والإسلام كانت عنوان مرحلة تاريخية تصرمت، ولقد نشأت تلك المواجهة عن عوامل من الانفعال وسوء الفهم، وحمى الإيديولوجيا التي سادت المناخ العام في فترات ما بعد الاستقلال..).
كما كانت الوحدة العربية هي الهدف الرابع من أهداف الأمة، والتي نص عليها الميثاق بما يلي:
( الهدف الرابع: السعي إلى تحقيق الوحدة العربية:
إن السعي لتحقيق الوحدة العربية على أسس متينة من الروابط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية واجب شرعي وضرورة قومية، وإلى أن تتوفر الشروط الموضوعية لهذه الوحدة لابد من العمل على إعادة التضامن العربي، وتجاوز كل الخلافات البينية، وفتح الحدود بين جميع الدول العربية، وإقامة سوق عربية مشتركة للارتقاء بالعلاقات العربية – العربية إلى مستوى التحديات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تواجه الأمة) ().
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة:
كثيراً ما تتراءى لنا أوضاعنا مشابهة للأوضاع المتردية للمسلمين يوم احتل الصليبيون القدس واحتلوا الكثير من الأرض الإسلامية، ولم يتمكن العرب المسلمون من الانتصار على خصومهم إلا من خلال الوحدة، فقد كانت الإمارات العربية في صراع مرير على السلطة تتحالف مع الصليبيين ضد بعضها بعضاً، وانطلق عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين من جعل الأولوية الكبرى لحرب الصليبيين، وأن هذه الحرب لن يتحقق فيها النصر ما لم تتوحد الأمة كلها لحربهم، ومضوا في عمليات التحرير والتوحيد حيث بلغت قمتها من توحد مصر وسورية واليمن والشام كلها، وباركت الخلافة الإسلامية في بغداد هذا التوحد، وكان الإسلام هو أساس هذه الوحدة، والجهاد في سبيل الله هو سبيلها لمواجهة جيوش الفرنجة المتجمعة من أوربا (ومات نور الدين سنة 569 هـ فاضطربت البلاد الشامية والجزيرة ودعي صلاح الدين لضبطها فأقبل على دمشق (مصر) سنة 570 هـ 117 م، فاستقبله بحفاوة وانصرف إلى ما وراءها فاستولى على بعلبك وحماة وحلب، ثم ترك حلب للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وانصرف إلى الإصلاح الداخلي في مصر والشام، كما اهتم بدفع غارات الصليبيين ومهاجمة حصونهم وقلاعهم في بلاد الشام.. ودانت لصلاح الدين البلاد من آخر حدود النوبة جنوباً وبرقة غرباً إلى بلاد الأرمن شمالً وبلاد الجزيرة والموصل شرقاً، وكان أعظم انتصار له على الفرنج في فلسطين والساحل الشامي يوم حطين سنة 583هـ، 1187 م الذي تلاه استرداد طبرية وعكا ويافا إلى ما بعد بيروت، ثم افتتاح بيت المقدس في نفس العام ووقائع أخرى على أبواب صور، فدفاع مجيد عن عكا).
( مناقبه: كان خليقاً بالإمارة، مهيباً شجاعاً، مجاهداً كثير الغزو، عالي الهمة، جواداً كريماً حسناً إلى أمرائه وغيرهم، وكان بسيطاً في ملبسه ومأكله وركبه، ومن عدله أنه لم يعاقب على المظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فأمنت البلاد مع سعتها، وقل المفسدون ببركة العدل واتباع الشريعة المظهرة، وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء وجميع الناس بلا تفرقة.
وفاته: بعد أن انتهى من المعاهدة بينه وبين ريتشارد قلب الأسد، قام بجولة في بلاد الشام التي كانت تحت سيطرته ليطمئن على أحوالها، وعلى مسيرة الإصلاحات، ثم عاد إلى دمشق، ومكث فيها أياماً طلباً للراحة وعازماً المسير بعد فترة إلى مصر ليستطلع أحوالها إلا أن المرض عاجله، وما لبث أن توفي في دمشق ودفن فيها).
فقد قامت الوحدة بين هذه الأقطار العربية على القوة ومفهوم الفتح الإسلامي والجهاد في سبيل الله (وافتتح بسيفه من اليمن إلى الموصل، ومن طرابلس الغرب إلى النوبة)، وكان الدين هو الذي يحركه في كل خطواته.
فـ (كان صلاح الدين فقيهاً درس الفقه الشافعي بالإضافية للحديث والعقيدة وروى الحديث أناس عنه وكان يحفظ القرآن، والتنبه في الفقه، والحماسة في الشعر، ومثله كان أمراؤه ووزراؤه، ومنهم وزيره الشهير ومستشاره القاضي الفاضل الذي قال صلاح الدين عنه فيما رواه السبكي (لم أفتح البلاد بسيفي وإنما برأي القاضي الفاضل) وكذلك كان الأمير ضياء الدين عيسى أكبر أمراء الجيش وكذلك الأمير بهاء الدين قراقوش عالماً فقيهاً إلا أنه كرس نفسه للخدمة الإدارية والعسكرية، فقد كان والي صلاح على عكا ثم على القاهرة فكان من أحكم القادة وأشجعهم).
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
عاشراً - الوحدة العربية اليوم:
وتطلعت الأمة كثيراً إلى تحرير فلسطين من اليهود بعد الوحدة بين سوريا ومصر عام ثمانية وخمسين وتسعمائة للألف بقيادة عبد الناصر، وخُيِّل للعرب أن التاريخ يعيد نفسه، فهذا صلاح الدين الجديد قد برز (عبد الناصر) وهذه سورية ومصر قد توحدت، ولم يعد إلا إعلان الحرب على اليهود.
لم يدم هذا الحلم أكثر من ثلاث سنوات حين انهارت الوحدة المصرية السورية، وخمس سنوات بعدها حيث قامت الحرب عام سبع وستين، وتوحدت الجيوش العربية في مصر والشام والأردن تحت إمرة المشير عبد الحكيم عامر وكانت أسوأ حرب في تاريخ الأمة في هذا القرن، حيث انتهت بتحرير كامل فلسطين من أيدي العرب والمسلمين، وأعلن دايان في القدس (هذه بخيبر) أنه قد ثأر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هزيمة اليهود في خيبر، وأمضينا إلى نهاية القرن نطالب بعودة ما فقدناه من أرض بعد حرب الأيام الستة، مباركين لليهود في دولتهم في ثلثي أرض فلسطين.
مائة عام ولا وحدة، ومن حقنا أن نقول: إن الوحدة لا يمكن أن تقوم إلا بالإسلام، انطلاقاً من تاريخ خمسة عشر قرناً من تاريخ هذه الأمة، ومن تجربة مائة عام من القرن العشرين انتهت بثلاث وعشرين دولة بدل دولة واحدة والقومية العربية هي أساس التحرير والوحدة، وقد وصلت القومية إلى ذروتها في عهد الرئيس عبد الناصر حيث لم تحظ بشخصية شعبية مثله أحبته جماهير الأمة العربية، وتطلعت الآمال إليه، وحكم ثمانية عشر عاماً في أكبر دولة عربية، ومع ذلك انهارت آمال التحرير والوحدة كلها قبل وفاته.
1- معوقات الوحدة العربية:
إن الواقع العربي اليوم يكاد يكون كله عوائق دون الوحدة، نذكر من أهم هذه العوائق:
1- نمو الإقليمية في كل قطر عرب، وتأسيس الحياة على التجزئة، فلكل دولة علمها ودستورها وحدودها، وقد تربى أبناء الوطن العربي الواحد على هذه الإقليمية، فكل مواطن عربي يفدي دولته بدمه، ويدافع عن حدودها بروحه، ويتلقى في مناهج التعليم منذ صغره فكرة الدفاع عن الحدود المرسومة في سايكس بيكو وتقديسها والاستعداد للموت في سبيلها والذود عن كل ذرة تراب فيها.
2- الواقع الدولي والأمم المتحدة الذي يمنع اعتداء أي دولة في منظمة الأمم المتحدة على دولة أخرى ومن حق العالم أن يمنع أي اتحاد بالقوة بين دولتين وهذا يعني أن الوحدة لن تتم إلا بالتراضي بين الدول العربية، وليس من السهل ذلك.
3- الاختلاف الفكري بين الأنظمة العربية والاختلاف السياسي، ولا يمكن أن تقوم الوحدة بين قطرين عربيين مختلفين في المنطلق الفكري أو الواقع السياسي بين ملكي أو جمهوري أو ديمقراطي وديكتاتوري.
4- الوحدة تعني لدى الأنظمة زوال الحاكم وتنازله عن السلطة لغيره، وليس من السهولة أن توجد روح الإيثار هذه عند الأنظمة، إلا بضغط جماهيري قادر على إسقاط النظام الإقليمي أو الانفصالي.
5- غياب الديمقراطية الحقيقية عن الأنظمة السياسية: ففي النظام الديمقراطي يحرص الحاكم على نيل رضا ناخبيه، بينما تقوم الأنظمة القمعية على استباحة الكبت والظلم والاضطهاد والتضحية بالشعب من أجل النظام الحاكم.
6- ضعف الوازع الإسلامي عند السلطة والشعب، فالإسلام حين تنطلق الأنظمة منه يفرض على الحاكمين العرب أن يتوحدوا ولا يتفرقوا، وتقرض الخليفة الواحد للأمة كلها أو الرئيس الواحد.
2- الطريق إلى الوحدة العربية اليوم:
لعل الواقع الأوربي اليوم يصلح نموذجاً لمسيرة الوحدة العربية:
1- فالوحدة الثقافية هي الطريق الأول للوحدة، حيث تتوحد المناهج التربوية والكتب المدرسية والثقافية ومنظومة القيم المنطلقة من الإسلام والتاريخ العربي، والآلام والآمال المشتركة للشعب العربي كله كفيلة أن تذيب الفوارق الجزئية القائمة بين الدول، وجدية العاملين في هذا الإطار تساعد على ذلك.
2- والوحدة الاقتصادية هي الطرق الثاني للوحدة، حيث يتكامل الاقتصاد العربي في سوق عربية مشتركة وتُعطى الأولوية في التعامل الاقتصادي للدول العربية.
3- وقيام الاتحادات والكتل الاقتصادية والسياسية ابتداءً سوف يقود إلى الاتحاد أو الوحدة الشاملة، فكتلة الخليج مثل كتلة المغرب العربي، مثل كتلة الشام أو الهلال الخصيب التي تعتبر نويات للوحدة العربية حين تتكامل كل كتلة ثقافية واقتصادياً وتذلل الصعوبات العامة، والصعوبات بين دول هذه الكتل.
4- الانطلاق من الإسلام الذي يحتل في الوطن العربي أكثرية ساحقة، تجتمع عليه كل الجماهير العربية، ويسهل حين التنازع العودة إليه لتكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع.
5- اعتبار الاتحاد الفيدرالي هو الأنسب لواقع الأمة المتخلف اليوم، فيمكن من خلال الاتحاد المحافظة على الكيانات القطرية نسبياً من حيث وجود مجلس تشريعي وحكومة محلية في كل قطر تعالج كل الشؤون القطرية أو الإقليمية المحلية، ويبقى الاتحاد يمارس السياسات الكبرى في الدولة كالخارجية والاقتصاد والإعلام والتربية.
6- الأكثرية العربية الإسلامية في الوطن العربي تتعامل مع اللغة العربية لغة القرآن بصفتها لغة وحدة الأمة ولغة حضارتها، وإزالة الصراع بين العروبة والإسلام، واعتبارهما متكاملان لا متناقضان مهمة كبيرة لتذليل طريق الوحدة، فالصراع بين هذين التيارين، أعاق نهضة الأمة ووزعها مزقاً شتى، وكرَّس هذا الصراع التجزئة ل،هما التياران الرئيسيان في الأمة العربية.
3- بيننا وبين دعاة القومية:
إذا كانت الوحدة العربية ظئر الإسلام فنحن أولى بها من دعاة القومية العربية، إن التجزئة التي وقعت في الوطن العربي هي التي أعطت المبرر بالتخلي عن الإسلام؛ فسورية مثلاً عندما تكون جزءاً من الوطن العربي فالإسلام ضرورة لها لأنه يمثل أكثر من ثمانين بالمائة من عقيدة المسلمين في وطن عربي موحد، لكن في سورية وحدها نجد من يواجه سيادة الإسلام وحكمه (النصارى والدروز والنصيريين والاسماعيليين والبعثيين والعلمانيين والشيوعيين)، فتكون الأكثرية الإسلامية ضعيفة فيها، وهذا ما حدا بدعاة الإسلام في عهد الانتداب أن ينطلقوا من الشعب السور الواحد حفاظاً على وحدة سورية التي حرص الاستعمار أن يقسمها إلى خمس دويلات طائفية وإقليمية.
إن وجود التجزئة والإقليمية في الوطن العربي هي التي تبرر التخلي عن الإسلام في هذه الدويلات.
ونحن إذ بصفتنا دعاة للإسلام أحرص بكثير على الوحدة العربية، فهي وحدة إسلامية إضافة لكونها وحدة عربية، وبالمنطق الموضوعي، فأعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي أربع وأربعون دولة، فإذا اتحد اثنان وعشرون دولة منها في دولة عربية واحدة، فإن هذا يعني أن نصف الوحدة الإسلامية قد تحقق لأن هذه الدول الاثني والعشرين أو الأحد والعشرين هي أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، نعم قد يكون العرب ربع المسلمين أو خمسهم أو أقل، لكنهم هم العنصر الأساسي والرئيسي في هذه الوحدة، ولن يتوحد المسلمون بدونهم، فهم أهل هذا الدين، وهم رعاته وهم حملته، بلغتهم نزل، وبسواعدهم انتشر، وبعقلهم وبفقههم نضج وحكم، والعلمانيون هم الذين أشعلوا الحرب ضد الإسلام، فأزالوهم حتى عن موقع الوحدة العربية التي هي من ثمرة هذا الدين ومن نتاجه، ولو قامت دولة الوحدة العربية بعيداً عن سيطرة الأقليات القومية والأقليات الدينية لكانت الدولة النموذج للإسلام في الأرض، كما كانت فيما مضى ولتغير وجه التاريخ الحديث كله.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا:
ثم إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون المسلمين، وقد جاء في الأثر:
إذا ذل العرب ذل الإسلام، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه.
وأحب أن أنبه هنا إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (( ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان))، ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية).
ولا شك أن اقتراب دعاة القومية من الإسلام، يضيق الهوة ويلغيها بين الفريقين: بحيث تصبح القومية العربية جسد هذه الأمة والإسلام روحها، وعندئذ تصبح الوحدة العربية أقرب منالاً وأكثر واقعية من بقائها هدفاً يرفرف في الأماني والأحلام.
الحادي عشر- ملخص البحث:
ونخلص في نهاية البحث إلى النتائج التالية:
1- العرب ابتداءً هم نسل عدنان وقحطان، وقد توزعوا في بلاد العرب بعد مغادرة موطنهم الرئيسي الجزيرة العربية في هجرات متعددة بلا رسالة يحملونها.
2- قام للعرب دول عريقة في التاريخ في اليمن خاصة، وفي أطراف الجزيرة العربية، كالمناذرة والغساسنة، بينما بقي العرب في قلب الجزيرة قبائل شتى، متفرقة متناحرة، وكان البيت العتيق في مكة موضع تقديس العرب جميعاً بلا منازع.
3- أول معركة انتصف فيها العرب من العجم قبل الإسلام – كما في اللفظ النبوي – هي معركة ذي قار وكانت كلمة السر عند العرب محمداً، فباسمه نصروا على الفرس.
4- أشرق نور الإسلام وقامت أول وحدة عربية في التاريخ ضمت الجزيرة العربية كاملة في اليمن ونجد والحجاز وعسير، وكان ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون لقائدهم الأعظم في المدينة.
5- قامت أول حروب التحرير والوحدة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمكن إنهاء الردة عن الإسلام، وإنهاء القبلية والعبودية للطواغيت، وإعادة توحيد الجزيرة العربية ولخالد بن الوليد رضي الله عنه البطل الميداني القدح المعلى في ذلك، وللصديق خليفة المسلمين ورمزهم دور لقيادة في ذلك.
6- انطلق العرب المسلمون في عامهم الثاني من خلافة الصديق في تحرير الأرض العربية في الشام وفي العراق من التجزئة، وانتزاعها من سيطرة الفرس والرومان باسم الشعار الذي أعلنه ربعي بن عامر: الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
7- تابع الفتح الإسلامي أيام الخليفة الثاني امتداده إلى أفريقية وعرَّبها وضمها للدولة الإسلامية، وقامت لأول مرة في التاريخ وحدة عربية تتجاوز المحيط والخليج لتنال ثلثي المعمور آنذاك.
8- وعلى امتداد ألف عام بقيت وحدة العرب قائمة، بقيام خلافة الإسلام وانتهت بانتهائها.
9- فالوحدة العربية نبت إسلامي أصيل نشأ في روضة الإسلام ونما وترعرع واشتد سوقه في ظل الإسلام، وقُتل بقتله.
10- انطلقت فكرة الوحدة العربية في هذا القرن من فكرة القومية الحديثة، وأمضت قرناً كاملاً لم تتمكن من التحقيق، وبعد قرن كانت دول العرب اثنين وعشرين دولة بدل دولة واحدة.
11- وحدة مصر وسورية كانت النموذج اليتيم للوحدة خلال هذا القرن ولن تستمر أكثر من ثلاث سنوات ونيف، وكذلك الوحدة بين شطري اليمن.
12- قامت محاولات اتحادات عربية كردود فعل، وتكتلات مؤقتة لم يُكتب لها الحياة كذلك.
13- تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث الاشتراكي من الدولة الواحدة إلى وحدة الأنظمة الاشتراكية والطليعة العربية.
14- كانت الحركة الإسلامية – الإخوان المسلمون – من أكبر دعاة الوحدة العربية بصفتها مرحلة على طريق الوحدة الإسلامية، كما برز ذلك من كلام الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله.
15- الإخوان المسلمون السوريون كانوا في مواقفهم الأصيلة المبدئية من أكبر دعاة الوحدة العربية كذلك.
16- معوقات الوحدة العربية في هذا العصر كثيرة من أهمها تجذر القطرية والإقليمية، والاختلافات الأيديولوجية بين الأنظمة، وحب التمسك بالسلطة، وغياب الديمقراطية الحقيقية، وضعف الوازع الإسلامي.
17- الطريق إلى الوحدة العربية لا بد أن يأخذ جانب التدرج والانطلاق من الواقع، لا الانطلاق من العواطف والأحلام الهائمة، والاندفاعات الشعورية الحادة.
18- لم تقم الوحدة العربية في التاريخ إلا من خلال الإسلام، وفي أقل من ثلث قرن، وقامت محاولات قرن كامل لإقامتها بعيداً عن الإسلام، وفشلت المحاولات.
19- لن تقوم الوحدة العربية المعاصرة بغير الإسلام لأنه (مهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
20- اقتراب دعاة القومية ودعاة الإسلام له دور حاسم في دفع تيار الوحدة العربية إلى الأمام وتحويلها إلى واقع ملموس حي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وتطلعت الأمة كثيراً إلى تحرير فلسطين من اليهود بعد الوحدة بين سوريا ومصر عام ثمانية وخمسين وتسعمائة للألف بقيادة عبد الناصر، وخُيِّل للعرب أن التاريخ يعيد نفسه، فهذا صلاح الدين الجديد قد برز (عبد الناصر) وهذه سورية ومصر قد توحدت، ولم يعد إلا إعلان الحرب على اليهود.
لم يدم هذا الحلم أكثر من ثلاث سنوات حين انهارت الوحدة المصرية السورية، وخمس سنوات بعدها حيث قامت الحرب عام سبع وستين، وتوحدت الجيوش العربية في مصر والشام والأردن تحت إمرة المشير عبد الحكيم عامر وكانت أسوأ حرب في تاريخ الأمة في هذا القرن، حيث انتهت بتحرير كامل فلسطين من أيدي العرب والمسلمين، وأعلن دايان في القدس (هذه بخيبر) أنه قد ثأر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هزيمة اليهود في خيبر، وأمضينا إلى نهاية القرن نطالب بعودة ما فقدناه من أرض بعد حرب الأيام الستة، مباركين لليهود في دولتهم في ثلثي أرض فلسطين.
مائة عام ولا وحدة، ومن حقنا أن نقول: إن الوحدة لا يمكن أن تقوم إلا بالإسلام، انطلاقاً من تاريخ خمسة عشر قرناً من تاريخ هذه الأمة، ومن تجربة مائة عام من القرن العشرين انتهت بثلاث وعشرين دولة بدل دولة واحدة والقومية العربية هي أساس التحرير والوحدة، وقد وصلت القومية إلى ذروتها في عهد الرئيس عبد الناصر حيث لم تحظ بشخصية شعبية مثله أحبته جماهير الأمة العربية، وتطلعت الآمال إليه، وحكم ثمانية عشر عاماً في أكبر دولة عربية، ومع ذلك انهارت آمال التحرير والوحدة كلها قبل وفاته.
1- معوقات الوحدة العربية:
إن الواقع العربي اليوم يكاد يكون كله عوائق دون الوحدة، نذكر من أهم هذه العوائق:
1- نمو الإقليمية في كل قطر عرب، وتأسيس الحياة على التجزئة، فلكل دولة علمها ودستورها وحدودها، وقد تربى أبناء الوطن العربي الواحد على هذه الإقليمية، فكل مواطن عربي يفدي دولته بدمه، ويدافع عن حدودها بروحه، ويتلقى في مناهج التعليم منذ صغره فكرة الدفاع عن الحدود المرسومة في سايكس بيكو وتقديسها والاستعداد للموت في سبيلها والذود عن كل ذرة تراب فيها.
2- الواقع الدولي والأمم المتحدة الذي يمنع اعتداء أي دولة في منظمة الأمم المتحدة على دولة أخرى ومن حق العالم أن يمنع أي اتحاد بالقوة بين دولتين وهذا يعني أن الوحدة لن تتم إلا بالتراضي بين الدول العربية، وليس من السهل ذلك.
3- الاختلاف الفكري بين الأنظمة العربية والاختلاف السياسي، ولا يمكن أن تقوم الوحدة بين قطرين عربيين مختلفين في المنطلق الفكري أو الواقع السياسي بين ملكي أو جمهوري أو ديمقراطي وديكتاتوري.
4- الوحدة تعني لدى الأنظمة زوال الحاكم وتنازله عن السلطة لغيره، وليس من السهولة أن توجد روح الإيثار هذه عند الأنظمة، إلا بضغط جماهيري قادر على إسقاط النظام الإقليمي أو الانفصالي.
5- غياب الديمقراطية الحقيقية عن الأنظمة السياسية: ففي النظام الديمقراطي يحرص الحاكم على نيل رضا ناخبيه، بينما تقوم الأنظمة القمعية على استباحة الكبت والظلم والاضطهاد والتضحية بالشعب من أجل النظام الحاكم.
6- ضعف الوازع الإسلامي عند السلطة والشعب، فالإسلام حين تنطلق الأنظمة منه يفرض على الحاكمين العرب أن يتوحدوا ولا يتفرقوا، وتقرض الخليفة الواحد للأمة كلها أو الرئيس الواحد.
2- الطريق إلى الوحدة العربية اليوم:
لعل الواقع الأوربي اليوم يصلح نموذجاً لمسيرة الوحدة العربية:
1- فالوحدة الثقافية هي الطريق الأول للوحدة، حيث تتوحد المناهج التربوية والكتب المدرسية والثقافية ومنظومة القيم المنطلقة من الإسلام والتاريخ العربي، والآلام والآمال المشتركة للشعب العربي كله كفيلة أن تذيب الفوارق الجزئية القائمة بين الدول، وجدية العاملين في هذا الإطار تساعد على ذلك.
2- والوحدة الاقتصادية هي الطرق الثاني للوحدة، حيث يتكامل الاقتصاد العربي في سوق عربية مشتركة وتُعطى الأولوية في التعامل الاقتصادي للدول العربية.
3- وقيام الاتحادات والكتل الاقتصادية والسياسية ابتداءً سوف يقود إلى الاتحاد أو الوحدة الشاملة، فكتلة الخليج مثل كتلة المغرب العربي، مثل كتلة الشام أو الهلال الخصيب التي تعتبر نويات للوحدة العربية حين تتكامل كل كتلة ثقافية واقتصادياً وتذلل الصعوبات العامة، والصعوبات بين دول هذه الكتل.
4- الانطلاق من الإسلام الذي يحتل في الوطن العربي أكثرية ساحقة، تجتمع عليه كل الجماهير العربية، ويسهل حين التنازع العودة إليه لتكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع.
5- اعتبار الاتحاد الفيدرالي هو الأنسب لواقع الأمة المتخلف اليوم، فيمكن من خلال الاتحاد المحافظة على الكيانات القطرية نسبياً من حيث وجود مجلس تشريعي وحكومة محلية في كل قطر تعالج كل الشؤون القطرية أو الإقليمية المحلية، ويبقى الاتحاد يمارس السياسات الكبرى في الدولة كالخارجية والاقتصاد والإعلام والتربية.
6- الأكثرية العربية الإسلامية في الوطن العربي تتعامل مع اللغة العربية لغة القرآن بصفتها لغة وحدة الأمة ولغة حضارتها، وإزالة الصراع بين العروبة والإسلام، واعتبارهما متكاملان لا متناقضان مهمة كبيرة لتذليل طريق الوحدة، فالصراع بين هذين التيارين، أعاق نهضة الأمة ووزعها مزقاً شتى، وكرَّس هذا الصراع التجزئة ل،هما التياران الرئيسيان في الأمة العربية.
3- بيننا وبين دعاة القومية:
إذا كانت الوحدة العربية ظئر الإسلام فنحن أولى بها من دعاة القومية العربية، إن التجزئة التي وقعت في الوطن العربي هي التي أعطت المبرر بالتخلي عن الإسلام؛ فسورية مثلاً عندما تكون جزءاً من الوطن العربي فالإسلام ضرورة لها لأنه يمثل أكثر من ثمانين بالمائة من عقيدة المسلمين في وطن عربي موحد، لكن في سورية وحدها نجد من يواجه سيادة الإسلام وحكمه (النصارى والدروز والنصيريين والاسماعيليين والبعثيين والعلمانيين والشيوعيين)، فتكون الأكثرية الإسلامية ضعيفة فيها، وهذا ما حدا بدعاة الإسلام في عهد الانتداب أن ينطلقوا من الشعب السور الواحد حفاظاً على وحدة سورية التي حرص الاستعمار أن يقسمها إلى خمس دويلات طائفية وإقليمية.
إن وجود التجزئة والإقليمية في الوطن العربي هي التي تبرر التخلي عن الإسلام في هذه الدويلات.
ونحن إذ بصفتنا دعاة للإسلام أحرص بكثير على الوحدة العربية، فهي وحدة إسلامية إضافة لكونها وحدة عربية، وبالمنطق الموضوعي، فأعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي أربع وأربعون دولة، فإذا اتحد اثنان وعشرون دولة منها في دولة عربية واحدة، فإن هذا يعني أن نصف الوحدة الإسلامية قد تحقق لأن هذه الدول الاثني والعشرين أو الأحد والعشرين هي أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، نعم قد يكون العرب ربع المسلمين أو خمسهم أو أقل، لكنهم هم العنصر الأساسي والرئيسي في هذه الوحدة، ولن يتوحد المسلمون بدونهم، فهم أهل هذا الدين، وهم رعاته وهم حملته، بلغتهم نزل، وبسواعدهم انتشر، وبعقلهم وبفقههم نضج وحكم، والعلمانيون هم الذين أشعلوا الحرب ضد الإسلام، فأزالوهم حتى عن موقع الوحدة العربية التي هي من ثمرة هذا الدين ومن نتاجه، ولو قامت دولة الوحدة العربية بعيداً عن سيطرة الأقليات القومية والأقليات الدينية لكانت الدولة النموذج للإسلام في الأرض، كما كانت فيما مضى ولتغير وجه التاريخ الحديث كله.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا:
ثم إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون المسلمين، وقد جاء في الأثر:
إذا ذل العرب ذل الإسلام، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه.
وأحب أن أنبه هنا إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (( ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان))، ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية).
ولا شك أن اقتراب دعاة القومية من الإسلام، يضيق الهوة ويلغيها بين الفريقين: بحيث تصبح القومية العربية جسد هذه الأمة والإسلام روحها، وعندئذ تصبح الوحدة العربية أقرب منالاً وأكثر واقعية من بقائها هدفاً يرفرف في الأماني والأحلام.
الحادي عشر- ملخص البحث:
ونخلص في نهاية البحث إلى النتائج التالية:
1- العرب ابتداءً هم نسل عدنان وقحطان، وقد توزعوا في بلاد العرب بعد مغادرة موطنهم الرئيسي الجزيرة العربية في هجرات متعددة بلا رسالة يحملونها.
2- قام للعرب دول عريقة في التاريخ في اليمن خاصة، وفي أطراف الجزيرة العربية، كالمناذرة والغساسنة، بينما بقي العرب في قلب الجزيرة قبائل شتى، متفرقة متناحرة، وكان البيت العتيق في مكة موضع تقديس العرب جميعاً بلا منازع.
3- أول معركة انتصف فيها العرب من العجم قبل الإسلام – كما في اللفظ النبوي – هي معركة ذي قار وكانت كلمة السر عند العرب محمداً، فباسمه نصروا على الفرس.
4- أشرق نور الإسلام وقامت أول وحدة عربية في التاريخ ضمت الجزيرة العربية كاملة في اليمن ونجد والحجاز وعسير، وكان ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون لقائدهم الأعظم في المدينة.
5- قامت أول حروب التحرير والوحدة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمكن إنهاء الردة عن الإسلام، وإنهاء القبلية والعبودية للطواغيت، وإعادة توحيد الجزيرة العربية ولخالد بن الوليد رضي الله عنه البطل الميداني القدح المعلى في ذلك، وللصديق خليفة المسلمين ورمزهم دور لقيادة في ذلك.
6- انطلق العرب المسلمون في عامهم الثاني من خلافة الصديق في تحرير الأرض العربية في الشام وفي العراق من التجزئة، وانتزاعها من سيطرة الفرس والرومان باسم الشعار الذي أعلنه ربعي بن عامر: الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
7- تابع الفتح الإسلامي أيام الخليفة الثاني امتداده إلى أفريقية وعرَّبها وضمها للدولة الإسلامية، وقامت لأول مرة في التاريخ وحدة عربية تتجاوز المحيط والخليج لتنال ثلثي المعمور آنذاك.
8- وعلى امتداد ألف عام بقيت وحدة العرب قائمة، بقيام خلافة الإسلام وانتهت بانتهائها.
9- فالوحدة العربية نبت إسلامي أصيل نشأ في روضة الإسلام ونما وترعرع واشتد سوقه في ظل الإسلام، وقُتل بقتله.
10- انطلقت فكرة الوحدة العربية في هذا القرن من فكرة القومية الحديثة، وأمضت قرناً كاملاً لم تتمكن من التحقيق، وبعد قرن كانت دول العرب اثنين وعشرين دولة بدل دولة واحدة.
11- وحدة مصر وسورية كانت النموذج اليتيم للوحدة خلال هذا القرن ولن تستمر أكثر من ثلاث سنوات ونيف، وكذلك الوحدة بين شطري اليمن.
12- قامت محاولات اتحادات عربية كردود فعل، وتكتلات مؤقتة لم يُكتب لها الحياة كذلك.
13- تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث الاشتراكي من الدولة الواحدة إلى وحدة الأنظمة الاشتراكية والطليعة العربية.
14- كانت الحركة الإسلامية – الإخوان المسلمون – من أكبر دعاة الوحدة العربية بصفتها مرحلة على طريق الوحدة الإسلامية، كما برز ذلك من كلام الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله.
15- الإخوان المسلمون السوريون كانوا في مواقفهم الأصيلة المبدئية من أكبر دعاة الوحدة العربية كذلك.
16- معوقات الوحدة العربية في هذا العصر كثيرة من أهمها تجذر القطرية والإقليمية، والاختلافات الأيديولوجية بين الأنظمة، وحب التمسك بالسلطة، وغياب الديمقراطية الحقيقية، وضعف الوازع الإسلامي.
17- الطريق إلى الوحدة العربية لا بد أن يأخذ جانب التدرج والانطلاق من الواقع، لا الانطلاق من العواطف والأحلام الهائمة، والاندفاعات الشعورية الحادة.
18- لم تقم الوحدة العربية في التاريخ إلا من خلال الإسلام، وفي أقل من ثلث قرن، وقامت محاولات قرن كامل لإقامتها بعيداً عن الإسلام، وفشلت المحاولات.
19- لن تقوم الوحدة العربية المعاصرة بغير الإسلام لأنه (مهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
20- اقتراب دعاة القومية ودعاة الإسلام له دور حاسم في دفع تيار الوحدة العربية إلى الأمام وتحويلها إلى واقع ملموس حي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
المبحث الثاني
الحـريــة
مخطط البحث
1- الحرية لغة واصطلاحاً.
2- الحرية في خلق الإنسان الأول.
3- المفاهيم المختلفة للحرية:
آ - في النظرة الغربية.
ب - في النظرة الشيوعية.
جـ- في النظرة الإسلامية.
4-أنواع الحريات:
أولاً- الحرية الفردية:
آ- حرية العقيدة:
1ً- اعتناق العقيدة.
2ً- الردة عنها.
3ً- حد الردة.
ب- حرية العبادة:
1ً- العبادة في الملأ.
2ً- الجهاد في الإسلام لحرية العبادة.
جـ- حرية الدعوة:
1ً- بين المؤمنين بالفكرة.
2ً- بين خصومها.
3ً- في المسجد النبوي.
د- الحرية الإنسانية:
1ً- الحرية من الرق.
2ً- الحرية من الاستعمار.
3ً- الحرية من الاستعباد.
هـ- الحرية القضائية:
1ً- لا عقوبة إلا بنص.
2ً- المتهم بريء حتى يدان.
3ً- حق المتهم في الدفاع عن نفسه.
4ً- المعاملة الإنسانية.
5ً- منع الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي.
و- الحرية السياسية:
1ً- حريته في الانتماء الحزبي.
2ً- حريته في اختيار الحاكم.
3ً- حريته في نقد الحاكم.
4ً- حريته في الاجتماع العام وإبداء الرأي.
ز- الحرية الاقتصادية:
1ً- حرية التملك.
2ً- حرية التصرف.
3ً- حرية اختيار العمل والمهنة التي يريد.
4ً- حريته في الانضمام إلى النقابات أو تشكيلها.
ح- الحرية الوطنية:
1ً- حرية الانتماء إلى الوطن.
2ً- حرية التجنس.
3ً- حرية السفر والإقامة.
ط- الحرية الاجتماعية:
1ً- حرية الزواج.
2ً- حرية الإنجاب.
3ً- حرية العلاقات الأسرية.
4ً- حرية حياته الخاصة في أسرته وأسراره.
5ً- حرية النشاطات الاجتماعية.
ي- الحرية الثقافية:
1ً- حرية التأليف.
2ً- حرية النشر.
3ً- حرية التعلم.
4ً- حرية النوادي الأدبية والفنية.
ثانياً – حرية الشعوب والمجتمعات:
آ - حرية تعزيز المصير.
ب - حرية التصرف بثرواتها الطبيعية.
جـ- حرية تكوين الأحزاب.
د - حرية تكوين النقابات.
هـ- حرية اختيار نظام الحكم.
و- حرية اختيار العقيدة أو المذهب.
ثالثاً - حرية الدولة:
آ- حرية وضع الدستور.
ب-حرية إصدار القوانين.
جـ- حرية تراب الوطن وعدم الاعتداء عليه.
د- حرية الانضمام لدولة أخرى أو الانفصال عنها.
هـ- حرية تكوين اتحادات سياسية واقتصادية.
و- حرية الانضمام للتكتلات والتحالفات الدولية.
ز- حرية دخولها الهيئات العالمية.
ح- بين الحرية الفردية وحريات الآخرين.
5- الفرق الكبير بين الحرية والتحرير:
آ - طبيعة المعركة.
ب- الحرب على الظالمين.
جـ- فجر جديد للبشرية.
د - تحرير الجزيرة العربية.
هـ- مبادئ حروب التحرير الإسلامية.
و- العهد الذهبي للحرية (نماذج).
ز- الانتقال من الخلافة إلى الملك.
6- مفاهيم إسلامية عن الحرية:
آ - الافتراق بين الكتاب والسلطان.
ب - من هم الظالمون؟
جـ- ثورة المستضعفين.
د - ثورات التحرير الإسلامية المعاصرة.
7- كيف نحقق الحرية؟
آ - واقع الحرية في عالمنا الإسلامي المعاصر.
ب - الحرية تربية.
جـ- الحرية مجاهدة.
د - الصيغ العملية لتطبيق الحرية.
هـ- ضمانات التنفيذ وميثاق شرف.
8- ملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحرية
أولا- الحرية لغة واصطلاحاً:
الحرية كلمة لها بريق عالمي وإنساني جذاب، طالما تغنى بها الشعراء وأُريقت من أجلها الدماء وأُلفت حولها الكتب والمجلدات، ومع هذا كله فمن الصعب وضع تعريف محدد لها.
أما المعنى اللفظي لها، فلعله أقرب ما يكون لمضامينها.
( فالحر: بالضم خلاف العبد، وخيار كل شيء...) .
والحرية: الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم، وكون الشعب أو الرجل حراً) .
وفي هذا القرن أصبحت كلمة الحرية تملأ الأفق بصفتها شعاراً مرافقاً للأهداف الإنسانية أو أصل هذه الأهداف، فقد كان شعار الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر (حرية، عدالة، مساواة) وشعار الأحزاب القومية المعاصرة (الوحدة، والحرية، والاشتراكية) وشعار (الإخوان المسلمين) كبرى الحركات الإسلامية في هذا القرن: (الحق والقوة والحرية) وفي هذا المسار نجد كلمة الحرية تنطلق من معنيين كبيرين.
المعنى الأول: وهو الذي ساد الشعوب المغلوبة في هذا القرن، وهي التحرر من الاستعمار، وهو الأمل الذي كان يرفرف على قلوب شعوب العالم الثالث في القرن العشرين.
المعنى الثاني: الحرية السياسية، وهي التي سادت العالم الحر المعاصر أو الدول الديمقراطية الغربية، حيث توسع مداها بحيث يشمل كل إنسان في هذه المجتمعات، ولا تزال التشريعات مستمرة في توسيع وتحقيق مضمون الحرية للوصول إلى المعنى الأساسي اللفظي، خير كل شيء.
ثانيا- الحرية وخلق الإنسان الأول:
إن العودة إلى خلق الإنسان الأول يعطينا صورة كاملة عن مفهوم الحرية للإنسان، {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} .
فإرادة الله اتجهت إلى خلق مخلوق غير الملائكة، عنده قدر من العلم يستطيع أن يخلف الأرض ويعمرها، فهو صاحب مسؤولية، وهذا هو المعلم الأول، هذا المعلم هو.
والمعلم الثاني: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} فقد أعطاه الحرية بقيد واحد فقط هو عدم الأكل من الشجرة وهي تجربة على ممارسة الحرية، فهو مخلوق مسؤول مختار، حر بقيد، فلا حرية في الكون بلا قيود.
أما المعلم الثالث: فهو تحمل المسؤولية، {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} .
فقد أكل من الشجرة، وتلقى عقوبة المخالفة وأهبط إلى الأرض.
فالقيد الذي وضع على حريته لا يعني أنه لا يستطيع أن يمارس حريته، إنما يمارسها ويتحمل مسؤولية المخالفة، فهو قادر على الطاعة وقادر على المعصية، لكن عليه أن يستعد لتحمل مسؤولية هذه المخالفة في الدنيا والآخرة، فما من مخالفة منهج الله إلا وظلم معه يحيق بالنفس والآخرين {فتكونا من الظالمين} الشيء الوحيد الذي فرض على الإنسان دون إرادته ومشيئته هو خلقه بهذه الصيغة وبهذه الصورة، فهذه إرادة ربانية لا ندري كنهها وسرها إلا بما علَّمنا الله عنها جل شأنه.
أما بعد الخلق فالمسؤولية والأمانة تمت على اختيار وقناعة ولم تفرض فرضاً من رب العالمين {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا} . فنحن أمام عرض رباني وقبول بشري، ولقد كان هذا ابتداءً لكل مخلوق في هذا الوجود عندما كان في عالمه الأرواح.
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون} .
فلم يكن العرض {أنا ربكم فآمنوا بي}، إنما كان: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى}.
الحـريــة
مخطط البحث
1- الحرية لغة واصطلاحاً.
2- الحرية في خلق الإنسان الأول.
3- المفاهيم المختلفة للحرية:
آ - في النظرة الغربية.
ب - في النظرة الشيوعية.
جـ- في النظرة الإسلامية.
4-أنواع الحريات:
أولاً- الحرية الفردية:
آ- حرية العقيدة:
1ً- اعتناق العقيدة.
2ً- الردة عنها.
3ً- حد الردة.
ب- حرية العبادة:
1ً- العبادة في الملأ.
2ً- الجهاد في الإسلام لحرية العبادة.
جـ- حرية الدعوة:
1ً- بين المؤمنين بالفكرة.
2ً- بين خصومها.
3ً- في المسجد النبوي.
د- الحرية الإنسانية:
1ً- الحرية من الرق.
2ً- الحرية من الاستعمار.
3ً- الحرية من الاستعباد.
هـ- الحرية القضائية:
1ً- لا عقوبة إلا بنص.
2ً- المتهم بريء حتى يدان.
3ً- حق المتهم في الدفاع عن نفسه.
4ً- المعاملة الإنسانية.
5ً- منع الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي.
و- الحرية السياسية:
1ً- حريته في الانتماء الحزبي.
2ً- حريته في اختيار الحاكم.
3ً- حريته في نقد الحاكم.
4ً- حريته في الاجتماع العام وإبداء الرأي.
ز- الحرية الاقتصادية:
1ً- حرية التملك.
2ً- حرية التصرف.
3ً- حرية اختيار العمل والمهنة التي يريد.
4ً- حريته في الانضمام إلى النقابات أو تشكيلها.
ح- الحرية الوطنية:
1ً- حرية الانتماء إلى الوطن.
2ً- حرية التجنس.
3ً- حرية السفر والإقامة.
ط- الحرية الاجتماعية:
1ً- حرية الزواج.
2ً- حرية الإنجاب.
3ً- حرية العلاقات الأسرية.
4ً- حرية حياته الخاصة في أسرته وأسراره.
5ً- حرية النشاطات الاجتماعية.
ي- الحرية الثقافية:
1ً- حرية التأليف.
2ً- حرية النشر.
3ً- حرية التعلم.
4ً- حرية النوادي الأدبية والفنية.
ثانياً – حرية الشعوب والمجتمعات:
آ - حرية تعزيز المصير.
ب - حرية التصرف بثرواتها الطبيعية.
جـ- حرية تكوين الأحزاب.
د - حرية تكوين النقابات.
هـ- حرية اختيار نظام الحكم.
و- حرية اختيار العقيدة أو المذهب.
ثالثاً - حرية الدولة:
آ- حرية وضع الدستور.
ب-حرية إصدار القوانين.
جـ- حرية تراب الوطن وعدم الاعتداء عليه.
د- حرية الانضمام لدولة أخرى أو الانفصال عنها.
هـ- حرية تكوين اتحادات سياسية واقتصادية.
و- حرية الانضمام للتكتلات والتحالفات الدولية.
ز- حرية دخولها الهيئات العالمية.
ح- بين الحرية الفردية وحريات الآخرين.
5- الفرق الكبير بين الحرية والتحرير:
آ - طبيعة المعركة.
ب- الحرب على الظالمين.
جـ- فجر جديد للبشرية.
د - تحرير الجزيرة العربية.
هـ- مبادئ حروب التحرير الإسلامية.
و- العهد الذهبي للحرية (نماذج).
ز- الانتقال من الخلافة إلى الملك.
6- مفاهيم إسلامية عن الحرية:
آ - الافتراق بين الكتاب والسلطان.
ب - من هم الظالمون؟
جـ- ثورة المستضعفين.
د - ثورات التحرير الإسلامية المعاصرة.
7- كيف نحقق الحرية؟
آ - واقع الحرية في عالمنا الإسلامي المعاصر.
ب - الحرية تربية.
جـ- الحرية مجاهدة.
د - الصيغ العملية لتطبيق الحرية.
هـ- ضمانات التنفيذ وميثاق شرف.
8- ملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحرية
أولا- الحرية لغة واصطلاحاً:
الحرية كلمة لها بريق عالمي وإنساني جذاب، طالما تغنى بها الشعراء وأُريقت من أجلها الدماء وأُلفت حولها الكتب والمجلدات، ومع هذا كله فمن الصعب وضع تعريف محدد لها.
أما المعنى اللفظي لها، فلعله أقرب ما يكون لمضامينها.
( فالحر: بالضم خلاف العبد، وخيار كل شيء...) .
والحرية: الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم، وكون الشعب أو الرجل حراً) .
وفي هذا القرن أصبحت كلمة الحرية تملأ الأفق بصفتها شعاراً مرافقاً للأهداف الإنسانية أو أصل هذه الأهداف، فقد كان شعار الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر (حرية، عدالة، مساواة) وشعار الأحزاب القومية المعاصرة (الوحدة، والحرية، والاشتراكية) وشعار (الإخوان المسلمين) كبرى الحركات الإسلامية في هذا القرن: (الحق والقوة والحرية) وفي هذا المسار نجد كلمة الحرية تنطلق من معنيين كبيرين.
المعنى الأول: وهو الذي ساد الشعوب المغلوبة في هذا القرن، وهي التحرر من الاستعمار، وهو الأمل الذي كان يرفرف على قلوب شعوب العالم الثالث في القرن العشرين.
المعنى الثاني: الحرية السياسية، وهي التي سادت العالم الحر المعاصر أو الدول الديمقراطية الغربية، حيث توسع مداها بحيث يشمل كل إنسان في هذه المجتمعات، ولا تزال التشريعات مستمرة في توسيع وتحقيق مضمون الحرية للوصول إلى المعنى الأساسي اللفظي، خير كل شيء.
ثانيا- الحرية وخلق الإنسان الأول:
إن العودة إلى خلق الإنسان الأول يعطينا صورة كاملة عن مفهوم الحرية للإنسان، {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} .
فإرادة الله اتجهت إلى خلق مخلوق غير الملائكة، عنده قدر من العلم يستطيع أن يخلف الأرض ويعمرها، فهو صاحب مسؤولية، وهذا هو المعلم الأول، هذا المعلم هو.
والمعلم الثاني: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} فقد أعطاه الحرية بقيد واحد فقط هو عدم الأكل من الشجرة وهي تجربة على ممارسة الحرية، فهو مخلوق مسؤول مختار، حر بقيد، فلا حرية في الكون بلا قيود.
أما المعلم الثالث: فهو تحمل المسؤولية، {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} .
فقد أكل من الشجرة، وتلقى عقوبة المخالفة وأهبط إلى الأرض.
فالقيد الذي وضع على حريته لا يعني أنه لا يستطيع أن يمارس حريته، إنما يمارسها ويتحمل مسؤولية المخالفة، فهو قادر على الطاعة وقادر على المعصية، لكن عليه أن يستعد لتحمل مسؤولية هذه المخالفة في الدنيا والآخرة، فما من مخالفة منهج الله إلا وظلم معه يحيق بالنفس والآخرين {فتكونا من الظالمين} الشيء الوحيد الذي فرض على الإنسان دون إرادته ومشيئته هو خلقه بهذه الصيغة وبهذه الصورة، فهذه إرادة ربانية لا ندري كنهها وسرها إلا بما علَّمنا الله عنها جل شأنه.
أما بعد الخلق فالمسؤولية والأمانة تمت على اختيار وقناعة ولم تفرض فرضاً من رب العالمين {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا} . فنحن أمام عرض رباني وقبول بشري، ولقد كان هذا ابتداءً لكل مخلوق في هذا الوجود عندما كان في عالمه الأرواح.
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون} .
فلم يكن العرض {أنا ربكم فآمنوا بي}، إنما كان: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى}.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
ثالثا- المفاهيم المختلفة للحرية:
آ- في النظرة الغربية:
لقد كانت الروح العدمية هي المسيطرة على فلسفات الحرية حيث صورت الإنسان الحر كائناً معزولاً قلقاً محطماً لا يرى سبيلاً إلى حريته غير تحطيم كل الروابط والقيم التي تشده إلى غيره مما لم يبق معه معنى لوجوده الحر غير الانتحار والعبث.. وتمثل الوجودية الملحدة مع سارتر وكامو خير نموذج لهذه الحرية العدمية)، وهذه صورة من حوار الحرية عند برناردشو بين (كيغان) اللامنتمي، و( برودينيت) الواقعي.
كيغان: إن هذا العالم يا سيدي بكل وضوح مكان تعذيب وعقاب، مكان ينال فيه الأحمق كل شيء، ولا ينال فيه الطيب والحكيم إلا الكراهية والاضطهاد، مكان يعذِّب فيه الرجال والنساء بعضهم بعضاً باسم الحب ويُستعبد فيه الأطفال باسم الواجبات الأبوية والتربية، ويعذّب فيه ضعفاء الأجساد باسم العناية الصحية ويُوضع فيه ضعاف العقول في عذاب السجن المفزع لا لساعات بل لسنوات باسم العدالة، إنه مكان يعتبر فيه العناء والشقاء الملاذ الوحيد من السأم والرعب اللذين تتصف اللذة بهما.. والآن يا سيدي فإن ديني لا يعرف إلا مكاناً واحداً للرعب والعذاب، وهذا المكان هو الجحيم، ولهذا فإن الواضح أن أرضنا هي الجحيم وأننا هنا للتكفير عن جرائم سبق لنا أن اقترفناها في وجود سابق...
برودينيت:.. يلوح لي أنك تهمل التفكير في بعض الشرور التي وصفتها ضروري للمحافظة على المجتمع، أما الشرور الأخرى فلا يشجعها إلى المحافظون حين يكونون في الحكم، وإني لأجد العالم مناسباً لي بل إنه مكان بديع في الواقع.
كيغان: (ناظراً إليه بدهشة شديدة) هل أنت قانع؟
برودينيت: كرجل عاقل، نعم فليس هنالك في هذا العالم – ماعدا الشرور الطبيعية طبعاً – شر لا تستطيع الحرية والاستقلال والنظام الإنكليزي أن تصلحه، ولست أظن ذلك لأني إنكليزي، وإنما لأن ذلك أمر معروف لكل إنسان.
كيغان: وعلى ذلك فأنت تحس بكامل حريتك في هذا العالم؟
برودينيت: بالطبع ألا تحس أنت أيضاً بذلك؟
كيغان: (من الصميم) لا.
برودينيت: (ببساطة) جرب حبوب الفوسفور، إنني استعملها كلما شعرت بتعب ذهني) .
( غير أن البحث عن الحرية ما لبث أن غادر الميتافيزيقا واتجه إلى مجالات تمكن بها الرؤيا بشكل أوضح مثل المجال الأخلاقي والقانوني والسياسي، فانصب البحث على علاقة الإنسان بالمؤسسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأصبح الحديث عن الحريات (بالجمع) بدل الحديث الفلسفي عن (الحرية)، لقد غدت الحرية هدفاً لنضال الشعوب المستضعفة والطبقات المضطهدة والضمائر الطيبة أكثر منها مادة لتأملات المفكرين).
لقد كانت الحرية ابتداءً تحرراً من الدين (النصراني) ثم صارت تحرراً من سيطرة الملوك والإقطاعيين، ثم صارت الحرية سيطرة على السوق والدولة ثم سيطرة على العالم، لقد كانت الثورة الأمريكية، ثم الثورة الفرنسية قد أججت موضوع الحرية وصاغته في أنظمة للحكم تضمن للمواطن ألا يكون لأحد سيطرة عليه لا للدين ولا للإقطاع ولا للملوك، وصاغته الدول الغربية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
( وتتعلق هذه الحريات بالصراع الذي دار بين الطبقة الجديدة (التجار وأرباب الصناعة من جهة وملوك الإطلاق والإقطاع والكنيسة من جهة أخرى، فناسب مصالح الطبقة الجديدة المناداة بحقوق للإنسان كإنسان لا سلطان عليه لملك أو رجل دين أو إله، كما ناسب إزالة سلطان الكنيسة الدعوة إلى أوطان قومية تقوم فيها المواطنة على أساس لا صلة له بالدين إن لم يكن مناوئاً له، وأن تزال جملة الحواجز التي فرضتها الطبقات القديمة على أعمال التجارة والصناعة) .
والمتأمل في تاريخ التجربة السياسية الأوربية التي روجت المفهوم الوضعي المعاصر للحرية رأينا كيف تحرر الإنسان يوماً ما من التسلط العالمي المتمثل في البابوية والامبراطورية ليتورط لتوه في أسر السلطان المحلي الذي قام ينازع ذلك السلطان العالمي، ويفرض الولاية على رقاب الرعية باسم الكنائس القومية والملكيات المستقلة والثورات الوطنية، ويرى المرء كيف تحرر الإنسان الأوربي من النبلاء المحليين ليقع تحت سيطرة سلطة مركزية أسراً للملك المركزي الذي بدد شمل هؤلاء المحليين في سلطة مركزية مطلقة، وكيف تحرر الإنسان في تجربته الاقتصادية من الطغيان التجاري للدولة ومن العقال العقاري للنظام الفيودالي الإقطاعي ليقع أسيراً للطبقات الرأسمالية أو للبيروقراطية المتمكنة باسم الاشتراكية، ثم التمس الإنسان التحرر الآثم في الليبرالية والعدالة الاقتصادية، ولكنه بالغاً في ذلك ما بلغ وقد ألقى بنفسه متورطاً بماديته في أهواء الاقتصاد والترف مسخراً كل العلم والجمال، مضحياً بكل العدالة والطمأنينة من أجل الشهوات الاقتصادية: وللمرء أن يتأمل أيضاً كيف انتهى التحرر الاجتماعي من التقاليد والأطر الضابطة إلى الارتماء في فتنة الجنس واللذة والمخدرات ونحو ذلك).
ب- في النظرة الشيوعية:
جاء في كتاب المادية التاريخية (ص 457 من الترجمة العربية:
( مع الانتقال إلى الإقطاعية صارت الأخلاق الإقطاعية هي السائدة، فهي لا تنظر إلى القن كشيء وإنما كإنسان من الدرك الأسفل (العظم الأسود) بينما كانت تنظر إلى ممثلي الطبقة السائدة كبشر من الصنف الممتاز (العظم الأبيض) وإلى جانب هذا فقد كانت الأخلاق الإقطاعية تخفي ظلم الإقطاعيين الوحشي للفلاحين، وتُقَنِّعُ الشكل الإقطاعي للاستغلال... إن دين المجتمع الإقطاعي قام بتفسير الأخلاق السائدة وبوضع الأسس لها، إذ صوَّر لمطالبها وحدودها التي تعبر في الواقع عن مصالح الإقطاعيين كأوامر إلهية والأخلاق الإقطاعية التي ارتكزت على الدين ساعدت على كبح جماع جماهير الفلاحين المسحوقة السوداء).
أما في ظل الرأسمالية فقد حدث تقدم ظاهري يخفي المضمون الحقيقي للأخلاق الطبقية الاستغلالية، جاء في نفس الكتاب (ص 458 – 459 من الترجمة العربية):
( ومع هذا فقد أحرز التقدم الاجتماعي خطوة إلى الأمام على صعيد الأخلاق فالإيديولوجيون البورجوازيون إذ يناضلون ضد الإيديولوجية والأخلاق الإقطاعيتين، ناضلوا في سبيل حرية الفكر وحرية النشاط من أجل تحرير الفرد من كل القيود الإقطاعية الممكنة، ولكن مع انتصار الرأسمالية ينكشف المضمون الحقيقي لأفكار الحرية والمساواة الإنسانية البورجوازية، فالمساواة شكلية وهي تخفي تبعية العامل للرأسمالي، والاستغلال الشديد الوطأة للمنتج المباشر، المقيد اقتصادياً من قبل الرأسماليين بقيود أقوى من أية قيود حديدية أخرى، إن الحرية البورجوازية هي تمتع الرأسماليين بحرية نشاط المؤسسة، وفي الاستيلاء على عمل الآخرين وهي بالنسبة للبروليتارية بيع قوت عمله أو الموت جوعاً.. إن مبدأ الفردية هو السائد في سلوك البورجوازي يسعى لتبرير أنانيته وفرديته في الوعي الأخلاقي، إذ يصور الشعب إلى بلوغ أهدافه الجشعة كاهتمام بالمصلحة العام، وهنا تتجلى الفردية الحيوانية (كحرية الفرد) ويتجلى استعمار العمال (كإنقاذ للمحرومين من الجوع) و( كتقديم الخبز للجائعين، ويتجلى إنتاج السلع من أجل الحصول على الأرباح (كتأمين للمواد الضرورية للمجتمع، ويتبدى استعباد الشعوب الأخرى كعملية تمدين لها، ولهذا فإن ما يميز الأخلاق البورجوازية هو طابعها المنافق عندما تتقنع شريعة الغاب في عالم الملكية الخاصة من تعاليم الإيديولوجيين البورجوازيين) .
ويعلق الأستاذ محمد قطب على هذا التحليل قائلاً: هذا أيضاً صحيح.. لأن الرأسمالية نظام جاهلي بحت وكيف تتحقق الحرية في الفكر الشيوعي؟ بالديكتاتورية.
( وأكثر وسيلة فعَّالة لتحقيق ذلك هي قيام البروليتاريا (طبقة العمال) بثورة تطيح بالنظام الرأسمالي بواسطة القوة، وقد رفض ماركس أسلوب التدرج لأنه يرى أن جميع الجهود الرامية إلى تحويل الرأسمالية على نحو تدريجي من شأنها أن تلقى الهزيمة على يد السلطة (الطبقة الرأسمالية الحاكمة)، ولا يمكن للجهود التي تبذلها الحكومات كيما تعدل أنماط التوزيع أن تؤدي إلى اشتراكية ناجحة، فلإيجاد مجتمع شيوعي حقيقي يتجلى فيه المثل الأعلى القائل: من كل حسب استطاعته، ولكل حسب حاجته، لابد أن تتعرض الرأسمالية إلى تحويل ثوري، فبعد أن تقوم الجماهير بتصفية البورجوازية، وتأميم وسائل الإنتاج ذات الملكية الخاصة، فإنه سيخلفها مجتمع راشد تقدمي خالٍ من الأجور والنقود والطبقات الاجتماعية، وفي خاتمة المطاف خالٍ من الدولة تجمع حر للمنتجين في ظل رقابة خاصة بهم واعية هادفة، فسقوط البورجوازية وانتصار البروليتاريا أمران محتمان على حد سواء.
ثم ماذا كانت النتيجة: انتظرت البشرية سبعين عاماً لتحقيق هذا الحلم، وتبين أنه سراب، فقد قامت دكتاتورية الدولة، فبعد عشرين عاماً من قيام الثورة الشيوعية كان سبعين بالمائة من قادتها يعدمون رمياً بالرصاص كما يقول خروتشوف في بيانه التاريخي الذي ألقاه في المؤتمر العشرين للأحزاب الشيوعية حيث يقول: وقفت على حقائق كثيرة من تلفيق بعض القضايا ضد الشيوعيين مخلصين) ويبين من تلك الوثائق أن من بين المائة والتسعة والثلاثين عضواً الذين انتخبوا في المؤتمر السابع عشر ثمانية وتسعون أي حوالي 70% اعتقلوا وأُعدموا رمياً بالرصاص خلال عامي 1937، 1938 على وجه الخصوص)، وتبين أن دعوة ستالين التي أطلقها عام 1931 لتقليص المسافة التي تفصل بين الاتحاد السوفيتي والبلدان المتقدمة خلال عشر سنوات تبين أنها ضرب من الوهم، كما أن حلم خروتشوف في سد الهوة خلال عقد الستينات لم تتحقق، فقد أدى انخفاض معدلات النمو إلى اتساع الهوة المطلقة بين اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد السوفيتي). وذلك بعد أن ضحوا بـ 10 ملايين إنسان لإنجاح الثورة، ومارسوا أبشع ضرب من الذل والدكتاتورية باسم رفاهية الشعوب، (وها نحن نقف اليوم وقد رأينا في عام 1991 سقوط الفكر الماركسي على المستوى العالمي بانتصار الرأسمالية التي تعتمد الملكية الخاصة وامتداداتها الفكرية سياسياً..... وبذلك نعود إلى نقطة البداية والأصل.. التي تؤكد ضرورة بقاء الدولة حيادية التوجه، فنية التحليل، وتعتمد في معالجتها الحلول التي تؤكد حق الملكية الفردية وحق الإرث، وحق المبادرة الحرة، وحق الاختيار، وحق التنافس والمنافسة بين الأفراد وبقية حقوق الإنسان المعاصر) .
جـ- الحرية في المنظور الإسلامي:
تختلف الحرية في المنظورين الغربي والشيوعي عنها في المنظور الإسلامي في المنطلق وفي المسؤولية وفي الهدف، فالحرية في المنظور البشري إنما هي نتيجة صراع اجتماعي وتصور بشري قاصر، يقِّر اليوم ما ينقضه غداً، أما الحرية في المنظور الإسلامي فهي هبة ربانية وهي (قدر الإنسان الذي تميز به عن كل مخلوق سواه، فمهما كانت الأشياء تسجد لله كرهاً، ومهما سجد كذلك العنصر المادي من جسم الإنسان فإنه بإرادته حر مختار إن شاء عبد الله تعالى طوعاً وإن شاء كفر، ذلك هو قدر الإنسان الطبيعي وهو كذلك حكمه الشرعي.
... وما دام كذلك هو الأصل خلقاً وشرعاً، فالحرية مؤصلة في العقيدة، وأحكام الشريعة الفرعية إنما تعبر عن ذلك الأصل العقدي الذي أسس عليه الدين، ومن ثم نجد في الشريعة السياسية إباحة ضوابط التعليم والتوجيه، فليس لأحد ما دام التفكر عبادة لله والاجتهاد هو فرع من التدين، وإبداء الرأي نصيحة واجبة، ليس لأحد أن يسكت الصوت الحر، له بالطبع أن يجادله، وله بالطبع أن يوصيه، ولكن ليس له أن يحول بين المسلم وعقله.. وليس لأحد كذلك في شريعة الاقتصاد الإسلامي أن يحول بين المسلم وحقه في أن يسخر الطبيعة المادية لعبادة الله سبحانه وتعالى من أن ينتفع بكسبه في ذلك ثم في خاصة نفسه ثم يقدِّم العفو إنفاقاً يتحد به مع سائر حركة المسلمين الاقتصادية، وهكذا كل أحكام الشريعة تتيح للفرد المسلم بفكره أو اجتماعه أو اقتصاده أو سياسته أن يكسب كسبه الحر المختار، ويوحد بذلك الكسب إلى سائر كسب المسلمين ولكن الحرية في هذا الإطار العقدي التوحيدي ليست غاية، وليست قيمة معنوية، بل هي وسيلة لعبادة الله سبحانه وتعالى، يتحرر الإنسان من فتنة الأشياء وفتنة المجتمع وشهوات ماديته وميول أهوائه ليعبد الله وحده، وليس في التعبد لله قيداً يستشعره الإنسان كما يستشعر وقع المذلة لسواه لأن المؤمن لا يستشعر أدنى مجانبة إزاء الله سبحانه (فهو خالقه ورازقه).
أما ما سوى الله مما يقع على الإنسان في العبودية له فكله سبب للضيق والحرج.. فالحرية إذن وسيلة وثمرة لعبادة الله يتحرر الإنسان من الذل للأشياء والناس ليخلص لعبادة ربه، فإذا محض العبادة تحرر من كل شرك آخر، فالحرية من خلال التدين التوحيدي، حرية مطلقة لأن المرء إذا خلص لله سبحانه وتعالى، تحرر من كل مخلوق في الطبيعة والمجتمع، فهي بذلك تنطوي على مغزىً كامل إزاء كل الأشياء والناس، وتسري على مدى ثابت إذ تعتصم بالله الذي لا يموت) .
آ- في النظرة الغربية:
لقد كانت الروح العدمية هي المسيطرة على فلسفات الحرية حيث صورت الإنسان الحر كائناً معزولاً قلقاً محطماً لا يرى سبيلاً إلى حريته غير تحطيم كل الروابط والقيم التي تشده إلى غيره مما لم يبق معه معنى لوجوده الحر غير الانتحار والعبث.. وتمثل الوجودية الملحدة مع سارتر وكامو خير نموذج لهذه الحرية العدمية)، وهذه صورة من حوار الحرية عند برناردشو بين (كيغان) اللامنتمي، و( برودينيت) الواقعي.
كيغان: إن هذا العالم يا سيدي بكل وضوح مكان تعذيب وعقاب، مكان ينال فيه الأحمق كل شيء، ولا ينال فيه الطيب والحكيم إلا الكراهية والاضطهاد، مكان يعذِّب فيه الرجال والنساء بعضهم بعضاً باسم الحب ويُستعبد فيه الأطفال باسم الواجبات الأبوية والتربية، ويعذّب فيه ضعفاء الأجساد باسم العناية الصحية ويُوضع فيه ضعاف العقول في عذاب السجن المفزع لا لساعات بل لسنوات باسم العدالة، إنه مكان يعتبر فيه العناء والشقاء الملاذ الوحيد من السأم والرعب اللذين تتصف اللذة بهما.. والآن يا سيدي فإن ديني لا يعرف إلا مكاناً واحداً للرعب والعذاب، وهذا المكان هو الجحيم، ولهذا فإن الواضح أن أرضنا هي الجحيم وأننا هنا للتكفير عن جرائم سبق لنا أن اقترفناها في وجود سابق...
برودينيت:.. يلوح لي أنك تهمل التفكير في بعض الشرور التي وصفتها ضروري للمحافظة على المجتمع، أما الشرور الأخرى فلا يشجعها إلى المحافظون حين يكونون في الحكم، وإني لأجد العالم مناسباً لي بل إنه مكان بديع في الواقع.
كيغان: (ناظراً إليه بدهشة شديدة) هل أنت قانع؟
برودينيت: كرجل عاقل، نعم فليس هنالك في هذا العالم – ماعدا الشرور الطبيعية طبعاً – شر لا تستطيع الحرية والاستقلال والنظام الإنكليزي أن تصلحه، ولست أظن ذلك لأني إنكليزي، وإنما لأن ذلك أمر معروف لكل إنسان.
كيغان: وعلى ذلك فأنت تحس بكامل حريتك في هذا العالم؟
برودينيت: بالطبع ألا تحس أنت أيضاً بذلك؟
كيغان: (من الصميم) لا.
برودينيت: (ببساطة) جرب حبوب الفوسفور، إنني استعملها كلما شعرت بتعب ذهني) .
( غير أن البحث عن الحرية ما لبث أن غادر الميتافيزيقا واتجه إلى مجالات تمكن بها الرؤيا بشكل أوضح مثل المجال الأخلاقي والقانوني والسياسي، فانصب البحث على علاقة الإنسان بالمؤسسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأصبح الحديث عن الحريات (بالجمع) بدل الحديث الفلسفي عن (الحرية)، لقد غدت الحرية هدفاً لنضال الشعوب المستضعفة والطبقات المضطهدة والضمائر الطيبة أكثر منها مادة لتأملات المفكرين).
لقد كانت الحرية ابتداءً تحرراً من الدين (النصراني) ثم صارت تحرراً من سيطرة الملوك والإقطاعيين، ثم صارت الحرية سيطرة على السوق والدولة ثم سيطرة على العالم، لقد كانت الثورة الأمريكية، ثم الثورة الفرنسية قد أججت موضوع الحرية وصاغته في أنظمة للحكم تضمن للمواطن ألا يكون لأحد سيطرة عليه لا للدين ولا للإقطاع ولا للملوك، وصاغته الدول الغربية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
( وتتعلق هذه الحريات بالصراع الذي دار بين الطبقة الجديدة (التجار وأرباب الصناعة من جهة وملوك الإطلاق والإقطاع والكنيسة من جهة أخرى، فناسب مصالح الطبقة الجديدة المناداة بحقوق للإنسان كإنسان لا سلطان عليه لملك أو رجل دين أو إله، كما ناسب إزالة سلطان الكنيسة الدعوة إلى أوطان قومية تقوم فيها المواطنة على أساس لا صلة له بالدين إن لم يكن مناوئاً له، وأن تزال جملة الحواجز التي فرضتها الطبقات القديمة على أعمال التجارة والصناعة) .
والمتأمل في تاريخ التجربة السياسية الأوربية التي روجت المفهوم الوضعي المعاصر للحرية رأينا كيف تحرر الإنسان يوماً ما من التسلط العالمي المتمثل في البابوية والامبراطورية ليتورط لتوه في أسر السلطان المحلي الذي قام ينازع ذلك السلطان العالمي، ويفرض الولاية على رقاب الرعية باسم الكنائس القومية والملكيات المستقلة والثورات الوطنية، ويرى المرء كيف تحرر الإنسان الأوربي من النبلاء المحليين ليقع تحت سيطرة سلطة مركزية أسراً للملك المركزي الذي بدد شمل هؤلاء المحليين في سلطة مركزية مطلقة، وكيف تحرر الإنسان في تجربته الاقتصادية من الطغيان التجاري للدولة ومن العقال العقاري للنظام الفيودالي الإقطاعي ليقع أسيراً للطبقات الرأسمالية أو للبيروقراطية المتمكنة باسم الاشتراكية، ثم التمس الإنسان التحرر الآثم في الليبرالية والعدالة الاقتصادية، ولكنه بالغاً في ذلك ما بلغ وقد ألقى بنفسه متورطاً بماديته في أهواء الاقتصاد والترف مسخراً كل العلم والجمال، مضحياً بكل العدالة والطمأنينة من أجل الشهوات الاقتصادية: وللمرء أن يتأمل أيضاً كيف انتهى التحرر الاجتماعي من التقاليد والأطر الضابطة إلى الارتماء في فتنة الجنس واللذة والمخدرات ونحو ذلك).
ب- في النظرة الشيوعية:
جاء في كتاب المادية التاريخية (ص 457 من الترجمة العربية:
( مع الانتقال إلى الإقطاعية صارت الأخلاق الإقطاعية هي السائدة، فهي لا تنظر إلى القن كشيء وإنما كإنسان من الدرك الأسفل (العظم الأسود) بينما كانت تنظر إلى ممثلي الطبقة السائدة كبشر من الصنف الممتاز (العظم الأبيض) وإلى جانب هذا فقد كانت الأخلاق الإقطاعية تخفي ظلم الإقطاعيين الوحشي للفلاحين، وتُقَنِّعُ الشكل الإقطاعي للاستغلال... إن دين المجتمع الإقطاعي قام بتفسير الأخلاق السائدة وبوضع الأسس لها، إذ صوَّر لمطالبها وحدودها التي تعبر في الواقع عن مصالح الإقطاعيين كأوامر إلهية والأخلاق الإقطاعية التي ارتكزت على الدين ساعدت على كبح جماع جماهير الفلاحين المسحوقة السوداء).
أما في ظل الرأسمالية فقد حدث تقدم ظاهري يخفي المضمون الحقيقي للأخلاق الطبقية الاستغلالية، جاء في نفس الكتاب (ص 458 – 459 من الترجمة العربية):
( ومع هذا فقد أحرز التقدم الاجتماعي خطوة إلى الأمام على صعيد الأخلاق فالإيديولوجيون البورجوازيون إذ يناضلون ضد الإيديولوجية والأخلاق الإقطاعيتين، ناضلوا في سبيل حرية الفكر وحرية النشاط من أجل تحرير الفرد من كل القيود الإقطاعية الممكنة، ولكن مع انتصار الرأسمالية ينكشف المضمون الحقيقي لأفكار الحرية والمساواة الإنسانية البورجوازية، فالمساواة شكلية وهي تخفي تبعية العامل للرأسمالي، والاستغلال الشديد الوطأة للمنتج المباشر، المقيد اقتصادياً من قبل الرأسماليين بقيود أقوى من أية قيود حديدية أخرى، إن الحرية البورجوازية هي تمتع الرأسماليين بحرية نشاط المؤسسة، وفي الاستيلاء على عمل الآخرين وهي بالنسبة للبروليتارية بيع قوت عمله أو الموت جوعاً.. إن مبدأ الفردية هو السائد في سلوك البورجوازي يسعى لتبرير أنانيته وفرديته في الوعي الأخلاقي، إذ يصور الشعب إلى بلوغ أهدافه الجشعة كاهتمام بالمصلحة العام، وهنا تتجلى الفردية الحيوانية (كحرية الفرد) ويتجلى استعمار العمال (كإنقاذ للمحرومين من الجوع) و( كتقديم الخبز للجائعين، ويتجلى إنتاج السلع من أجل الحصول على الأرباح (كتأمين للمواد الضرورية للمجتمع، ويتبدى استعباد الشعوب الأخرى كعملية تمدين لها، ولهذا فإن ما يميز الأخلاق البورجوازية هو طابعها المنافق عندما تتقنع شريعة الغاب في عالم الملكية الخاصة من تعاليم الإيديولوجيين البورجوازيين) .
ويعلق الأستاذ محمد قطب على هذا التحليل قائلاً: هذا أيضاً صحيح.. لأن الرأسمالية نظام جاهلي بحت وكيف تتحقق الحرية في الفكر الشيوعي؟ بالديكتاتورية.
( وأكثر وسيلة فعَّالة لتحقيق ذلك هي قيام البروليتاريا (طبقة العمال) بثورة تطيح بالنظام الرأسمالي بواسطة القوة، وقد رفض ماركس أسلوب التدرج لأنه يرى أن جميع الجهود الرامية إلى تحويل الرأسمالية على نحو تدريجي من شأنها أن تلقى الهزيمة على يد السلطة (الطبقة الرأسمالية الحاكمة)، ولا يمكن للجهود التي تبذلها الحكومات كيما تعدل أنماط التوزيع أن تؤدي إلى اشتراكية ناجحة، فلإيجاد مجتمع شيوعي حقيقي يتجلى فيه المثل الأعلى القائل: من كل حسب استطاعته، ولكل حسب حاجته، لابد أن تتعرض الرأسمالية إلى تحويل ثوري، فبعد أن تقوم الجماهير بتصفية البورجوازية، وتأميم وسائل الإنتاج ذات الملكية الخاصة، فإنه سيخلفها مجتمع راشد تقدمي خالٍ من الأجور والنقود والطبقات الاجتماعية، وفي خاتمة المطاف خالٍ من الدولة تجمع حر للمنتجين في ظل رقابة خاصة بهم واعية هادفة، فسقوط البورجوازية وانتصار البروليتاريا أمران محتمان على حد سواء.
ثم ماذا كانت النتيجة: انتظرت البشرية سبعين عاماً لتحقيق هذا الحلم، وتبين أنه سراب، فقد قامت دكتاتورية الدولة، فبعد عشرين عاماً من قيام الثورة الشيوعية كان سبعين بالمائة من قادتها يعدمون رمياً بالرصاص كما يقول خروتشوف في بيانه التاريخي الذي ألقاه في المؤتمر العشرين للأحزاب الشيوعية حيث يقول: وقفت على حقائق كثيرة من تلفيق بعض القضايا ضد الشيوعيين مخلصين) ويبين من تلك الوثائق أن من بين المائة والتسعة والثلاثين عضواً الذين انتخبوا في المؤتمر السابع عشر ثمانية وتسعون أي حوالي 70% اعتقلوا وأُعدموا رمياً بالرصاص خلال عامي 1937، 1938 على وجه الخصوص)، وتبين أن دعوة ستالين التي أطلقها عام 1931 لتقليص المسافة التي تفصل بين الاتحاد السوفيتي والبلدان المتقدمة خلال عشر سنوات تبين أنها ضرب من الوهم، كما أن حلم خروتشوف في سد الهوة خلال عقد الستينات لم تتحقق، فقد أدى انخفاض معدلات النمو إلى اتساع الهوة المطلقة بين اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد السوفيتي). وذلك بعد أن ضحوا بـ 10 ملايين إنسان لإنجاح الثورة، ومارسوا أبشع ضرب من الذل والدكتاتورية باسم رفاهية الشعوب، (وها نحن نقف اليوم وقد رأينا في عام 1991 سقوط الفكر الماركسي على المستوى العالمي بانتصار الرأسمالية التي تعتمد الملكية الخاصة وامتداداتها الفكرية سياسياً..... وبذلك نعود إلى نقطة البداية والأصل.. التي تؤكد ضرورة بقاء الدولة حيادية التوجه، فنية التحليل، وتعتمد في معالجتها الحلول التي تؤكد حق الملكية الفردية وحق الإرث، وحق المبادرة الحرة، وحق الاختيار، وحق التنافس والمنافسة بين الأفراد وبقية حقوق الإنسان المعاصر) .
جـ- الحرية في المنظور الإسلامي:
تختلف الحرية في المنظورين الغربي والشيوعي عنها في المنظور الإسلامي في المنطلق وفي المسؤولية وفي الهدف، فالحرية في المنظور البشري إنما هي نتيجة صراع اجتماعي وتصور بشري قاصر، يقِّر اليوم ما ينقضه غداً، أما الحرية في المنظور الإسلامي فهي هبة ربانية وهي (قدر الإنسان الذي تميز به عن كل مخلوق سواه، فمهما كانت الأشياء تسجد لله كرهاً، ومهما سجد كذلك العنصر المادي من جسم الإنسان فإنه بإرادته حر مختار إن شاء عبد الله تعالى طوعاً وإن شاء كفر، ذلك هو قدر الإنسان الطبيعي وهو كذلك حكمه الشرعي.
... وما دام كذلك هو الأصل خلقاً وشرعاً، فالحرية مؤصلة في العقيدة، وأحكام الشريعة الفرعية إنما تعبر عن ذلك الأصل العقدي الذي أسس عليه الدين، ومن ثم نجد في الشريعة السياسية إباحة ضوابط التعليم والتوجيه، فليس لأحد ما دام التفكر عبادة لله والاجتهاد هو فرع من التدين، وإبداء الرأي نصيحة واجبة، ليس لأحد أن يسكت الصوت الحر، له بالطبع أن يجادله، وله بالطبع أن يوصيه، ولكن ليس له أن يحول بين المسلم وعقله.. وليس لأحد كذلك في شريعة الاقتصاد الإسلامي أن يحول بين المسلم وحقه في أن يسخر الطبيعة المادية لعبادة الله سبحانه وتعالى من أن ينتفع بكسبه في ذلك ثم في خاصة نفسه ثم يقدِّم العفو إنفاقاً يتحد به مع سائر حركة المسلمين الاقتصادية، وهكذا كل أحكام الشريعة تتيح للفرد المسلم بفكره أو اجتماعه أو اقتصاده أو سياسته أن يكسب كسبه الحر المختار، ويوحد بذلك الكسب إلى سائر كسب المسلمين ولكن الحرية في هذا الإطار العقدي التوحيدي ليست غاية، وليست قيمة معنوية، بل هي وسيلة لعبادة الله سبحانه وتعالى، يتحرر الإنسان من فتنة الأشياء وفتنة المجتمع وشهوات ماديته وميول أهوائه ليعبد الله وحده، وليس في التعبد لله قيداً يستشعره الإنسان كما يستشعر وقع المذلة لسواه لأن المؤمن لا يستشعر أدنى مجانبة إزاء الله سبحانه (فهو خالقه ورازقه).
أما ما سوى الله مما يقع على الإنسان في العبودية له فكله سبب للضيق والحرج.. فالحرية إذن وسيلة وثمرة لعبادة الله يتحرر الإنسان من الذل للأشياء والناس ليخلص لعبادة ربه، فإذا محض العبادة تحرر من كل شرك آخر، فالحرية من خلال التدين التوحيدي، حرية مطلقة لأن المرء إذا خلص لله سبحانه وتعالى، تحرر من كل مخلوق في الطبيعة والمجتمع، فهي بذلك تنطوي على مغزىً كامل إزاء كل الأشياء والناس، وتسري على مدى ثابت إذ تعتصم بالله الذي لا يموت) .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
رابعا- أنواع الحريات:
أولاً: الحرية الفردية:
آ- حرية العقيدة:
لقد أهبط الله تعالى آدم وحواء على الأرض عقوبة على خطيئتهما في الجنة، فهل شاءت إرادة الله عز وجل أن ينزع هذه الحرية من الإنسان لأنه لا يستحقها بعد أن عصى ربه بها، إننا نجد كثيراً من الطغاة يستعبدون الخلق بحجة أنهم ليسوا أهلاً للحرية، والله عز وجل خالق هذا الإنسان وبارئه لم يشأ أن يسلبه هذه الحرية وينتزعها منه حين لم يكن أهلاً لمخالفته أمر ربه ومعصيته، فها هو الآن في الأرض، فهل هو مسلوب الحرية، أو هو مسلوب جزءاً منها أو لا يزال يملكها كاملة؟ وجاء الجواب من رب العالمين بعد هذا الانتظار: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعاً، فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
1ً- اعتناق العقيدة: فكانت المشيئة الربانية أن تبقى الحرية لهذا المخلوق وهو يحقق خلافته في الأرض وأن يأتيه المنهج من عند الله لا ليُرغَم عليه، ولكن ليكون حراً في اختياره واتباعه، وينال ثمرة هذا الاتباع {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أو يكون حراً في رفضه والتخلي عنه، ويتحمل مسؤولية هذا الرفض وهذا التخلي {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
فقبل أن نخوض إذن في تفصيلات هذه الحرية وتشعباتها نقرر أنها مشيئة ربانية لهذا المخلوق يمارس من خلالها مسؤوليته ورسالته في الأرض، ولا يُجبر على الإيمان بها حين يتحمل مسؤولية رفض هذا الإيمان وجاء القرآن الكريم ليؤسس هذا المعنى في البشرية بقوله عز وجل:{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
( وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدي والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني.
... إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالإسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
والإسلام، وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء، هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين، فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة ولا يُسمح لمن يخالفها بالحياة؟
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: {لا إكراه في الدين}... نفي الجنس كما يقول النحويون، أي نفي جنس الإكراه، نفي كونه ابتداءً، فهو يستبعده في عالم الوجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مزاولته، والنهي في صورة النفي – والنفي للجنس أعمق إيقاعاً وآكد دلالة) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحرق على إيمان قومه، ويكاد يهلك نفسه حباً لهم لدخولهم في هذا الدين، يعاتبه ربه عتاباً شديد اللهجة ليعلمه على أن الإيمان قرار شخصي، وليس فرضاً خارجياً حتى من الله عز وجل الذي لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً.
{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} .
ويحذر نبيه من اللجاج في قضية الإيمان وفرضه على الناس.
{وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} .
وبعد أربعة عشر قرناً من هذا الإعلان الرباني، تأتي وثيقة حقوق الإنسان أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليعلن:
( المادة 1- ولدت كل الكائنات البشرية أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا العقل والضمير ويجب أن يتصرفوا نحو بعضهم البعض بروح من الأخوة.
المادة 18- لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق تغيير دينه أو عقيدته، والحرية إما بمفرده أو باشتراك مع آخرين، وعلناً أو بمعزل، وأن يظهر دينه أو عقيدته في التدريس والممارسة والعبادة وأداء الشعائر.
المادة 19- لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق الحرية في اعتناق الآراء بدون تدخل، وأن يطلب ويتلقى معلومات وأفكار عن طريق أية وسائط بغض النظر عن الحدود.
2ً- الردة: ونقف ملياً مع المادة (18) الآنفة الذكر التي تبيح الارتداد عن الدين، نعم إن هذه المواد متضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكن جميع الذين صاغوه ينطلقون من الديمقراطية عقيدة وأسلوب حكم، إنهم قادة ومفكرو الدول الغربية التي تؤمن بالعلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، والدين عندهم عقيدة في القلب وشعيرة في الكنيسة أو الكنيس أو المسجد لا دخل له بالسياسة والحكم، والتقديس عندهم للشعب الذي يشرِّع، وأول تشريع ديمقراطي علماني ينطلق برفض التفرقة بين أبناء الأمة على أساس الدين أو الجنس أو اللون، والكل متساوون أمام القانون، ونحن حين نكون دعاة نعيش في ظل دولة لها قوانينها في مساواة المواطنين أمام القانون، فلسنا ضد هذه المساواة، لأننا لا نملك السلطة التي تمكننا من تطبيق مبادئ الإسلام، وليس لنا إلا الحوار في الحديث عن مبادئنا وديننا.
لكن الفرق كبير بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية التي نطمح لها، بين دولة تشرع بأهواء البشر، ودولة تحتكم إلى شريعة الله، فهي تطبق هذا الدين، وتلتزم بمبادئه وأحكامه، ومن مبادئ هذا الدين التفاضل بالتقوى والعمل الصالح، والتمسك بمبادئ هذا الدين، ومن أجل هذا نقف بتحفظ أمام بعض العبارات التي نقبلها في ظل دولة علمانية، ونحن فصيل من هذا الشعب نطرح مبادئنا من خلال الحوار، ونعيد النظر فيها ونحن دولة إسلامية مسؤولة عن تطبيق الحق الذي تؤمن به بعد أن وصلنا لهذه السلطة من خلال الإرادة الشعبية، وتمت صياغة الدستور من خلال رأي الأكثرية التي تريد الإسلام عقيدة ودولة ونظام حكم ونظام حياة.
ومن هذه العبارات مثلاً: (ويشمل هذا الحق حرية تغيير دينه أو عقيدته).
هذه الحرية قائمة في ظل دولة ديمقراطية، ترى الدين أمراً شخصياً لا علاقة له بالمجتمع والتشريع والدولة، ونحن لا سلطان لنا فيها ونحن فصيل من هذا الشعب، وحين يرتد مسلم عن دينه فحسابه على ربه لا على الجماعة المسلمة، وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الذين فُتنوا عن دينهم بعد حادثة المعراج؟ لم يفعل معهم شيئاً لأنه لا سلطان له عليهم إلا سلطان الضمير، وفي مثل هذه الأحوال، فلا تقام الحدود، إنما تقام الحدود في ظل دولة إسلامية {لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر} .
أما عندما يكون للإسلام دولته له تشريعاته التي هي جزء من الدستور والقانون المنبثق عن الإسلام وله فقهه في التعامل مع المرتد عن الإسلام الذي أصبح دولة من خلال اختيار الشعب له عقيدة ومنهج حياة لا من خلال فرضه بالقوة على الناس {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} لكن بعد إيمانهم واختيارهم الإسلام كاملاً بعقيدته وشريعته، فتطبق أحكام هذا الدستور كاملة، ولا يجوز لأي فئة أو جماعة أو فرد أن يخرج عن أحكام هذا الدستور.
3ً- حد الردة: ويجب أن لا يغيب عن ذهننا أن الحدود إنما تطبق بعد قيام الدولة الإسلامية، ومن الحدود حد الردة (وحكم المرتد هو القتل كما هو معروف، ويستند الفقهاء في ذلك إلى حديث نبوي يقول: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) ، فكيف نفسر هذا الاختلاف؟ لنستبعد الشك في صحة الحديث المذكور، فقتال المرتدين زمن خلافة أبي بكر واقعة تاريخية لا شك فيها، كما أن قتل المرتد مسألة لا خلاف فيها بين الفقهاء فهي بالتالي مسألة يحكمها الإجماع أيضاً، لماذا؟ لأن (المرتد) في هذه الحالة بعد قيام الدولة الإسلامية لم يكن مجرد شخص قد غيَّر عقيدته فحسب، بل هو شخص خرج عن الإسلام عقيدة ومجتمعاً ودولة، وإذا أخذنا بالاعتبار أن دولة الإسلام في المدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الأربعة كانت تخوض حرباً مستمرة مع (المشركين العرب ثم مع الروم والفرس) أدركنا أن المرتد زمن هذه الدولة هو في حكم الشخص الذي يخون وطنه ويتواطأ مع العدو زمن الحرب – بالتعبير المعاصر – وحروب الردة على عهد أبي بكر كانت ضد أناس لم يقتصروا فقط على خيانة دولة الإسلام التي انضموا إليها زمن النبي، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك إذ نظموا أنفسهم للانقضاض عليها بعد عصيانهم لقوانينها (أي الامتناع عن دفع الزكاة) فالمرتد بهذا المعنى هو من خرج على الدولة الإسلامية محارباً أو متآمراً أو جاسوساً للعدو.
وإذا فحكم الفقه الإسلامي على المرتد بهذا المعنى ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد، بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة فضلاً عن الدين والتواطؤ مع العدو أو التحول إلى لصٍ أو عدو محارب، ومن هنا نفهم كيف يربط الفقهاء بين حكم (المحارب) وهو من يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق، وبين (المرتد) ذلك أن (المرتد) في الخطاب الفقهي الإسلامي هو صنف من (المحاربين) وحكمه يختلف من فقيه إلى آخر حسب ما يكون (المرتد) محارباً بالفعل أم لا، فالمرتد المحارب يقتل باتفاق الفقهاء، أما قبل أن يحارب فاختلفوا، هل يستتاب أم لا، كما فرقوا بين المرتد إذا حارب وهو في دار الإسلام، وبين المرتد إذا لحق بدار الحرب (أرض العدو).
كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في المرتد لا من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه شخص خان المجتمع الإسلامي وخرج ضده نوعاً من الخروج، وما نريد أن نخلص إليه من كل ما سبق هو أن الوضع القانوني للمرتد لا يتجدد في الإسلام بمرجعية الحرية (كما هو الحال في إعلان حقوق الإنسان) حرية الاعتقاد، بل يتحدد بمرجعية ما تسميه اليوم (الخيانة للوطن) بإشهار الحرب على المجتمع والدولة).. ويبقى مطلوباً من الاجتهاد الفقهي المعاصر النظر في ما إذا كان المسلم الذي يعتنق ديناً آخر اعتناقاً فردياً لا يمس من قريب أو بعيد بالمجتمع الإسلامي ولا بالدولة الإسلامية يدخل في دائرة بالمعنى الفقهي الذي شرحناه أم يدخل في زمرة المرتدين الذين تحدثت عنهم الآيات التي تتوعد المرتدين الوعيد الأكبر ولكن دون التنصيص صراحة على وجوب قتلهم)، ويمكن القول حول موضوع الردة مايلي:
إن مفهوم الحدود المرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود الدولة الإسلامية الحاكمة المعروف مبادؤها يقوم على اعتبار الاعتداء على الحرمات الخمسة جريمة قد حددت عقوبتها في كتاب الله وسنة رسوله.
( ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة....وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقل وهو مناط التكليف، وإيجاب حد الزنى، إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها).
فقد كان حد الردة وجهاد الكفار لحفظ الدين، وحد القصاص لحفظ النفس، وحد الزنا والقذف لحفظ العرض والنسل وحد الشرب لحفظ العقل وحد السرقة لحفظ المال.
هذا هو فقه الحدود في الإسلام الذي جاء لصلاح الإنسان والمجتمع والبشرية، بينما تنظر العلمانية الغربية إلى القضية من زاوية ما يخص الغير كالقتل والسرقة فهي اعتداء على النفس والمال، أما الثلاثة الأخرى فهي أمور شخصية لا علاقة للدولة بها مثل الزنا وشرب الخمر والردة والكفر، فله الحرية فيها ومن جهة أخرى فلا علاقة للدين بالدولة، لأنه أمر تعبدي بين العبد وربه، أما الدين والإسلام عندنا، فهو شريعة تحكم الفرد والمجتمع والدولة، وهذا هو جوهر الخلاف حول مفهوم الردة، فالردة خيانة للدين والجاسوسية خيانة للوطن.
ب- حرية العبادة:
ومع أن حرية العبادة تكاد كل نظم الأرض تقر بها، ولا تتدخل في شؤون العباد، إذ أن الدين هذه النظم عبادة بين المؤمن وربه، فقط كانت النظم الدكتاتورية في الدول الشمولية تضطهد حتى حرية العبادة وحولت المساجد إلى متاحف أو اصطبلات أو رميم، وحين يكون المسلمون دعوة في الأرض، ودعاته فصيل من فصائل الأمة، فحرية العبادة متاحة للجميع، فقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل المجتمع الجاهلي ثلاثة عشر عاماً، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، لم يتعرض لها محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بأذى، وحين لم يكن له سلطة على مكة، وللمسلمين دولة قائمة خارج مكة، دخل إليها، وطاف وسعى مع المسلمين وأقام بها ثلاثة أيام دون أن يتعرض لصنم واحد بأذى في ظل الدولة الجاهلية، لكن الأمر اختلف بعد فتح مكة حين صارت مكة جزءاً من دولة الإسلام، فقد هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام في الكعبة المشرفة لا رفضاً لحرية العبادة كما يحلو للمستغلين أن يسموه، بل كان تصحيحاً لجريمة تاريخية في تحويل الكعبة بيت الله تعالى الذي بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإقامة التوحيد.
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}.
والدليل على ذلك أن كنائس النصارى وكنس اليهود بقيت قائمة خمسة عشر قرناً في ظل الدولة الإسلامية لم تُمس بأذى ولا يحق لأحد أن يتدخل بهذه الحرية، حتى أن الفاروق رضي الله عنه رفض أن يصلي بكنيسة القيامة حتى لا يعتبرها المسلمون فيما بعد موطن صلاة أمير المؤمنين فيحولوا الكنيسة إلى مسجد.
1ً- العبادة في الملأ: وحيث أن شعائر الأديان التي تعيش في ظل الإسلام لا تُقبل إلا في بيوت العبادة عندهم فلا غرو أن تكون صلواتهم داخل معابدهم لا على الملأ، وإن كان الإسلام لا يمنع غير المسلمين من إظهار شعائرهم الخاصة خارج معابدهم، فعدي بن حاتم يفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسجده وفي عنقه صليب ذهبي كبير، والذين جاؤوا وعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية كانوا يقدمون بالصليب على صدورهم وجباههم كما تقتضي شعائرهم، دون أن يمنعوا من ذلك.
2ً- الجهاد في الإسلام لحرية العبادة: وبلغت عظمة الإسلام أن يعلن في مبادئه أن الجهاد في سبيل الله إنما فرض ليس فقط لحماية أماكن العبادة للمسلمين، بل لحماية أماكن العبادة للنصارى واليهود كذلك، وهذا يعني أن الإسلام يقيم حرباً ويستجيش المسلمين للجهاد لو جاء من يريد هدم كنائس النصارى واليهود ولم يتعرض لمساجد المسلمين يشهد بذلك قول الله عز وجل: {ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج /من الآية 40).
جـ- حرية الدعوة:
والعقيدة التي لا يرافقها حرية الدعوة لها تختنق في القلب وتموت في الضمير، وكانت أكبر معاناة الجيل الأول في العهد المكي هو حرمانهم من حرية الدعوة، والذي يتصفح كتاب الله عز وجل يجد أنه عرض لمبادئ هذا الدين في صراعه مع خصومه، وتفنيد كل الباطل الذي يؤمنون به، ولو أن المسلمين اكتفوا الإسلام هو عقيدة مستترة في القلب لما كانت هذه المعارك كلها ضد الإسلام، لكن الخطر الذي كانوا يخشونه (أي الأعداء) هو انتشار هذا الدين ومبادئه من خلال حرية الدعوة إليه، خصوصاً أن هذه الحرية كانت متاحة لقائد الدعوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1ً- الدعوة بين المؤمنين بالفكرة: ولا شك أن هذه القضية من المسلمات التي لا يناقض فيها أحد، فكل حزب أخذ حق الوجود من حقه أن يشرح أفكاره وآرائه لمؤيديه والمنتسبين إليه، وقد تكون هذه الأفكار مناقضة لأسس الإسلام، لكن حرية وجوده إذا اعترف فيه، تقتضي حرية نشر أفكاره في صفوف أتباعه، وحين تكون الحركة الإسلامية دعوة لا سلطان لها، فلا مجال للشك أنها لا يحق لها أن تتدخل بشأن أحد، فالحركات المحاربة للإسلام أخذت شرعيتها من نظام الحكم الذي يحكم البلد، ولا يملك الدعاة إلى الله أكثر من الحوار مع خصومهم، مهما كانت الأفكار التي يحملونها.
2ً- الدعوة بين الخصوم:
ونضع هذا السؤال: لو أن دولة الإسلام قامت، فما هو موقفها من خصومها، هل هو المنع والعبادة والحرب كما يحلو للحاقدين أن يصموا الإسلاميين؟.
يكاد يكون الإسلام هو النظام الوحيد في العالم الذي أبقى خصومه الفكريين داخل دولته من اليهود والنصارى وحماهم من أي اعتداء، وحمى أرواحهم ومعابدهم وأموالهم وحافظ على وجودهم مقابل الجزية الرمزية التي يأخذها منهم وهذا موقف المقوقس حاكم مصر يجلي هذا الأمر (قال المقوقس لمن حوله: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله مالكم بهم من طاقة، إن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين، فقالوا: وأي خصلة نجيب إليها؟ قال: أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليه، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة قالوا: أفنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم تكونوا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيداً تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهليكم وذراريكم)، ثم اختار القوم الجزية (فصالح على جميع من فيها من الرجال من القبط من راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية ألف ألف).
ولم يمر إلا قليل من الزمن حتى غدت مصر أرض العروبة والإسلام بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة.
لا يزال السؤال قائماً: هل يحق لخصوم الإسلام أن يدعو لأفكارهم المسلمين في ظل الدولة الإسلامية، والجواب هو أن هذا الحق قائم لهم من خلال الندوات المنتظمة مع دعاة المسلمين وعلمائهم، لا من خلال الاتصالات المباشرة المفتوحة مع عامة الناس، ونستشهد على ذلك بما يلي:
آ- الدارس لكتاب الله، ولعقائد الخصوم التي عرضها ثم دحضها يلاحظ – لحدٍ ما – اختلاف المضمون فقط بين المرحلتين المكية والمدنية، ففي المرحلة المكية كان الرد ينصب على عقائد المشركين ويدحضها بالحجة والبينة، وفي المرحلة المدنية وللإسلام دولته كان الرد ينصب على عقائد النصارى واليهود ويدحضها بالحجة والبينة، وغدا القرآن المدني كأنما هو عرض لتاريخ بني إسرائيل كاملاً وتصحيحه ولعقائد اليهود والنصارى وتصحيحها.
ب- كان المسجد النبوي موطن الحوار والنقاش بين المسلمين من جهة وبين النصارى واليهود من جهة أخرى، والمسلمون يشهدون الحوار علناً بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قسس النصارى وأحبار اليهود الوافدين من اليمن ومن خيبر والمقيمين في المدينة، وحيث أن الإسلام اعترف بوجودهم، فقد اعترف بحقهم في عرض أفكارهم ضمن المعابر الرسمية,وما سورة البقرة وآل عمران والمائدة والأعراف إلا عرضاً لهذا الحوار الفكري.
جـ- أوضح القرآن الكريم منهج التعامل مع خصومه الفكريين في ظل دولة الإسلام بقوله عز وجل:
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} .
كما هيأ المسلمين نفسياً لسماع هذه الأفكار المضادة وضرورة الصبر عليها لا قمعها.
{لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} .
د- وتاريخ الدول الإسلامية المتتابعة خلال التاريخ يحوي الكثير من الندوات الرسمية التي كانت تتم في قصور الخلفاء بين علماء المسلمين، ورجال الدين من أهل الكتاب حتى مع غير أهل الكتاب من أصحاب العقائد الضالة.
د- الحرية الإنسانية:
1ً- الحرية من الرق:
( يكفي أن القول إنه ليس في الإسلام أحكام تكرس الاسترقاق، هناك أحكام تخص أسرى الحرب وأخرى تجعل تحرير العبيد عملاً تعبدياً (أي فك رقبة في الكفارات) ومطلباً اجتماعياً (أي فداء الأسرى) والرق ظاهرة تاريخية تعاملت معها الديانات السماوية من يهودية ونصرانية، كما تعاملت معها الفلسفة اليونانية ولم يُحرَّم الرق إلا في العصر الحديث، أم الاتجاه العام في التشريع الإسلامي فهو يميل من دون شك إلى تصفية هذه الظاهرة وذلك انطلاقاً من مبدأ أن الإنسان خُلقَ حراً) .
ويوم حرِّر الرقيق في هذا العصر، وأقر الخليفة الإسلامي العثماني هذا التحرير، فإن هذا يعني انتهاء الرق ويعني أن أية محاولة لإعادته هي من أكبر الكبائر في الإسلام.
فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قال الله تعالى: (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) .
ولقد جعل الله تعالى ملك اليمين مفتوحاً للرجل، فهو الخبير بمن خلق فكل جارية ملك يمين للرجل، حين تلد ولداً يكون ولدها حراً، فولد الحر حر، وترتفع هي لتكون أم ولد فلا تباع ولا توهب، وبذلك يتحول العبيد إلى أحرار بالفطرة البشرية، وينشأ جيل الأحرار الذي ينقبض معه جيل العبيد، وفي تجفيف منابع الرق ينتهي الرق، هذا من جهة ومن جهة ثانية، سعى الإسلام لتحرير نفوس العبيد، فيذوقون طعم الحرية، وعندئذ يصبح العبد عن طريق المكاتبة مدرباً على المسؤولية فيشتري نفسه بنفسه، وينتهي حراً لا كَلاً على سيده، ويخلص من ربقة الرق إلى الحرية.
أولاً: الحرية الفردية:
آ- حرية العقيدة:
لقد أهبط الله تعالى آدم وحواء على الأرض عقوبة على خطيئتهما في الجنة، فهل شاءت إرادة الله عز وجل أن ينزع هذه الحرية من الإنسان لأنه لا يستحقها بعد أن عصى ربه بها، إننا نجد كثيراً من الطغاة يستعبدون الخلق بحجة أنهم ليسوا أهلاً للحرية، والله عز وجل خالق هذا الإنسان وبارئه لم يشأ أن يسلبه هذه الحرية وينتزعها منه حين لم يكن أهلاً لمخالفته أمر ربه ومعصيته، فها هو الآن في الأرض، فهل هو مسلوب الحرية، أو هو مسلوب جزءاً منها أو لا يزال يملكها كاملة؟ وجاء الجواب من رب العالمين بعد هذا الانتظار: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعاً، فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
1ً- اعتناق العقيدة: فكانت المشيئة الربانية أن تبقى الحرية لهذا المخلوق وهو يحقق خلافته في الأرض وأن يأتيه المنهج من عند الله لا ليُرغَم عليه، ولكن ليكون حراً في اختياره واتباعه، وينال ثمرة هذا الاتباع {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أو يكون حراً في رفضه والتخلي عنه، ويتحمل مسؤولية هذا الرفض وهذا التخلي {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
فقبل أن نخوض إذن في تفصيلات هذه الحرية وتشعباتها نقرر أنها مشيئة ربانية لهذا المخلوق يمارس من خلالها مسؤوليته ورسالته في الأرض، ولا يُجبر على الإيمان بها حين يتحمل مسؤولية رفض هذا الإيمان وجاء القرآن الكريم ليؤسس هذا المعنى في البشرية بقوله عز وجل:{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
( وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدي والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني.
... إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالإسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
والإسلام، وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء، هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين، فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة ولا يُسمح لمن يخالفها بالحياة؟
والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: {لا إكراه في الدين}... نفي الجنس كما يقول النحويون، أي نفي جنس الإكراه، نفي كونه ابتداءً، فهو يستبعده في عالم الوجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مزاولته، والنهي في صورة النفي – والنفي للجنس أعمق إيقاعاً وآكد دلالة) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحرق على إيمان قومه، ويكاد يهلك نفسه حباً لهم لدخولهم في هذا الدين، يعاتبه ربه عتاباً شديد اللهجة ليعلمه على أن الإيمان قرار شخصي، وليس فرضاً خارجياً حتى من الله عز وجل الذي لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعاً.
{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} .
ويحذر نبيه من اللجاج في قضية الإيمان وفرضه على الناس.
{وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} .
وبعد أربعة عشر قرناً من هذا الإعلان الرباني، تأتي وثيقة حقوق الإنسان أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليعلن:
( المادة 1- ولدت كل الكائنات البشرية أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا العقل والضمير ويجب أن يتصرفوا نحو بعضهم البعض بروح من الأخوة.
المادة 18- لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق تغيير دينه أو عقيدته، والحرية إما بمفرده أو باشتراك مع آخرين، وعلناً أو بمعزل، وأن يظهر دينه أو عقيدته في التدريس والممارسة والعبادة وأداء الشعائر.
المادة 19- لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق الحرية في اعتناق الآراء بدون تدخل، وأن يطلب ويتلقى معلومات وأفكار عن طريق أية وسائط بغض النظر عن الحدود.
2ً- الردة: ونقف ملياً مع المادة (18) الآنفة الذكر التي تبيح الارتداد عن الدين، نعم إن هذه المواد متضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكن جميع الذين صاغوه ينطلقون من الديمقراطية عقيدة وأسلوب حكم، إنهم قادة ومفكرو الدول الغربية التي تؤمن بالعلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، والدين عندهم عقيدة في القلب وشعيرة في الكنيسة أو الكنيس أو المسجد لا دخل له بالسياسة والحكم، والتقديس عندهم للشعب الذي يشرِّع، وأول تشريع ديمقراطي علماني ينطلق برفض التفرقة بين أبناء الأمة على أساس الدين أو الجنس أو اللون، والكل متساوون أمام القانون، ونحن حين نكون دعاة نعيش في ظل دولة لها قوانينها في مساواة المواطنين أمام القانون، فلسنا ضد هذه المساواة، لأننا لا نملك السلطة التي تمكننا من تطبيق مبادئ الإسلام، وليس لنا إلا الحوار في الحديث عن مبادئنا وديننا.
لكن الفرق كبير بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية التي نطمح لها، بين دولة تشرع بأهواء البشر، ودولة تحتكم إلى شريعة الله، فهي تطبق هذا الدين، وتلتزم بمبادئه وأحكامه، ومن مبادئ هذا الدين التفاضل بالتقوى والعمل الصالح، والتمسك بمبادئ هذا الدين، ومن أجل هذا نقف بتحفظ أمام بعض العبارات التي نقبلها في ظل دولة علمانية، ونحن فصيل من هذا الشعب نطرح مبادئنا من خلال الحوار، ونعيد النظر فيها ونحن دولة إسلامية مسؤولة عن تطبيق الحق الذي تؤمن به بعد أن وصلنا لهذه السلطة من خلال الإرادة الشعبية، وتمت صياغة الدستور من خلال رأي الأكثرية التي تريد الإسلام عقيدة ودولة ونظام حكم ونظام حياة.
ومن هذه العبارات مثلاً: (ويشمل هذا الحق حرية تغيير دينه أو عقيدته).
هذه الحرية قائمة في ظل دولة ديمقراطية، ترى الدين أمراً شخصياً لا علاقة له بالمجتمع والتشريع والدولة، ونحن لا سلطان لنا فيها ونحن فصيل من هذا الشعب، وحين يرتد مسلم عن دينه فحسابه على ربه لا على الجماعة المسلمة، وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الذين فُتنوا عن دينهم بعد حادثة المعراج؟ لم يفعل معهم شيئاً لأنه لا سلطان له عليهم إلا سلطان الضمير، وفي مثل هذه الأحوال، فلا تقام الحدود، إنما تقام الحدود في ظل دولة إسلامية {لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر} .
أما عندما يكون للإسلام دولته له تشريعاته التي هي جزء من الدستور والقانون المنبثق عن الإسلام وله فقهه في التعامل مع المرتد عن الإسلام الذي أصبح دولة من خلال اختيار الشعب له عقيدة ومنهج حياة لا من خلال فرضه بالقوة على الناس {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} لكن بعد إيمانهم واختيارهم الإسلام كاملاً بعقيدته وشريعته، فتطبق أحكام هذا الدستور كاملة، ولا يجوز لأي فئة أو جماعة أو فرد أن يخرج عن أحكام هذا الدستور.
3ً- حد الردة: ويجب أن لا يغيب عن ذهننا أن الحدود إنما تطبق بعد قيام الدولة الإسلامية، ومن الحدود حد الردة (وحكم المرتد هو القتل كما هو معروف، ويستند الفقهاء في ذلك إلى حديث نبوي يقول: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) ، فكيف نفسر هذا الاختلاف؟ لنستبعد الشك في صحة الحديث المذكور، فقتال المرتدين زمن خلافة أبي بكر واقعة تاريخية لا شك فيها، كما أن قتل المرتد مسألة لا خلاف فيها بين الفقهاء فهي بالتالي مسألة يحكمها الإجماع أيضاً، لماذا؟ لأن (المرتد) في هذه الحالة بعد قيام الدولة الإسلامية لم يكن مجرد شخص قد غيَّر عقيدته فحسب، بل هو شخص خرج عن الإسلام عقيدة ومجتمعاً ودولة، وإذا أخذنا بالاعتبار أن دولة الإسلام في المدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الأربعة كانت تخوض حرباً مستمرة مع (المشركين العرب ثم مع الروم والفرس) أدركنا أن المرتد زمن هذه الدولة هو في حكم الشخص الذي يخون وطنه ويتواطأ مع العدو زمن الحرب – بالتعبير المعاصر – وحروب الردة على عهد أبي بكر كانت ضد أناس لم يقتصروا فقط على خيانة دولة الإسلام التي انضموا إليها زمن النبي، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك إذ نظموا أنفسهم للانقضاض عليها بعد عصيانهم لقوانينها (أي الامتناع عن دفع الزكاة) فالمرتد بهذا المعنى هو من خرج على الدولة الإسلامية محارباً أو متآمراً أو جاسوساً للعدو.
وإذا فحكم الفقه الإسلامي على المرتد بهذا المعنى ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد، بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة فضلاً عن الدين والتواطؤ مع العدو أو التحول إلى لصٍ أو عدو محارب، ومن هنا نفهم كيف يربط الفقهاء بين حكم (المحارب) وهو من يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق، وبين (المرتد) ذلك أن (المرتد) في الخطاب الفقهي الإسلامي هو صنف من (المحاربين) وحكمه يختلف من فقيه إلى آخر حسب ما يكون (المرتد) محارباً بالفعل أم لا، فالمرتد المحارب يقتل باتفاق الفقهاء، أما قبل أن يحارب فاختلفوا، هل يستتاب أم لا، كما فرقوا بين المرتد إذا حارب وهو في دار الإسلام، وبين المرتد إذا لحق بدار الحرب (أرض العدو).
كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في المرتد لا من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه شخص خان المجتمع الإسلامي وخرج ضده نوعاً من الخروج، وما نريد أن نخلص إليه من كل ما سبق هو أن الوضع القانوني للمرتد لا يتجدد في الإسلام بمرجعية الحرية (كما هو الحال في إعلان حقوق الإنسان) حرية الاعتقاد، بل يتحدد بمرجعية ما تسميه اليوم (الخيانة للوطن) بإشهار الحرب على المجتمع والدولة).. ويبقى مطلوباً من الاجتهاد الفقهي المعاصر النظر في ما إذا كان المسلم الذي يعتنق ديناً آخر اعتناقاً فردياً لا يمس من قريب أو بعيد بالمجتمع الإسلامي ولا بالدولة الإسلامية يدخل في دائرة بالمعنى الفقهي الذي شرحناه أم يدخل في زمرة المرتدين الذين تحدثت عنهم الآيات التي تتوعد المرتدين الوعيد الأكبر ولكن دون التنصيص صراحة على وجوب قتلهم)، ويمكن القول حول موضوع الردة مايلي:
إن مفهوم الحدود المرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود الدولة الإسلامية الحاكمة المعروف مبادؤها يقوم على اعتبار الاعتداء على الحرمات الخمسة جريمة قد حددت عقوبتها في كتاب الله وسنة رسوله.
( ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة....وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقل وهو مناط التكليف، وإيجاب حد الزنى، إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها).
فقد كان حد الردة وجهاد الكفار لحفظ الدين، وحد القصاص لحفظ النفس، وحد الزنا والقذف لحفظ العرض والنسل وحد الشرب لحفظ العقل وحد السرقة لحفظ المال.
هذا هو فقه الحدود في الإسلام الذي جاء لصلاح الإنسان والمجتمع والبشرية، بينما تنظر العلمانية الغربية إلى القضية من زاوية ما يخص الغير كالقتل والسرقة فهي اعتداء على النفس والمال، أما الثلاثة الأخرى فهي أمور شخصية لا علاقة للدولة بها مثل الزنا وشرب الخمر والردة والكفر، فله الحرية فيها ومن جهة أخرى فلا علاقة للدين بالدولة، لأنه أمر تعبدي بين العبد وربه، أما الدين والإسلام عندنا، فهو شريعة تحكم الفرد والمجتمع والدولة، وهذا هو جوهر الخلاف حول مفهوم الردة، فالردة خيانة للدين والجاسوسية خيانة للوطن.
ب- حرية العبادة:
ومع أن حرية العبادة تكاد كل نظم الأرض تقر بها، ولا تتدخل في شؤون العباد، إذ أن الدين هذه النظم عبادة بين المؤمن وربه، فقط كانت النظم الدكتاتورية في الدول الشمولية تضطهد حتى حرية العبادة وحولت المساجد إلى متاحف أو اصطبلات أو رميم، وحين يكون المسلمون دعوة في الأرض، ودعاته فصيل من فصائل الأمة، فحرية العبادة متاحة للجميع، فقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل المجتمع الجاهلي ثلاثة عشر عاماً، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، لم يتعرض لها محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بأذى، وحين لم يكن له سلطة على مكة، وللمسلمين دولة قائمة خارج مكة، دخل إليها، وطاف وسعى مع المسلمين وأقام بها ثلاثة أيام دون أن يتعرض لصنم واحد بأذى في ظل الدولة الجاهلية، لكن الأمر اختلف بعد فتح مكة حين صارت مكة جزءاً من دولة الإسلام، فقد هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام في الكعبة المشرفة لا رفضاً لحرية العبادة كما يحلو للمستغلين أن يسموه، بل كان تصحيحاً لجريمة تاريخية في تحويل الكعبة بيت الله تعالى الذي بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإقامة التوحيد.
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}.
والدليل على ذلك أن كنائس النصارى وكنس اليهود بقيت قائمة خمسة عشر قرناً في ظل الدولة الإسلامية لم تُمس بأذى ولا يحق لأحد أن يتدخل بهذه الحرية، حتى أن الفاروق رضي الله عنه رفض أن يصلي بكنيسة القيامة حتى لا يعتبرها المسلمون فيما بعد موطن صلاة أمير المؤمنين فيحولوا الكنيسة إلى مسجد.
1ً- العبادة في الملأ: وحيث أن شعائر الأديان التي تعيش في ظل الإسلام لا تُقبل إلا في بيوت العبادة عندهم فلا غرو أن تكون صلواتهم داخل معابدهم لا على الملأ، وإن كان الإسلام لا يمنع غير المسلمين من إظهار شعائرهم الخاصة خارج معابدهم، فعدي بن حاتم يفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسجده وفي عنقه صليب ذهبي كبير، والذين جاؤوا وعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية كانوا يقدمون بالصليب على صدورهم وجباههم كما تقتضي شعائرهم، دون أن يمنعوا من ذلك.
2ً- الجهاد في الإسلام لحرية العبادة: وبلغت عظمة الإسلام أن يعلن في مبادئه أن الجهاد في سبيل الله إنما فرض ليس فقط لحماية أماكن العبادة للمسلمين، بل لحماية أماكن العبادة للنصارى واليهود كذلك، وهذا يعني أن الإسلام يقيم حرباً ويستجيش المسلمين للجهاد لو جاء من يريد هدم كنائس النصارى واليهود ولم يتعرض لمساجد المسلمين يشهد بذلك قول الله عز وجل: {ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج /من الآية 40).
جـ- حرية الدعوة:
والعقيدة التي لا يرافقها حرية الدعوة لها تختنق في القلب وتموت في الضمير، وكانت أكبر معاناة الجيل الأول في العهد المكي هو حرمانهم من حرية الدعوة، والذي يتصفح كتاب الله عز وجل يجد أنه عرض لمبادئ هذا الدين في صراعه مع خصومه، وتفنيد كل الباطل الذي يؤمنون به، ولو أن المسلمين اكتفوا الإسلام هو عقيدة مستترة في القلب لما كانت هذه المعارك كلها ضد الإسلام، لكن الخطر الذي كانوا يخشونه (أي الأعداء) هو انتشار هذا الدين ومبادئه من خلال حرية الدعوة إليه، خصوصاً أن هذه الحرية كانت متاحة لقائد الدعوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1ً- الدعوة بين المؤمنين بالفكرة: ولا شك أن هذه القضية من المسلمات التي لا يناقض فيها أحد، فكل حزب أخذ حق الوجود من حقه أن يشرح أفكاره وآرائه لمؤيديه والمنتسبين إليه، وقد تكون هذه الأفكار مناقضة لأسس الإسلام، لكن حرية وجوده إذا اعترف فيه، تقتضي حرية نشر أفكاره في صفوف أتباعه، وحين تكون الحركة الإسلامية دعوة لا سلطان لها، فلا مجال للشك أنها لا يحق لها أن تتدخل بشأن أحد، فالحركات المحاربة للإسلام أخذت شرعيتها من نظام الحكم الذي يحكم البلد، ولا يملك الدعاة إلى الله أكثر من الحوار مع خصومهم، مهما كانت الأفكار التي يحملونها.
2ً- الدعوة بين الخصوم:
ونضع هذا السؤال: لو أن دولة الإسلام قامت، فما هو موقفها من خصومها، هل هو المنع والعبادة والحرب كما يحلو للحاقدين أن يصموا الإسلاميين؟.
يكاد يكون الإسلام هو النظام الوحيد في العالم الذي أبقى خصومه الفكريين داخل دولته من اليهود والنصارى وحماهم من أي اعتداء، وحمى أرواحهم ومعابدهم وأموالهم وحافظ على وجودهم مقابل الجزية الرمزية التي يأخذها منهم وهذا موقف المقوقس حاكم مصر يجلي هذا الأمر (قال المقوقس لمن حوله: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله مالكم بهم من طاقة، إن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين، فقالوا: وأي خصلة نجيب إليها؟ قال: أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليه، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة قالوا: أفنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم تكونوا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيداً تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهليكم وذراريكم)، ثم اختار القوم الجزية (فصالح على جميع من فيها من الرجال من القبط من راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبي، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية ألف ألف).
ولم يمر إلا قليل من الزمن حتى غدت مصر أرض العروبة والإسلام بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة.
لا يزال السؤال قائماً: هل يحق لخصوم الإسلام أن يدعو لأفكارهم المسلمين في ظل الدولة الإسلامية، والجواب هو أن هذا الحق قائم لهم من خلال الندوات المنتظمة مع دعاة المسلمين وعلمائهم، لا من خلال الاتصالات المباشرة المفتوحة مع عامة الناس، ونستشهد على ذلك بما يلي:
آ- الدارس لكتاب الله، ولعقائد الخصوم التي عرضها ثم دحضها يلاحظ – لحدٍ ما – اختلاف المضمون فقط بين المرحلتين المكية والمدنية، ففي المرحلة المكية كان الرد ينصب على عقائد المشركين ويدحضها بالحجة والبينة، وفي المرحلة المدنية وللإسلام دولته كان الرد ينصب على عقائد النصارى واليهود ويدحضها بالحجة والبينة، وغدا القرآن المدني كأنما هو عرض لتاريخ بني إسرائيل كاملاً وتصحيحه ولعقائد اليهود والنصارى وتصحيحها.
ب- كان المسجد النبوي موطن الحوار والنقاش بين المسلمين من جهة وبين النصارى واليهود من جهة أخرى، والمسلمون يشهدون الحوار علناً بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قسس النصارى وأحبار اليهود الوافدين من اليمن ومن خيبر والمقيمين في المدينة، وحيث أن الإسلام اعترف بوجودهم، فقد اعترف بحقهم في عرض أفكارهم ضمن المعابر الرسمية,وما سورة البقرة وآل عمران والمائدة والأعراف إلا عرضاً لهذا الحوار الفكري.
جـ- أوضح القرآن الكريم منهج التعامل مع خصومه الفكريين في ظل دولة الإسلام بقوله عز وجل:
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} .
كما هيأ المسلمين نفسياً لسماع هذه الأفكار المضادة وضرورة الصبر عليها لا قمعها.
{لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} .
د- وتاريخ الدول الإسلامية المتتابعة خلال التاريخ يحوي الكثير من الندوات الرسمية التي كانت تتم في قصور الخلفاء بين علماء المسلمين، ورجال الدين من أهل الكتاب حتى مع غير أهل الكتاب من أصحاب العقائد الضالة.
د- الحرية الإنسانية:
1ً- الحرية من الرق:
( يكفي أن القول إنه ليس في الإسلام أحكام تكرس الاسترقاق، هناك أحكام تخص أسرى الحرب وأخرى تجعل تحرير العبيد عملاً تعبدياً (أي فك رقبة في الكفارات) ومطلباً اجتماعياً (أي فداء الأسرى) والرق ظاهرة تاريخية تعاملت معها الديانات السماوية من يهودية ونصرانية، كما تعاملت معها الفلسفة اليونانية ولم يُحرَّم الرق إلا في العصر الحديث، أم الاتجاه العام في التشريع الإسلامي فهو يميل من دون شك إلى تصفية هذه الظاهرة وذلك انطلاقاً من مبدأ أن الإنسان خُلقَ حراً) .
ويوم حرِّر الرقيق في هذا العصر، وأقر الخليفة الإسلامي العثماني هذا التحرير، فإن هذا يعني انتهاء الرق ويعني أن أية محاولة لإعادته هي من أكبر الكبائر في الإسلام.
فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قال الله تعالى: (( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) .
ولقد جعل الله تعالى ملك اليمين مفتوحاً للرجل، فهو الخبير بمن خلق فكل جارية ملك يمين للرجل، حين تلد ولداً يكون ولدها حراً، فولد الحر حر، وترتفع هي لتكون أم ولد فلا تباع ولا توهب، وبذلك يتحول العبيد إلى أحرار بالفطرة البشرية، وينشأ جيل الأحرار الذي ينقبض معه جيل العبيد، وفي تجفيف منابع الرق ينتهي الرق، هذا من جهة ومن جهة ثانية، سعى الإسلام لتحرير نفوس العبيد، فيذوقون طعم الحرية، وعندئذ يصبح العبد عن طريق المكاتبة مدرباً على المسؤولية فيشتري نفسه بنفسه، وينتهي حراً لا كَلاً على سيده، ويخلص من ربقة الرق إلى الحرية.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
2ً- الحرية من الاستعمار:
والعجيب أن يكون الاستعمار من نتاج الديمقراطية الغربية، وهي التي قننته بحجة قصور الأمم التي تستعمرها وتخلفها، ولقد ذاقت هذه الشعوب من أفانين العبودية ما ذاقه الرقيق على يد السادة.
كما يقول شوقي:
وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لا ترق
وللحريـة الحمـراء بـاب بكل يـد مضـرجـة يدق
وكم أريق من أنهار الدماء من الأمم المظلومة حتى تحررت من نير الاستعمار الغربي، ولقد قاد ثورات التحرير في الأراضي الإسلامية علماء الأمة وفقهاؤها انطلاقاً من الروح الإسلامية التي يحملونها، والمبادئ الإسلامية التي يعتنقونها، وحيث أنا نتحدث عن الحرية الفردية، وحق كل فرد أن يكون حراً في حياته لا يستعمر أرضه أجنبي أو محتل كافر، يكفينا في هذا المجال تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للشهادة ودفع الإسلام كل مسلم ليموت ذوداً ودفاعاً عن مقدساته.
فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد)) .
هذه النفسية التي رباها الإسلام عند كل مسلم أن يقتل دون مقدساته، ماله وأهله ودينه ونفسه وجاء الفقه الإسلامي انطلاقاً من هذه المعنى ليجعل الجهاد فرض عين على كل مسلم حتى يجتاح العدو الكافر أرض الإسلام، بل يلغي كثيراً من المسلمات في مثل هذه الحالة كاستئذان المرأة زوجها واستئذان العبد سيده، واستئذان الصبي أهله، هؤلاء الذين لا يفرض الإسلام عليهم الجهاد أبداً إلا في حالة الغزو الخارجي.
( الثاني: يدخلون بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن تأهُبٌ لقتال وجب الممكن حتى على فقير وولد ومدين وعبد بلا إذن فمن قُصد دفع عن نفسه بالممكن إن علم أنه إن أُخِذَ قُتل) .
وحتى المرأة فقد فصَّل الفقه في ذلك (أما المرأة فإن خافت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإن قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل، وإن لم تمتد الأيدي إليها بالفاحشة الآن، ولكن توقعتها بيد السيء احتمال جواز استسلامها ثم تدفع إذا أريد منها) .
3ً- الحرية من الاستعباد:
فالاستعمار مصطلح العدو الخارجي، أما الاستعباد فهو ظلم الطغاة لشعوبهم، وقد جعل الإسلام القتل دفاعاً عن هذه الحرية امتداداً للشهادة في سبيل الله، فالنص السابق الذي ذكرناه لم يحدد الظالم ولم يتعرض لنوعه، سيان كان أجنبياً محتلاً أو حاكماً طاغية، فمن يقتل دون ماله ودون مظلمته، ودون دمه ودون أهله فهو شهيد، فالأمر منصب على مقاومة الظلم وليس المهم جهة هذا الظلم، وهناك من النصوص ما كان خاصاً بالحاكم الظالم الطاغية، ومما ورد في ذلك فقد جعل الإسلام أفضل الجهاد هو مواجهة الظالمين ومقاومة الظلم، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) ، ولو أدى قول الحق إلى أن يدفع حياته ثمناً لكلمة الحق، فهو مع سيد الشهداء حمزة ومثله.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه فقتله)) .
ولا يعذر الإسلام أبداً من يرضخ لظلم ويقبله، إنما عليه أن يعمل جاهداً لإزاحة هذا الظلم ولو اقتضى الأمر الهجرة عند العجز عن المواجهة حرصاً على حريته.
يقول عز وجل: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} والمعذورون هم فقط (المستضعفون من الرجال والنساء والولدان) .
{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفورا} .
وهذا هو مبرر هجرة المؤمنين إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى ملك عادل، حيث لم يكن يسمح لهم بالمواجهة المسلحة وكانوا مأمورين بكف اليد، فقالوا لملك الحبشة (.. فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك) .
يجب أن لا يفرض النظام الحاكم على الأمة بقوة السلاح، ومن الحرية الفردية للإنسان إذن كما تنص حقوق الإنسان (لكل فرد الحق في أن يشترك في حكومة بلده مباشرة أو عن طريق ممثلين مختارين بحرية).
هـ- الحرية القضائية:
وإذا كانت السلطة التنفيذية قد أصابها الخلل، فلا أقل من أن يبقى القضاء مستقلاً لا سلطان لأحد عليه ويطمئن المواطن إلى حريته كاملة وأهم هذه الحريات هي:
1ً- لا عقوبة إلا بنص: فلا يجوز أن يُساق المواطن إلى المحاكمة في أمر لم ينص القانون على تجريمه فيه، وهذا مفهوم أن الإسلام يجب ما قبله، فما يعتبر جريمة في الإسلام لا يحاسب الكافر عليها بعد إسلامه، والله تعالى من عدله العظيم في خلقه أنه لا يحاسب ولا يعاقب إلا بعد إرسال الرسل، فنصوص الكتب المقدسة هي التي تحمِّل الناس مسؤولية معصيتهم، وهذا هو مدلول قول الله عز وجل:
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
فأحكام الشرائع التي يأتي بها الرسل هي الحجة على الخلق، وهو مدلول قول الله عز وجل:
{رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وهذا يتمثل في واقع الدولة المسلمة كذلك، فلا تجوز العقوبة إلا بنص شرعي أو قانوني على المخالفة أو المعصية، ولا بد أن تكون قد وصلت هذه النصوص إلى المواطن أو هو قادر على الوصول إليها.
2ً- المتهم بريء حتى يُدان: فلا تجوز العقوبة على الشبهات، ويقف الإسلام بجوار الإنسان ضد الدولة، فلا يكتفي أن يحكم ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته، بل يحض في روحه إلى محاولة إبعاد الاتهام عن المواطن لإثبات براءته، نستقي ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إدرؤوا الحدود بالشبهات)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)).
الفرق كبير جداً بين أن يكون الأصل البريء متهم حتى يُدان، فهو يؤخذ على الشبهة، ويحقق معه أحياناً لسنوات طويلة، فإذا ثبتت براءته خرج كما هو الحال في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، وبين اعتبار المتهم بريء حتى يُدان كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، وبين توجيه القضاء لإخلاء السبيل بالشبهة، ورفع العقوبة بالشبهة، وأن يحمل القاضي خطأ العفو خير من أن يحمل خطأ العقوبة كما هو الحال في النظام القضائي الإسلامي.
3ً- حق المتهم في الدفاع عن نفسه:
وهو أمر بديهي تقتضيه الفطرة البشرية، لكن معظم الأنظمة الحاكمة لا تعطيه هذا الحق، بل تفرض عليه الاعتراف بالجريمة، وذلك حين تفسد الذمم، ويصبح القضاء ألعوبة بيد الحاكمين، وتبلغ المهازل حدها الوضيع حيث تعيِّن الدولة – باسم قانون الطوارئ – محامياً للدفاع عن المتهم، ولا نجد أعظم من الإسلام في إعطاء هذا الحق للمتهم في كل الشرائع الوضعية، حتى ليبلغ هذا الحق للأقدر في الوصول إلى حقه من خلال بلاغته وحجته، فيحذره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إن حَكَم له لقوة حجته وبراعة منطقه وضعف حجة خصمه، فلا يعني هذا أنه صاحب الحق عند الله، لكن القاضي يحكم بالظاهر ويدع السرائر إلى الله عز وجل، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته (أقوى)، أو قال لحجته من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة).
فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) .
بل اعتبر عدم سماع أقوال الخصم ظلم يحاسب عليه القاضي إن حكم بدونه، وهي خطيئة داود عليه الصلاة والسلام التي حوسب وعوتب عليها، يقول القرطبي:
( الحادية عشرة – قوله تعالى: (قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت بينة، ولا إقرار من الخصم، هل كان هذا أو لم يكن، فهذا قول) ، فقال تعالى له: {يا داود إنِّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} .
وهو ما نصَّ عليه ميثاق حقوق الإنسان..
4ً- المعاملة الإنسانية: وهي من المسلمات الفطرية التي لا تحتاج إلى نص، لكن ما العمل إذا صار الأصل هو المعاملة الحيوانية في أقبية المخابرات والسجون، وصار الأصل أن يضرب المواطن ويجلد ويعذب حتى يفقد وعيه، ويهترئ جلده، وتنهشه الكلاب المسعورة، تنتف لحيته، وتنتزع أظافره ويكسر هره، وتُقتل خصوبته، ويخرج معتوهاً أو مجنوناً من السجن، لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التعذيب حتى للحيوان المذبوح.
(( إن الله كتب الإحسان في كل شي، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) .
ونهى الإسلام عن تعذيب أي روح مخلوقة، فقد كان الناس يضعون حيواناً حياً هدفاً يرمونه، فقال عليه الصلاة والسلام: (( لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً)) .
أما تعذيب الإنسان فقد جاء فيه نص خاص...
فعن عروة بن الزبير قال: مرَّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قال: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) .
وفي رواية (( إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس)) .
وإذا كان سبب الرواية السابقة التعذيب بالحبس، فسبب الرواية الثانية التعذيب بالجلد.
فعن شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم صاحب دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض).
5ً- منع الاعتقال والاحتجاز التعسفي: ولنا من الرواية الأولى وسببها ما يمنع الحبس الذي احتج هشام عليه، لأن هؤلاء قد تخلفوا عن دفع الجزية، فذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة، ولا شك أن هناك فرق كبير بين الاعتقال الاحتياطي على ذمة التحقيق لبضعة أيام قد تضطر إليه الدولة، ومن الاعتقال التعسفي الذي يمتد لبضعة سنوات على ذمة التحقيق، فقد دعيت فتاة سورية لخمس دقائق إلى التحقيق معها في أقبية المخابرات فامتدت هذه الفترة لتسعة سنوات، وكتبت قصة حياتها وسمتها، خمس دقائق أو تسع سنوات سجن.
فلم يرض هشام بن حكيم رضي الله عنه سجناً لعدة ساعات قائلاً: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا.
و- الحرية السياسة:
وتكاد تكون أهم أنواع الحريات، وغالباً عندما ينطلق الحديث عن الحرية ما ينصب على الحرية السياسية، وعلى الديمقراطية التي تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وأهم جوانب الحرية السياسية هي:
1ً- حرية المواطن في الانتماء الحزبي: وهذه نقطة البدء في الحريات السياسية إذ تقوم الأحزاب بتقديم برامج العمل والمبادئ التي تسعى لتطبيقها، ويختار المواطن بناءً على هذه المبادئ والمناهج الحزب الذي يمثل قناعته، وله كامل الحق في أن يختار الحزب الذي يريد، ونظرة إلى المجتمع الإسلامي الأول ترانا نشهد أحزاباً متنوعة في ظل دولة النبوة، دولة العقيدة مع أن دستور الدولة الإسلام، فهناك حزب المهاجرين وحزب الأنصار، وحزب الأنصار ينقسم إلى فرعين كبيرين هما الأوس والخزرج، وهناك حزب المنافقين على رأسه عبد الله بن أبي، وحزب اليهود الذي كان موزعاً على ثلاث قيادات أو قل، أحزاب اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير، وكان من حق كل فرد أن يكون منتمياً لأي من هذه الأحزاب، والذي يرجع إلى نص وثيقة المدينة يشهد مدى الحرية الحزبية للأفراد فيها .
2ً- حريته في اختيار الحاكم: والذي اطلع سقيفة بني ساعدة، والمداولات التي تمت في اختيار الحاكم بين الأحزاب المختلفة، ثم البيعة الشخصية لكل فرد يعرف مدى هذه الحرية التي مارسها الجيل واقعاً لا كلاماً، ويكفي أن الإسلام اعتبر أن خير الأمراء الذين يقومون على الحب والثقة لا الذين يقومون على التسلط والقهر، فعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ألا أخبركم بخير أمرائكم وشرارهم، خيار أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)) .
بل يجعل الإسلام العلاقة بين كل فرد في الأمة وبين الحاكم علاقة تعاقد قائمة على البيعة المباشرة والتي يعادلها اليوم الإدلاء بالصوت الانتخابي في الاقتراع السري، ويؤكد أن هذا العقد يجب أن يقوم على الكفاءة لا على المصلحة الخاصة، ولا على القرابة والهوى.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال: ((... ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر))، فالبيعة والاختيار للحاكم تقوم على الرضا والرغبة القلبية (فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه).
3ً- حريته في نقد الحاكم: والأمر في الإسلام أكبر من الحرية وأكبر من الحق، إنه واجب مناط بالمسلم، أن يقول الحق، كوجوب الطاعة عليه للأمير سواء بسواء، ولا تعني الطاعة أبداً الموافقة في الخير والشر، وأوضح ما يبرز هذا المعنى ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه حيث قال:
( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) .
فنقد الحاكم حين يخطئ، وضمن المعابر الدستورية من الصحافة ومجلس الشعب وفي صفوف الحزب هو من حق المواطن لا على أن يكون التشهير هدفه.
وفي حديث آخر ربط البراءة من النفاق بقول الحق عند الحاكم:
فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، إلا من رضي وتابع)) .
4ً- حريته في الاجتماع العام وإبداء الرأي: عندما تكون الحياة الشورية الحرة هي التي تسود في الأمة، ويكون التنظيم الحزبي مشروعاً من الدولة المسلمة، فمن حق المواطن المنتمي لحزبه أن يدعو لاجتماع عام في مركز الحزب أو في مرفق عام ويعلن كلمته ورأيه في الحاكم دون حرج، وما احتجاج الأنصار على توزيع غنائم حنين إلا صورة من هذه الصور، حيث اجتمعوا واتفقوا على إبلاغ رأيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن موقفه منهم إلا عندما دعاهم لاجتماع خاص وأبلغهم ذلك (فعن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله تعالى على رسوله ما أفاء من أموال هوازن فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال فجمع النبي صلى الله عليه وسلم ناساً من الأنصار، فقال: إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى)، فسيد ولد آدم لا يجد حرجاً من العتب، ويجمع حزب الأنصار ليزيل الالتباس في التصرف النبوي، فأي حاكم يحق له أن يمنع الاحتجاج العام وإبداء الرأي وهو ينتمي إلى الإسلام، وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وحث عليه، وأوضح الموقف الصحيح في هذه الأجواء؟.
ز- الحرية الاقتصادية:
وهي التي تضمن للمواطن حق التملك، وحق التصرف في ملكه، واختيار المهنة التي يريد وحرية الانضمام إلى النقابات التي تضمن له حقوقه، وتدافع عن مكتسباته.
1ً- حرية التملك: وهي التي نص عليها القرآن الكريم ابتداءً بقوله عز وجل:
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما} .
والحديث النبوي الشريف الذي حرَّم الاعتداء على المال مثل حرمة الاعتداء على النفس، مثل حرمة الاعتداء على العرض، كما قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وهو يعلن هذا الأمر إلى قيام الساعة ((إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، اللهم هل بلغت، قالوا: نعم، اللهم اشهد)).
( فالله تعالى هو الذي وضع جميع الموارد تحت تصرف البشر، والإنسان بوصفه خليفة ليس هو المالك الأساسي لهذه الموارد، بل هو مجرد أمين عليها {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وفي حين أن هذه الأمانة لا تعني إنكار الملكية الخاصة فإنها تنطوي على عدد من الآثار الهامة التي توجد فرقاً ثورياً بين مفهوم الملكية الخاصة لموارد في الإسلام وفي النظم الاقتصادية الأخرى).
2ً- حرية التصرف: وهذا الذي يقودنا إلى حرية التصرف، فحرية التصرف قائمة في المال في حدود الشريعة، ففي المال حق للسائل والمحروم، وفي المال حق سوى الزكاة.
{والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} ، وهذا الحق ليس صدقة من الغني على الفقير، بل هو حق الله تعالى في هذا المال؛ هو للفقير وليس للغني، ولله تعالى حقوق أخرى سوى الزكاة، تدرس في نظامها وما عدا ذلك فلا سلطة على صاحب المال لأحد يتصرف به كما يشاء.
وحتى الموارد التي يتم الحصول عليها بطريقة مشروعة يجب التصرف بها وفقاً لشروط الأمانة بتدمير أو هدر الموارد التي حبا الله الإنسان بها، ويمكن التدخل في التصرف حين يسيء المالك التصرف بالتبذير لأن المال حق للأمة إضافة إلى حق الفرد: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا} .
3ً- حرية اختيار العمل والمهنة التي يريد: فقد وجه الإسلام فقط للاحتراف تاركاً الاختيار للشخص أن يختار ما يشاء من علم يكسب به قوته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)).
بل ترتفع إلى مستوى الفريضة كما في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة)) .
وليس هناك مهنة غير قابلة للعمل حتى الاحتطاب كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب، ثم يأتي به يحمله على ظهره فيبيعه فيأكل خير له من أن يسأل الناس، ولأن يأخذ تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ماحرم الله عليه)).
والعجيب أن يكون الاستعمار من نتاج الديمقراطية الغربية، وهي التي قننته بحجة قصور الأمم التي تستعمرها وتخلفها، ولقد ذاقت هذه الشعوب من أفانين العبودية ما ذاقه الرقيق على يد السادة.
كما يقول شوقي:
وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لا ترق
وللحريـة الحمـراء بـاب بكل يـد مضـرجـة يدق
وكم أريق من أنهار الدماء من الأمم المظلومة حتى تحررت من نير الاستعمار الغربي، ولقد قاد ثورات التحرير في الأراضي الإسلامية علماء الأمة وفقهاؤها انطلاقاً من الروح الإسلامية التي يحملونها، والمبادئ الإسلامية التي يعتنقونها، وحيث أنا نتحدث عن الحرية الفردية، وحق كل فرد أن يكون حراً في حياته لا يستعمر أرضه أجنبي أو محتل كافر، يكفينا في هذا المجال تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للشهادة ودفع الإسلام كل مسلم ليموت ذوداً ودفاعاً عن مقدساته.
فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد)) .
هذه النفسية التي رباها الإسلام عند كل مسلم أن يقتل دون مقدساته، ماله وأهله ودينه ونفسه وجاء الفقه الإسلامي انطلاقاً من هذه المعنى ليجعل الجهاد فرض عين على كل مسلم حتى يجتاح العدو الكافر أرض الإسلام، بل يلغي كثيراً من المسلمات في مثل هذه الحالة كاستئذان المرأة زوجها واستئذان العبد سيده، واستئذان الصبي أهله، هؤلاء الذين لا يفرض الإسلام عليهم الجهاد أبداً إلا في حالة الغزو الخارجي.
( الثاني: يدخلون بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن تأهُبٌ لقتال وجب الممكن حتى على فقير وولد ومدين وعبد بلا إذن فمن قُصد دفع عن نفسه بالممكن إن علم أنه إن أُخِذَ قُتل) .
وحتى المرأة فقد فصَّل الفقه في ذلك (أما المرأة فإن خافت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإن قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل، وإن لم تمتد الأيدي إليها بالفاحشة الآن، ولكن توقعتها بيد السيء احتمال جواز استسلامها ثم تدفع إذا أريد منها) .
3ً- الحرية من الاستعباد:
فالاستعمار مصطلح العدو الخارجي، أما الاستعباد فهو ظلم الطغاة لشعوبهم، وقد جعل الإسلام القتل دفاعاً عن هذه الحرية امتداداً للشهادة في سبيل الله، فالنص السابق الذي ذكرناه لم يحدد الظالم ولم يتعرض لنوعه، سيان كان أجنبياً محتلاً أو حاكماً طاغية، فمن يقتل دون ماله ودون مظلمته، ودون دمه ودون أهله فهو شهيد، فالأمر منصب على مقاومة الظلم وليس المهم جهة هذا الظلم، وهناك من النصوص ما كان خاصاً بالحاكم الظالم الطاغية، ومما ورد في ذلك فقد جعل الإسلام أفضل الجهاد هو مواجهة الظالمين ومقاومة الظلم، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) ، ولو أدى قول الحق إلى أن يدفع حياته ثمناً لكلمة الحق، فهو مع سيد الشهداء حمزة ومثله.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه فقتله)) .
ولا يعذر الإسلام أبداً من يرضخ لظلم ويقبله، إنما عليه أن يعمل جاهداً لإزاحة هذا الظلم ولو اقتضى الأمر الهجرة عند العجز عن المواجهة حرصاً على حريته.
يقول عز وجل: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} والمعذورون هم فقط (المستضعفون من الرجال والنساء والولدان) .
{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفورا} .
وهذا هو مبرر هجرة المؤمنين إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى ملك عادل، حيث لم يكن يسمح لهم بالمواجهة المسلحة وكانوا مأمورين بكف اليد، فقالوا لملك الحبشة (.. فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك) .
يجب أن لا يفرض النظام الحاكم على الأمة بقوة السلاح، ومن الحرية الفردية للإنسان إذن كما تنص حقوق الإنسان (لكل فرد الحق في أن يشترك في حكومة بلده مباشرة أو عن طريق ممثلين مختارين بحرية).
هـ- الحرية القضائية:
وإذا كانت السلطة التنفيذية قد أصابها الخلل، فلا أقل من أن يبقى القضاء مستقلاً لا سلطان لأحد عليه ويطمئن المواطن إلى حريته كاملة وأهم هذه الحريات هي:
1ً- لا عقوبة إلا بنص: فلا يجوز أن يُساق المواطن إلى المحاكمة في أمر لم ينص القانون على تجريمه فيه، وهذا مفهوم أن الإسلام يجب ما قبله، فما يعتبر جريمة في الإسلام لا يحاسب الكافر عليها بعد إسلامه، والله تعالى من عدله العظيم في خلقه أنه لا يحاسب ولا يعاقب إلا بعد إرسال الرسل، فنصوص الكتب المقدسة هي التي تحمِّل الناس مسؤولية معصيتهم، وهذا هو مدلول قول الله عز وجل:
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
فأحكام الشرائع التي يأتي بها الرسل هي الحجة على الخلق، وهو مدلول قول الله عز وجل:
{رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وهذا يتمثل في واقع الدولة المسلمة كذلك، فلا تجوز العقوبة إلا بنص شرعي أو قانوني على المخالفة أو المعصية، ولا بد أن تكون قد وصلت هذه النصوص إلى المواطن أو هو قادر على الوصول إليها.
2ً- المتهم بريء حتى يُدان: فلا تجوز العقوبة على الشبهات، ويقف الإسلام بجوار الإنسان ضد الدولة، فلا يكتفي أن يحكم ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته، بل يحض في روحه إلى محاولة إبعاد الاتهام عن المواطن لإثبات براءته، نستقي ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إدرؤوا الحدود بالشبهات)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)).
الفرق كبير جداً بين أن يكون الأصل البريء متهم حتى يُدان، فهو يؤخذ على الشبهة، ويحقق معه أحياناً لسنوات طويلة، فإذا ثبتت براءته خرج كما هو الحال في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، وبين اعتبار المتهم بريء حتى يُدان كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، وبين توجيه القضاء لإخلاء السبيل بالشبهة، ورفع العقوبة بالشبهة، وأن يحمل القاضي خطأ العفو خير من أن يحمل خطأ العقوبة كما هو الحال في النظام القضائي الإسلامي.
3ً- حق المتهم في الدفاع عن نفسه:
وهو أمر بديهي تقتضيه الفطرة البشرية، لكن معظم الأنظمة الحاكمة لا تعطيه هذا الحق، بل تفرض عليه الاعتراف بالجريمة، وذلك حين تفسد الذمم، ويصبح القضاء ألعوبة بيد الحاكمين، وتبلغ المهازل حدها الوضيع حيث تعيِّن الدولة – باسم قانون الطوارئ – محامياً للدفاع عن المتهم، ولا نجد أعظم من الإسلام في إعطاء هذا الحق للمتهم في كل الشرائع الوضعية، حتى ليبلغ هذا الحق للأقدر في الوصول إلى حقه من خلال بلاغته وحجته، فيحذره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إن حَكَم له لقوة حجته وبراعة منطقه وضعف حجة خصمه، فلا يعني هذا أنه صاحب الحق عند الله، لكن القاضي يحكم بالظاهر ويدع السرائر إلى الله عز وجل، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته (أقوى)، أو قال لحجته من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة).
فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) .
بل اعتبر عدم سماع أقوال الخصم ظلم يحاسب عليه القاضي إن حكم بدونه، وهي خطيئة داود عليه الصلاة والسلام التي حوسب وعوتب عليها، يقول القرطبي:
( الحادية عشرة – قوله تعالى: (قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت بينة، ولا إقرار من الخصم، هل كان هذا أو لم يكن، فهذا قول) ، فقال تعالى له: {يا داود إنِّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} .
وهو ما نصَّ عليه ميثاق حقوق الإنسان..
4ً- المعاملة الإنسانية: وهي من المسلمات الفطرية التي لا تحتاج إلى نص، لكن ما العمل إذا صار الأصل هو المعاملة الحيوانية في أقبية المخابرات والسجون، وصار الأصل أن يضرب المواطن ويجلد ويعذب حتى يفقد وعيه، ويهترئ جلده، وتنهشه الكلاب المسعورة، تنتف لحيته، وتنتزع أظافره ويكسر هره، وتُقتل خصوبته، ويخرج معتوهاً أو مجنوناً من السجن، لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التعذيب حتى للحيوان المذبوح.
(( إن الله كتب الإحسان في كل شي، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) .
ونهى الإسلام عن تعذيب أي روح مخلوقة، فقد كان الناس يضعون حيواناً حياً هدفاً يرمونه، فقال عليه الصلاة والسلام: (( لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً)) .
أما تعذيب الإنسان فقد جاء فيه نص خاص...
فعن عروة بن الزبير قال: مرَّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قال: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) .
وفي رواية (( إن من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس)) .
وإذا كان سبب الرواية السابقة التعذيب بالحبس، فسبب الرواية الثانية التعذيب بالجلد.
فعن شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم صاحب دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض).
5ً- منع الاعتقال والاحتجاز التعسفي: ولنا من الرواية الأولى وسببها ما يمنع الحبس الذي احتج هشام عليه، لأن هؤلاء قد تخلفوا عن دفع الجزية، فذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة، ولا شك أن هناك فرق كبير بين الاعتقال الاحتياطي على ذمة التحقيق لبضعة أيام قد تضطر إليه الدولة، ومن الاعتقال التعسفي الذي يمتد لبضعة سنوات على ذمة التحقيق، فقد دعيت فتاة سورية لخمس دقائق إلى التحقيق معها في أقبية المخابرات فامتدت هذه الفترة لتسعة سنوات، وكتبت قصة حياتها وسمتها، خمس دقائق أو تسع سنوات سجن.
فلم يرض هشام بن حكيم رضي الله عنه سجناً لعدة ساعات قائلاً: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا.
و- الحرية السياسة:
وتكاد تكون أهم أنواع الحريات، وغالباً عندما ينطلق الحديث عن الحرية ما ينصب على الحرية السياسية، وعلى الديمقراطية التي تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وأهم جوانب الحرية السياسية هي:
1ً- حرية المواطن في الانتماء الحزبي: وهذه نقطة البدء في الحريات السياسية إذ تقوم الأحزاب بتقديم برامج العمل والمبادئ التي تسعى لتطبيقها، ويختار المواطن بناءً على هذه المبادئ والمناهج الحزب الذي يمثل قناعته، وله كامل الحق في أن يختار الحزب الذي يريد، ونظرة إلى المجتمع الإسلامي الأول ترانا نشهد أحزاباً متنوعة في ظل دولة النبوة، دولة العقيدة مع أن دستور الدولة الإسلام، فهناك حزب المهاجرين وحزب الأنصار، وحزب الأنصار ينقسم إلى فرعين كبيرين هما الأوس والخزرج، وهناك حزب المنافقين على رأسه عبد الله بن أبي، وحزب اليهود الذي كان موزعاً على ثلاث قيادات أو قل، أحزاب اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير، وكان من حق كل فرد أن يكون منتمياً لأي من هذه الأحزاب، والذي يرجع إلى نص وثيقة المدينة يشهد مدى الحرية الحزبية للأفراد فيها .
2ً- حريته في اختيار الحاكم: والذي اطلع سقيفة بني ساعدة، والمداولات التي تمت في اختيار الحاكم بين الأحزاب المختلفة، ثم البيعة الشخصية لكل فرد يعرف مدى هذه الحرية التي مارسها الجيل واقعاً لا كلاماً، ويكفي أن الإسلام اعتبر أن خير الأمراء الذين يقومون على الحب والثقة لا الذين يقومون على التسلط والقهر، فعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ألا أخبركم بخير أمرائكم وشرارهم، خيار أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)) .
بل يجعل الإسلام العلاقة بين كل فرد في الأمة وبين الحاكم علاقة تعاقد قائمة على البيعة المباشرة والتي يعادلها اليوم الإدلاء بالصوت الانتخابي في الاقتراع السري، ويؤكد أن هذا العقد يجب أن يقوم على الكفاءة لا على المصلحة الخاصة، ولا على القرابة والهوى.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال: ((... ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر))، فالبيعة والاختيار للحاكم تقوم على الرضا والرغبة القلبية (فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه).
3ً- حريته في نقد الحاكم: والأمر في الإسلام أكبر من الحرية وأكبر من الحق، إنه واجب مناط بالمسلم، أن يقول الحق، كوجوب الطاعة عليه للأمير سواء بسواء، ولا تعني الطاعة أبداً الموافقة في الخير والشر، وأوضح ما يبرز هذا المعنى ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه حيث قال:
( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) .
فنقد الحاكم حين يخطئ، وضمن المعابر الدستورية من الصحافة ومجلس الشعب وفي صفوف الحزب هو من حق المواطن لا على أن يكون التشهير هدفه.
وفي حديث آخر ربط البراءة من النفاق بقول الحق عند الحاكم:
فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، إلا من رضي وتابع)) .
4ً- حريته في الاجتماع العام وإبداء الرأي: عندما تكون الحياة الشورية الحرة هي التي تسود في الأمة، ويكون التنظيم الحزبي مشروعاً من الدولة المسلمة، فمن حق المواطن المنتمي لحزبه أن يدعو لاجتماع عام في مركز الحزب أو في مرفق عام ويعلن كلمته ورأيه في الحاكم دون حرج، وما احتجاج الأنصار على توزيع غنائم حنين إلا صورة من هذه الصور، حيث اجتمعوا واتفقوا على إبلاغ رأيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن موقفه منهم إلا عندما دعاهم لاجتماع خاص وأبلغهم ذلك (فعن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله تعالى على رسوله ما أفاء من أموال هوازن فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال فجمع النبي صلى الله عليه وسلم ناساً من الأنصار، فقال: إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى)، فسيد ولد آدم لا يجد حرجاً من العتب، ويجمع حزب الأنصار ليزيل الالتباس في التصرف النبوي، فأي حاكم يحق له أن يمنع الاحتجاج العام وإبداء الرأي وهو ينتمي إلى الإسلام، وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وحث عليه، وأوضح الموقف الصحيح في هذه الأجواء؟.
ز- الحرية الاقتصادية:
وهي التي تضمن للمواطن حق التملك، وحق التصرف في ملكه، واختيار المهنة التي يريد وحرية الانضمام إلى النقابات التي تضمن له حقوقه، وتدافع عن مكتسباته.
1ً- حرية التملك: وهي التي نص عليها القرآن الكريم ابتداءً بقوله عز وجل:
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما} .
والحديث النبوي الشريف الذي حرَّم الاعتداء على المال مثل حرمة الاعتداء على النفس، مثل حرمة الاعتداء على العرض، كما قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وهو يعلن هذا الأمر إلى قيام الساعة ((إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، اللهم هل بلغت، قالوا: نعم، اللهم اشهد)).
( فالله تعالى هو الذي وضع جميع الموارد تحت تصرف البشر، والإنسان بوصفه خليفة ليس هو المالك الأساسي لهذه الموارد، بل هو مجرد أمين عليها {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وفي حين أن هذه الأمانة لا تعني إنكار الملكية الخاصة فإنها تنطوي على عدد من الآثار الهامة التي توجد فرقاً ثورياً بين مفهوم الملكية الخاصة لموارد في الإسلام وفي النظم الاقتصادية الأخرى).
2ً- حرية التصرف: وهذا الذي يقودنا إلى حرية التصرف، فحرية التصرف قائمة في المال في حدود الشريعة، ففي المال حق للسائل والمحروم، وفي المال حق سوى الزكاة.
{والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} ، وهذا الحق ليس صدقة من الغني على الفقير، بل هو حق الله تعالى في هذا المال؛ هو للفقير وليس للغني، ولله تعالى حقوق أخرى سوى الزكاة، تدرس في نظامها وما عدا ذلك فلا سلطة على صاحب المال لأحد يتصرف به كما يشاء.
وحتى الموارد التي يتم الحصول عليها بطريقة مشروعة يجب التصرف بها وفقاً لشروط الأمانة بتدمير أو هدر الموارد التي حبا الله الإنسان بها، ويمكن التدخل في التصرف حين يسيء المالك التصرف بالتبذير لأن المال حق للأمة إضافة إلى حق الفرد: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا} .
3ً- حرية اختيار العمل والمهنة التي يريد: فقد وجه الإسلام فقط للاحتراف تاركاً الاختيار للشخص أن يختار ما يشاء من علم يكسب به قوته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)).
بل ترتفع إلى مستوى الفريضة كما في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة)) .
وليس هناك مهنة غير قابلة للعمل حتى الاحتطاب كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب، ثم يأتي به يحمله على ظهره فيبيعه فيأكل خير له من أن يسأل الناس، ولأن يأخذ تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ماحرم الله عليه)).
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
4- حريته في الانضمام إلى النقابات أو تشكيلها:
ولا نقول أن هناك نقابات أيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى نتحدث عن حرية الانتساب إليها، لكننا نقول أن دور النقابات في عصرنا الحاضر هو حماية العامل، والدفاع عن حقوقه، والمحافظة على مكتسباته ورفع الضيم والأذى عنه في تحديد ساعات العمل، وفي تهيئة العناية الطبية والاجتماعية فيه، إذن يجمع هذا كله الحرص على منفعة العامل، وإبعاد الأذى عنه، فمن خلال هذا الهدف نجد أن الإسلام قد حضَّ العامل على الحرص على منفعته، وتترك وسائل تحققها للزمان والمكان المناسبين.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو كان كذا لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل ولا تقل لو، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
ومن طرف آخر فتمثل النقابات الاجتماع والتعاون على الخير والبر والتقوى وهو مأمور به في الإسلام
{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب} .
وإذا كانت النقابات خيراً ودعماً للضعيف، فتشكيل النقابة هو أخذ أجر من يقتدي به من دون أن ينقص من أجورهم شيئاً.
ح- الحرية الوطنية:
ما كان يخطر على البال أن يأتي يوم يُحرم فيه الإنسان من وطنه، ولكن بغي الطغاة لا حد له، فالذين يخالفونهم في الرأي يحكمون عليهم بالإعدام كما هو الحال في سورية حيث كان يُعدم كل من ينتمي للإخوان المسلمين، ويُمنعون من أبسط حقوق المواطنة بعد أن يهجروا من ديارهم، فتحرمهم السلطة حق الحصول على جواز يثبت انتماءهم لوطنهم السوري في وقت لا يستطيع الإنسان أن يتحرك في الأرض إلا بجواز سفر.
1ً- حق حرية الانتماء إلى الوطن: وهذا هو الأصل الطبيعي لكل إنسان أن يحمل جنسية بلده ووطنه، والإسلام يقر هذا الحق انطلاقاً من توزع البشر إلى قبائل شتى وشعوب مختلفة.
{يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
ومن حق كل امرئ أن ينتسب إلى أهله وإلى قبيلته وإلى شعبه، بغض النظر عن الاختلاف الفكري والعقائدي ولقد قامت وثيقة المدينة التي أصدرها الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين اليهود وبين المهاجرين والأنصار على مفهوم المواطنة، فكانت المدينة هي وطن اليهود والمشركين والمسلمين من المهاجرين والأنصار، كل على ربعته وموطنه الذي هو فيه.
2ً- حرية التجنس: وهذه القضية قد تكون خلافية في مثل هذا الحق، خاصة إذا كانت الجنسية الجديدة جنسية بلد كافرة، وتعني الجنسية هي حق المواطنة في هذا البلد الكافر، فبين البلدان والأوطان الإسلامي تبقى هذه الحرية قائمة لأن الوطن الإسلامي وطن واحد وهذه الحدود بين أجزائه مصطنعة لا تلغي حق المسلم أن يحمل جنسية أي بلد مسلم وينتمي إليه، إنما الخلاف في الانتماء إلى بلد كافر، حيث تقوم وجهتا نظر شرعية في هذا الصدد.
الأولى: حرمة ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم كذلك فيما رواه جرير عنه: (( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا ترايا ناراهما)).
الثاني: جواز ذلك لأن شريعة الله معطلة في دول الإسلام ودول الشرك، ولأن المسلم جائز إذا كان وجوده متميزاً في بلد الشرك حيث يكون داعية إلى الله فيه، وهذا ما فعله المسلمون في التاريخ حيث أدخلوا الناس في دين الله من خلال التعايش مع هؤلاء الناس، وطالما أن القضية خلافية، وبناءً على التنظيم المعاصر للأجناس والأديان وحقوق الإنسان فنرجح جواز ذلك، وحرية الإنسان في التجنس، خاصة إذا اضطهد من وطنه بعقيدته.
3ً- حرية السفر والإقامة: فمن حق كل مواطن أن يكون حراً في السفر، وحراً في الإقامة حيث يريد وهذا لا يتعارض مع تنظيم موعد السفر والعودة، والخضوع لقوانين كل دولة فيها من حيث التأشيرات المطلوبة، لكن عصرنا الجديد وفي دولنا في العالم الثالث، هذا الحق البديهي يصبح حلماً عند المواطنين، الذين يحرمون من حق الخروج من بلدهم باسم الأمن، حتى تحرم المرأة من الالتحاق بزوجها وتعتقل إن أقدمت على ذلك، ويمنع الأطفال من اللحاق بآبائهم، وعلى كل من يريد أن يغادر قطره لا بد أن يأخذ موافقة أجهزة الرعب على ذلك.
والإسلام لم يكتف بأن يعطي الحرية للإنسان بالتنقل والسفر والإقامة، بل حضَّ على ذلك وحثَّ عليه بقوله عز وجل: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} فالأرض متاحة للسفر والإقامة والتنقل للإنسان سعياً وراء الرزق، والتمتع بمباهج الدنيا وجمالها وزينتها.
ط- الحرية الاجتماعية:
وهي أوسع الحريات الفردية التي تنصب عليها معاني الحرية، ومن هذه الحريات:
1ً- حرية الزواج: ولا يكتفي السلام بالحرية في الزواج فقط، بل هناك حضٌّ عليه وترغيب فيه.
{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
{فإن خفتم أن لا تُقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا} .
وحيث أن الإسلام جعل أصل الزواج سنة نبوية (( ومن رغب عن سنتي فليس مني))، أما قضية التعدد فهو في إطار المباح {ما طاب لكم} لكن هذا المباح مقيد بقيد شديد، ليس العدل فقط كما يتوهم من يأخذ بظاهر الآية بل (الخوف من عدم العدل) فمجرد الخوف يجعل التعدد محظوراً {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}.
هذا من جانب الرجل وكذلك الحرية من جانب المرأة: (( البكر تُستأذن، والثيب أحق بنفسها من أهلها))، فالحرية كاملة للزوجين في الرضا، فهو عقد إيجاب وقبول بين الطرفين.
وحرية الافتراق بين الزوجين قائمة كذلك ضمن قيود وشروط تدرس في مظانها لحرص الإسلام على سلامة الأسرة، فلم يدع الافتراق هكذا مباحاُ بدون قيود، إنما جعل تلك القيود المتعددة بحيث لا تخرج عن المبدأ
{فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، والمبدأ {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} .
لكن انحراف البشرية على أبواب القرن الحادي والعشرين يعني أنها سادرة في غيها باسم الحرية، فبعد أن أعلنت في منتصف هذا القرن وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: (الأسرة هي وحدة المجموعة الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق في الحماية من المجتمع والدولة)، تعود الآن وفي الوثيقة المقدمة لمؤتمر المرأة الذي انعقد في يونيو / 200 وتقرر عقد مؤتمر آخر في سبتمبر لوضع الصيغة النهائية لتدمير الأسرة (وقد امتطى الغرب لذلك منظمة الأمم المتحدة التي توالت مؤتمراتها لتحقيق هذا المخطط ابتداءً من نيروبي عام 1985 مروراً بالقاهرة 1994 وبكين عام 1995 ثم استانبول 1996 ثم نيويورك عام 1999 وانتهاء بمؤتمر بكين + 5 المرأة عام /200 الذي عقد في نيويورك في الفترة من 5- 9 يونيو بهدف عولمة البشرية وجرها إلى الدمار الأسري بضرب مفاهيم الأسرة من الأساس، وابتداع أنماط شاذة من العلاقات الإنسانية.. وإشاعة الفاحشة بشتى صورها).
( وهم يهدفون إلى إقرار ما يلي:
1- الأسرة ليست رجلاً وامرأة بعقد شرعي بل هي أي رجل وامرأة وبدون عقد شرعي، وهي رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، أي أباحوا السحاق، واللواط، والحرية الجنسية بين الفتيات والفتيان، كما أباحوا الحريات الجنسية للفتيات أكبر من سن 20 سنة ثم نزلوا بهذا السن إلى 18 ثم إلى 16 سنة.
2- تبكير الممارسة الجنسية وتأخير سن الزواج، ومع ذلك بشقيه يقع ما هو معلوم من الفساد والإفساد.
3- إباحة الإجهاض، فإذا حملت البنت فمن حقها أن تجهض نفسها، أما إذا أرادت أن تحتفظ بالطفل فبإمكانها ولادته، فإن لم ترد دفعته للملاجئ.
4- تقليص سلطة الأبوين وولايتهما على الأبناء.. وهكذا إفساد خلقي، وتفكك أسري، وتحديد للنسل) .
2ً- حرية الإنجاب: وكما نرى أن هذه الحرية عند أمم الغرب حق ترتفع في الإسلام إلى مرتبة الواجب، وحث الإسلام على الإنجاب واضح في روحه العامة من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم..))، وفي رواية (( تزوجوا الولود الودود فإني مباهٍ بكم))، من غير أن يمنع حق المرء والمرأة عن العزل، وتحديد النسل، فهو من باب الحرية والإباحة، وليس من باب الاستحباب والرغبة كما روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) ، وفي رواية فلم يأمرنا ولم ينهنا.
3ً- حرية العلاقات الأسرية: وإذا كانت العلاقات الأسرية في المجتمع الغربي آيلة إلى الزوال، ولم تعد هذه العلاقات تعدو بطاقة تهنئة بعيد الأم أو عيد الفصح، فالأمر عندنا أكبر بكثير من قضية الحرية، وكما قلنا هناك واجبات في العلاقات الأسرية لو تخلى عنها الإنسان لوقع في غضب الله وسخطه، وأهم هذه العلاقات مع الوالدين التي جعلها الله تعالى بعد عبادته {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}، ومقابل ذلك فأكبر الكبائر بعد الشرك بالله عقوق الوالدين.
(( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) .
ومن الوالدين إلى الأسرة الصغيرة: (( قال من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله، قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))، وفي رواية: (( بر أمك ثم أباك ثم أختك ثم أخاك ثم أدناك فأدناك))، ومن الأسرة الصغيرة إلى الأسرة الكبيرة إلى الأقارب والأرحام، وصلة الرحم من أساسيات هذا الدين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذي لعنهم الله فأصمهم وأعمي أبصارهم} ) .
بينما تكون هذه العلاقات في المجتمعات الغربية قائمة على الحرية فمن شاء وصل ومن شاء قطع، ومن شاء هجر ومن شاء أحسن، ومن شاء أهان ومن شاء أكرم.
4ً- حرية حياته الخاصة في أسرته وأسراره: وهذه يلتقي فيها النظام الإسلامي مع النظام الديمقراطي، أما الأنظمة الدكتاتورية الشمولية والتي يكون دور أجهزة الرعب فيها التجسس على كل أبناء الشعب بلا استثناء لأن القاعدة أن يكون لكل مواطن ملف عندهم يحصون عليهم أنفاسهم، ويراقبون مجيئتهم وذهابهم وزوارهم، ويحاسبونهم على ما ينوون قوله، وما قال أبناؤهم وذويهم، أما النظام الديمقراطي فيعطي الحرية كذلك بلا قيد، أقرب ما تكون إلى حرية البهائم، أما الحرية البشرية التي تتناسب مع إنسانية الإنسان فهي التي تتقيد بقيود الشريعة، ولننظر إلى روعة هذه القيود وروعة هذه الحرية.
فيقول عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} فالحساب ليس على التجسس الذي يتم ويحرِّمه الإسلام عملاً يمكن أن ينضبط، بل الحساب على مبدأ الظن والأخذ بالظنة والمحاسبة عليها على القلب، ولأن بعض الظن إثم فلا بد من تجنب القليل منه، والحساب على اللسان في ظهر الغيب، والحساب على التجسس، ويعتبر الإسلام أنه لا إيمان مع هذا التجسس.
( فعن أبي برزة الأسلمي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتَّبع الله عورته، ومن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته)) .
ولا نقول أن هناك نقابات أيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى نتحدث عن حرية الانتساب إليها، لكننا نقول أن دور النقابات في عصرنا الحاضر هو حماية العامل، والدفاع عن حقوقه، والمحافظة على مكتسباته ورفع الضيم والأذى عنه في تحديد ساعات العمل، وفي تهيئة العناية الطبية والاجتماعية فيه، إذن يجمع هذا كله الحرص على منفعة العامل، وإبعاد الأذى عنه، فمن خلال هذا الهدف نجد أن الإسلام قد حضَّ العامل على الحرص على منفعته، وتترك وسائل تحققها للزمان والمكان المناسبين.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو كان كذا لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل ولا تقل لو، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
ومن طرف آخر فتمثل النقابات الاجتماع والتعاون على الخير والبر والتقوى وهو مأمور به في الإسلام
{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب} .
وإذا كانت النقابات خيراً ودعماً للضعيف، فتشكيل النقابة هو أخذ أجر من يقتدي به من دون أن ينقص من أجورهم شيئاً.
ح- الحرية الوطنية:
ما كان يخطر على البال أن يأتي يوم يُحرم فيه الإنسان من وطنه، ولكن بغي الطغاة لا حد له، فالذين يخالفونهم في الرأي يحكمون عليهم بالإعدام كما هو الحال في سورية حيث كان يُعدم كل من ينتمي للإخوان المسلمين، ويُمنعون من أبسط حقوق المواطنة بعد أن يهجروا من ديارهم، فتحرمهم السلطة حق الحصول على جواز يثبت انتماءهم لوطنهم السوري في وقت لا يستطيع الإنسان أن يتحرك في الأرض إلا بجواز سفر.
1ً- حق حرية الانتماء إلى الوطن: وهذا هو الأصل الطبيعي لكل إنسان أن يحمل جنسية بلده ووطنه، والإسلام يقر هذا الحق انطلاقاً من توزع البشر إلى قبائل شتى وشعوب مختلفة.
{يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
ومن حق كل امرئ أن ينتسب إلى أهله وإلى قبيلته وإلى شعبه، بغض النظر عن الاختلاف الفكري والعقائدي ولقد قامت وثيقة المدينة التي أصدرها الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين اليهود وبين المهاجرين والأنصار على مفهوم المواطنة، فكانت المدينة هي وطن اليهود والمشركين والمسلمين من المهاجرين والأنصار، كل على ربعته وموطنه الذي هو فيه.
2ً- حرية التجنس: وهذه القضية قد تكون خلافية في مثل هذا الحق، خاصة إذا كانت الجنسية الجديدة جنسية بلد كافرة، وتعني الجنسية هي حق المواطنة في هذا البلد الكافر، فبين البلدان والأوطان الإسلامي تبقى هذه الحرية قائمة لأن الوطن الإسلامي وطن واحد وهذه الحدود بين أجزائه مصطنعة لا تلغي حق المسلم أن يحمل جنسية أي بلد مسلم وينتمي إليه، إنما الخلاف في الانتماء إلى بلد كافر، حيث تقوم وجهتا نظر شرعية في هذا الصدد.
الأولى: حرمة ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم كذلك فيما رواه جرير عنه: (( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا ترايا ناراهما)).
الثاني: جواز ذلك لأن شريعة الله معطلة في دول الإسلام ودول الشرك، ولأن المسلم جائز إذا كان وجوده متميزاً في بلد الشرك حيث يكون داعية إلى الله فيه، وهذا ما فعله المسلمون في التاريخ حيث أدخلوا الناس في دين الله من خلال التعايش مع هؤلاء الناس، وطالما أن القضية خلافية، وبناءً على التنظيم المعاصر للأجناس والأديان وحقوق الإنسان فنرجح جواز ذلك، وحرية الإنسان في التجنس، خاصة إذا اضطهد من وطنه بعقيدته.
3ً- حرية السفر والإقامة: فمن حق كل مواطن أن يكون حراً في السفر، وحراً في الإقامة حيث يريد وهذا لا يتعارض مع تنظيم موعد السفر والعودة، والخضوع لقوانين كل دولة فيها من حيث التأشيرات المطلوبة، لكن عصرنا الجديد وفي دولنا في العالم الثالث، هذا الحق البديهي يصبح حلماً عند المواطنين، الذين يحرمون من حق الخروج من بلدهم باسم الأمن، حتى تحرم المرأة من الالتحاق بزوجها وتعتقل إن أقدمت على ذلك، ويمنع الأطفال من اللحاق بآبائهم، وعلى كل من يريد أن يغادر قطره لا بد أن يأخذ موافقة أجهزة الرعب على ذلك.
والإسلام لم يكتف بأن يعطي الحرية للإنسان بالتنقل والسفر والإقامة، بل حضَّ على ذلك وحثَّ عليه بقوله عز وجل: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} فالأرض متاحة للسفر والإقامة والتنقل للإنسان سعياً وراء الرزق، والتمتع بمباهج الدنيا وجمالها وزينتها.
ط- الحرية الاجتماعية:
وهي أوسع الحريات الفردية التي تنصب عليها معاني الحرية، ومن هذه الحريات:
1ً- حرية الزواج: ولا يكتفي السلام بالحرية في الزواج فقط، بل هناك حضٌّ عليه وترغيب فيه.
{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
{فإن خفتم أن لا تُقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا} .
وحيث أن الإسلام جعل أصل الزواج سنة نبوية (( ومن رغب عن سنتي فليس مني))، أما قضية التعدد فهو في إطار المباح {ما طاب لكم} لكن هذا المباح مقيد بقيد شديد، ليس العدل فقط كما يتوهم من يأخذ بظاهر الآية بل (الخوف من عدم العدل) فمجرد الخوف يجعل التعدد محظوراً {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}.
هذا من جانب الرجل وكذلك الحرية من جانب المرأة: (( البكر تُستأذن، والثيب أحق بنفسها من أهلها))، فالحرية كاملة للزوجين في الرضا، فهو عقد إيجاب وقبول بين الطرفين.
وحرية الافتراق بين الزوجين قائمة كذلك ضمن قيود وشروط تدرس في مظانها لحرص الإسلام على سلامة الأسرة، فلم يدع الافتراق هكذا مباحاُ بدون قيود، إنما جعل تلك القيود المتعددة بحيث لا تخرج عن المبدأ
{فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، والمبدأ {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} .
لكن انحراف البشرية على أبواب القرن الحادي والعشرين يعني أنها سادرة في غيها باسم الحرية، فبعد أن أعلنت في منتصف هذا القرن وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: (الأسرة هي وحدة المجموعة الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق في الحماية من المجتمع والدولة)، تعود الآن وفي الوثيقة المقدمة لمؤتمر المرأة الذي انعقد في يونيو / 200 وتقرر عقد مؤتمر آخر في سبتمبر لوضع الصيغة النهائية لتدمير الأسرة (وقد امتطى الغرب لذلك منظمة الأمم المتحدة التي توالت مؤتمراتها لتحقيق هذا المخطط ابتداءً من نيروبي عام 1985 مروراً بالقاهرة 1994 وبكين عام 1995 ثم استانبول 1996 ثم نيويورك عام 1999 وانتهاء بمؤتمر بكين + 5 المرأة عام /200 الذي عقد في نيويورك في الفترة من 5- 9 يونيو بهدف عولمة البشرية وجرها إلى الدمار الأسري بضرب مفاهيم الأسرة من الأساس، وابتداع أنماط شاذة من العلاقات الإنسانية.. وإشاعة الفاحشة بشتى صورها).
( وهم يهدفون إلى إقرار ما يلي:
1- الأسرة ليست رجلاً وامرأة بعقد شرعي بل هي أي رجل وامرأة وبدون عقد شرعي، وهي رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، أي أباحوا السحاق، واللواط، والحرية الجنسية بين الفتيات والفتيان، كما أباحوا الحريات الجنسية للفتيات أكبر من سن 20 سنة ثم نزلوا بهذا السن إلى 18 ثم إلى 16 سنة.
2- تبكير الممارسة الجنسية وتأخير سن الزواج، ومع ذلك بشقيه يقع ما هو معلوم من الفساد والإفساد.
3- إباحة الإجهاض، فإذا حملت البنت فمن حقها أن تجهض نفسها، أما إذا أرادت أن تحتفظ بالطفل فبإمكانها ولادته، فإن لم ترد دفعته للملاجئ.
4- تقليص سلطة الأبوين وولايتهما على الأبناء.. وهكذا إفساد خلقي، وتفكك أسري، وتحديد للنسل) .
2ً- حرية الإنجاب: وكما نرى أن هذه الحرية عند أمم الغرب حق ترتفع في الإسلام إلى مرتبة الواجب، وحث الإسلام على الإنجاب واضح في روحه العامة من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم..))، وفي رواية (( تزوجوا الولود الودود فإني مباهٍ بكم))، من غير أن يمنع حق المرء والمرأة عن العزل، وتحديد النسل، فهو من باب الحرية والإباحة، وليس من باب الاستحباب والرغبة كما روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فعن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) ، وفي رواية فلم يأمرنا ولم ينهنا.
3ً- حرية العلاقات الأسرية: وإذا كانت العلاقات الأسرية في المجتمع الغربي آيلة إلى الزوال، ولم تعد هذه العلاقات تعدو بطاقة تهنئة بعيد الأم أو عيد الفصح، فالأمر عندنا أكبر بكثير من قضية الحرية، وكما قلنا هناك واجبات في العلاقات الأسرية لو تخلى عنها الإنسان لوقع في غضب الله وسخطه، وأهم هذه العلاقات مع الوالدين التي جعلها الله تعالى بعد عبادته {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}، ومقابل ذلك فأكبر الكبائر بعد الشرك بالله عقوق الوالدين.
(( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) .
ومن الوالدين إلى الأسرة الصغيرة: (( قال من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله، قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))، وفي رواية: (( بر أمك ثم أباك ثم أختك ثم أخاك ثم أدناك فأدناك))، ومن الأسرة الصغيرة إلى الأسرة الكبيرة إلى الأقارب والأرحام، وصلة الرحم من أساسيات هذا الدين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذي لعنهم الله فأصمهم وأعمي أبصارهم} ) .
بينما تكون هذه العلاقات في المجتمعات الغربية قائمة على الحرية فمن شاء وصل ومن شاء قطع، ومن شاء هجر ومن شاء أحسن، ومن شاء أهان ومن شاء أكرم.
4ً- حرية حياته الخاصة في أسرته وأسراره: وهذه يلتقي فيها النظام الإسلامي مع النظام الديمقراطي، أما الأنظمة الدكتاتورية الشمولية والتي يكون دور أجهزة الرعب فيها التجسس على كل أبناء الشعب بلا استثناء لأن القاعدة أن يكون لكل مواطن ملف عندهم يحصون عليهم أنفاسهم، ويراقبون مجيئتهم وذهابهم وزوارهم، ويحاسبونهم على ما ينوون قوله، وما قال أبناؤهم وذويهم، أما النظام الديمقراطي فيعطي الحرية كذلك بلا قيد، أقرب ما تكون إلى حرية البهائم، أما الحرية البشرية التي تتناسب مع إنسانية الإنسان فهي التي تتقيد بقيود الشريعة، ولننظر إلى روعة هذه القيود وروعة هذه الحرية.
فيقول عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} فالحساب ليس على التجسس الذي يتم ويحرِّمه الإسلام عملاً يمكن أن ينضبط، بل الحساب على مبدأ الظن والأخذ بالظنة والمحاسبة عليها على القلب، ولأن بعض الظن إثم فلا بد من تجنب القليل منه، والحساب على اللسان في ظهر الغيب، والحساب على التجسس، ويعتبر الإسلام أنه لا إيمان مع هذا التجسس.
( فعن أبي برزة الأسلمي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتَّبع الله عورته، ومن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته)) .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
5ً- حرية النشاطات الاجتماعية: وإذا كانت في المجتمعات العربية حرية، وبالمقابل فهي حق، فتزيد في النظام الإسلامي أنها واجب, هذه النشاطات (الخيرية) في مساعدة الفقراء والمحتاجين والمساعدة على الزواج، وبناء المستشفيات والمدارس ومقاومة الأوبئة والأمراض، والأنشطة الترفيهية والمسرة للمجتمع بجميع فئاته، هذه كلها مسؤوليات على عاتق كل فرد في المجتمع تدخل في إطار فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكن الحثَّ عليه، والأجر فيه يبلغ مبلغاً عالياً جداً عند الله عز وجل، حيث تدخل كل هذه النشاطات ضمن نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعمل الخير، ويكفينا في هذا الصدد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) .
وحين نشهد مناسبة الحديث يتضح أمامنا الربط بين النشاطات الاجتماعية ودور الريادة فيها وبين هذا النص، وذلك عندما جاء مجموعة من الفقراء الأعراب المدقعين (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة...} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيباً} والآية التي في الحشر {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله..} تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام....)) .
مشكلة اجتماعية، خلال لحظات تم حلها بالتنافس الشخصي على الخير لا بالأوامر الصارمة، وكان الرائد لها النشاط العظيم هو هذا الأنصاري الذي جاء بتلك الصرة التي كاد يعجز عن حملها، بل عجز، ثم تتابع الناس.
ي- الحرية الثقافية:
وكيف لا تكون الحرية الثقافية في دين أول كلمة وحي فيه من الله: {اقرأ}؟
1ً- حرية التأليف: وتعني حرية التأليف حرية التعليم، وفي الوقت الذي تعني حرية التأليف عند الغرب كل شيء بلا استثناء ولا قيد، فهي عندنا منطلقة من دين الله {اقرأ باسم ربك الذي خلق...}، والإنسان هو أهم مخلوقاته {خلق الإنسان من علق} هذا الإنسان المخلوق من علق يتعلم من ربه عز وجل {اقرأ وربك الأكرم} وأعظم ما في خلق الإنسان علمه، وأعظم كرم الله عز وجل على هذا المخلوق هو العلم بالقلم {... الأكرم الذي علم بالقلم}، وهو العلم الإبداعي والتجديدي {علم الإنسان ما لم يعلم} وكل تأليف مبدع وتفكير تجديدي ضمن إطار الخالق وشرعته هو مأمور به وليس مسموحاً به فقط.
2ً- حرية النشر: فما يفيد تأليف بلا نشر، وإنما العلم بالتعلم، فنقل هذا العلم ونشره بين الناس هو المسؤولية الحقيقية للإنسان {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون}، وليس الكسب المادي الرخيص هو الهدف وراء النشر، إنما العلم للعلم، ولتبليغه للناس كافة، وبلغ من حب الإسلام للعلم وحثه عليه أن فضِّل تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة من الأسرى المشركين في بدر أنه خير فداء للأسير الذي كان يدفع أربعة آلاف درهم ليفك أسره، فالنشر مرتبط بالتأليف، وحريتهما مرتبطة بحرية الإنسان التي بينها الله تعالى له خالقه، هي الحرية التي لا يجور ولا يطغى فيها على الآخرين، وهي الحرية التي يصوغها له خالقه رب العالمين.
3ً- حرية التعلم: والأبواب مشرعة مفتوحة، كل يدرس حسب اختصاصه وميوله، ويحقق إبداعاً فيما يدرس ويحقق ثمرة لما يتعلم، وتلك جامعة ابن عباس رضي الله عنهما التي كان (يجلس يوماً ولا يذكر إلا الفقه، ويوماً للتأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً جلس إليه إلا خضع له) .
ولا بد أن نشير إلى أن حرية التأليف والنشر والتعليم متاحة لكل أفراد الأمة طالما أن الإسلام قبل التعددية الفكرية في دولته، والحوار هو طريق التعامل بين المختلفين فكرياً في ظل دولة الإسلام.
4ً- حرية النوادي الأدبية والفنية: والنشاط الفكري ليس دائماً كتابة وتأليفاً ونشراً، بل كثيراً ما يكون محاضرات ومباريات أدبية وعلمية وتاريخية، لها بيئتها وروادها في النوادي الأدبية والفنية، ويرحب الإسلام بمثل هذه المواقع المرخصة حيث لا تعمل في الخفاء، إنما تمارس نشاطها بترخيص رسمي، ويوم نذكر في تاريخنا العظيم أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عجز عن أن يمنع حسان بن ثابت من إنشاد الشعر في المسجد النبوي حيث حجَّة حسان (فعن أبي هريرة أن عمر مر حسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشُدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس، قال: اللهم نعم) .
بل كانت الحوارات الشرعية بين المسلمين واليهود والنصارى إنما تقام في المسجد، ويقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطعامهم وإكرامهم وضيافتهم بصفتهم وفوداً حلت على المدينة عاصمة دولة الإسلام.
ثانياً- حرية الشعوب والمجتمعات:
وإذا تجاوزنا حرية الفرد الشخصية إلى الحديث عن حرية الشعوب والمجتمعات، فسنجد المفارقات العجيبة في هذا المجال:
آ- حرية تقرير المصير:
ورغم أن هذا الأمر أصبح معترفاً به في دول العالم والمؤسسات الدولية، لكنه يبقى عملياً خاضعاً لأمزجة المستعمرين المسيطرين على الأمم المتحدة ومجلس الأمن، رأس المؤسسات الدولية.
ففي المادة (1) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أقر في 16 ديسمبر 1966 وبدأ سريانه في 1976 وبعد الديباجة.
المادة (1): لكل الشعوب الحق في تقرير المصير، وبمقتضى هذا الحق فإنها تقرر بحرية وضعها السياسي وتتابع بحرية تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
وهذا الحق يعترف به عندما يكون للنصارى، ففي خلال شهرين تم فصل تيمور الشرقية عن أندونوسيا المسلمة لأن الذين يطالبون بهذا الحق نصارى ورعايا لدولة مسلمة، أما كشمير، فلصالح الهند الوثنية تمنع من تقرير مصيرها منذ عام 1948 أي منذ أكثر من نصف قرن، ولا تزال بؤرة توتر عالمية بين الهند وباكستان، والشيشان في عصرنا الحاضر تدمر مدنه وقراه بكل وسائل الدمار المعاصرة الروسية، ويمنع من حق تقرير المصير دون أن يرف جفن لدولة غربية لأن الولايات المتحدة تريد ذلك، ويبقي هذا الأمر شأن داخلي من شؤون روسيا، فتباد الشعوب وتفنى باسم الشؤون الداخلية، وما لنا نبعد كثيراً، والدول الاستعمارية التي صاغت ميثاق الأمم المتحدة هي نفسها التي صاغت نظام الانتداب والوصاية الدولية لهذه الدول المستعمرة على الشعوب المسحوقة.
( الفصل الخامس عشر: نظام الوصاية الدولي: تؤسس الأمم المتحدة نظاماً دولياً للوصاية خاضعاً لسلطانها، تدير به الأقاليم التي قد يعهد بها إليها بمقتضى اتفاقات فردية لاحقة).
المادة 76: طبقاً لأغراض الأمم المتحدة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا الميثاق يجب أن تكون الأهداف الأساسية لنظام الوصاية هي:
آ- تدعيم السلم والأمن الدوليين.
ب- ترقية الأقاليم الموضوعة تحت الوصاية، هي وشعوبها في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، واطراداً لتهيئتها للحكم الذاتي أو الاستقلال حسب ما يناسب الظروف الخاصة لكل إقليم وشعوبه..
المادة 77- يطبق نظام الوصاية على الأقاليم الداخلة في الفئات التالية وهي التي ستوضع تحت الوصاية بمقتضى اتفاقيات الوصاية (آ) الأقاليم التي تقع الآن تحت الانتداب (ب) الأقاليم التي قد تقتطع من دول الأعداء نتيجة للحرب العالمية الثانية (جـ) الأقاليم التي تضعها تحت الوصاية بمحض اختيارها دول مسؤولة عن إدارتها).
لقد أسهبنا في عرض هذا النظام لنعلم أن حريات الشعوب ومجتمعاتها إنما هي رهن بإرادة الدول الكبرى التي تتحكم في مصير العالم، ولولا الصراع بين مصالح الاتحاد السوفيتي سابقاً وأمريكا لما نال كثير من الدول حقها في الحرية والاستقلال.
أما اليوم وبعد انتهاء الحرب بين المعسكرين، وأصبحت الأرض أحادية القطب بقيادة الولايات المتحدة، عدنا إلى أسوأ مما كنا عليه أيام الحرب الباردة.
أما في الإسلام، فحق تقرير المصير قائم لكل شعب لأن الله تعالى خالق هذه الشعوب لتتعارف مع بعضها لا لتحكم بعضها بقوة السلاح {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} .
2ً- حرية التصرف بثرواتها الطبيعية: وهو حق مقرر من الناحية النظرية في الميثاق الدولي، ففي الفقرة
(2) من المادة (1) من الاتفاقية الدولية الآنفة الذكر يمكن لكل الشعوب من أجل غاياتها الخاصة أن تتصرف بحرية في ثرواتها الطبيعية ومواردها بدون الإضرار بأية التزامات تنشأ من التعاون الاقتصادي الدولي، ولا يمكن في أية حالة حرمان أي شعب من وسائل أرزاقه الخاصة.
هذا هو القرار النظري، لكن هل هذا هو الواقع العملي لشعوب الأرض اليوم؟ بالتأكيد لا.
وباعتراف الدول الكبرى تقرأ ما يلي: (ونحن نعلم أيضاً أننا كمواطنين في العالم الصناعي نستهلك الموارد الطبيعية بمعدل لم يسبق له مثيل ولا يمكن لنا أن نتحمله، إن الدول الصناعية والتي تشمل الخمس فقط من سكان العالم تستنفذ ثلثي جميع الموارد التي يتم استهلاكها وتنتج أربعة أخماس جميع النفايات والملوثات).
أما الخمس الآخر من البشرية فيعيش في فقر مدقع (أي أكثر من بليون شخص تحت خط الفقر)، فلماذا هذا التمايز؟
ولا تزال حتى الآن مؤتمرات دول الشمال والجنوب تنفَّض عن غير اتفاق أمام ميزات الدول الصناعية واستئثارها بالثروة البشرية واستغلالها لضعف الشعوب الفقيرة.
جـ- حرية تكوين الأحزاب:
وهذا من شأن الشعوب الداخلية، ومع أن الأمر طبيعي وقطري، لكننا نفاجأ أن هذه الشعوب لا تملك هذه الحرية في ظل الدول المستعمرة، كما لا تملكه في ظل الأنظمة المستبدة، وكثير من دول العالم الثالث يتحكم في مصيرها اليوم دولة استعمارية، أو فرد واحد، أو حزب واحد أو طائفة واحدة أو دكتاتورية عسكرية متسلطة تجعل مصير هذه الشعوب بيد هذه الأقليات، وتقيم الوصاية عليها، وتعتبرها تحت سن الرشد، فتفكر لها وتحكم باسمها، وعلى الجماهير أن تصفق وتهتف أو تنتظر مصيرها في المعتقلات وأقبية المخابرات، وما أسعد الشعب الذي يتصرف بكامل حريته، ويملك حقه في تعدد الأحزاب التي تعبر عن قناعات هذا الشعب الفكرية والسياسية، وما أبأس الشعوب التي تفكر بعقل فرعون القائل:
{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}، ومع مرور الزمن يصدق الشعب ألوهية الحاكم
{فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين}، وهو نموذج الاستعباد في الأرض {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وفرق كبير بين الشيع والأحزاب التي يقيمها الحاكم أو المستعمر، وبين الأحزاب التي تعبر عن رغبات شعوبها، وتقدم برامج الإصلاح وتتنافس فيها في ظل تعددية سياسية.
د- حرية تكوين النقابات:
والنقابات صور من صور التقدم البشري المعاصر والتي تمثل فئات الشعب ومصالحه، والتي تكون ذات قوة تهز الأنظمة في الدول الديمقراطية كنقابات العمال والفلاحين، والنقابات العلمية كنقابات الأطباء والصيادلة والمعلمين، واتحادات الطلبة، والاتحادات النسائية، ونقابات المهندسين، والتي تمثل قطاعات الشعب كله، وترعى مصالح أبنائها وتقود مسيرة الشعوب بوعيها ونضالها للوضع الأقوم لهذه الشعوب.
هـ- حرية اختيار نظام الحكم:
ومع بداهة هذا الأمر وهذه الحرية، لكن هناك من يغتال هذه الحرية فالأصل أن لا سلطة أعلى من الشعب في اختيار نظام الحكم الذي يريده، والذي تختاره أكثرية الأمة، لكننا كثيراً ما نجد الأقلية تتحكم بمصير الأكثرية، وتحكمها بالحديد والنار، وتتحدث باسمها، والملاحظ أن كثيراً من هؤلاء الطغاة لا يؤمنون بالديمقراطية والتعددية إلا عندما يُزاحون عن الحكم، ويدخلون السجون، ويذوقون مرارة الظلم، فعندئذ يحسون بطعم الحرية، ويخرجون على الناس يدعون إلى الحرية وإلى الانتخابات وإلى الديمقراطية، وهل ستبقى الشعوب دائماً حقل تجارب لهؤلاء الطغاة، وإن ثار الشعب على جلاديه فالثوار إرهابيون، ودعاة الديمقراطية الغربية الذين يحاسبون حكامهم على النقير والقطمير، يسندون طغاة العالم الثالث، ويباركون ظلمهم، فهم يعتقدون أن هذه الشعوب لا تستحق الديمقراطية، فهم كاذبون ماضون وراء مصالحهم، لأن طريقة التعامل مع الطغاة سهلة وكما يقول كيسنجر التعامل مع شيخ القبيلة، فلا حاجة لمؤسسات ولا مجالس نيابية، فبإقناع شخص واحد يحققون مصالحهم أسهل بكثير من المؤسسات، ونسأل إلى أين وصل الغرب في حرية اختيار حكامه كما يقول (يانكلوفيتش): إن حريتنا السياسية ليست في خطر، فلا يوجد هناك ديكتاتور يبدو في الأفق، وليس هناك انقلاب عسكري وشيك الحدوث ومهما كان الخطر الذي كان يتهدد حريتنا السياسية من الشيوعية في الماضي، فإن هذا الخطر تضاءل كثيراً، وسيظل الأمريكيون أحراراً في المستقبل مثلما كانوا في الماضي في التصويت للمرشح الذي يختارونه، وأن يعربوا في حرية عما يدور في أذهانهم، وأن يستمتعوا بمزايا الصحافة الحرة) .
فمتى تصل شعوبنا إلى هذا الاستقرار؟
وإذا أردنا المستند الشرعي لحق الشعب في الاختيار لحكامه، فالأصل فيه قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وليس فرضاً أو جبرية أو تسلطاً، والأصل كذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر للمسلمين بعد وفاته يختارون من يحبون، ويوم عدل صلى الله عليه وسلم عن استخلاف الصديق علل ذلك برضا المؤمنين بأنهم لا يرضون غيره ((ثم قلت: يدفع الله ويأبى المؤمنون))، وحين اختار عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عثمان على علي قال له: أما بعد يا علي، إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا)، والحديث (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)).
و- حرية اختيار العقيدة أو المذهب:
ومع الفطرة التي تمثل هذه الحرية، فقد كان الجحيم الشيوعي يفرض على الناس ديناً جديداً من الكفر والإلحاد، ويحارب الناس في دينهم غير حربهم في أرزاقهم وأفكارهم فـ (إن عدد مسلمي الاتحاد السوفيتي انخفض خلال الثلاثين سنة الماضية إلى النصف أو أكثر قليلاً، فبعد أن كان عددهم 45 مليوناً هبط إلى 22 مليون، وقد روى فريق من المسلمين اللاجئين من الاتحاد السوفيتي قصصاً مثيرة عن حوادث التعذيب والتجويع والتقتيل التي عانوا منها الأمرين على أيدي السوفييت، وقد كان من الجرائم العظمى بروسية في يوم من الأيام أن يضبط روسي متلبساً بجريمة الصلاة أو العبادة في كنيسة أو مسجد، وقد هدمت المساجد والكنائس جميعاً في روسية منذ سنين عديدة، وحُوِّل كثير منها إلى مصانع أو مخازن أو مسارح للهو، أو زرائب للماشية، وبقي قليل منها كمتاحف تمثل عهد الرجعية الاستغلالية البائد)، وتقول صحيفة (تركمانكايا) في 1 كانون الأول عام 1958:
إن العقيدة الدينية الإسلامية هي القوة المظلمة التي لا تزال تفسد العقول وحياة الشعوب، وتعيق النمو وتقف كأي حاجز في طريق السعادة والنور والمعرفة، هذا وإن الطقوس الدينية لا تزال لاصقة ثابتة كما أن الديانة لم تتوقف عن كونها مادة الأفيون لدى بعض الناس) .
بينما يعلن الإسلام المبدأ القائل: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} والمبدأ القائل {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ومن حق أي شعب أن يختار العقيدة التي يريد ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار.
ثالثاً- حرية الدولة:
إن الدولة حين تنبثق من إرادة شعبية تصبح شخصاً معنويا ًيمثل الأمة كلها، ويغدو الاعتداء على الدولة أو السلطة اعتداء على الشعب والوطن نفسه، وحين تقوم المؤسسات بشكل سليم وصحيح ويقوم مجلس منبثق عن الشعب يكون من حقه ابتداءً...
أ- حرية اختيار الدستور:
ففي عصرنا الحاضر يمثل دستور الأمة نظامها السياسي والفكري والقضائي ويحدد هويتها وثوابتها التي تنطلق منها، ويعتبر الدستور أحق من كل الأمور بالتمثيل الصحيح للأمة، فإذا جاءت حفنة تريد فرض قناعاتها على الأمة باسم الدستور فهذا سرق وامتهان لأكرم ما عند الدولة من الكرامة، ففي واقعنا السوري مثلاً نجد حكم حزب واحد وفرد واحد هو الأساس في بناء الدستور بحجة إرادة الشعب، وقناعة الشعب، وكل الأحزاب الأخرى، والقناعات الأخرى تمثل أعداء الشعب ولا حرية لأعداء الشعب، ورغم فشل الحزب في تحقيق جميع أهدافه، ورغم إخفاق كل برامجه التي وعد بها الأمة، مع كل ذلك فهو الحزب القائد، وهذه إرادة الأمة، وخلال ثلث قرن استطاع الحاكم الفرد أن ينقل الحكم لابنه، ويعدل الدستور ليكون مناسباً لسنه الصغير، ومع ذلك، فهذا هو حكم المؤسسات.
لقد أقام السوريون الدنيا وما أقعدوها ضد فرنسا عندما أرادت أن تلغي بعض مواد الدستور عام 1928 أو تقيد الدستور بموافقة المفوض السامي، وتعطلت الحياة السياسية قرابة عشر سنوات صراعاً بين إرادة الشعب السوري وإرادة الحاكم المستعمر، ويأتي الفرد الواحد ليصوغ الأمة على مزاجه وهواه معلناً حكمه إلى الأبد، وننتهي إلى أن حرية اختيار الدستور هو الذي يميز الشعب المستعبد من الشعب الحر، والدولة الديمقراطية، من الدولة المستبدة، وذلك في مجتمع وعصر أصبح احتكام الشعب للدستور يفوق احتكامه لمبادئ دينه.
ب -حرية إصدار القوانين:
وهي حرية مستمدة من حرية اختيار الدستور، فالشعب يختار القوانين التي تناسبه في شتى مجالات حياته، بحيث لا تتعارض مع الدستور في الدولة الديمقراطية، ولا تتعارض مع الإسلام ومع مبادئ الدستور في الدولة الإسلامية، ولمجلس الشعب دوره الرئيسي في إصدار القوانين بحيث يمثل سلطة التشريع في الدولة الديمقراطية، وحين يكون صادراً عن إرادة حرة يكون ممثلاً لقناعة الأمة، أما إن كان تعييناً من السلطان الحاكم أو الحزب الحاكم، فتأتي كل القوانين لتخدم هوى الطاغية مهما كان اسمه ولونه لا لتخدم مصلحة الشعب العامة، وتلبي رغباته، وتحقق تطلعاته.
وحين نشهد مناسبة الحديث يتضح أمامنا الربط بين النشاطات الاجتماعية ودور الريادة فيها وبين هذا النص، وذلك عندما جاء مجموعة من الفقراء الأعراب المدقعين (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة...} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيباً} والآية التي في الحشر {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله..} تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام....)) .
مشكلة اجتماعية، خلال لحظات تم حلها بالتنافس الشخصي على الخير لا بالأوامر الصارمة، وكان الرائد لها النشاط العظيم هو هذا الأنصاري الذي جاء بتلك الصرة التي كاد يعجز عن حملها، بل عجز، ثم تتابع الناس.
ي- الحرية الثقافية:
وكيف لا تكون الحرية الثقافية في دين أول كلمة وحي فيه من الله: {اقرأ}؟
1ً- حرية التأليف: وتعني حرية التأليف حرية التعليم، وفي الوقت الذي تعني حرية التأليف عند الغرب كل شيء بلا استثناء ولا قيد، فهي عندنا منطلقة من دين الله {اقرأ باسم ربك الذي خلق...}، والإنسان هو أهم مخلوقاته {خلق الإنسان من علق} هذا الإنسان المخلوق من علق يتعلم من ربه عز وجل {اقرأ وربك الأكرم} وأعظم ما في خلق الإنسان علمه، وأعظم كرم الله عز وجل على هذا المخلوق هو العلم بالقلم {... الأكرم الذي علم بالقلم}، وهو العلم الإبداعي والتجديدي {علم الإنسان ما لم يعلم} وكل تأليف مبدع وتفكير تجديدي ضمن إطار الخالق وشرعته هو مأمور به وليس مسموحاً به فقط.
2ً- حرية النشر: فما يفيد تأليف بلا نشر، وإنما العلم بالتعلم، فنقل هذا العلم ونشره بين الناس هو المسؤولية الحقيقية للإنسان {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون}، وليس الكسب المادي الرخيص هو الهدف وراء النشر، إنما العلم للعلم، ولتبليغه للناس كافة، وبلغ من حب الإسلام للعلم وحثه عليه أن فضِّل تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة من الأسرى المشركين في بدر أنه خير فداء للأسير الذي كان يدفع أربعة آلاف درهم ليفك أسره، فالنشر مرتبط بالتأليف، وحريتهما مرتبطة بحرية الإنسان التي بينها الله تعالى له خالقه، هي الحرية التي لا يجور ولا يطغى فيها على الآخرين، وهي الحرية التي يصوغها له خالقه رب العالمين.
3ً- حرية التعلم: والأبواب مشرعة مفتوحة، كل يدرس حسب اختصاصه وميوله، ويحقق إبداعاً فيما يدرس ويحقق ثمرة لما يتعلم، وتلك جامعة ابن عباس رضي الله عنهما التي كان (يجلس يوماً ولا يذكر إلا الفقه، ويوماً للتأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً جلس إليه إلا خضع له) .
ولا بد أن نشير إلى أن حرية التأليف والنشر والتعليم متاحة لكل أفراد الأمة طالما أن الإسلام قبل التعددية الفكرية في دولته، والحوار هو طريق التعامل بين المختلفين فكرياً في ظل دولة الإسلام.
4ً- حرية النوادي الأدبية والفنية: والنشاط الفكري ليس دائماً كتابة وتأليفاً ونشراً، بل كثيراً ما يكون محاضرات ومباريات أدبية وعلمية وتاريخية، لها بيئتها وروادها في النوادي الأدبية والفنية، ويرحب الإسلام بمثل هذه المواقع المرخصة حيث لا تعمل في الخفاء، إنما تمارس نشاطها بترخيص رسمي، ويوم نذكر في تاريخنا العظيم أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عجز عن أن يمنع حسان بن ثابت من إنشاد الشعر في المسجد النبوي حيث حجَّة حسان (فعن أبي هريرة أن عمر مر حسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشُدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس، قال: اللهم نعم) .
بل كانت الحوارات الشرعية بين المسلمين واليهود والنصارى إنما تقام في المسجد، ويقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطعامهم وإكرامهم وضيافتهم بصفتهم وفوداً حلت على المدينة عاصمة دولة الإسلام.
ثانياً- حرية الشعوب والمجتمعات:
وإذا تجاوزنا حرية الفرد الشخصية إلى الحديث عن حرية الشعوب والمجتمعات، فسنجد المفارقات العجيبة في هذا المجال:
آ- حرية تقرير المصير:
ورغم أن هذا الأمر أصبح معترفاً به في دول العالم والمؤسسات الدولية، لكنه يبقى عملياً خاضعاً لأمزجة المستعمرين المسيطرين على الأمم المتحدة ومجلس الأمن، رأس المؤسسات الدولية.
ففي المادة (1) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أقر في 16 ديسمبر 1966 وبدأ سريانه في 1976 وبعد الديباجة.
المادة (1): لكل الشعوب الحق في تقرير المصير، وبمقتضى هذا الحق فإنها تقرر بحرية وضعها السياسي وتتابع بحرية تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
وهذا الحق يعترف به عندما يكون للنصارى، ففي خلال شهرين تم فصل تيمور الشرقية عن أندونوسيا المسلمة لأن الذين يطالبون بهذا الحق نصارى ورعايا لدولة مسلمة، أما كشمير، فلصالح الهند الوثنية تمنع من تقرير مصيرها منذ عام 1948 أي منذ أكثر من نصف قرن، ولا تزال بؤرة توتر عالمية بين الهند وباكستان، والشيشان في عصرنا الحاضر تدمر مدنه وقراه بكل وسائل الدمار المعاصرة الروسية، ويمنع من حق تقرير المصير دون أن يرف جفن لدولة غربية لأن الولايات المتحدة تريد ذلك، ويبقي هذا الأمر شأن داخلي من شؤون روسيا، فتباد الشعوب وتفنى باسم الشؤون الداخلية، وما لنا نبعد كثيراً، والدول الاستعمارية التي صاغت ميثاق الأمم المتحدة هي نفسها التي صاغت نظام الانتداب والوصاية الدولية لهذه الدول المستعمرة على الشعوب المسحوقة.
( الفصل الخامس عشر: نظام الوصاية الدولي: تؤسس الأمم المتحدة نظاماً دولياً للوصاية خاضعاً لسلطانها، تدير به الأقاليم التي قد يعهد بها إليها بمقتضى اتفاقات فردية لاحقة).
المادة 76: طبقاً لأغراض الأمم المتحدة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا الميثاق يجب أن تكون الأهداف الأساسية لنظام الوصاية هي:
آ- تدعيم السلم والأمن الدوليين.
ب- ترقية الأقاليم الموضوعة تحت الوصاية، هي وشعوبها في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، واطراداً لتهيئتها للحكم الذاتي أو الاستقلال حسب ما يناسب الظروف الخاصة لكل إقليم وشعوبه..
المادة 77- يطبق نظام الوصاية على الأقاليم الداخلة في الفئات التالية وهي التي ستوضع تحت الوصاية بمقتضى اتفاقيات الوصاية (آ) الأقاليم التي تقع الآن تحت الانتداب (ب) الأقاليم التي قد تقتطع من دول الأعداء نتيجة للحرب العالمية الثانية (جـ) الأقاليم التي تضعها تحت الوصاية بمحض اختيارها دول مسؤولة عن إدارتها).
لقد أسهبنا في عرض هذا النظام لنعلم أن حريات الشعوب ومجتمعاتها إنما هي رهن بإرادة الدول الكبرى التي تتحكم في مصير العالم، ولولا الصراع بين مصالح الاتحاد السوفيتي سابقاً وأمريكا لما نال كثير من الدول حقها في الحرية والاستقلال.
أما اليوم وبعد انتهاء الحرب بين المعسكرين، وأصبحت الأرض أحادية القطب بقيادة الولايات المتحدة، عدنا إلى أسوأ مما كنا عليه أيام الحرب الباردة.
أما في الإسلام، فحق تقرير المصير قائم لكل شعب لأن الله تعالى خالق هذه الشعوب لتتعارف مع بعضها لا لتحكم بعضها بقوة السلاح {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} .
2ً- حرية التصرف بثرواتها الطبيعية: وهو حق مقرر من الناحية النظرية في الميثاق الدولي، ففي الفقرة
(2) من المادة (1) من الاتفاقية الدولية الآنفة الذكر يمكن لكل الشعوب من أجل غاياتها الخاصة أن تتصرف بحرية في ثرواتها الطبيعية ومواردها بدون الإضرار بأية التزامات تنشأ من التعاون الاقتصادي الدولي، ولا يمكن في أية حالة حرمان أي شعب من وسائل أرزاقه الخاصة.
هذا هو القرار النظري، لكن هل هذا هو الواقع العملي لشعوب الأرض اليوم؟ بالتأكيد لا.
وباعتراف الدول الكبرى تقرأ ما يلي: (ونحن نعلم أيضاً أننا كمواطنين في العالم الصناعي نستهلك الموارد الطبيعية بمعدل لم يسبق له مثيل ولا يمكن لنا أن نتحمله، إن الدول الصناعية والتي تشمل الخمس فقط من سكان العالم تستنفذ ثلثي جميع الموارد التي يتم استهلاكها وتنتج أربعة أخماس جميع النفايات والملوثات).
أما الخمس الآخر من البشرية فيعيش في فقر مدقع (أي أكثر من بليون شخص تحت خط الفقر)، فلماذا هذا التمايز؟
ولا تزال حتى الآن مؤتمرات دول الشمال والجنوب تنفَّض عن غير اتفاق أمام ميزات الدول الصناعية واستئثارها بالثروة البشرية واستغلالها لضعف الشعوب الفقيرة.
جـ- حرية تكوين الأحزاب:
وهذا من شأن الشعوب الداخلية، ومع أن الأمر طبيعي وقطري، لكننا نفاجأ أن هذه الشعوب لا تملك هذه الحرية في ظل الدول المستعمرة، كما لا تملكه في ظل الأنظمة المستبدة، وكثير من دول العالم الثالث يتحكم في مصيرها اليوم دولة استعمارية، أو فرد واحد، أو حزب واحد أو طائفة واحدة أو دكتاتورية عسكرية متسلطة تجعل مصير هذه الشعوب بيد هذه الأقليات، وتقيم الوصاية عليها، وتعتبرها تحت سن الرشد، فتفكر لها وتحكم باسمها، وعلى الجماهير أن تصفق وتهتف أو تنتظر مصيرها في المعتقلات وأقبية المخابرات، وما أسعد الشعب الذي يتصرف بكامل حريته، ويملك حقه في تعدد الأحزاب التي تعبر عن قناعات هذا الشعب الفكرية والسياسية، وما أبأس الشعوب التي تفكر بعقل فرعون القائل:
{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}، ومع مرور الزمن يصدق الشعب ألوهية الحاكم
{فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين}، وهو نموذج الاستعباد في الأرض {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وفرق كبير بين الشيع والأحزاب التي يقيمها الحاكم أو المستعمر، وبين الأحزاب التي تعبر عن رغبات شعوبها، وتقدم برامج الإصلاح وتتنافس فيها في ظل تعددية سياسية.
د- حرية تكوين النقابات:
والنقابات صور من صور التقدم البشري المعاصر والتي تمثل فئات الشعب ومصالحه، والتي تكون ذات قوة تهز الأنظمة في الدول الديمقراطية كنقابات العمال والفلاحين، والنقابات العلمية كنقابات الأطباء والصيادلة والمعلمين، واتحادات الطلبة، والاتحادات النسائية، ونقابات المهندسين، والتي تمثل قطاعات الشعب كله، وترعى مصالح أبنائها وتقود مسيرة الشعوب بوعيها ونضالها للوضع الأقوم لهذه الشعوب.
هـ- حرية اختيار نظام الحكم:
ومع بداهة هذا الأمر وهذه الحرية، لكن هناك من يغتال هذه الحرية فالأصل أن لا سلطة أعلى من الشعب في اختيار نظام الحكم الذي يريده، والذي تختاره أكثرية الأمة، لكننا كثيراً ما نجد الأقلية تتحكم بمصير الأكثرية، وتحكمها بالحديد والنار، وتتحدث باسمها، والملاحظ أن كثيراً من هؤلاء الطغاة لا يؤمنون بالديمقراطية والتعددية إلا عندما يُزاحون عن الحكم، ويدخلون السجون، ويذوقون مرارة الظلم، فعندئذ يحسون بطعم الحرية، ويخرجون على الناس يدعون إلى الحرية وإلى الانتخابات وإلى الديمقراطية، وهل ستبقى الشعوب دائماً حقل تجارب لهؤلاء الطغاة، وإن ثار الشعب على جلاديه فالثوار إرهابيون، ودعاة الديمقراطية الغربية الذين يحاسبون حكامهم على النقير والقطمير، يسندون طغاة العالم الثالث، ويباركون ظلمهم، فهم يعتقدون أن هذه الشعوب لا تستحق الديمقراطية، فهم كاذبون ماضون وراء مصالحهم، لأن طريقة التعامل مع الطغاة سهلة وكما يقول كيسنجر التعامل مع شيخ القبيلة، فلا حاجة لمؤسسات ولا مجالس نيابية، فبإقناع شخص واحد يحققون مصالحهم أسهل بكثير من المؤسسات، ونسأل إلى أين وصل الغرب في حرية اختيار حكامه كما يقول (يانكلوفيتش): إن حريتنا السياسية ليست في خطر، فلا يوجد هناك ديكتاتور يبدو في الأفق، وليس هناك انقلاب عسكري وشيك الحدوث ومهما كان الخطر الذي كان يتهدد حريتنا السياسية من الشيوعية في الماضي، فإن هذا الخطر تضاءل كثيراً، وسيظل الأمريكيون أحراراً في المستقبل مثلما كانوا في الماضي في التصويت للمرشح الذي يختارونه، وأن يعربوا في حرية عما يدور في أذهانهم، وأن يستمتعوا بمزايا الصحافة الحرة) .
فمتى تصل شعوبنا إلى هذا الاستقرار؟
وإذا أردنا المستند الشرعي لحق الشعب في الاختيار لحكامه، فالأصل فيه قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وليس فرضاً أو جبرية أو تسلطاً، والأصل كذلك ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر للمسلمين بعد وفاته يختارون من يحبون، ويوم عدل صلى الله عليه وسلم عن استخلاف الصديق علل ذلك برضا المؤمنين بأنهم لا يرضون غيره ((ثم قلت: يدفع الله ويأبى المؤمنون))، وحين اختار عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عثمان على علي قال له: أما بعد يا علي، إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا)، والحديث (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)).
و- حرية اختيار العقيدة أو المذهب:
ومع الفطرة التي تمثل هذه الحرية، فقد كان الجحيم الشيوعي يفرض على الناس ديناً جديداً من الكفر والإلحاد، ويحارب الناس في دينهم غير حربهم في أرزاقهم وأفكارهم فـ (إن عدد مسلمي الاتحاد السوفيتي انخفض خلال الثلاثين سنة الماضية إلى النصف أو أكثر قليلاً، فبعد أن كان عددهم 45 مليوناً هبط إلى 22 مليون، وقد روى فريق من المسلمين اللاجئين من الاتحاد السوفيتي قصصاً مثيرة عن حوادث التعذيب والتجويع والتقتيل التي عانوا منها الأمرين على أيدي السوفييت، وقد كان من الجرائم العظمى بروسية في يوم من الأيام أن يضبط روسي متلبساً بجريمة الصلاة أو العبادة في كنيسة أو مسجد، وقد هدمت المساجد والكنائس جميعاً في روسية منذ سنين عديدة، وحُوِّل كثير منها إلى مصانع أو مخازن أو مسارح للهو، أو زرائب للماشية، وبقي قليل منها كمتاحف تمثل عهد الرجعية الاستغلالية البائد)، وتقول صحيفة (تركمانكايا) في 1 كانون الأول عام 1958:
إن العقيدة الدينية الإسلامية هي القوة المظلمة التي لا تزال تفسد العقول وحياة الشعوب، وتعيق النمو وتقف كأي حاجز في طريق السعادة والنور والمعرفة، هذا وإن الطقوس الدينية لا تزال لاصقة ثابتة كما أن الديانة لم تتوقف عن كونها مادة الأفيون لدى بعض الناس) .
بينما يعلن الإسلام المبدأ القائل: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} والمبدأ القائل {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ومن حق أي شعب أن يختار العقيدة التي يريد ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار.
ثالثاً- حرية الدولة:
إن الدولة حين تنبثق من إرادة شعبية تصبح شخصاً معنويا ًيمثل الأمة كلها، ويغدو الاعتداء على الدولة أو السلطة اعتداء على الشعب والوطن نفسه، وحين تقوم المؤسسات بشكل سليم وصحيح ويقوم مجلس منبثق عن الشعب يكون من حقه ابتداءً...
أ- حرية اختيار الدستور:
ففي عصرنا الحاضر يمثل دستور الأمة نظامها السياسي والفكري والقضائي ويحدد هويتها وثوابتها التي تنطلق منها، ويعتبر الدستور أحق من كل الأمور بالتمثيل الصحيح للأمة، فإذا جاءت حفنة تريد فرض قناعاتها على الأمة باسم الدستور فهذا سرق وامتهان لأكرم ما عند الدولة من الكرامة، ففي واقعنا السوري مثلاً نجد حكم حزب واحد وفرد واحد هو الأساس في بناء الدستور بحجة إرادة الشعب، وقناعة الشعب، وكل الأحزاب الأخرى، والقناعات الأخرى تمثل أعداء الشعب ولا حرية لأعداء الشعب، ورغم فشل الحزب في تحقيق جميع أهدافه، ورغم إخفاق كل برامجه التي وعد بها الأمة، مع كل ذلك فهو الحزب القائد، وهذه إرادة الأمة، وخلال ثلث قرن استطاع الحاكم الفرد أن ينقل الحكم لابنه، ويعدل الدستور ليكون مناسباً لسنه الصغير، ومع ذلك، فهذا هو حكم المؤسسات.
لقد أقام السوريون الدنيا وما أقعدوها ضد فرنسا عندما أرادت أن تلغي بعض مواد الدستور عام 1928 أو تقيد الدستور بموافقة المفوض السامي، وتعطلت الحياة السياسية قرابة عشر سنوات صراعاً بين إرادة الشعب السوري وإرادة الحاكم المستعمر، ويأتي الفرد الواحد ليصوغ الأمة على مزاجه وهواه معلناً حكمه إلى الأبد، وننتهي إلى أن حرية اختيار الدستور هو الذي يميز الشعب المستعبد من الشعب الحر، والدولة الديمقراطية، من الدولة المستبدة، وذلك في مجتمع وعصر أصبح احتكام الشعب للدستور يفوق احتكامه لمبادئ دينه.
ب -حرية إصدار القوانين:
وهي حرية مستمدة من حرية اختيار الدستور، فالشعب يختار القوانين التي تناسبه في شتى مجالات حياته، بحيث لا تتعارض مع الدستور في الدولة الديمقراطية، ولا تتعارض مع الإسلام ومع مبادئ الدستور في الدولة الإسلامية، ولمجلس الشعب دوره الرئيسي في إصدار القوانين بحيث يمثل سلطة التشريع في الدولة الديمقراطية، وحين يكون صادراً عن إرادة حرة يكون ممثلاً لقناعة الأمة، أما إن كان تعييناً من السلطان الحاكم أو الحزب الحاكم، فتأتي كل القوانين لتخدم هوى الطاغية مهما كان اسمه ولونه لا لتخدم مصلحة الشعب العامة، وتلبي رغباته، وتحقق تطلعاته.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
جـ- حرية ترابها وعدم الاعتداء عليها:
صحيح أن تراب الوطن هو أقرب لتمثيل الأمة منه للدولة، لكن الدولة هي الناطقة باسم الوطن، وهي المعترف عليها في المنظمات الدولية، وممثلوها هم ممثلون للوطن والشعب في كل مكان في العالم وإن اعتداء أي شعب أو دولة ومحاولة احتلاله أرض أي دولة أخرى بالقوة هو حق معترف عليه - ولو نظرياً على الأقل – في مواثيق الأمم المتحدة والشرعة الدولية، ففي الأصل الأول من ميثاق منظمة الأمم المتحدة وفي المادة (2) الفقرة 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً أن يمتنعوا في علاقاتهم عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضو في الهيئة أو استغلاله السياسي أو سلامة واستغلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة) .
وأصبح في الدول الوطنية المعاصرة قدسية لتراب الأرض، بحيث تقدم الأرواح في سبيل الذود عن هذا الوطن، ولا عجب، فقد رأينا كيف يوجب الإسلام الجهاد على كل أبناء الوطن بلا استثناء إن اجتاح عدو أرض المسلمين، أو استولى عليها, وعلى المسلمين في الأرض كلهم عونهم لهذا القطر على صد الاعتداء عنه.
د- حرية انضمامها أو انفصالها لدول أخرى:
وحين لا يعارض الدستور مثل هذا الانضمام ابتداءً وتقر المؤسسات الدستورية الممثلة للشعب هذا الانضمام، فهو من صلاحيات الدولة أن تقوم بتنفيذ ذلك، حتى لو تغير اسم الدولة لاسم آخر، وما أحوج أمتنا العربية أن تلغي كل هذه الكيانات المصطنعة الثلاثة والعشرين، وتكون دولة العرب الكبرى بحيث يؤخذ بنظام الاتحاد الفيدرالي الذي يحقق لكل شعب خصوصيته وحكمه الذاتي، وتبقى وزارات السيادة واحدة في هذه الدولة، ومن العيب أن تستمر هذه الدول الإقليمية على الساحة، وتبقى هذه الكيانات وتقدس هذه الحدود، والعرب المسلمون أمة واحدة ذو تاريخ واحد وثقافة واحدة، عاشت وبلغت ذروة أمجادها في ظل الإسلام الذي كان شريعة الحكم لها خلال أحقابها السالفة دون أن يمس حرية المعتقد لكل الديانات التي تتعايش مع الإسلام في منطلق واحد، فالإسلام عقيدة للمسلم وشرعة لكل العرب منبثقة من هوية الأمة وذاتيتها، وإيمانها بالله رب العالمين، وتاريخها القانوني العريق، وبمقدار ما يكون هذا الحق قائماً للدولة في الانضمام إلى دولة أخرى بمقدار ما تملك حق الانفصال عنها، وهذا ما جرى بين سورية ومصر بعد وحدة اندماجية بين القطرين حيث شكلتا دولة واحدة هي الجمهورية العربية المتحدة، ولم تستمر هذه الوحدة أكثر من ثلاث سنين حيث عادت سوريا فانفصلت عن مصر، وعادتا دولتين اثنتين، ولعل وحدة اليمنين كانت أقوى وأرسخ في الربع الأخير من القرن العشرين حيث كونتا دولة واحدة ولم تحافظ على وحدتها إلا بأنهار من الدماء.
هـ- حرية تكوين اتحادات سياسية واقتصادية:
ولعل هذه الاتحادات أقرب إلى واقع العرب المتخلف من الدولة الواحدة، وحتى هذه الاتحادات لم تدم طويلاً ولم تعش كثيراً لأمزجة الحكام وأهوائهم، فالمادة (1) من الدستور السوري:
1- الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها وهي عضو في دولة اتحاد الجمهوريات العربية.
2- القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي.
3- الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة.
و- حرية الانضمام للتحالفات والتكتلات الدولية:
ومن الوحدة إلى الاتحاد إلى التحالفات السياسية، وكلها من اختصاصات الدولة التي تبحث عن مصلحتها في ذلك، فالدول العربية جميعاً تشكل فيما بينها جامعة الدول العربية، وتشكل مع الدول الإسلامية في العالم منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم قرابة خمسين دولة، والدولة العربية الأفريقية عضو في منظمة الدول الأفريقية، وقد كانت أكبر كتلة سياسية فيها معظم الدول العربية هي كتلة دول عدم الانحياز التي تلاشت بعد انتهاء المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.
ز- حرية دخولها الهيئات العالمية:
وهذه الميزة الرئيسية للدولة المستقلة، حيث تساهم هذه الدول في عضوية الأمم المتحدة وجميع الهيئات المتفرعة عنها مثل منظمة العمل الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وهيئات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وغيرها من الهيئات المنبثقة عنها، وهي حرية اختيارية، وإن كانت منظمة الأمم المتحدة تجر الآن من قبل العلمانيين والمنحرفين في الأرض إلى تبني الشذوذ الجنسي ودمار الأسرة بحجة إنقاذ المرأة ورفع مستواها، وسيبقى المسلمون في الأرض الذين يقتربون من خمس البشرية لا يمثلون أي وزن سياسي في العالم طالما أنهم دول متفرقة متخلفة محرومة، وهذا الاتحاد الأوربي يعتبر نموذجاً حياً للجمع بين المصالح الإقليمية، ومصلحة القارة الأوربية، وأصبح كياناً يُخشى خطره أن يمثل توازن القوى في العالم مقابل الولايات المتحدة، ويرحم الله أيام الرشيد حين كان يخاطب السحابة: اذهبي حيث شئت فسيأتيني خراجك، وما أحوجنا إلى العودة إلى تلك الروح، وإلى تلك الوحدة، وذلك حين ننطلق من روح هذه الأمة من الإسلام، وإلا فما أحرانا أن نبقى في ذيل القافلة.
ح- بين الحرية الفردية وحريات الآخرين:
يبقى الفكر البشري القاصر هو الذي يمثل طغيان الحرية الفردية في النظام الغربي على حساب المجتمع والدولة والعدالة والمساواة، كما يشهد طغيان حرية الدولة على الحرية الفردية في الأنظمة الشمولية حيث تكون مصلحة الدولة والمجتمع هي الأساس ويسحق الفرد فيه ويتحول إلى رقم من الأرقام ويفقد إنسانيته وذاته ووجوده، الإسلام وحده في الأرض هو الذي يحقق هذا التوازن بين حرية الفرد وحرية المجتمع بين الحرية الشخصية وحريات الآخرين لأنه من لدن خبير {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} فما من حرية شخصية في الإسلام إلا ولها قيود تحقق مصلحة المجتمع كله من خلالها، في الملكية الفردية، في الحرية السياسية، في الحرية الاجتماعية، في الحرية الثقافية، ولا حاجة لضرب الأمثلة في ذلك، فكل بحث الحرية يقدم هذه التوازنات، ونماذج عنها، ولعل هذا الحديث الشامل يعطي بعضاً من هذه القيم العليا المتوازنة في المجتمع: (( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته))، قال فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي قال: (( والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
( فجميع النظريات تفترض أن العقل الإنساني هو لوح فارغ تُسجِّل عليه العوامل الخارجية ما شاءت منا انطباعات بهذه النظرة تجعل من البشر مخلوقات سلبية عاجزة مجردة من أية رسالة تحيا من أجلها وحياة البشر تحددها القوى المادية للتاريخ (ماركس) أو أنها تتحدد من جراء مؤثرات نفسية (فرويد) وغريزة (لورنز) وبيئية (بافلوف) و( واطسن) و( سكينرو) وغيرهم، وهذا يقود إلى إصدار حكم على غرار (سكيز) بأن الحرية الفردية هي خرافة لا يمكنها التوفيق بين الجبرية والمسؤولية البشرية، ولا يسع الوصفة الماركسية القائلة بإزالة البورجوازية والملكية الفردية وإقامة دكتاتورية الدولة مكانها إلا أن تطرح نوعاً آخر من الجبرية في الحياة الإنسانية، ألا وهي الجبرية التي يفرضها المكتب السياسي.
وعلى النقيض من الجبرية هنالك وجودية (سارتر) فيما أنه لا يوجد إله فإن الإنسان محكوم عليه بالحرية ولا حدود لحريته سوى أنه ليس حراً في أن يتخلى عن كونه حراً، إن كل جانب من جوانب حياة الإنسان الفكرية يصدر عن عزم وتصميم وعلى مسؤوليته، ولا شك أن هذا أفضل من الجبرية، لكن سارتر يرى أن هذه الحرية مطلقة فكل شيء مباح، فلا يوجد معنى ولا غاية متأصلة في الحياة البشرية، ولا يوجد قيم سامية أو موضوعية محددة للبشر، ولا قوانين إلهية، ولا مثل أفلاطونية ولا أي شيء آخر، فالبشر مهجورون ومنبوذون في العالم وعليهم الاهتمام بأنفسهم والأساس الوحيد للقيم هو الحرية البشرية، ومثل هذا المفهوم للحرية المطلقة لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مفاهيم عدم التدخل الرأسمالية.
وعلى نقيضٍ كامل لهذه الأفكار فإن مفهوم الخلافة يرقى بالبشر إلى مركز شريف وكريم في الكون {ولقد كرمنا بني آدم..} ويعطي معنى لحياة الرجل والمرأة على حد سواء ويحملهما رسالة، وهذا معنى يتولد من الإيمان بأن الإنسان لم يخلق عبثاً {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} ورسالته هي أن يتصرف وفقاً للهدى الإلهي رغم كونه حراً، وهذا ما يُستفاد من مفهوم العبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون...} بالمعنى الإسلامي التي تتضمن أمراً لا يجوز تجاوزه ألا وهو تأدية حقوق العباد وتعزيز رفاهيتهم وتحقيق مقاصد الشريعة، فلا عجب أن يُشدد الإسلام شأنه في ذلك شأن الأديان الكبرى الأخرى على الواجبات أكثر من الحقوق، والحكمة الكامنة وراء ذلك هي أنه إذا نفذت الواجبات من جانب كل شخص فإن المصلحة الخاصة تبقى تلقائياً ضمن حدود، وتبقى حقوق الجميع مصونة بلا ريب (فالإسلام بسيط وسهل الفهم والتسويغ وهو يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية هي التوحيد والخلافة (عن الله) والعدالة وهذه المبادئ هي الإطار للنظرة الإسلامية إلى الحياة كما هي منبع مقاصد الشريعة واستراتيجيتها) .
خامسا- الطرق بين الحرية والتحرير:
أ- طبيعة المعركة: لم يكن الحديث عن الحرية في الإسلام مجرد طرح فلسفي بارد، بل كان مهمة أساسية من مهام هذا الدين، وهو نقل الناس من العبودية إلى الحرية، وبالمصطلح الإسلامي: نقل الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، لقد حرَّر فكرهم ابتداءً بأنهم خلقوا أحراراً من أصل واحد.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
من أجل هذا كان العبيد المستضعفون هم النواة الأولى لهذا الدين حين شعروا أن الإسلام هو الذي يعيد لهم كرامتهم وآدميتهم، وكذلك النساء اللاتي كن يعانين من عبودية ورق بطريق آخر كما قال عمر رضي الله عنه: كنا لا نعد النساء شيئاً، إضافة إلى الشباب المتحررين من عقد الزعامة ومصالح السلطة، أما المتغطرسون المتكبرون المستعبدون فقد وقفوا ضد هذا الدين، والقرآن الكريم يعرض هذه المعركة كاملة في الصراع بين الشرك والتوحيد بين (الملأ) و( الذين استكبروا) وبين (المستضعفين) و(المؤمنين) في عرض يبلغ مساحة كبيرة في كتاب الله، وجعل الميزة فقط بين البشر بالتقوى والعمل الصالح:
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
ب- الحرب على الظالمين:
وروح القرآن كله ونصوصه تعلن الحرب على الظالمين في الأرض، على الطغاة المستبدين الذين يتحكمون بأرواح الناس وعقائدهم وأفكارهم وأقواتهم، ويجعل المهمة الأولى للإسلام في إزاحة هؤلاء الطواغيت من طريق الدعوة، بل اعتبر الإسلام الكفر قرين الظلم سواء بسواء، وقدَّم لنا مصارع هؤلاء الطغاة على مدار التاريخ البشري الذين كانوا يسخرون من الذين استضعفوا وآمنوا وكيف أهلكهم الله تعالى:
{وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض، وما كانوا سابقين فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
جـ- فجر جديد للبشرية:
وكان هذا الفجر بانتقال معركة الحرية من النطاق (المحلي) إلى النطاق (العالمي) ومع الرسالة الإعلامية الربانية الأخيرة لبشرية جاء فجر جديد لها، بحيث أصبح المؤمنون المستضعفون هم الذين ينتصرون من الظالمين بالجهاد والكفاح، وليس هلاك الطغاة بمعجزة ربانية.
وقد حفل ثلث القرآن وأكثر بعرض هؤلاء المستضعفين الذين انتصروا على المستكبرين وأقاموا دولة الإسلام في الأرض؛ الإسلام لله وحده لا لبشر، ولا لطاغية، ولا لحزب، ولا لفئة ولا لقوم، فسيد ولد آدم حين يقتل في المعركة بين (المؤمنين) و(الكافرين) ولا بد أن يتابع جنوده الجهاد من بعده لتمكين هذا الدين في الأرض لا لشخصه أو الثأر له.
{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب إلى عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين.. وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} .
لو كان لبشر أن يؤلَّه لكان ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكن له ذلك فقد انتهى تأليه البشر في الأرض كما قال الصديق رضي الله عنه عقب وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
وأصبحت معارك (التحرير) في بدر وأحد والخندق وغيرها، ليست معارك محلية بين الأنصار والمهاجرين وبين قريش إنما هي معارك تحرير كبرى، ومعالم تغيير في تاريخ البشرية، وانتقلت من أن تكون تاريخاً يُحكى إلى أن تغدوا قرآنا يُتلى على أجيال البشرية اللاحقة أن تتابع النسج على منواله.
د- تحرير الجزيرة العربية:
وقاد معارك التحرير التالية أبو بكر الصديق خليفة رسول الله، وأنهى الطغاة والمستكبرون والجبارين في جزيرة العرب من خلال حروب (الردة)؛ الردة التي كانت تود أن تعود بالبشرية إلى عهود الطغيان والذل والعبودية وحقق الله تعالى بهم موعوده.
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} .
وحين أنهى الصديق الظلم والطغيان في قلب الجزيرة العربية أطلق جيوشه نحو الأرض كلها في فارس والروم، فلم تنته المهمة بعد، إنما كانت هذه نقطة انطلاق نحو حرب التحرير (البشرية) بعد حرب التحرر (العربية).
هـ- مبادئ حروب التحرير الإسلامية:
وكان انطلاق خط تحرير (البشرية) بهذا المنهج الذي مثله خطبة الصديق رضي الله عنه ووصيته للأمراء الذين بعثهم لفتح الشام:
( يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني، لا تخونوا، ولا تغِلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولاتعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم، وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله) .
و- العهد الذهبي للحرية:
وكان العهد النبوي والعهد الراشدي عهد تحرير البشرية من سلطان الطغاة في الأرض، ليدخلوا في دين الله لا في دين أحد من خلقه، واستمر ثلث قرن من الزمان كان عرس الحرية بكل أبعادها المدنية السياسية في طريقة اختيار الحاكم، وفي المنهج الذي يسير عليه الحاكم، وفي محاسبته ومساءلته كما حدَّد أبو بكر رضي الله عنه ذلك بقوله:
( إني وليت عليكم ولست بخيركم.. إن أحسنت فأطيعوني وإن زغت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم).
وكما حدد عمر رضي الله عنه: (إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما تسع بعضنا لبعض، فإن عجز عن ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض عليَّ لأمانة فإن رددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتها إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقالُ ولا أرد فأستعتب) .
( وذاك عثمان رضي الله عنه يبعث في الأمصار قائلاً: أما بعد فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرفع عليَّ شيء، ولا أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون وآخرون يضربون فيا من ضُرب سراً، وشتم سراً من ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين) .
وتلك خطبة البيعة لعلي رضي الله عنه، وطريق بيعته:
( اجتمع المهاجرون والأنصار فأتوا علياً فقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله لا نختار غيرك، قال: فاختلفوا إليه مراراً بعدما قُتل عثمان، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم:
( إنكم قد اختلفتم إليَّ وأتيتم، وإن قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلا فلا حاجة لي فيه، قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله، فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: إني كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، لا وإنه ليس لي أمر دونكم، ألا إن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منكم درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد عليهم، ثم بايعهم على ذلك).
صحيح أن تراب الوطن هو أقرب لتمثيل الأمة منه للدولة، لكن الدولة هي الناطقة باسم الوطن، وهي المعترف عليها في المنظمات الدولية، وممثلوها هم ممثلون للوطن والشعب في كل مكان في العالم وإن اعتداء أي شعب أو دولة ومحاولة احتلاله أرض أي دولة أخرى بالقوة هو حق معترف عليه - ولو نظرياً على الأقل – في مواثيق الأمم المتحدة والشرعة الدولية، ففي الأصل الأول من ميثاق منظمة الأمم المتحدة وفي المادة (2) الفقرة 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً أن يمتنعوا في علاقاتهم عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضو في الهيئة أو استغلاله السياسي أو سلامة واستغلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة) .
وأصبح في الدول الوطنية المعاصرة قدسية لتراب الأرض، بحيث تقدم الأرواح في سبيل الذود عن هذا الوطن، ولا عجب، فقد رأينا كيف يوجب الإسلام الجهاد على كل أبناء الوطن بلا استثناء إن اجتاح عدو أرض المسلمين، أو استولى عليها, وعلى المسلمين في الأرض كلهم عونهم لهذا القطر على صد الاعتداء عنه.
د- حرية انضمامها أو انفصالها لدول أخرى:
وحين لا يعارض الدستور مثل هذا الانضمام ابتداءً وتقر المؤسسات الدستورية الممثلة للشعب هذا الانضمام، فهو من صلاحيات الدولة أن تقوم بتنفيذ ذلك، حتى لو تغير اسم الدولة لاسم آخر، وما أحوج أمتنا العربية أن تلغي كل هذه الكيانات المصطنعة الثلاثة والعشرين، وتكون دولة العرب الكبرى بحيث يؤخذ بنظام الاتحاد الفيدرالي الذي يحقق لكل شعب خصوصيته وحكمه الذاتي، وتبقى وزارات السيادة واحدة في هذه الدولة، ومن العيب أن تستمر هذه الدول الإقليمية على الساحة، وتبقى هذه الكيانات وتقدس هذه الحدود، والعرب المسلمون أمة واحدة ذو تاريخ واحد وثقافة واحدة، عاشت وبلغت ذروة أمجادها في ظل الإسلام الذي كان شريعة الحكم لها خلال أحقابها السالفة دون أن يمس حرية المعتقد لكل الديانات التي تتعايش مع الإسلام في منطلق واحد، فالإسلام عقيدة للمسلم وشرعة لكل العرب منبثقة من هوية الأمة وذاتيتها، وإيمانها بالله رب العالمين، وتاريخها القانوني العريق، وبمقدار ما يكون هذا الحق قائماً للدولة في الانضمام إلى دولة أخرى بمقدار ما تملك حق الانفصال عنها، وهذا ما جرى بين سورية ومصر بعد وحدة اندماجية بين القطرين حيث شكلتا دولة واحدة هي الجمهورية العربية المتحدة، ولم تستمر هذه الوحدة أكثر من ثلاث سنين حيث عادت سوريا فانفصلت عن مصر، وعادتا دولتين اثنتين، ولعل وحدة اليمنين كانت أقوى وأرسخ في الربع الأخير من القرن العشرين حيث كونتا دولة واحدة ولم تحافظ على وحدتها إلا بأنهار من الدماء.
هـ- حرية تكوين اتحادات سياسية واقتصادية:
ولعل هذه الاتحادات أقرب إلى واقع العرب المتخلف من الدولة الواحدة، وحتى هذه الاتحادات لم تدم طويلاً ولم تعش كثيراً لأمزجة الحكام وأهوائهم، فالمادة (1) من الدستور السوري:
1- الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها وهي عضو في دولة اتحاد الجمهوريات العربية.
2- القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي.
3- الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة.
و- حرية الانضمام للتحالفات والتكتلات الدولية:
ومن الوحدة إلى الاتحاد إلى التحالفات السياسية، وكلها من اختصاصات الدولة التي تبحث عن مصلحتها في ذلك، فالدول العربية جميعاً تشكل فيما بينها جامعة الدول العربية، وتشكل مع الدول الإسلامية في العالم منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم قرابة خمسين دولة، والدولة العربية الأفريقية عضو في منظمة الدول الأفريقية، وقد كانت أكبر كتلة سياسية فيها معظم الدول العربية هي كتلة دول عدم الانحياز التي تلاشت بعد انتهاء المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.
ز- حرية دخولها الهيئات العالمية:
وهذه الميزة الرئيسية للدولة المستقلة، حيث تساهم هذه الدول في عضوية الأمم المتحدة وجميع الهيئات المتفرعة عنها مثل منظمة العمل الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وهيئات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وغيرها من الهيئات المنبثقة عنها، وهي حرية اختيارية، وإن كانت منظمة الأمم المتحدة تجر الآن من قبل العلمانيين والمنحرفين في الأرض إلى تبني الشذوذ الجنسي ودمار الأسرة بحجة إنقاذ المرأة ورفع مستواها، وسيبقى المسلمون في الأرض الذين يقتربون من خمس البشرية لا يمثلون أي وزن سياسي في العالم طالما أنهم دول متفرقة متخلفة محرومة، وهذا الاتحاد الأوربي يعتبر نموذجاً حياً للجمع بين المصالح الإقليمية، ومصلحة القارة الأوربية، وأصبح كياناً يُخشى خطره أن يمثل توازن القوى في العالم مقابل الولايات المتحدة، ويرحم الله أيام الرشيد حين كان يخاطب السحابة: اذهبي حيث شئت فسيأتيني خراجك، وما أحوجنا إلى العودة إلى تلك الروح، وإلى تلك الوحدة، وذلك حين ننطلق من روح هذه الأمة من الإسلام، وإلا فما أحرانا أن نبقى في ذيل القافلة.
ح- بين الحرية الفردية وحريات الآخرين:
يبقى الفكر البشري القاصر هو الذي يمثل طغيان الحرية الفردية في النظام الغربي على حساب المجتمع والدولة والعدالة والمساواة، كما يشهد طغيان حرية الدولة على الحرية الفردية في الأنظمة الشمولية حيث تكون مصلحة الدولة والمجتمع هي الأساس ويسحق الفرد فيه ويتحول إلى رقم من الأرقام ويفقد إنسانيته وذاته ووجوده، الإسلام وحده في الأرض هو الذي يحقق هذا التوازن بين حرية الفرد وحرية المجتمع بين الحرية الشخصية وحريات الآخرين لأنه من لدن خبير {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} فما من حرية شخصية في الإسلام إلا ولها قيود تحقق مصلحة المجتمع كله من خلالها، في الملكية الفردية، في الحرية السياسية، في الحرية الاجتماعية، في الحرية الثقافية، ولا حاجة لضرب الأمثلة في ذلك، فكل بحث الحرية يقدم هذه التوازنات، ونماذج عنها، ولعل هذا الحديث الشامل يعطي بعضاً من هذه القيم العليا المتوازنة في المجتمع: (( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته))، قال فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي قال: (( والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) .
( فجميع النظريات تفترض أن العقل الإنساني هو لوح فارغ تُسجِّل عليه العوامل الخارجية ما شاءت منا انطباعات بهذه النظرة تجعل من البشر مخلوقات سلبية عاجزة مجردة من أية رسالة تحيا من أجلها وحياة البشر تحددها القوى المادية للتاريخ (ماركس) أو أنها تتحدد من جراء مؤثرات نفسية (فرويد) وغريزة (لورنز) وبيئية (بافلوف) و( واطسن) و( سكينرو) وغيرهم، وهذا يقود إلى إصدار حكم على غرار (سكيز) بأن الحرية الفردية هي خرافة لا يمكنها التوفيق بين الجبرية والمسؤولية البشرية، ولا يسع الوصفة الماركسية القائلة بإزالة البورجوازية والملكية الفردية وإقامة دكتاتورية الدولة مكانها إلا أن تطرح نوعاً آخر من الجبرية في الحياة الإنسانية، ألا وهي الجبرية التي يفرضها المكتب السياسي.
وعلى النقيض من الجبرية هنالك وجودية (سارتر) فيما أنه لا يوجد إله فإن الإنسان محكوم عليه بالحرية ولا حدود لحريته سوى أنه ليس حراً في أن يتخلى عن كونه حراً، إن كل جانب من جوانب حياة الإنسان الفكرية يصدر عن عزم وتصميم وعلى مسؤوليته، ولا شك أن هذا أفضل من الجبرية، لكن سارتر يرى أن هذه الحرية مطلقة فكل شيء مباح، فلا يوجد معنى ولا غاية متأصلة في الحياة البشرية، ولا يوجد قيم سامية أو موضوعية محددة للبشر، ولا قوانين إلهية، ولا مثل أفلاطونية ولا أي شيء آخر، فالبشر مهجورون ومنبوذون في العالم وعليهم الاهتمام بأنفسهم والأساس الوحيد للقيم هو الحرية البشرية، ومثل هذا المفهوم للحرية المطلقة لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مفاهيم عدم التدخل الرأسمالية.
وعلى نقيضٍ كامل لهذه الأفكار فإن مفهوم الخلافة يرقى بالبشر إلى مركز شريف وكريم في الكون {ولقد كرمنا بني آدم..} ويعطي معنى لحياة الرجل والمرأة على حد سواء ويحملهما رسالة، وهذا معنى يتولد من الإيمان بأن الإنسان لم يخلق عبثاً {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} ورسالته هي أن يتصرف وفقاً للهدى الإلهي رغم كونه حراً، وهذا ما يُستفاد من مفهوم العبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون...} بالمعنى الإسلامي التي تتضمن أمراً لا يجوز تجاوزه ألا وهو تأدية حقوق العباد وتعزيز رفاهيتهم وتحقيق مقاصد الشريعة، فلا عجب أن يُشدد الإسلام شأنه في ذلك شأن الأديان الكبرى الأخرى على الواجبات أكثر من الحقوق، والحكمة الكامنة وراء ذلك هي أنه إذا نفذت الواجبات من جانب كل شخص فإن المصلحة الخاصة تبقى تلقائياً ضمن حدود، وتبقى حقوق الجميع مصونة بلا ريب (فالإسلام بسيط وسهل الفهم والتسويغ وهو يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية هي التوحيد والخلافة (عن الله) والعدالة وهذه المبادئ هي الإطار للنظرة الإسلامية إلى الحياة كما هي منبع مقاصد الشريعة واستراتيجيتها) .
خامسا- الطرق بين الحرية والتحرير:
أ- طبيعة المعركة: لم يكن الحديث عن الحرية في الإسلام مجرد طرح فلسفي بارد، بل كان مهمة أساسية من مهام هذا الدين، وهو نقل الناس من العبودية إلى الحرية، وبالمصطلح الإسلامي: نقل الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، لقد حرَّر فكرهم ابتداءً بأنهم خلقوا أحراراً من أصل واحد.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
من أجل هذا كان العبيد المستضعفون هم النواة الأولى لهذا الدين حين شعروا أن الإسلام هو الذي يعيد لهم كرامتهم وآدميتهم، وكذلك النساء اللاتي كن يعانين من عبودية ورق بطريق آخر كما قال عمر رضي الله عنه: كنا لا نعد النساء شيئاً، إضافة إلى الشباب المتحررين من عقد الزعامة ومصالح السلطة، أما المتغطرسون المتكبرون المستعبدون فقد وقفوا ضد هذا الدين، والقرآن الكريم يعرض هذه المعركة كاملة في الصراع بين الشرك والتوحيد بين (الملأ) و( الذين استكبروا) وبين (المستضعفين) و(المؤمنين) في عرض يبلغ مساحة كبيرة في كتاب الله، وجعل الميزة فقط بين البشر بالتقوى والعمل الصالح:
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
ب- الحرب على الظالمين:
وروح القرآن كله ونصوصه تعلن الحرب على الظالمين في الأرض، على الطغاة المستبدين الذين يتحكمون بأرواح الناس وعقائدهم وأفكارهم وأقواتهم، ويجعل المهمة الأولى للإسلام في إزاحة هؤلاء الطواغيت من طريق الدعوة، بل اعتبر الإسلام الكفر قرين الظلم سواء بسواء، وقدَّم لنا مصارع هؤلاء الطغاة على مدار التاريخ البشري الذين كانوا يسخرون من الذين استضعفوا وآمنوا وكيف أهلكهم الله تعالى:
{وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض، وما كانوا سابقين فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
جـ- فجر جديد للبشرية:
وكان هذا الفجر بانتقال معركة الحرية من النطاق (المحلي) إلى النطاق (العالمي) ومع الرسالة الإعلامية الربانية الأخيرة لبشرية جاء فجر جديد لها، بحيث أصبح المؤمنون المستضعفون هم الذين ينتصرون من الظالمين بالجهاد والكفاح، وليس هلاك الطغاة بمعجزة ربانية.
وقد حفل ثلث القرآن وأكثر بعرض هؤلاء المستضعفين الذين انتصروا على المستكبرين وأقاموا دولة الإسلام في الأرض؛ الإسلام لله وحده لا لبشر، ولا لطاغية، ولا لحزب، ولا لفئة ولا لقوم، فسيد ولد آدم حين يقتل في المعركة بين (المؤمنين) و(الكافرين) ولا بد أن يتابع جنوده الجهاد من بعده لتمكين هذا الدين في الأرض لا لشخصه أو الثأر له.
{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب إلى عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين.. وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} .
لو كان لبشر أن يؤلَّه لكان ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكن له ذلك فقد انتهى تأليه البشر في الأرض كما قال الصديق رضي الله عنه عقب وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
وأصبحت معارك (التحرير) في بدر وأحد والخندق وغيرها، ليست معارك محلية بين الأنصار والمهاجرين وبين قريش إنما هي معارك تحرير كبرى، ومعالم تغيير في تاريخ البشرية، وانتقلت من أن تكون تاريخاً يُحكى إلى أن تغدوا قرآنا يُتلى على أجيال البشرية اللاحقة أن تتابع النسج على منواله.
د- تحرير الجزيرة العربية:
وقاد معارك التحرير التالية أبو بكر الصديق خليفة رسول الله، وأنهى الطغاة والمستكبرون والجبارين في جزيرة العرب من خلال حروب (الردة)؛ الردة التي كانت تود أن تعود بالبشرية إلى عهود الطغيان والذل والعبودية وحقق الله تعالى بهم موعوده.
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} .
وحين أنهى الصديق الظلم والطغيان في قلب الجزيرة العربية أطلق جيوشه نحو الأرض كلها في فارس والروم، فلم تنته المهمة بعد، إنما كانت هذه نقطة انطلاق نحو حرب التحرير (البشرية) بعد حرب التحرر (العربية).
هـ- مبادئ حروب التحرير الإسلامية:
وكان انطلاق خط تحرير (البشرية) بهذا المنهج الذي مثله خطبة الصديق رضي الله عنه ووصيته للأمراء الذين بعثهم لفتح الشام:
( يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني، لا تخونوا، ولا تغِلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولاتعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم، وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله) .
و- العهد الذهبي للحرية:
وكان العهد النبوي والعهد الراشدي عهد تحرير البشرية من سلطان الطغاة في الأرض، ليدخلوا في دين الله لا في دين أحد من خلقه، واستمر ثلث قرن من الزمان كان عرس الحرية بكل أبعادها المدنية السياسية في طريقة اختيار الحاكم، وفي المنهج الذي يسير عليه الحاكم، وفي محاسبته ومساءلته كما حدَّد أبو بكر رضي الله عنه ذلك بقوله:
( إني وليت عليكم ولست بخيركم.. إن أحسنت فأطيعوني وإن زغت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم).
وكما حدد عمر رضي الله عنه: (إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما تسع بعضنا لبعض، فإن عجز عن ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض عليَّ لأمانة فإن رددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتها إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقالُ ولا أرد فأستعتب) .
( وذاك عثمان رضي الله عنه يبعث في الأمصار قائلاً: أما بعد فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يُرفع عليَّ شيء، ولا أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون وآخرون يضربون فيا من ضُرب سراً، وشتم سراً من ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين) .
وتلك خطبة البيعة لعلي رضي الله عنه، وطريق بيعته:
( اجتمع المهاجرون والأنصار فأتوا علياً فقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله لا نختار غيرك، قال: فاختلفوا إليه مراراً بعدما قُتل عثمان، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم:
( إنكم قد اختلفتم إليَّ وأتيتم، وإن قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلا فلا حاجة لي فيه، قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله، فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: إني كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، لا وإنه ليس لي أمر دونكم، ألا إن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منكم درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد عليهم، ثم بايعهم على ذلك).
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
ونفقه من هذه النصوص ما يلي:
1- الحاكم يدع شعبه لتقويمه إن انحرف عن الطريق، والثورة عليه، وعدم طاعته إن عصى الله
2- الحاكم يعيش حياة أفقر أبناء شعبه ليستوي معهم بالكفاف، ومهمة الحاكم أن يشبع شعبه ويتعب ويحزن ليفرح شعبه، وكل خوفه من ربه أن يقصر فلا يقبله ربه ولا تقبل عذره.
3- الحاكم يسلط شعبه على كبار موظفي دولته، ويدعو المظلومين إلى لقاء رئيس الدولة للاقتصاص من نواب رئيس الدولة، بينما يسامح الشعب بحق الولاة عليهم.
4 -الحاكم يعلن لمجلس شوراه أنه لا سلطة له إلا برأيهم، ولا حق له بدرهم واحد من خزينة الدولة إلا راتبه المتواضع.
ز- من الخلافة إلى الملك:
أول الخلل من الخلافة إلى الملك: وانتهى العهد الذهبي للبشرية وللحرية مع انتهاء العهد الراشدي أو أرشد عهود البشرية كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام أحمد عن سفينة رضي الله عنه، قال:
(( الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك))، وبرز الخلل واضحاً في الانتقال إلى ولاية العهد عن البيعة الحرة من الأمة وهو الذي عبر عنه ابن الصديق رضي الله عنه بسنة كسرى وقيصر.
( أخرج الزبير عن عبد الله بن نافع قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد فكلمه الحسين بن علي وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فقال له عبد الرحمن: أهرقلية كلما مات قيصر كان قيصر مكانه لا نفعل والله أبداً) .
وفي رواية (فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر)، وكانت ثورة الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم.
وتوفي يزيد: لكن الأمة عادت بعد حروب إلى ولاية العهد، ولم تستطع أن ترتفع إلى مستوى الخلافة الراشدة خلال أربعة عشر قرناً من الزمان، هذا المستوى هو الوصول إلى الإمرة عن طريق الانتخاب لا البيعة المفروضة بالقوة.
وكان الخلل الثاني في الانتقال من الخلافة إلى الملك، هو في حق التصرف بمال الدولة، وحق المحاسبة للخليفة فعمر رضي الله عنه يحدد سلطة رئيس الدولة بالمال بقوله:
( إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين، حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به واعتمر، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين).
فليس إذن أعلى راتب في الدولة هو راتب رئيسها، بل هو راتب أوساط الموظفين، أما الأمراء وحكام الولايات فما هي شروطهم عند عمر رضي الله عنه:
عن ابن خزيمة بن ثابت الأنصاري، قال: كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له عهداً وأشهد عليه رهطاً من المهاحرين والأنصار واشترط عليه أن لا يركب برذوناً، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يتخذ باباً دون حاجات الناس.
وفي عهد معاوية رضي الله عنه بعد أن تحولت الخلافة إلى الملك، خطب ذات يوم فقال:
( إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثانية، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل فقال: كلا، عن المال مالنا والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا، فنزل معاوية، فأرسل إلى الرجل فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل، ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية: إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( سيكون من بعدي أمراء يقولون ولا يُرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة)).
وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد عليٍّ أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، فلما تكلمت في الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فرد عليَّ فأحياني أحياه الله) .
إنه لو بقي هذا الأمر في عهد معاوية وفي أرجاء ملكه لقلنا أننا لا نزال في عهد خليفة، لكن ما أعلنه زياد بن أبيه والي العراق ولم يرد عليه أحد يغاير هذا المفهوم حيث ختم خطبته بقوله:
( أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمناصحتكم لنا).
ولم يرد عليه أحد، ولم يجب إلا ما ذكر عن مرداس بن أدية الذي وقف فقال: أنبأ الله بغير ما قلت، فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلاً حتى نخوض إليها الدماء.
فمعاوية أكرم الرجل وأجلسه بجواره وأثنى عليه، أما زياد فهدده ببحور الدماء حتى يستقر الملك.
سادسا- مفاهيم إسلامية عن الحرية:
آ- الفراق بين الكتاب والسلطان:
عندنا حديثان يسمان تاريخنا الإسلامي الحاكم؛ الأول:
(( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكاً جبرياً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)) ثم سكت) .
الحديث الثاني: (( ألا إن الكتاب والسلطان دائران، فدوروا مع الكتاب حيث دار.. ألا إنه سيليكم أمراء إن أطعتموهم ضلوكم أو عصيتموهم قتلوكم، قالوا: فما نفعل يا رسول الله؟ قال: افعلوا كما فعل أصحاب عيسى بن مريم صُلبوا على الخشب، ونُشروا بالمناشير، ما صدَّهم ذلك عن دين الله، والذي نفسي بده لموت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله)).
إن الإسلام الذي دعانا أن نناضل لإعادة السلطان إلى الكتاب، هو الذي يقودنا إلى الخلافة على منهاج النبوة، حيث يترك للأمة اختيار حكامها كما فعلت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهدها الذهبي، وتضع تحكيم كتاب الله وسنة رسوله دستورها، وتقوم المؤسسات التي تراقب وتحاسب وتصوِّب وتسدد والمؤسسات التي تساهم في تقديم الخدمات للأمة في كل شيء، فنعود لمنبع النور من جديد.
ب- من هم الظالمون:
المعنى العظيم الذي لا نجده في أي دستور من دساتير الأرض غير كتاب الله، عن الظالمين، هو أن الظالمين والمظلومين من أتباعهم وخدمهم وجنودهم وغوغائهم كلهم ظالمون، فالرضوخ للظلم وقبوله والسكوت عليه دخل الممالئين في عداد الظالمين.
{.... ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون} .
فهؤلاء المستضعفين لا يعبأ الله لهم، بل لهم عذاب المستكبرين أنفسهم.
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا،إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} .
فالذين يسيرون في فلك الطغاة والمستبدين وينفذون مخططاتهم ويهتفون لباطلهم هم والطغاة سواءٌ في ميزان الله.
جـ- ثورة المستضعفين:
إنما يريد الإسلام من أتباعه أن يكونوا هم الثورة الحقيقية ضد الطغيان والطغاة مهما كلفهم ذلك من ثمن، حتى يقدموا الحرية لهم ولأجيالهم من بعدهم وإلا فالنار مصيرهم.
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دونه من أولياء ثم لا تنصرون} .
هذه الخطوة الأولى، والخطوة الثانية الانتقال من الجانب السلبي في عدم الركون إلى الكافرين إلى مواجهة هذا الظلم، ففيه وحده النجاة من غضب الله.
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين}.
فهم (المترفون) وهم (الظالمون) وهم (المجرمون) واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين هم وصنائعهم وزبانيتهم وأتباعهم إلا الذين قاوموا هذا الظلم – على قلتهم – وواجهوا هذا الفساد فهم الذين أنجاهم الله من العذاب في الدنيا والآخرة، وتحملوا مسؤولية هذا النهي عن الفساد تشريداً واعتقالاً وقتلاً وإبادة.
د- ثورات التحرير في عالمنا الإسلامي المعاصر:
لقد شهد هذا القرن استعمار العالم الإسلامي من دعاة الديمقراطية الغربية، وشهد كذلك تحرر العالم الإسلامي من نير الاستعمار، والظاهرة التي لا تخفي نفسها هي أن التاريخ قد شوَّه هذه الثورات واعتبر دعاة القومية والوطنية هم المحررون، ولم يكتف بذلك، بل اتهم الإسلاميين ودعاة الإسلام بأنهم عملاء بريطانيا وعملاء أمريكا، وعملاء الإمبريالية والصهيونية، ولئن شُوِّه هذا التاريخ في ظل حكم العلمانيين العرب، لكنهم لن يستطيعوا أبداً أن يحجبوا ضوء الشمس بأكفهم أو يطفئوا نور الله بأفواههم.
فمن الذي ينكر دور (الأزهر) العظيم في مصر، وهو الذي كان يحرك الملايين بإشارة منه للثورة السلمية أو الحربية منذ نابليون حتى حرب اكتوبر مروراً بالثورات ضد الإنكليز في كل مكان وحرب قناة السويس ضد العدوان الثلاثي، ومن قبل ضد الاستعمار البريطاني، ولقد ألفت كتب في هذا الجهاد العظيم منها " ودخلت الخيل الأزهر ".
ولن ينسى التاريخ أن سليمان الحلبي الشامي، الطالب الأزهري هو الذي قتل كليبر خليفة نابليون في مصر وكتب (الإخوان المسلمين في حرب فلسطين) و(المقاومة السرية في قناة السويس) والوجه الإسلامي (الحرب اكتوبر) التي يطلق عليها المصريون تبركاً بـ (حرب رمضان) لأنها كانت والجنود يؤدون فريضة الصيام لربهم جلَّ جلاله، وكيف كان (حسن البنا) رمز النضال في مصر، فطالب الإنكليز برأسه من العرش البريطاني وحلِّ جماعته.
وإذا انتقلنا إلى ثرى الشام الطهور، فمن ينكر مفجر الثورة السورية الشيخ (بدر الدين الحسيني) الذي زار كل المحافظات السورية واتصل برجالاتها حيث أعلنت الثروة بعد ذلك، والبطولات العظيمة في الغوطة والتي كان يشرف على قيادة عملياتها بنفسه، فكان (سعيد العاص وحسن الخراط) يلتقيان به فجر كل يوم يمدهم بالمال والسلاح والشيخ (محمد الأشمر) والشيخ (كامل القصاب) الذي حكم بالإعدام أكثر من مرة، وفي فلسطين التي لم تعرف أبناء سلاح حقيقيين مثل العلماء، ابتداءً بالشيخ (عز الدين القسام) في الثلاثينات، ومروراً بالحاج (أمين الحسيني) والبطل (عبد القادر الحسيني) والبطل (مصطفى السباعي) الذي قاد كتائب الإخوان السوريين في فلسطين، وجاب الأرض أثناء الهدنة بحثاً عن السلاح، واستشهد معه كرام أبناء دمشق، وكان لهم شرف الحفاظ على القدس أثناء التقسيم، ومن ينكر ريادة الإمام الشهيد حسن البنا للفداء في فلسطين حيث قاد كتائب الإخوان في سوريا والأردن وفلسطين من خلال الشهداء العظام محمد فرغلي ويوسف طلعت الذين كوفئوا بالإعدام على يد عبد الناصر.
ومن ينكر دور الخليفة العظمي السلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض أن يفرط بذرَّة تراب من ثرى فلسطين، وكان أن انتقم اليهود منه بإقصائه عن عرشه لرفضه لمخططاتهم، فكان حاخام اليهود أحد الذين سلموه طلب وثيقة التنازل عن العرش، وذكره أن هذا ثمن رفض تنفيذ مخططات صهيون.
نحن لا ننكر أن الشعب بكل فئاته في سورية ومصر قاوم الاستعمار في حوران والجبل وحمص وحماة وحلب، لكننا نؤكد أن دور الريادة في التحرير كانت لعلماء الأمة وقادتها المجاهدين المسلمين، من الشرق العربي إلى المغرب العربي، الذي لا نكاد نرى فيه ثورة إلا بقيادة رجالات الإسلام العظام، ابتداءً من ليبيا حيث السنوسية كلها التي ربَّت أبناءها على الجهاد ضد الطليان، وعمر المختار رمز الصمود والمقاومة في هذا القطر هو عالم من أعظم علماء الإسلام هناك، ومروراً بعلال الفاسي في تونس رئيس حزب الاستقلال، ونضاله مع إخوانه الآخرين للتحرير من الاستعمار الفرنسي، ومحمد عبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، والشيخ عبد الحميد باديس الذي قام تلامذته بتفجير ثورة الـ 56 والتي اعترفت على أثرها فرنسا بالثورة الجزائرية، كما اعترف بذلك (بن بيلا) رئيس أول جمهورية بعد الاستقلال.
وحين تغادر الوطن العربي إلى الوطن الإسلامي تجد قادة ثورات التحرير كلهم يستمدون روحهم القتالية من مبادئ الإسلام ورجالاته الذين كانوا على رأس الحركة الوطنية في كل قطر، وما حرب الأفغان والشيشان والبوسنة والهرسك بسر، حتى أصبح هذا العصر يطلقون عليه عصر الإرهاب الإسلامي، زوراً وبهتاناً، لأن هؤلاء ثاروا ضد الصليبية الحاقدة والديمقراطية الزائفة التي احتلت بلادهم باسم التقدم والعمران، والوصاية والانتداب، وانتهاء بروسيا جزارة الشعوب، وفكرها الأحمر في العهد الشيوعي، وتاريخها الأسود في العهد الديمقراطي الغربي، وحملت حماس الراية لتحرير فلسطين من النهر إلى النهر بجوار (كتائب الجهاد) باسم الإسلام، حين استراح ثوار القومية والوطنية من وعثاء السفر، وراحوا يوقعون وثائق الخزي والعار بالتنازل عن فلسطين، وأخذ الفتات، الذي لا يعادل عشر أرض فلسطين باسم السلام.
ويمكن العودة إلى (وثائق) التاريخ التي تثبت هذه الجولة {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} .
1- الحاكم يدع شعبه لتقويمه إن انحرف عن الطريق، والثورة عليه، وعدم طاعته إن عصى الله
2- الحاكم يعيش حياة أفقر أبناء شعبه ليستوي معهم بالكفاف، ومهمة الحاكم أن يشبع شعبه ويتعب ويحزن ليفرح شعبه، وكل خوفه من ربه أن يقصر فلا يقبله ربه ولا تقبل عذره.
3- الحاكم يسلط شعبه على كبار موظفي دولته، ويدعو المظلومين إلى لقاء رئيس الدولة للاقتصاص من نواب رئيس الدولة، بينما يسامح الشعب بحق الولاة عليهم.
4 -الحاكم يعلن لمجلس شوراه أنه لا سلطة له إلا برأيهم، ولا حق له بدرهم واحد من خزينة الدولة إلا راتبه المتواضع.
ز- من الخلافة إلى الملك:
أول الخلل من الخلافة إلى الملك: وانتهى العهد الذهبي للبشرية وللحرية مع انتهاء العهد الراشدي أو أرشد عهود البشرية كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام أحمد عن سفينة رضي الله عنه، قال:
(( الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك))، وبرز الخلل واضحاً في الانتقال إلى ولاية العهد عن البيعة الحرة من الأمة وهو الذي عبر عنه ابن الصديق رضي الله عنه بسنة كسرى وقيصر.
( أخرج الزبير عن عبد الله بن نافع قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد فكلمه الحسين بن علي وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فقال له عبد الرحمن: أهرقلية كلما مات قيصر كان قيصر مكانه لا نفعل والله أبداً) .
وفي رواية (فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر)، وكانت ثورة الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم.
وتوفي يزيد: لكن الأمة عادت بعد حروب إلى ولاية العهد، ولم تستطع أن ترتفع إلى مستوى الخلافة الراشدة خلال أربعة عشر قرناً من الزمان، هذا المستوى هو الوصول إلى الإمرة عن طريق الانتخاب لا البيعة المفروضة بالقوة.
وكان الخلل الثاني في الانتقال من الخلافة إلى الملك، هو في حق التصرف بمال الدولة، وحق المحاسبة للخليفة فعمر رضي الله عنه يحدد سلطة رئيس الدولة بالمال بقوله:
( إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين، حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به واعتمر، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين).
فليس إذن أعلى راتب في الدولة هو راتب رئيسها، بل هو راتب أوساط الموظفين، أما الأمراء وحكام الولايات فما هي شروطهم عند عمر رضي الله عنه:
عن ابن خزيمة بن ثابت الأنصاري، قال: كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له عهداً وأشهد عليه رهطاً من المهاحرين والأنصار واشترط عليه أن لا يركب برذوناً، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يتخذ باباً دون حاجات الناس.
وفي عهد معاوية رضي الله عنه بعد أن تحولت الخلافة إلى الملك، خطب ذات يوم فقال:
( إنما المال مالنا والفيء فيئنا فمن شئنا أعطيناه، ومن شئنا منعناه، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثانية، قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إليه رجل فقال: كلا، عن المال مالنا والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا، فنزل معاوية، فأرسل إلى الرجل فأدخله، فقال القوم: هلك الرجل، ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير، فقال معاوية: إن هذا أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( سيكون من بعدي أمراء يقولون ولا يُرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة)).
وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد عليٍّ أحد، فقلت في نفسي: إني من القوم، فلما تكلمت في الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فرد عليَّ فأحياني أحياه الله) .
إنه لو بقي هذا الأمر في عهد معاوية وفي أرجاء ملكه لقلنا أننا لا نزال في عهد خليفة، لكن ما أعلنه زياد بن أبيه والي العراق ولم يرد عليه أحد يغاير هذا المفهوم حيث ختم خطبته بقوله:
( أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيأنا بمناصحتكم لنا).
ولم يرد عليه أحد، ولم يجب إلا ما ذكر عن مرداس بن أدية الذي وقف فقال: أنبأ الله بغير ما قلت، فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلاً حتى نخوض إليها الدماء.
فمعاوية أكرم الرجل وأجلسه بجواره وأثنى عليه، أما زياد فهدده ببحور الدماء حتى يستقر الملك.
سادسا- مفاهيم إسلامية عن الحرية:
آ- الفراق بين الكتاب والسلطان:
عندنا حديثان يسمان تاريخنا الإسلامي الحاكم؛ الأول:
(( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكاً جبرياً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)) ثم سكت) .
الحديث الثاني: (( ألا إن الكتاب والسلطان دائران، فدوروا مع الكتاب حيث دار.. ألا إنه سيليكم أمراء إن أطعتموهم ضلوكم أو عصيتموهم قتلوكم، قالوا: فما نفعل يا رسول الله؟ قال: افعلوا كما فعل أصحاب عيسى بن مريم صُلبوا على الخشب، ونُشروا بالمناشير، ما صدَّهم ذلك عن دين الله، والذي نفسي بده لموت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله)).
إن الإسلام الذي دعانا أن نناضل لإعادة السلطان إلى الكتاب، هو الذي يقودنا إلى الخلافة على منهاج النبوة، حيث يترك للأمة اختيار حكامها كما فعلت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهدها الذهبي، وتضع تحكيم كتاب الله وسنة رسوله دستورها، وتقوم المؤسسات التي تراقب وتحاسب وتصوِّب وتسدد والمؤسسات التي تساهم في تقديم الخدمات للأمة في كل شيء، فنعود لمنبع النور من جديد.
ب- من هم الظالمون:
المعنى العظيم الذي لا نجده في أي دستور من دساتير الأرض غير كتاب الله، عن الظالمين، هو أن الظالمين والمظلومين من أتباعهم وخدمهم وجنودهم وغوغائهم كلهم ظالمون، فالرضوخ للظلم وقبوله والسكوت عليه دخل الممالئين في عداد الظالمين.
{.... ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون} .
فهؤلاء المستضعفين لا يعبأ الله لهم، بل لهم عذاب المستكبرين أنفسهم.
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا،إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} .
فالذين يسيرون في فلك الطغاة والمستبدين وينفذون مخططاتهم ويهتفون لباطلهم هم والطغاة سواءٌ في ميزان الله.
جـ- ثورة المستضعفين:
إنما يريد الإسلام من أتباعه أن يكونوا هم الثورة الحقيقية ضد الطغيان والطغاة مهما كلفهم ذلك من ثمن، حتى يقدموا الحرية لهم ولأجيالهم من بعدهم وإلا فالنار مصيرهم.
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دونه من أولياء ثم لا تنصرون} .
هذه الخطوة الأولى، والخطوة الثانية الانتقال من الجانب السلبي في عدم الركون إلى الكافرين إلى مواجهة هذا الظلم، ففيه وحده النجاة من غضب الله.
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين}.
فهم (المترفون) وهم (الظالمون) وهم (المجرمون) واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين هم وصنائعهم وزبانيتهم وأتباعهم إلا الذين قاوموا هذا الظلم – على قلتهم – وواجهوا هذا الفساد فهم الذين أنجاهم الله من العذاب في الدنيا والآخرة، وتحملوا مسؤولية هذا النهي عن الفساد تشريداً واعتقالاً وقتلاً وإبادة.
د- ثورات التحرير في عالمنا الإسلامي المعاصر:
لقد شهد هذا القرن استعمار العالم الإسلامي من دعاة الديمقراطية الغربية، وشهد كذلك تحرر العالم الإسلامي من نير الاستعمار، والظاهرة التي لا تخفي نفسها هي أن التاريخ قد شوَّه هذه الثورات واعتبر دعاة القومية والوطنية هم المحررون، ولم يكتف بذلك، بل اتهم الإسلاميين ودعاة الإسلام بأنهم عملاء بريطانيا وعملاء أمريكا، وعملاء الإمبريالية والصهيونية، ولئن شُوِّه هذا التاريخ في ظل حكم العلمانيين العرب، لكنهم لن يستطيعوا أبداً أن يحجبوا ضوء الشمس بأكفهم أو يطفئوا نور الله بأفواههم.
فمن الذي ينكر دور (الأزهر) العظيم في مصر، وهو الذي كان يحرك الملايين بإشارة منه للثورة السلمية أو الحربية منذ نابليون حتى حرب اكتوبر مروراً بالثورات ضد الإنكليز في كل مكان وحرب قناة السويس ضد العدوان الثلاثي، ومن قبل ضد الاستعمار البريطاني، ولقد ألفت كتب في هذا الجهاد العظيم منها " ودخلت الخيل الأزهر ".
ولن ينسى التاريخ أن سليمان الحلبي الشامي، الطالب الأزهري هو الذي قتل كليبر خليفة نابليون في مصر وكتب (الإخوان المسلمين في حرب فلسطين) و(المقاومة السرية في قناة السويس) والوجه الإسلامي (الحرب اكتوبر) التي يطلق عليها المصريون تبركاً بـ (حرب رمضان) لأنها كانت والجنود يؤدون فريضة الصيام لربهم جلَّ جلاله، وكيف كان (حسن البنا) رمز النضال في مصر، فطالب الإنكليز برأسه من العرش البريطاني وحلِّ جماعته.
وإذا انتقلنا إلى ثرى الشام الطهور، فمن ينكر مفجر الثورة السورية الشيخ (بدر الدين الحسيني) الذي زار كل المحافظات السورية واتصل برجالاتها حيث أعلنت الثروة بعد ذلك، والبطولات العظيمة في الغوطة والتي كان يشرف على قيادة عملياتها بنفسه، فكان (سعيد العاص وحسن الخراط) يلتقيان به فجر كل يوم يمدهم بالمال والسلاح والشيخ (محمد الأشمر) والشيخ (كامل القصاب) الذي حكم بالإعدام أكثر من مرة، وفي فلسطين التي لم تعرف أبناء سلاح حقيقيين مثل العلماء، ابتداءً بالشيخ (عز الدين القسام) في الثلاثينات، ومروراً بالحاج (أمين الحسيني) والبطل (عبد القادر الحسيني) والبطل (مصطفى السباعي) الذي قاد كتائب الإخوان السوريين في فلسطين، وجاب الأرض أثناء الهدنة بحثاً عن السلاح، واستشهد معه كرام أبناء دمشق، وكان لهم شرف الحفاظ على القدس أثناء التقسيم، ومن ينكر ريادة الإمام الشهيد حسن البنا للفداء في فلسطين حيث قاد كتائب الإخوان في سوريا والأردن وفلسطين من خلال الشهداء العظام محمد فرغلي ويوسف طلعت الذين كوفئوا بالإعدام على يد عبد الناصر.
ومن ينكر دور الخليفة العظمي السلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض أن يفرط بذرَّة تراب من ثرى فلسطين، وكان أن انتقم اليهود منه بإقصائه عن عرشه لرفضه لمخططاتهم، فكان حاخام اليهود أحد الذين سلموه طلب وثيقة التنازل عن العرش، وذكره أن هذا ثمن رفض تنفيذ مخططات صهيون.
نحن لا ننكر أن الشعب بكل فئاته في سورية ومصر قاوم الاستعمار في حوران والجبل وحمص وحماة وحلب، لكننا نؤكد أن دور الريادة في التحرير كانت لعلماء الأمة وقادتها المجاهدين المسلمين، من الشرق العربي إلى المغرب العربي، الذي لا نكاد نرى فيه ثورة إلا بقيادة رجالات الإسلام العظام، ابتداءً من ليبيا حيث السنوسية كلها التي ربَّت أبناءها على الجهاد ضد الطليان، وعمر المختار رمز الصمود والمقاومة في هذا القطر هو عالم من أعظم علماء الإسلام هناك، ومروراً بعلال الفاسي في تونس رئيس حزب الاستقلال، ونضاله مع إخوانه الآخرين للتحرير من الاستعمار الفرنسي، ومحمد عبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، والشيخ عبد الحميد باديس الذي قام تلامذته بتفجير ثورة الـ 56 والتي اعترفت على أثرها فرنسا بالثورة الجزائرية، كما اعترف بذلك (بن بيلا) رئيس أول جمهورية بعد الاستقلال.
وحين تغادر الوطن العربي إلى الوطن الإسلامي تجد قادة ثورات التحرير كلهم يستمدون روحهم القتالية من مبادئ الإسلام ورجالاته الذين كانوا على رأس الحركة الوطنية في كل قطر، وما حرب الأفغان والشيشان والبوسنة والهرسك بسر، حتى أصبح هذا العصر يطلقون عليه عصر الإرهاب الإسلامي، زوراً وبهتاناً، لأن هؤلاء ثاروا ضد الصليبية الحاقدة والديمقراطية الزائفة التي احتلت بلادهم باسم التقدم والعمران، والوصاية والانتداب، وانتهاء بروسيا جزارة الشعوب، وفكرها الأحمر في العهد الشيوعي، وتاريخها الأسود في العهد الديمقراطي الغربي، وحملت حماس الراية لتحرير فلسطين من النهر إلى النهر بجوار (كتائب الجهاد) باسم الإسلام، حين استراح ثوار القومية والوطنية من وعثاء السفر، وراحوا يوقعون وثائق الخزي والعار بالتنازل عن فلسطين، وأخذ الفتات، الذي لا يعادل عشر أرض فلسطين باسم السلام.
ويمكن العودة إلى (وثائق) التاريخ التي تثبت هذه الجولة {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
سابعا- كيف نحقق الحرية اليوم؟
آ- واقع الحرية في عالمنا الإسلامي المعاصر:
للبؤس الذي عاناه المسلمون في هذا القرن أصبح مفهوم الحرية عندهم هو تحرير الأرض من المستعمرين، ومواجهة المحتلين لأرضهم بعد أن مُزِّقت أرض الخلافة الإسلامية كلها، ووزِّعَت على دول الغرب أئمة الديمقراطية فأصبح الحلم الأكبر للمسلمين في الأرض هو تحرير أوطانهم من الأعداء المحتلين، كان هذا في نصف القرن الأول، ورافق هذا الاستعمار إلغاء شريعة الله من الحكم.
وكان النصف الثاني من هذا القرن أن سيطرت أفكار الوطنية والقومية والاشتراكية لتكون بديلاً عن الإسلام، وكانت ملاحقة دعاة الإسلام في الأرض الإسلامية وفي أوطانهم من حكامهم الوطنيين أنفسهم, ولمحافظة هؤلاء الحاكمين على السلطة لم يدعوا وسيلة من وسائل التعذيب والحرب إلا نفذوها ضد دعاة الإسلام، وغدت مهمة الجيوش أن تحتل الشوارع، وتهدد الشعوب، وتنفذ الانقلابات، وتقمع الأمة، وبرزت بجوارها أجهزة الأمن في كل قطر إسلامي تبث الرعب في كل بيت، وتحكم البلدان الإسلامية من وراء ستار.
لقد قدمت الأنظمة المستبدة أكبر هديتين لشعوبهما من الرعب والجوع، فلم يطعموهم من جوع ولم يؤمنوهم من خوف، وحقَّ عليهم قول الله عز وجل:
{وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.(112) النحل
لقد أصبح حلم الجماهير المسلمة اليوم الأمن والغذاء والدواء، وبين الواقع وبين الحلم مسافة هائلة.
فمتى يتحقق هذا الحلم؟
والحلم الآخر هو حلم الحرية الحقيقية...
لقد عادت الحرية حلماً تهفو له قلوب الملايين وملايين الملايين من المسلمين، هذه الحرية هي أن يُترك للشعوب الإسلامية حق تقرير مصيرها، وانتخاب حكامها، واختيار قادتها وممثليها، والمسلمون يحلمون بجوار الحرية إلى حرية العقيدة وحرية الدعوة على الله، وحلم عودة الإسلام شريعة تحكم المسلمين من جديد، والتفت التيارات كلها تحلم باليوم الذي لا تستيقظ فيه على حكم الحديد والنار، وأن تقول ما تشاء، وتدعو لما تشاء وتتحاور التيارات كم تشاء، ويُترك أمر الحكم للمنافسة الحرة البعيدة عن التزوير والتوجيه، بينما الحكام والطغاة يتنافسون في إعلان نتائج انتخاباتهم بين التسعات الثلاث والأربع والخمس دون حياء أو خجل، وهم يعلمون أن القوة التي في أيديهم لو وقفت على الحياد لما كان لهم نسبة الواحد بالمائة.
ت- الحرية تربية:
لابد أن نعمل جاهدين على تثقيف شعبنا ابتداءً على قيم الحرية ومبادئها، ونواة الانطلاق في ذلك أن يتربى شعبنا أن لا يخضع إلا لله، وبمقدار ما تتحقق هذه العبودية لله، بمقدار ما يتحرر شعبنا من كل عقد الخوف، الخوف على الرزق، الخوف على الحياة، الخوف على الأمن، وحين يتحرر الإنسان من الخوف من البشر يكون قد أصبح حراً حقيقة، لأن الرزق بيد الله، والحياة بيد الله، والموت بيد الله، وكل ما قدر الله لو اجتمعت البشر جميعاً على منعه لم يمنعوه (( لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
والمعنى الثاني الذي لا بد من التربية عليه هو حرية الآخرين، وأن الحق قائم لكل فرد بإبداء رأيه وإعلان موقفه كما علمنا الله عز وجل:
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون}.العنكبوت(46)
وكما علمنا كذلك: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.آل عمران(186)
هذا والمسلمون في السلطة أما وهم في غير السلطة، فالقوة ليست هي الحل، ولا حل إلا بالحوار، ولا حل إلا بالدعوة {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين}. الأنعام(35)
عندما يتربى الشعب بكل فئاته على هذه المعاني، ويتدرب على أن يحياها واقعاً منذ نعومة أظفاره بأن يقبل الخصم ويحل مشاكله معه بالحوار لا بالقوة ولا بالعنف، يتربى الجيل عليها حتى يربي الوالد أولاده وأبناءه عليها كذلك فهو صاحب سلطة، فلا ينطلق من سلطة الأبوة لفرض الرأي إنما ينطلق من هذه السلطة بالإقناع والتفاهم، حين يقوم المدرس بغرس هذه المعاني في نفوس طلابه، ولا يستعمل ذاته وأنانيته لفرض رأيه، والتهديد بإنقاص العلامات لمن خالف رأيه، حين لا يستبد أحد لا الأم ولا المدرس، ولا مدير الشركة، ولا الزوج ولا الضابط، حين يتعامل الجميع بمفهوم الرعاية لا بمفهوم الوصاية، حينئذ ينشأ جيل لا يخاف إلا ربه، ولا يخشى إلا ذنبه، ولا يفرض رأيه على خصمه لأن كل طرف رعية من جهة وراعٍ من جهة ثانية، هكذا بلا استثناء (( كلكم راع ٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) ابتداءً بالإمام وانتهاءً بالولد والخادم، لكل ٍ مسؤوليته ولكل دوره فلا أحد فوق أحد لأن كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، إنه تدريب شاق يبتدئ بالقناعة بهذه المعاني، وينتهي بتطبيقها، والجهاد في سبيل تحقيقها.
جـ- الحرية مجاهدة:
إن الكلام النظري سهل وشيق لكن التطبيق العملي صعب ومكلف، فلا ألذ من استعمال السلطة من الأعلى على الأدنى، نراها حتى في الأخ الصغير على الكبير إن استطاع أن يستغل نفوذ والديه وحبهم له، فإذن الحرية مجاهدة، قد تفشل في البداية، وقد تخفق في أول الطريق، لكن الرواد دعاة الحرية لا ييأسون ولا يتراجعون، ويحلون الكثير من القضايا على حساب أعصابهم ووقتهم ومركزهم ومصالحهم، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} العنكبوت(69) (والرجل الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الرجل الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، هي قيم يزرعها الإسلام في نفوس أبنائه (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
لقد استطاع سيد البشرية أن يربي أعظم جيل على الصبر بعد أن كان الثأر يجري في عروقه أكثر مما يجري الهواء في جسمه، وقال له: (( لقد كان من كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دين الله، وكان يوضع المنشار على رأسه فيقسمه نصفين ما يصده ذلك عن دين الله... ولكنكم تستعجلون)).
إن هذه التربية من الثأر إلى الصبر، والموضوعية في الحكم البعيدة عن الغضب والرضا لم تتم بسهولة، وجعلت من عمر الذي كان على استعداد لقتل محمد وقتل أخته وصهره ثورة لقناعته، جعلته يقف أمام قاتل أخيه ولا سلطان فوقه إلا سلطان الله، فيقول له: والله لا أحبك حتى تعشق الأرض الدم، قال: يا أمير المؤمنين أيمنعني ذلك حقاً؟ قال: لا، قال: حبني أولا تحبني إنما يأسى على الحب النساء، إنها مجاهدة عظمية حقاً جعلت أمير المؤمنين يعترف بحرية الآخرين ولو كانوا قتلة أحب الناس إليه، ولا يجرؤ أن يمسَّه بسوء مع أنه كان بإمكانه أن يزجه وكل من يؤيده بالسجن المؤبد كما يفعل طغاة الأمس واليوم، المجاهدة التي جعلت نبي الله وسيد البشرية يعاتب من ربه بعشر آيات لأنه صدق باتهام يهودي من بعض أصحابه وفيها صدق الوعيد {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما} النساء(107)، المجاهدة التي جعلت عثمان أمير السلطة العليا يقول لمواطن شد أذنه في ساعة غضب أن يقتص منه فيشد أذنه فيقول له عثمان: اشدد حبذا قصاص في الدنيا ولا قصاص في الآخرة، المجاهدة التي جعلت أمير المؤمنين وصاحب السلطة العليا في الدولة يتحاكم مع يهودي للقاضي لخصمه، المجاهدة التي دفعت بالقبطي أن يقطع آلاف الأميال ليرفع ظلم ابن عمرو بن العاص عنه لثقة أنه في دولة الإيمان والقانون، فيقول للمواطن القبطي، أجل سوطك على صلعة عمرو، يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، فكل هذه النماذج لولا المجاهدة الدؤوبة لما أمكن أن تنتقل من فكر القبيلة وثقافة القبيلة إلى حرية المبدأ وسيادة الإنسان في الأرض بصفته الإنسانية المستخلف فيها من خلال الحرية المتاحة له من ربه، ورفض عنصر الإكراه في الفكر {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.يونس(99)
د- الصيغ العملية لتطبيق الحرية:
إن الحرية السياسية هي أساس كل الحريات لأن السلطة حين تكون مستبدة تتحكم بحرية الناس كما تهوى وتعبدهم لها، أما عندما تكون الحرية السياسية قائمة على الشورى، لا على الاستبداد، فهذه نقطة التحول الكبرى التي تنبع منها كل التحولات في المجتمع والدولة والفرد، فحرية الناس في اختيار عقائدهم واختيار أفكارهم واختيار حكامهم واختيار نظام حكمهم هي الصيغة الكاملة لتطبيق الحرية، (وإذا كانت الديمقراطية (آلية) فهي ليست معروضة مقابل الإسلام، وإنما في مقابل الدكتاتورية، وإذا لم نحترم ونرغب في هذا السبيل فلن يكون أمامنا سوى التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط.. ما من طريق ثالث البتة، وفي العمق من التحليل (يثبت خاتمي) حقيقة أن الديمقراطية لم تعد مرتبطة ارتباطاً عضوياً ولا سياسياً بالعلمانية الرأسمالية).
والحرية السياسية تعني أن الناس هم مصدر شرعية الحكومة وأن لهؤلاء الناس الحكم لها أو عليها، بكلمة أخرى الحرية السياسية تعني حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية محاسبة الحكومة ومساءلتها، وهذه الحرية لا يمكن أن تكون من جانب واحد، لا بد من اعتراف كل التيارات الفكرية والسياسية في المجتمع بحقها جميعاً في الحياة، وليس الفرد الواحد أو الحزب الواحد، إن الرضى والدعوة والاقتناع بالحزبية هو الأساس الذي يقوم عليه بنيان الحرية السياسية، فلا حرية سياسية بلا أحزاب {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}هود (119)، ولا بد أن تتقدم هذه الأحزاب ببرامج علمها ومناهجها في الحكم، ويترك للشعب اختيار من يراه أقدر على تحقيق مصالحه، لا بد من إلغاء الوصاية في مجتمعاتنا على بعضنا البعض، وتترك للناس اختيار من يحبون من أمرائهم لأنهم هم الخيار (فخيار أمرائهم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم) حيث الحياة تقوم على النصح والخدمة، والصدق في القول والعمل، وهو المجتمع الخير فلا يكفي الحب فقط لا بد من التبادل بين الشعب والحاكم ليؤدي كل امرئ دوره في الموقع الذي هو فيه، أما صورة الشر وصورة الشرار، فمرهون بالذين يفرضون أنفسهم على أنفاس الناس (( وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) فلا يكتفي بالجانب التعليمي فقط بل يتجسد لعنه على الأمة ولعنة على الحاكمين، وكل ما يتذرع به دعاة الاستبداد من خوفهم من الفوضى، فلا بديل عندهم إلا أن يستعبد فرق أو حزب أو عسكر لبقية الأمة، وهو منطق مرفوض لأنه يقوم على القوة والقهر لا على الرضا والاختيار، فالأحزاب والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة والذي لا يجوز أن يكون (دولة بين الأغنياء منكم) فقط، ولا الأقوياء ولا المستغلين، إنما متداول بين كل أبناء الأمة حيث يبرز الكفء، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.آل عمران (140)
آ- واقع الحرية في عالمنا الإسلامي المعاصر:
للبؤس الذي عاناه المسلمون في هذا القرن أصبح مفهوم الحرية عندهم هو تحرير الأرض من المستعمرين، ومواجهة المحتلين لأرضهم بعد أن مُزِّقت أرض الخلافة الإسلامية كلها، ووزِّعَت على دول الغرب أئمة الديمقراطية فأصبح الحلم الأكبر للمسلمين في الأرض هو تحرير أوطانهم من الأعداء المحتلين، كان هذا في نصف القرن الأول، ورافق هذا الاستعمار إلغاء شريعة الله من الحكم.
وكان النصف الثاني من هذا القرن أن سيطرت أفكار الوطنية والقومية والاشتراكية لتكون بديلاً عن الإسلام، وكانت ملاحقة دعاة الإسلام في الأرض الإسلامية وفي أوطانهم من حكامهم الوطنيين أنفسهم, ولمحافظة هؤلاء الحاكمين على السلطة لم يدعوا وسيلة من وسائل التعذيب والحرب إلا نفذوها ضد دعاة الإسلام، وغدت مهمة الجيوش أن تحتل الشوارع، وتهدد الشعوب، وتنفذ الانقلابات، وتقمع الأمة، وبرزت بجوارها أجهزة الأمن في كل قطر إسلامي تبث الرعب في كل بيت، وتحكم البلدان الإسلامية من وراء ستار.
لقد قدمت الأنظمة المستبدة أكبر هديتين لشعوبهما من الرعب والجوع، فلم يطعموهم من جوع ولم يؤمنوهم من خوف، وحقَّ عليهم قول الله عز وجل:
{وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.(112) النحل
لقد أصبح حلم الجماهير المسلمة اليوم الأمن والغذاء والدواء، وبين الواقع وبين الحلم مسافة هائلة.
فمتى يتحقق هذا الحلم؟
والحلم الآخر هو حلم الحرية الحقيقية...
لقد عادت الحرية حلماً تهفو له قلوب الملايين وملايين الملايين من المسلمين، هذه الحرية هي أن يُترك للشعوب الإسلامية حق تقرير مصيرها، وانتخاب حكامها، واختيار قادتها وممثليها، والمسلمون يحلمون بجوار الحرية إلى حرية العقيدة وحرية الدعوة على الله، وحلم عودة الإسلام شريعة تحكم المسلمين من جديد، والتفت التيارات كلها تحلم باليوم الذي لا تستيقظ فيه على حكم الحديد والنار، وأن تقول ما تشاء، وتدعو لما تشاء وتتحاور التيارات كم تشاء، ويُترك أمر الحكم للمنافسة الحرة البعيدة عن التزوير والتوجيه، بينما الحكام والطغاة يتنافسون في إعلان نتائج انتخاباتهم بين التسعات الثلاث والأربع والخمس دون حياء أو خجل، وهم يعلمون أن القوة التي في أيديهم لو وقفت على الحياد لما كان لهم نسبة الواحد بالمائة.
ت- الحرية تربية:
لابد أن نعمل جاهدين على تثقيف شعبنا ابتداءً على قيم الحرية ومبادئها، ونواة الانطلاق في ذلك أن يتربى شعبنا أن لا يخضع إلا لله، وبمقدار ما تتحقق هذه العبودية لله، بمقدار ما يتحرر شعبنا من كل عقد الخوف، الخوف على الرزق، الخوف على الحياة، الخوف على الأمن، وحين يتحرر الإنسان من الخوف من البشر يكون قد أصبح حراً حقيقة، لأن الرزق بيد الله، والحياة بيد الله، والموت بيد الله، وكل ما قدر الله لو اجتمعت البشر جميعاً على منعه لم يمنعوه (( لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
والمعنى الثاني الذي لا بد من التربية عليه هو حرية الآخرين، وأن الحق قائم لكل فرد بإبداء رأيه وإعلان موقفه كما علمنا الله عز وجل:
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون}.العنكبوت(46)
وكما علمنا كذلك: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.آل عمران(186)
هذا والمسلمون في السلطة أما وهم في غير السلطة، فالقوة ليست هي الحل، ولا حل إلا بالحوار، ولا حل إلا بالدعوة {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين}. الأنعام(35)
عندما يتربى الشعب بكل فئاته على هذه المعاني، ويتدرب على أن يحياها واقعاً منذ نعومة أظفاره بأن يقبل الخصم ويحل مشاكله معه بالحوار لا بالقوة ولا بالعنف، يتربى الجيل عليها حتى يربي الوالد أولاده وأبناءه عليها كذلك فهو صاحب سلطة، فلا ينطلق من سلطة الأبوة لفرض الرأي إنما ينطلق من هذه السلطة بالإقناع والتفاهم، حين يقوم المدرس بغرس هذه المعاني في نفوس طلابه، ولا يستعمل ذاته وأنانيته لفرض رأيه، والتهديد بإنقاص العلامات لمن خالف رأيه، حين لا يستبد أحد لا الأم ولا المدرس، ولا مدير الشركة، ولا الزوج ولا الضابط، حين يتعامل الجميع بمفهوم الرعاية لا بمفهوم الوصاية، حينئذ ينشأ جيل لا يخاف إلا ربه، ولا يخشى إلا ذنبه، ولا يفرض رأيه على خصمه لأن كل طرف رعية من جهة وراعٍ من جهة ثانية، هكذا بلا استثناء (( كلكم راع ٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) ابتداءً بالإمام وانتهاءً بالولد والخادم، لكل ٍ مسؤوليته ولكل دوره فلا أحد فوق أحد لأن كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، إنه تدريب شاق يبتدئ بالقناعة بهذه المعاني، وينتهي بتطبيقها، والجهاد في سبيل تحقيقها.
جـ- الحرية مجاهدة:
إن الكلام النظري سهل وشيق لكن التطبيق العملي صعب ومكلف، فلا ألذ من استعمال السلطة من الأعلى على الأدنى، نراها حتى في الأخ الصغير على الكبير إن استطاع أن يستغل نفوذ والديه وحبهم له، فإذن الحرية مجاهدة، قد تفشل في البداية، وقد تخفق في أول الطريق، لكن الرواد دعاة الحرية لا ييأسون ولا يتراجعون، ويحلون الكثير من القضايا على حساب أعصابهم ووقتهم ومركزهم ومصالحهم، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} العنكبوت(69) (والرجل الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الرجل الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، هي قيم يزرعها الإسلام في نفوس أبنائه (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
لقد استطاع سيد البشرية أن يربي أعظم جيل على الصبر بعد أن كان الثأر يجري في عروقه أكثر مما يجري الهواء في جسمه، وقال له: (( لقد كان من كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دين الله، وكان يوضع المنشار على رأسه فيقسمه نصفين ما يصده ذلك عن دين الله... ولكنكم تستعجلون)).
إن هذه التربية من الثأر إلى الصبر، والموضوعية في الحكم البعيدة عن الغضب والرضا لم تتم بسهولة، وجعلت من عمر الذي كان على استعداد لقتل محمد وقتل أخته وصهره ثورة لقناعته، جعلته يقف أمام قاتل أخيه ولا سلطان فوقه إلا سلطان الله، فيقول له: والله لا أحبك حتى تعشق الأرض الدم، قال: يا أمير المؤمنين أيمنعني ذلك حقاً؟ قال: لا، قال: حبني أولا تحبني إنما يأسى على الحب النساء، إنها مجاهدة عظمية حقاً جعلت أمير المؤمنين يعترف بحرية الآخرين ولو كانوا قتلة أحب الناس إليه، ولا يجرؤ أن يمسَّه بسوء مع أنه كان بإمكانه أن يزجه وكل من يؤيده بالسجن المؤبد كما يفعل طغاة الأمس واليوم، المجاهدة التي جعلت نبي الله وسيد البشرية يعاتب من ربه بعشر آيات لأنه صدق باتهام يهودي من بعض أصحابه وفيها صدق الوعيد {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما} النساء(107)، المجاهدة التي جعلت عثمان أمير السلطة العليا يقول لمواطن شد أذنه في ساعة غضب أن يقتص منه فيشد أذنه فيقول له عثمان: اشدد حبذا قصاص في الدنيا ولا قصاص في الآخرة، المجاهدة التي جعلت أمير المؤمنين وصاحب السلطة العليا في الدولة يتحاكم مع يهودي للقاضي لخصمه، المجاهدة التي دفعت بالقبطي أن يقطع آلاف الأميال ليرفع ظلم ابن عمرو بن العاص عنه لثقة أنه في دولة الإيمان والقانون، فيقول للمواطن القبطي، أجل سوطك على صلعة عمرو، يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، فكل هذه النماذج لولا المجاهدة الدؤوبة لما أمكن أن تنتقل من فكر القبيلة وثقافة القبيلة إلى حرية المبدأ وسيادة الإنسان في الأرض بصفته الإنسانية المستخلف فيها من خلال الحرية المتاحة له من ربه، ورفض عنصر الإكراه في الفكر {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.يونس(99)
د- الصيغ العملية لتطبيق الحرية:
إن الحرية السياسية هي أساس كل الحريات لأن السلطة حين تكون مستبدة تتحكم بحرية الناس كما تهوى وتعبدهم لها، أما عندما تكون الحرية السياسية قائمة على الشورى، لا على الاستبداد، فهذه نقطة التحول الكبرى التي تنبع منها كل التحولات في المجتمع والدولة والفرد، فحرية الناس في اختيار عقائدهم واختيار أفكارهم واختيار حكامهم واختيار نظام حكمهم هي الصيغة الكاملة لتطبيق الحرية، (وإذا كانت الديمقراطية (آلية) فهي ليست معروضة مقابل الإسلام، وإنما في مقابل الدكتاتورية، وإذا لم نحترم ونرغب في هذا السبيل فلن يكون أمامنا سوى التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط.. ما من طريق ثالث البتة، وفي العمق من التحليل (يثبت خاتمي) حقيقة أن الديمقراطية لم تعد مرتبطة ارتباطاً عضوياً ولا سياسياً بالعلمانية الرأسمالية).
والحرية السياسية تعني أن الناس هم مصدر شرعية الحكومة وأن لهؤلاء الناس الحكم لها أو عليها، بكلمة أخرى الحرية السياسية تعني حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية محاسبة الحكومة ومساءلتها، وهذه الحرية لا يمكن أن تكون من جانب واحد، لا بد من اعتراف كل التيارات الفكرية والسياسية في المجتمع بحقها جميعاً في الحياة، وليس الفرد الواحد أو الحزب الواحد، إن الرضى والدعوة والاقتناع بالحزبية هو الأساس الذي يقوم عليه بنيان الحرية السياسية، فلا حرية سياسية بلا أحزاب {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}هود (119)، ولا بد أن تتقدم هذه الأحزاب ببرامج علمها ومناهجها في الحكم، ويترك للشعب اختيار من يراه أقدر على تحقيق مصالحه، لا بد من إلغاء الوصاية في مجتمعاتنا على بعضنا البعض، وتترك للناس اختيار من يحبون من أمرائهم لأنهم هم الخيار (فخيار أمرائهم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم) حيث الحياة تقوم على النصح والخدمة، والصدق في القول والعمل، وهو المجتمع الخير فلا يكفي الحب فقط لا بد من التبادل بين الشعب والحاكم ليؤدي كل امرئ دوره في الموقع الذي هو فيه، أما صورة الشر وصورة الشرار، فمرهون بالذين يفرضون أنفسهم على أنفاس الناس (( وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) فلا يكتفي بالجانب التعليمي فقط بل يتجسد لعنه على الأمة ولعنة على الحاكمين، وكل ما يتذرع به دعاة الاستبداد من خوفهم من الفوضى، فلا بديل عندهم إلا أن يستعبد فرق أو حزب أو عسكر لبقية الأمة، وهو منطق مرفوض لأنه يقوم على القوة والقهر لا على الرضا والاختيار، فالأحزاب والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة والذي لا يجوز أن يكون (دولة بين الأغنياء منكم) فقط، ولا الأقوياء ولا المستغلين، إنما متداول بين كل أبناء الأمة حيث يبرز الكفء، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}.آل عمران (140)
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
هـ- ضمانات التنفيذ وميثاق شرف:
إن ضمانات التنفيذ للديمقراطية والحرية قابعة في قلوب وصدور الاتجاهات والأحزاب والقادة السياسيين للأمة، ولا ضمان أكبر من ذلك، فالعدالة في نفس القاضي قبل أن تكون في نص القانون، ولا بد ثانياًً من أن يحسن صياغة الدستور الذي يحكم الأمة، ويحدد المسؤوليات، ويحدد السلطات، ويزيل الفيش والاحتمالات، بحيث يعرف كل امرئ أو جماعة أو حزب حده فيقف عنده، إن حسن صياغة الدستور قمين بأن يحول دون استغلال فريق أو فئة أو جماعة أو حزب أو جماعة لهذا الشعب، ويتم ذلك من خلال ميثاق شرف يتعهد به السياسيون جميعاً أن يخلصوا لها النظام التشاوري ويوقعوا عليه على الملأ أمام الناس جميعاً هذا التعهد مفاده أن يقبلوا بالنظام الديمقراطي حاكماً لهم وعليهم، وأن يرفضوا استعمال القوة طريقاً إلى الحكم وأن يكون العمل لمصلحة الشعب لا للمصلحة الخاصة دون إثرة أو محاباة أو تمييز أو استغلال أو استئثار.
وأن يكون الاحتكام إلى الدستور الذي يتفق عليه الشعب ويتوافق عليه، وأي فريق يفوز بثقة أكثرية الشعب فله الحق أن ينفذ برامجه التي طرحها على الناس ويحكم بها، وهذا لا يعني إلغاء المعارضة أبداً، ولا يعني إلغاء الرأي الآخر أبداً، بل يبقى من حق الرأي الآخر أن يعلن موقفه، ويحاسب الحزب الحاكم على المبادئ التي تقدم إلى الشعب بتطبيقها، وأن يسائل الحاكم عن تصرفاته وتحقيق إنجازاته.
صحصح أن الأكثرية تحكم، لكنها لا تلغي الأقلية ولا تضطهدها ولا تقضي عليها لأن الزمن قد يمر وتصبح الأقلية أكثرية والعكس، إن الالتزام بهذه المبادئ من خلال ميثاق شرف جزء أساس من فقه السياسة الإسلامية، فإذا كان حلف الفضول قائماً على أن لا يقر بمكة ظالم، فلم لا يتحالف أبناء الشعب وقادته على أن لا يقر في دولتهم ظالم، وأن يكونوا يد واحدة عليه.
(( إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى وسيقه ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين إن أيديهم عليهم جميعاً)).
بهذا الميثاق يمكن أن يولد فجر جديد للأمة يلغي الظلم في صفوفها وتنعم بالحرية وتنعم بالأمن وتنعم بالعدل فتكون المثل الذي ضربه الله تعالى {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} .
ثامنا- ملخص البحث:
ونخلص بعد هذا البحث إلى النتائج التالية:
1- الحرية ببعديها المدني والسياسي هدف عام للبشرية كافة، وللأمة المسلمة خاصة.
2- الحرية أساس خلق الإنسان المختار من رب العالمين، مع المسؤولية الكاملة عن هذا الاختيار.
3- حرية العقيدة أول ما أعطيه الإنسان في الأرض {فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. البقرة (39)
4- للحرية مفاهيمها المختلفة ما بين النظرة الغربية والنظرة الشيوعية والنظرة الإسلامية.
5- أهم مفاهيم الحرية الغربية تحررها من الدين، ثم تحررها من القيم ثم فصل الدين عن الدولة ثم حقوق الإنسان وتصل إلى العبث والعدمية في جانبها الفردي.
6- أهم مفاهيم الحرية الشيوعية دكتاتورية البروليتارية (الطبقة العاملة) ولا بد من التحول الثوري الدموي لتحقيق الحرية بتأميم وسائل الإنتاج للوصول إلى الشيوعية العادلة (من كل حسب استطاعته ولكل حسب حاجته).
7- تختلف الحرية في المنظورين الغربي والشيوعي عنها في المنظور الإسلامي في المنطلق وفي المسؤولية وفي الهدف فهي هبة ربانية تميز بها هذا المخلوق عن غيره، وله مشيئته في الإسلام أو الكفر، ويتحمل تبعة موقفه من العذاب في النار أو النعيم في الجنة، وحريته دائماً مقيدة بحقوق وحريات الآخرين، وكلما تعبَّد الله كلما ازداد حرية.
8- أنواع الحريات هي: الحرية الفردية وحريات الشعوب والمجتمعات، وحرية الدولة.
9- حرية العقدية المنطلقة من قول الله عز وجل: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} و{لا إكراه في الدين}.
10- الردة في المفهوم الغربي داخلة ضمن إطار حرية العقيدة لأن الدين في الأصل علاقة شخصية بين الإنسان وربه، أما الردة في المفهوم الإسلامي، فخروج على مجتمع ودولة وشريعة ونظام حياة وهي أقرب ما تكون إلى خيانة الوطن العظمى.
11- وعلى هذا الأساس يأخذ حد الردة القتل للمرتد على مراحل متعددة وتنظيمات قبل تنفيذ الحد، وإذ كان الخروج على دستور الدولة خيانة للوطن، فالخروج على دين الدولة خيانة للدين، وكلاهما افتئات على حق الله الذي فرض الحدود وأوجبها.
12- حرية العبادة لم تشهد اضطهاداً إلا في ظل الأنظمة الشيوعية، والنظام الديمقراطي والإسلامي لا يناقشان في حرية العبادة لكن الاختلاف حين تكون العبادة في الملأ بعيداً عن المساجد والكنائس والكنس ومدى جرحها للشعور العام للأمة.
13- حرية الدعوة في صفوف المؤمنين بالدعوة لا يحظره إلا الأنظمة الشمولية المستبدة، لكن حرية الدعوة وضمن المعابر والمنتديات المأذون بها فلا حرج فيها كذلك، إنما الخلاف في حرية الدعوة على كل المستويات وهي خلافية نرجح جوازها إذا كانت بعلم الدولة لا في الخفاء والسر.
14- الحرية الإنسانية بأبعادها الثلاثة، الحرية من الرق، والحرية من الاستعباد، هي على قمم مفاهيم الحرية، والتي لا يكتفي الإسلام فيها بالحق، إنما يطالب بالواجب في ممارسة هذا الحق.
15- الحرية القضائية وفي مفاهيمها المختلفة (لا عقوبة إلا بنص، حق المتهم في الدفاع عن نفسه، المعاملة الإنسانية أثناء الاعتقال والمحاكمة، منع الاعتقال والحجز التعسفي لأمد طويل) هي من المسلمات الإسلامية في الحرية.
16- الحرية السياسية وهي أهم أنواع الحريات (في الانتماء الحزبي وفي اختيار الحاكم، في نقد الحاكم، وفي الاجتماع العام وإبداء الرأي) قضايا لا تقبل المساومة في النظام الإسلامي، بل هي من أهم أسسه.
17- الحرية الاقتصادية في أنواعها (حرية التملك، وحرية اختيار العمل والمهنة، وحرية الانضمام إلى النقابات وتشكيلها) يضمنها الإسلام للأمة ضمن مراعاة حقوق الآخرين وحرياتهم.
18- الحرية الوطنية في (الانتماء إلى الوطن، وحرية التجنس، وحرية السفر والإقامة) ومع أن بعضها من المسائل الخلافية، لكننا نرجح الإباحة على ضوء تطور المجتمع البشري، ومدى الوجود الدولي للإسلام على الساحة.
19- الحرية الاجتماعية: وهي أوسع الحريات الفردية التي تنصب عليها معاني الحرية مثل (حرية الزواج، وحرية الإنجاب، وحرية الافتراق بين الزوجين، وحرية التعدد) ضمن تنظيمات تشمل ضبط كل آثار هذه الحريات على الفرد والمجتمع، ويُضاف إلى ذلك حرية العلاقات الأسرية وحرية حياة الإنسان الخاصة الأسرية وحرية النشاطات الاجتماعية.
20- الحرية الثقافية مضمونة في الإسلام ضمن الإطار العام للمجتمع في (حرية التأليف والنشر والتعلم والانتماء للنوادي).
21- وحين ننتقل من الحرية الشخصية الفردية إلى حرية الشعوب والمجتمعات يطالعنا ابتداءً (حرية تقرير المصير - والذي ينقضه نظام الوصاية والانتداب – وحرية تكوين الأحزاب وحرية اختيار نظام الحكم، وحرية اختيار الحاكم، هي قضايا من صلب النظام الإسلامي السياسي والاجتماعي، إضافة إلى حرية اختيار العقدية والمذهب).
22- وتأتي حرية الدولة في (اختيار دستورها، وسن قوانينها، وحرمة ترابها، ومنع الاعتداء إضافة إلى حريتها في الانضمام للدول الأخرى أو الانفصال عنها، وحرية تكوين اتحادات سياسية أو اقتصادية، وحرية الانضمام للتحالفات والتكتلات الدولية هي من مقومات الدولة، إذا نفذت قوانينها المرعية بالعودة إلى الشعب في ذلك.
23- الإسلام هو النظام الوسط الذي وازن بين الحرية الفردية وحريات الآخرين دون أن يطغى جانب على آخر بين طغيان الحرية الفرية في النظام الليبرالي، وسحقها في النظام الشيوعي، وإعطاء كل ذي حق حقه في النظام الإسلامي.
24- الفرق كبير جداً بين الحديث النظري عن الحرية، وعن التحرير الفعلي الذي قام به الإسلام للبشرية المستعبدة.
25- فقد اعتبر الإسلام معركته بين المؤمنين والكافرين هي نفسها بين المستضعفين والطغاة، وكان مبرر وجوده، الحرب على الظالمين الذين اغتصبوا الحاكمية لله وجعلوها لأنفسهم من دونه، ولا يقوم الإسلام إلا بإزاحة هؤلاء الطواغيت من طريق الدعوة، والباب مفتوح لهم لانضمامهم جنوداً فيها.
26- ولعل فجر البشرية {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} هو التحرير الحقيقي، وكما قال ربعي بن عامر ليزدجرد (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
27- وكانت مبادئ حروب التحرير الإسلامية العشرة: لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغَّلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا بقرة ولا شاة ولا بعيراً إلا لأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.
28- لقد كان العهد الذهبي للحرية أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الراشدين حيث كانت الخلافة بيعة اختيارية بين الحاكم والمحكوم، والحاكم هو الذي يذكر الشعب بحقه في المحاسبة، ويطالبه بعزله إن أساء ويدعوه للقصاص منه.
29- انتقلت الخلافة الشورية إلى الملك ثم الملك الجبري ثم الملك الفوضوي، وكان الذي افتقده الانتقال إلى الملك بعد ثلاثين عاماً من الخلافة الراشدة هو استعمال الحاكم للمال بلا حساب، وفقدان حق محاسبة الخليفة.
30- وعلى مرور الزمن كان اللقاء حيناً والافتراق أحياناً بين الكتاب والسلطان، وكان على الطلائع المؤمنة أن تدور مع الكتاب حيث دار وتتحمل مسؤولية هذا الموقف مهما كان خطيراً ولو حساب الدم.
31- من مفاهيم الإسلام في الحرية اعتبار الظالمين وأتباعهم وسدنتهم وزبانيتهم جميعاً من الظالمين، ولا عذر للضعفاء والمستضعفين في الخنوع للظالم، فأرض الله واسعة للخروج من نير الظلم، ومن قبله وزيَّنه للظالم فهو ظالم مثله.
32- لقد كان الإسلام ثورة المستضعفين في الأرض {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار..}.
33- وكانت ثورات التحرير الإسلامية في عالمنا المعاصر استجابة لهذا النداء الرباني، وكان الإسلام وحملته هم وقود التحرير.
34- تحقق الحرية اليوم بعد فهم واقعنا البائس مع حكامه الطغاة الذين أذاقوه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
35- وحلم تحقيق الحرية في اختيار الحاكم، مع حرية الكلام والتعبير والرأي والدعوة، وأن تتعافى الأمة من الطغاة.
36- الحرية تربية على مبادئ ومثل، وتطبيق لهذه المبادئ، ومجاهدة للثبات عليها والتضحية في سبيلها.
37- والصيغ العملية لتطبيق الحرية هي حرية للأحزاب وقناعة للتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة.
38- واجتماع على ميثاق شرف يوقعه كل السياسيين في البلد الواحد والتعاهد على الوفاء به داخل السلطة وخارجها.
39- ولن يكون ضمان أكبر من ضمير الساسة والقادة كفيلاً بقيام الحرية واستمرارها، فالعدالة في ضمير القاضي لا في نص القانون.
إن ضمانات التنفيذ للديمقراطية والحرية قابعة في قلوب وصدور الاتجاهات والأحزاب والقادة السياسيين للأمة، ولا ضمان أكبر من ذلك، فالعدالة في نفس القاضي قبل أن تكون في نص القانون، ولا بد ثانياًً من أن يحسن صياغة الدستور الذي يحكم الأمة، ويحدد المسؤوليات، ويحدد السلطات، ويزيل الفيش والاحتمالات، بحيث يعرف كل امرئ أو جماعة أو حزب حده فيقف عنده، إن حسن صياغة الدستور قمين بأن يحول دون استغلال فريق أو فئة أو جماعة أو حزب أو جماعة لهذا الشعب، ويتم ذلك من خلال ميثاق شرف يتعهد به السياسيون جميعاً أن يخلصوا لها النظام التشاوري ويوقعوا عليه على الملأ أمام الناس جميعاً هذا التعهد مفاده أن يقبلوا بالنظام الديمقراطي حاكماً لهم وعليهم، وأن يرفضوا استعمال القوة طريقاً إلى الحكم وأن يكون العمل لمصلحة الشعب لا للمصلحة الخاصة دون إثرة أو محاباة أو تمييز أو استغلال أو استئثار.
وأن يكون الاحتكام إلى الدستور الذي يتفق عليه الشعب ويتوافق عليه، وأي فريق يفوز بثقة أكثرية الشعب فله الحق أن ينفذ برامجه التي طرحها على الناس ويحكم بها، وهذا لا يعني إلغاء المعارضة أبداً، ولا يعني إلغاء الرأي الآخر أبداً، بل يبقى من حق الرأي الآخر أن يعلن موقفه، ويحاسب الحزب الحاكم على المبادئ التي تقدم إلى الشعب بتطبيقها، وأن يسائل الحاكم عن تصرفاته وتحقيق إنجازاته.
صحصح أن الأكثرية تحكم، لكنها لا تلغي الأقلية ولا تضطهدها ولا تقضي عليها لأن الزمن قد يمر وتصبح الأقلية أكثرية والعكس، إن الالتزام بهذه المبادئ من خلال ميثاق شرف جزء أساس من فقه السياسة الإسلامية، فإذا كان حلف الفضول قائماً على أن لا يقر بمكة ظالم، فلم لا يتحالف أبناء الشعب وقادته على أن لا يقر في دولتهم ظالم، وأن يكونوا يد واحدة عليه.
(( إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى وسيقه ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين إن أيديهم عليهم جميعاً)).
بهذا الميثاق يمكن أن يولد فجر جديد للأمة يلغي الظلم في صفوفها وتنعم بالحرية وتنعم بالأمن وتنعم بالعدل فتكون المثل الذي ضربه الله تعالى {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} .
ثامنا- ملخص البحث:
ونخلص بعد هذا البحث إلى النتائج التالية:
1- الحرية ببعديها المدني والسياسي هدف عام للبشرية كافة، وللأمة المسلمة خاصة.
2- الحرية أساس خلق الإنسان المختار من رب العالمين، مع المسؤولية الكاملة عن هذا الاختيار.
3- حرية العقيدة أول ما أعطيه الإنسان في الأرض {فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. البقرة (39)
4- للحرية مفاهيمها المختلفة ما بين النظرة الغربية والنظرة الشيوعية والنظرة الإسلامية.
5- أهم مفاهيم الحرية الغربية تحررها من الدين، ثم تحررها من القيم ثم فصل الدين عن الدولة ثم حقوق الإنسان وتصل إلى العبث والعدمية في جانبها الفردي.
6- أهم مفاهيم الحرية الشيوعية دكتاتورية البروليتارية (الطبقة العاملة) ولا بد من التحول الثوري الدموي لتحقيق الحرية بتأميم وسائل الإنتاج للوصول إلى الشيوعية العادلة (من كل حسب استطاعته ولكل حسب حاجته).
7- تختلف الحرية في المنظورين الغربي والشيوعي عنها في المنظور الإسلامي في المنطلق وفي المسؤولية وفي الهدف فهي هبة ربانية تميز بها هذا المخلوق عن غيره، وله مشيئته في الإسلام أو الكفر، ويتحمل تبعة موقفه من العذاب في النار أو النعيم في الجنة، وحريته دائماً مقيدة بحقوق وحريات الآخرين، وكلما تعبَّد الله كلما ازداد حرية.
8- أنواع الحريات هي: الحرية الفردية وحريات الشعوب والمجتمعات، وحرية الدولة.
9- حرية العقدية المنطلقة من قول الله عز وجل: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} و{لا إكراه في الدين}.
10- الردة في المفهوم الغربي داخلة ضمن إطار حرية العقيدة لأن الدين في الأصل علاقة شخصية بين الإنسان وربه، أما الردة في المفهوم الإسلامي، فخروج على مجتمع ودولة وشريعة ونظام حياة وهي أقرب ما تكون إلى خيانة الوطن العظمى.
11- وعلى هذا الأساس يأخذ حد الردة القتل للمرتد على مراحل متعددة وتنظيمات قبل تنفيذ الحد، وإذ كان الخروج على دستور الدولة خيانة للوطن، فالخروج على دين الدولة خيانة للدين، وكلاهما افتئات على حق الله الذي فرض الحدود وأوجبها.
12- حرية العبادة لم تشهد اضطهاداً إلا في ظل الأنظمة الشيوعية، والنظام الديمقراطي والإسلامي لا يناقشان في حرية العبادة لكن الاختلاف حين تكون العبادة في الملأ بعيداً عن المساجد والكنائس والكنس ومدى جرحها للشعور العام للأمة.
13- حرية الدعوة في صفوف المؤمنين بالدعوة لا يحظره إلا الأنظمة الشمولية المستبدة، لكن حرية الدعوة وضمن المعابر والمنتديات المأذون بها فلا حرج فيها كذلك، إنما الخلاف في حرية الدعوة على كل المستويات وهي خلافية نرجح جوازها إذا كانت بعلم الدولة لا في الخفاء والسر.
14- الحرية الإنسانية بأبعادها الثلاثة، الحرية من الرق، والحرية من الاستعباد، هي على قمم مفاهيم الحرية، والتي لا يكتفي الإسلام فيها بالحق، إنما يطالب بالواجب في ممارسة هذا الحق.
15- الحرية القضائية وفي مفاهيمها المختلفة (لا عقوبة إلا بنص، حق المتهم في الدفاع عن نفسه، المعاملة الإنسانية أثناء الاعتقال والمحاكمة، منع الاعتقال والحجز التعسفي لأمد طويل) هي من المسلمات الإسلامية في الحرية.
16- الحرية السياسية وهي أهم أنواع الحريات (في الانتماء الحزبي وفي اختيار الحاكم، في نقد الحاكم، وفي الاجتماع العام وإبداء الرأي) قضايا لا تقبل المساومة في النظام الإسلامي، بل هي من أهم أسسه.
17- الحرية الاقتصادية في أنواعها (حرية التملك، وحرية اختيار العمل والمهنة، وحرية الانضمام إلى النقابات وتشكيلها) يضمنها الإسلام للأمة ضمن مراعاة حقوق الآخرين وحرياتهم.
18- الحرية الوطنية في (الانتماء إلى الوطن، وحرية التجنس، وحرية السفر والإقامة) ومع أن بعضها من المسائل الخلافية، لكننا نرجح الإباحة على ضوء تطور المجتمع البشري، ومدى الوجود الدولي للإسلام على الساحة.
19- الحرية الاجتماعية: وهي أوسع الحريات الفردية التي تنصب عليها معاني الحرية مثل (حرية الزواج، وحرية الإنجاب، وحرية الافتراق بين الزوجين، وحرية التعدد) ضمن تنظيمات تشمل ضبط كل آثار هذه الحريات على الفرد والمجتمع، ويُضاف إلى ذلك حرية العلاقات الأسرية وحرية حياة الإنسان الخاصة الأسرية وحرية النشاطات الاجتماعية.
20- الحرية الثقافية مضمونة في الإسلام ضمن الإطار العام للمجتمع في (حرية التأليف والنشر والتعلم والانتماء للنوادي).
21- وحين ننتقل من الحرية الشخصية الفردية إلى حرية الشعوب والمجتمعات يطالعنا ابتداءً (حرية تقرير المصير - والذي ينقضه نظام الوصاية والانتداب – وحرية تكوين الأحزاب وحرية اختيار نظام الحكم، وحرية اختيار الحاكم، هي قضايا من صلب النظام الإسلامي السياسي والاجتماعي، إضافة إلى حرية اختيار العقدية والمذهب).
22- وتأتي حرية الدولة في (اختيار دستورها، وسن قوانينها، وحرمة ترابها، ومنع الاعتداء إضافة إلى حريتها في الانضمام للدول الأخرى أو الانفصال عنها، وحرية تكوين اتحادات سياسية أو اقتصادية، وحرية الانضمام للتحالفات والتكتلات الدولية هي من مقومات الدولة، إذا نفذت قوانينها المرعية بالعودة إلى الشعب في ذلك.
23- الإسلام هو النظام الوسط الذي وازن بين الحرية الفردية وحريات الآخرين دون أن يطغى جانب على آخر بين طغيان الحرية الفرية في النظام الليبرالي، وسحقها في النظام الشيوعي، وإعطاء كل ذي حق حقه في النظام الإسلامي.
24- الفرق كبير جداً بين الحديث النظري عن الحرية، وعن التحرير الفعلي الذي قام به الإسلام للبشرية المستعبدة.
25- فقد اعتبر الإسلام معركته بين المؤمنين والكافرين هي نفسها بين المستضعفين والطغاة، وكان مبرر وجوده، الحرب على الظالمين الذين اغتصبوا الحاكمية لله وجعلوها لأنفسهم من دونه، ولا يقوم الإسلام إلا بإزاحة هؤلاء الطواغيت من طريق الدعوة، والباب مفتوح لهم لانضمامهم جنوداً فيها.
26- ولعل فجر البشرية {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} هو التحرير الحقيقي، وكما قال ربعي بن عامر ليزدجرد (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
27- وكانت مبادئ حروب التحرير الإسلامية العشرة: لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغَّلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا بقرة ولا شاة ولا بعيراً إلا لأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.
28- لقد كان العهد الذهبي للحرية أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الراشدين حيث كانت الخلافة بيعة اختيارية بين الحاكم والمحكوم، والحاكم هو الذي يذكر الشعب بحقه في المحاسبة، ويطالبه بعزله إن أساء ويدعوه للقصاص منه.
29- انتقلت الخلافة الشورية إلى الملك ثم الملك الجبري ثم الملك الفوضوي، وكان الذي افتقده الانتقال إلى الملك بعد ثلاثين عاماً من الخلافة الراشدة هو استعمال الحاكم للمال بلا حساب، وفقدان حق محاسبة الخليفة.
30- وعلى مرور الزمن كان اللقاء حيناً والافتراق أحياناً بين الكتاب والسلطان، وكان على الطلائع المؤمنة أن تدور مع الكتاب حيث دار وتتحمل مسؤولية هذا الموقف مهما كان خطيراً ولو حساب الدم.
31- من مفاهيم الإسلام في الحرية اعتبار الظالمين وأتباعهم وسدنتهم وزبانيتهم جميعاً من الظالمين، ولا عذر للضعفاء والمستضعفين في الخنوع للظالم، فأرض الله واسعة للخروج من نير الظلم، ومن قبله وزيَّنه للظالم فهو ظالم مثله.
32- لقد كان الإسلام ثورة المستضعفين في الأرض {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار..}.
33- وكانت ثورات التحرير الإسلامية في عالمنا المعاصر استجابة لهذا النداء الرباني، وكان الإسلام وحملته هم وقود التحرير.
34- تحقق الحرية اليوم بعد فهم واقعنا البائس مع حكامه الطغاة الذين أذاقوه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
35- وحلم تحقيق الحرية في اختيار الحاكم، مع حرية الكلام والتعبير والرأي والدعوة، وأن تتعافى الأمة من الطغاة.
36- الحرية تربية على مبادئ ومثل، وتطبيق لهذه المبادئ، ومجاهدة للثبات عليها والتضحية في سبيلها.
37- والصيغ العملية لتطبيق الحرية هي حرية للأحزاب وقناعة للتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة.
38- واجتماع على ميثاق شرف يوقعه كل السياسيين في البلد الواحد والتعاهد على الوفاء به داخل السلطة وخارجها.
39- ولن يكون ضمان أكبر من ضمير الساسة والقادة كفيلاً بقيام الحرية واستمرارها، فالعدالة في ضمير القاضي لا في نص القانون.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
المبحث الثالث
المشروع الحضاري والإعلام
مخطط البحث
1- المدخل
2- تعاريف أساسية
3- الاسلام والإعلام
4- مفاهيم إعلامية في ضوء الاسلام
5- الإعلام السوري رؤية سريعة
6- لمحة عن وسائل الإعلام المعاصرة
7- قواعد وأسس التعامل مع وسائل الإعلام في رؤيتنا المستقبلية
8- خاتمة
أولا - المدخل
تعتبر وسائل الإعلام من أحد أهم مرتكزات الدولة الحديثة وأركانها، بل هي إحدى مميزات سلطانها وقدراتها، والناس فيها والشعوب متأثرون ومؤثرون، يتبادلون الأدوار والمواقع، لذلك افرد مشروعنا السياسي لسوريا المستقبل بابا خاصا لطرح هذا الموضوع، ليبين فيه أهميته وجوانبه العامة، وليسلط فيه بعض الضوء على موقف الاسلام ابتداء وتوجهات جماعة الإخوان نحو أهم مرتكزاته وأسسه، إذ لا مكان لأحد تحت الشمس لا يتفاعل مع الإعلام ووسائله في عصر القرية الكونية وشبكة الاتصالات العنكبوتية، والله نسأل أن يوفقنا لتقديم وجهة النظر العصرية الصائبة المنطلقة من قواعد ومسلمات ديننا وثقافتنا المجتمعية المشتركة.
ثانيا- تعاريف أساسية
1- الإعلام لغة: هو الإنباء والإظهار والإبراز
2- الإعلام اصطلاحا: هو كل قول أو فعل قصد به حمل حقائق أو مشاعر أو عواطف أو أفكار أو تجارب قولية أو سلوكية شخصية أو جماعية الى فرد أو جماعة أو جمهور بغية التأثير، سواء أكان العمل مباشرا، أو بواسطة وسيلة اصطلح على أنها وسيلة إعلام قديمة أو حديثة. كما يعرف بعضهم الإعلام: بأنه يضم جميع طرق التعبير التي تصلح للتفاهم المتبادل، على حين يراه آخرون بأنه المجال الواسع لتبادل الوقائع والآراء بين البشرية.
3- من وظائف الإعلام: التوجيه، تكوين الاتجاهات، زيادة الثقافة والمعلومات، وتنمية العلاقات، والتعارف الاجتماعي، والإعلان والدعاية والترفيه وتوفير سبل التسلية وقضاء أوقات الفراغ.....
4- ركائز العملية الإعلامية: المرسل، المستقبل، الرسالة، عملية التبادل، الصفة الإنسانية كهدف وراء العملية الإعلامية.
5- الإعلام الإسلامي الهادف: هو ذلك الإعلام الذي يسعى لخدمة العقيدة وإبرازها والدفاع عنها.
6- أسس الإعلام الإسلامي: ترتكز أسس الإعلام الإسلامي على ركائز أساسية هي: الحق – الصدق- العدل – الإنصاف – والموضوعية.
ثالثا- الاسلام والإعلام
يوصف الاسلام بأنه رسالة، وان النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالرسول، وان القران وسيلة حمل تلك الرسالة، لأجل ذلك فان مفردات الإعلام وآلياته وطرقه ووسائله هي بعض من مسيرة هذا الدين ورجاله، وينطبق على هذه الرسالة - الدعوة جل قواعد وأصول هذا العلم-الفن، بل إن الاكاديمين حين يدرسون السير والمغازي، يدركون دروسا إعلامية لاتحصى تفيد في صياغة إعلام معاصر، وتؤكد أسبقية هذه الأمة في هذا الميدان، ولإيضاح ذلك لابد من ذكر بعض النقاط:
1- القران رسالة الله الى العالمين:
2- النبي محمد رسول الهداية للعالمين.
3- مفاهيم التبليغ أساسية في هذا الدين (بلغوا عني ولو آية....)
4- مفاهيم الدعوة والدعاة من أعظم الأعمال (ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله....)
5- المسجد بيت الله ومكان لقاء المسلمين ومجتمعهم، واثر ذلك في صياغة الرأي العام.
6- المنبر والخطبة كأهم وسيلة إعلامية مباشرة قديمة وحديثة.
7- الشعر والشعراء، حملة الرسالة، ووسائل إعلامها.
8- الكلمة مسؤولية والمحاسبة عليها سالبة وموجبة (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة.....).
رابعا- مفاهيم إعلامية في ضوء الاسلام
1- الكلمة: هي المفردة الأساسية في الإعلام سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، مباشرة أو غير مباشرة، وأساس الرسالة الإعلامية ولأجل ذلك كان الاسلام حريصا على الدعوة الى قول الحق والجهر به وعدم السكوت عنه (مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(أفضل الجهاد كلمة حق...) في مقابل تحمل مسؤوليتها كاملة وحماية الناس من آثارها السيئة (مفهوم القذف...).
2- الرأي العام: وهو يشير في المجتمع الإسلامي الى اتجاهات جماهير المسلمين نحو قضية تهمها في وقت معين بعد مشاورة وحوار ونقاش يحكمه كتاب الله وسنة رسوله، وهو رأي يرعى المثل ويدعم الخير، وللحقيقة فان كثيرا من مفاهيم الرأي العام قد تمت معالجتها عبر آيات القران المنزلة على النبي متدرجة في سياق السيرة النبوية.
3- الصدق: هو القاعدة في بناء النظرية الإعلامية، ولأجل ذلك جاءت النصوص متضافرة في أهميته في حياة الأفراد والشعوب وانه السبيل للنجاة، وان سوى الصدق هو الكذب، الذي يقود في الختام الى النفاق والخروج عن جادة الاسلام، أما نظرية الخداع والكذب وأنواع الدعاية السوداء والرمادية و...مماهو مألوف في واقع الإعلام فهي من وسائل الحرب النفسية التي لايتعامل معها الاسلام إلا في حدودها الضرورية والضيقة للغاية، وفي ميدان الحروب والصراعات فقط.
4- الموضوعية: وهو الركن الرابع من أركان الإعلام، إذ لا حظوة لإعلام لايتميز بالموضوعية مهما استخدم من وسائل واغاليط ودعايات، ولقد أكدت تجاربنا الحديثة في العالم العربي أن الجماهير حتى تلك التي لاتمتلك معارف عالية، تنحاز ببساطة وفطرية الى تلك الوسائل الأكثر موضوعية من غيرها. لقد دعا الاسلام الى الموضوعية وندب الناس للعمل بها (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا..) مع الصديق والعدو والقريب والبعيد.
خامسا- الإعلام السوري رؤية سريعة
بعد هذا الاستعراض العام لعدد من المفاهيم، كان لابد من إلقاء ضوء على واقع الحال في الإعلام السوري لمعرفة المطلوب وإدراك حجم التغيير، فانه ممالا يخفى على احد اعتماد السلطة في سورية على الإعلام عمليا ونظريا كأهم وسيلة لتوجيه الرأي العام والسيطرة عليه والدفاع عن رموزه وشخصياته، لذلك يسمى في سورية بالإعلام الموجه، ويحتفظ أركان النظام بالسيطرة المطلقة والكاملة على كل مواقعه كبيرها وصغيرها ابتداء بالإذاعة والتلفزيون ووزارة الإعلام ووكالة الأنباء وانتهاء باصغر ساع في جريدة محلية مغمورة، إلا أن ذلك لم يزده إلا ترهلا وانغلاقا وتراجعا في المحصلة النهائية، فخسر العديد من معاركه داخليا وخارجيا باستثناء بعضها الذي يعتمد على التحشيد الإعلامي والحماسي تجاه قضية فلسطين، وتجلت خسارته الكبرى في عدم ثقة الشعب به على العموم، كما عبر الشاعر ممدوح عدوان في كلمته المشهورة عام 1980( إن الناس لاتصدق حتى حالة الطقس التي يبثها الإعلام السوري).
وتشير الأرقام والإحصاءات فيما يخص حجم الصحف والمجلات والإذاعات واستخدام الانترنت....الى انخفاض كبير في مستويات الاستخدام والتعامل مقارنة بغيرنا من البلدان، والأمر لا يختلف كثيرا في ميدان الكتب والنشرعلى العموم، وكذلك فان الانخفاض يشمل الناحية النوعية فالمستخدم من تلك الوسائل يعاني من تخلف كبير.
غير انه لابد من لفت النظر الى حقيقة حدوث تحول ما في طبيعة الإعلام في العهد الجديد، ورغم التراجع الذي حصل (إغلاق الدومري – سحب تراخيص إذاعات الـ اف ام – اعتقال العديد من الصحفيين...) إلا أن ماحدث حقيقة هو أن القمقم قد فتح، وليس من السهل إعادة الناس الى داخله.
سادسا- لمحة عن وسائل الإعلام المعاصر
تنوعت وتعددت وسائل الإعلام وأصبح مفهومها واسعا، ولم تعد تقتصر على وسائل الإعلام والنشاط الحكومي الموجه، إذ أصبح كل جهد أو وسيلة يقصد بها توجيه رسالة الى مستقبل بمضمون ما (جاد أو فارغ) يعتبر وسيلة إعلامية، فانضوى تحت هذا المسمى:
1- دور نشر الصحف والمجلات والكتب
2- دور الإنتاج الصوتي والمرئي والكمبيوتري الفني والثقافي العلمي والترفيهي.....
3- مواقع الانترنت الخاصة والعامة والمنتديات وما يتعلق بها
4- الإذاعات المسموعة (المتوسطة والقصيرة والطويلة والـ اف ام....) والمرئية العامة والمشفرة
5- أدوات ومراكز التجمع الإنساني كالمراكز الثقافية ودور المسرح والسينما..........
وللحقيقة فان لكل عصر وسيلته الأنسب والأكثر نجاحا، وتعتبر القنوات الفضائية ومواقع الانترنت الآن هي الأكثر قبولا وانتشارا، لأجل ذلك يتضاعف عددها ودورها وتأثيرها وتلقى ما تلقى من عنت الحكومات والأنظمة ومن صعوبات التحدي والتطوير الناتج عن تطور تقنيات الاتصال ووسائله.
ونحن بدورنا نرى أن كل وسائل الإعلام بهذا المعنى مفيدة في مشروعنا الحضاري، ندعوها لتأخذ دورها في بناء الوطن وتسديد خطاه وفق القواعد والأسس التالية:
سابعا- قواعد وأسس التعامل مع وسائل الإعلام المعاصر
1- الإعلام ووسائله سلاح هام من أسلحة النهوض لايستهان به وركن ركين من نشاط أي مجتمع محترم فهو وسيلة للبناء ووسيلة للدفاع عن الكيان والهوية والثقافة.
2- تشجيع كل من يرغب في خوض تجربة الإعلام بكل وسائله، فكثرة المنابر لا تعني الا مجتمعا حرا قادرا على النمو والتصحيح.
3- الرقابة الإعلامية التي ندعو لها هي في حدودها الدنيا المتعلقة بثوابت الأمة معتمدة في ذلك على الوازع قبل الرادع.
4- تشجيع روح الإبداع والابتكار والتطوير بما ينسجم مع قيام صناعة إعلامية مثالية وهادفة.
5- الحرية تقتضي المسؤولية الكاملة، فلكل أن يقول رأيه وبصراحة، ولكن لابد من احترام قواعد القانون والحق العام، وإلا فان القضاء النزيه هو الفصل في التنازع.
6- للحكومة تملك وسائل الإعلام بالقدر المناسب وبما يساعدها على إدارة الدولة من غير أن يعني هذا تضخم جيوش العاملين وتحولهم الى بطالين.
7- الدفع بكل الوسائل الى تشجيع المجتمع المدني لأخذ دوره في الإعلام ليكون شريكا حقيقيا في صناعة الرأي العام.
8- إنهاء احتكار السلطة بالتالي لوسائل الإعلام الى الأبد، واستبداله بالمنافسة الشريفة والحرة بين تلك الوسائل.
9- رفع شعار (لا إبداع بلا حرية) وجعلها قاعدة في التعامل بين كل شرائح المجتمع وأركانه بمافيها الإعلام لتكون الحرية أساس حركة المجتمع، ولنا ثقة في فطر الناس لتكون الى جوار قواعد القانون خير حارس من الشطط والجنوح.
10-الصدق والموضوعية والجرأة والمسؤولية قواعد أساسية في ميثاق العمل الإعلامي.
11-وسائل الإعلام الحكومية بريئة من أخلاق التطبيل للانجازات، والعمل على كل حال يجب أن يسبق القول في ذلك.
12-الإعلام الرسمي إعلام مستقل وهو إعلام دولة لا إعلام حكومة، وهو للمواطنين جميعا لا لفئة منهم، وهو مستقل عن سلطان الحكومة المعنوي وليس بوقا لها.
13- الإعلام الرسمي والخاص إعلام هادف وجده وهزله يخدم مصلحة الوطن والمواطن ويدفع باتجاه قفزته الحضارية وبنائه المستقبلي.
14- للأفراد والهيئات والأحزاب حق تملك وسائل الإعلام المختلفة.
15- ميثاق الإعلام يجب أن يتضمن حماية المجتمع وأمنه والتشجيع على الحوار بين مختلف فئاته.
16- ميثاق الإعلام الذي ندعو إليه يعزز ويرسخ الهوية العربية الإسلامية، ويحمي الوحدة الوطنية، ويدافع عن قضايا الأمة الأساسية.
16- في مشروعنا الحضاري ندعم ونشجع كل أشكال الترفيه البريء والهادف وبما ينسجم مع شخصية الأمة وكيانها.
17-السلطة الرابعة ومفهوم حرية الصحافة وقدرتها على المحاسبة والمساءلة أساس ديني بالنسبة لنا منبثق من مفهوم الأمر بالمعروف، ومفهوم (إذا خشيت أمتي أن تقول للظالم.....).
18- كما أن مشروعنا الحضاري يدعو لدخول عصر العولمة عبر وسيلة تحرير الإعلام وكسر احتكاره، مع تكوين للكوادر القادرة على إدارة المشاريع الإعلامية الخاصة والعامة.
19- والعولمة التي ندعو لاقتحامها والمشاركة فيها هي تلك العولمة النافعة لا المفسدة، والتي يكون الإعلام احد أسلحة الجهاد فيها.
20- كما وأننا نظن أن الأمة قد تجاوزت بمراحل حكاية الوصاية عليها، ولذلك فان كل ما يدفع لتحرير الإنسان وإبداعه وإطلاق مواهبه هو مطلب مشروع معتبر.
ثامنا- خاتمة
الإعلام في نظريته الحديثة ودوره الجديد سلاح لبناء المجتمعات وللدفاع عنها ووسيلة من وسائل إقامة الشورى ولتصحيح الأوضاع ووسيلة معرفة وتثقيف وترفيه ووسيلة مشاركة سياسية هامة، ولعل التطورات اليومية في التقنيات والعلوم تضاعف من دوره وفعاليته لذلك فإننا ندعو لاستغلال ذلك كله ولتوظيفه في نهضة الأمة وانطلاق مشروعها الحضاري دون حواجز أو قيود سوى ما يصطدم بثوابت الأمة وأخلاقها العامة.
المشروع الحضاري والإعلام
مخطط البحث
1- المدخل
2- تعاريف أساسية
3- الاسلام والإعلام
4- مفاهيم إعلامية في ضوء الاسلام
5- الإعلام السوري رؤية سريعة
6- لمحة عن وسائل الإعلام المعاصرة
7- قواعد وأسس التعامل مع وسائل الإعلام في رؤيتنا المستقبلية
8- خاتمة
أولا - المدخل
تعتبر وسائل الإعلام من أحد أهم مرتكزات الدولة الحديثة وأركانها، بل هي إحدى مميزات سلطانها وقدراتها، والناس فيها والشعوب متأثرون ومؤثرون، يتبادلون الأدوار والمواقع، لذلك افرد مشروعنا السياسي لسوريا المستقبل بابا خاصا لطرح هذا الموضوع، ليبين فيه أهميته وجوانبه العامة، وليسلط فيه بعض الضوء على موقف الاسلام ابتداء وتوجهات جماعة الإخوان نحو أهم مرتكزاته وأسسه، إذ لا مكان لأحد تحت الشمس لا يتفاعل مع الإعلام ووسائله في عصر القرية الكونية وشبكة الاتصالات العنكبوتية، والله نسأل أن يوفقنا لتقديم وجهة النظر العصرية الصائبة المنطلقة من قواعد ومسلمات ديننا وثقافتنا المجتمعية المشتركة.
ثانيا- تعاريف أساسية
1- الإعلام لغة: هو الإنباء والإظهار والإبراز
2- الإعلام اصطلاحا: هو كل قول أو فعل قصد به حمل حقائق أو مشاعر أو عواطف أو أفكار أو تجارب قولية أو سلوكية شخصية أو جماعية الى فرد أو جماعة أو جمهور بغية التأثير، سواء أكان العمل مباشرا، أو بواسطة وسيلة اصطلح على أنها وسيلة إعلام قديمة أو حديثة. كما يعرف بعضهم الإعلام: بأنه يضم جميع طرق التعبير التي تصلح للتفاهم المتبادل، على حين يراه آخرون بأنه المجال الواسع لتبادل الوقائع والآراء بين البشرية.
3- من وظائف الإعلام: التوجيه، تكوين الاتجاهات، زيادة الثقافة والمعلومات، وتنمية العلاقات، والتعارف الاجتماعي، والإعلان والدعاية والترفيه وتوفير سبل التسلية وقضاء أوقات الفراغ.....
4- ركائز العملية الإعلامية: المرسل، المستقبل، الرسالة، عملية التبادل، الصفة الإنسانية كهدف وراء العملية الإعلامية.
5- الإعلام الإسلامي الهادف: هو ذلك الإعلام الذي يسعى لخدمة العقيدة وإبرازها والدفاع عنها.
6- أسس الإعلام الإسلامي: ترتكز أسس الإعلام الإسلامي على ركائز أساسية هي: الحق – الصدق- العدل – الإنصاف – والموضوعية.
ثالثا- الاسلام والإعلام
يوصف الاسلام بأنه رسالة، وان النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالرسول، وان القران وسيلة حمل تلك الرسالة، لأجل ذلك فان مفردات الإعلام وآلياته وطرقه ووسائله هي بعض من مسيرة هذا الدين ورجاله، وينطبق على هذه الرسالة - الدعوة جل قواعد وأصول هذا العلم-الفن، بل إن الاكاديمين حين يدرسون السير والمغازي، يدركون دروسا إعلامية لاتحصى تفيد في صياغة إعلام معاصر، وتؤكد أسبقية هذه الأمة في هذا الميدان، ولإيضاح ذلك لابد من ذكر بعض النقاط:
1- القران رسالة الله الى العالمين:
2- النبي محمد رسول الهداية للعالمين.
3- مفاهيم التبليغ أساسية في هذا الدين (بلغوا عني ولو آية....)
4- مفاهيم الدعوة والدعاة من أعظم الأعمال (ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله....)
5- المسجد بيت الله ومكان لقاء المسلمين ومجتمعهم، واثر ذلك في صياغة الرأي العام.
6- المنبر والخطبة كأهم وسيلة إعلامية مباشرة قديمة وحديثة.
7- الشعر والشعراء، حملة الرسالة، ووسائل إعلامها.
8- الكلمة مسؤولية والمحاسبة عليها سالبة وموجبة (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة.....).
رابعا- مفاهيم إعلامية في ضوء الاسلام
1- الكلمة: هي المفردة الأساسية في الإعلام سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، مباشرة أو غير مباشرة، وأساس الرسالة الإعلامية ولأجل ذلك كان الاسلام حريصا على الدعوة الى قول الحق والجهر به وعدم السكوت عنه (مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(أفضل الجهاد كلمة حق...) في مقابل تحمل مسؤوليتها كاملة وحماية الناس من آثارها السيئة (مفهوم القذف...).
2- الرأي العام: وهو يشير في المجتمع الإسلامي الى اتجاهات جماهير المسلمين نحو قضية تهمها في وقت معين بعد مشاورة وحوار ونقاش يحكمه كتاب الله وسنة رسوله، وهو رأي يرعى المثل ويدعم الخير، وللحقيقة فان كثيرا من مفاهيم الرأي العام قد تمت معالجتها عبر آيات القران المنزلة على النبي متدرجة في سياق السيرة النبوية.
3- الصدق: هو القاعدة في بناء النظرية الإعلامية، ولأجل ذلك جاءت النصوص متضافرة في أهميته في حياة الأفراد والشعوب وانه السبيل للنجاة، وان سوى الصدق هو الكذب، الذي يقود في الختام الى النفاق والخروج عن جادة الاسلام، أما نظرية الخداع والكذب وأنواع الدعاية السوداء والرمادية و...مماهو مألوف في واقع الإعلام فهي من وسائل الحرب النفسية التي لايتعامل معها الاسلام إلا في حدودها الضرورية والضيقة للغاية، وفي ميدان الحروب والصراعات فقط.
4- الموضوعية: وهو الركن الرابع من أركان الإعلام، إذ لا حظوة لإعلام لايتميز بالموضوعية مهما استخدم من وسائل واغاليط ودعايات، ولقد أكدت تجاربنا الحديثة في العالم العربي أن الجماهير حتى تلك التي لاتمتلك معارف عالية، تنحاز ببساطة وفطرية الى تلك الوسائل الأكثر موضوعية من غيرها. لقد دعا الاسلام الى الموضوعية وندب الناس للعمل بها (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا..) مع الصديق والعدو والقريب والبعيد.
خامسا- الإعلام السوري رؤية سريعة
بعد هذا الاستعراض العام لعدد من المفاهيم، كان لابد من إلقاء ضوء على واقع الحال في الإعلام السوري لمعرفة المطلوب وإدراك حجم التغيير، فانه ممالا يخفى على احد اعتماد السلطة في سورية على الإعلام عمليا ونظريا كأهم وسيلة لتوجيه الرأي العام والسيطرة عليه والدفاع عن رموزه وشخصياته، لذلك يسمى في سورية بالإعلام الموجه، ويحتفظ أركان النظام بالسيطرة المطلقة والكاملة على كل مواقعه كبيرها وصغيرها ابتداء بالإذاعة والتلفزيون ووزارة الإعلام ووكالة الأنباء وانتهاء باصغر ساع في جريدة محلية مغمورة، إلا أن ذلك لم يزده إلا ترهلا وانغلاقا وتراجعا في المحصلة النهائية، فخسر العديد من معاركه داخليا وخارجيا باستثناء بعضها الذي يعتمد على التحشيد الإعلامي والحماسي تجاه قضية فلسطين، وتجلت خسارته الكبرى في عدم ثقة الشعب به على العموم، كما عبر الشاعر ممدوح عدوان في كلمته المشهورة عام 1980( إن الناس لاتصدق حتى حالة الطقس التي يبثها الإعلام السوري).
وتشير الأرقام والإحصاءات فيما يخص حجم الصحف والمجلات والإذاعات واستخدام الانترنت....الى انخفاض كبير في مستويات الاستخدام والتعامل مقارنة بغيرنا من البلدان، والأمر لا يختلف كثيرا في ميدان الكتب والنشرعلى العموم، وكذلك فان الانخفاض يشمل الناحية النوعية فالمستخدم من تلك الوسائل يعاني من تخلف كبير.
غير انه لابد من لفت النظر الى حقيقة حدوث تحول ما في طبيعة الإعلام في العهد الجديد، ورغم التراجع الذي حصل (إغلاق الدومري – سحب تراخيص إذاعات الـ اف ام – اعتقال العديد من الصحفيين...) إلا أن ماحدث حقيقة هو أن القمقم قد فتح، وليس من السهل إعادة الناس الى داخله.
سادسا- لمحة عن وسائل الإعلام المعاصر
تنوعت وتعددت وسائل الإعلام وأصبح مفهومها واسعا، ولم تعد تقتصر على وسائل الإعلام والنشاط الحكومي الموجه، إذ أصبح كل جهد أو وسيلة يقصد بها توجيه رسالة الى مستقبل بمضمون ما (جاد أو فارغ) يعتبر وسيلة إعلامية، فانضوى تحت هذا المسمى:
1- دور نشر الصحف والمجلات والكتب
2- دور الإنتاج الصوتي والمرئي والكمبيوتري الفني والثقافي العلمي والترفيهي.....
3- مواقع الانترنت الخاصة والعامة والمنتديات وما يتعلق بها
4- الإذاعات المسموعة (المتوسطة والقصيرة والطويلة والـ اف ام....) والمرئية العامة والمشفرة
5- أدوات ومراكز التجمع الإنساني كالمراكز الثقافية ودور المسرح والسينما..........
وللحقيقة فان لكل عصر وسيلته الأنسب والأكثر نجاحا، وتعتبر القنوات الفضائية ومواقع الانترنت الآن هي الأكثر قبولا وانتشارا، لأجل ذلك يتضاعف عددها ودورها وتأثيرها وتلقى ما تلقى من عنت الحكومات والأنظمة ومن صعوبات التحدي والتطوير الناتج عن تطور تقنيات الاتصال ووسائله.
ونحن بدورنا نرى أن كل وسائل الإعلام بهذا المعنى مفيدة في مشروعنا الحضاري، ندعوها لتأخذ دورها في بناء الوطن وتسديد خطاه وفق القواعد والأسس التالية:
سابعا- قواعد وأسس التعامل مع وسائل الإعلام المعاصر
1- الإعلام ووسائله سلاح هام من أسلحة النهوض لايستهان به وركن ركين من نشاط أي مجتمع محترم فهو وسيلة للبناء ووسيلة للدفاع عن الكيان والهوية والثقافة.
2- تشجيع كل من يرغب في خوض تجربة الإعلام بكل وسائله، فكثرة المنابر لا تعني الا مجتمعا حرا قادرا على النمو والتصحيح.
3- الرقابة الإعلامية التي ندعو لها هي في حدودها الدنيا المتعلقة بثوابت الأمة معتمدة في ذلك على الوازع قبل الرادع.
4- تشجيع روح الإبداع والابتكار والتطوير بما ينسجم مع قيام صناعة إعلامية مثالية وهادفة.
5- الحرية تقتضي المسؤولية الكاملة، فلكل أن يقول رأيه وبصراحة، ولكن لابد من احترام قواعد القانون والحق العام، وإلا فان القضاء النزيه هو الفصل في التنازع.
6- للحكومة تملك وسائل الإعلام بالقدر المناسب وبما يساعدها على إدارة الدولة من غير أن يعني هذا تضخم جيوش العاملين وتحولهم الى بطالين.
7- الدفع بكل الوسائل الى تشجيع المجتمع المدني لأخذ دوره في الإعلام ليكون شريكا حقيقيا في صناعة الرأي العام.
8- إنهاء احتكار السلطة بالتالي لوسائل الإعلام الى الأبد، واستبداله بالمنافسة الشريفة والحرة بين تلك الوسائل.
9- رفع شعار (لا إبداع بلا حرية) وجعلها قاعدة في التعامل بين كل شرائح المجتمع وأركانه بمافيها الإعلام لتكون الحرية أساس حركة المجتمع، ولنا ثقة في فطر الناس لتكون الى جوار قواعد القانون خير حارس من الشطط والجنوح.
10-الصدق والموضوعية والجرأة والمسؤولية قواعد أساسية في ميثاق العمل الإعلامي.
11-وسائل الإعلام الحكومية بريئة من أخلاق التطبيل للانجازات، والعمل على كل حال يجب أن يسبق القول في ذلك.
12-الإعلام الرسمي إعلام مستقل وهو إعلام دولة لا إعلام حكومة، وهو للمواطنين جميعا لا لفئة منهم، وهو مستقل عن سلطان الحكومة المعنوي وليس بوقا لها.
13- الإعلام الرسمي والخاص إعلام هادف وجده وهزله يخدم مصلحة الوطن والمواطن ويدفع باتجاه قفزته الحضارية وبنائه المستقبلي.
14- للأفراد والهيئات والأحزاب حق تملك وسائل الإعلام المختلفة.
15- ميثاق الإعلام يجب أن يتضمن حماية المجتمع وأمنه والتشجيع على الحوار بين مختلف فئاته.
16- ميثاق الإعلام الذي ندعو إليه يعزز ويرسخ الهوية العربية الإسلامية، ويحمي الوحدة الوطنية، ويدافع عن قضايا الأمة الأساسية.
16- في مشروعنا الحضاري ندعم ونشجع كل أشكال الترفيه البريء والهادف وبما ينسجم مع شخصية الأمة وكيانها.
17-السلطة الرابعة ومفهوم حرية الصحافة وقدرتها على المحاسبة والمساءلة أساس ديني بالنسبة لنا منبثق من مفهوم الأمر بالمعروف، ومفهوم (إذا خشيت أمتي أن تقول للظالم.....).
18- كما أن مشروعنا الحضاري يدعو لدخول عصر العولمة عبر وسيلة تحرير الإعلام وكسر احتكاره، مع تكوين للكوادر القادرة على إدارة المشاريع الإعلامية الخاصة والعامة.
19- والعولمة التي ندعو لاقتحامها والمشاركة فيها هي تلك العولمة النافعة لا المفسدة، والتي يكون الإعلام احد أسلحة الجهاد فيها.
20- كما وأننا نظن أن الأمة قد تجاوزت بمراحل حكاية الوصاية عليها، ولذلك فان كل ما يدفع لتحرير الإنسان وإبداعه وإطلاق مواهبه هو مطلب مشروع معتبر.
ثامنا- خاتمة
الإعلام في نظريته الحديثة ودوره الجديد سلاح لبناء المجتمعات وللدفاع عنها ووسيلة من وسائل إقامة الشورى ولتصحيح الأوضاع ووسيلة معرفة وتثقيف وترفيه ووسيلة مشاركة سياسية هامة، ولعل التطورات اليومية في التقنيات والعلوم تضاعف من دوره وفعاليته لذلك فإننا ندعو لاستغلال ذلك كله ولتوظيفه في نهضة الأمة وانطلاق مشروعها الحضاري دون حواجز أو قيود سوى ما يصطدم بثوابت الأمة وأخلاقها العامة.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
المبحث الرابع
القضية الفلسطينية
مخطط البحث
أولاً: فلسطين من النشأة إلى اليوم
1- فلسطين (التاريخ والجغرافية)
2- فلسطين عبر التاريخ
3- فلسطين في العهد الإسلامي
4- فلسطين ووعد بلفور
5- فلسطين تحت الاحتلال البريطاني
ثانياً: المقاومة المسلحة ضدّ المشروع الصهيوني
1- المقاومة أثناء الاحتلال البريطاني
2- حرب 1967م وأبرز نتائجها
3- نتائج حرب أكتوبر 1973م
ثالثاً: المقاومة الفلسطينية 1949-2001م
1- مرحلة المدّ القومي العربي 1949-1967م
2- حرب 1982م
3- انتفاضة الأقصى 28 سبتمبر 2000م أكتوبر 2001م، ونتائجها
رابعاً: التسوية السلمية وأبعادها ومراحلها
خامساً: تقويم وخلاصات
سادساً: التيار الإسلامي وأدواره الجهادية وآثاره
المبحث الرابع
القضية الفلسطينية
أولا: فلسطين من النشأة الى اليوم
1- فلسطين( التاريخ والجغرافيا):
يُطلق اسم فلسطين على القسم الجنوبي الغربي لبلاد الشام، وهي الأرض الواقعة غربي آسيا، على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ولفلسطين موقع استراتيجي مهمّ؛ إذ تُعدّ صِلة الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ونقطة التقاء جناحي العالم الإسلامي.
وقد سكن الإنسان أرض فلسطين منذ عصور موغلة في القدم، كما تدلّ الحفريات والآثار، وشهدت أرضها مراحل التطوّر الإنساني الأولى في التحول من الرعي إلى الزراعة، كما أن أول مدينة جرى تشييدها في التاريخ هي مدينة (أريحا) الواقعة شمال شرقي فلسطين، وذلك نحو 8000 ق.م حسب ما يذكر علماء الآثار , وأقدم اسم معروف لهذه الأرض هو(أرض كنعان)؛ لأن أول شعب سكن هذه الأرض معروف لدينا تاريخيا هم (الكنعانيون) الذين قدموا من جزيرة العرب نحو 2500 ق.م. واسم فلسطين هو اسم مشتقّ من اسم أقوام بحرية، لعلها جاءت من غرب آسيا الصغرى ومناطق بحر إيجة حوالي القرن الثاني عشر ق.م، وورد اسمها في النقوش المصرية باسم (ب ل س ت)، وربما أضيفت النون بعد ذلك للجمع، وقد سكنوا المناطق الساحلية، واندمجوا بالكنعانيين بسرعة، فلم يبقَ لهم أثر مميز سوى أنهم أعطوا الأرض اسمهم.
أما أرض فلسطين بحدودها الجغرافية المتعارف عليها حالياً، فلم تتحدّد بدقة إلا في أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين (وخصوصاً خلال 1920-1923م)، وقد ظلّت حدود أرض فلسطين تضيق وتتسع عبر التاريخ، غير أنّها ظلّت تعبِّر بشكلٍ عام عن الأرض الواقعة بين البحر المتوسط وبين البحر الميت ونهر الأردن، وعلى أيّ حال فإنّ مساحة فلسطين وفق التقسيمات المعاصرة تبلغ (27009 كم2)، وتتمتع فلسطين بمناخ معتدل، هو مناخ البحر المتوسط، وهو مناخ يشجع على الاستقرار والإنتاج.
2- فلسطين عبر التاريخ:
هناك آثار تشير إلى أنّ الإنسان سكن فلسطين منذ العصر الحجري القديم
(500 ألف - 14 ألفاً ق.م)، كما يشير العصر الحجري الوسيط (14 ألفاً -
8 آلاف ق.م) إلى وجود أشكال حياة حضارية تمثلت بما يعرف بالحضارة النطوفية، وعندما قدِم الكنعانيون من جزيرة العرب نحو (2500 ق.م) كانت هجرتهم واسعة، بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وقد أنشأوا ما لا يقلّ عن مائتي مدينة وقرية في فلسطين، مثل مدن بيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وبئر السبع وبيت لحم. ويرى ثقات المؤرخين أنّ معظم أهل فلسطين الحاليين - وخصوصاً القرويين - هم من أنسال القبائل الكنعانية والعمورية والفلسطينية، ومن القبائل العربية التي استقرّت في فلسطين قبل الفتح الإسلامي وبعده، حيث اندمج الجميع في نسيج واحد، يجمعهم الإسلام واللغة العربية، حيث أسلم الجميع واستعربوا تحت الحكم الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرناً.
كان قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين نحو (1900 ق.م) إشراقة لنور التوحيد في هذه الأرض المباركة، وقد عاصر حاكم القدس (ملكي صادق) الذي كان على ما يبدو موحداً وصديقاً له. وكان لأبي الأنبياء إبراهيم دوره في نشر رسالة التوحيد، ويبدو أنه لم يجد عنتاً أو عناءً من أهل فلسطين، ولم يضطر لتركها بسبب دينه أو دعوته، فظلّ مستقراً فيها وينتقل بحرية حيث يشاء إلى أن توفاه الله في المدينة التي حملت اسمه (الخليل). وقد سار على دربه أبناؤه الأنبياء من بعده إسماعيل - الذي استقرّ في مكة -، وإسحاق وابنه يعقوب اللّذان استقرّا في فلسطين. وكان ليعقوب عليه السلام اثنا عشر ابناً هم الأسباط المعرفون ببني إسرائيل - وإسرائيل هو لقب ليعقوب عليه السلام -، وقد هاجروا إلى مصر واستقرّوا فيها، حيث عانوا من اضطهاد الفراعنة بضعة قرون. وأرسل الله لهم موسى عليه السلام - في القرن 13 ق.م - لينقذهم من فرعون وطغيانه، وأهلكَ الله فرعون وجنوده، غير أنّ بني إسرائيل في ذلك الزمان كانوا قد طُبعوا على الذلّ والجبن، فرفضوا الذهاب إلى الأرض المقدسة قائلين لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }.
وتوفّي موسى عليه السلام قبل أن يدخل فلسطين، وعندما نشأ جيل جديد صلب من بني إسرائيل بعد أربعين سنة من التيه، قادهم يوشع بن نون عليه السلام (نحو 1190 ق.م)، حيث عبر بهم نهر الأردن، واستطاع تحقيق بعض السيطرة لبني إسرائيل في الجزء الشمالي الشرقي من فلسطين. ولمدّة (150) سنة تالية سادت النكبات والفوضى والخلافات والانحلال الخُلقي والديني بين بني إسرائيل. ولم يتحسن حالهم إلا بقدوم طالوت ملكاً عليهم، والذي استطاع الانتصار على أعدائه.
وكان ظهور داود عليه السلام الذي خلف طالوت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة لنور التوحيد في الأرض المباركة، حيث آتاه الله الملك (نحو 1004 ق.م)، وقد واصل حربه ضدّ الأقوام الكافرة على الأرض المقدسة، حيث أخضعها واستطاع نقل عاصمته إلى القدس سنة (995 ق.م)، وسيطر على معظم فلسطين، باستثناء معظم المناطق الساحلية التي لم تخضع له. واستمرّ في حكمه عليه السلام حتى (963 ق.م)، حيث خلفه ابنه سليمان عليه السلام (963-923 ق.م)، حيث شهدت فلسطين حركة بناء وعمران وازدهار ضخمة، وسخّر الله له الريح والجنّ، وأعطاه مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده. وكان حكم داود وسليمان هو العصر الذهبي الذي حُكمت فيه فلسطين نحو ثمانين عاماً تحت راية الإيمان والتوحيد قبل الفتح الإسلامي لها.
وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى دولتين منفصلتين متعاديتين في كثيرٍ من الأحيان، فنشأت مملكة (إسرائيل) شمال فلسطين خلال الفترة (923-721 ق.م)، التي سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء: (المملكة الذيلية)، حيث ضعفت وفسد حكامها، وانتهى أمرها بسيطرة الآشوريين بقيادة سرجون الثاني عليها، وتدميرها ونقل سكانها من بني إسرائيل إلى حرّان والخابور وكردستان وفارس، وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، ولم يبقَ بعد ذلك أثر لأسباط بني إسرائيل العشرة الذين شكّلوا هذه الدولة. أما مملكة (يهودا) فاستمرّت منذ (923-586 ق.م)، وكانت عاصمتها القدس، وقد اعترتها عوامل الضعف والوقوع تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة، فقد هزمها ودخل عاصمتها شيشق فرعون مصر (أواخر القرن 10 ق.م)، وفعل مثله الفلسطينيون في عهد يهورام (849-842 ق.م)، واضطرّت لدفع الجزية للآشوريين...، ثم إنها سقطت أخيراً بيد البابليّين بقيادة نبوخذ نصر الذي خرَب القدس، ودمّر الهيكل، وسبى حوالي (40) ألفاً من اليهود، وبذلك سقطت مملكتهم سنة (586 ق.م).
وهكذا فلم تطُل مملكة بني إسرائيل في فلسطين أكثر من أربعة قرون حكموا في معظم الوقت بعضاً من أرضها، وكان حكمهم غالب الوقت ضعيفاً مفككاً، وخضع أحياناً لنفوذ وهيمنة دول قوية مجاورة. وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء فلسطين من الكنعانيين وغيرهم في...
وقد سمح الإمبراطور الفارسي قورش لليهود بالعودة إلى فلسطين، فعادت قلّة منهم، عاشت إلى جانب أبناء فلسطين، وتمتعت منطقة القدس بنوع من الحكم الذاتي تحت السلطة الفارسية التي استمرّت (539-332 ق.م)، وتلا ذلك عصر السيطرة الهللينية الإغريقية على فلسطين (332-63 ق.م)، واستمرّ يدير شؤون اليهود (الكاهن الأكبر)، واستطاع اليهود تحقيق حكم ذاتي منذ سنة (164 ق.م) أخذ يضيق ويتسع، وتزداد مظاهر استقلاله وتضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الوقت على فلسطين (الرومان، البطالمة، السلوقيين...).
وقد تمكن الرومان من السيطرة على فلسطين (63 ق.م)، وأخضعوها لحكمهم المباشر من سنة (6 م)، حيث ألغوا الحكم الذاتي اليهودي في منطقة القدس. وقد ثار اليهود (66-70م)، لكن القائد العسكري الروماني تيتوس أخمد ثورتهم ودمّر الهيكل، ثم ثار اليهود مرة أخرى وأخيرة (132-135م)، لكن القائد الروماني جوليوس سيفروس احتلّ القدس ودمّرها، وأقام الإمبراطور الروماني هدريان مدينة جديدة فوق خرائبها، سماها إيليا كابيتولينا، حيث عُرفت بعد ذلك باسم إيلياء، وهو اسم هدريان الأول. وحظر على اليهود دخول القدس حوالي (200) سنة تالية، وندرت أعدادهم نسبة إلى السكان طوال (18) قرناً تالية. بينما ظلّ أهل البلاد الأصليون من كنعانيين ومن اختلط بهم من قبائل العرب مستقرّين في البلاد قبل قدوم بني إسرائيل وفي أثناء وجودهم، وظلوا مستمرين كذلك بعدهم إلى أيامنا هذه.
3- فلسطين في العهد الإسلامي:
قبل أن تتشكل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، كانت أنظار القلّة المستضعفة من المسلمين في مكة تتّجه إلى المسجد الأقصى وبيت المقدس في فلسطين، إذ إنّ معجزة الإسراء تمت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وكان المسجد الأقصى هو القِبلة الأولى للمسلمين في الصلاة. وقد كان فتح خيبر وفدك (7هـ)، وغزوتا مؤتة (8هـ)، وتبوك (9هـ)، وحملة أسامة بن زيد (11هـ) مقدمة لتطلع المسلمين إلى بلاد الشام.
أما فتح فلسطين فكانت أبرز المعارك التي أدّت إلى فتحها هي معركة أجنادين بقيادة خالد بن الوليد.... جبرين التي قتل فيها نحو ثلاثة آلاف من الروم، ومعركة فحل - بيسان في (28 ذي القعدة 13هـ - 23 يناير 635م)، والتي كان ميدانها غربي نهر الأردن إلى الجنوب من بيسان. أما المعركة الفاصلة فكانت معركة اليرموك شمالي الأردن في (5 رجب 15هـ - 12 أغسطس 636م)، والتي واجه فيها جيشُ المسلمين المكون من (36) ألفاً بقيادة أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنهما جيش الروم البالغ (200) ألف. وقد حلّت كارثة كبرى في الروم قدّرها بعض المؤرخين بنحو (130) ألف قتيل. وقد أدّت هذه المعركة إلى فتح بلاد الشام. وجاء عمر بن الخطاب بنفسه لاستلام مفاتيح بيت المقدس بعد أن حاصرها المسلمون بضعة أشهر، ورغب أهلها في الصلح شرط أن يتولى عمر العقد بنفسه. وهي المدينة الوحيدة في عهد الراشدين التي تولى خليفة بنفسه استلام مفاتيحها، وقد شارك عمر في الفتح نحو أربعة آلاف من الصحابة وصدّح صوت بلال بن رباح فيها بالأذان بعد أن كان امتنع عن ذلك منذ وفاة النبي . وقد كتب عمر بن الخطاب لأهل القدس عهداً، اشتهر باسم (العهدة العمرية)، وقد جاء فيه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن أقام منهم فهو آمن، وله مثل ما على أهل إيلياء من الجزية...
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمّة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة (15هـ) ".
ويعكس هذا النصّ مدى التسامح الديني عند المسلمين في عالم كان يسوده التعصب الأعمى والإكراه على الدين. وقد تَم ّفتح القدس على الأرجح في(ربيع الآخر15هـ - مايو637م).وكانت (قيسارية) آخر مدينة تفتح في فلسطين في (شوال 19هـ - أكتوبر 639م)، وكانت ميناء ومدينة عامرة قوية سعى الروم للاحتفاظ بها قَدر استطاعتهم.
وحسب التقسيمات الإدارية أصبحت فلسطين (جنداً) من (أجناد) الشام الذي توزع على أربعة أجناد في الراشدين، وأصبحت خمساً في عهد الدولة الأموية. وقد ظلّت فلسطين جزءاً أصيلاً في الدولة الإسلامية، ومتفاعلاً مع متطوراتها السياسية والحضارية. ولم يكن تغيُّر الدول والأسر الحاكمة ليؤثر على حقيقة أن أهل فلسطين عرب مسلمون مُوالون لدولة الإسلام وحكم الإسلام.
وقد استمرّ حكم الراشدين حتى سنة (41هـ - 661م)، ثم تبعه حكم بني أمية حتى (132هـ - 750م)، ثم العباسيون الذين استمر حكمهم المباشر على فلسطين إلى أن بدأ يعاني من الضعف والتفكّك مع انتهاء العصر العباسي الأول بمقتل الخليفة العباسي المتوكل سنة (247هـ - 861م)، مما أعطى الفرصة للولاة إلى أن يشكلوا لأنفسهم سلطات محلية وراثية، كما حدث مع العائلة الطولونية التي حكمت مصر وضمّت فلسطين إليها (264-292هـ، أي 878-905م)، وقد حذا الأخشيديون حذو الطولونيين عندما حكموا مصر، فضمّوها إلى نفوذهم (323-358هـ، أي 935-969م). وقد حكم الأخشيديون والطولونيون تحت الظلّ الاسمي للدولة العباسية.
وفي (358هـ) تمكن الفاطميون الذين ينتمون إلى المذهب الإسماعيلي من السيطرة على فلسطين. وخاضَ الفاطميون صراعات مع الثورات المحلية ومع القرامطة والأتراك السلاجقة للسيطرة على فلسطين. وتمكن السلاجقة في (464هـ - 1071م) من السيطرة على معظمها، لكن الصراع عادَ ليحتدم بين السلاجقة أنفسهم وبينهم وبين الفاطميين الذين تمكنوا من السيطرة على صور سنة (1097م)، وبيت المقدس في (فبراير 1098م)، وقد كان هذا الصراع في غمرة الحملة الصليبية الأولى التي بدأت طلائعها في الوصول إلى بلاد الشام. وقام الفاطميون بمراسلة الصليبيين عارضين عليهم التعاون في قتال السلاجقة مقابل أن يكون القسم الشمالي من بلاد الشام للصليبيين، وفلسطين للفاطميين.
4- فلسطين ووعد بلفور
لم تبق اتفاقية سايكس - بيكو طيّ الكتمان؛ إذ قام الروس بكشفها بعد أن استطاعت الثورة الشيوعية القضاء على الحكم القيصري في روسيا في (أكتوبر 1917م)، وأعلنت انسحابها من الحرب. كما عرف الناس مبكراً بوعد بلفور الذي لم يعد سراً بعد أن وصل للصحافة في البلاد العربية - مصر بالتحديد - بعد أقلّ من أسبوع من صدوره. وقد كان ذلك صدمة كبيرة للثورة العربية؛ إذ لم يتخيلوا أبداً هذه الدرجة من الخداع البريطاني، ولذلك رفض جنود الثورة العربية الاستمرار مالم توضح الأمور، فأرسلت بريطانيا - إمعاناً في التضليل - أحد مبعوثيها (هوغارث Hogarth) في (يناير 1918م) لطمأنة الشريف حسين، حيث حمل تصريحاً بريطانياً بأن الهجرة اليهودية لفلسطين لن تتعارض مع مصالح السكان السياسية والاقتصادية. كما حمل التصريح البريطاني إلى القياديين السوريين السبعة في (يونيو 1918م) تأكيدات واضحة على أن الأرض التي يحتلّها البريطانيون (جنوب فلسطين وجنوب العراق) سوف تحكم وفق رغبات السكان، فضلاً عن الموافقة على استقلال ما كان لا يزال تحت السيادة العثمانية من شمال فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان وشمال العراق. وعندما انتهت الحرب العالمية صدر التصريح الإنجلو - فرنسي (7 نوفمبر 1918م) بتأكيد التعهدات للعرب الذين كانوا تحت الحكم العثماني في الحرية والاستقلال.
5- فلسطين تحت الاحتلال البريطاني 1917-1948م:
أتَمّ البريطانيون احتلال جنوب فلسطين ووسطها في (ديسمبر 1917م)، واحتلّوا القدس في (9 ديسمبر 1917م)، وخطب قائد الجيش البريطاني (اللنبي Allenby) في القدس محتفلاً بانتصاره قائلاً: " والآن انتهت الحروب الصليبية "، وكأنّ حملتهم على فلسطين كانت آخر حملة صليبية، وكأنّ الحروب الصليبية لم تتوقّف منذ أن شنّها الأوروبيون قبل ذلك بأكثر من (800 عام). وفي (سبتمبر 1918م) احتلّ البريطانيون شمال فلسطين، كما احتلّوا في (سبتمبر - أكتوبر 1918م) شرق الأردن وسوريا ولبنان. ومنذ ذلك الوقت فتحت بريطانيا بالقوة مشروع التهويد المنظم لأرض فلسطين، واستطاعت بريطانيا بعد ذلك إقناع فرنسا بالتخلي عن مشروع تدويل فلسطين كما في نصوص سايكس بيكو، مقابل رفع بريطانيا لدعمها للحكومة العربية التي نشأت في دمشق بزعامة فيصل بن الشريف حسين، حتى تتمكن فرنسا من احتلال سوريا. ثم وفرت بريطانيا لنفسها غطاءً دولياً باستصدار قرار من عصبة الأمم في (24 يوليو 1922م) بانتدابها على فلسطين، وتَمّ تضمين وعد بلفور في صكّ الانتداب، بحيث أصبح التزاماً رسمياً معتمداً دولياً. غير أنّ فكرة الانتداب التي ابتدعتها عصبة الأمم كانت قائمة على أساس مساعدة الشعوب المنتدبة وإعدادها لنيل استقلالها. وقد تضمن صكّ الانتداب نفسه على فلسطين مسؤولية الدولة المنتدبة (بريطانيا) في الارتقاء بمؤسسات الحكم المحلي، وصيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين. وهذا يعني ألا يقف وعد بلفور في نهاية الأمر عائقاً في وجه أبناء فلسطين ضدّ الارتقاء بمؤسساتهم وإقامة دولتهم. وكان تنفيذ وعد بلفور يعني عملياً الإضرار بمصالح أهل فلسطين وحقوقهم، وتعطيل بناء مؤسساتهم الدستورية باتجاه إقامة دولتهم. وقد فضلت بريطانيا دائماً التزام الشقّ المتعلق بوعد بلفور، وأصمّت آذانها ولم تحترم الشقّ المتعلّق بحقوق أبناء فلسطين العرب الذين كانوا يمثلون نحو (92%) من السكان عند بداية الاحتلال. وربما أرادت بريطانيا من إيجاد نصوص متعلقة بحقوق الفلسطينيين إظهار نفسها بمظهر الحكم العادل بين الطرفين العربي واليهودي، وتشجع الفلسطينيين على المطالبة بحقوقهم وفق أساليب مدنية (دستورية)، وعدم إغلاق كافة المنافذ أمامهم، بحيث لا يصلون إلى درجة الانفجار والثورة بسرعة، في الوقت الذي تقوم فيه بالتسويف والمماطلة، ريثما يتمّ لها ترسيخ الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
وضعت بريطانيا فلسطين تحت الحكم العسكري حتى نهاية (يونيو 1920م)، ثم حوّلتها إلى الحكم المدني، وعينت اليهودي الصهيوني هربرت صمويل أوّل (مندوب سامٍ) لها على فلسطين (1920-1925م)، حيث شرع في تنفيذ المشروع الصهيوني ميدانياً على الأرض. وتابع المندوبون (السامون) المسيرة نفسها، غير أن أكثرهم سوءاً ودهاءً ونجاحاً في التنفيذ كان (آرثر واكهوب Wauchope A.) (1931-1938م)، حيث وصل المشروع الصهيوني في عهده إلى درجات خطيرة.
القضية الفلسطينية
مخطط البحث
أولاً: فلسطين من النشأة إلى اليوم
1- فلسطين (التاريخ والجغرافية)
2- فلسطين عبر التاريخ
3- فلسطين في العهد الإسلامي
4- فلسطين ووعد بلفور
5- فلسطين تحت الاحتلال البريطاني
ثانياً: المقاومة المسلحة ضدّ المشروع الصهيوني
1- المقاومة أثناء الاحتلال البريطاني
2- حرب 1967م وأبرز نتائجها
3- نتائج حرب أكتوبر 1973م
ثالثاً: المقاومة الفلسطينية 1949-2001م
1- مرحلة المدّ القومي العربي 1949-1967م
2- حرب 1982م
3- انتفاضة الأقصى 28 سبتمبر 2000م أكتوبر 2001م، ونتائجها
رابعاً: التسوية السلمية وأبعادها ومراحلها
خامساً: تقويم وخلاصات
سادساً: التيار الإسلامي وأدواره الجهادية وآثاره
المبحث الرابع
القضية الفلسطينية
أولا: فلسطين من النشأة الى اليوم
1- فلسطين( التاريخ والجغرافيا):
يُطلق اسم فلسطين على القسم الجنوبي الغربي لبلاد الشام، وهي الأرض الواقعة غربي آسيا، على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ولفلسطين موقع استراتيجي مهمّ؛ إذ تُعدّ صِلة الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ونقطة التقاء جناحي العالم الإسلامي.
وقد سكن الإنسان أرض فلسطين منذ عصور موغلة في القدم، كما تدلّ الحفريات والآثار، وشهدت أرضها مراحل التطوّر الإنساني الأولى في التحول من الرعي إلى الزراعة، كما أن أول مدينة جرى تشييدها في التاريخ هي مدينة (أريحا) الواقعة شمال شرقي فلسطين، وذلك نحو 8000 ق.م حسب ما يذكر علماء الآثار , وأقدم اسم معروف لهذه الأرض هو(أرض كنعان)؛ لأن أول شعب سكن هذه الأرض معروف لدينا تاريخيا هم (الكنعانيون) الذين قدموا من جزيرة العرب نحو 2500 ق.م. واسم فلسطين هو اسم مشتقّ من اسم أقوام بحرية، لعلها جاءت من غرب آسيا الصغرى ومناطق بحر إيجة حوالي القرن الثاني عشر ق.م، وورد اسمها في النقوش المصرية باسم (ب ل س ت)، وربما أضيفت النون بعد ذلك للجمع، وقد سكنوا المناطق الساحلية، واندمجوا بالكنعانيين بسرعة، فلم يبقَ لهم أثر مميز سوى أنهم أعطوا الأرض اسمهم.
أما أرض فلسطين بحدودها الجغرافية المتعارف عليها حالياً، فلم تتحدّد بدقة إلا في أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين (وخصوصاً خلال 1920-1923م)، وقد ظلّت حدود أرض فلسطين تضيق وتتسع عبر التاريخ، غير أنّها ظلّت تعبِّر بشكلٍ عام عن الأرض الواقعة بين البحر المتوسط وبين البحر الميت ونهر الأردن، وعلى أيّ حال فإنّ مساحة فلسطين وفق التقسيمات المعاصرة تبلغ (27009 كم2)، وتتمتع فلسطين بمناخ معتدل، هو مناخ البحر المتوسط، وهو مناخ يشجع على الاستقرار والإنتاج.
2- فلسطين عبر التاريخ:
هناك آثار تشير إلى أنّ الإنسان سكن فلسطين منذ العصر الحجري القديم
(500 ألف - 14 ألفاً ق.م)، كما يشير العصر الحجري الوسيط (14 ألفاً -
8 آلاف ق.م) إلى وجود أشكال حياة حضارية تمثلت بما يعرف بالحضارة النطوفية، وعندما قدِم الكنعانيون من جزيرة العرب نحو (2500 ق.م) كانت هجرتهم واسعة، بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وقد أنشأوا ما لا يقلّ عن مائتي مدينة وقرية في فلسطين، مثل مدن بيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وبئر السبع وبيت لحم. ويرى ثقات المؤرخين أنّ معظم أهل فلسطين الحاليين - وخصوصاً القرويين - هم من أنسال القبائل الكنعانية والعمورية والفلسطينية، ومن القبائل العربية التي استقرّت في فلسطين قبل الفتح الإسلامي وبعده، حيث اندمج الجميع في نسيج واحد، يجمعهم الإسلام واللغة العربية، حيث أسلم الجميع واستعربوا تحت الحكم الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرناً.
كان قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين نحو (1900 ق.م) إشراقة لنور التوحيد في هذه الأرض المباركة، وقد عاصر حاكم القدس (ملكي صادق) الذي كان على ما يبدو موحداً وصديقاً له. وكان لأبي الأنبياء إبراهيم دوره في نشر رسالة التوحيد، ويبدو أنه لم يجد عنتاً أو عناءً من أهل فلسطين، ولم يضطر لتركها بسبب دينه أو دعوته، فظلّ مستقراً فيها وينتقل بحرية حيث يشاء إلى أن توفاه الله في المدينة التي حملت اسمه (الخليل). وقد سار على دربه أبناؤه الأنبياء من بعده إسماعيل - الذي استقرّ في مكة -، وإسحاق وابنه يعقوب اللّذان استقرّا في فلسطين. وكان ليعقوب عليه السلام اثنا عشر ابناً هم الأسباط المعرفون ببني إسرائيل - وإسرائيل هو لقب ليعقوب عليه السلام -، وقد هاجروا إلى مصر واستقرّوا فيها، حيث عانوا من اضطهاد الفراعنة بضعة قرون. وأرسل الله لهم موسى عليه السلام - في القرن 13 ق.م - لينقذهم من فرعون وطغيانه، وأهلكَ الله فرعون وجنوده، غير أنّ بني إسرائيل في ذلك الزمان كانوا قد طُبعوا على الذلّ والجبن، فرفضوا الذهاب إلى الأرض المقدسة قائلين لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }.
وتوفّي موسى عليه السلام قبل أن يدخل فلسطين، وعندما نشأ جيل جديد صلب من بني إسرائيل بعد أربعين سنة من التيه، قادهم يوشع بن نون عليه السلام (نحو 1190 ق.م)، حيث عبر بهم نهر الأردن، واستطاع تحقيق بعض السيطرة لبني إسرائيل في الجزء الشمالي الشرقي من فلسطين. ولمدّة (150) سنة تالية سادت النكبات والفوضى والخلافات والانحلال الخُلقي والديني بين بني إسرائيل. ولم يتحسن حالهم إلا بقدوم طالوت ملكاً عليهم، والذي استطاع الانتصار على أعدائه.
وكان ظهور داود عليه السلام الذي خلف طالوت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة لنور التوحيد في الأرض المباركة، حيث آتاه الله الملك (نحو 1004 ق.م)، وقد واصل حربه ضدّ الأقوام الكافرة على الأرض المقدسة، حيث أخضعها واستطاع نقل عاصمته إلى القدس سنة (995 ق.م)، وسيطر على معظم فلسطين، باستثناء معظم المناطق الساحلية التي لم تخضع له. واستمرّ في حكمه عليه السلام حتى (963 ق.م)، حيث خلفه ابنه سليمان عليه السلام (963-923 ق.م)، حيث شهدت فلسطين حركة بناء وعمران وازدهار ضخمة، وسخّر الله له الريح والجنّ، وأعطاه مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده. وكان حكم داود وسليمان هو العصر الذهبي الذي حُكمت فيه فلسطين نحو ثمانين عاماً تحت راية الإيمان والتوحيد قبل الفتح الإسلامي لها.
وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى دولتين منفصلتين متعاديتين في كثيرٍ من الأحيان، فنشأت مملكة (إسرائيل) شمال فلسطين خلال الفترة (923-721 ق.م)، التي سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء: (المملكة الذيلية)، حيث ضعفت وفسد حكامها، وانتهى أمرها بسيطرة الآشوريين بقيادة سرجون الثاني عليها، وتدميرها ونقل سكانها من بني إسرائيل إلى حرّان والخابور وكردستان وفارس، وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، ولم يبقَ بعد ذلك أثر لأسباط بني إسرائيل العشرة الذين شكّلوا هذه الدولة. أما مملكة (يهودا) فاستمرّت منذ (923-586 ق.م)، وكانت عاصمتها القدس، وقد اعترتها عوامل الضعف والوقوع تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة، فقد هزمها ودخل عاصمتها شيشق فرعون مصر (أواخر القرن 10 ق.م)، وفعل مثله الفلسطينيون في عهد يهورام (849-842 ق.م)، واضطرّت لدفع الجزية للآشوريين...، ثم إنها سقطت أخيراً بيد البابليّين بقيادة نبوخذ نصر الذي خرَب القدس، ودمّر الهيكل، وسبى حوالي (40) ألفاً من اليهود، وبذلك سقطت مملكتهم سنة (586 ق.م).
وهكذا فلم تطُل مملكة بني إسرائيل في فلسطين أكثر من أربعة قرون حكموا في معظم الوقت بعضاً من أرضها، وكان حكمهم غالب الوقت ضعيفاً مفككاً، وخضع أحياناً لنفوذ وهيمنة دول قوية مجاورة. وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء فلسطين من الكنعانيين وغيرهم في...
وقد سمح الإمبراطور الفارسي قورش لليهود بالعودة إلى فلسطين، فعادت قلّة منهم، عاشت إلى جانب أبناء فلسطين، وتمتعت منطقة القدس بنوع من الحكم الذاتي تحت السلطة الفارسية التي استمرّت (539-332 ق.م)، وتلا ذلك عصر السيطرة الهللينية الإغريقية على فلسطين (332-63 ق.م)، واستمرّ يدير شؤون اليهود (الكاهن الأكبر)، واستطاع اليهود تحقيق حكم ذاتي منذ سنة (164 ق.م) أخذ يضيق ويتسع، وتزداد مظاهر استقلاله وتضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الوقت على فلسطين (الرومان، البطالمة، السلوقيين...).
وقد تمكن الرومان من السيطرة على فلسطين (63 ق.م)، وأخضعوها لحكمهم المباشر من سنة (6 م)، حيث ألغوا الحكم الذاتي اليهودي في منطقة القدس. وقد ثار اليهود (66-70م)، لكن القائد العسكري الروماني تيتوس أخمد ثورتهم ودمّر الهيكل، ثم ثار اليهود مرة أخرى وأخيرة (132-135م)، لكن القائد الروماني جوليوس سيفروس احتلّ القدس ودمّرها، وأقام الإمبراطور الروماني هدريان مدينة جديدة فوق خرائبها، سماها إيليا كابيتولينا، حيث عُرفت بعد ذلك باسم إيلياء، وهو اسم هدريان الأول. وحظر على اليهود دخول القدس حوالي (200) سنة تالية، وندرت أعدادهم نسبة إلى السكان طوال (18) قرناً تالية. بينما ظلّ أهل البلاد الأصليون من كنعانيين ومن اختلط بهم من قبائل العرب مستقرّين في البلاد قبل قدوم بني إسرائيل وفي أثناء وجودهم، وظلوا مستمرين كذلك بعدهم إلى أيامنا هذه.
3- فلسطين في العهد الإسلامي:
قبل أن تتشكل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، كانت أنظار القلّة المستضعفة من المسلمين في مكة تتّجه إلى المسجد الأقصى وبيت المقدس في فلسطين، إذ إنّ معجزة الإسراء تمت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وكان المسجد الأقصى هو القِبلة الأولى للمسلمين في الصلاة. وقد كان فتح خيبر وفدك (7هـ)، وغزوتا مؤتة (8هـ)، وتبوك (9هـ)، وحملة أسامة بن زيد (11هـ) مقدمة لتطلع المسلمين إلى بلاد الشام.
أما فتح فلسطين فكانت أبرز المعارك التي أدّت إلى فتحها هي معركة أجنادين بقيادة خالد بن الوليد.... جبرين التي قتل فيها نحو ثلاثة آلاف من الروم، ومعركة فحل - بيسان في (28 ذي القعدة 13هـ - 23 يناير 635م)، والتي كان ميدانها غربي نهر الأردن إلى الجنوب من بيسان. أما المعركة الفاصلة فكانت معركة اليرموك شمالي الأردن في (5 رجب 15هـ - 12 أغسطس 636م)، والتي واجه فيها جيشُ المسلمين المكون من (36) ألفاً بقيادة أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنهما جيش الروم البالغ (200) ألف. وقد حلّت كارثة كبرى في الروم قدّرها بعض المؤرخين بنحو (130) ألف قتيل. وقد أدّت هذه المعركة إلى فتح بلاد الشام. وجاء عمر بن الخطاب بنفسه لاستلام مفاتيح بيت المقدس بعد أن حاصرها المسلمون بضعة أشهر، ورغب أهلها في الصلح شرط أن يتولى عمر العقد بنفسه. وهي المدينة الوحيدة في عهد الراشدين التي تولى خليفة بنفسه استلام مفاتيحها، وقد شارك عمر في الفتح نحو أربعة آلاف من الصحابة وصدّح صوت بلال بن رباح فيها بالأذان بعد أن كان امتنع عن ذلك منذ وفاة النبي . وقد كتب عمر بن الخطاب لأهل القدس عهداً، اشتهر باسم (العهدة العمرية)، وقد جاء فيه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن أقام منهم فهو آمن، وله مثل ما على أهل إيلياء من الجزية...
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمّة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة (15هـ) ".
ويعكس هذا النصّ مدى التسامح الديني عند المسلمين في عالم كان يسوده التعصب الأعمى والإكراه على الدين. وقد تَم ّفتح القدس على الأرجح في(ربيع الآخر15هـ - مايو637م).وكانت (قيسارية) آخر مدينة تفتح في فلسطين في (شوال 19هـ - أكتوبر 639م)، وكانت ميناء ومدينة عامرة قوية سعى الروم للاحتفاظ بها قَدر استطاعتهم.
وحسب التقسيمات الإدارية أصبحت فلسطين (جنداً) من (أجناد) الشام الذي توزع على أربعة أجناد في الراشدين، وأصبحت خمساً في عهد الدولة الأموية. وقد ظلّت فلسطين جزءاً أصيلاً في الدولة الإسلامية، ومتفاعلاً مع متطوراتها السياسية والحضارية. ولم يكن تغيُّر الدول والأسر الحاكمة ليؤثر على حقيقة أن أهل فلسطين عرب مسلمون مُوالون لدولة الإسلام وحكم الإسلام.
وقد استمرّ حكم الراشدين حتى سنة (41هـ - 661م)، ثم تبعه حكم بني أمية حتى (132هـ - 750م)، ثم العباسيون الذين استمر حكمهم المباشر على فلسطين إلى أن بدأ يعاني من الضعف والتفكّك مع انتهاء العصر العباسي الأول بمقتل الخليفة العباسي المتوكل سنة (247هـ - 861م)، مما أعطى الفرصة للولاة إلى أن يشكلوا لأنفسهم سلطات محلية وراثية، كما حدث مع العائلة الطولونية التي حكمت مصر وضمّت فلسطين إليها (264-292هـ، أي 878-905م)، وقد حذا الأخشيديون حذو الطولونيين عندما حكموا مصر، فضمّوها إلى نفوذهم (323-358هـ، أي 935-969م). وقد حكم الأخشيديون والطولونيون تحت الظلّ الاسمي للدولة العباسية.
وفي (358هـ) تمكن الفاطميون الذين ينتمون إلى المذهب الإسماعيلي من السيطرة على فلسطين. وخاضَ الفاطميون صراعات مع الثورات المحلية ومع القرامطة والأتراك السلاجقة للسيطرة على فلسطين. وتمكن السلاجقة في (464هـ - 1071م) من السيطرة على معظمها، لكن الصراع عادَ ليحتدم بين السلاجقة أنفسهم وبينهم وبين الفاطميين الذين تمكنوا من السيطرة على صور سنة (1097م)، وبيت المقدس في (فبراير 1098م)، وقد كان هذا الصراع في غمرة الحملة الصليبية الأولى التي بدأت طلائعها في الوصول إلى بلاد الشام. وقام الفاطميون بمراسلة الصليبيين عارضين عليهم التعاون في قتال السلاجقة مقابل أن يكون القسم الشمالي من بلاد الشام للصليبيين، وفلسطين للفاطميين.
4- فلسطين ووعد بلفور
لم تبق اتفاقية سايكس - بيكو طيّ الكتمان؛ إذ قام الروس بكشفها بعد أن استطاعت الثورة الشيوعية القضاء على الحكم القيصري في روسيا في (أكتوبر 1917م)، وأعلنت انسحابها من الحرب. كما عرف الناس مبكراً بوعد بلفور الذي لم يعد سراً بعد أن وصل للصحافة في البلاد العربية - مصر بالتحديد - بعد أقلّ من أسبوع من صدوره. وقد كان ذلك صدمة كبيرة للثورة العربية؛ إذ لم يتخيلوا أبداً هذه الدرجة من الخداع البريطاني، ولذلك رفض جنود الثورة العربية الاستمرار مالم توضح الأمور، فأرسلت بريطانيا - إمعاناً في التضليل - أحد مبعوثيها (هوغارث Hogarth) في (يناير 1918م) لطمأنة الشريف حسين، حيث حمل تصريحاً بريطانياً بأن الهجرة اليهودية لفلسطين لن تتعارض مع مصالح السكان السياسية والاقتصادية. كما حمل التصريح البريطاني إلى القياديين السوريين السبعة في (يونيو 1918م) تأكيدات واضحة على أن الأرض التي يحتلّها البريطانيون (جنوب فلسطين وجنوب العراق) سوف تحكم وفق رغبات السكان، فضلاً عن الموافقة على استقلال ما كان لا يزال تحت السيادة العثمانية من شمال فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان وشمال العراق. وعندما انتهت الحرب العالمية صدر التصريح الإنجلو - فرنسي (7 نوفمبر 1918م) بتأكيد التعهدات للعرب الذين كانوا تحت الحكم العثماني في الحرية والاستقلال.
5- فلسطين تحت الاحتلال البريطاني 1917-1948م:
أتَمّ البريطانيون احتلال جنوب فلسطين ووسطها في (ديسمبر 1917م)، واحتلّوا القدس في (9 ديسمبر 1917م)، وخطب قائد الجيش البريطاني (اللنبي Allenby) في القدس محتفلاً بانتصاره قائلاً: " والآن انتهت الحروب الصليبية "، وكأنّ حملتهم على فلسطين كانت آخر حملة صليبية، وكأنّ الحروب الصليبية لم تتوقّف منذ أن شنّها الأوروبيون قبل ذلك بأكثر من (800 عام). وفي (سبتمبر 1918م) احتلّ البريطانيون شمال فلسطين، كما احتلّوا في (سبتمبر - أكتوبر 1918م) شرق الأردن وسوريا ولبنان. ومنذ ذلك الوقت فتحت بريطانيا بالقوة مشروع التهويد المنظم لأرض فلسطين، واستطاعت بريطانيا بعد ذلك إقناع فرنسا بالتخلي عن مشروع تدويل فلسطين كما في نصوص سايكس بيكو، مقابل رفع بريطانيا لدعمها للحكومة العربية التي نشأت في دمشق بزعامة فيصل بن الشريف حسين، حتى تتمكن فرنسا من احتلال سوريا. ثم وفرت بريطانيا لنفسها غطاءً دولياً باستصدار قرار من عصبة الأمم في (24 يوليو 1922م) بانتدابها على فلسطين، وتَمّ تضمين وعد بلفور في صكّ الانتداب، بحيث أصبح التزاماً رسمياً معتمداً دولياً. غير أنّ فكرة الانتداب التي ابتدعتها عصبة الأمم كانت قائمة على أساس مساعدة الشعوب المنتدبة وإعدادها لنيل استقلالها. وقد تضمن صكّ الانتداب نفسه على فلسطين مسؤولية الدولة المنتدبة (بريطانيا) في الارتقاء بمؤسسات الحكم المحلي، وصيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين. وهذا يعني ألا يقف وعد بلفور في نهاية الأمر عائقاً في وجه أبناء فلسطين ضدّ الارتقاء بمؤسساتهم وإقامة دولتهم. وكان تنفيذ وعد بلفور يعني عملياً الإضرار بمصالح أهل فلسطين وحقوقهم، وتعطيل بناء مؤسساتهم الدستورية باتجاه إقامة دولتهم. وقد فضلت بريطانيا دائماً التزام الشقّ المتعلق بوعد بلفور، وأصمّت آذانها ولم تحترم الشقّ المتعلّق بحقوق أبناء فلسطين العرب الذين كانوا يمثلون نحو (92%) من السكان عند بداية الاحتلال. وربما أرادت بريطانيا من إيجاد نصوص متعلقة بحقوق الفلسطينيين إظهار نفسها بمظهر الحكم العادل بين الطرفين العربي واليهودي، وتشجع الفلسطينيين على المطالبة بحقوقهم وفق أساليب مدنية (دستورية)، وعدم إغلاق كافة المنافذ أمامهم، بحيث لا يصلون إلى درجة الانفجار والثورة بسرعة، في الوقت الذي تقوم فيه بالتسويف والمماطلة، ريثما يتمّ لها ترسيخ الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
وضعت بريطانيا فلسطين تحت الحكم العسكري حتى نهاية (يونيو 1920م)، ثم حوّلتها إلى الحكم المدني، وعينت اليهودي الصهيوني هربرت صمويل أوّل (مندوب سامٍ) لها على فلسطين (1920-1925م)، حيث شرع في تنفيذ المشروع الصهيوني ميدانياً على الأرض. وتابع المندوبون (السامون) المسيرة نفسها، غير أن أكثرهم سوءاً ودهاءً ونجاحاً في التنفيذ كان (آرثر واكهوب Wauchope A.) (1931-1938م)، حيث وصل المشروع الصهيوني في عهده إلى درجات خطيرة.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
ثانيا: المقاومة المسلحة ضدّ المشروع الصهيوني والكيان الإسرائيلي:
يستعرض هذا الفصل مجمل الانتفاضات والثورات والحروب ضدّ إقامة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وقبل أن نشرع في ذِكر التفصيلات، نضع للقارئ بعض الملامح العامّة المتعلقة بالموضوع.
1-كان هناك وعي مبكر بخطورة المشروع الصهيوني، وكانت مقاومة هذا المشروع سياسياً أو عسكرياً قديمة قِدَم هذا الوعي، وقِدم المشروع الصهيوني نفسه.
2- تدرّجت مقاومة المشروع الصهيوني قوة (في أثناء الاحتلال البريطاني 1917-1948م)، بحسب ازدياد الخطورة العملية لهذا المشروع من هجرةٍ يهودية واستيطان وبناء للمؤسسات.
3- أثبت شعب فلسطين استعداده للتضحية والمبادرة والعطاء، بل وفي أحيان عديدة كانت المبادرة الشعبية تفرض نفسها على القيادة السياسية، وتدفعها للجهاد، وبعبارة أخرى: فإنّ شعب فلسطين كان يقود قيادته نحو الثورة والمقاومة.
4- إنّ المشاركة العربية والإسلامية في الدفاع عن فلسطين كانت محدودة وضعيفة، وارتبطت أساساً بثلاثة حروب كبيرة، أدّت اثنتان منها إلى كوارث حقيقية. ذلك أنّ البلاد العربية والإسلامية كانت تعاني من الاستعمار ونفوذه، كما عانت بعد ذلك من قياداتها السياسية، ومن السياسات الإقليمية المحلية التي لا تعطي أولوية كبرى للقضية الفلسطينية، فضلاً عن الخلافات والصراعات بين بلدان العرب والمسلمين.
5- إنّه لم يحدث - حتى الآن - أن عُبِّئت طاقات الأمّة العربية والإسلامية بشكلٍ وحدوي منهجي جادّ متكامل، متّسم بالاستمرارية في مواجهة المشروع الصهيوني.
6- إنه منذ زيارة أنوَر السادات للكيان الصهيوني في (نوفمبر 1977م)، وتوقيع اتفاقية تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني (كامب ديفيد سبتمبر 1978م)، فإنّ محاربة الدول العربية والإسلامية ومقاومتها للمشروع الصهيوني قد فقدت زخمها، وأخذت تعاني من التفسخ والضعف.
7- إن الاتجاهات والحركات الإسلامية التي كان لها دور مشهود في المقاومة في النصف الأول من القرن العشرين، عادت لتلعب دورها المتميز من جديد في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. لكن دورها ظلّ شعبياً بشكل أساس؛ لأنّها لم تنجح في الوصول إلى القيادة السياسية، وخصوصاً على الساحة الفلسطينية، وفي دول الطوق.
8- إنّ جذوة المقاومة المسلحة لم تنقطع على الإطلاق منذ البداية وحتى الآن، وإن اتّخذت أشكالاً وحركاتٍ واتّجاهات مختلفة. وكان هناك دائماً مَن يصوب البندقية على المشروع الصهيوني، أو على الأقلّ مَن يُعدّ البندقية لذلك.
1- المقاومة أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917-1948م:
ترجع أولى علامات المقاومة الفلسطينية المسلّحة إلى سنة (1886م) - أي قبل الاحتلال البريطاني بِـ(31) عاماً -، عندما هاجم الفلاحون المطرودون من الحظيرة وملبس (بتاح تكفا) اليهود في قُراهم المغتصبة التي أُجلوا عنها رغماً عنهم بعد أن اشتراها المستوطنون اليهود من ملاك كبار. وقد دفع ذلك السلطات العثمانية إلى فرض قيود مشدّدة على الهجرة والاستيطان اليهودي. وتزايد بعد ذلك الوعي بمخاطر المشروع الصهيوني، فقد احتج وجهاء القدس المسلمين ضدّ رشاد باشا متصرف القدس في (مايو 1890م) عندما أبدى محاباة للصهاينة، وقدموا عريضة لرئيس وزراء الدولة العثمانية في (24 يونيو 1891م) طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، وتحريم استملاكهم للأراضي فيها. وكان لكتابات وأنشطة المصلح الإسلامي الشيخ محمد رشيد رضا، والسياسي الفلسطيني يوسف الخالدي، ومفتي القدس محمد طاهر الحسيني، وممثلي مناطق فلسطين في البرلمان العثماني، أمثال روحي الخالدي، وسعيد الحسيني، وصحف الكرمل وفلسطين والمنادي وغيرها، كان لها أدوار في زيادة الوعي، وتعبئة الجماهير ضدّ المشروع الصهيوني قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة (1914م).
احتلّ البريطانيون سنجق القدس - جنوب ووسط فلسطين - في (ديسمبر 1917م)، وأكملوا احتلال شمال فلسطين في (سبتمبر 1918م). ولكنهم دخلوا فلسطين كقوّة حليفة للثورة العربية التي قادها الشريف حسين، ولذلك لم يَلْقوا مقاومةً من أبناء فلسطين، على اعتبار وعودهم للعرب بالحرية والاستقلال. لكن تنكُّر بريطانيا لعهودها، وإعطاءها وعد (بلفور) لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فتحَ الباب عريضاً لمقاومة المشروع الصهيوني والاستعمار البريطاني. غير أنّ الفترة (1917-1929م) اتّسمت بتبنّي قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية للمقاومة السياسية السلمية؛ لأنّ المشروع الصهيوني لم يأخذ أبعاداً خطيرة بَعد (كان اليهود 8% من السكان سنة 1918م، ويملكون 2% فقط من أرض فلسطين)، ولأنه كان لا يزال هناك أمل بأن
تَعدِل بريطانيا عن موقفها (أقرت عصبة الأمم رسمياً الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1922م)، فضلاً عن ضعف الفلسطينيين، وقلّة خبرتهم في مواجهة بريطانيا (العظمى)، التي كانت أكبر قوة استعمارية في العالم
كانت أولى بوادر مقاومة المشروع الصهيوني إنشاء جمعية (الفدائية) أوائل (1919م)، وقد تكوّنت لها فروع في يافا والقدس وغزّة ونابلس وطولكرم والرملة والخليل، وتولّى زعامتها في البداية محمد الدباغ، ثم محمود عزيز الخالدي، واستمرّت بأشكالٍ مختلفة حتى سنة (1923م)، وكان من الشخصيات الموجهة لها في الخفاء: الشيخ سعيد الخطيب، والحاج أمين الحسيني، والشيخ حسن أبو السعود، والشيخ محمد يوسف العلمي. ونشطت في تجنيد الأعضاء وسط الجندرمة والشرطة الفلسطينية. ورغم أنه تَم القبض على كثير من عناصرها، إلا أنه يظهر أنّ أفرادها شكّلوا عناصر تحريض مهمّة في انتفاضة موسم النبي موسى في القدس في (إبريل سنة 1920م).
2- حرب 1967 وأبرز نتائجها:
1- احتلال (إسرائيل) لِما تبقى من فلسطين - أي الضفّة الغربية (5878 كم2) -، وقطاع غزة (363 كم2)، واحتلالها لسيناء المصرية (61198 كم2)، والجولان السورية (1150 كم2)، ليصبح مجموع الأرض التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني (89359 كم2).
2- تشريد نحو (330) ألف فلسطيني.
3- سيطرة الكيان الإسرائيلي على منابع مياه الأردن، وفتح مضائق تيران وخليج العقبة للملاحة (الإسرائيلية).
4- تشكيل الكيان الإسرائيلي لخطوط دفاع جديدة، وتوفير عمق إستراتيجي يَسهُل الدفاع عنه بشكلٍ أفضل.
5- فرضُ احتلالٍ جديد للأراضي العربية، جَعلَ هدف العرب فيما بعد استرجاع هذه الأراضي المحتلة سنة (1967م)، وليس تحرير فلسطين المحتلة سنة (1948م).
6- تدمير القوات العسكرية لمصر والأردن وسوريا.
7- انكشاف ضعف القيادات العربية، وانعدام التنسيق فيما بينها، وعدم جدّيتها في تحرير فلسطين.
8- ظهور المقاومة الفلسطينية المسلّحة وتعاظمها وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قرّرت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي.
3- حرب 1973م وأبرز نتائجها:
1- كسر أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وتحطيم نظرية الأمن الإسرائيلية، وإثبات إمكان استعادة أجزاء من الأراضي المحتلة على الأقلّ بالقوّة العسكرية.
2- أخذ العرب زمام المبادرة، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم الإستراتيجي، وإثبات كفاءة وشجاعة المقاتل العربي.
3- تحقيق قَدر عالٍ من التضامن العربي، من خلال المشاركة العسكرية، ومن خلال استخدام سلاح النفط.
4- تحقيق شعور بالثقة بالنفس، وارتفاع المعنويات بعد سنوات من الهزيمة والإحباط.
5- استخدام الأنظمة العربية - خصوصاً مصر - النتائج السابقة لتحريك الأوضاع السياسية، ومحاولة الوصول إلى تسوية سلمية مع الكيان الإسرائيلي، تضمن عودة الأراضي المحتلة سنة 1967م.
ثالثا:- المقاومة الفلسطينية 1949-2001م:
1- مرحلة المدّ القومي العربي 1949-1967م:
علق الفلسطينيون آمالهم بتحرير فلسطين في هذه المرحلة بشكل عام على الأنظمة العربية، وخصوصاً مصر بزعامة جمال عبد الناصر، وكان شعار (الوحدة طريق التحرير) هو الشعار البراق لهذه المرحلة. وقد تَمّ تغييب دور القيادة الوطنية الفلسطينية بزعامة الحاج أمين الحسيني، في الوقت الذي ضُمّت فيه الضفة الغربية إلى الأردن، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية. غير أنّ شعور العديد من الفلسطينيين في النصف الثاني من هذه المرحلة بعدم جدية الأنظمة العربية في عملية التحرير دفعهم إلى إنشاء منظمات فدائية وطنية، كان أبرزها حركة فتح، كما أن الأنظمة اضطرّت لفتح المجال للفلسطينيين للتعبير عن (كيانيتهم) وهويتهم ضمن أطر يمكن ضبطها ومتابعتها، فكان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964م بدعم مصري.
2- حرب 1982م:
هدف الكيان الإسرائيلي من حرب 1982م إلى ضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان، وتدمير بنيتها العسكرية، والقضاء على مشروع الثورة الفلسطينية بتحرير فلسطين من خلال الكفاح المسلح، وجرّها إلى مشاريع التسوية وفق الشروط والمعايير (الإسرائيلية)، خصوصاً وأن الأنظمة العربية هجرت الخيار العسكري أو لم تعد تراهن عليه. واستفاد الكيان الإسرائيلي من ظروف خروج مصر من الصراع العربي - الإسرائيلي بعد توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد في (سبتمبر 1978م)، ومن انشغال العرب بالحرب العراقية - الإيرانية، فضلاً عن الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي الذي ازداد قوة في ولاية الرئيس ريغان.
وقد ادعى الكيان الإسرائيلي أنّ هدف الحرب هو تحقيق (سلامة الجليل)، أي حماية المستوطنات اليهودية في شمال فلسطين المحتلة من الصواريخ والعمليات الفلسطينية، مع العلم أنّه لم تحدث عمليات من هذا النوع منذ (24 يوليو 1981م وحتى 4 يونيو 1982م). بينما قام الكيان الإسرائيلي في الفترة نفسها بخرق المجال الجوي اللبناني (2125) مرة، وخرق المياه الإقليمية اللبنانية (652) مرة، فضلاً عن بعض حوادث الانتهاك براً.
بدأ الاجتياح (الإسرائيلي)للبنان في (4يونيو1982م)، واشترك فيه (125-150) ألف جندي (من أصل 170 ألفاً هم قوام الجيش (الإسرائيلي) العامل) تساندهم (1600) دبابة، و(1600) ناقلة جنود مدرعة، و(600) مدفع وراجمة صواريخ، والقوات الجوية والبحرية، أي أنها كانت حرب اقتلاع للوجود العسكري الفلسطيني، في جوّ من الاطمئنان إلى عدم وجود أي تحرّك عربي جادّ، فتركت الحدود شبه فارغة مع البلاد العربية الأخرى.
وقد تمكنت القوات (الإسرائيلية) من اجتياح جنوب لبنان ووسطه بسرعة كبيرة تساندها القوى الكتائبية، وفي يوم (9 يونيو) كانت قد وصلت إلى مشارف بيروت. وقد حاولت القوات السورية المتمركزة في البقاع والشوف التصدي لها، لكن القوات (الإسرائيلية) تمكنت من تدمير شبكة الصواريخ السورية، وأسقطت في معارك جوية مائة طائرة عسكرية سورية، فانكشفت القوات السورية البرية أمام الطيران الإسرائيلي، واضطرّت القوات السورية للانسحاب بعيداً عن محاور القتال منذ (11 يونيو).
وقد استمرّت معركة بيروت (65 يوماً) (9 يونيو - 12 أغسطس 1982م). ووصلت القوات (الإسرائيلية) إلى طريق بيروت - دمشق، ودخلت بيروت الشرقية في (11 يونيو)، حيث قصر الرئاسة في بعبدا، وحيث وجدت ترحيباً من تحالف القوات اللبنانية الكتائبية. وقد أكملت حلقة حصارها على بيروت الغربية في (14 يونيو)، حيث تجمع فيها نحو (12-13) ألف مقاتل فلسطيني واللواء السوري الـ(85). وقد قررت المقاومة الفلسطينية الصمود، وقدمت نموذجاً لملحمة بطولية، فشل العدوّ خلالها، وعلى مدى شهرين من احتلال رقعة صغيرة هي منطقة بيروت الغربية، رغم شراسة القصف والحصار ومحاولات الاقتحام والهجمات براً وبحراً وجواً، واستخدام أحدث وأشدّ وسائل الدّمار. وفي (30 يونيو) كان قد استشهد نحو (15) ألف مدني من جراء الغزو الإسرائيلي.
وقد اضطرّت القوات (الإسرائيلية) للموافقة على وقف إطلاق النار في (12 أغسطس 1982م) بعد أن فشلت في احتلال بيروت الغربية، غير أنّ القوات (الإسرائيلية) حقّقت أهدافها بشكلٍ عام. إذ اقتضت الترتيبات خروج المقاومة الفلسطينية وقيادة (م. ت. ف) من لبنان بعد أن تجمعت في بيروت، مما أدى إلى خروج حوالي (11) ألف فلسطيني مقاتل (نحو 8300 من المنظمات الفدائية و2600 من جيش التحرير الفلسطيني و175 جريحاً)، وذلك وفق ترتيبات تضمن سلامتها. وقد تَمّ ذلك في الفترة (21-31 أغسطس 1982م)، حيث توجّه المقاتلون الفلسطينيون إلى معسكرات في سوريا والعراق وتونس واليمن (الشمالي والجنوبي) والجزائر والسودان. ولم تحترم القوات (الإسرائيلية) تعهّداتها، فقد اقتحمت بيروت الغربية بعد أسبوعين من خروج المقاومة الفلسطينية، وأشرفت بنفسها على تنفيذ قوات الكتائب والوطنيين الأحرار وغيرهم من القوى المسيحية المتعصبة لمذابح صبرا وشاتيلا في (16-18 سبتمبر 1982م)، والتي أدّت إلى استشهاد نحو (3500) فلسطيني ولبناني من المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ...
أدّت حرب 1982م إلى استشهاد وجرح نحو (55) ألف فلسطيني ولبناني، وإلى تدمير معظم البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في لبنان، بحيث لم تعد تشكل خطراً جادّاً على الكيان الصهيوني، ووجدت (م. ت. ف) نفسها بعيدة عن فلسطين، محرومة من العمل العسكري في دول الطوق. وكسب تيار (الواقعية) في (م. ت. ف) دفعات جديدة باتجاه تبني الحلول السلمية، وأخذ تركيز (م. ت. ف) ينصبّ بعد ذلك على النضال السياسي، وعانت من محاولات فرض الهيمنة عليها أو تجاوزها، كما عانت من الاختلافات الداخلية، ووقع انشقاق في حركة فتح بزعامة أبي موسى، ورغم البطولات التي أبداها المقاتلون الفلسطينيون، فإنّ حرب 1982م كشفت عن اختراقات وترهلات ونقاط ضعف في جسد الثورة، كما دفعت إلى مراجعة الأيديولوجية التي يجب أن ينبني عليها الصراع مع العدوّ.
ولم تدم سعادة الكيان الصهيوني بتحقيق أهدافه؛ إذ سرعان ما ظهرت المقاومة اللبنانية ممثلة خصوصاً بحزب الله، حيث حولت الجنوب اللبناني إلى ساحة حرب توالت فيها العمليات اليومية وسقوط القتلى (الإسرائيليّين). فقد جرى اغتيال الزعيم الكتائبي بشير الجميل الذي نصبته (إسرائيل) رئيساً على لبنان بعد أيام من انتخابه. وتَمّ تدمير مقرّ القيادة العامّة للقوات (الإسرائيلية) في صور في (12 نوفمبر 1982م)، حيث قتل (75) عسكرياً (إسرائيلياً)، وهوجم مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في (4 نوفمبر 1983م)، وقتل (19) إسرائيلياً. وأفشلت القوى الوطنية الإسلامية الوجود المشبوه للقوات متعددة الجنسيات في لبنان، فدمرت السفارة الأمريكية في بيروت في (18 إبريل 1983م)، وقتلت (80 شخصاً) ودمرت مقرّ قيادة القوات الأمريكية في (23 أكتوبر 1983م)، وقتلت (239 جندياً). كما ضربت مقرّ قيادة القوة الفرنسية في (23 أكتوبر و21 ديسمبر 1983م)، مما أدى إلى مقتل (71 جندياً)، وتمكنت المقاومة من إفشال الاتفاق بين الحكومة اللبنانية والكيان الإسرائيلي الذي وُقِّع في (13 مايو 1983م)، حيث تَمّ إسقاطه في (5 مارس 1984م)؛ لأنّه اتفاق ينتقص من الحقوق اللبنانية الكاملة في السيادة والاستقلال. كما أخذت المقاومة الفلسطينية تعود شيئاً فشيئاً إلى لبنان - وإن بدرجة أقلّ مما سبق -، وتتولى القيام ببعض العمليات والدفاع عن المخيمات الفلسطينية.
وقد اضطرّت القوات الإسرائيلية للانسحاب في (4 سبتمبر 1983م) إلى خطّ نهر الأولي، ثم قررت في (14 يناير 1985م) تحت الضربات القاسية للمقاومة إلى الانسحاب من كثير من المناطق على ثلاث مراحل أتمتها في (يونيو 1985م)، وأبقت قواتها فقط في الشريط الحدودي، الذي عهدت بإدارته إلى عميلها أنطوان لحد. وهو شريط في جنوبي لبنان يتاخم الحدود مع فلسطين، وبعمق 5-20كم داخل لبنان. وقد توالت ضربات المقاومة للقوات الإسرائيلية وعملائها في هذا الشريط حتى تَمّ تحريره في (24 مايو 2000م).
3- انتفاضة الأقصى: 28/ سبتمبر2000 -/ أكتوبر2001م:
لقد كانت زيارة الإرهابي أرييل شارون - زعيم حزب الليكود - الاستفزازية إلى حرم المسجد الأقصى في (28 سبتمبر 2000م) هي الشرارة التي فجرت الانتفاضة، وكان واضحاً أن ثمة مباركة وتأييداً من رئيس الحكومة الصهيونية باراك للزيارة، حيث زوّده بستمائة جندي لمرافقته، واستنفر (3000) جندي وشرطي في القدس وأحيائها. وصمّم المسلمون على الدفاع عن الأقصى، حيث سقط في المواجهات الأولى خمسة شهداء، وجرح أكثر من مائة.
وكانت عناصر اشتعال الوضع وأسباب تفجيره جاهزة، فقد وصلت مفاوضات التسوية السلمية إلى طريق مسدود، وتأكّدت الأطماع الصهيونية اليهودية في القدس والمسجد الأقصى، وظهر التعنت الإسرائيلي في قضايا اللاجئين والمستوطنات، واستمرّ الصهاينة في مصادرة الأراضي وتوسيع المستوطنات. ولم يكونوا مستعدّين للتنازل، ولا لتنفيذ القرارات الدولية، عندما يتعلق الأمر بالقضايا الجوهرية الحاسمة.
وبدا لباراك أنّ (الحلّ الوحيد الذي لاح في الأفق كان دفع الوضع إلى الانفجار)، كما قال بنفسه في اجتماع سرّي في (25 أكتوبر 2000م). ولعلّه أراد إظهار مزيد من التصلّب، وتحقيق مزيد من الشعبية وسط المجتمع الصهيوني، واستثمار ذلك في وقف عملية التسوية أو إدخالها في أزمات متتالية في الوقت الذي تزداد فيه عمليات الهجرة اليهودية ومصادرة الأراضي والاستيطان، ليتسنى تحقيق مزيد من الضغط على السلطة الفلسطينية، التي أثبتت السنوات الماضية قابليتها للتنازل والتراجع، وتخفيض سقف مطالبها.
لكن الصهاينة وُوجِهوا ببركان غضب عارم ليس في فلسطين وحدها، وإنما في العالم الإسلامي أجمع، وحيثما وجدت الجاليات الإسلامية، وأبطل الله سبحانه وتعالى حسابات الصهاينة ومكرهم، وبرز الأقصى عصياً على الخضوع والاغتصاب عندما استعدّت الملايين أن تفديه - والأرض المباركة - بأرواحها.
وأفرزت الانتفاضة عدداً من الحقائق والمؤشرات، أهمّها:
الأولى: أنّ الأمّة الإسلامية لا تزال حية، رغم الجراح التي أثخنتها، وأن روح المقاومة والصمود والاستعداد للبذل والتضحية لم تخمد. فقد خرجت المظاهرات بعشرات الآلاف، بل بمئات الآلاف في بلدان العالم الإسلامي، من الرباط في أقصى المغرب وحتى جاكرتا في أقصى المشرق الإسلامي، كلّها تهتف للأقصى والقدس وفلسطين، وتطالب بالجهاد، وتقدم ما لديها من تبرعات ودعم. فكانت لحظات رائعة من أخوة الإسلام ووحدة الأمة. وظهرت تجليات الإمكانات الكبرى لهذه الأمة لتحقيق النصر لو سلكت طريق الجهاد
الثانية: أنّ قضية فلسطين - بأرضها المباركة وبقدسها وأقصاها - قضية تجمع المسلمين وتوحدهم، بل وتكون سبباً في تجاوز خلافاتهم والتركيز على العدوّ الصهيوني المشترك. وأنّ هذه القضية غدت القضية المركزية للعالم الإسلامي، فلا قضية تجمعهم كهذه القضية، ولا عدو يجتمعون ضدّه كهذا العدو.
الثالثة: وجهت الانتفاضة ضربة قاسية لمشروع التسوية السلمية والتطبيع مع العدو، وبرز الخيار الجهادي كخيار أمثل.
الرابعة: أنّ هذه الانتفاضة انعكست على طريقة تفكير الناس وأسلوب حياتهم اليومي، فاشتدّ العداء للمشروع الصهيوني، واشتدّ العداء ضدّ أمريكا، وتكرست الروح الجهادية وروح التكافل، وتجاوبت الجماهير مع دعوات مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، حتى غيّر الملايين من أسلوب طعامهم وشرابهم اليومي، ومن لباسهم ووسائل تنقلهم واتصالاتهم وترفيههم، فكانت مدرسة تربوية اجتماعية شعبية، ربما احتاجت حركات الإصلاح سنوات للوصول إلى مثل نتائجها. فانخفضت مثلاً مبيعات مطاعم الوجبات السريعة (ماكدونالدز، وK.F.C) بنحو (80%) في السعودية، وانخفضت مبيعات مشروبات البيبسي كولا بنسبة (46%) في مصر، (وذلك حسب بعض التقديرات التي نشرت في نوفمبر 2000م)، واتجه الناس للمأكولات والمشروبات الشعبية، بل واضطرت الشركات الأجنبية الأمريكية لإنزال إعلانات عدم العلاقة بالكيان الصهيوني، بل والتبرع لضحايا الانتفاضة، كما حدث مع مطاعم ماكدونالدز التي تبرعت بريال سعودي لكلّ وجبة طعام، لعلاج جرحى الانتفاضة.
الخامسة: أن التسوية السلمية قائمة على الظلم والغصب، وأن جماهير الفلسطينيين والعرب والمسلمين ترفض التنازل عن حقوقها في الأرض المقدسة، وأنها لا تأمل من الغاصب الصهيوني سلاماً ولا خيراً، وأنها ترى في الجهاد الوسيلة الأنجع لاسترداد الحقوق.
السادسة: برزت أهمية الإعلام ودوره في التعبئة؛ إذ تمكن المسلمون من كسر الطوق الإعلامي الغربي المتصهين، من خلال الفضائيات العربية، وخدمات الإنترنت والبريد الإلكتروني، وخصوصاً في المراحل الأولى من الانتفاضة.
ومن جهة أخرى فقد تميزت هذه الانتفاضة بالمشاركة الشعبية الواسعة في كلّ أرجاء فلسطين المحتلة، وبمشاركة كافّة التيارات الفلسطينية. كما تميزت في الوقت نفسه بشدّة القمع الصهيوني الذي تمادى في قتل الأطفال والأبرياء واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وانكشفت سوءات أدعياء السلام (الصهاينة) الذين تباروا في سحق الانتفاضة المباركة.
وقد صمد أبناء فلسطين صموداً بطولياً طوال أشهر الانتفاضة الـ(13) الماضية، ولا يزالون. وتشير الإحصائيات إلى أنه بعد مرور سنة على الانتفاضة (28 سبتمبر 2000م - 28 سبتمبر 2001م) فقد استشهد (727) فلسطينياً، وجرح نحو ثلاثين ألفاً (أو 35 ألفاً حسب تقديرات أخرى)، وأصيب (2800) منهم بإعاقات دائمة. واستشهد من أطفال فلسطين (159 طفلاً)، وجرح آلاف الأطفال، وتقدر نسبة الإصابات في الأطفال واليافعين دون سنّ الثامنة عشرة بنحو (40%) من مجمل إصابات الانتفاضة. وكان من بين الشهداء (13) شهيداً من أبناء الأرض المحتلة عام 1948م، حيث انتفضوا بقوة إلى جانب إخوانهم في الضفّة والقطاع. وقام الكيان الصهيوني بتدمير نحو خمسة آلاف بيت، واجتثاث (200) ألف شجرة، وقصف (95) مدرسة، وتسبب حصاره في معاناة (218) قرية من العطش الشديد، وارتفعت نسبة البطالة من (11%) إلى (57%) بين أبناء الضفة والقطاع، وأصبح هناك (265) ألفاً عاطلين عن العمل، وباحتساب عدد عائلات هؤلاء يرتفع عدد المتضررين إلى مليون و(270) ألفاً، أي نحو (45.5%) من سكان الضفة والقطاع. وارتفعت نسبة الفلسطينيين تحت خط الفقر إلى (50%)، وخسر الاقتصاد الفلسطيني - الناشئ المنهك - نحو (7.5) بليون دولار أمريكي.
وتشير إحصاءات المركز الوطني الفلسطيني للإحصاء التابع للسلطة الفلسطينية أنّ مجموع شهداء الانتفاضة حتى نهاية شهر مايو (2002م) بلغ (1650) شهيداً، وأن (771) شهيداً منهم ارتفعوا في الأشهر الخمسة الأولى لسنة (2002م)، ونبه المصدر إلى أنه لم يضمّن عدة مئات من الشهداء في مخيم جنين وفي نابلس موجودون تحت الأنقاض، أو قامت قوات الاحتلال بدفنهم بعيداً عن المخيم، ولم تتوفر معلومات عنهم.
أما منطقة العمل العربية فقد قدرت خسائر الفلسطينيين بنحو (19) مليون دولار يومياً - يبدو أنّها ضمّنت الأضرار غير المباشرة -، فقدّرت الخسائر اليومية لقطاع العمال بِـ(6.6) مليون دولار، وقطاع التجارة (5.5) مليون، والصناعة (3.3) مليون، والزراعة (3.2).
وقد تعمد الصهاينة إطلاق النار بقصد القتل، وليس لتفريق المظاهرات، أو مجرد مواجهة حجارة المنتفضين، فذكرت التقارير أن (65%) من الإصابات كانت في الجزء العلوي من الجسد، أي في الرأس والرقبة والصّدر والبطن، وأنّ (40%) من الإصابات كانت باستخدام أسلحة محرمة دولياً، مثل رصاص الدمدم الذي يتفجّر في الجسد، ورصاص (500 و800) الذي يستخدم عادةً ضدّ الدبابات!!. وكانت نسبة (40%) من الإصابات ليافعين وأطفال تحت سنّ (18) سنة.
يستعرض هذا الفصل مجمل الانتفاضات والثورات والحروب ضدّ إقامة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وقبل أن نشرع في ذِكر التفصيلات، نضع للقارئ بعض الملامح العامّة المتعلقة بالموضوع.
1-كان هناك وعي مبكر بخطورة المشروع الصهيوني، وكانت مقاومة هذا المشروع سياسياً أو عسكرياً قديمة قِدَم هذا الوعي، وقِدم المشروع الصهيوني نفسه.
2- تدرّجت مقاومة المشروع الصهيوني قوة (في أثناء الاحتلال البريطاني 1917-1948م)، بحسب ازدياد الخطورة العملية لهذا المشروع من هجرةٍ يهودية واستيطان وبناء للمؤسسات.
3- أثبت شعب فلسطين استعداده للتضحية والمبادرة والعطاء، بل وفي أحيان عديدة كانت المبادرة الشعبية تفرض نفسها على القيادة السياسية، وتدفعها للجهاد، وبعبارة أخرى: فإنّ شعب فلسطين كان يقود قيادته نحو الثورة والمقاومة.
4- إنّ المشاركة العربية والإسلامية في الدفاع عن فلسطين كانت محدودة وضعيفة، وارتبطت أساساً بثلاثة حروب كبيرة، أدّت اثنتان منها إلى كوارث حقيقية. ذلك أنّ البلاد العربية والإسلامية كانت تعاني من الاستعمار ونفوذه، كما عانت بعد ذلك من قياداتها السياسية، ومن السياسات الإقليمية المحلية التي لا تعطي أولوية كبرى للقضية الفلسطينية، فضلاً عن الخلافات والصراعات بين بلدان العرب والمسلمين.
5- إنّه لم يحدث - حتى الآن - أن عُبِّئت طاقات الأمّة العربية والإسلامية بشكلٍ وحدوي منهجي جادّ متكامل، متّسم بالاستمرارية في مواجهة المشروع الصهيوني.
6- إنه منذ زيارة أنوَر السادات للكيان الصهيوني في (نوفمبر 1977م)، وتوقيع اتفاقية تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني (كامب ديفيد سبتمبر 1978م)، فإنّ محاربة الدول العربية والإسلامية ومقاومتها للمشروع الصهيوني قد فقدت زخمها، وأخذت تعاني من التفسخ والضعف.
7- إن الاتجاهات والحركات الإسلامية التي كان لها دور مشهود في المقاومة في النصف الأول من القرن العشرين، عادت لتلعب دورها المتميز من جديد في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. لكن دورها ظلّ شعبياً بشكل أساس؛ لأنّها لم تنجح في الوصول إلى القيادة السياسية، وخصوصاً على الساحة الفلسطينية، وفي دول الطوق.
8- إنّ جذوة المقاومة المسلحة لم تنقطع على الإطلاق منذ البداية وحتى الآن، وإن اتّخذت أشكالاً وحركاتٍ واتّجاهات مختلفة. وكان هناك دائماً مَن يصوب البندقية على المشروع الصهيوني، أو على الأقلّ مَن يُعدّ البندقية لذلك.
1- المقاومة أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917-1948م:
ترجع أولى علامات المقاومة الفلسطينية المسلّحة إلى سنة (1886م) - أي قبل الاحتلال البريطاني بِـ(31) عاماً -، عندما هاجم الفلاحون المطرودون من الحظيرة وملبس (بتاح تكفا) اليهود في قُراهم المغتصبة التي أُجلوا عنها رغماً عنهم بعد أن اشتراها المستوطنون اليهود من ملاك كبار. وقد دفع ذلك السلطات العثمانية إلى فرض قيود مشدّدة على الهجرة والاستيطان اليهودي. وتزايد بعد ذلك الوعي بمخاطر المشروع الصهيوني، فقد احتج وجهاء القدس المسلمين ضدّ رشاد باشا متصرف القدس في (مايو 1890م) عندما أبدى محاباة للصهاينة، وقدموا عريضة لرئيس وزراء الدولة العثمانية في (24 يونيو 1891م) طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، وتحريم استملاكهم للأراضي فيها. وكان لكتابات وأنشطة المصلح الإسلامي الشيخ محمد رشيد رضا، والسياسي الفلسطيني يوسف الخالدي، ومفتي القدس محمد طاهر الحسيني، وممثلي مناطق فلسطين في البرلمان العثماني، أمثال روحي الخالدي، وسعيد الحسيني، وصحف الكرمل وفلسطين والمنادي وغيرها، كان لها أدوار في زيادة الوعي، وتعبئة الجماهير ضدّ المشروع الصهيوني قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة (1914م).
احتلّ البريطانيون سنجق القدس - جنوب ووسط فلسطين - في (ديسمبر 1917م)، وأكملوا احتلال شمال فلسطين في (سبتمبر 1918م). ولكنهم دخلوا فلسطين كقوّة حليفة للثورة العربية التي قادها الشريف حسين، ولذلك لم يَلْقوا مقاومةً من أبناء فلسطين، على اعتبار وعودهم للعرب بالحرية والاستقلال. لكن تنكُّر بريطانيا لعهودها، وإعطاءها وعد (بلفور) لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فتحَ الباب عريضاً لمقاومة المشروع الصهيوني والاستعمار البريطاني. غير أنّ الفترة (1917-1929م) اتّسمت بتبنّي قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية للمقاومة السياسية السلمية؛ لأنّ المشروع الصهيوني لم يأخذ أبعاداً خطيرة بَعد (كان اليهود 8% من السكان سنة 1918م، ويملكون 2% فقط من أرض فلسطين)، ولأنه كان لا يزال هناك أمل بأن
تَعدِل بريطانيا عن موقفها (أقرت عصبة الأمم رسمياً الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1922م)، فضلاً عن ضعف الفلسطينيين، وقلّة خبرتهم في مواجهة بريطانيا (العظمى)، التي كانت أكبر قوة استعمارية في العالم
كانت أولى بوادر مقاومة المشروع الصهيوني إنشاء جمعية (الفدائية) أوائل (1919م)، وقد تكوّنت لها فروع في يافا والقدس وغزّة ونابلس وطولكرم والرملة والخليل، وتولّى زعامتها في البداية محمد الدباغ، ثم محمود عزيز الخالدي، واستمرّت بأشكالٍ مختلفة حتى سنة (1923م)، وكان من الشخصيات الموجهة لها في الخفاء: الشيخ سعيد الخطيب، والحاج أمين الحسيني، والشيخ حسن أبو السعود، والشيخ محمد يوسف العلمي. ونشطت في تجنيد الأعضاء وسط الجندرمة والشرطة الفلسطينية. ورغم أنه تَم القبض على كثير من عناصرها، إلا أنه يظهر أنّ أفرادها شكّلوا عناصر تحريض مهمّة في انتفاضة موسم النبي موسى في القدس في (إبريل سنة 1920م).
2- حرب 1967 وأبرز نتائجها:
1- احتلال (إسرائيل) لِما تبقى من فلسطين - أي الضفّة الغربية (5878 كم2) -، وقطاع غزة (363 كم2)، واحتلالها لسيناء المصرية (61198 كم2)، والجولان السورية (1150 كم2)، ليصبح مجموع الأرض التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني (89359 كم2).
2- تشريد نحو (330) ألف فلسطيني.
3- سيطرة الكيان الإسرائيلي على منابع مياه الأردن، وفتح مضائق تيران وخليج العقبة للملاحة (الإسرائيلية).
4- تشكيل الكيان الإسرائيلي لخطوط دفاع جديدة، وتوفير عمق إستراتيجي يَسهُل الدفاع عنه بشكلٍ أفضل.
5- فرضُ احتلالٍ جديد للأراضي العربية، جَعلَ هدف العرب فيما بعد استرجاع هذه الأراضي المحتلة سنة (1967م)، وليس تحرير فلسطين المحتلة سنة (1948م).
6- تدمير القوات العسكرية لمصر والأردن وسوريا.
7- انكشاف ضعف القيادات العربية، وانعدام التنسيق فيما بينها، وعدم جدّيتها في تحرير فلسطين.
8- ظهور المقاومة الفلسطينية المسلّحة وتعاظمها وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قرّرت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي.
3- حرب 1973م وأبرز نتائجها:
1- كسر أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وتحطيم نظرية الأمن الإسرائيلية، وإثبات إمكان استعادة أجزاء من الأراضي المحتلة على الأقلّ بالقوّة العسكرية.
2- أخذ العرب زمام المبادرة، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم الإستراتيجي، وإثبات كفاءة وشجاعة المقاتل العربي.
3- تحقيق قَدر عالٍ من التضامن العربي، من خلال المشاركة العسكرية، ومن خلال استخدام سلاح النفط.
4- تحقيق شعور بالثقة بالنفس، وارتفاع المعنويات بعد سنوات من الهزيمة والإحباط.
5- استخدام الأنظمة العربية - خصوصاً مصر - النتائج السابقة لتحريك الأوضاع السياسية، ومحاولة الوصول إلى تسوية سلمية مع الكيان الإسرائيلي، تضمن عودة الأراضي المحتلة سنة 1967م.
ثالثا:- المقاومة الفلسطينية 1949-2001م:
1- مرحلة المدّ القومي العربي 1949-1967م:
علق الفلسطينيون آمالهم بتحرير فلسطين في هذه المرحلة بشكل عام على الأنظمة العربية، وخصوصاً مصر بزعامة جمال عبد الناصر، وكان شعار (الوحدة طريق التحرير) هو الشعار البراق لهذه المرحلة. وقد تَمّ تغييب دور القيادة الوطنية الفلسطينية بزعامة الحاج أمين الحسيني، في الوقت الذي ضُمّت فيه الضفة الغربية إلى الأردن، ووضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية. غير أنّ شعور العديد من الفلسطينيين في النصف الثاني من هذه المرحلة بعدم جدية الأنظمة العربية في عملية التحرير دفعهم إلى إنشاء منظمات فدائية وطنية، كان أبرزها حركة فتح، كما أن الأنظمة اضطرّت لفتح المجال للفلسطينيين للتعبير عن (كيانيتهم) وهويتهم ضمن أطر يمكن ضبطها ومتابعتها، فكان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964م بدعم مصري.
2- حرب 1982م:
هدف الكيان الإسرائيلي من حرب 1982م إلى ضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان، وتدمير بنيتها العسكرية، والقضاء على مشروع الثورة الفلسطينية بتحرير فلسطين من خلال الكفاح المسلح، وجرّها إلى مشاريع التسوية وفق الشروط والمعايير (الإسرائيلية)، خصوصاً وأن الأنظمة العربية هجرت الخيار العسكري أو لم تعد تراهن عليه. واستفاد الكيان الإسرائيلي من ظروف خروج مصر من الصراع العربي - الإسرائيلي بعد توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد في (سبتمبر 1978م)، ومن انشغال العرب بالحرب العراقية - الإيرانية، فضلاً عن الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي الذي ازداد قوة في ولاية الرئيس ريغان.
وقد ادعى الكيان الإسرائيلي أنّ هدف الحرب هو تحقيق (سلامة الجليل)، أي حماية المستوطنات اليهودية في شمال فلسطين المحتلة من الصواريخ والعمليات الفلسطينية، مع العلم أنّه لم تحدث عمليات من هذا النوع منذ (24 يوليو 1981م وحتى 4 يونيو 1982م). بينما قام الكيان الإسرائيلي في الفترة نفسها بخرق المجال الجوي اللبناني (2125) مرة، وخرق المياه الإقليمية اللبنانية (652) مرة، فضلاً عن بعض حوادث الانتهاك براً.
بدأ الاجتياح (الإسرائيلي)للبنان في (4يونيو1982م)، واشترك فيه (125-150) ألف جندي (من أصل 170 ألفاً هم قوام الجيش (الإسرائيلي) العامل) تساندهم (1600) دبابة، و(1600) ناقلة جنود مدرعة، و(600) مدفع وراجمة صواريخ، والقوات الجوية والبحرية، أي أنها كانت حرب اقتلاع للوجود العسكري الفلسطيني، في جوّ من الاطمئنان إلى عدم وجود أي تحرّك عربي جادّ، فتركت الحدود شبه فارغة مع البلاد العربية الأخرى.
وقد تمكنت القوات (الإسرائيلية) من اجتياح جنوب لبنان ووسطه بسرعة كبيرة تساندها القوى الكتائبية، وفي يوم (9 يونيو) كانت قد وصلت إلى مشارف بيروت. وقد حاولت القوات السورية المتمركزة في البقاع والشوف التصدي لها، لكن القوات (الإسرائيلية) تمكنت من تدمير شبكة الصواريخ السورية، وأسقطت في معارك جوية مائة طائرة عسكرية سورية، فانكشفت القوات السورية البرية أمام الطيران الإسرائيلي، واضطرّت القوات السورية للانسحاب بعيداً عن محاور القتال منذ (11 يونيو).
وقد استمرّت معركة بيروت (65 يوماً) (9 يونيو - 12 أغسطس 1982م). ووصلت القوات (الإسرائيلية) إلى طريق بيروت - دمشق، ودخلت بيروت الشرقية في (11 يونيو)، حيث قصر الرئاسة في بعبدا، وحيث وجدت ترحيباً من تحالف القوات اللبنانية الكتائبية. وقد أكملت حلقة حصارها على بيروت الغربية في (14 يونيو)، حيث تجمع فيها نحو (12-13) ألف مقاتل فلسطيني واللواء السوري الـ(85). وقد قررت المقاومة الفلسطينية الصمود، وقدمت نموذجاً لملحمة بطولية، فشل العدوّ خلالها، وعلى مدى شهرين من احتلال رقعة صغيرة هي منطقة بيروت الغربية، رغم شراسة القصف والحصار ومحاولات الاقتحام والهجمات براً وبحراً وجواً، واستخدام أحدث وأشدّ وسائل الدّمار. وفي (30 يونيو) كان قد استشهد نحو (15) ألف مدني من جراء الغزو الإسرائيلي.
وقد اضطرّت القوات (الإسرائيلية) للموافقة على وقف إطلاق النار في (12 أغسطس 1982م) بعد أن فشلت في احتلال بيروت الغربية، غير أنّ القوات (الإسرائيلية) حقّقت أهدافها بشكلٍ عام. إذ اقتضت الترتيبات خروج المقاومة الفلسطينية وقيادة (م. ت. ف) من لبنان بعد أن تجمعت في بيروت، مما أدى إلى خروج حوالي (11) ألف فلسطيني مقاتل (نحو 8300 من المنظمات الفدائية و2600 من جيش التحرير الفلسطيني و175 جريحاً)، وذلك وفق ترتيبات تضمن سلامتها. وقد تَمّ ذلك في الفترة (21-31 أغسطس 1982م)، حيث توجّه المقاتلون الفلسطينيون إلى معسكرات في سوريا والعراق وتونس واليمن (الشمالي والجنوبي) والجزائر والسودان. ولم تحترم القوات (الإسرائيلية) تعهّداتها، فقد اقتحمت بيروت الغربية بعد أسبوعين من خروج المقاومة الفلسطينية، وأشرفت بنفسها على تنفيذ قوات الكتائب والوطنيين الأحرار وغيرهم من القوى المسيحية المتعصبة لمذابح صبرا وشاتيلا في (16-18 سبتمبر 1982م)، والتي أدّت إلى استشهاد نحو (3500) فلسطيني ولبناني من المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ...
أدّت حرب 1982م إلى استشهاد وجرح نحو (55) ألف فلسطيني ولبناني، وإلى تدمير معظم البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في لبنان، بحيث لم تعد تشكل خطراً جادّاً على الكيان الصهيوني، ووجدت (م. ت. ف) نفسها بعيدة عن فلسطين، محرومة من العمل العسكري في دول الطوق. وكسب تيار (الواقعية) في (م. ت. ف) دفعات جديدة باتجاه تبني الحلول السلمية، وأخذ تركيز (م. ت. ف) ينصبّ بعد ذلك على النضال السياسي، وعانت من محاولات فرض الهيمنة عليها أو تجاوزها، كما عانت من الاختلافات الداخلية، ووقع انشقاق في حركة فتح بزعامة أبي موسى، ورغم البطولات التي أبداها المقاتلون الفلسطينيون، فإنّ حرب 1982م كشفت عن اختراقات وترهلات ونقاط ضعف في جسد الثورة، كما دفعت إلى مراجعة الأيديولوجية التي يجب أن ينبني عليها الصراع مع العدوّ.
ولم تدم سعادة الكيان الصهيوني بتحقيق أهدافه؛ إذ سرعان ما ظهرت المقاومة اللبنانية ممثلة خصوصاً بحزب الله، حيث حولت الجنوب اللبناني إلى ساحة حرب توالت فيها العمليات اليومية وسقوط القتلى (الإسرائيليّين). فقد جرى اغتيال الزعيم الكتائبي بشير الجميل الذي نصبته (إسرائيل) رئيساً على لبنان بعد أيام من انتخابه. وتَمّ تدمير مقرّ القيادة العامّة للقوات (الإسرائيلية) في صور في (12 نوفمبر 1982م)، حيث قتل (75) عسكرياً (إسرائيلياً)، وهوجم مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في (4 نوفمبر 1983م)، وقتل (19) إسرائيلياً. وأفشلت القوى الوطنية الإسلامية الوجود المشبوه للقوات متعددة الجنسيات في لبنان، فدمرت السفارة الأمريكية في بيروت في (18 إبريل 1983م)، وقتلت (80 شخصاً) ودمرت مقرّ قيادة القوات الأمريكية في (23 أكتوبر 1983م)، وقتلت (239 جندياً). كما ضربت مقرّ قيادة القوة الفرنسية في (23 أكتوبر و21 ديسمبر 1983م)، مما أدى إلى مقتل (71 جندياً)، وتمكنت المقاومة من إفشال الاتفاق بين الحكومة اللبنانية والكيان الإسرائيلي الذي وُقِّع في (13 مايو 1983م)، حيث تَمّ إسقاطه في (5 مارس 1984م)؛ لأنّه اتفاق ينتقص من الحقوق اللبنانية الكاملة في السيادة والاستقلال. كما أخذت المقاومة الفلسطينية تعود شيئاً فشيئاً إلى لبنان - وإن بدرجة أقلّ مما سبق -، وتتولى القيام ببعض العمليات والدفاع عن المخيمات الفلسطينية.
وقد اضطرّت القوات الإسرائيلية للانسحاب في (4 سبتمبر 1983م) إلى خطّ نهر الأولي، ثم قررت في (14 يناير 1985م) تحت الضربات القاسية للمقاومة إلى الانسحاب من كثير من المناطق على ثلاث مراحل أتمتها في (يونيو 1985م)، وأبقت قواتها فقط في الشريط الحدودي، الذي عهدت بإدارته إلى عميلها أنطوان لحد. وهو شريط في جنوبي لبنان يتاخم الحدود مع فلسطين، وبعمق 5-20كم داخل لبنان. وقد توالت ضربات المقاومة للقوات الإسرائيلية وعملائها في هذا الشريط حتى تَمّ تحريره في (24 مايو 2000م).
3- انتفاضة الأقصى: 28/ سبتمبر2000 -/ أكتوبر2001م:
لقد كانت زيارة الإرهابي أرييل شارون - زعيم حزب الليكود - الاستفزازية إلى حرم المسجد الأقصى في (28 سبتمبر 2000م) هي الشرارة التي فجرت الانتفاضة، وكان واضحاً أن ثمة مباركة وتأييداً من رئيس الحكومة الصهيونية باراك للزيارة، حيث زوّده بستمائة جندي لمرافقته، واستنفر (3000) جندي وشرطي في القدس وأحيائها. وصمّم المسلمون على الدفاع عن الأقصى، حيث سقط في المواجهات الأولى خمسة شهداء، وجرح أكثر من مائة.
وكانت عناصر اشتعال الوضع وأسباب تفجيره جاهزة، فقد وصلت مفاوضات التسوية السلمية إلى طريق مسدود، وتأكّدت الأطماع الصهيونية اليهودية في القدس والمسجد الأقصى، وظهر التعنت الإسرائيلي في قضايا اللاجئين والمستوطنات، واستمرّ الصهاينة في مصادرة الأراضي وتوسيع المستوطنات. ولم يكونوا مستعدّين للتنازل، ولا لتنفيذ القرارات الدولية، عندما يتعلق الأمر بالقضايا الجوهرية الحاسمة.
وبدا لباراك أنّ (الحلّ الوحيد الذي لاح في الأفق كان دفع الوضع إلى الانفجار)، كما قال بنفسه في اجتماع سرّي في (25 أكتوبر 2000م). ولعلّه أراد إظهار مزيد من التصلّب، وتحقيق مزيد من الشعبية وسط المجتمع الصهيوني، واستثمار ذلك في وقف عملية التسوية أو إدخالها في أزمات متتالية في الوقت الذي تزداد فيه عمليات الهجرة اليهودية ومصادرة الأراضي والاستيطان، ليتسنى تحقيق مزيد من الضغط على السلطة الفلسطينية، التي أثبتت السنوات الماضية قابليتها للتنازل والتراجع، وتخفيض سقف مطالبها.
لكن الصهاينة وُوجِهوا ببركان غضب عارم ليس في فلسطين وحدها، وإنما في العالم الإسلامي أجمع، وحيثما وجدت الجاليات الإسلامية، وأبطل الله سبحانه وتعالى حسابات الصهاينة ومكرهم، وبرز الأقصى عصياً على الخضوع والاغتصاب عندما استعدّت الملايين أن تفديه - والأرض المباركة - بأرواحها.
وأفرزت الانتفاضة عدداً من الحقائق والمؤشرات، أهمّها:
الأولى: أنّ الأمّة الإسلامية لا تزال حية، رغم الجراح التي أثخنتها، وأن روح المقاومة والصمود والاستعداد للبذل والتضحية لم تخمد. فقد خرجت المظاهرات بعشرات الآلاف، بل بمئات الآلاف في بلدان العالم الإسلامي، من الرباط في أقصى المغرب وحتى جاكرتا في أقصى المشرق الإسلامي، كلّها تهتف للأقصى والقدس وفلسطين، وتطالب بالجهاد، وتقدم ما لديها من تبرعات ودعم. فكانت لحظات رائعة من أخوة الإسلام ووحدة الأمة. وظهرت تجليات الإمكانات الكبرى لهذه الأمة لتحقيق النصر لو سلكت طريق الجهاد
الثانية: أنّ قضية فلسطين - بأرضها المباركة وبقدسها وأقصاها - قضية تجمع المسلمين وتوحدهم، بل وتكون سبباً في تجاوز خلافاتهم والتركيز على العدوّ الصهيوني المشترك. وأنّ هذه القضية غدت القضية المركزية للعالم الإسلامي، فلا قضية تجمعهم كهذه القضية، ولا عدو يجتمعون ضدّه كهذا العدو.
الثالثة: وجهت الانتفاضة ضربة قاسية لمشروع التسوية السلمية والتطبيع مع العدو، وبرز الخيار الجهادي كخيار أمثل.
الرابعة: أنّ هذه الانتفاضة انعكست على طريقة تفكير الناس وأسلوب حياتهم اليومي، فاشتدّ العداء للمشروع الصهيوني، واشتدّ العداء ضدّ أمريكا، وتكرست الروح الجهادية وروح التكافل، وتجاوبت الجماهير مع دعوات مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، حتى غيّر الملايين من أسلوب طعامهم وشرابهم اليومي، ومن لباسهم ووسائل تنقلهم واتصالاتهم وترفيههم، فكانت مدرسة تربوية اجتماعية شعبية، ربما احتاجت حركات الإصلاح سنوات للوصول إلى مثل نتائجها. فانخفضت مثلاً مبيعات مطاعم الوجبات السريعة (ماكدونالدز، وK.F.C) بنحو (80%) في السعودية، وانخفضت مبيعات مشروبات البيبسي كولا بنسبة (46%) في مصر، (وذلك حسب بعض التقديرات التي نشرت في نوفمبر 2000م)، واتجه الناس للمأكولات والمشروبات الشعبية، بل واضطرت الشركات الأجنبية الأمريكية لإنزال إعلانات عدم العلاقة بالكيان الصهيوني، بل والتبرع لضحايا الانتفاضة، كما حدث مع مطاعم ماكدونالدز التي تبرعت بريال سعودي لكلّ وجبة طعام، لعلاج جرحى الانتفاضة.
الخامسة: أن التسوية السلمية قائمة على الظلم والغصب، وأن جماهير الفلسطينيين والعرب والمسلمين ترفض التنازل عن حقوقها في الأرض المقدسة، وأنها لا تأمل من الغاصب الصهيوني سلاماً ولا خيراً، وأنها ترى في الجهاد الوسيلة الأنجع لاسترداد الحقوق.
السادسة: برزت أهمية الإعلام ودوره في التعبئة؛ إذ تمكن المسلمون من كسر الطوق الإعلامي الغربي المتصهين، من خلال الفضائيات العربية، وخدمات الإنترنت والبريد الإلكتروني، وخصوصاً في المراحل الأولى من الانتفاضة.
ومن جهة أخرى فقد تميزت هذه الانتفاضة بالمشاركة الشعبية الواسعة في كلّ أرجاء فلسطين المحتلة، وبمشاركة كافّة التيارات الفلسطينية. كما تميزت في الوقت نفسه بشدّة القمع الصهيوني الذي تمادى في قتل الأطفال والأبرياء واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وانكشفت سوءات أدعياء السلام (الصهاينة) الذين تباروا في سحق الانتفاضة المباركة.
وقد صمد أبناء فلسطين صموداً بطولياً طوال أشهر الانتفاضة الـ(13) الماضية، ولا يزالون. وتشير الإحصائيات إلى أنه بعد مرور سنة على الانتفاضة (28 سبتمبر 2000م - 28 سبتمبر 2001م) فقد استشهد (727) فلسطينياً، وجرح نحو ثلاثين ألفاً (أو 35 ألفاً حسب تقديرات أخرى)، وأصيب (2800) منهم بإعاقات دائمة. واستشهد من أطفال فلسطين (159 طفلاً)، وجرح آلاف الأطفال، وتقدر نسبة الإصابات في الأطفال واليافعين دون سنّ الثامنة عشرة بنحو (40%) من مجمل إصابات الانتفاضة. وكان من بين الشهداء (13) شهيداً من أبناء الأرض المحتلة عام 1948م، حيث انتفضوا بقوة إلى جانب إخوانهم في الضفّة والقطاع. وقام الكيان الصهيوني بتدمير نحو خمسة آلاف بيت، واجتثاث (200) ألف شجرة، وقصف (95) مدرسة، وتسبب حصاره في معاناة (218) قرية من العطش الشديد، وارتفعت نسبة البطالة من (11%) إلى (57%) بين أبناء الضفة والقطاع، وأصبح هناك (265) ألفاً عاطلين عن العمل، وباحتساب عدد عائلات هؤلاء يرتفع عدد المتضررين إلى مليون و(270) ألفاً، أي نحو (45.5%) من سكان الضفة والقطاع. وارتفعت نسبة الفلسطينيين تحت خط الفقر إلى (50%)، وخسر الاقتصاد الفلسطيني - الناشئ المنهك - نحو (7.5) بليون دولار أمريكي.
وتشير إحصاءات المركز الوطني الفلسطيني للإحصاء التابع للسلطة الفلسطينية أنّ مجموع شهداء الانتفاضة حتى نهاية شهر مايو (2002م) بلغ (1650) شهيداً، وأن (771) شهيداً منهم ارتفعوا في الأشهر الخمسة الأولى لسنة (2002م)، ونبه المصدر إلى أنه لم يضمّن عدة مئات من الشهداء في مخيم جنين وفي نابلس موجودون تحت الأنقاض، أو قامت قوات الاحتلال بدفنهم بعيداً عن المخيم، ولم تتوفر معلومات عنهم.
أما منطقة العمل العربية فقد قدرت خسائر الفلسطينيين بنحو (19) مليون دولار يومياً - يبدو أنّها ضمّنت الأضرار غير المباشرة -، فقدّرت الخسائر اليومية لقطاع العمال بِـ(6.6) مليون دولار، وقطاع التجارة (5.5) مليون، والصناعة (3.3) مليون، والزراعة (3.2).
وقد تعمد الصهاينة إطلاق النار بقصد القتل، وليس لتفريق المظاهرات، أو مجرد مواجهة حجارة المنتفضين، فذكرت التقارير أن (65%) من الإصابات كانت في الجزء العلوي من الجسد، أي في الرأس والرقبة والصّدر والبطن، وأنّ (40%) من الإصابات كانت باستخدام أسلحة محرمة دولياً، مثل رصاص الدمدم الذي يتفجّر في الجسد، ورصاص (500 و800) الذي يستخدم عادةً ضدّ الدبابات!!. وكانت نسبة (40%) من الإصابات ليافعين وأطفال تحت سنّ (18) سنة.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
رابعا:- التسوية السلمية وأبعادها ومراحلها:
وقد أصبح بيلين بعد الانتخابات (الإسرائيلية) نائباً لوزير الخارجية (بيريز).
وقام أحد الدبلوماسيين النرويجيين في (أيلول / سبتمبر 1992م) بتقديم عرض على بيلين بأنّ بلاده على استعداد لتكون المعبر السري للاتصال مع (م.ت.ف).وفي (ديسمبر 1992م) بدأت الترتيبات العملية للمفاوضات السرية، فالتقى عن (الإسرائيليين) البروفيسور يائير هيرشفيلد أستاذ التاريخ بجامعة حيفا، مع أحمد سليمان قريع (أبو علاء) رجل الأعمال والقيادي في حركة فتح، في فندق سانت جيمس بلندن.
وفي (20 كانون ثانٍ / فبراير 1993م) عُقد أول اجتماع بينهما، من أصل (14) اجتماعاً، في مدينة ساربسبورغ على بُعد (60) ميلاً إلى الشرق من أوسلو، في أجواء سرية مطلقة. وفي (نيسان / إبريل 1993م) رفعت (إسرائيل) مستوى تمثيلها في المباحثات، فعيّنت يوري سافير، مدير عام وزارة الخارجية، رئيساً للوفد (الإسرائيلي)، وانضمّ إليهم يوئيل زنجر، وهو محامٍ خبير في القانون الدولي.
أما (أبو علاء) فساعده مستشار قانوني اسمه طاهر شاش. وكانت الجلسات تنتقل من مكان إلى آخر، ويمتدّ الاجتماع بضعة أيام. وسافر بيريز في (19 آب / أغسطس 1993م) إلى النرويج، حيث وقع في الليلة نفسها على مسودة الاتفاق. وقد استمرّ عقد هذه المفاوضات في أثناء انعقاد المفاوضات الرسمية المعلنة بقيادة حيدر عبد الشافي، ودون علم أيّ من أعضاء هذا الوفد الرسمي. كما أنّ مفاوضات أوسلو استمرّت حتى بعد أن قام الوفد الرسمي بتعليق المفاوضات إثر إبعاد الكيان الإسرائيلي لِـ(415) فلسطينياً من حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزّهور في جنوب لبنان.
وقد تَمّ التوقيع الرسمي على اتفاق أوسلو في واشنطن في (13 أيلول / سبتمبر 1993م)، ووقعه عن الجانب الفلسطيني محمود عباس أمين سرّ اللجنة التنفيذية لِـ(م. ت. ف) وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والذي تولى متابعة هذه المفاوضات السرّية بنفسه. ووقعه عن الجانب (الإسرائيلي) شمعون بيريز وزير الخارجية، كما وقعه وزيرا خارجية أمريكا وروسيا كشاهدين.
ويُعدّ هذا الاتفاق بحقّ منعطفاً تاريخياً في مسار القضية الفلسطينية، فهو أول اتفاق يوقعه الفلسطينيون و(الإسرائيليون)، ويتمّ بموجبه تنفيذ تسوية سلمية، وهو يعكس مدى التنازلات الهائلة التي اضطرت قيادة (م. ت. ف) إلى تقديمها حتى تحصل على اتفاق شبيه في جوهره باتفاق كامب ديفيد (1978م)، والتي وصفت مُوقِّعه (السادات) يومذاك بالخيانة والاستسلام، ودعت شعب مصر لإسقاطه. وهو يعكس بالتأكيد مدى الانتكاسات والتراجعات والضربات التي عانى منها مشروع تحرير فلسطين خلال الفترة (1978-1993م). وقد كرّس هذا الاتفاق الانفصال التام بين مسار المفاوضات الفلسطيني - (الإسرائيلي) ومسارات المفاوضات العربية الأخرى، مما أفقدها القدرة على تنسيق المواقف والعمل المشترك. وتسارعت بعد ذلك وتيرة المفاوضات الأردنية - (الإسرائيلية)، والتي أدّت في نهايتها إلى عقد تسوية سلمية بين الجانبين في (26 تشرين أول / أكتوبر 1994م)، والتي عرفت بمعاهدة وادي عربة. أما المساران السوري واللبناني فبقيا متعثّرين طوال السنوات الثماني التالية (حتى الآن).
وقد عُرف اتفاق أوسلو (باتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني-الإسرائيلي)، أو باتفاق غزة - أريحا أولاً، ووقعت كافة الاتفاقات التالية بين (م. ت. ف) وبين الكيان (الإسرائيلي) بناءً على هذا الاتفاق. أما أبرز النقاط في اتفاق أوسلو فهي:
1- إقامة سلطة حكم ذاتي محدود للفلسطينيين في الضفة والقطاع لفترة خمس سنوات.
2- تبدأ قبل بداية العام الثالث من الحكم الذاتي المفاوضات على الوضع النهائي للضفة والقطاع، بحيث يفترض أن تؤدي إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قرارَي مجلس الأمن الدولي (242) و(338).
3- خلال شهرين من دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، يتوصل الطرفان لاتفاقية حول انسحاب (إسرائيل) من غزة وأريحا، تشمل نقلاً محدوداً للصلاحيات للفلسطينيين، وتغطي التعليم والثقافة والصحة والشؤون الاجتماعية والضرائب المباشرة والسياحة.
4- بعد تسعة أشهر من تطبيق الحكم الذاتي، تُجرى انتخابات مباشرة في الضفة والقطاع لانتخاب مجلس فلسطيني للحكم الذاتي، وتقوم القوات الإسرائيلية قبيل الانتخابات بالانسحاب من المناطق المأهولة بالسكان وإعادة الانتشار في الضفة.
5- يتمّ تشكيل سُلطة فلسطينية انتقالية ذاتية تشمل الضفة والقطاع، على أنّ صلاحياتها لا تشمل الأمن الخارجي ولا المستوطنات الإسرائيلية، ولا العلاقات الخارجية، ولا القدس، ولا (الإسرائيليين) في تلك الأراضي.
6- (لإسرائيل) حقّ النقض (الفيتو) ضدّ أيّ تشريعات تصدرها السلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية.
7- ما لا تتمّ تسويته بالتفاوض يمكن أن يتفق على تسويته من خلال آلية توفيق يتمّ الاتفاق عليها بين الطرفين.
8- يمتد الحكم تدريجياً من غزة وأريحا إلى مناطق الضفة الغربية وفق مفاوضات تفصيلية لاحقة.
9- وقد أكد الاتفاق على نبذ (م. ت. ف) والسلطة الفلسطينية (للإرهاب) و(العنف)، والحفاظ على الأمن، ومنع العمل المسلّح ضدّ الكيان الإسرائيلي.
وبشكلٍ عام، فإن أبرز الانتقادات والملاحظات على اتفاق أوسلو يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- قضية فلسطين قضية كلّ المسلمين وليس قضية الفلسطينيين وحدهم، وهي معركة بين حقّ العرب المسلمين وباطل اليهود الصهاينة. وهي معركة تتوارثها الأجيال، ولا يجوز لجيل أن يرضخ أو يتنازل فيغمط حقّ الأجيال التالية. وقد أجمع العلماء الثقات على عدم جواز هذه التسوية بالشكل الذي تمت فيه، ودعوا إلى وجوب الجهاد لتحرير الأرض المباركة.
2- تفردت قيادة (م. ت. ف) بالموافقة على الاتفاق والاتفاقات التي تلته، ولم ترجع حتى إلى الشعب الفلسطيني نفسه، الذي توجد فيه تيارات واسعة معترضة على هذه التسويات من الإسلاميين واليساريين والقوميين، وحتى في حركة فتح نفسها.
3- اعترفت قيادة (م. ت. ف) (بحقّ إسرائيل في الوجود)، وبشرعية احتلالها لِـ(77%) من أرض فلسطين المحتلة عام (1948م)، والتي لا تجري عليها أية مفاوضات.
4- لم يتعرض الاتفاق لأخطر القضايا، حيث تَمّ تأجيلها إلى مرحلة المفاوضات النهائية، ولأنّ (م. ت. ف) تعهدت بعدم اللجوء إلى القوة إطلاقاً، فقد أصبح الأمر مرتبطاً بمدى (الكرم الصهيوني) الذي يملك عناصر القوة وأوراق اللعبة، وهذه القضايا:
أ / مستقبل مدينة القدس، والتي أعلنها اليهود عاصمة أبدية لهم، وصادروا (86%) من أرضها، وأسكنوا في القدس الشرقية أكثر من (200) ألف مستوطن.
ب/ مستقبل اللاجئين الفلسطينيين الذين يزيد عددهم (سنة 2001م) عن ستّة ملايين و(200) ألف لاجئ (4.6مليون خارج فلسطين، و1.6 مليون داخل فلسطين، وبالذات في الضفّة والقطاع).
جـ/ مستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفّة الغربية وقطاع غزة، حيث صادر الصهاينة نحو (62%) من أراضي الضفّة والقطاع، وأقاموا أكثر من (160) مستوطنة في الضفة و(16) مستوطنة في القطاع يعيش فيها (200) ألف يهودي مستوطن.
5- لا تتضمّن مسؤوليات السلطة الفلسطينية الأمن الخارجي والحدود، ولا يستطيع أحد دخول مناطق السلطة دون إذن (إسرائيلي). ولا يجوز للسلطة تشكيل جيش، والأسلحة تدخل بإذن إسرائيل.
6- للكيان الصهيوني حقّ النقض (الفيتو) على أيّة تشريعات تصدرها السلطة خلال المرحلة الانتقالية.
7- لا يوجد في الاتفاقيات إشارة إلى حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، أو إقامة دولتهم المستقلّة، ولا تشير الاتفاقيات إلى الضفة والقطاع كأراضٍ محتلة، مما يعزز الاعتقاد بأنّها أراضٍ متنازع عليها.
8- في الوقت الذي تعهّدت فيه (م. ت. ف) (السلطة الفلسطينية) بعدم اللجوء إطلاقاً للمقاومة المسلّحة ضدّ الكيان الصهيوني، وبحلّ كافة مشاكلها بالطرق السلمية، فإنها في الوقت نفسه أصبحت مضطرة - في ضوء تعهّداتها السلمية - لقمع وسحق أيّة مقاومة مسلّحة ضدّ الكيان الصهيوني.
خامسا:- تقويم وخلاصات:
يجدر بنا في نهاية هذه الدراسة أن نضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بأهمّ الخلاصات، وتقويمنا لمسيرة القضية الفلسطينية وتجربتها:
1- أرض فلسطين أرض مقدّسة مباركة، سكنها أبناؤها (الكنعانيون) منذ نحو (4500) عام، ومن امتزج بهم بعد ذلك من (الفلسطينيّين) والقبائل العربية. وقد أسلم أبناؤها - بعد الفتح الإسلامي لفلسطين 15هـ - 636م - وتعربت لغتهم، وظلوا تحت حكم الإسلام أطول فترة في تاريخ فلسطين.
2- إن بني إسرائيل حكموا أجزاء من فلسطين نحو أربعة قرون، ولكنهم عندما حرّفوا دينهم وكفروا وقتلوا أنبياءهم، سخطَ اللهُ عليهم، وخسروا شرعيتهم في فلسطين. وورثت الأمة المسلمة السائرة على درب التوحيد والأنبياء هذا الحقّ. وقد انقطعت صِلة اليهود عملياً بفلسطين نحو (1800) عام، (منذ 135م وحتى القرن العشرين)، دون أن يكونَ لهم تواجد سياسي أو حضاري أو ريادي في هذه الأرض المباركة.
3- إن ظهور النزعات الصهيونية - المؤيدة لتجميع اليهود في فلسطين - وسط مسيحيي أوربا، وخصوصاً البروتستانت، وظهور الفكرة القومية والدولة القومية، ونشأة المشكلة اليهودية خصوصاً في أوربا الشرقية، وتمكُّن اليهود من الوصول إلى عدد من دوائر النفوذ في أوربا وأمريكا... كلّ ذلك عوامل أسهمت في نشوء الحركة الصهيونية التي سعت لإنشاء كيان يهودي في فلسطين.
4- إنّ فكرة (الدولة الحاجزة) في فلسطين، التي دعمها الاستعمار الغربي، وخصوصاً بريطانيا، تمثل ذروة الخطر الصليبي - الصهيوني في قلب العالم الإسلامي. وهي تهدف إلى منع وحدته وإضعافه، وإبقائه مفككاً عاجزاً عن النهضة، قابعاً في دائرة التبعية. كما هدفت إلى منع ظهور قوّة إسلامية كبرى، تحلّ مكان الدولة العثمانية التي تَمّ القضاء عليها.
5- إن القوى الغربية الكبرى قد أعطت الغطاء والرعاية والحماية للمشروع الصهيوني، فقامت بريطانيا باحتلال فلسطين بالقوة والقهر (1918-1948م) حتى شبّ المشروع الصهيوني على عُوده. ثم أصبحت الولايات المتحدة السند الأول، والراعي الأكبر لهذا المشروع، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945م) وحتى الآن، تزوده بالحماية والدّعم العسكري والسياسي والمالي، وتوفّر له غطاء (الشرعية) الدولية.
6- إن العالم العربي والإسلامي كان مستضعفاً مستعمراً في النصف الأول من القرن العشرين، مما سهّل إنشاء الكيان الصهيوني. كما أنّ نشوء الدولة القطرية المستقلة بعد ذلك أبقى على حالة التفكك والتجزئة والضعف، فتوزع العالم الإسلامي على نحو (55) دولة. وقد استندت هذه الأنظمة في حكمها إلى مناهج مستوردة بعيدة عن الإسلام وعن تراث هذه الأمة وحضارتها، فكانت أعجز من أن تستنهض طاقات الأمة في مواجهة الخطر الصهيوني، الذي يهددها جميعاً. كما فشل أغلبها في مجالات النهضة الاقتصادية والعلمية، وفي حلّ مشاكل شعوبها، فضلاً عن خصامها مع شعوبها، بسبب الفساد السياسي والحكم العسكري...
7- إنّ ما يُعرف بِـ(الشرعية الدولية) سواء أكان عصبة الأمم، أو الأمم المتحدة، قد استخدمتها الدول الكبرى كأدوات لتنفيذ خططها ومصالحها، ولإضفاء الشرعية على هيمنتها الدولية، ومن ذلك إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين، وترسيخ وجودها (وشرعيتها) محلياً ودولياً. وإن أية قرارات دولية تدعم الحقّ الفلسطيني كان يتمّ تجاهلها أو إجهاضها، مما يكشف الوجه القبيح لهذه (الشرعية) التي تتستر خلفها دولة كبرى (الولايات المتحدة) أو أكثر.
8- إن خطر الكيان اليهودي الصهيوني يهدد العالم الإسلامي أجمع، فمع نهاية القرن العشرين ترسخ هذا الكيان بوجود خمسة ملايين يهودي، لديهم من القوة العسكرية ما يمكنهم من هزيمة الدول العربية وفق الحسابات المادية، ولديهم نحو (200) قنبلة نووية تمكنهم من تدمير عواصم العالم الإسلامي ومدنه. وهو يسعى بشكلٍ دائب لإبقاء العالم الإسلامي ضعيفاً مفكّكاً؛ لأنّ ذلك خير وسيلة لضمان استمراره. وما دعمه وتدريبه للمتمردين في جنوبي السودان، وتدميره للمفاعل النّووي العراقي سنة (1981م)، ومحاولة تدميره المفاعل النووي الباكستاني، ودوره المخابراتي والإفسادي في مصر والأردن ولبنان وغيرها إلا بعض مؤشرات ذلك.
9- إن المسلمين لا يقاتلون اليهود لكونهم يهوداً فقط، فالأصل في علاقة المسلمين بأهل الكتاب أو أهل الذمّة هو العدل والإحسان وإعطاء كافّة الحريات والحقوق الدّينية وحقوق المواطنة الكاملة لهم تحت حكم الإسلام، وإنّ (المشكلة اليهودية) والعداء للسامية نشأت في أوربا وليس في العالم الإسلامي الذي كان اليهود يلجأون إليه آمنين من الاضطهاد والتعصب الديني والقومي في أوربا. إن المسلمين يقاتلون اليهود الصهاينة المعتدين الذين اغتصبوا أرض فلسطين، وشرّدوا شعبها، وانتهكوا مقدّساتها، وسيقاتل المسلمون أية فئة أو جماعة تحاول احتلال أرضهم مهما كان دينها أو قوميتها.
10- إن المقاومة الفلسطينية ضدّ بريطانيا والمشروع الصهيوني (1917-1948م) اتّسمت بالمبدئية والإخلاص، وضحى أبناء فلسطين تضحيات جساماً، خصوصاً في الثورة الكبرى (1936-1939م)، غير أنّ المؤامرة الدولية وإمكانات القوى الكبرى كانت أكبر من طاقاتهم، في وقت افتقدوا فيه النصير القويّ الأمين.
11- إنّ المقاومة الفلسطينية المعاصرة (م. ت. ف، والعمل الفدائي الفلسطيني) التي تولّت قيادة الساحة الفلسطينية، قد قدمت هي الأخرى تضحيات كبيرة، وكرست الهوية الوطنية الفلسطينية، ولقيت اعتراف واحترام معظم دول العالم، غير أنّها عانت من جوانب أضعفت أداءها وقدرتها على تحقيق أهدافها.
وقد أصبح بيلين بعد الانتخابات (الإسرائيلية) نائباً لوزير الخارجية (بيريز).
وقام أحد الدبلوماسيين النرويجيين في (أيلول / سبتمبر 1992م) بتقديم عرض على بيلين بأنّ بلاده على استعداد لتكون المعبر السري للاتصال مع (م.ت.ف).وفي (ديسمبر 1992م) بدأت الترتيبات العملية للمفاوضات السرية، فالتقى عن (الإسرائيليين) البروفيسور يائير هيرشفيلد أستاذ التاريخ بجامعة حيفا، مع أحمد سليمان قريع (أبو علاء) رجل الأعمال والقيادي في حركة فتح، في فندق سانت جيمس بلندن.
وفي (20 كانون ثانٍ / فبراير 1993م) عُقد أول اجتماع بينهما، من أصل (14) اجتماعاً، في مدينة ساربسبورغ على بُعد (60) ميلاً إلى الشرق من أوسلو، في أجواء سرية مطلقة. وفي (نيسان / إبريل 1993م) رفعت (إسرائيل) مستوى تمثيلها في المباحثات، فعيّنت يوري سافير، مدير عام وزارة الخارجية، رئيساً للوفد (الإسرائيلي)، وانضمّ إليهم يوئيل زنجر، وهو محامٍ خبير في القانون الدولي.
أما (أبو علاء) فساعده مستشار قانوني اسمه طاهر شاش. وكانت الجلسات تنتقل من مكان إلى آخر، ويمتدّ الاجتماع بضعة أيام. وسافر بيريز في (19 آب / أغسطس 1993م) إلى النرويج، حيث وقع في الليلة نفسها على مسودة الاتفاق. وقد استمرّ عقد هذه المفاوضات في أثناء انعقاد المفاوضات الرسمية المعلنة بقيادة حيدر عبد الشافي، ودون علم أيّ من أعضاء هذا الوفد الرسمي. كما أنّ مفاوضات أوسلو استمرّت حتى بعد أن قام الوفد الرسمي بتعليق المفاوضات إثر إبعاد الكيان الإسرائيلي لِـ(415) فلسطينياً من حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزّهور في جنوب لبنان.
وقد تَمّ التوقيع الرسمي على اتفاق أوسلو في واشنطن في (13 أيلول / سبتمبر 1993م)، ووقعه عن الجانب الفلسطيني محمود عباس أمين سرّ اللجنة التنفيذية لِـ(م. ت. ف) وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والذي تولى متابعة هذه المفاوضات السرّية بنفسه. ووقعه عن الجانب (الإسرائيلي) شمعون بيريز وزير الخارجية، كما وقعه وزيرا خارجية أمريكا وروسيا كشاهدين.
ويُعدّ هذا الاتفاق بحقّ منعطفاً تاريخياً في مسار القضية الفلسطينية، فهو أول اتفاق يوقعه الفلسطينيون و(الإسرائيليون)، ويتمّ بموجبه تنفيذ تسوية سلمية، وهو يعكس مدى التنازلات الهائلة التي اضطرت قيادة (م. ت. ف) إلى تقديمها حتى تحصل على اتفاق شبيه في جوهره باتفاق كامب ديفيد (1978م)، والتي وصفت مُوقِّعه (السادات) يومذاك بالخيانة والاستسلام، ودعت شعب مصر لإسقاطه. وهو يعكس بالتأكيد مدى الانتكاسات والتراجعات والضربات التي عانى منها مشروع تحرير فلسطين خلال الفترة (1978-1993م). وقد كرّس هذا الاتفاق الانفصال التام بين مسار المفاوضات الفلسطيني - (الإسرائيلي) ومسارات المفاوضات العربية الأخرى، مما أفقدها القدرة على تنسيق المواقف والعمل المشترك. وتسارعت بعد ذلك وتيرة المفاوضات الأردنية - (الإسرائيلية)، والتي أدّت في نهايتها إلى عقد تسوية سلمية بين الجانبين في (26 تشرين أول / أكتوبر 1994م)، والتي عرفت بمعاهدة وادي عربة. أما المساران السوري واللبناني فبقيا متعثّرين طوال السنوات الثماني التالية (حتى الآن).
وقد عُرف اتفاق أوسلو (باتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني-الإسرائيلي)، أو باتفاق غزة - أريحا أولاً، ووقعت كافة الاتفاقات التالية بين (م. ت. ف) وبين الكيان (الإسرائيلي) بناءً على هذا الاتفاق. أما أبرز النقاط في اتفاق أوسلو فهي:
1- إقامة سلطة حكم ذاتي محدود للفلسطينيين في الضفة والقطاع لفترة خمس سنوات.
2- تبدأ قبل بداية العام الثالث من الحكم الذاتي المفاوضات على الوضع النهائي للضفة والقطاع، بحيث يفترض أن تؤدي إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قرارَي مجلس الأمن الدولي (242) و(338).
3- خلال شهرين من دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، يتوصل الطرفان لاتفاقية حول انسحاب (إسرائيل) من غزة وأريحا، تشمل نقلاً محدوداً للصلاحيات للفلسطينيين، وتغطي التعليم والثقافة والصحة والشؤون الاجتماعية والضرائب المباشرة والسياحة.
4- بعد تسعة أشهر من تطبيق الحكم الذاتي، تُجرى انتخابات مباشرة في الضفة والقطاع لانتخاب مجلس فلسطيني للحكم الذاتي، وتقوم القوات الإسرائيلية قبيل الانتخابات بالانسحاب من المناطق المأهولة بالسكان وإعادة الانتشار في الضفة.
5- يتمّ تشكيل سُلطة فلسطينية انتقالية ذاتية تشمل الضفة والقطاع، على أنّ صلاحياتها لا تشمل الأمن الخارجي ولا المستوطنات الإسرائيلية، ولا العلاقات الخارجية، ولا القدس، ولا (الإسرائيليين) في تلك الأراضي.
6- (لإسرائيل) حقّ النقض (الفيتو) ضدّ أيّ تشريعات تصدرها السلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية.
7- ما لا تتمّ تسويته بالتفاوض يمكن أن يتفق على تسويته من خلال آلية توفيق يتمّ الاتفاق عليها بين الطرفين.
8- يمتد الحكم تدريجياً من غزة وأريحا إلى مناطق الضفة الغربية وفق مفاوضات تفصيلية لاحقة.
9- وقد أكد الاتفاق على نبذ (م. ت. ف) والسلطة الفلسطينية (للإرهاب) و(العنف)، والحفاظ على الأمن، ومنع العمل المسلّح ضدّ الكيان الإسرائيلي.
وبشكلٍ عام، فإن أبرز الانتقادات والملاحظات على اتفاق أوسلو يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- قضية فلسطين قضية كلّ المسلمين وليس قضية الفلسطينيين وحدهم، وهي معركة بين حقّ العرب المسلمين وباطل اليهود الصهاينة. وهي معركة تتوارثها الأجيال، ولا يجوز لجيل أن يرضخ أو يتنازل فيغمط حقّ الأجيال التالية. وقد أجمع العلماء الثقات على عدم جواز هذه التسوية بالشكل الذي تمت فيه، ودعوا إلى وجوب الجهاد لتحرير الأرض المباركة.
2- تفردت قيادة (م. ت. ف) بالموافقة على الاتفاق والاتفاقات التي تلته، ولم ترجع حتى إلى الشعب الفلسطيني نفسه، الذي توجد فيه تيارات واسعة معترضة على هذه التسويات من الإسلاميين واليساريين والقوميين، وحتى في حركة فتح نفسها.
3- اعترفت قيادة (م. ت. ف) (بحقّ إسرائيل في الوجود)، وبشرعية احتلالها لِـ(77%) من أرض فلسطين المحتلة عام (1948م)، والتي لا تجري عليها أية مفاوضات.
4- لم يتعرض الاتفاق لأخطر القضايا، حيث تَمّ تأجيلها إلى مرحلة المفاوضات النهائية، ولأنّ (م. ت. ف) تعهدت بعدم اللجوء إلى القوة إطلاقاً، فقد أصبح الأمر مرتبطاً بمدى (الكرم الصهيوني) الذي يملك عناصر القوة وأوراق اللعبة، وهذه القضايا:
أ / مستقبل مدينة القدس، والتي أعلنها اليهود عاصمة أبدية لهم، وصادروا (86%) من أرضها، وأسكنوا في القدس الشرقية أكثر من (200) ألف مستوطن.
ب/ مستقبل اللاجئين الفلسطينيين الذين يزيد عددهم (سنة 2001م) عن ستّة ملايين و(200) ألف لاجئ (4.6مليون خارج فلسطين، و1.6 مليون داخل فلسطين، وبالذات في الضفّة والقطاع).
جـ/ مستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفّة الغربية وقطاع غزة، حيث صادر الصهاينة نحو (62%) من أراضي الضفّة والقطاع، وأقاموا أكثر من (160) مستوطنة في الضفة و(16) مستوطنة في القطاع يعيش فيها (200) ألف يهودي مستوطن.
5- لا تتضمّن مسؤوليات السلطة الفلسطينية الأمن الخارجي والحدود، ولا يستطيع أحد دخول مناطق السلطة دون إذن (إسرائيلي). ولا يجوز للسلطة تشكيل جيش، والأسلحة تدخل بإذن إسرائيل.
6- للكيان الصهيوني حقّ النقض (الفيتو) على أيّة تشريعات تصدرها السلطة خلال المرحلة الانتقالية.
7- لا يوجد في الاتفاقيات إشارة إلى حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، أو إقامة دولتهم المستقلّة، ولا تشير الاتفاقيات إلى الضفة والقطاع كأراضٍ محتلة، مما يعزز الاعتقاد بأنّها أراضٍ متنازع عليها.
8- في الوقت الذي تعهّدت فيه (م. ت. ف) (السلطة الفلسطينية) بعدم اللجوء إطلاقاً للمقاومة المسلّحة ضدّ الكيان الصهيوني، وبحلّ كافة مشاكلها بالطرق السلمية، فإنها في الوقت نفسه أصبحت مضطرة - في ضوء تعهّداتها السلمية - لقمع وسحق أيّة مقاومة مسلّحة ضدّ الكيان الصهيوني.
خامسا:- تقويم وخلاصات:
يجدر بنا في نهاية هذه الدراسة أن نضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بأهمّ الخلاصات، وتقويمنا لمسيرة القضية الفلسطينية وتجربتها:
1- أرض فلسطين أرض مقدّسة مباركة، سكنها أبناؤها (الكنعانيون) منذ نحو (4500) عام، ومن امتزج بهم بعد ذلك من (الفلسطينيّين) والقبائل العربية. وقد أسلم أبناؤها - بعد الفتح الإسلامي لفلسطين 15هـ - 636م - وتعربت لغتهم، وظلوا تحت حكم الإسلام أطول فترة في تاريخ فلسطين.
2- إن بني إسرائيل حكموا أجزاء من فلسطين نحو أربعة قرون، ولكنهم عندما حرّفوا دينهم وكفروا وقتلوا أنبياءهم، سخطَ اللهُ عليهم، وخسروا شرعيتهم في فلسطين. وورثت الأمة المسلمة السائرة على درب التوحيد والأنبياء هذا الحقّ. وقد انقطعت صِلة اليهود عملياً بفلسطين نحو (1800) عام، (منذ 135م وحتى القرن العشرين)، دون أن يكونَ لهم تواجد سياسي أو حضاري أو ريادي في هذه الأرض المباركة.
3- إن ظهور النزعات الصهيونية - المؤيدة لتجميع اليهود في فلسطين - وسط مسيحيي أوربا، وخصوصاً البروتستانت، وظهور الفكرة القومية والدولة القومية، ونشأة المشكلة اليهودية خصوصاً في أوربا الشرقية، وتمكُّن اليهود من الوصول إلى عدد من دوائر النفوذ في أوربا وأمريكا... كلّ ذلك عوامل أسهمت في نشوء الحركة الصهيونية التي سعت لإنشاء كيان يهودي في فلسطين.
4- إنّ فكرة (الدولة الحاجزة) في فلسطين، التي دعمها الاستعمار الغربي، وخصوصاً بريطانيا، تمثل ذروة الخطر الصليبي - الصهيوني في قلب العالم الإسلامي. وهي تهدف إلى منع وحدته وإضعافه، وإبقائه مفككاً عاجزاً عن النهضة، قابعاً في دائرة التبعية. كما هدفت إلى منع ظهور قوّة إسلامية كبرى، تحلّ مكان الدولة العثمانية التي تَمّ القضاء عليها.
5- إن القوى الغربية الكبرى قد أعطت الغطاء والرعاية والحماية للمشروع الصهيوني، فقامت بريطانيا باحتلال فلسطين بالقوة والقهر (1918-1948م) حتى شبّ المشروع الصهيوني على عُوده. ثم أصبحت الولايات المتحدة السند الأول، والراعي الأكبر لهذا المشروع، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945م) وحتى الآن، تزوده بالحماية والدّعم العسكري والسياسي والمالي، وتوفّر له غطاء (الشرعية) الدولية.
6- إن العالم العربي والإسلامي كان مستضعفاً مستعمراً في النصف الأول من القرن العشرين، مما سهّل إنشاء الكيان الصهيوني. كما أنّ نشوء الدولة القطرية المستقلة بعد ذلك أبقى على حالة التفكك والتجزئة والضعف، فتوزع العالم الإسلامي على نحو (55) دولة. وقد استندت هذه الأنظمة في حكمها إلى مناهج مستوردة بعيدة عن الإسلام وعن تراث هذه الأمة وحضارتها، فكانت أعجز من أن تستنهض طاقات الأمة في مواجهة الخطر الصهيوني، الذي يهددها جميعاً. كما فشل أغلبها في مجالات النهضة الاقتصادية والعلمية، وفي حلّ مشاكل شعوبها، فضلاً عن خصامها مع شعوبها، بسبب الفساد السياسي والحكم العسكري...
7- إنّ ما يُعرف بِـ(الشرعية الدولية) سواء أكان عصبة الأمم، أو الأمم المتحدة، قد استخدمتها الدول الكبرى كأدوات لتنفيذ خططها ومصالحها، ولإضفاء الشرعية على هيمنتها الدولية، ومن ذلك إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين، وترسيخ وجودها (وشرعيتها) محلياً ودولياً. وإن أية قرارات دولية تدعم الحقّ الفلسطيني كان يتمّ تجاهلها أو إجهاضها، مما يكشف الوجه القبيح لهذه (الشرعية) التي تتستر خلفها دولة كبرى (الولايات المتحدة) أو أكثر.
8- إن خطر الكيان اليهودي الصهيوني يهدد العالم الإسلامي أجمع، فمع نهاية القرن العشرين ترسخ هذا الكيان بوجود خمسة ملايين يهودي، لديهم من القوة العسكرية ما يمكنهم من هزيمة الدول العربية وفق الحسابات المادية، ولديهم نحو (200) قنبلة نووية تمكنهم من تدمير عواصم العالم الإسلامي ومدنه. وهو يسعى بشكلٍ دائب لإبقاء العالم الإسلامي ضعيفاً مفكّكاً؛ لأنّ ذلك خير وسيلة لضمان استمراره. وما دعمه وتدريبه للمتمردين في جنوبي السودان، وتدميره للمفاعل النّووي العراقي سنة (1981م)، ومحاولة تدميره المفاعل النووي الباكستاني، ودوره المخابراتي والإفسادي في مصر والأردن ولبنان وغيرها إلا بعض مؤشرات ذلك.
9- إن المسلمين لا يقاتلون اليهود لكونهم يهوداً فقط، فالأصل في علاقة المسلمين بأهل الكتاب أو أهل الذمّة هو العدل والإحسان وإعطاء كافّة الحريات والحقوق الدّينية وحقوق المواطنة الكاملة لهم تحت حكم الإسلام، وإنّ (المشكلة اليهودية) والعداء للسامية نشأت في أوربا وليس في العالم الإسلامي الذي كان اليهود يلجأون إليه آمنين من الاضطهاد والتعصب الديني والقومي في أوربا. إن المسلمين يقاتلون اليهود الصهاينة المعتدين الذين اغتصبوا أرض فلسطين، وشرّدوا شعبها، وانتهكوا مقدّساتها، وسيقاتل المسلمون أية فئة أو جماعة تحاول احتلال أرضهم مهما كان دينها أو قوميتها.
10- إن المقاومة الفلسطينية ضدّ بريطانيا والمشروع الصهيوني (1917-1948م) اتّسمت بالمبدئية والإخلاص، وضحى أبناء فلسطين تضحيات جساماً، خصوصاً في الثورة الكبرى (1936-1939م)، غير أنّ المؤامرة الدولية وإمكانات القوى الكبرى كانت أكبر من طاقاتهم، في وقت افتقدوا فيه النصير القويّ الأمين.
11- إنّ المقاومة الفلسطينية المعاصرة (م. ت. ف، والعمل الفدائي الفلسطيني) التي تولّت قيادة الساحة الفلسطينية، قد قدمت هي الأخرى تضحيات كبيرة، وكرست الهوية الوطنية الفلسطينية، ولقيت اعتراف واحترام معظم دول العالم، غير أنّها عانت من جوانب أضعفت أداءها وقدرتها على تحقيق أهدافها.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
سادسا:- التيار الإسلامي وأدواره الجهادية وآثاره:
1) قام التيار الإسلامي بأدوار جهادية لا تُنكر في مواجهة المشروع الصهيوني والقوى الاستعمارية، وقد تميزت الثورات الفلسطينية خلال (1920-1939م) ببُعدها الإسلامي، وبرزت حركة (الجهادية) بقيادة الشيخ القسّام لتقدم نماذج رائعة في المقاومة والجهاد، كما برزت حركة (الجهاد المقدّس) بقيادة عبد القادر الحسيني، وكان لهذه القوى و(للإخوان المسلمين) دور كبير في قيادة العمل الشعبي في حرب (1947-1948م). وإذا كانت (فتح) التي خرجت من أحضان الإخوان المسلمين قد اتخذت بعد ذلك خطاً علمانياً وطنياً، فإنّ الإخوان شاركوا بعد ذلك في معسكرات الشيوخ، كما أنشأوا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في (1987م)، والتي لا تزال تمثل أهم القوى الفلسطينية المجاهدة، المستمرّة في الكفاح المسلّح، الرافض للتنازل عن أيّ جزء من فلسطين.
2) وإذا كان التيار الإسلامي الحركي قد تميز بفعله الجهادي، فإنه لم يتمكن بعد من قيادة الساحة السياسية الفلسطينية. ولا يزال هذا التيار يعاني من محاولات سحق واقتلاع وتشويه وتحييد فلسطينياً وعربياً ودولياً. لكنه لا يزال يمثل نبض هذه الأمّة، وأملها القادم بإذن الله. غير أنه مطالَب في الوقت نفسه بِـ:
التحديد الدقيق لرؤيته المنهجية - المرحلية وبعيدة المدى - لكيفية مواجهة التحدي الصهيوني وتحرير فلسطين.
توسيع دائرة الصراع والتفاعل مع قضية فلسطين ليتجاوز الإطار الإقليمي المحلّي والإطار القومي العربي، وينطلق ليشمل كافّة مسلمي العالم، وتوفير الأدوات والوسائل المكافئة لتحقيق ذلك.
تطوير مؤسساته التنظيمية، وكفاءات قياداته، والانفتاح والاستفادة بشكلٍ أفضل من الكفاءات المتوفّرة، وتحقيق عملية توريث سلسة وسليمة للأجيال القيادية الحالية والقادمة.
الالتصاق أكثر بهموم الجماهير، والتعبير عن معاناتها وخدمتها، والتغلغل في أوساطها، وتحويل همّ مواجهة المشروع الصهيوني إلى همّ جماهيري يومي.
الإبقاء على جذوة المقاومة والجهاد، وصوت الحقّ الذي لا يتنازل عن فلسطين مهما كانت التضحيات.
لقد أعطت المقاومة الإسلامية في جنوبي لبنان بارقة أمل للمقاومة الفلسطينية، عندما أجبرت العدوّ الصهيوني على الانسحاب دون شروط بعد (22) سنة من الاحتلال.
3) إن الإسلام ينبغي أن يكونَ هو القاعدة التي يستند إليها مشروع التحرير وتتبير المشروع الصهيوني؛ لأنّ الله سبحانه تكفّل بنصر عباده الصادقين، ولأنّ الإسلام هو عقيدة الأمّة، وبه خيرها وفلاحها، ولأنه الأقدر على تعبئة الجماهير وحشد طاقاتها، ولأنّ تجارب التاريخ - سواء في فتح القدس أو تحريرها من الصليبيين والتتار - أثبتت نجاح الحلّ الإسلامي، كما أثبتت تاريخنا الحديث والمعاصر فشل الأيديولوجيات الأخرى.
4) إنّ أبرز معالم الحلّ الإسلامي لقضية فلسطين تتمثّل في:
تبني الإسلام عقيدةً وسلوكاً ومنهج حياة، والحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.
القياد الإسلامية الكفؤة الصادقة هي وحدها المؤهلة لمواجهة المشروع الصهيوني وهزيمته.
توسيع دائرة الصراع مع العدوّ اليهودي الصهيوني، ليشمل العالم الإسلامي بأسره، وعدم قصر هذا الصراع على الدائرة الفلسطينية أو الدائرة القومية العربية؛ لأنّ تحرير فلسطين أصبح فرض عين على كلّ مسلم، ولأنّ الصهاينة اليهود ينفذون مشروعهم بشكلٍ عالمي منظم، فلا بدّ من مواجهة مكافئة ترتقي إلى مستوى التحدي.
دعم شعب فلسطين ومساندته وتأهيله بكافة الوسائل باعتباره خطّ الدفاع الأوّل عن الأمّة الإسلامية؛ حتى يثبت في أرضه، ويستمرّ في صموده وجهاده.
السعي لتحقيق نهضة حضارية تكون مدخلاً للتغيير والارتقاء الإيجابي الشامل في مجتمعاتنا المسلمة سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، حتى يكون المسلمون قادرين ذاتياً على مواجهة تكاليف الجهاد وأعباء التحرير، وتحقيق شروط التمكين والاستخلاف في الأرض وزيادة الإنسانية.
5) إن المسلمين متيقّنون من نصر الله، ومن اقتلاع المشروع اليهودي الصهيوني مهما طال الزمن، فهذا وعد الله سبحانه في فواتح سورة الإسراء: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } [سورة الإسراء: الآية 7]، وهي بشرى نبيه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود)).
وإذا كانت الأخبار تتواتر من فلسطين أنّ اليهود يُكثرون من زراعة شجر الغرقد، فإنّ الأولى بالمسلمين أن يتيقنوا من قول ربهم وبشرى نبيهم، ويشمروا عن ساعد الجدّ، إعداداً لذلك اليوم الذي لا بدّ قادم إن شاء الله.
1) قام التيار الإسلامي بأدوار جهادية لا تُنكر في مواجهة المشروع الصهيوني والقوى الاستعمارية، وقد تميزت الثورات الفلسطينية خلال (1920-1939م) ببُعدها الإسلامي، وبرزت حركة (الجهادية) بقيادة الشيخ القسّام لتقدم نماذج رائعة في المقاومة والجهاد، كما برزت حركة (الجهاد المقدّس) بقيادة عبد القادر الحسيني، وكان لهذه القوى و(للإخوان المسلمين) دور كبير في قيادة العمل الشعبي في حرب (1947-1948م). وإذا كانت (فتح) التي خرجت من أحضان الإخوان المسلمين قد اتخذت بعد ذلك خطاً علمانياً وطنياً، فإنّ الإخوان شاركوا بعد ذلك في معسكرات الشيوخ، كما أنشأوا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في (1987م)، والتي لا تزال تمثل أهم القوى الفلسطينية المجاهدة، المستمرّة في الكفاح المسلّح، الرافض للتنازل عن أيّ جزء من فلسطين.
2) وإذا كان التيار الإسلامي الحركي قد تميز بفعله الجهادي، فإنه لم يتمكن بعد من قيادة الساحة السياسية الفلسطينية. ولا يزال هذا التيار يعاني من محاولات سحق واقتلاع وتشويه وتحييد فلسطينياً وعربياً ودولياً. لكنه لا يزال يمثل نبض هذه الأمّة، وأملها القادم بإذن الله. غير أنه مطالَب في الوقت نفسه بِـ:
التحديد الدقيق لرؤيته المنهجية - المرحلية وبعيدة المدى - لكيفية مواجهة التحدي الصهيوني وتحرير فلسطين.
توسيع دائرة الصراع والتفاعل مع قضية فلسطين ليتجاوز الإطار الإقليمي المحلّي والإطار القومي العربي، وينطلق ليشمل كافّة مسلمي العالم، وتوفير الأدوات والوسائل المكافئة لتحقيق ذلك.
تطوير مؤسساته التنظيمية، وكفاءات قياداته، والانفتاح والاستفادة بشكلٍ أفضل من الكفاءات المتوفّرة، وتحقيق عملية توريث سلسة وسليمة للأجيال القيادية الحالية والقادمة.
الالتصاق أكثر بهموم الجماهير، والتعبير عن معاناتها وخدمتها، والتغلغل في أوساطها، وتحويل همّ مواجهة المشروع الصهيوني إلى همّ جماهيري يومي.
الإبقاء على جذوة المقاومة والجهاد، وصوت الحقّ الذي لا يتنازل عن فلسطين مهما كانت التضحيات.
لقد أعطت المقاومة الإسلامية في جنوبي لبنان بارقة أمل للمقاومة الفلسطينية، عندما أجبرت العدوّ الصهيوني على الانسحاب دون شروط بعد (22) سنة من الاحتلال.
3) إن الإسلام ينبغي أن يكونَ هو القاعدة التي يستند إليها مشروع التحرير وتتبير المشروع الصهيوني؛ لأنّ الله سبحانه تكفّل بنصر عباده الصادقين، ولأنّ الإسلام هو عقيدة الأمّة، وبه خيرها وفلاحها، ولأنه الأقدر على تعبئة الجماهير وحشد طاقاتها، ولأنّ تجارب التاريخ - سواء في فتح القدس أو تحريرها من الصليبيين والتتار - أثبتت نجاح الحلّ الإسلامي، كما أثبتت تاريخنا الحديث والمعاصر فشل الأيديولوجيات الأخرى.
4) إنّ أبرز معالم الحلّ الإسلامي لقضية فلسطين تتمثّل في:
تبني الإسلام عقيدةً وسلوكاً ومنهج حياة، والحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.
القياد الإسلامية الكفؤة الصادقة هي وحدها المؤهلة لمواجهة المشروع الصهيوني وهزيمته.
توسيع دائرة الصراع مع العدوّ اليهودي الصهيوني، ليشمل العالم الإسلامي بأسره، وعدم قصر هذا الصراع على الدائرة الفلسطينية أو الدائرة القومية العربية؛ لأنّ تحرير فلسطين أصبح فرض عين على كلّ مسلم، ولأنّ الصهاينة اليهود ينفذون مشروعهم بشكلٍ عالمي منظم، فلا بدّ من مواجهة مكافئة ترتقي إلى مستوى التحدي.
دعم شعب فلسطين ومساندته وتأهيله بكافة الوسائل باعتباره خطّ الدفاع الأوّل عن الأمّة الإسلامية؛ حتى يثبت في أرضه، ويستمرّ في صموده وجهاده.
السعي لتحقيق نهضة حضارية تكون مدخلاً للتغيير والارتقاء الإيجابي الشامل في مجتمعاتنا المسلمة سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، حتى يكون المسلمون قادرين ذاتياً على مواجهة تكاليف الجهاد وأعباء التحرير، وتحقيق شروط التمكين والاستخلاف في الأرض وزيادة الإنسانية.
5) إن المسلمين متيقّنون من نصر الله، ومن اقتلاع المشروع اليهودي الصهيوني مهما طال الزمن، فهذا وعد الله سبحانه في فواتح سورة الإسراء: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } [سورة الإسراء: الآية 7]، وهي بشرى نبيه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود)).
وإذا كانت الأخبار تتواتر من فلسطين أنّ اليهود يُكثرون من زراعة شجر الغرقد، فإنّ الأولى بالمسلمين أن يتيقنوا من قول ربهم وبشرى نبيهم، ويشمروا عن ساعد الجدّ، إعداداً لذلك اليوم الذي لا بدّ قادم إن شاء الله.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
المبحث الخامس
الخلافة الإسلامية
مخطط البحث
الأول:- تعريف الخلافة لغةً واصطلاحاً
الثاني:- نشأة الخلافة
الثالث:- الخلافة ليست من أصول الدين
الرابع:- من يطلق عليه اسم الخليفة
الخامس:- الفرق بين الخليفة والملك
السادس:- الخلافة اليوم
السابع:- - مَن تكون عنه الخلافة
الثامن:- حكم نصب الخليفة
التاسع:- - شروط أهل الحلّ والعقد
العاشر:- شروط الخليفة
الحادي عشر:- كيف تنعقد الخلافة
1- الطريق الأولى: البيعة
2- الطريق الثاني: العهد
3- الطريق الثالث: القهر والاستيلاء
الثاني عشر:- البيعة وأنواعها
أ / بيعة الصدّيق
ب/ بيعة عمر
جـ/ بيعة عثمان بن عفان
د / بيعة علي بن أبي طالب
الثالث عشر:- واجبات الخليفة
الرابع عشر:- واجبات الأمّة تجاه الخليفة
الخامس عشر:- عزل الخليفة
السادس عشر:- تطوّر الخلافة
أ / في العهد الراشدي
ب/ في العهد الأموي
جـ/ في العهد العباسي
د / في العهد الثاني للدولة العباسية
هـ/ في العهد العثماني
و/ مقرّات الخلافة
ز / ما انطوَت عليه الخلافة من الممالك
السابع عشر:- زوال الخلافة
الثامن عشر: - الخلافة والحضارة
التاسع عشر:- حزب التحرير والخلافة
العشرون:- الإخوان المسلمون والخلافة
الحادي والعشرون:- الإمـارة
أ / واجبات الأمير
ب/ شروط الأمير
جـ/ مدّة الأمير
د / انعقاد الإمارة
هـ/ صلاحيات الأمير
الثاني والعشرون:- ملخص البحث
المبحث الخامس
الخلافة الإسلامية
أولا:- تعريف الخلافة لغةً واصطلاحاً:
معنى الخلافة لغةً: هي في الأصل مصدر خَلَف، يقال: خلفه في قومه يخلِفُه خلافة فهو خليفة، ومنه قوله تعالى: { وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي }.
معنى الخلافة اصطلاحاً: " ثم أطلقت في العرف العام على الزعامة العظمى.
تعريفها: هي الولاية العامة على كافة الأمة، والقيام بأمورها، والنهوض بأعبائها ".
وعند الماوردي: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ".
الخلافة في معناها اللغوي:
فقيل:هوفعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، ويكون المعنى أنه يَخلُفه مَن بعده. وعليه حمل قوله تعالى في حقّ آدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }، على قول مَن قال: إنّ آدم أول مَن عمر الأرض، وخلفه فيها بنوه بعده.
وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، كعليم بمعنى عالم، وقدير بمعنى قادر، ويكون المعنى فيه أنه يخلُفُ مَن بعده، وعليه حمل الآية السابقة - وهي قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } - مَن قال: إنه كان قبل آدم في الأرض الجنّ أو الملائكة، وإنه خلقهم فيها، واختاره أبو جعفر النحاس في كتابه (صناعة الكُتاب)، وعليه اقتصر الماوردي في (الأحكام السلطانية). قال النحاس: وعليه خوطب أبو بكر رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك ينطبق كلام البغوي في شرح السنّة، حيث سُمّي خليفة لأنّه خلَف الماضي قبله، وإطلاق الخليفة على أمير المؤمنين يحتمل الوجهين معاً ".
ثانيا:- نشأة الخلافة:
أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله:
لا شكّ أن أول ما أطلق الاسم في التاريخ الإسلامي على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أول خليفة إسلامي في الوجود، ولم يختلف المسلمون في تسميته بذلك، وإن كان قد ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل استلام الصدّيق للخلافة.
فقد روى أبو داود والترمذي عن سفينة رضي الله عنه قال(الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك)). ورواية أبي داود (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الناس الملك، أو ملكه من يشاء).
ثم قال لي سفينة: أمسك عليك أبا بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي كذا، فوجدناها ثلاثين سنة.
وفي الباب عن عمر وعلي قالا: (لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً).
ثالثا:- الخلافة ليست من أصول الدين:
إن الإسلام لم يجعل (الدولة) أصلاً من أصوله الاعتقادية، ولا ركناً من أركانه، ولا شعيرة من شعائر عباداته الثوابت، حتى تكون هناك مظنة ثباتها على نحو ما لهذه الأصول والأركان والشعائر من ثبات، وتلك قضية اجتمع عليها علماء الإسلام، إذا ما استثنينا (الباطنية، والإمامية).
فالإمام الغزالي يقول: " إن نظرية الإمامة ليست من المهمات، وليست من فنّ المعقولات فيها، بل من الفقهيات (أي من الفروع). والنظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول العقائد، وقسم يتعلق بالفروع، وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، وبرسله، واليوم الآخر، وما عداها فروع، والخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلّق بها - أي في جماع الدولة والسياسة - لا يوجب شيء منه التكفير ".
وإمام الحرمين الجويني (419-478هـ / 1028-1085م) فيقول: إن الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد.
ومعه يتفق الشهرستاني (479-548هـ / 1086-1153م) فيقول: إن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد.
أما القرافي (684هـ/1285م)فإنه يؤصّل تميزالدين-الرسالة- عن الدولة - الإمامة - عندما ينبه على أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الرسالة مبلغ، وفي الإمامة منشئ، وأن لا تلازم بينهما، فتصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة وصف زائد على النبوة.. فكم من رسل الله تعالى على وجه الدهر قد بعثوا بالرسائل الربانية، ولم يطلب منهم غير التبليغ لإقامة الحجة على الخلق، من غير أن يؤمروا في المصالح العامّة ".
وابن تيمية (661-728هـ / 1263-1328م) يقول عنها: " (الإمامة) إنها ليست من أركان الإسلام الخمسة، ولا من أركان الإيمان الستّة، ولا من أركان الإحسان.. ".
وعضد الدين الإيجي (756هـ / 1355م)، والشريف الجرجاني (740-816هـ / 1340-1413م) يقولان: " إن الإمامة ليست من أصول الديانات والعقائد، بل هي من الفروع المتعلقة بأعمال المكلفين.. ".
أما ابن خلدون (732-808هـ / 1232-1406م) فإنه يرفض قبول الشيعة الإمامية بأنّ الإمامة من أركان الدين، ويقول: ".. شبهة الشيعة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين، وليس كذلك، إنما هي من المصالح العامّة المفوضة إلى نظر الخلق ".
ورأس الدولة في منهج الإسلام - ومثله جهازها ومؤسساتها - بَشَر مجتهد، يصيب ويخطئ، وليس معصوماً؛ لأنّه كمجتهد، إنما يبذل جهده البشري.. وفي أول خطاب لأول خليفة في الدولة الإسلامية شهادة الصدق على هذه الحقيقة.. فأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يقول للمسلمين: (إن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوّموني، أطيعوني ما أطعتُ اللهَ فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم، لقد وليت عليكم ولستُ بخيركم... إن رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطاناً يعتريني، فإذا غضبتُ فاجتنبوني أن لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم.. فإن استقمت فأعينوني، وإن زغتُ فقوّموني).
وقد ساق الدكتور محمد عمارة هذه الأقوال جميعاً في كتابه القيم (معالم المنهج الإسلامي).
خلافة النبوة فقط للصدّيق:
حيث أشار السهيلي - رحمه الله - إلى هذه الخاصية العجيبة، خليفة رسول الله، والتي لم تطلق إلاّ على الصدّيق، فقال: " وانظر أيها العبد المأمور بتدبر كتاب الله تعالى لقوله: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا }، كيف كان معهما بالمعنى واللفظ. أما المعنى فكان معهما بالنصر والإرفاد والهداية والإرشاد، وأما اللفظ فإنّ اسم الله تعالى كان يذكر إذا ذكر رسوله، وإذا دعي قيل رسول الله، أو فعل رسول الله، ثم كان لصاحبه كذلك، يقال: يا خليفة رسول الله، وفعل خليفة رسول الله. فكان يذكر معهما بالرسالة والخلافة، ثم ارتفع ذلك فلم يكن لأحد من الخلفاء ولا يكون ".
رابعا:- من يُطلق عليه اسم الخليفة:
" ذهب جماعة من أئمة السلف، منهم أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى كراهة إطلاق اسم الخليفة على مَن بعد الحسن بن علي رضي الله عنهما، فيما رواه النحاس وغيره محتجين بما رواه أبو داود والترمذي من حديث سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك)).
قال سعيد بن جهمان: ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم قال: أمسك خلافة علي وخلافة الحسن، فوجدناها ثلاثين سنة.
الذي عليه العرف العام: والذي عليه العرف المشاع من صدر الإسلام وهلمّ جراً، إطلاق اسم الخليفة على كلّ مَن قام بأمر المسلمين القيام العام على ما تقدّم، إما ببيعة أهل الحلّ والعقد، وإما بعهد ممن قَبله.
رأي آخر لبعض السلف: إلا أنّ بعض السلف قد خصص ذلك بما إذا كان الإمام جارياً على منهاج العدل وطريق الحق، فقد روي أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل طلحة والزبير وكعباً وسلمان عن الفرق بين الخليفة والملك، فقال طلحة والزبير: لا ندري... ".
خامسا:- الفرق بين الخليفة والملك:
" فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى، فقال كعب: ما كنت أحسب أنّ في هذا المجلس من يفرّق بين الخليفة والملك، ولكنّ الله ألهم سلمان حُكماً وعلماً ".
ومن هذا المنطلق نلاحظ ما يسود في الأمّة حين يتحدّثون عن الخلفاء، فيعدّون بعد الخلفاء الأربعة ومعهم الحسن، الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، والخليفة السادس نور الدين الشهيد، والخليفة السابع صلاح الدين الأيوبي، والخليفة الثامن...................، حيث ينظرون إلى أنّ هؤلاء الأربعة اللاحقون هم الذين كانوا خلال أربعة عشر قرناً على منهج الخلفاء الراشدين.
سادسا:- الخلافة اليوم:
غير أنّ حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو حديثٌ صحيح - يتحدّث عن عودة الخلافة للأمّة بعد الخلافة الراشدة،وذلك بعد الملك وملك الجبرية وملك العضوض..هذا الحديث هو( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون،ثمّ يرفعها الله تعالى،ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكا ًعاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى،ثم تكون ملكاً جبرية، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة))... ثم سكت.
ونخلص إلى الرأي في هذا المجال:
" 1- الخلافة منهج وليست سُلطة.
2- الخلافة الراشدة ثلاثون عاماً تحقّق فيها هذا المنهج.
3- هناك أمراء للمسلمين خلال التاريخ كانوا على هذا المنهج، فيمكن أن يُطلق عليهم لقب خليفة، مع ملاحظة أنّهم لم يحكموا الأرض الإسلامية كلها، لكنهم أشبهوا منهج الخلافة الراشدة.
4- ستعود الخلافة الراشدة في آخر الزمان بعد الملك العاض وملك الجبرية، وثم خلافة على منهاج النبوة ".
الخلافة الإسلامية
مخطط البحث
الأول:- تعريف الخلافة لغةً واصطلاحاً
الثاني:- نشأة الخلافة
الثالث:- الخلافة ليست من أصول الدين
الرابع:- من يطلق عليه اسم الخليفة
الخامس:- الفرق بين الخليفة والملك
السادس:- الخلافة اليوم
السابع:- - مَن تكون عنه الخلافة
الثامن:- حكم نصب الخليفة
التاسع:- - شروط أهل الحلّ والعقد
العاشر:- شروط الخليفة
الحادي عشر:- كيف تنعقد الخلافة
1- الطريق الأولى: البيعة
2- الطريق الثاني: العهد
3- الطريق الثالث: القهر والاستيلاء
الثاني عشر:- البيعة وأنواعها
أ / بيعة الصدّيق
ب/ بيعة عمر
جـ/ بيعة عثمان بن عفان
د / بيعة علي بن أبي طالب
الثالث عشر:- واجبات الخليفة
الرابع عشر:- واجبات الأمّة تجاه الخليفة
الخامس عشر:- عزل الخليفة
السادس عشر:- تطوّر الخلافة
أ / في العهد الراشدي
ب/ في العهد الأموي
جـ/ في العهد العباسي
د / في العهد الثاني للدولة العباسية
هـ/ في العهد العثماني
و/ مقرّات الخلافة
ز / ما انطوَت عليه الخلافة من الممالك
السابع عشر:- زوال الخلافة
الثامن عشر: - الخلافة والحضارة
التاسع عشر:- حزب التحرير والخلافة
العشرون:- الإخوان المسلمون والخلافة
الحادي والعشرون:- الإمـارة
أ / واجبات الأمير
ب/ شروط الأمير
جـ/ مدّة الأمير
د / انعقاد الإمارة
هـ/ صلاحيات الأمير
الثاني والعشرون:- ملخص البحث
المبحث الخامس
الخلافة الإسلامية
أولا:- تعريف الخلافة لغةً واصطلاحاً:
معنى الخلافة لغةً: هي في الأصل مصدر خَلَف، يقال: خلفه في قومه يخلِفُه خلافة فهو خليفة، ومنه قوله تعالى: { وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي }.
معنى الخلافة اصطلاحاً: " ثم أطلقت في العرف العام على الزعامة العظمى.
تعريفها: هي الولاية العامة على كافة الأمة، والقيام بأمورها، والنهوض بأعبائها ".
وعند الماوردي: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ".
الخلافة في معناها اللغوي:
فقيل:هوفعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، ويكون المعنى أنه يَخلُفه مَن بعده. وعليه حمل قوله تعالى في حقّ آدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }، على قول مَن قال: إنّ آدم أول مَن عمر الأرض، وخلفه فيها بنوه بعده.
وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، كعليم بمعنى عالم، وقدير بمعنى قادر، ويكون المعنى فيه أنه يخلُفُ مَن بعده، وعليه حمل الآية السابقة - وهي قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } - مَن قال: إنه كان قبل آدم في الأرض الجنّ أو الملائكة، وإنه خلقهم فيها، واختاره أبو جعفر النحاس في كتابه (صناعة الكُتاب)، وعليه اقتصر الماوردي في (الأحكام السلطانية). قال النحاس: وعليه خوطب أبو بكر رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك ينطبق كلام البغوي في شرح السنّة، حيث سُمّي خليفة لأنّه خلَف الماضي قبله، وإطلاق الخليفة على أمير المؤمنين يحتمل الوجهين معاً ".
ثانيا:- نشأة الخلافة:
أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله:
لا شكّ أن أول ما أطلق الاسم في التاريخ الإسلامي على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أول خليفة إسلامي في الوجود، ولم يختلف المسلمون في تسميته بذلك، وإن كان قد ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل استلام الصدّيق للخلافة.
فقد روى أبو داود والترمذي عن سفينة رضي الله عنه قال(الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك)). ورواية أبي داود (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الناس الملك، أو ملكه من يشاء).
ثم قال لي سفينة: أمسك عليك أبا بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي كذا، فوجدناها ثلاثين سنة.
وفي الباب عن عمر وعلي قالا: (لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً).
ثالثا:- الخلافة ليست من أصول الدين:
إن الإسلام لم يجعل (الدولة) أصلاً من أصوله الاعتقادية، ولا ركناً من أركانه، ولا شعيرة من شعائر عباداته الثوابت، حتى تكون هناك مظنة ثباتها على نحو ما لهذه الأصول والأركان والشعائر من ثبات، وتلك قضية اجتمع عليها علماء الإسلام، إذا ما استثنينا (الباطنية، والإمامية).
فالإمام الغزالي يقول: " إن نظرية الإمامة ليست من المهمات، وليست من فنّ المعقولات فيها، بل من الفقهيات (أي من الفروع). والنظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول العقائد، وقسم يتعلق بالفروع، وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، وبرسله، واليوم الآخر، وما عداها فروع، والخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلّق بها - أي في جماع الدولة والسياسة - لا يوجب شيء منه التكفير ".
وإمام الحرمين الجويني (419-478هـ / 1028-1085م) فيقول: إن الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد.
ومعه يتفق الشهرستاني (479-548هـ / 1086-1153م) فيقول: إن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد.
أما القرافي (684هـ/1285م)فإنه يؤصّل تميزالدين-الرسالة- عن الدولة - الإمامة - عندما ينبه على أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الرسالة مبلغ، وفي الإمامة منشئ، وأن لا تلازم بينهما، فتصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة وصف زائد على النبوة.. فكم من رسل الله تعالى على وجه الدهر قد بعثوا بالرسائل الربانية، ولم يطلب منهم غير التبليغ لإقامة الحجة على الخلق، من غير أن يؤمروا في المصالح العامّة ".
وابن تيمية (661-728هـ / 1263-1328م) يقول عنها: " (الإمامة) إنها ليست من أركان الإسلام الخمسة، ولا من أركان الإيمان الستّة، ولا من أركان الإحسان.. ".
وعضد الدين الإيجي (756هـ / 1355م)، والشريف الجرجاني (740-816هـ / 1340-1413م) يقولان: " إن الإمامة ليست من أصول الديانات والعقائد، بل هي من الفروع المتعلقة بأعمال المكلفين.. ".
أما ابن خلدون (732-808هـ / 1232-1406م) فإنه يرفض قبول الشيعة الإمامية بأنّ الإمامة من أركان الدين، ويقول: ".. شبهة الشيعة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين، وليس كذلك، إنما هي من المصالح العامّة المفوضة إلى نظر الخلق ".
ورأس الدولة في منهج الإسلام - ومثله جهازها ومؤسساتها - بَشَر مجتهد، يصيب ويخطئ، وليس معصوماً؛ لأنّه كمجتهد، إنما يبذل جهده البشري.. وفي أول خطاب لأول خليفة في الدولة الإسلامية شهادة الصدق على هذه الحقيقة.. فأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يقول للمسلمين: (إن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوّموني، أطيعوني ما أطعتُ اللهَ فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم، لقد وليت عليكم ولستُ بخيركم... إن رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطاناً يعتريني، فإذا غضبتُ فاجتنبوني أن لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم.. فإن استقمت فأعينوني، وإن زغتُ فقوّموني).
وقد ساق الدكتور محمد عمارة هذه الأقوال جميعاً في كتابه القيم (معالم المنهج الإسلامي).
خلافة النبوة فقط للصدّيق:
حيث أشار السهيلي - رحمه الله - إلى هذه الخاصية العجيبة، خليفة رسول الله، والتي لم تطلق إلاّ على الصدّيق، فقال: " وانظر أيها العبد المأمور بتدبر كتاب الله تعالى لقوله: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا }، كيف كان معهما بالمعنى واللفظ. أما المعنى فكان معهما بالنصر والإرفاد والهداية والإرشاد، وأما اللفظ فإنّ اسم الله تعالى كان يذكر إذا ذكر رسوله، وإذا دعي قيل رسول الله، أو فعل رسول الله، ثم كان لصاحبه كذلك، يقال: يا خليفة رسول الله، وفعل خليفة رسول الله. فكان يذكر معهما بالرسالة والخلافة، ثم ارتفع ذلك فلم يكن لأحد من الخلفاء ولا يكون ".
رابعا:- من يُطلق عليه اسم الخليفة:
" ذهب جماعة من أئمة السلف، منهم أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى كراهة إطلاق اسم الخليفة على مَن بعد الحسن بن علي رضي الله عنهما، فيما رواه النحاس وغيره محتجين بما رواه أبو داود والترمذي من حديث سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الخلافة في أمّتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك)).
قال سعيد بن جهمان: ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم قال: أمسك خلافة علي وخلافة الحسن، فوجدناها ثلاثين سنة.
الذي عليه العرف العام: والذي عليه العرف المشاع من صدر الإسلام وهلمّ جراً، إطلاق اسم الخليفة على كلّ مَن قام بأمر المسلمين القيام العام على ما تقدّم، إما ببيعة أهل الحلّ والعقد، وإما بعهد ممن قَبله.
رأي آخر لبعض السلف: إلا أنّ بعض السلف قد خصص ذلك بما إذا كان الإمام جارياً على منهاج العدل وطريق الحق، فقد روي أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل طلحة والزبير وكعباً وسلمان عن الفرق بين الخليفة والملك، فقال طلحة والزبير: لا ندري... ".
خامسا:- الفرق بين الخليفة والملك:
" فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى، فقال كعب: ما كنت أحسب أنّ في هذا المجلس من يفرّق بين الخليفة والملك، ولكنّ الله ألهم سلمان حُكماً وعلماً ".
ومن هذا المنطلق نلاحظ ما يسود في الأمّة حين يتحدّثون عن الخلفاء، فيعدّون بعد الخلفاء الأربعة ومعهم الحسن، الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، والخليفة السادس نور الدين الشهيد، والخليفة السابع صلاح الدين الأيوبي، والخليفة الثامن...................، حيث ينظرون إلى أنّ هؤلاء الأربعة اللاحقون هم الذين كانوا خلال أربعة عشر قرناً على منهج الخلفاء الراشدين.
سادسا:- الخلافة اليوم:
غير أنّ حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو حديثٌ صحيح - يتحدّث عن عودة الخلافة للأمّة بعد الخلافة الراشدة،وذلك بعد الملك وملك الجبرية وملك العضوض..هذا الحديث هو( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون،ثمّ يرفعها الله تعالى،ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكا ًعاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى،ثم تكون ملكاً جبرية، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة))... ثم سكت.
ونخلص إلى الرأي في هذا المجال:
" 1- الخلافة منهج وليست سُلطة.
2- الخلافة الراشدة ثلاثون عاماً تحقّق فيها هذا المنهج.
3- هناك أمراء للمسلمين خلال التاريخ كانوا على هذا المنهج، فيمكن أن يُطلق عليهم لقب خليفة، مع ملاحظة أنّهم لم يحكموا الأرض الإسلامية كلها، لكنهم أشبهوا منهج الخلافة الراشدة.
4- ستعود الخلافة الراشدة في آخر الزمان بعد الملك العاض وملك الجبرية، وثم خلافة على منهاج النبوة ".
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
سابعا:- مَن تكون عنه الخلافة:
" للعلماء فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنّ الخلافة تكون عن الله تعالى، فيقال في الخليفة خليفة الله، وهو ما حكاه الماوردي في الأحكام السلطانية عن بعضهم لقيامه بحقوقه تعالى في خلقه احتجاجاً بقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ..}،ثم قال:واقتنع كثير من الفقهاء من ذلك، ونسبوا قائله إلى التجوز، محتجين بأنه إنما يستخلف من يغيب أو يموت.
وذكر الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله تعالى - (الأذكار) نحوه. وقال: ينبغي أن لا يقال للقائم بأمر المسلمين: خليفة الله، ويؤيد ذلك ما حكي أنه قيل لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال: لستُ بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأجاز البغوي ذلك في حقّ آدم وداود عليهما السلام دون غيرهما، محتجاً بقول الله تعالى في حقّ آدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }، وبقوله في حقّ داود: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }. ولا يسمى أحد خليفة الله بعدهما. وأجاز الزمخشري في تفسيره ذلك في حقّ الأنبياء عليهم السلام.
المذهب الثاني: أنّ الخلافة تكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال فيه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه خلفه في أمّته، وعليه ينطبق كلام الماوردي في الأحكام السلطانية...
وحيث إنّا اخترنا ابتداء الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للصدّيق فقط، والخلفاء الأربعة بعده يخلف واحد منهم عن الآخر، وأكثر العلماء على رفض - خليفة الله -؛ لأنّ الصدّيق رضي الله عنه رفضها لنفسه، وكان هذا الرفض تشريعاً يقضي على وجود الدولة البثوقراطية في الإسلام، والتي تعطي القداسة لصاحبها فلا يمس. وقضت على أي تأليه للحاكم يجعله فوق المحاسبة، وأكبر من المساءلة. والذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، إنما أطلقوه تجاوزاً لحدود الشرع، أو مبالغات لدولة الشعر، فهذا أبو تمام يقول:
خليفــة الله جــازى الله سـعيك عـن جرثومـة الـدين والإســلام والحسـب
" المذهب الثالث: أنّ الخلافة قد تكون عن الخليفة قبل ذلك الخليفة، فيقال: فلان خليفة فلان، واحداً بعد واحد، حتى ينتهي إلى أبي بكر رضي الله عنه، فيقال فيه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
والظاهر أنّ استمرار هذا اللقب - الخليفة - خلال التاريخ الإسلامي؛ لأنّه أخذ هذا المعنى، وهو الخلافة عن الذي سبقه.
ثامنا:- حكم نصب الخليفة:
يقول الماوردي - رحمه الله -: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع، وإن شذّ عنهم الأصم. واختلف في وجوبها؛ هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟. فقالت طائفة:وجبت بالعقل؛ لِما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم..
وقالت طائفة أخرى: بل وجبت بالشرع دون العقل؛ لأنّ الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزاً في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجباً لها، وإنما أوجب العقل أن يمنع كلّ واحد نفسه من العقلاء عن التظالم والتقاطع.. ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين...
فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها مَن هو أهلها سقط، ففرضها على الكفاية، وإذا لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان؛ أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماماً للأمّة، والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على مَن عدا هذين الفريقين من الأمّة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ".
وهو رأي أبي يعلى الحنبلي، والقلعي من المتأخرين.
وشذّ عن ذلك الخوارج، يقول ابن حزم: " اتفق جميع أهل السنّة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات من الخوارج، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحقّ بينهم ".
ويقول إمام الحرمين الجويني: " ولم يشذّ عن هذا الإجماع، إجماع مَن أشرقت عليه الشمس شارقه وغاربه، واتفقت عليه الأمّة سلفاً وخلفاً سوى نجدة بن عمير من الخوارج، وعبد الرحمن بن كيسان - المعروف بالأصم - من المعتزلة، حيث قالا: لا يجب شرعاً ولا عقلاً إقامة خليفة ".
" وانتصر لهم الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم (في القرن الماضي)، فهو يقرر فيه أنّ الإسلام دين فقط، ولا شأن له بالسياسة ولا بإقامة حاكم عامّ للدولة ".
تاسعا:- شروط أهل الحلّ والعقد:
وهم الذين يقومون باختيار الخليفة، وحتى يكون المسلم ممن يقوم باختيار الخليفة فله شروط استنبطها الفقهاء استنباطاً، ولا نصّ عليها.
يقول الماوردي: " فأمّا أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:
أحدها: العدالة الجامعة لشروطها.
والثاني: العلم الذي يُتوصّل به إلى معرفة مَن يستحقّ الإمامة على الشروط المعتبرة بها.
والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار مَن هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوَم وأعرف، وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها عليه ".
وهو رأي الإمام أبي يعلى الحنبلي.
" ومنهم مَن اشترط الذكورية في أهل الحلّ والعقد؛ لأنّ النساء مأمورات بملازمة الخدور، منهيات عن مباشرة الأمور ومزاحمة الخطوب، فهنّ قليلات الخبرة في هذه الأمور ".
عاشرا:- شروط الخليفة:
وفي استعراض شروط الخليفة في الفقه الإسلامي، نرى أنّها جميعاً اجتهادية، استنبطها الفقهاء من الواقع الإسلامي، وكلّ ذلك قابل للأخذ والردّ فيما لم يرد به نصّ مباشر.
يقول القلقشندي في كتابه (مآثر الإنافة) في شروط الإمامة: وقد اعتبر أصحابنا الشافعية لصحّة عقدها أربعة عشر شرطاً في الإمام:
الأول: الذكورة.
الثاني: البلوغ؛ فلا تنعقد إمامة الصبي؛ لأنّه مولىً عليه، والنظر في أموره إلى غيره، فكيف يجوز أن يكون ناظراً في أمور الأمّة؟ على أنه ربما أخلّ بالأمور قصداً، لعلمه بعدم التكليف.
الثالث: العقل؛ فلا تنعقد إمامة ذاهب العقل بجنون أو غيره؛ لأنّ العقل آلة التدبير، فإذا فاتَ العقل فاتَ التدبير.
الرابـع: البصر؛ فلا تنعقد إمامة الأعمى؛ لأنّه إذا منع ولاية القضاء، فمنعه صحة الإمامة أَوْلى...
الخامس: السمع؛ فلا تنعقد إمامة الأصم، وهو الذي لا يسمع البتة، ولأنّه يتعذّر عليه بذلك سماع مصالح المسلمين.
السادس: النطق؛ فلا تنعقد إمامة الأخرس؛ لِما في ذلك من فوات مصالح الأمّة بعدم القدرة على النطق عند الخطاب...
السابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض؛ فلا تنعقد إمامة مَن ذهبت يداه أو رِجلاه..
الثـامن: الحرية؛ فلا تنعقد إمامة مَن فيه رِقٌّ؛ لأنّ الرقيق محجور للسيد، فأموره تصدر عن رأي غيره.
التاسع: الإسلام؛ فلا تنعقد إمامة الكافر على أيّ أنواع الكفر، أصلياً كان أو مرتدّاً...
العاشر: العدالة؛ فلا تنعقد إمامة الفاسق، وهو المتابع لهواه المؤثر لشهوته...
الحادي عشر: الشجاعة والنجدة؛ فلا تنعقد إمامة الجبان؛ لأنّه محتاج إلى الشجاعة ليتوصّل إلى حماية البيضة وجهاد العدوّ اللّذَين هما جلّ المطلوب من نصب الإمام.
الثاني عشر: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام؛ فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك...
الثالث عشر: صحة الرأي والتدين؛ فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي؛ لأنّ الحوادث التي تكون في دار الإسلام ترفع إليه...
الرابع عشر: النسب؛ فلا تنعقد الإمامة بدونه، والمراد أن يكون من قريش، وهم بنو النضر بن كنانة، ففي الصحيحين من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)).
لكنّ الإمام أبا يعلى الحنبلي اختصرها بأربعة شروط، فقال:
أحدها: أن يكون قرشياً في الصميم، وهو مَن كان من ولد قريش.
الثـاني: أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضياً من الحرية والبلوغ والعقل والعلم والعدالة.
الثالث: أن يكونَ فيما يأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود، لا تلحقه رأفة في ذلك.
الرابـع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين.
ونلاحظ أنه في الشرط الرابع قد ذكر خمسة شروط، بحيث تصبح الشروط حقيقة عندهم عشرة. ثم يتبع بعدها الموانع من زوال العقل، وذهاب البصر، والصمم، وعدم سلامة الأعضاء، والخرس.. وبذلك تتطابق الشروط عند الفريقين من الشافعية والحنابلة.
الحادي عشر:- كيف تنعقد الخلافة؟
يقول القلقشندي في بيان الطرق التي تنعقد بها الخلافة، ولها ثلاث طرائق تترتب على كلّ طريق منها جملة من الأحكام:
الطريق الأول: البيعة، وهي أن يجتمع أهل الحلّ والعقد، ويعتقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها. ويتأتّى ذلك في موضعين:
- أحدهما: أن يموت الخليفة الذي كان منصباً عن غير أحد إلى أحد بعده.
- الثــاني: أن يخلع الخليفة نفسه، أو يخلعه أهل الحلّ والعقد لموجب اقتضى خلعه، أو خلع أهل الحلّ والعقد له، ولذلك حالتان:
الحالة الأولى: أن يتعدد من اجتمع فيه شروط الإمامة، فيختار أهل الحلّ والعقد واحداً منهم يقوم بأمر الإمامة وينهض بأعبائها، وعلى ذلك كانت خلافة الصدّيق...
واعلم أنّ لصحّة عقد البيعة خمس شروط:
الأول: أن يجتمع في المأخوذ له البيعة شروط الإمامة المتقدّمة الذِّكر..
الثـاني: أن يكون المتولي لعقد البيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس...
الثالث:أن يجيب المبايع إلى البيعة،حتى لوامتنع لم تنعقد إمامته، ولم يُجبر عليها. قال النووي في
الروضة:إلا أن يكون مَن لا يصلح للإمامة إل واحد، فيُجبر بلا خلاف.
الرابـع: الإشهاد على المبايعة فيما إذا كان العاقد واحداً.
الخامس: أن يتحد المعقود له، بأن لا تُعقد البيعة لأكثر من واحد. واحتجّ له بما رواه مسلم في صحيحه
من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)).
في رواية له من حديث عرفة بن شريح قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مَن أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) ".
فيمن تنعقد به البيعة منهم سبعة مذاهب:
الأول: أنها لا تنعقد إلا بأهل الحلّ والعقد من كلّ بلد، ليكون الرضى عامّاً.
الثاني: أنّ أقلّ مَن تنعقد به أربعون لا دونهم؛ لأنّ عقد الإمامة فوق عقد الجمعة.
الثالث: أقلّ مَن تنعقد به خمسة يجتمعون على عقدها؛ لأنّ بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة.
الرابع: تنعقد بأربعة؛ لأنّ الشهادة في الزنا تقوم بأربعة، فكذلك الإمامة.
الخامس: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين الآخرَين؛ ليكونا حاكماً وشاهِدَين.
السادس: تنعقد باثنين؛ لأنّ رتبة الخلافة لا تنقص عن رتبة الحكومات، والحاكم لا يلزمه خصم حقّ صاحبه إلا بشهادة اثنين.
السـابع: تنعقد بواحد؛ لِما روي أنّ العباس قال لعلي: امدد يدك أُبايعك، فيقول الناس: عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن أخيه فلا يختلف فيه اثنان. وقد قيل إنّ بيعة الصدّيق رضي الله عنه انعقدت ببيعة عمر وحده.
والثامن: - وهو الأصحّ عند أصحابنا الشافعية - أنها تنعقد بمن تيسر حضوره وقت المبايعة في ذلك الموضع من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس ".
ترجيح أكثرية أهل الحلّ والعقد:
أما الحنابلة فاختاروا أكثرية أهل الحلّ والعقد من بين هذه الوجوه جميعاً.
يقول الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي: " فأما انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحلّ والعقد.
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: الإمام الذي يجتمع قول أهل الحلّ والعقد عليه كلّهم بقول: هذا إمام ".
والذي يدعونا إلى الترجيح لهذا الوجه هو ما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه في حديثه عن بيعة أبي بكر والظروف التي تَمّت بها، حيث ينتهي بعد خطبته إلى اعتبار رأي الجمهور. في الأمة هو الأصل. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيتَ رجلاً أتى أميرَ المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعتُ فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت.
فغضب عمر فقال: إنّي إن شاء الله قائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.
قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطيّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلتَ متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.
فقال عمر: أما والله - إن شاء الله - لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.. ".
لقد أوضح هذا النصّ ابتداءً مَن هم أهل الحلّ والعقد كما سماهم النص (أهل الفقه وأشراف الناس)، إنهم بتعبيرنا المعاصر أهل الاختصاص ورؤساء الأمّة وقادتها. هم قادة الدين والدنيا.
وفي الرواية الأخرى: (فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار).
وفي رواية ثالثة: (فتخلص لأهل الفقه وأشراف الناس وذوي رأيهم).
وهكذا نرى أنّ أهل الحلّ والعقد من خلال هذا النصّ هم:
1- أهل الفقه: (العلماء) وأهل الاختصاص.
2- أشراف الناس: هم رؤساء الناس وقياداتهم.
3- ذوو رأيهم: وهم المفكرون والسياسيون.
ونعود ثانية إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه إذ يقول: (... فقدِمنا المدينة، فقال...
ثم إنّه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعتُ فلاناً، فلا يفترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر..).
والمعنى الثاني الذي نفقهه من مقالة عمر رضي الله عنه: أنه لا يقاس بالبيعة على بيعة الصدّيق، التي تمت خلال ساعات، (وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر).
وهذا يعني أنه ليس في الساحة من المرشحين للخلافة من يقاس بأبي بكر، ويمكن أن يطاع الطاعة التامة غيره، فهو سيد المرسلين بلا منازع، ولم يتجرأ مسلم أن يتقدّم عليه، وطأطأت الأعناق له. فالاستثناء يقاس على الاستثناء، وعندما يكون مرشح للخلافة تجمع الأمّة عليه ولا تقدّم أحداً عليه، فيمكن أن يقاس في عصره بأبي بكر في عصره، بحيث لا يدور............. أحد أن يكون نداً له، لا يكون لعدد المبايعين أهمية تذكر سيان كانوا واحداً أو اثنين أو مائة؛ لأنّه المرشح الوحيد بلا منازع.
ثم ختم عمر رضي الله عنه حديثه بقوله: (ومن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو والذي بايعه....... أن يقتلا). وهو من أخطر المعاني التي طرحها الفاروق رضي الله عنه.
فالذي يريد أن ينفرد بالسلطة بالقوة ويفوز بالخلافة بالأقلية حكمه أن يقتل هو ومن يبايعه، إنما الأمر شورى بين المسلمين، وأهل الشورى هم المذكورون في النصّ السابق، فهم أصحاب القرار والرأي، (أهل الفقه ورؤساء الناس وذوو رأيهم).
ونخلص إلى أن الرأي المرجح في اختيار الخليفة بناءً على هذا النص هم جمهور أهل الحلّ والعقد. وهو الرأي الذي تبناه الإمام أحمد والحنابلة من بعده. وإذن، فتنعقد البيعة ببيعة جمهور أهل الرأي أو أهل الحلّ والعقد في الأمة.
الطريق الثاني: العهد.
" والطريق الثاني من الطرق الذي تنعقد به الإمامة: العهد، وهو أن يعهد الخليفة المستقرّ إلى غيره ممن استجمع شرائط الخلافة بالخلافة بعده، فإذا مات العاهد انتقلت الخلافة بعد موته إلى المعهود إليه، ولا يحتاج مع ذلك إلى تجديد بيعة من أهل الحلّ والعقد. ولذلك حالتان:
- الحالة الأولى: أن يتحد المعهود إليه بأن يعهد بالخلافة بعده إلى واحد فقط. فيجب الاقتصار عليه. والأصل في ذلك ما روي أنه لما مرض أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه، دعا عثمان بن عفان - وهو يومئذٍ كاتبه - فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟. قال: اكتب: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة أني استخلفتُ عليكم... ثم رهقته عينه فنام. فكتب - أي عثمان - عمر بن الخطاب، ثم استيقظ أبو بكر فقال: هل كتبتَ شيئاً؟. قلت: نعم، كتبتُ عمر بن الخطاب، فقال: أما إنك لو كتبتَ نفسك لكنتَ لها أهلاً، ولكن اكتب: استخلفتُ عليكم عمر بن الخطاب، فإنْ برَّ وعدل فذلك ظني به، وإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب، والخير أردت لكم، ولكلّ امرئٍ ما اكتسب من الإثم، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }. ثم دخل عليه عمر، فعرّفه ذلك، فأبى أن يقبل، فتهدّده أبو بكر رضي الله عنه، وقال: هاتوا سيفي، فقبِل، ثمّ خرج من عنده، فدخل عليه طلحة، فبكى ولامه على توليه عمر، فانتهره أبو بكر وقال: والله إن عمر لخير لكم، وأنتم شرّ له، أتيت وقد وكفت عينك تريد أن تصدّني عن ديني، وتردّني عن رأيي، قم لا أقام الله رِجلك...
- الحالة الثانية: أن يتعدّد المعهود إليه بأن يكون اثنين فأكثر من أهل الإمامة، وهو على ضربين:
الضرب الأول: أن يجعلها الخليفة شورى بينهم، لم يقدم فيها أحد منهم على الآخر، فيختار أهل الحلّ والعقد بعد موت العاهد واحداً من المعهود إليهم، أو يخرج الجميع أنفسهم من العهد، ويبقى واحد منهم، والأصل في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من رواية عمرو بن ميمون الأودي، أنّه لما طُعِن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: أوصِ يا أميرَ المؤمنين، استخلِف، قال: ما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فعدّ عليّاً وعثمانَ والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وأنّه لما قبض وفرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلتُ أمري إلى علي، وقال طلحة: قد جعلتُ أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلتُ أمري إلى عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن بن عوف: أيّكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه واللهُ عليه والإسلام لينظرنّ أفضلهم في نفسه. فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلوه إليّ؟. واللهُ عليّ أن لا آلو عن أفضلكم؟. قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما وقال: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، واللهُ عليك لئن أمَّرتُك لتعدلنّ، ولئن أمّرتُ عثمان لتسمعنّ ولتطيعنّ. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك. فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايع له علي، وولج أهل النار فبايعوه ".
الطريق الثالث: القهر والاستيلاء.
" من الطرق التي تنعقد بها الإمامة: القهر والاستيلاء. فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدّم، ولا بيعة من أهل الحلّ والعقد، انعقدت إمامته لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم، وإن لم يكن جامعاً لشرائط الخلافة بأن كان فاسقاً أو جاهلاً فوجهان لأصحابنا الشافعية، أصحهما: انعقاد إمامته أيضاً.
والثاني: لا تنعقد إمامته؛ لأنّه لا تنعقد له الإمامة بالبيعة إلا باستكمال الشروط، فكذا بالقهر ".
ولا شكّ أن الطريق الثالث هو الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الملك، وأحياناً فصله أكثر بالملك العاضّ، والملك الجبرية، الذي يقوم على القهر والاستيلاء، ولا يقوم على البيعة، ولا يدخل في إطار التعريف النبوي للخلافة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وهي الخلافة الراشدة، وحدّدها بثلاثين عاماً.
" للعلماء فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنّ الخلافة تكون عن الله تعالى، فيقال في الخليفة خليفة الله، وهو ما حكاه الماوردي في الأحكام السلطانية عن بعضهم لقيامه بحقوقه تعالى في خلقه احتجاجاً بقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ..}،ثم قال:واقتنع كثير من الفقهاء من ذلك، ونسبوا قائله إلى التجوز، محتجين بأنه إنما يستخلف من يغيب أو يموت.
وذكر الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله تعالى - (الأذكار) نحوه. وقال: ينبغي أن لا يقال للقائم بأمر المسلمين: خليفة الله، ويؤيد ذلك ما حكي أنه قيل لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال: لستُ بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأجاز البغوي ذلك في حقّ آدم وداود عليهما السلام دون غيرهما، محتجاً بقول الله تعالى في حقّ آدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }، وبقوله في حقّ داود: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }. ولا يسمى أحد خليفة الله بعدهما. وأجاز الزمخشري في تفسيره ذلك في حقّ الأنبياء عليهم السلام.
المذهب الثاني: أنّ الخلافة تكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال فيه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه خلفه في أمّته، وعليه ينطبق كلام الماوردي في الأحكام السلطانية...
وحيث إنّا اخترنا ابتداء الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للصدّيق فقط، والخلفاء الأربعة بعده يخلف واحد منهم عن الآخر، وأكثر العلماء على رفض - خليفة الله -؛ لأنّ الصدّيق رضي الله عنه رفضها لنفسه، وكان هذا الرفض تشريعاً يقضي على وجود الدولة البثوقراطية في الإسلام، والتي تعطي القداسة لصاحبها فلا يمس. وقضت على أي تأليه للحاكم يجعله فوق المحاسبة، وأكبر من المساءلة. والذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، إنما أطلقوه تجاوزاً لحدود الشرع، أو مبالغات لدولة الشعر، فهذا أبو تمام يقول:
خليفــة الله جــازى الله سـعيك عـن جرثومـة الـدين والإســلام والحسـب
" المذهب الثالث: أنّ الخلافة قد تكون عن الخليفة قبل ذلك الخليفة، فيقال: فلان خليفة فلان، واحداً بعد واحد، حتى ينتهي إلى أبي بكر رضي الله عنه، فيقال فيه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
والظاهر أنّ استمرار هذا اللقب - الخليفة - خلال التاريخ الإسلامي؛ لأنّه أخذ هذا المعنى، وهو الخلافة عن الذي سبقه.
ثامنا:- حكم نصب الخليفة:
يقول الماوردي - رحمه الله -: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمّة واجب بالإجماع، وإن شذّ عنهم الأصم. واختلف في وجوبها؛ هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟. فقالت طائفة:وجبت بالعقل؛ لِما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم..
وقالت طائفة أخرى: بل وجبت بالشرع دون العقل؛ لأنّ الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزاً في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجباً لها، وإنما أوجب العقل أن يمنع كلّ واحد نفسه من العقلاء عن التظالم والتقاطع.. ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين...
فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها مَن هو أهلها سقط، ففرضها على الكفاية، وإذا لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان؛ أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماماً للأمّة، والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على مَن عدا هذين الفريقين من الأمّة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ".
وهو رأي أبي يعلى الحنبلي، والقلعي من المتأخرين.
وشذّ عن ذلك الخوارج، يقول ابن حزم: " اتفق جميع أهل السنّة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاشا النجدات من الخوارج، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحقّ بينهم ".
ويقول إمام الحرمين الجويني: " ولم يشذّ عن هذا الإجماع، إجماع مَن أشرقت عليه الشمس شارقه وغاربه، واتفقت عليه الأمّة سلفاً وخلفاً سوى نجدة بن عمير من الخوارج، وعبد الرحمن بن كيسان - المعروف بالأصم - من المعتزلة، حيث قالا: لا يجب شرعاً ولا عقلاً إقامة خليفة ".
" وانتصر لهم الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم (في القرن الماضي)، فهو يقرر فيه أنّ الإسلام دين فقط، ولا شأن له بالسياسة ولا بإقامة حاكم عامّ للدولة ".
تاسعا:- شروط أهل الحلّ والعقد:
وهم الذين يقومون باختيار الخليفة، وحتى يكون المسلم ممن يقوم باختيار الخليفة فله شروط استنبطها الفقهاء استنباطاً، ولا نصّ عليها.
يقول الماوردي: " فأمّا أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:
أحدها: العدالة الجامعة لشروطها.
والثاني: العلم الذي يُتوصّل به إلى معرفة مَن يستحقّ الإمامة على الشروط المعتبرة بها.
والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار مَن هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوَم وأعرف، وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها عليه ".
وهو رأي الإمام أبي يعلى الحنبلي.
" ومنهم مَن اشترط الذكورية في أهل الحلّ والعقد؛ لأنّ النساء مأمورات بملازمة الخدور، منهيات عن مباشرة الأمور ومزاحمة الخطوب، فهنّ قليلات الخبرة في هذه الأمور ".
عاشرا:- شروط الخليفة:
وفي استعراض شروط الخليفة في الفقه الإسلامي، نرى أنّها جميعاً اجتهادية، استنبطها الفقهاء من الواقع الإسلامي، وكلّ ذلك قابل للأخذ والردّ فيما لم يرد به نصّ مباشر.
يقول القلقشندي في كتابه (مآثر الإنافة) في شروط الإمامة: وقد اعتبر أصحابنا الشافعية لصحّة عقدها أربعة عشر شرطاً في الإمام:
الأول: الذكورة.
الثاني: البلوغ؛ فلا تنعقد إمامة الصبي؛ لأنّه مولىً عليه، والنظر في أموره إلى غيره، فكيف يجوز أن يكون ناظراً في أمور الأمّة؟ على أنه ربما أخلّ بالأمور قصداً، لعلمه بعدم التكليف.
الثالث: العقل؛ فلا تنعقد إمامة ذاهب العقل بجنون أو غيره؛ لأنّ العقل آلة التدبير، فإذا فاتَ العقل فاتَ التدبير.
الرابـع: البصر؛ فلا تنعقد إمامة الأعمى؛ لأنّه إذا منع ولاية القضاء، فمنعه صحة الإمامة أَوْلى...
الخامس: السمع؛ فلا تنعقد إمامة الأصم، وهو الذي لا يسمع البتة، ولأنّه يتعذّر عليه بذلك سماع مصالح المسلمين.
السادس: النطق؛ فلا تنعقد إمامة الأخرس؛ لِما في ذلك من فوات مصالح الأمّة بعدم القدرة على النطق عند الخطاب...
السابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض؛ فلا تنعقد إمامة مَن ذهبت يداه أو رِجلاه..
الثـامن: الحرية؛ فلا تنعقد إمامة مَن فيه رِقٌّ؛ لأنّ الرقيق محجور للسيد، فأموره تصدر عن رأي غيره.
التاسع: الإسلام؛ فلا تنعقد إمامة الكافر على أيّ أنواع الكفر، أصلياً كان أو مرتدّاً...
العاشر: العدالة؛ فلا تنعقد إمامة الفاسق، وهو المتابع لهواه المؤثر لشهوته...
الحادي عشر: الشجاعة والنجدة؛ فلا تنعقد إمامة الجبان؛ لأنّه محتاج إلى الشجاعة ليتوصّل إلى حماية البيضة وجهاد العدوّ اللّذَين هما جلّ المطلوب من نصب الإمام.
الثاني عشر: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام؛ فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك...
الثالث عشر: صحة الرأي والتدين؛ فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي؛ لأنّ الحوادث التي تكون في دار الإسلام ترفع إليه...
الرابع عشر: النسب؛ فلا تنعقد الإمامة بدونه، والمراد أن يكون من قريش، وهم بنو النضر بن كنانة، ففي الصحيحين من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)).
لكنّ الإمام أبا يعلى الحنبلي اختصرها بأربعة شروط، فقال:
أحدها: أن يكون قرشياً في الصميم، وهو مَن كان من ولد قريش.
الثـاني: أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضياً من الحرية والبلوغ والعقل والعلم والعدالة.
الثالث: أن يكونَ فيما يأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود، لا تلحقه رأفة في ذلك.
الرابـع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين.
ونلاحظ أنه في الشرط الرابع قد ذكر خمسة شروط، بحيث تصبح الشروط حقيقة عندهم عشرة. ثم يتبع بعدها الموانع من زوال العقل، وذهاب البصر، والصمم، وعدم سلامة الأعضاء، والخرس.. وبذلك تتطابق الشروط عند الفريقين من الشافعية والحنابلة.
الحادي عشر:- كيف تنعقد الخلافة؟
يقول القلقشندي في بيان الطرق التي تنعقد بها الخلافة، ولها ثلاث طرائق تترتب على كلّ طريق منها جملة من الأحكام:
الطريق الأول: البيعة، وهي أن يجتمع أهل الحلّ والعقد، ويعتقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها. ويتأتّى ذلك في موضعين:
- أحدهما: أن يموت الخليفة الذي كان منصباً عن غير أحد إلى أحد بعده.
- الثــاني: أن يخلع الخليفة نفسه، أو يخلعه أهل الحلّ والعقد لموجب اقتضى خلعه، أو خلع أهل الحلّ والعقد له، ولذلك حالتان:
الحالة الأولى: أن يتعدد من اجتمع فيه شروط الإمامة، فيختار أهل الحلّ والعقد واحداً منهم يقوم بأمر الإمامة وينهض بأعبائها، وعلى ذلك كانت خلافة الصدّيق...
واعلم أنّ لصحّة عقد البيعة خمس شروط:
الأول: أن يجتمع في المأخوذ له البيعة شروط الإمامة المتقدّمة الذِّكر..
الثـاني: أن يكون المتولي لعقد البيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس...
الثالث:أن يجيب المبايع إلى البيعة،حتى لوامتنع لم تنعقد إمامته، ولم يُجبر عليها. قال النووي في
الروضة:إلا أن يكون مَن لا يصلح للإمامة إل واحد، فيُجبر بلا خلاف.
الرابـع: الإشهاد على المبايعة فيما إذا كان العاقد واحداً.
الخامس: أن يتحد المعقود له، بأن لا تُعقد البيعة لأكثر من واحد. واحتجّ له بما رواه مسلم في صحيحه
من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)).
في رواية له من حديث عرفة بن شريح قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مَن أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) ".
فيمن تنعقد به البيعة منهم سبعة مذاهب:
الأول: أنها لا تنعقد إلا بأهل الحلّ والعقد من كلّ بلد، ليكون الرضى عامّاً.
الثاني: أنّ أقلّ مَن تنعقد به أربعون لا دونهم؛ لأنّ عقد الإمامة فوق عقد الجمعة.
الثالث: أقلّ مَن تنعقد به خمسة يجتمعون على عقدها؛ لأنّ بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة.
الرابع: تنعقد بأربعة؛ لأنّ الشهادة في الزنا تقوم بأربعة، فكذلك الإمامة.
الخامس: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين الآخرَين؛ ليكونا حاكماً وشاهِدَين.
السادس: تنعقد باثنين؛ لأنّ رتبة الخلافة لا تنقص عن رتبة الحكومات، والحاكم لا يلزمه خصم حقّ صاحبه إلا بشهادة اثنين.
السـابع: تنعقد بواحد؛ لِما روي أنّ العباس قال لعلي: امدد يدك أُبايعك، فيقول الناس: عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن أخيه فلا يختلف فيه اثنان. وقد قيل إنّ بيعة الصدّيق رضي الله عنه انعقدت ببيعة عمر وحده.
والثامن: - وهو الأصحّ عند أصحابنا الشافعية - أنها تنعقد بمن تيسر حضوره وقت المبايعة في ذلك الموضع من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس ".
ترجيح أكثرية أهل الحلّ والعقد:
أما الحنابلة فاختاروا أكثرية أهل الحلّ والعقد من بين هذه الوجوه جميعاً.
يقول الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي: " فأما انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحلّ والعقد.
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: الإمام الذي يجتمع قول أهل الحلّ والعقد عليه كلّهم بقول: هذا إمام ".
والذي يدعونا إلى الترجيح لهذا الوجه هو ما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه في حديثه عن بيعة أبي بكر والظروف التي تَمّت بها، حيث ينتهي بعد خطبته إلى اعتبار رأي الجمهور. في الأمة هو الأصل. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيتَ رجلاً أتى أميرَ المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعتُ فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت.
فغضب عمر فقال: إنّي إن شاء الله قائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.
قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطيّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلتَ متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.
فقال عمر: أما والله - إن شاء الله - لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.. ".
لقد أوضح هذا النصّ ابتداءً مَن هم أهل الحلّ والعقد كما سماهم النص (أهل الفقه وأشراف الناس)، إنهم بتعبيرنا المعاصر أهل الاختصاص ورؤساء الأمّة وقادتها. هم قادة الدين والدنيا.
وفي الرواية الأخرى: (فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار).
وفي رواية ثالثة: (فتخلص لأهل الفقه وأشراف الناس وذوي رأيهم).
وهكذا نرى أنّ أهل الحلّ والعقد من خلال هذا النصّ هم:
1- أهل الفقه: (العلماء) وأهل الاختصاص.
2- أشراف الناس: هم رؤساء الناس وقياداتهم.
3- ذوو رأيهم: وهم المفكرون والسياسيون.
ونعود ثانية إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه إذ يقول: (... فقدِمنا المدينة، فقال...
ثم إنّه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعتُ فلاناً، فلا يفترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر..).
والمعنى الثاني الذي نفقهه من مقالة عمر رضي الله عنه: أنه لا يقاس بالبيعة على بيعة الصدّيق، التي تمت خلال ساعات، (وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر).
وهذا يعني أنه ليس في الساحة من المرشحين للخلافة من يقاس بأبي بكر، ويمكن أن يطاع الطاعة التامة غيره، فهو سيد المرسلين بلا منازع، ولم يتجرأ مسلم أن يتقدّم عليه، وطأطأت الأعناق له. فالاستثناء يقاس على الاستثناء، وعندما يكون مرشح للخلافة تجمع الأمّة عليه ولا تقدّم أحداً عليه، فيمكن أن يقاس في عصره بأبي بكر في عصره، بحيث لا يدور............. أحد أن يكون نداً له، لا يكون لعدد المبايعين أهمية تذكر سيان كانوا واحداً أو اثنين أو مائة؛ لأنّه المرشح الوحيد بلا منازع.
ثم ختم عمر رضي الله عنه حديثه بقوله: (ومن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو والذي بايعه....... أن يقتلا). وهو من أخطر المعاني التي طرحها الفاروق رضي الله عنه.
فالذي يريد أن ينفرد بالسلطة بالقوة ويفوز بالخلافة بالأقلية حكمه أن يقتل هو ومن يبايعه، إنما الأمر شورى بين المسلمين، وأهل الشورى هم المذكورون في النصّ السابق، فهم أصحاب القرار والرأي، (أهل الفقه ورؤساء الناس وذوو رأيهم).
ونخلص إلى أن الرأي المرجح في اختيار الخليفة بناءً على هذا النص هم جمهور أهل الحلّ والعقد. وهو الرأي الذي تبناه الإمام أحمد والحنابلة من بعده. وإذن، فتنعقد البيعة ببيعة جمهور أهل الرأي أو أهل الحلّ والعقد في الأمة.
الطريق الثاني: العهد.
" والطريق الثاني من الطرق الذي تنعقد به الإمامة: العهد، وهو أن يعهد الخليفة المستقرّ إلى غيره ممن استجمع شرائط الخلافة بالخلافة بعده، فإذا مات العاهد انتقلت الخلافة بعد موته إلى المعهود إليه، ولا يحتاج مع ذلك إلى تجديد بيعة من أهل الحلّ والعقد. ولذلك حالتان:
- الحالة الأولى: أن يتحد المعهود إليه بأن يعهد بالخلافة بعده إلى واحد فقط. فيجب الاقتصار عليه. والأصل في ذلك ما روي أنه لما مرض أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه، دعا عثمان بن عفان - وهو يومئذٍ كاتبه - فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟. قال: اكتب: هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله آخر عهده بالدنيا وأوّل عهده بالآخرة أني استخلفتُ عليكم... ثم رهقته عينه فنام. فكتب - أي عثمان - عمر بن الخطاب، ثم استيقظ أبو بكر فقال: هل كتبتَ شيئاً؟. قلت: نعم، كتبتُ عمر بن الخطاب، فقال: أما إنك لو كتبتَ نفسك لكنتَ لها أهلاً، ولكن اكتب: استخلفتُ عليكم عمر بن الخطاب، فإنْ برَّ وعدل فذلك ظني به، وإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب، والخير أردت لكم، ولكلّ امرئٍ ما اكتسب من الإثم، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }. ثم دخل عليه عمر، فعرّفه ذلك، فأبى أن يقبل، فتهدّده أبو بكر رضي الله عنه، وقال: هاتوا سيفي، فقبِل، ثمّ خرج من عنده، فدخل عليه طلحة، فبكى ولامه على توليه عمر، فانتهره أبو بكر وقال: والله إن عمر لخير لكم، وأنتم شرّ له، أتيت وقد وكفت عينك تريد أن تصدّني عن ديني، وتردّني عن رأيي، قم لا أقام الله رِجلك...
- الحالة الثانية: أن يتعدّد المعهود إليه بأن يكون اثنين فأكثر من أهل الإمامة، وهو على ضربين:
الضرب الأول: أن يجعلها الخليفة شورى بينهم، لم يقدم فيها أحد منهم على الآخر، فيختار أهل الحلّ والعقد بعد موت العاهد واحداً من المعهود إليهم، أو يخرج الجميع أنفسهم من العهد، ويبقى واحد منهم، والأصل في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من رواية عمرو بن ميمون الأودي، أنّه لما طُعِن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: أوصِ يا أميرَ المؤمنين، استخلِف، قال: ما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فعدّ عليّاً وعثمانَ والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وأنّه لما قبض وفرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلتُ أمري إلى علي، وقال طلحة: قد جعلتُ أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلتُ أمري إلى عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن بن عوف: أيّكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه واللهُ عليه والإسلام لينظرنّ أفضلهم في نفسه. فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلوه إليّ؟. واللهُ عليّ أن لا آلو عن أفضلكم؟. قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما وقال: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، واللهُ عليك لئن أمَّرتُك لتعدلنّ، ولئن أمّرتُ عثمان لتسمعنّ ولتطيعنّ. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك. فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايع له علي، وولج أهل النار فبايعوه ".
الطريق الثالث: القهر والاستيلاء.
" من الطرق التي تنعقد بها الإمامة: القهر والاستيلاء. فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدّم، ولا بيعة من أهل الحلّ والعقد، انعقدت إمامته لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم، وإن لم يكن جامعاً لشرائط الخلافة بأن كان فاسقاً أو جاهلاً فوجهان لأصحابنا الشافعية، أصحهما: انعقاد إمامته أيضاً.
والثاني: لا تنعقد إمامته؛ لأنّه لا تنعقد له الإمامة بالبيعة إلا باستكمال الشروط، فكذا بالقهر ".
ولا شكّ أن الطريق الثالث هو الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الملك، وأحياناً فصله أكثر بالملك العاضّ، والملك الجبرية، الذي يقوم على القهر والاستيلاء، ولا يقوم على البيعة، ولا يدخل في إطار التعريف النبوي للخلافة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وهي الخلافة الراشدة، وحدّدها بثلاثين عاماً.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
الثاني عشر:- البيعة وأنواعها:
لا بدّ من الوقوف ملياً عند البيعة، التي تعتبر الأساس بانعقاد الخلافة بأية طريقة كانت. سبق أن عرفنا البيعة من قبل كما ذكر القلقشندي.
البيعة: وهي أن يجتمع أهل الحلّ والعقد، ويعقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها. ونستطيع أن نقول: إنّ الخلافة الراشدة كلّها قامت على بيعة أهل الحلّ والعقد للخليفة رغم اختلاف طرائق هذه البيعة، وكلّها تمت بأكثرية أهل العقد، وليست بواحد أو اثنين أو خمسة كما تذكر بعض الآراء.
أ / بيعة الصدّيق رضي الله عنه:
أخرج النسائي من حديث سالم بن عبيد الله قال: (فاجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا الأنصار، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر: فسيفان في غمدٍ إذن لا يصلحان. ثم أخذ بيد أبي بكر فقال:مَن له هذه الثلاثة:{ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } مَن صاحِبُه؟. { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } مع مَن؟. { إِذْ هُمَا فِي الغَارِ } مَن هما؟. فبايعه، وبايعه الناسُ أحسن بيعة وأجملها).
وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: " فقام أسيد بن الخضير، وبشير ابن سعد، وغيرهما من الأنصار فبايعوا أبا بكر، ثم وثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة ".
لقد سميت هذه بيعة الخاصة، أي: بيعة أهل الحلّ والعقد. أما البيعة العامّة فكانت في اليوم الثاني، وأبو بكر رضي الله عنه على المنبر.
لكن الخلل الذي وقع هو أن مجلس الشورى أو أهل الحلّ والعقد لم يجتمعوا كلهم، وتخلّف عنهم ولم يُدعَ إلى الحضور أمثال علي رضي الله عنه والزبير والعباس، وهؤلاء من أهل الحلّ والعقد. والسبب في ذلك كما قال عمر رضي الله عنه هو خشية الفتنة، كما قال فيما روى عنه البخاري: (خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساداً).
إنها ظروف استثنائية اقتضت أن لا يكون مجلس الشورى كاملاً، ويتخذ قرار بيعة الخليفة. وقد عبّر علي رضي الله عنه عن هذا الخلل، وأن تأخّره عن البيعة يوماً أو يومين إنما كان بسببه، وأشار عمر رضي الله عنه إلى هذا الخلل في خُطبته التي جلى فيها الظروف التي انعقدت فيها البيعة، فقال: (... وإنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومَن معهما).
أما مقالة علي رضي الله عنه عن ذلك فتحدث عنها الدكتور العمري بقوله: "... ولكن صحّت روايات أخرى تفيد بأنّه بايع في اليوم الذي جرت فيه بيعة العامّة، وأنه وضّح سبب غضبه بقوله: (ما غضبنا إلا لأنّا أخرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحقّ الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه وكبره. ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حيّ) ".
ب/ بيعة عمر رضي الله عنه:
وخلافة عمر رضي الله عنه تمت من خلال بيعة أهل الحلّ والعقد، ولم يكن عهد أبي بكر رضي الله عنه إلا ترشيحاً له. ولم يكن في الساحة مرشح إلا هو، وليس العهد هو الذي جعله خليفة، إنما قبول جمهور أهل الرأي له هو الذي جعله الخليفة.
لكن الجديد الذي نضيفه هو أن العهد له لم يكن ابتداءً من الصدّيق، إنما كان من تفويض مجلس الشورى له، كما في الرواية التالية:
مرض أبو بكر رضي الله عنه، وأحسّ بدنوّ أجله، فاستشار الصحابة في الخلافة بعده، فقال: (إني قد نزل بي ما ترون، ولا أظنّني إلا لمأتي.. فأمِّروا عليكم مَن أحببتم، فإنكم إن أمّرتم عليكم في حياةٍ مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.
فتشاوروا بينهم، ثم جاؤوه طالبين منه أن يرشح لهم واحداً، فسألهم:
فلعلّكم تختلفون؟. قالوا: لا، قال: فعليكم عهد الله على الرضا؟. قالوا: نعم، قال: فأمهِلوني أنظر لله ولدينه ولعباده.
ثم أرسل إلى عثمان بن عفان فاستشاره، فأشار عليه بعمر بن الخطاب، فأمره أن يكتب له عهداً).
" وقد أجمعت الأمّة على بيعته والرضا به ".
" وقد سمت روايات ضعيفة الصحابة الذين استشارهم، وهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهم من المهاجرين والأنصار. وقد أدّت مشاوراته إلى نصيحة الأمّة باستخلاف عمر بن الخطاب، فأمر عثمان بن عفان بكتابة عهد بذلك.
والشيء المشتهر تاريخياً أنّ أبا بكر عهد بالخلافة لعمر، وهو مجرّد ترشيح يهدف إلى نصيحة الأمة وترشيد أهل الحلّ والعقد، ولا تنعقد به الخلافة، وإنما تنعقد إذا وافقت الأمّة على الترشيح وبايَعَت المرشح. وهذا ما تَمّ لعمر بن الخطاب، حيث بايعه المسلمون في المدينة، وأخذت له البيعة من البلدان ".
جـ/ بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه:
يقول الدكتور العمري: " تمت بيعة عثمان رضي الله عنه بعد اجتماع مجلس الشورى الذي عيّنه عمر رضي الله عنه حين طُعن، وأعضاؤه الستّة هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير ابن العوام. ويحضر عبد الله بن عمر اجتماعات المجلس لإبداء المشورة دون أن يكون له حقّ الترشيح للخلافة ".
وبالتدقيق في كلام عمر رضي الله عنه يظهر أنّ هؤلاء الستّة ليسوا هم مجلس الشورى، إنما هم الستّة المرشحون للخلافة. وقد أُوكل إليهم ترشيح واحد منهم للأمّة من خلال رأي أكثريتهم، فهم بمثابة قيادة الحزب التي تختار واحداً منها ليكون مرشح الحزب. وبالعودة إلى قول عمر رضي الله عنه نرى ذلك: (قيل له: أوصِ يا أميرَ المؤمنين، استخلِف، قال: ما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فعدّ عليّاً وعثمانَ والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن).
فإن كان الصدّيق رشّح واحداً للخلافة، فقد رشّح الفاروق سنة لها، وترك لهم أن يختاروا بأكثريتهم واحداً منهم يرشّحونه للأمة.
وتدلّ الرواية الثانية للبخاري أنّ الترشيح حصر في النهاية بين اثنين، هما: علي وعثمان رضي الله عنهما، وقام عبد الرحمن بن عوف المسؤول عن الترشيح بإجراء استفتاءات مضنية خلال ثلاثة أيام لترشيح واحد من المرشحَـيْن المذكورَين.
( فلمّا ولّوا عبد الرحمن أمرهم، فمالَ الناسُ على عبد الرحمن، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه. ومالَ الناسُ على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان. قال المِسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظتُ، فقال: أراك نائماً!. فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فادعُ الزبير وسعداً. فدعوتُهما له، فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادعُ لي علياً، فدعوتُه، فناجاه حتى إبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادعُ لي عثمان، فدعوتُه، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذّن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى مَن كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد - وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر -، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال:
أما بعد يا علي، إني قد نظرتُ في أمر الناس فلم أرَهم يعدلون بعثمان أحداً، فلا تجعلنّ على نفسك سبيلاً. فقال (عثمان): أبايعك على سنّة الله وسنّة رسوله والخليفتين من بعده.
فبايعه عبد الرحمن..).
وبذلك غدا عثمان المرشح الوحيد الحائز في الاستفتاء على ثقة الأكثرية الساحقة، فتمّت بيعة أهل الحلّ والعقد له، وأصبح خليفة المسلمين.
( فبايعه عبد الرحمن، وبايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون).
وأدرك عمر بفراسته رضي الله عنه أن الأمر وإن كان محصوراً في ستّة مرشحين، لكن المرشحين الأقوى هم الثلاثة: علي وعثمان وعبد الرحمن، كما ذكر ابن سعد.
" وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن سعد بإسنادٍ صحيح، قال: دخل الرهط على عمر، فنظر إليهم فقال: إني نظرت في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقاً، فإن كان فهو فيكم، وإنما الأمر إليكم، فإن كان قومكم لا يؤمرون إلا لأحد الثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعلي، فمن ولي منكم فلا يحمل قرابته على رقاب الناس. قوموا فتشاوروا. ثم قال عمر: أمهلوا، فإن حدث لي حدث فليصلّ لكم صهيب ثلاثاً، فمَن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضرِبوا عنقه ".
د / بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
" تولى علي الخلافة إثر مقتل عثمان بن عفان في ظروف خطيرة، حيث سيطر الناقمون على عثمان على المدينة، وأفلت الأمر من يد كبار الصحابة، ولم تعد ثمة سلطة عُليا تحكم الدولة الإسلامية. وقد سعى الناقمون إلى تولية عبد الله بن عمر، وهدّدوه بالقتل إن لم يرضَ، ولكن لم يجدوا منه إلا صدوداً. فأدركوا أنّ أمر الخلافة بيد أهل المدينة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، وأن الناس تبع لهم في ذلك.
وقد بادر الناس إلى علي ليبايعوه، فأظهر رغبته عن الخلافة في تلك الظروف والله إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة)). (وإني لأستحي أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد). فانصرفوا، فلما دُفن عثمان رضي الله عنه أتوه مرة أخرى وسألوه البيعة، وقالوا له: (لا بدّ للناسِ من خليفة، ولا نعلم أحداً أحقّ بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني، فإني لكم نذير خير مني لكم أمير. فقالوا: لا والله لا نرى أحداً أحقّ بها منك).
وهنا تفتّق ذهن علي رضي الله عنه عن وسيلة تجعله يتلقى البيعة علناً من المسلمين عامّة دون أن يبايعوه الناقمون بيعة خاصة، فقال لنفسه كما صرّح فيما بعد: (اللهم إنّي مشفق مما أقدم عليه)، وقال لهم: إن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني فليبايعني، فخرج إلى المسجد وبايعه الناس عن رضا واختبار، سوى طلحة والزبير، فإنهما بايعاه مكرهين ولم يكونا راضين عن الطريقة التي تمت بها البيعة، حيث لم يتمّ التداول بين أهل الحلّ والعقد بشأنها، ولم يعقد مجلس للشورى. ولأنّ الثوار أتوا بهما بأسلوب جاف عنيف، ولا شكّ أنّ هذه الطريقة فرضتها طبيعة الأحداث لسيطرة الأعراب الجلف على المدينة.
واعتزل بعض الصحابة فلم يبايعوا علياً، ومنهم محمد بن مسلمة، وأهبان بن صيفي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، فقد كانوا يرون الناس في فرقة واختلاف وفتنة، فكانوا ينتظرون أن يستقرّ الأمر فيبايعوا... ولكن معظم أهل الحلّ والعقد من أهل بدر والمهاجرين والأنصار بالمدينة بايعوا لعلي رضي الله عنه، وبذلك انعقدت له البيعة، وصار خليفة للمسلمين، وهو آخر خلفاء النبوة التي ورد بها حديث خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكهُ مَن يشاء.
ولعلّ هذه الرواية تبرز باختصار طبيعة هذه البيعة:
" كنت مع علي وعثمان محصور قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول، ثم جاء آخر فقال: إنّ أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام علي، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه، فقال: خلِّ لا أمّ لك، قال: فأنى علي الدار وقد قتل الرجل، فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل ولا بدّ للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحقّ بها منك. فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحقّ بها منك. قال: فإن أبيتم عليّ فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس ".
لقد كان الترشيح عاماً، ثم كانت بيعة أهل الحلّ والعقد، ثم كانت بيعة العامّة.
ونخلص من خلال هذا العرض إلى سِمات البيعة في عهد الخلافة الراشدة، وهي:
1- يكون الترشيح من جهة موثوقة إما الخليفة الأول، وإما أحد أهل الحلّ والعقد.
2- يمكن أن يكون الترشيح لفرد فقط، كما هو الحال في ترشيح أبي بكر رضي الله عنه، أو أكثر كما في ترشيح عمر رضي الله عنه للستّة الذين توفّي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
3- تتمّ البيعة الأولى، بيعة أهل الحلّ والعقد (البيعة الخاصة).
4- أهل الحلّ والعقد هم أهل السابقة ورؤساء الناس والعلماء وأهل الاختصاص، وقد يدخل بهم الأمراء أو رؤساء الأجناد.
5- تنعقد بيعة الخليفة بمبايعة جمهور أهل الحلّ والعقد له، ويصبح خليفة المسلمين.
6- تكون البيعة العامّة للأمّة، بعد البيعة الخاصة، وهي واجبة عليهم، ولا خيار لهم فيها.
7- يمكن أن تسبق البيعة الخاصة استفتاء عام يعرف منه اتجاه الناس وميولهم نحو المرشحين.
الثالث عشر:- واجبات الخليفة:
وقد ذكر الماوردي أنّه يلزمه لهم عشرة أشياء:
( والذي يلزمه من الأمور عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمّة...
الثـاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تتمّ النصفة، فلا يتعدّى الظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة (الوطن)، والذب عن..... ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغريرٍ بنفسٍ أو مال.
الرابـع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمّة ليقام بحقّ الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
السـابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.
الثــامن: تقدير العطايا وما يُستحقّ من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسـع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوَّض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال..
العاشـر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة، وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغشّ الناصح.
وقد قال تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.. }). هذا وقد ذكرها أبو يعلى كما هي في كتابه.
لا بدّ من الوقوف ملياً عند البيعة، التي تعتبر الأساس بانعقاد الخلافة بأية طريقة كانت. سبق أن عرفنا البيعة من قبل كما ذكر القلقشندي.
البيعة: وهي أن يجتمع أهل الحلّ والعقد، ويعقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها. ونستطيع أن نقول: إنّ الخلافة الراشدة كلّها قامت على بيعة أهل الحلّ والعقد للخليفة رغم اختلاف طرائق هذه البيعة، وكلّها تمت بأكثرية أهل العقد، وليست بواحد أو اثنين أو خمسة كما تذكر بعض الآراء.
أ / بيعة الصدّيق رضي الله عنه:
أخرج النسائي من حديث سالم بن عبيد الله قال: (فاجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا الأنصار، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر: فسيفان في غمدٍ إذن لا يصلحان. ثم أخذ بيد أبي بكر فقال:مَن له هذه الثلاثة:{ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } مَن صاحِبُه؟. { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } مع مَن؟. { إِذْ هُمَا فِي الغَارِ } مَن هما؟. فبايعه، وبايعه الناسُ أحسن بيعة وأجملها).
وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: " فقام أسيد بن الخضير، وبشير ابن سعد، وغيرهما من الأنصار فبايعوا أبا بكر، ثم وثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة ".
لقد سميت هذه بيعة الخاصة، أي: بيعة أهل الحلّ والعقد. أما البيعة العامّة فكانت في اليوم الثاني، وأبو بكر رضي الله عنه على المنبر.
لكن الخلل الذي وقع هو أن مجلس الشورى أو أهل الحلّ والعقد لم يجتمعوا كلهم، وتخلّف عنهم ولم يُدعَ إلى الحضور أمثال علي رضي الله عنه والزبير والعباس، وهؤلاء من أهل الحلّ والعقد. والسبب في ذلك كما قال عمر رضي الله عنه هو خشية الفتنة، كما قال فيما روى عنه البخاري: (خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساداً).
إنها ظروف استثنائية اقتضت أن لا يكون مجلس الشورى كاملاً، ويتخذ قرار بيعة الخليفة. وقد عبّر علي رضي الله عنه عن هذا الخلل، وأن تأخّره عن البيعة يوماً أو يومين إنما كان بسببه، وأشار عمر رضي الله عنه إلى هذا الخلل في خُطبته التي جلى فيها الظروف التي انعقدت فيها البيعة، فقال: (... وإنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه أنّ الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومَن معهما).
أما مقالة علي رضي الله عنه عن ذلك فتحدث عنها الدكتور العمري بقوله: "... ولكن صحّت روايات أخرى تفيد بأنّه بايع في اليوم الذي جرت فيه بيعة العامّة، وأنه وضّح سبب غضبه بقوله: (ما غضبنا إلا لأنّا أخرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحقّ الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه وكبره. ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حيّ) ".
ب/ بيعة عمر رضي الله عنه:
وخلافة عمر رضي الله عنه تمت من خلال بيعة أهل الحلّ والعقد، ولم يكن عهد أبي بكر رضي الله عنه إلا ترشيحاً له. ولم يكن في الساحة مرشح إلا هو، وليس العهد هو الذي جعله خليفة، إنما قبول جمهور أهل الرأي له هو الذي جعله الخليفة.
لكن الجديد الذي نضيفه هو أن العهد له لم يكن ابتداءً من الصدّيق، إنما كان من تفويض مجلس الشورى له، كما في الرواية التالية:
مرض أبو بكر رضي الله عنه، وأحسّ بدنوّ أجله، فاستشار الصحابة في الخلافة بعده، فقال: (إني قد نزل بي ما ترون، ولا أظنّني إلا لمأتي.. فأمِّروا عليكم مَن أحببتم، فإنكم إن أمّرتم عليكم في حياةٍ مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.
فتشاوروا بينهم، ثم جاؤوه طالبين منه أن يرشح لهم واحداً، فسألهم:
فلعلّكم تختلفون؟. قالوا: لا، قال: فعليكم عهد الله على الرضا؟. قالوا: نعم، قال: فأمهِلوني أنظر لله ولدينه ولعباده.
ثم أرسل إلى عثمان بن عفان فاستشاره، فأشار عليه بعمر بن الخطاب، فأمره أن يكتب له عهداً).
" وقد أجمعت الأمّة على بيعته والرضا به ".
" وقد سمت روايات ضعيفة الصحابة الذين استشارهم، وهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهم من المهاجرين والأنصار. وقد أدّت مشاوراته إلى نصيحة الأمّة باستخلاف عمر بن الخطاب، فأمر عثمان بن عفان بكتابة عهد بذلك.
والشيء المشتهر تاريخياً أنّ أبا بكر عهد بالخلافة لعمر، وهو مجرّد ترشيح يهدف إلى نصيحة الأمة وترشيد أهل الحلّ والعقد، ولا تنعقد به الخلافة، وإنما تنعقد إذا وافقت الأمّة على الترشيح وبايَعَت المرشح. وهذا ما تَمّ لعمر بن الخطاب، حيث بايعه المسلمون في المدينة، وأخذت له البيعة من البلدان ".
جـ/ بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه:
يقول الدكتور العمري: " تمت بيعة عثمان رضي الله عنه بعد اجتماع مجلس الشورى الذي عيّنه عمر رضي الله عنه حين طُعن، وأعضاؤه الستّة هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير ابن العوام. ويحضر عبد الله بن عمر اجتماعات المجلس لإبداء المشورة دون أن يكون له حقّ الترشيح للخلافة ".
وبالتدقيق في كلام عمر رضي الله عنه يظهر أنّ هؤلاء الستّة ليسوا هم مجلس الشورى، إنما هم الستّة المرشحون للخلافة. وقد أُوكل إليهم ترشيح واحد منهم للأمّة من خلال رأي أكثريتهم، فهم بمثابة قيادة الحزب التي تختار واحداً منها ليكون مرشح الحزب. وبالعودة إلى قول عمر رضي الله عنه نرى ذلك: (قيل له: أوصِ يا أميرَ المؤمنين، استخلِف، قال: ما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء الرهط الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فعدّ عليّاً وعثمانَ والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن).
فإن كان الصدّيق رشّح واحداً للخلافة، فقد رشّح الفاروق سنة لها، وترك لهم أن يختاروا بأكثريتهم واحداً منهم يرشّحونه للأمة.
وتدلّ الرواية الثانية للبخاري أنّ الترشيح حصر في النهاية بين اثنين، هما: علي وعثمان رضي الله عنهما، وقام عبد الرحمن بن عوف المسؤول عن الترشيح بإجراء استفتاءات مضنية خلال ثلاثة أيام لترشيح واحد من المرشحَـيْن المذكورَين.
( فلمّا ولّوا عبد الرحمن أمرهم، فمالَ الناسُ على عبد الرحمن، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه. ومالَ الناسُ على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان. قال المِسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظتُ، فقال: أراك نائماً!. فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فادعُ الزبير وسعداً. فدعوتُهما له، فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادعُ لي علياً، فدعوتُه، فناجاه حتى إبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادعُ لي عثمان، فدعوتُه، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذّن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى مَن كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد - وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر -، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال:
أما بعد يا علي، إني قد نظرتُ في أمر الناس فلم أرَهم يعدلون بعثمان أحداً، فلا تجعلنّ على نفسك سبيلاً. فقال (عثمان): أبايعك على سنّة الله وسنّة رسوله والخليفتين من بعده.
فبايعه عبد الرحمن..).
وبذلك غدا عثمان المرشح الوحيد الحائز في الاستفتاء على ثقة الأكثرية الساحقة، فتمّت بيعة أهل الحلّ والعقد له، وأصبح خليفة المسلمين.
( فبايعه عبد الرحمن، وبايعه المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون).
وأدرك عمر بفراسته رضي الله عنه أن الأمر وإن كان محصوراً في ستّة مرشحين، لكن المرشحين الأقوى هم الثلاثة: علي وعثمان وعبد الرحمن، كما ذكر ابن سعد.
" وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن سعد بإسنادٍ صحيح، قال: دخل الرهط على عمر، فنظر إليهم فقال: إني نظرت في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقاً، فإن كان فهو فيكم، وإنما الأمر إليكم، فإن كان قومكم لا يؤمرون إلا لأحد الثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعلي، فمن ولي منكم فلا يحمل قرابته على رقاب الناس. قوموا فتشاوروا. ثم قال عمر: أمهلوا، فإن حدث لي حدث فليصلّ لكم صهيب ثلاثاً، فمَن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضرِبوا عنقه ".
د / بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
" تولى علي الخلافة إثر مقتل عثمان بن عفان في ظروف خطيرة، حيث سيطر الناقمون على عثمان على المدينة، وأفلت الأمر من يد كبار الصحابة، ولم تعد ثمة سلطة عُليا تحكم الدولة الإسلامية. وقد سعى الناقمون إلى تولية عبد الله بن عمر، وهدّدوه بالقتل إن لم يرضَ، ولكن لم يجدوا منه إلا صدوداً. فأدركوا أنّ أمر الخلافة بيد أهل المدينة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، وأن الناس تبع لهم في ذلك.
وقد بادر الناس إلى علي ليبايعوه، فأظهر رغبته عن الخلافة في تلك الظروف والله إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة)). (وإني لأستحي أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد). فانصرفوا، فلما دُفن عثمان رضي الله عنه أتوه مرة أخرى وسألوه البيعة، وقالوا له: (لا بدّ للناسِ من خليفة، ولا نعلم أحداً أحقّ بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني، فإني لكم نذير خير مني لكم أمير. فقالوا: لا والله لا نرى أحداً أحقّ بها منك).
وهنا تفتّق ذهن علي رضي الله عنه عن وسيلة تجعله يتلقى البيعة علناً من المسلمين عامّة دون أن يبايعوه الناقمون بيعة خاصة، فقال لنفسه كما صرّح فيما بعد: (اللهم إنّي مشفق مما أقدم عليه)، وقال لهم: إن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني فليبايعني، فخرج إلى المسجد وبايعه الناس عن رضا واختبار، سوى طلحة والزبير، فإنهما بايعاه مكرهين ولم يكونا راضين عن الطريقة التي تمت بها البيعة، حيث لم يتمّ التداول بين أهل الحلّ والعقد بشأنها، ولم يعقد مجلس للشورى. ولأنّ الثوار أتوا بهما بأسلوب جاف عنيف، ولا شكّ أنّ هذه الطريقة فرضتها طبيعة الأحداث لسيطرة الأعراب الجلف على المدينة.
واعتزل بعض الصحابة فلم يبايعوا علياً، ومنهم محمد بن مسلمة، وأهبان بن صيفي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، فقد كانوا يرون الناس في فرقة واختلاف وفتنة، فكانوا ينتظرون أن يستقرّ الأمر فيبايعوا... ولكن معظم أهل الحلّ والعقد من أهل بدر والمهاجرين والأنصار بالمدينة بايعوا لعلي رضي الله عنه، وبذلك انعقدت له البيعة، وصار خليفة للمسلمين، وهو آخر خلفاء النبوة التي ورد بها حديث خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكهُ مَن يشاء.
ولعلّ هذه الرواية تبرز باختصار طبيعة هذه البيعة:
" كنت مع علي وعثمان محصور قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول، ثم جاء آخر فقال: إنّ أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام علي، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه، فقال: خلِّ لا أمّ لك، قال: فأنى علي الدار وقد قتل الرجل، فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل ولا بدّ للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحقّ بها منك. فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحقّ بها منك. قال: فإن أبيتم عليّ فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس ".
لقد كان الترشيح عاماً، ثم كانت بيعة أهل الحلّ والعقد، ثم كانت بيعة العامّة.
ونخلص من خلال هذا العرض إلى سِمات البيعة في عهد الخلافة الراشدة، وهي:
1- يكون الترشيح من جهة موثوقة إما الخليفة الأول، وإما أحد أهل الحلّ والعقد.
2- يمكن أن يكون الترشيح لفرد فقط، كما هو الحال في ترشيح أبي بكر رضي الله عنه، أو أكثر كما في ترشيح عمر رضي الله عنه للستّة الذين توفّي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
3- تتمّ البيعة الأولى، بيعة أهل الحلّ والعقد (البيعة الخاصة).
4- أهل الحلّ والعقد هم أهل السابقة ورؤساء الناس والعلماء وأهل الاختصاص، وقد يدخل بهم الأمراء أو رؤساء الأجناد.
5- تنعقد بيعة الخليفة بمبايعة جمهور أهل الحلّ والعقد له، ويصبح خليفة المسلمين.
6- تكون البيعة العامّة للأمّة، بعد البيعة الخاصة، وهي واجبة عليهم، ولا خيار لهم فيها.
7- يمكن أن تسبق البيعة الخاصة استفتاء عام يعرف منه اتجاه الناس وميولهم نحو المرشحين.
الثالث عشر:- واجبات الخليفة:
وقد ذكر الماوردي أنّه يلزمه لهم عشرة أشياء:
( والذي يلزمه من الأمور عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمّة...
الثـاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تتمّ النصفة، فلا يتعدّى الظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة (الوطن)، والذب عن..... ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغريرٍ بنفسٍ أو مال.
الرابـع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمّة ليقام بحقّ الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
السـابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف ولا عسف.
الثــامن: تقدير العطايا وما يُستحقّ من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسـع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوَّض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال..
العاشـر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة، وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض تشاغلاً بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغشّ الناصح.
وقد قال تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.. }). هذا وقد ذكرها أبو يعلى كما هي في كتابه.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
الرابع عشر:- واجبات الأمّة تجاه الخليفة:
وفيما يلزم الرعية للخليفة.. وهو أمران:
الأول: الطاعة: قال الله تعالى: {.. أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }، فأمر بطاعة أولي الأمر، وهم ولاة الأمور على ما ذهبَ إليه كثيرٌ من المفسرين. والإمام هو أعظم ولاة الأمور، لعموم ولايته، فهو أحقّ بالطاعة وأجدر بالانقياد لأوامره ونواهيه مالم يخالف أمر الشرع، سواء كان عادلاً أو جائراً. ففي الصحيحين من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)). وفي صحيح مسلم من رواية وائل بن حجر قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟. فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم).
الثاني: المعاضدة والمناصرة في أمور الدين وجهاد العدوّ. قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى }، ولا أعلى من معاونة الإمام على إقامة الدين ونصرته. ففي صحيح مسلم (12/238) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَن خرج عن الطاعة أو فارق الجماعة، مات ميتة جاهلية، ومَن قاتلَ تحت راية عمية، يغضب بعصبية، أو ينصر عصبية، فقتل فقتلة جاهلية)).
فذمّ الخارج تحت راية عمية والداعي إلى عصبية، وهو مستلزم لنصرة الدين، لا النصرة عليه.
الخامس عشر:- عزل الخليفة:
" وفيما ينعزل به الخليفة، وهو على خمسة أضرب:
الضّرب الأول: الخلع، وله حالتان:
- الحالة الأولى: أن يخلع الخليفة نفسه من الخلافة؛ لعجز من القيام بأمور الناس، فإذا خلع نفسه لذلك انخلع...
- الحالة الثانية: أن يخلعه أهل الحلّ والعقد إن كان حدث في حاله خلل فلهم عزله، وإن كان مستقيم الحال فليس لهم ذلك.
الضّرب الثاني: زوال العقل، فينعزل بالجنون المطبق...
الضّرب الثالث: ذهاب الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل...
الضّرب الرابع: فقد الأعضاء المخلّ، فقدها بالعمل أو النهوض لذهاب اليدين أو الرِّجلين.
الضّرب الخامس: بطلان تصرف الإمام للاستيلاء عليه وحجره، ويدخل تحت ذلك صور:
- إحداها: أن يأسر الكفار الإمام، ويقع اليأس بذلك من خلاصه من أيديهم، فيخرج عن الإمامة، ويستأنف أهل الحلّ والعقد بيعة غيره.
- الثانية: أن يأسره أهل البغي، حيث كانوا قد أقاموا لهم إماماً.
- الثالثة: أن تكون الإمامة قد ثبتت له بالقهر والاستيلاء، فيجيء آخر ويقهره ويستولي على الأمر.
الضّرب السادس: الفسق. وقد اختلف أصحابنا الشافعية في انعزال الإمامة به، أصحّهما عند الرافعي والنووي أنه لا ينعزل به؛ لِما في عزله من إثارة الفتنة بخلاف غيره من سائر الولاة، فإنهم ينعزلون به. والثاني: وبه جزم الماوردي في الأحكام السلطانية أن ينعزل به، كما لا يصحّ عقد إمامته مع الفسق ابتداءً... ".
السادس عشر:- تطوّر الخلافة:
أ / في العهد الراشدي:
لم تزل لابتداء الأمر جاربة على ما ألف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خشونة العيش والقرب من الناس، وإطراح الخيلاء وأحوال الملوك، مع ما فتح الله تعالى على خلفاء السلف من الأقاليم وجبي إليهم من الأموال التي لم يفز عظماء الملوك بجزء من أجزائها، وناهيك أنهم فتحوا عدّة من الممالك العظيمة التي كان يضرب بها المثل في عظيم قدرها وارتفاع شأن ملوكها من ممالك الشرق والغرب، حتى ذكر عظماء الملوك عند بعض السلف، فقال: إنما الملك الذي يأكل الشعير و.... على رجليه بالليل ماشياً، وقد فتحت له مشارق الأرض ومغاربها. يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ب/ في العهد الأموي:
ولم يزل الأمر كذلك إلى أن سلم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية، فأخذ في إظهار أبهة الخلافة وترتيب أمورها على نظام الملك؛ لِما في ذلك من إرهاب العدوّ وإخافته، وتزايد الأمر في ذلك، حتى اضمحلّ في جانب الخلافة سائر الممالك العظيمة، وانضوى في ضمنها ممالك المشارق والمغارب.
جـ/ في العهد العباسي:
وفاقت بأبهتها الأكاسرة والقياصرة، وهابتها ملوك الأرض قاطبة، لاسيما في أوائل الدولة العباسية.. وقد حكى ابن الأثير في تاريخه أنه لما وصلت رسل ملك الروم إلى بغداد في سنة خمس وثلاثمائة في خلافة المقتدر، رُتب من العسكر في دار الخلافة مائة وستون ألفاً ما بين راكب وراجل، ووقف بين يدي الخليفة سبعمائة حاجب، وسبعة آلاف خادم خصي؛ أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود... وزينت دار الخلافة بأنواع الأسلحة، وغرائب الزينة، وغشيت جدرانها بالستور، وفرشت أرضها بالبسط، وكان عدة البسط اثنين وعشرين ألف بساط، وعدّة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألف ستر من الديباج المذهب، وكان من جملة الزينة شجرة من الذهب والفضة بأغصانها وأوراقها، وطيور الذهب والفضة على أغصانها، وأغصانها تتمايل بحركات مصنوعة... إلى غير ذلك من الأحوال الملوكية التي يطول شرحها.
د / في العهد الثاني للدولة العباسية:
" ولم يزل أمر الخلافة متماسكاً إلى حين استخلف المتقي لله (329هـ)، فتفرد بتدبير الأمور غير الخلفاء، وتغلبت على ما نأى من البلدان الأقوى فالأقوى، واقتُصر على الدعاء لهم على المنابر. وفي أيام المستكفي بالله استولى بنو بويه على بغداد، واستبد معز الدولة بن بويه بالأمر، ونقش اسمه على الدنانير والدراهم مع اسم الخليفة، وشاركه في الدعاء على المنابر، وتصرف في أمور الدولة تصرّف الملوك، ورتب للخليفة كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته لا يصل له غيرها، بعد أن كان يحمل إلى خزائنه أموال المشرق والمغرب، هذا مع تقهقر الخلافة وانحطاط رتبتها يومئذ ".
هـ/ في العهد العثماني:
والذي ابتدأ منذ فتحت سورية على يد السلطان العثماني سليم الأول عام 1518م، وتنازل خليفة المماليك له، واستمرّت حتى تَمّ إنهاء الخلافة على يد كمال أتاتورك عام 1924م.
و / مقـرّات الخــلافة:
المدينة النبوية: على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، كانت مقرة الخلفاء الراشدين إلى حين انتقل علي رضي الله عنه إلى العراق... ثم خلف بعده ابنه الحسن فيه إلى حين تسليم الأمر إلى معاوية.
المقرة الثانية: الشام، وهي دار خلفاء بني أمية إلى حين انقراضهم، وذلك أن معاوية كان أميراً على الشام قبل الخلافة... وبقي في الشام ومن بعده إلى حين انقراض خلافتهم بقتل مروان بن محمد، وكانت دار إقامتهم دمشق.
المقرة الثالثة: العراق، وهي دار خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. ثم كانت دار خلافة بني العباس إلى حين انقراض خلافتهم بقتل المستعصم. وكان بدء مبايعة السفاح أول خلفائهم بالكوفة على ما تقدّم... فلما ولي أخوه أبو جعفر المنصور الخلافة بنى بغداد وسكنها، وصارت منزلاً لخلفاء بني بعده للمستعصم.
المقرة الرابعة: الديار المصرية..وأول مَن بويع بها المستنصر بالله..ثم الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الحسين، جد الخلفاء بها إلى الآن (عن القلقشندي 821هـ) ".
المقرة الخامسة: ثم انتقلت أيام سليم الأول إلى استانبول (الآستانة عام 924هـ - 1517م)، حتى ألغاها كمال أتاتورك عام (1344هـ - 1926م).
ز / ما انطوت عليه الخلافة من الممالك:
وأما ما انطوَت عليه الخلافة من الممالك فإن حكمها امتدّ فيما بين المشارق والمغارب، فكان يجري تحت إمرتهم من أقاليم الشرق عراق العرب وعراق العجم وأذربيجان وأرمينية والأهواز وكرمان وسجستان وفارس والسند والهند وما وراء النهر وخراسان وطبرستان.. وغير ذلك.
ومن بلاد المغرب أفريقية والغرب الأوسط والغرب الأقصى والأندلس. ومن أوساط الأقاليم: الديار المصرية والبلاد الشامية والثغور والعواصم وبلاد الروم وما في معنى ذلك. وكانت الأموال تحمل من جميع الأقاليم بعد تكفية الجيوش إلى بيت المال على بُعد المسافة، حتى يقال: إن الرشيد كان يستلقي على قفاه وينظر إلى السحابة فيقول: اذهبي حيث شئتِ يأتيني خراجكِ. وبقي الأمر على ذلك حتى تغلب المتغلبون على الممالك واستولوا عليها، والله غالبٌ على أمره ".
أما في عهد الخلافة العثمانية:
فقد تحقق النصر في الميدان الأوربي.. ووالى السلاطين غزو أوربا حتى استطاع محمد الفاتح أن يحقق أعظم نصر في تاريخ الإسلام بالسيطرة على القسطنطينية، وبسقوطها في يد عالم الإسلام انتهت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وامتدّ التوسع إلى بلاد القرم، وجزر الأرخبيل، وخفق العلم الإسلامي العثماني على قلعة أوترانتو في إيطاليا نفسها. ومضى التوسع إلى بلغراد حتى أصبحت المجر في يد العثمانيين، وبدأ حصار فيينا، ومضت الانتصارات الباهرة متعاقبة، ونشر رجالها أمثال بربروسة ودارغوت الهيبة على سواحل أوربا شمال أفريقيا، واستطاعوا طرد الأسبان من بلاد الجزائر، وقهرَ العثمانيون الأسطول البابوي، وامتدّت راياتهم إلى بودابست على نهر أنطونة.
غير أن هذا التوسع الذي ظلّ ممتداً ومستمرّاً حتى 1571م بدون هزيمة أو توقف، بدأ يصاب بضربات وهزائم منذ موقعة ليبانتو البحرية.
أما في المشرق فقد قامت الوحدات العربية في الشام ومصر وكردستان وديار بكر ومكة والمدينة.. ثم توالى انضمام المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب إلى الدولة العثمانية ".
السابع عشر:- زوال الخلافة:
نجحت جهود الدول الأوربية مجتمعة تساندها المؤتمرات الصهيونية الخفية في تقويض دعائم الخلافة الإسلامية، وتَمّ ذلك على أربع مراحل:
1- أدّى تصميم عبد الحميد الثاني للحفاظ على وحدة الديار الإسلامية، وعدم التفريط بشبرٍ منها، ولاسيما بالنسبة للديار المقدسة إلى اعتباره الخصم الألدّ، والعقبة الكؤود، فتولت الصهيونية ترتيب مؤامرة للتخلص منه تنفيذاً لقراراتها ووعيدها بعد أن حظيت بموافقة وتشجيع الدول الأوربية..
2- بدأت الماسونية والدونمة عملية التغريب من خلال الاتحاد والترقي، كما نجحت في إبعاد الشقة بين العرب والأتراك، وقسمت العثمانيين إلى قوميات ومذاهب متنازعة إلى حدّ هدر الدماء في أكثر من فتنة أو ثورة عنصرية أو طائفية.
3- مع اندحار الاتحاديين وحلفائهم الألمان في الحرب العالمية الأولى بدأت تبرز المؤامرات الاستعمارية الفرنسية والإنكليزية، وبرزت الخيوط والأصابع الأجنبية، وتكشفت أوراق العديد من العملاء والجواسيس الذين حالفوا الأجنبي على دولتهم الإسلامية..
4- كانت الكمالية في تركية وغيرها من (الكماليات) في الولايات العربية هي المرحلة الرابعة في الإجهاز على الدولة الإسلامية، في حين اتخذ مصطفى كمال موقفاً صريحاً من الخلافة إلى حدّ رفضه (للبيعة) وإيثاره التغريب والعلمانية، وطمس كل ما يربط تركية بالإسلام واللغة العربية، نجد الإمارات والممالك والجمهوريات التي قامت في بلاد الشام ومصر والعراق وغيرها عملت على إقامة نوعٍ من الكمالية العربية؛ لأنّها لم تكن تملك مثله التخلي عن العربية، وهذه المرحلة الرابعة كان المخطِّط فيها والعقل المدبِّر الاستخبارات البريطانية ورجالاتها من الإنكليز والأتراك والعرب، وفيها استكمل تنفيذ المخططات والأهداف البريطانية، فقد وصل... إلى القدس وخاطب العالم بقوله: الآن انتهت الحروب الصليبية. وكان من حوله بضع مئات من بدو الحويطات، لم يفقهوا ما يرطنه ذلك الضابط الإنكليزي بلكنته الأجنبية.
كما دخل الجنرال الفرنسي (غورو) بعده إلى دمشق، وركل ضريح صلاح الدين بقدمه صائحاً بكلّ فروسية: ها قد عدنا يا صلاح الدين.. فأين أحفادك منك؟!.
أما مصطفى كمال فقد خضع لشروط كرزون المذلة، وعلى رأسها إلغاء الخلافة الإسلامية، وقدّم من عنده هدية فوقها حينما حوّل (أيا صوفيا) الذي دوّخ أوربا بالفتح والجهاد قروناً طويلة من مسجد جامع إلى متحف للمأثورات العثمانية.
ولقد أثبتت الأحداث التي تلت أن بريطانيا وحدها لم تكن بعيدة عن المشاركة في تخطيط وتنفيذ مختلف المراحل التي رسمتها للإحاطة بالخلافة الإسلامية، مستخدمة بذلك الصهيونية والماسونية والدونمة والكمالية ".
" لقد أملى اللورد كبرزون وزير خارجية بريطانيا في وزارة ديفيد لويد جورج على عصمت باشا مبعوث مصطفى كمال إلى بريطانيا عام 1921م الشروط التالية للموافقة على استقلال تركية:
1- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.
2- أن تلغي الخلافة الإسلامية.
3- أن تتعهد بإخماد كلّ حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
4- أن تختار تركيا لها دستوراً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمدّ من أحكام الشريعة الإسلامية، والقائم على قواعدها، فاختارت تركية دستور سويسرا المدني، ونفذت ما أملته عليها بريطانية من شروط، وما تفرع عنها من استعمال الحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية، ومنع إقامة الأذان باللغة العربية، ومنع تعليم الدين والقرآن في المدارس ".
" ولقد اعترفت الماسونية بجميل صنع (مصطفى كمال)، فجاء في دائرة المعارف الماسونية ما يلي:
إنّ الانقلاب التركي الذي قام به الأخ العظيم مصطفى كمال أتاتورك أفاد الأمّة، فقد أبطل السلطنة، وألغى الخلافة، وأبطل المحاكم الشرعية، وألغى دين الدولة الإسلامية. أليس هذا الإصلاح هو ما تبتغيه الماسونية في كلّ أمة ناهضة؟. فمَن يماثل أتاتورك من رجالات الماسون سابقاً ولاحقاً؟ ".
وفيما يلزم الرعية للخليفة.. وهو أمران:
الأول: الطاعة: قال الله تعالى: {.. أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }، فأمر بطاعة أولي الأمر، وهم ولاة الأمور على ما ذهبَ إليه كثيرٌ من المفسرين. والإمام هو أعظم ولاة الأمور، لعموم ولايته، فهو أحقّ بالطاعة وأجدر بالانقياد لأوامره ونواهيه مالم يخالف أمر الشرع، سواء كان عادلاً أو جائراً. ففي الصحيحين من رواية ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)). وفي صحيح مسلم من رواية وائل بن حجر قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟. فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم).
الثاني: المعاضدة والمناصرة في أمور الدين وجهاد العدوّ. قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى }، ولا أعلى من معاونة الإمام على إقامة الدين ونصرته. ففي صحيح مسلم (12/238) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَن خرج عن الطاعة أو فارق الجماعة، مات ميتة جاهلية، ومَن قاتلَ تحت راية عمية، يغضب بعصبية، أو ينصر عصبية، فقتل فقتلة جاهلية)).
فذمّ الخارج تحت راية عمية والداعي إلى عصبية، وهو مستلزم لنصرة الدين، لا النصرة عليه.
الخامس عشر:- عزل الخليفة:
" وفيما ينعزل به الخليفة، وهو على خمسة أضرب:
الضّرب الأول: الخلع، وله حالتان:
- الحالة الأولى: أن يخلع الخليفة نفسه من الخلافة؛ لعجز من القيام بأمور الناس، فإذا خلع نفسه لذلك انخلع...
- الحالة الثانية: أن يخلعه أهل الحلّ والعقد إن كان حدث في حاله خلل فلهم عزله، وإن كان مستقيم الحال فليس لهم ذلك.
الضّرب الثاني: زوال العقل، فينعزل بالجنون المطبق...
الضّرب الثالث: ذهاب الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل...
الضّرب الرابع: فقد الأعضاء المخلّ، فقدها بالعمل أو النهوض لذهاب اليدين أو الرِّجلين.
الضّرب الخامس: بطلان تصرف الإمام للاستيلاء عليه وحجره، ويدخل تحت ذلك صور:
- إحداها: أن يأسر الكفار الإمام، ويقع اليأس بذلك من خلاصه من أيديهم، فيخرج عن الإمامة، ويستأنف أهل الحلّ والعقد بيعة غيره.
- الثانية: أن يأسره أهل البغي، حيث كانوا قد أقاموا لهم إماماً.
- الثالثة: أن تكون الإمامة قد ثبتت له بالقهر والاستيلاء، فيجيء آخر ويقهره ويستولي على الأمر.
الضّرب السادس: الفسق. وقد اختلف أصحابنا الشافعية في انعزال الإمامة به، أصحّهما عند الرافعي والنووي أنه لا ينعزل به؛ لِما في عزله من إثارة الفتنة بخلاف غيره من سائر الولاة، فإنهم ينعزلون به. والثاني: وبه جزم الماوردي في الأحكام السلطانية أن ينعزل به، كما لا يصحّ عقد إمامته مع الفسق ابتداءً... ".
السادس عشر:- تطوّر الخلافة:
أ / في العهد الراشدي:
لم تزل لابتداء الأمر جاربة على ما ألف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من خشونة العيش والقرب من الناس، وإطراح الخيلاء وأحوال الملوك، مع ما فتح الله تعالى على خلفاء السلف من الأقاليم وجبي إليهم من الأموال التي لم يفز عظماء الملوك بجزء من أجزائها، وناهيك أنهم فتحوا عدّة من الممالك العظيمة التي كان يضرب بها المثل في عظيم قدرها وارتفاع شأن ملوكها من ممالك الشرق والغرب، حتى ذكر عظماء الملوك عند بعض السلف، فقال: إنما الملك الذي يأكل الشعير و.... على رجليه بالليل ماشياً، وقد فتحت له مشارق الأرض ومغاربها. يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ب/ في العهد الأموي:
ولم يزل الأمر كذلك إلى أن سلم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية، فأخذ في إظهار أبهة الخلافة وترتيب أمورها على نظام الملك؛ لِما في ذلك من إرهاب العدوّ وإخافته، وتزايد الأمر في ذلك، حتى اضمحلّ في جانب الخلافة سائر الممالك العظيمة، وانضوى في ضمنها ممالك المشارق والمغارب.
جـ/ في العهد العباسي:
وفاقت بأبهتها الأكاسرة والقياصرة، وهابتها ملوك الأرض قاطبة، لاسيما في أوائل الدولة العباسية.. وقد حكى ابن الأثير في تاريخه أنه لما وصلت رسل ملك الروم إلى بغداد في سنة خمس وثلاثمائة في خلافة المقتدر، رُتب من العسكر في دار الخلافة مائة وستون ألفاً ما بين راكب وراجل، ووقف بين يدي الخليفة سبعمائة حاجب، وسبعة آلاف خادم خصي؛ أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود... وزينت دار الخلافة بأنواع الأسلحة، وغرائب الزينة، وغشيت جدرانها بالستور، وفرشت أرضها بالبسط، وكان عدة البسط اثنين وعشرين ألف بساط، وعدّة الستور المعلقة ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألف ستر من الديباج المذهب، وكان من جملة الزينة شجرة من الذهب والفضة بأغصانها وأوراقها، وطيور الذهب والفضة على أغصانها، وأغصانها تتمايل بحركات مصنوعة... إلى غير ذلك من الأحوال الملوكية التي يطول شرحها.
د / في العهد الثاني للدولة العباسية:
" ولم يزل أمر الخلافة متماسكاً إلى حين استخلف المتقي لله (329هـ)، فتفرد بتدبير الأمور غير الخلفاء، وتغلبت على ما نأى من البلدان الأقوى فالأقوى، واقتُصر على الدعاء لهم على المنابر. وفي أيام المستكفي بالله استولى بنو بويه على بغداد، واستبد معز الدولة بن بويه بالأمر، ونقش اسمه على الدنانير والدراهم مع اسم الخليفة، وشاركه في الدعاء على المنابر، وتصرف في أمور الدولة تصرّف الملوك، ورتب للخليفة كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته لا يصل له غيرها، بعد أن كان يحمل إلى خزائنه أموال المشرق والمغرب، هذا مع تقهقر الخلافة وانحطاط رتبتها يومئذ ".
هـ/ في العهد العثماني:
والذي ابتدأ منذ فتحت سورية على يد السلطان العثماني سليم الأول عام 1518م، وتنازل خليفة المماليك له، واستمرّت حتى تَمّ إنهاء الخلافة على يد كمال أتاتورك عام 1924م.
و / مقـرّات الخــلافة:
المدينة النبوية: على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، كانت مقرة الخلفاء الراشدين إلى حين انتقل علي رضي الله عنه إلى العراق... ثم خلف بعده ابنه الحسن فيه إلى حين تسليم الأمر إلى معاوية.
المقرة الثانية: الشام، وهي دار خلفاء بني أمية إلى حين انقراضهم، وذلك أن معاوية كان أميراً على الشام قبل الخلافة... وبقي في الشام ومن بعده إلى حين انقراض خلافتهم بقتل مروان بن محمد، وكانت دار إقامتهم دمشق.
المقرة الثالثة: العراق، وهي دار خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. ثم كانت دار خلافة بني العباس إلى حين انقراض خلافتهم بقتل المستعصم. وكان بدء مبايعة السفاح أول خلفائهم بالكوفة على ما تقدّم... فلما ولي أخوه أبو جعفر المنصور الخلافة بنى بغداد وسكنها، وصارت منزلاً لخلفاء بني بعده للمستعصم.
المقرة الرابعة: الديار المصرية..وأول مَن بويع بها المستنصر بالله..ثم الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن الحسين، جد الخلفاء بها إلى الآن (عن القلقشندي 821هـ) ".
المقرة الخامسة: ثم انتقلت أيام سليم الأول إلى استانبول (الآستانة عام 924هـ - 1517م)، حتى ألغاها كمال أتاتورك عام (1344هـ - 1926م).
ز / ما انطوت عليه الخلافة من الممالك:
وأما ما انطوَت عليه الخلافة من الممالك فإن حكمها امتدّ فيما بين المشارق والمغارب، فكان يجري تحت إمرتهم من أقاليم الشرق عراق العرب وعراق العجم وأذربيجان وأرمينية والأهواز وكرمان وسجستان وفارس والسند والهند وما وراء النهر وخراسان وطبرستان.. وغير ذلك.
ومن بلاد المغرب أفريقية والغرب الأوسط والغرب الأقصى والأندلس. ومن أوساط الأقاليم: الديار المصرية والبلاد الشامية والثغور والعواصم وبلاد الروم وما في معنى ذلك. وكانت الأموال تحمل من جميع الأقاليم بعد تكفية الجيوش إلى بيت المال على بُعد المسافة، حتى يقال: إن الرشيد كان يستلقي على قفاه وينظر إلى السحابة فيقول: اذهبي حيث شئتِ يأتيني خراجكِ. وبقي الأمر على ذلك حتى تغلب المتغلبون على الممالك واستولوا عليها، والله غالبٌ على أمره ".
أما في عهد الخلافة العثمانية:
فقد تحقق النصر في الميدان الأوربي.. ووالى السلاطين غزو أوربا حتى استطاع محمد الفاتح أن يحقق أعظم نصر في تاريخ الإسلام بالسيطرة على القسطنطينية، وبسقوطها في يد عالم الإسلام انتهت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وامتدّ التوسع إلى بلاد القرم، وجزر الأرخبيل، وخفق العلم الإسلامي العثماني على قلعة أوترانتو في إيطاليا نفسها. ومضى التوسع إلى بلغراد حتى أصبحت المجر في يد العثمانيين، وبدأ حصار فيينا، ومضت الانتصارات الباهرة متعاقبة، ونشر رجالها أمثال بربروسة ودارغوت الهيبة على سواحل أوربا شمال أفريقيا، واستطاعوا طرد الأسبان من بلاد الجزائر، وقهرَ العثمانيون الأسطول البابوي، وامتدّت راياتهم إلى بودابست على نهر أنطونة.
غير أن هذا التوسع الذي ظلّ ممتداً ومستمرّاً حتى 1571م بدون هزيمة أو توقف، بدأ يصاب بضربات وهزائم منذ موقعة ليبانتو البحرية.
أما في المشرق فقد قامت الوحدات العربية في الشام ومصر وكردستان وديار بكر ومكة والمدينة.. ثم توالى انضمام المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب إلى الدولة العثمانية ".
السابع عشر:- زوال الخلافة:
نجحت جهود الدول الأوربية مجتمعة تساندها المؤتمرات الصهيونية الخفية في تقويض دعائم الخلافة الإسلامية، وتَمّ ذلك على أربع مراحل:
1- أدّى تصميم عبد الحميد الثاني للحفاظ على وحدة الديار الإسلامية، وعدم التفريط بشبرٍ منها، ولاسيما بالنسبة للديار المقدسة إلى اعتباره الخصم الألدّ، والعقبة الكؤود، فتولت الصهيونية ترتيب مؤامرة للتخلص منه تنفيذاً لقراراتها ووعيدها بعد أن حظيت بموافقة وتشجيع الدول الأوربية..
2- بدأت الماسونية والدونمة عملية التغريب من خلال الاتحاد والترقي، كما نجحت في إبعاد الشقة بين العرب والأتراك، وقسمت العثمانيين إلى قوميات ومذاهب متنازعة إلى حدّ هدر الدماء في أكثر من فتنة أو ثورة عنصرية أو طائفية.
3- مع اندحار الاتحاديين وحلفائهم الألمان في الحرب العالمية الأولى بدأت تبرز المؤامرات الاستعمارية الفرنسية والإنكليزية، وبرزت الخيوط والأصابع الأجنبية، وتكشفت أوراق العديد من العملاء والجواسيس الذين حالفوا الأجنبي على دولتهم الإسلامية..
4- كانت الكمالية في تركية وغيرها من (الكماليات) في الولايات العربية هي المرحلة الرابعة في الإجهاز على الدولة الإسلامية، في حين اتخذ مصطفى كمال موقفاً صريحاً من الخلافة إلى حدّ رفضه (للبيعة) وإيثاره التغريب والعلمانية، وطمس كل ما يربط تركية بالإسلام واللغة العربية، نجد الإمارات والممالك والجمهوريات التي قامت في بلاد الشام ومصر والعراق وغيرها عملت على إقامة نوعٍ من الكمالية العربية؛ لأنّها لم تكن تملك مثله التخلي عن العربية، وهذه المرحلة الرابعة كان المخطِّط فيها والعقل المدبِّر الاستخبارات البريطانية ورجالاتها من الإنكليز والأتراك والعرب، وفيها استكمل تنفيذ المخططات والأهداف البريطانية، فقد وصل... إلى القدس وخاطب العالم بقوله: الآن انتهت الحروب الصليبية. وكان من حوله بضع مئات من بدو الحويطات، لم يفقهوا ما يرطنه ذلك الضابط الإنكليزي بلكنته الأجنبية.
كما دخل الجنرال الفرنسي (غورو) بعده إلى دمشق، وركل ضريح صلاح الدين بقدمه صائحاً بكلّ فروسية: ها قد عدنا يا صلاح الدين.. فأين أحفادك منك؟!.
أما مصطفى كمال فقد خضع لشروط كرزون المذلة، وعلى رأسها إلغاء الخلافة الإسلامية، وقدّم من عنده هدية فوقها حينما حوّل (أيا صوفيا) الذي دوّخ أوربا بالفتح والجهاد قروناً طويلة من مسجد جامع إلى متحف للمأثورات العثمانية.
ولقد أثبتت الأحداث التي تلت أن بريطانيا وحدها لم تكن بعيدة عن المشاركة في تخطيط وتنفيذ مختلف المراحل التي رسمتها للإحاطة بالخلافة الإسلامية، مستخدمة بذلك الصهيونية والماسونية والدونمة والكمالية ".
" لقد أملى اللورد كبرزون وزير خارجية بريطانيا في وزارة ديفيد لويد جورج على عصمت باشا مبعوث مصطفى كمال إلى بريطانيا عام 1921م الشروط التالية للموافقة على استقلال تركية:
1- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.
2- أن تلغي الخلافة الإسلامية.
3- أن تتعهد بإخماد كلّ حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
4- أن تختار تركيا لها دستوراً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمدّ من أحكام الشريعة الإسلامية، والقائم على قواعدها، فاختارت تركية دستور سويسرا المدني، ونفذت ما أملته عليها بريطانية من شروط، وما تفرع عنها من استعمال الحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية، ومنع إقامة الأذان باللغة العربية، ومنع تعليم الدين والقرآن في المدارس ".
" ولقد اعترفت الماسونية بجميل صنع (مصطفى كمال)، فجاء في دائرة المعارف الماسونية ما يلي:
إنّ الانقلاب التركي الذي قام به الأخ العظيم مصطفى كمال أتاتورك أفاد الأمّة، فقد أبطل السلطنة، وألغى الخلافة، وأبطل المحاكم الشرعية، وألغى دين الدولة الإسلامية. أليس هذا الإصلاح هو ما تبتغيه الماسونية في كلّ أمة ناهضة؟. فمَن يماثل أتاتورك من رجالات الماسون سابقاً ولاحقاً؟ ".
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: بحث في التحديات الوطنية من وجهة نظر إخوان سوريا
الثامن عشر:- الخلافة والحضارة:
وندع الحديث عن هذه الحضارة لفوستاف لوبون العلاّمة الفرنسي الكبير في لقطات ومقتطفات من كتابه العظيم: (حضارة العرب).
" لم يلبث العرب بعد خروجهم من صحارى جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوّقها الثقافي، كما أدركوا تفوّقها الحربي، فجدّوا من فورهم ليكونوا على مستواها ".
" ولم يتقيد العرب في دراسة تلك الحضارة التي واجهتهم فجأة بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البيزنطيين من زمن طويل، فكانت الحرية من أسباب تقدّمهم السريع.. ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة ".
" فلقد أبدع العرب من فورهم بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، حضارة جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها... وإذا أمعنت النظر في المباني العربية، كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس، أو المساجد التي أقاموها في القاهرة، رأيتَ العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج درجة يتعذّر معها الانتباه إلى المصادر التي اشتقت منها ".
" والواقع أنّ حبّ العرب للعلم كان عظيماً، وأن الخلفاء لم يتركوا طريقاً لاجتذاب العلماء ورجال الفنّ إلا سلكوها، وأن أحد خلفاء بني العباس شهر الحرب على قيصر الروم ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد، وأن العلماء ورجال الفنّ والأدباء من جميع الملل والنحل أخذوا يتقاطرون إلى بغداد التي كانت مركز الثقافة العالمية، كما أخذوا يتقاطرون إلى عاصمة الأندلس قرطبة التي كانت مركزاً للعلوم والفنون والصناعة ".
" ولم يلبث العرب بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان أن أدركوا أنّ التجربة والترصد خير من أفضل الكتب... ويعزى إلى بيكن على العموم أنه أول مَن أقام بالتجربة والترصد، اللّذَين هما ركن المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأنّ ذلك كلّه كان من عمل العرب وحدهم ".
" وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارة التي ظهرت قبلهم، وتمكنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم وحضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة، كشعوب مصر والهندوس، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفنّ عمارتهم ".
" واستولت بعد ذلك أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب، وظلّ نفوذ العرب بها ثابتاً، ويلوح لنا أنّ رسوخ هذا النفوذ أبدي في جميع البقاع الآسيوية والأفريقية التي دخلوها، والتي تمتدّ من مراكش إلى الهند ".
" لم يكن العرب يتمّون فتح أسبانية حتى بدؤوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقلّ من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خَرِب المدن، ويقيموا أفخم المباني، ويوطّدوا وثيق العلاقات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرّغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان والرومان واللاتين، وينشئون الجامعات التي ظلّت وحدها ملجأً للثقافة في أوربة زمناً طويلاً ".
" وكان عرب الأندلس يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظيم، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذه الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخراً..وأثر عرب الأندلس في أخلاق الناس،فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أسمى ما تصبو إليه الإنسانية... ويمكن القول بأنّ التسامح الديني كان مطلقاً في دور ازدهار العرب...ومثل هذا التسامح مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة،وما منيت به من المذابح الدامية ".
" إنّه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم... والعرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا ممدين لنا وأئمة لنا ستة قرون.. وظلّت ترجمات كتب العرب - ولاسيما الكتب العلمية - مصدراً وحيداً تقريباً للتدريس في جامعات أوربا خمسة قرون أو ستّة قرون. وإذا كان هناك أمة تقرّ بأنّنا مدينون لها بمعرفة العالم الزمن القديم، فالعرب هم تلك الأمة.. فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافاً أبدياً. قال مسيوليبري: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة عدّة قرون ".
التاسع عشر:- حزب التحرير والخلافة:
انتهت الخلافة العثمانية وانتهى العرب والمسلمون إلى دويلات متوزّعة في الشرق والغرب، وغاب الحديث عن الجامعة الإسلامية، وعودة الخلافة الإسلامية، ولم يبقَ مَن يتبناها اليوم على ما هي غير حزب التحرير الإسلامي، وركز في كتبه على الخلافة، كيف هدمت، وكيف تعود.
ونستعرض آراءهم في ثلاث قضايا؛ مدة الرئاسة للخليفة، المدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة الخلافة، وحدة الخلافة:
مدة الرئاسة للخليفة: ليس لرئاسة الخليفة مدة محددة بزمن محدد، فما دام محافظاً على الشرع منفذاً لأحكامه قادراً على القيام بشؤون الدولة ومسؤوليات الخلافة، فإنه يبقى خليفة، ذلك أنّ نصّ البيعة الواردة في الأحاديث جاء مطلقاً، ولم يقيد بمدة معينة، ولما روى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة)). وفي رواية أخرى لمسلم عن طريق أم الحصين: (( يقودكم بكتاب الله)). وأيضاً فإنّ الخلفاء الراشدين قد بويع كلّ منهم بيعة مطلقة، وهي البيعة الواردة في الأحاديث، وكانوا غير محدودي المدة، فتولى كلّ منهم الخلافة منذ أن بويع حتى مات، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة - رِضوان الله عليهم - على أنه ليس للخلافة مدّة محدّدة، بل هي مطلقة، فإذا بويع ظلّ خليفة حتى يموت... ".
المدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة:
المدة التي يمهل بها المسلمون لإقامة خليفة هي ليلتان وثلاثة أيام، فلا يحلّ لمسلم أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة. أما تحديد أعلى الحدّ بليلتين؛ فلأنّ نصب الخليفة فرض من اللحظة التي يُتوفى فيها الخليفة السابق أو يُعزل، ولكن يجوز تأخير النصب مع الاشتغال به مدّة ليلتين وثلاثة أيام، فإذا زاد على ليلتين ولم يقيموا خليفة ينظر، فإذا كان المسلمون مشغولين بإقامة خليفة ولم يستطيعوا إنجازها خلال ليلتين لأمورٍ قاهرة لا قِبَل لهم بدفعها، فإنه يسقط الإثم عنهم؛ لانشغالهم بإقامة الفرض، ولاستكراههم على التأخير بما قهرهم عليه. روى ابن حبان وابن ماجة عن ابن عباس قال: (( إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه))، وإن لم يكونوا مشغولين بذلك فإنهم يأثمون جميعاً حتى يقوم الخليفة، وحينئذٍ يسقط الفرض عنهم. أما الإثم الذي ارتكبوه في قعودهم عن إقامة الخليفة فإنه لا يسقط عنهم، بل يبقى عليهم يحاسبهم الله عليه كمحاسبته على أيّ معصية يرتكبها المسلم في ترك القيام بالفرض ".
وحدة الخلافة: يجب أن يكون المسلمون جميعاً في دولة واحدة، وأن يكون لهم خليفة واحد لا غير. ويحرم شرعاً أن يكونَ للمسلمين في العالم أكثر من دولة واحدة، وأكثر من خليفة واحد.
كما يجب أن يكون نظام الحكم في دولة الخلافة نظام وحدة، ويحرم أن يكون نظاماً اتّحادياً، وذلك لِما روى مسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ومَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)). ولما روى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مَن أتاكم وأمركم جميع على رجلٍ واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه)). ولما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)). ولما روى مسلم أنّ أبا حازم قال: قاعدتُ أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خَلَفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، ستكون خلفاء فتكثر))، قالوا: فماذا تأمرنا؟. قال: ((... بيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقّهم، فإنّ الله سائلهم عما استرعاهم)).
فالحديث الأول يبين أنّه في حالة إعطاء الإمامة - أي الخلافة - لواحد وجبت طاعته، فإن جاء شخص آخر ينازعه الخلافة وجب قتاله وقتله إن لم يرجع عن هذه المنازعة.
والحديث الثاني يبين أنه عندما يكون المسلمون جماعة واحدة، تحت إمرة خليفة واحد، وجاء شخص يشقّ وحدة المسلمين ويفرّق جماعتهم، وجب قتله.. والحديثان يدلاّن كناية على منع تجزئة الدولة، والحثّ على عدم السماح بتقسيمها، ومنع الانفصال عنها، ولو بقوّة السيف.
والحديث الثالث يدلّ على أنّه في حالة خلوّ الدولة من الخليفة - بموته أو عزله أو اعتزاله - ومبايعة شخصين للخلافة، يجب قتل الآخر منهما، ومن باب أولى إذا أُعطيت لأكثر من اثنين، وهذا كناية عن منع تقسيم الدولة، ويعني تحريم جعل الدولة دولاً، بل يجب أن تبقى دولة واحدة.
والحديث الرابع يدلّ على أنّ الخلفاء سيكثرون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ الصحابة - رِضوان الله عليهم - سألوه بماذا يأمرهم عندما يكثر الخلفاء، فأجابهم بأنه يجب عليهم أن يفوا للخليفة الذي بايعوه أولاً؛ لأنّه هو الخليفة الشرعي، وهو وحده الذي له الطاعة. وأما الآخرون فلا طاعة لهم؛ لأنّ بيعتهم باطلة وغير شرعية؛ لأنّه لا يجوز أن يبايع لخليفة آخر مع وجود خليفة للمسلمين، وهذا الحديث يدلّ كذلك على وجوب أن تكون الطاعة لخليفة واحد، وبالتالي يدلّ على أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة، وأكثر من دولة واحدة ".
فقناعة حزب التحرير حسب النصوص السابقة منطلقة من استمرار الخلافة في هذا العصر بصِفتها نظام الحكم الإسلامي الوحيد، ولا تعترف بأيّ نظامٍ آخر غيره.
ويؤكّد هذا المعنى ما قاله زلوم في مقدّمة كتابه الآنف الذِّكر المبني على كتاب الشيخ النبهاني: " وبالنسبة لكتاب نظام الحكم الذي نحن بصدده، فقد عملنا في الطبعة الثالثة على توسيعه وإبراز واقع دولة الخلافة، وأجهزتها وأعمالها وما يتعلق بها بشكلٍ تفصيلي، ووضحنا أنّ شكل الحكم في الإسلام شكل فريد متميز يختلف عن جميع أنظمة الحكم الموجودة في العالم، وبينّا بالتفصيل قواعد الحكم وأجهزة دولة الخلافة، وطريق نصب الخليفة، وأساليب ذلك، ووضّحنا أنّ دولة الخلافة هي دولة بشرية وليست دولة إلهية، وجئنا على المعاونين وصلاحياتهم، وعلى حكم الشورى ومجلس الأمة وصلاحياته، وأبرزنا وجوب تطبيق الإسلام تطبيقاً كاملاً دفعة واحدة، وحرمة التدرج في تطبيق أحكامه، كما أبرزنا حرمة أن يكون الحكم في الدولة حكماً بوليسياً، ومتى تجب طاعة الحاكم ومتى تحرم طاعته، ومتى يجب أن يشهر السيف في وجهه، ووجوب محاسبته في كلّ حين ".
كما ينال بشكلٍ غير مباشر بالعاملين للإسلام بغير هذا المنهج، وهو المبرر الذي دعا إلى قيام حزب التحرير.
" وكان القائمون على العمل للإسلام ينادون بأفكار عامّة غير مبلورة، وليس فيها وضوح يبرز الإسلام كنظام كامل للحياة والدولة والمجتمع، وكانوا ينادون بالرجوع إلى الإسلام بشكلٍ عام مفتوح دون أن يكون في أذهانهم تصوّر واضح لأنظمة الإسلام ولا لكيفية إعادة الحكم بالإسلام، وغاب عن دعواتهم أن إعادة الحكم بما أنزل الله لا يتأتى إلا بإقامة دولة الخلافة. ولهذا لم يكن لإقامة الخلافة وإعادة الحكم بما أنزل الله في برنامج عملهم أيّ نصيب ".
وأهمّ ما جاء به التحرير، وخالف به السلف في شروط الخليفة هو: تقسيم الشروط إلى شروط انعقاد وشروط أفضلية.
فشروط الانعقاد: 1/ أن يكون مسلماً. 2/ أن يكون ذكراً. 3/ أن يكونَ بالغاً. 4/ أن يكونَ عاقلاً. 5/ أن يكون عدلاً. 6/ أن يكون حراً. 7/ أن يكون قادراً على القيام بأعباء الخلافة.
أما شروط الأفضلية فهي: 1/ أن يكون مجتهداً. 2/ أن يكونَ شجاعاً. 3/ أن يكون قرشياً. 4/ أن يكونَ هاشمياً أو علوياً ".
العشرون:- الإخوان المسلمون والخلافة:
تحت هذا العنوان بالضبط تحدث الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس، فقال: " ولعلّ من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك أنّ الإخوان يعتقدون أنّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها. والخليفة مناط به كثير من الأحكام في دين الله. ولهذا قدم الصحابة - رِضوان الله عليهم - النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فرغوا من تلك المهمة واطمأنّوا إلى إنجازها.
والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة، وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ من واجب المسلمين أن يهتمّوا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ........... عن مناهجها ثم ألغيت بتاتاً إلى الآن.
والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أنّ ذلك يحتاج إلى كثيرٍ من التمهيدات التي لا بدّ منها. وأنّ الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بدّ أن تسبقها خطوات.
لابدّ من تعاون تامّ ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلّها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.
وإن المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين، ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة، لظاهرتان طيبتان، وخطوتان واسعتان في هذا السبيل. ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا تَمّ ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظلّ الله في الأرض ".
فالطريقان مختلفتان تماماً بين التحرير والإخوان في نظرتهما إلى التطبيق العملي للخلافة.
فالخلافة عند التحرير تبدأ من الخليفة ومن دولة الخلافة، ولو قطراً واحداً، ثم تمضي فتضمّ الأقطار كلّها دفعة واحدة، ولا يجوز التدرج. إنما هي عند الإخوان تبدأ بالتدرج من الإمارة الواحدة إلى التي تليها حتى يجتمع الشمل بالطواعية والرضا، وتجتمع كلّ ممالك الإسلام على خليفة بعينه، يكون هو البداية الحقيقية لدولة الخلافة. فهناك اعتراف شرعي بالممالك الإسلامية ابتداءً؛ لأنّ الواقع على الأرض كذلك. ومن الوحدة لأقطار إلى الوحدة العربية إلى الوحدة الإسلامية.
ونخلص من هذا الرأي إلى أننا الآن على أرض الواقع أمام إمارة أو إمارات. وعندما تتطابق هذه الإمارات بقناعة واحدة يتمّ اختيار الخليفة.
وهذا يقودنا إلى التعامل مع الواقع اليوم، لا الأماني والخيال. ونبحث موضوع الأمير وكلّ ما يتعلق بشروطه.
الحادي والعشرون:- الإمـــارة:
مَن يختــار الأمير:
يقول الإمام أبو يعلى الحنبلي: فصل في ولايات الإمام.
وما يصدر عن الإمام من ولايات خلفائه أربعة أقسام:
" أحدها: من تكون ولايته عامّة في الأعمال العامة، وهم الوزراء؛ لأنّهم مستنابون في جميع النظرات من غير تخصيص.
الثـاني:مَن تكون ولايته عامّة في أعمالٍ خاصة، وهم الأمراء للأقاليم والبلدان... ".
فرؤساء الدول الإسلامية اليوم هم بمثابة الأمير على الإقليم.
وفي وجود الخليفة الذي يعين الأمر هو خليفة المسلمين،و كما يقول الماوردي:" وإذا قلد الخليفةُ أميراً على إقليمٍ أو بلد، كانت إمارته على ضربين؛ عامّة، وخاصة..
فأما العامّة فعلى ضربَين:
إمارة استكفاء: بعقد عن اختيار.
وإمارة استيلاء: بعقد عن اضطرار.
تعريفها: فإمارة الاستكفاء التي تنعقد عن اختياره، فتشتمل على عملٍ محدود ونظر معهود والتقليد فيها أن يفوض الخليفة إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله ".
فإمارة الاستكفاء إذن بمثابة ولاية الخليفة على جميع الأقاليم من حيث الصلاحيات، يفوض إليه إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في سائر أعماله.
وحين لا يكون هناك خليفة، فالأصل أن يُختار الأمير من الإقليم، من قِبل أهل الحلّ والعقد فيه، وهذا قياساً على المسلمين في المدينة حين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لهم أمير، فاختار أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار أميرهم. وقد تَمّ ذلك بالأكثرية، ويمكن أن يكون أكثر من مرشح كما في عهد عمر رضي الله عنه، ويختار أولوا الرأي الأمير بأكثريتهم، حيث يبايعونه على ذلك. وانطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أجدهم))، فالأولى في الحضر.
.................... رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة بعد استشهاد القادة الثلاثة: (... فأخذ الراية ثابت بن أقرم أحد بلعجلان وقال: يا أيها الناس، اصطلحوا على رجلٍ منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد...).
قال ابن حجر: لَمّا قُتل ابن رواحة، " ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري، فقال: أصالحوا على رجل، فقالوا: أنت لها. قال: لا، فأصالحوا على خالد بن الوليد "، " وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير، أي بغير نصّ من الإمام. قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه على المسلمين أن يقدّموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر "... وقال ابن حجر كذلك: " قال ابن المنير: يؤخذ من حديث الباب أن من تعين لولاية وتعذرت مراجعة الإمام فالولاية تثبت لذلك المعين شرعاً، وتجب طاعته حكماً ". كذا قال، ولا يخفى أن مثله معناه إذا اتفق الحاضرون عليه.
وفي هذه الفهوم والنصوص غنىً عن أي تعليق، بوجوب اختيار الأمير عند غياب الخليفة أو تعذّر حضوره، ويتمّ اختياره باتفاق الأمّة، وعلى الأمّة السمع والطاعة له.
وانتخاب أهل الحلّ والعقد الذين يمثلون مجلس الشورى أو الأمّة بأكثريتهم ملزمة له و...... البيعة الخاصة، ثم يعمد إلى البيعة العامّة من خلال الاستفتاء الشعبي.
أ / واجبـات الأمـير:
والعودة إلى تفويض الخليفة الذي ينصّ على صلاحيات الأمير، وهي:
" فيصير - أي الأمير - عامّ النظر فيما كان محدوداً من عمل ومعهوداً من نظر، فيشتمل نظره فيه على سبعة أمور:
1- أحدها: النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي وتقدير أرزاقهم..
2- الثاني: النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام.
3- والثالث: جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال فيهما، وتفريق ما استحقّ منها.
4- والرابع: حماية الدين والذبّ عن الحريم ومراعاة الدين من غير تغيير ولا تأويل.
5- والخامس: إقامة الحدود في حقّ الله وحقوق الآدميين.
6- والسادس: الإمامة في الجمع والجماعات حتى يؤمّ بها أو يستخلف عليها.
7- والسابع: تسيير الحجيج من عمله ومن سلكه من غير أهله حتى يوجهوا معانين فيه.
8- فإذا كان هذا الإقليم ثغراً متاخماً للعدوّ، واقترن بها ثامن، وهو جهاد مَن يليه من الأعداء وقسم غنائمهم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس ".
ب/ شـروط الأمـير:
" وتعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض ".
فإذا عدنا إلى شروط وزير التفويض نجدها ما يلي:
" ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده.. ويحتاج منها إلى شرط زائد على شروط الإمامة، وهو أن يكونَ من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفاصيلهما، فإنه مباشر لهما تارة، ومستنيب فيهما أخرى ".
فرؤساء الدول الإسلامية لا يشترط فيهم النسب القرشي، إنما يشترط فقط في الإمام الأعظم (الخليفة)، وما دون ذلك فشروطه شروط الخليفة، وصلاحياته كما شهدنا في الفقرة السابقة.
جـ/ مـدّة الأمـير:
والأصل في الأمير التوقيت وليس التأبيد، فمن حقّ الخليفة أن يعزله متى شاء وبدون شروط.
يقول الماوردي: " فهو نائب عنه، فيجوز له أن ينفرد بعزله والاستبدال به بحسب ما يؤديه الاجتهاد إليه من النظر ". وأهل الحلّ والعقد الذين صاروا بمثابة الخليفة، فمن يعين أو يختار هو الذي يعزل، فيحقّ لهم عزله أو توليته إلى مدّة معيّنة ولو كان مستقيم السيرة مؤدّياً لواجبه.
د / انعقــاد الإمــارة:
ويحتاج في ابتداء العقد أن يقول: قد قلّدتُك ناحية كذا إمارة على أهلها ونظراً على جميع ما يتعلّق بها على تفصيلٍ لا يدخله إجمال ولا يتناوله احتمال.
هـ/ صلاحيـات الأمـير:
" ويجوز لهذا الأمير أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بأمر الخليفة وبغير أمره، ولا يجوز أن يستوزر وزير تفويض إلا عن إذن الخليفة وأمره؛ لأنّ وزير التنفيذ معين، ووزير التفويض مستبد ".
وصلاحيات وزير التنفيذ هي:
" وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف، وشروطها أقلّ؛ لأنّ النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما حكم.. فهو معين بتنفيذ الأمور وليس بِوالٍ عليها ولا متقلداً لها.. وإنما هو مقصور النظر على أمرين؛ أحدهما: أن يؤدي إلى الخليفة، والثاني: أن يؤدي عنه، فيراعى فيه سبعة أوصاف:
1- أحدها: الأمانة، حتى لا يخون فيما اؤتُمِن عليه ولا يغشّ فيما استنصح فيه.
2- الثـاني: صدق اللهجة، حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه.
3- الثالث: قلة الطمع، حتى لا يرتشي فيما يلي، ولا ينخدع فيما يتساهل.
4- الرابـع: أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء؛ فإنّ العداوة تصدّ عن التناصف، وتحضّ على التعاطف.
5- الخامس: أن يكون ذكوراً لِما يؤديه إليه الخليفة وعنه؛ لأنّه شاهد له وعليه.
6- السادس: الذكاء والفطنة، حتى لا تدلس عليه الأمور فتشتبه ولا تموه عليه فتلتبس.
7- السـابع: أن لا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحقّ إلى الباطل. ويتدلس عليه المحقّ من المبطل.
8- الثـامن: فإذا كان هذا الوزير مشاركاً في الرأي، احتاج إلى وصفٍ ثامن، وهو الحنكة والتجربة ".
وهكذا نرى أن السُّلطة التنفيذية من رئيس الوزراء والوزراء معه كلهم وزراء تنفيذ مسؤولون أمام الأمير.
ثم يضيف الماوردي حظر وإجازة، هما:
1- الحظـر: " ولا يجوز أن تقوم بذلك امرأة، وإن كان خبرها مقبولاً؛ لِما تضمّنه معنى الولايات المصروفة عن النساء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما أفلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة)) ".
ولأنّ فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهنّ محظور.
2- الجـواز: " ويجوز أن يكونَ الوزير من أهل الذمّة وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم. ويكون الفرق بين هاتين الوزارتين بحسب الفرق بينهما في النظرين، وذلك من أربعة أوجه:
أحدها: أنه يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
الثاني: أنه يجوز لوزير التفويض أن يتصرّف في أموال بيت المال يقبض ما يستحقّ له ويدفع ما يجب فيه، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
الثالث: أنه يجوز لوزير التفويض أن يباشر الحروب، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
الرابع: أنه يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة، وليس ذلك لوزير التنفيذ ".
فوزير التفويض يمارس صلاحيات الخليفة، وليس كذلك وزير التنفيذ.
الثاني والعشرون:- ملخص البحـث:
1- الخلافة هي الولاية العامة على كافة الأمّة والقيام بأمورها والنهوض بأعبائها، أو هي موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
2- الإسلام لم يجعل الخلافة من أصول الاعتقاد على ما هو عليه جمهور العلماء. وشذّ الإمامية عن ذلك، فجعلوها واحداً من أركان الإيمان.
3- ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الخلافة في قوله: (( الخلافة بعدي ثلاثون عاماً، ثم تكون مُلكاً)). والخلافة الراشدة للخلفاء الأربعة ومدّة الحسن معهم رضي الله عنه هي ثلاثون عاماً.
4- أول خليفة اختاره المسلمون في تاريخهم هو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وأطلق عليه خليفة رسول الله.
5- الذي عليه العُرف العامّ هو إطلاق اسم الخليفة على كلّ مَن قام بأمر المسلمين القيام العامّ.
6- نخلص إلى أنّ الخلافة منهج وليست سُلطة حسب الأحاديث النبوية، وقد امتدّت ثلاثين عاماً. ثم أعقبها الملك العاض، ثم ملك الجبرية. وستعود الخلافة الراشدة في آخر الزمان، خلافة على منهاج النبوة، والأمراء الصالحون في التاريخ الإسلامي يمكن أن ينضمّوا إلى هؤلاء الخلفاء.
7- حكم نصب الخليفة واجب بالإجماع، واختلف في وجوبها بالشرع أو بالعقل، والأرجح بالشرع، وهي فرض كفاية، إذا قام بها مَن هو أهلها سقط، وإلا فالأمّة آثمة، وخاصة أهل الحلّ والعقد فيها. وشذّ عن ذلك مَن لا يعتدّ بخلافه.
8- شروط أهل الاختيار للخليفة، أو أهل الحلّ والعقد ثلاثة: العلم، والعدالة، والرأي والحكمة. ومنهم مَن اشترط الذكورية، وهو رأي مرجوح. وهم أهل العِلم والاختصاص ورؤساء الناس.
9- شروط الخليفة التي استنبطها الفقهاء أربعة عشر شرطاً: (البلوغ، العقل، البصر، السمع، النطق، سلامة الأعضاء، الحرية، الإسلام، الذكورية، العدالة، الشجاعة، العلم، النسب، صحة الرأي).
10- تنعقد الخلافة بترشيح الخليفة ابتداءً من خليفة سابق، أو بعض أهل العقد، ثم تكون البيعة الخاصة له من أكثريتهم، فتنعقد خلافته، ثم تكون البيعة العامّة للأمّة له.
11- يمكن أن يكون الاستفتاء العامّ للأمّة قبل بيعة أهل الحلّ والعقد كما جرى في خلافة عثمان رضي الله عنه.
12- أهل الحلّ والعقد هم بأكثريتهم يختارون الخليفة كما نصّ الحنابلة على ذلك. وهو ما نرجّحه.
13- مَن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، وأراد أن ينفرد عنهم، فقد عرّض نفسه ومرشّحه للقتل.
14- بالتدقيق في موضوع ولاية العهد وتفحص النصوص في عهد الخلافة الراشدة، نصل إلى أنّ العهد فيها لم يكن أكثر من ترشيح للخليفة. أما الخلافة فلا تنعقد إلا بعد بيعة أهل الحلّ والعقد له.
15- البيعة هي أن يجتمع أهل الحلّ والعقد، ويعقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها.
16- واجبات الخليفة عشرة أشياء: حفظ الدين، تنفيذ الأحكام، حماية البيضة، إقامة الحدود، تحصين الثغور، جهاد العدوّ، جباية الفيء والصدقات، توزيعها فيما شرعه الله، استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء، أن يباشر بنفسه الحكم.
17- واجبات الأمّة تجاه الخليفة: الطاعة في المعروف، المعاضدة والمناصرة في أمور الدين والدنيا، عدم الخروج عليه.
18- عزل الخليفة يتمّ إما بعزله نفسه (الاستقالة)، أو وفاته، أو عزل أهل الحلّ والعقد له إن أخلَّ بواجباته، أو عجزه عن ممارسة مهامّه إذا أسر من عدوّه.
19- تطوّرت الخلافة من الهدي النبوي خلال العهد الراشدي إلى الاهتمام بأبهة الخلافة ومظاهرها في العهد الأموي، واتساع رقعتها كذلك. ثم فاقت بأبهتها الأكاسرة والقياصرة في العهد العباسي الأول، إلى انحسارها وانتقال السلطة للوزراء والسلاطين في عهد البويهيين والسلاجقة.
20- مقرّات الخلافة: المدينة، الكوفة، دمشق، بغداد، مصر، استامبول، الأندلس أو غرناطة.
21- امتدّ حكم الخلافة خلال التاريخ الإسلامي فيما بين المشارق والمغارب (العراق، أذربيجان، أرمينية، الأهواز،كرمان، سجستان، فارس، السند، الهند، ما وراء النهر، خراسان، طبرستان) في المشرق.وفي المغرب: (أفريقية،الغرب الأوسط،الغرب الأقصى، الأندلس). وفي الوسط: (الشام، ومصر، وبلاد الروم).
22- أما امتدادها في العهد العثماني: (القسطنطينية، بلاد القرم، جزر الأرخبيل، قلعة أوترانتو في إيطاليا، بلغراد، المجر، حصار فيينا، سواحل أوربا وشمال أفريقية، الجزائر، الشرق العربي، كردستان.. وغير ذلك).
23- نجحت جهود الدول الأوربية في إزالة الخلافة على مراحل: إسقاط السلطان عبد الحميد، عملية التغريب على يدي جمعية الاتحاد والترقي، وتقسيم العثمانيين إلى قوميات متنازعة، المؤامرات الأجنبية والدسائس الداخلية، الكمالية في تركية، وفي الوطن العربي والإسلامي التي خضعت للاستخبارات البريطانية، ونفذت شروطها.
24- الجهات الأربعة التي ساهمت في إسقاط الخلافة: الصهيونية، الماسونية، الدول الأوربية، الكمالية.
25- اعترفت الماسونية بدورها في إيصال أتاتورك للسلطة الذي ألغى الخلافة، وأبطل المحاكم الشرعية، وألغى دين الدولة.
26- لقد كان للحضارة الإسلامية في ظلّ الخلافة تأثير عظيم في العالم. فالعرب والمسلمون هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله في المعارف العلمية والأدبية والفلسفية. وظلّت ترجمات كتبهم هي المعتمدة في أوربا لخمسة قرون.وكما قال ليبيري: (لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة عدّة قرون).
27- حزب التحرير يرى أنّ الخلافة هي النظام الإسلامي الوحيد للحكم. ويحرم شرعاً أن يكونَ للمسلمين أكثر من دولة واحدة، وأبرزوا وجوب تطبيق الإسلام دفعة واحدة، وحرمة التدرج في التطبيق.
28- وخالف حزب التحرير السلف في شروط الخليفة؛ إذ اعتبروا النسب والاجتهاد شرطا أفضلية، لا شرطا انعقاد.
29- نظر الإخوان المسلمون إلى الواقع، فرغم اعتبارهم الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، وضرورة العمل لإعادتها انطلاقاً من الأحاديث الدالّة على ذلك، لكنهم يرون أنّها تحتاج إلى تمهيدات كثيرة، ثم تعاون بين الشعوب، ثم إقامة عصبة الأمم الإسلامية، ثم توحيد الممالك والدول تحت راية الخلافة.
30- الاعتراف بشرعية الدول الإسلامية القائمة اليوم بتطبيق أحكام الإمرة والأمير عليهم. فإمارة الاستكفاء إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله.
31- يقوم أهل الحلّ والعقد بانتخاب الأمير، ولا يشترط النسب للأمير، ولا يشترط الاستمرار، بل الأصل أن يكون بيد الخليفة أو أهل الحلّ والعقد عزله متى شاؤوا. وبذلك يمكن تحديد مدّة زمنية له.
32- صلاحيات الأمير هي صلاحيات الخليفة، لكن على إقليم. أو صلاحيات وزير التفويض، ويستعين بوزراء تنفيذيين يعينونه على الحكم.
33- وواجباته هي واجبات وزير التفويض نائب الخليفة، ويجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة. والخلاف في المرأة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
وندع الحديث عن هذه الحضارة لفوستاف لوبون العلاّمة الفرنسي الكبير في لقطات ومقتطفات من كتابه العظيم: (حضارة العرب).
" لم يلبث العرب بعد خروجهم من صحارى جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوّقها الثقافي، كما أدركوا تفوّقها الحربي، فجدّوا من فورهم ليكونوا على مستواها ".
" ولم يتقيد العرب في دراسة تلك الحضارة التي واجهتهم فجأة بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البيزنطيين من زمن طويل، فكانت الحرية من أسباب تقدّمهم السريع.. ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة ".
" فلقد أبدع العرب من فورهم بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، حضارة جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها... وإذا أمعنت النظر في المباني العربية، كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس، أو المساجد التي أقاموها في القاهرة، رأيتَ العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج درجة يتعذّر معها الانتباه إلى المصادر التي اشتقت منها ".
" والواقع أنّ حبّ العرب للعلم كان عظيماً، وأن الخلفاء لم يتركوا طريقاً لاجتذاب العلماء ورجال الفنّ إلا سلكوها، وأن أحد خلفاء بني العباس شهر الحرب على قيصر الروم ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد، وأن العلماء ورجال الفنّ والأدباء من جميع الملل والنحل أخذوا يتقاطرون إلى بغداد التي كانت مركز الثقافة العالمية، كما أخذوا يتقاطرون إلى عاصمة الأندلس قرطبة التي كانت مركزاً للعلوم والفنون والصناعة ".
" ولم يلبث العرب بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان أن أدركوا أنّ التجربة والترصد خير من أفضل الكتب... ويعزى إلى بيكن على العموم أنه أول مَن أقام بالتجربة والترصد، اللّذَين هما ركن المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأنّ ذلك كلّه كان من عمل العرب وحدهم ".
" وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارة التي ظهرت قبلهم، وتمكنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم وحضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة، كشعوب مصر والهندوس، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفنّ عمارتهم ".
" واستولت بعد ذلك أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب، وظلّ نفوذ العرب بها ثابتاً، ويلوح لنا أنّ رسوخ هذا النفوذ أبدي في جميع البقاع الآسيوية والأفريقية التي دخلوها، والتي تمتدّ من مراكش إلى الهند ".
" لم يكن العرب يتمّون فتح أسبانية حتى بدؤوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقلّ من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خَرِب المدن، ويقيموا أفخم المباني، ويوطّدوا وثيق العلاقات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرّغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان والرومان واللاتين، وينشئون الجامعات التي ظلّت وحدها ملجأً للثقافة في أوربة زمناً طويلاً ".
" وكان عرب الأندلس يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظيم، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذه الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخراً..وأثر عرب الأندلس في أخلاق الناس،فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أسمى ما تصبو إليه الإنسانية... ويمكن القول بأنّ التسامح الديني كان مطلقاً في دور ازدهار العرب...ومثل هذا التسامح مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة،وما منيت به من المذابح الدامية ".
" إنّه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم... والعرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا ممدين لنا وأئمة لنا ستة قرون.. وظلّت ترجمات كتب العرب - ولاسيما الكتب العلمية - مصدراً وحيداً تقريباً للتدريس في جامعات أوربا خمسة قرون أو ستّة قرون. وإذا كان هناك أمة تقرّ بأنّنا مدينون لها بمعرفة العالم الزمن القديم، فالعرب هم تلك الأمة.. فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافاً أبدياً. قال مسيوليبري: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة عدّة قرون ".
التاسع عشر:- حزب التحرير والخلافة:
انتهت الخلافة العثمانية وانتهى العرب والمسلمون إلى دويلات متوزّعة في الشرق والغرب، وغاب الحديث عن الجامعة الإسلامية، وعودة الخلافة الإسلامية، ولم يبقَ مَن يتبناها اليوم على ما هي غير حزب التحرير الإسلامي، وركز في كتبه على الخلافة، كيف هدمت، وكيف تعود.
ونستعرض آراءهم في ثلاث قضايا؛ مدة الرئاسة للخليفة، المدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة الخلافة، وحدة الخلافة:
مدة الرئاسة للخليفة: ليس لرئاسة الخليفة مدة محددة بزمن محدد، فما دام محافظاً على الشرع منفذاً لأحكامه قادراً على القيام بشؤون الدولة ومسؤوليات الخلافة، فإنه يبقى خليفة، ذلك أنّ نصّ البيعة الواردة في الأحاديث جاء مطلقاً، ولم يقيد بمدة معينة، ولما روى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأنّ رأسه زبيبة)). وفي رواية أخرى لمسلم عن طريق أم الحصين: (( يقودكم بكتاب الله)). وأيضاً فإنّ الخلفاء الراشدين قد بويع كلّ منهم بيعة مطلقة، وهي البيعة الواردة في الأحاديث، وكانوا غير محدودي المدة، فتولى كلّ منهم الخلافة منذ أن بويع حتى مات، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة - رِضوان الله عليهم - على أنه ليس للخلافة مدّة محدّدة، بل هي مطلقة، فإذا بويع ظلّ خليفة حتى يموت... ".
المدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة:
المدة التي يمهل بها المسلمون لإقامة خليفة هي ليلتان وثلاثة أيام، فلا يحلّ لمسلم أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة. أما تحديد أعلى الحدّ بليلتين؛ فلأنّ نصب الخليفة فرض من اللحظة التي يُتوفى فيها الخليفة السابق أو يُعزل، ولكن يجوز تأخير النصب مع الاشتغال به مدّة ليلتين وثلاثة أيام، فإذا زاد على ليلتين ولم يقيموا خليفة ينظر، فإذا كان المسلمون مشغولين بإقامة خليفة ولم يستطيعوا إنجازها خلال ليلتين لأمورٍ قاهرة لا قِبَل لهم بدفعها، فإنه يسقط الإثم عنهم؛ لانشغالهم بإقامة الفرض، ولاستكراههم على التأخير بما قهرهم عليه. روى ابن حبان وابن ماجة عن ابن عباس قال: (( إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه))، وإن لم يكونوا مشغولين بذلك فإنهم يأثمون جميعاً حتى يقوم الخليفة، وحينئذٍ يسقط الفرض عنهم. أما الإثم الذي ارتكبوه في قعودهم عن إقامة الخليفة فإنه لا يسقط عنهم، بل يبقى عليهم يحاسبهم الله عليه كمحاسبته على أيّ معصية يرتكبها المسلم في ترك القيام بالفرض ".
وحدة الخلافة: يجب أن يكون المسلمون جميعاً في دولة واحدة، وأن يكون لهم خليفة واحد لا غير. ويحرم شرعاً أن يكونَ للمسلمين في العالم أكثر من دولة واحدة، وأكثر من خليفة واحد.
كما يجب أن يكون نظام الحكم في دولة الخلافة نظام وحدة، ويحرم أن يكون نظاماً اتّحادياً، وذلك لِما روى مسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ومَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)). ولما روى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مَن أتاكم وأمركم جميع على رجلٍ واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه)). ولما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)). ولما روى مسلم أنّ أبا حازم قال: قاعدتُ أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خَلَفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، ستكون خلفاء فتكثر))، قالوا: فماذا تأمرنا؟. قال: ((... بيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقّهم، فإنّ الله سائلهم عما استرعاهم)).
فالحديث الأول يبين أنّه في حالة إعطاء الإمامة - أي الخلافة - لواحد وجبت طاعته، فإن جاء شخص آخر ينازعه الخلافة وجب قتاله وقتله إن لم يرجع عن هذه المنازعة.
والحديث الثاني يبين أنه عندما يكون المسلمون جماعة واحدة، تحت إمرة خليفة واحد، وجاء شخص يشقّ وحدة المسلمين ويفرّق جماعتهم، وجب قتله.. والحديثان يدلاّن كناية على منع تجزئة الدولة، والحثّ على عدم السماح بتقسيمها، ومنع الانفصال عنها، ولو بقوّة السيف.
والحديث الثالث يدلّ على أنّه في حالة خلوّ الدولة من الخليفة - بموته أو عزله أو اعتزاله - ومبايعة شخصين للخلافة، يجب قتل الآخر منهما، ومن باب أولى إذا أُعطيت لأكثر من اثنين، وهذا كناية عن منع تقسيم الدولة، ويعني تحريم جعل الدولة دولاً، بل يجب أن تبقى دولة واحدة.
والحديث الرابع يدلّ على أنّ الخلفاء سيكثرون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ الصحابة - رِضوان الله عليهم - سألوه بماذا يأمرهم عندما يكثر الخلفاء، فأجابهم بأنه يجب عليهم أن يفوا للخليفة الذي بايعوه أولاً؛ لأنّه هو الخليفة الشرعي، وهو وحده الذي له الطاعة. وأما الآخرون فلا طاعة لهم؛ لأنّ بيعتهم باطلة وغير شرعية؛ لأنّه لا يجوز أن يبايع لخليفة آخر مع وجود خليفة للمسلمين، وهذا الحديث يدلّ كذلك على وجوب أن تكون الطاعة لخليفة واحد، وبالتالي يدلّ على أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة، وأكثر من دولة واحدة ".
فقناعة حزب التحرير حسب النصوص السابقة منطلقة من استمرار الخلافة في هذا العصر بصِفتها نظام الحكم الإسلامي الوحيد، ولا تعترف بأيّ نظامٍ آخر غيره.
ويؤكّد هذا المعنى ما قاله زلوم في مقدّمة كتابه الآنف الذِّكر المبني على كتاب الشيخ النبهاني: " وبالنسبة لكتاب نظام الحكم الذي نحن بصدده، فقد عملنا في الطبعة الثالثة على توسيعه وإبراز واقع دولة الخلافة، وأجهزتها وأعمالها وما يتعلق بها بشكلٍ تفصيلي، ووضحنا أنّ شكل الحكم في الإسلام شكل فريد متميز يختلف عن جميع أنظمة الحكم الموجودة في العالم، وبينّا بالتفصيل قواعد الحكم وأجهزة دولة الخلافة، وطريق نصب الخليفة، وأساليب ذلك، ووضّحنا أنّ دولة الخلافة هي دولة بشرية وليست دولة إلهية، وجئنا على المعاونين وصلاحياتهم، وعلى حكم الشورى ومجلس الأمة وصلاحياته، وأبرزنا وجوب تطبيق الإسلام تطبيقاً كاملاً دفعة واحدة، وحرمة التدرج في تطبيق أحكامه، كما أبرزنا حرمة أن يكون الحكم في الدولة حكماً بوليسياً، ومتى تجب طاعة الحاكم ومتى تحرم طاعته، ومتى يجب أن يشهر السيف في وجهه، ووجوب محاسبته في كلّ حين ".
كما ينال بشكلٍ غير مباشر بالعاملين للإسلام بغير هذا المنهج، وهو المبرر الذي دعا إلى قيام حزب التحرير.
" وكان القائمون على العمل للإسلام ينادون بأفكار عامّة غير مبلورة، وليس فيها وضوح يبرز الإسلام كنظام كامل للحياة والدولة والمجتمع، وكانوا ينادون بالرجوع إلى الإسلام بشكلٍ عام مفتوح دون أن يكون في أذهانهم تصوّر واضح لأنظمة الإسلام ولا لكيفية إعادة الحكم بالإسلام، وغاب عن دعواتهم أن إعادة الحكم بما أنزل الله لا يتأتى إلا بإقامة دولة الخلافة. ولهذا لم يكن لإقامة الخلافة وإعادة الحكم بما أنزل الله في برنامج عملهم أيّ نصيب ".
وأهمّ ما جاء به التحرير، وخالف به السلف في شروط الخليفة هو: تقسيم الشروط إلى شروط انعقاد وشروط أفضلية.
فشروط الانعقاد: 1/ أن يكون مسلماً. 2/ أن يكون ذكراً. 3/ أن يكونَ بالغاً. 4/ أن يكونَ عاقلاً. 5/ أن يكون عدلاً. 6/ أن يكون حراً. 7/ أن يكون قادراً على القيام بأعباء الخلافة.
أما شروط الأفضلية فهي: 1/ أن يكون مجتهداً. 2/ أن يكونَ شجاعاً. 3/ أن يكون قرشياً. 4/ أن يكونَ هاشمياً أو علوياً ".
العشرون:- الإخوان المسلمون والخلافة:
تحت هذا العنوان بالضبط تحدث الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس، فقال: " ولعلّ من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك أنّ الإخوان يعتقدون أنّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها. والخليفة مناط به كثير من الأحكام في دين الله. ولهذا قدم الصحابة - رِضوان الله عليهم - النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فرغوا من تلك المهمة واطمأنّوا إلى إنجازها.
والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة، وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ من واجب المسلمين أن يهتمّوا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ........... عن مناهجها ثم ألغيت بتاتاً إلى الآن.
والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أنّ ذلك يحتاج إلى كثيرٍ من التمهيدات التي لا بدّ منها. وأنّ الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بدّ أن تسبقها خطوات.
لابدّ من تعاون تامّ ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلّها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.
وإن المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين، ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة، لظاهرتان طيبتان، وخطوتان واسعتان في هذا السبيل. ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا تَمّ ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظلّ الله في الأرض ".
فالطريقان مختلفتان تماماً بين التحرير والإخوان في نظرتهما إلى التطبيق العملي للخلافة.
فالخلافة عند التحرير تبدأ من الخليفة ومن دولة الخلافة، ولو قطراً واحداً، ثم تمضي فتضمّ الأقطار كلّها دفعة واحدة، ولا يجوز التدرج. إنما هي عند الإخوان تبدأ بالتدرج من الإمارة الواحدة إلى التي تليها حتى يجتمع الشمل بالطواعية والرضا، وتجتمع كلّ ممالك الإسلام على خليفة بعينه، يكون هو البداية الحقيقية لدولة الخلافة. فهناك اعتراف شرعي بالممالك الإسلامية ابتداءً؛ لأنّ الواقع على الأرض كذلك. ومن الوحدة لأقطار إلى الوحدة العربية إلى الوحدة الإسلامية.
ونخلص من هذا الرأي إلى أننا الآن على أرض الواقع أمام إمارة أو إمارات. وعندما تتطابق هذه الإمارات بقناعة واحدة يتمّ اختيار الخليفة.
وهذا يقودنا إلى التعامل مع الواقع اليوم، لا الأماني والخيال. ونبحث موضوع الأمير وكلّ ما يتعلق بشروطه.
الحادي والعشرون:- الإمـــارة:
مَن يختــار الأمير:
يقول الإمام أبو يعلى الحنبلي: فصل في ولايات الإمام.
وما يصدر عن الإمام من ولايات خلفائه أربعة أقسام:
" أحدها: من تكون ولايته عامّة في الأعمال العامة، وهم الوزراء؛ لأنّهم مستنابون في جميع النظرات من غير تخصيص.
الثـاني:مَن تكون ولايته عامّة في أعمالٍ خاصة، وهم الأمراء للأقاليم والبلدان... ".
فرؤساء الدول الإسلامية اليوم هم بمثابة الأمير على الإقليم.
وفي وجود الخليفة الذي يعين الأمر هو خليفة المسلمين،و كما يقول الماوردي:" وإذا قلد الخليفةُ أميراً على إقليمٍ أو بلد، كانت إمارته على ضربين؛ عامّة، وخاصة..
فأما العامّة فعلى ضربَين:
إمارة استكفاء: بعقد عن اختيار.
وإمارة استيلاء: بعقد عن اضطرار.
تعريفها: فإمارة الاستكفاء التي تنعقد عن اختياره، فتشتمل على عملٍ محدود ونظر معهود والتقليد فيها أن يفوض الخليفة إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله ".
فإمارة الاستكفاء إذن بمثابة ولاية الخليفة على جميع الأقاليم من حيث الصلاحيات، يفوض إليه إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في سائر أعماله.
وحين لا يكون هناك خليفة، فالأصل أن يُختار الأمير من الإقليم، من قِبل أهل الحلّ والعقد فيه، وهذا قياساً على المسلمين في المدينة حين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لهم أمير، فاختار أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار أميرهم. وقد تَمّ ذلك بالأكثرية، ويمكن أن يكون أكثر من مرشح كما في عهد عمر رضي الله عنه، ويختار أولوا الرأي الأمير بأكثريتهم، حيث يبايعونه على ذلك. وانطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أجدهم))، فالأولى في الحضر.
.................... رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة بعد استشهاد القادة الثلاثة: (... فأخذ الراية ثابت بن أقرم أحد بلعجلان وقال: يا أيها الناس، اصطلحوا على رجلٍ منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد...).
قال ابن حجر: لَمّا قُتل ابن رواحة، " ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري، فقال: أصالحوا على رجل، فقالوا: أنت لها. قال: لا، فأصالحوا على خالد بن الوليد "، " وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير، أي بغير نصّ من الإمام. قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه على المسلمين أن يقدّموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر "... وقال ابن حجر كذلك: " قال ابن المنير: يؤخذ من حديث الباب أن من تعين لولاية وتعذرت مراجعة الإمام فالولاية تثبت لذلك المعين شرعاً، وتجب طاعته حكماً ". كذا قال، ولا يخفى أن مثله معناه إذا اتفق الحاضرون عليه.
وفي هذه الفهوم والنصوص غنىً عن أي تعليق، بوجوب اختيار الأمير عند غياب الخليفة أو تعذّر حضوره، ويتمّ اختياره باتفاق الأمّة، وعلى الأمّة السمع والطاعة له.
وانتخاب أهل الحلّ والعقد الذين يمثلون مجلس الشورى أو الأمّة بأكثريتهم ملزمة له و...... البيعة الخاصة، ثم يعمد إلى البيعة العامّة من خلال الاستفتاء الشعبي.
أ / واجبـات الأمـير:
والعودة إلى تفويض الخليفة الذي ينصّ على صلاحيات الأمير، وهي:
" فيصير - أي الأمير - عامّ النظر فيما كان محدوداً من عمل ومعهوداً من نظر، فيشتمل نظره فيه على سبعة أمور:
1- أحدها: النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي وتقدير أرزاقهم..
2- الثاني: النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام.
3- والثالث: جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال فيهما، وتفريق ما استحقّ منها.
4- والرابع: حماية الدين والذبّ عن الحريم ومراعاة الدين من غير تغيير ولا تأويل.
5- والخامس: إقامة الحدود في حقّ الله وحقوق الآدميين.
6- والسادس: الإمامة في الجمع والجماعات حتى يؤمّ بها أو يستخلف عليها.
7- والسابع: تسيير الحجيج من عمله ومن سلكه من غير أهله حتى يوجهوا معانين فيه.
8- فإذا كان هذا الإقليم ثغراً متاخماً للعدوّ، واقترن بها ثامن، وهو جهاد مَن يليه من الأعداء وقسم غنائمهم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس ".
ب/ شـروط الأمـير:
" وتعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض ".
فإذا عدنا إلى شروط وزير التفويض نجدها ما يلي:
" ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده.. ويحتاج منها إلى شرط زائد على شروط الإمامة، وهو أن يكونَ من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفاصيلهما، فإنه مباشر لهما تارة، ومستنيب فيهما أخرى ".
فرؤساء الدول الإسلامية لا يشترط فيهم النسب القرشي، إنما يشترط فقط في الإمام الأعظم (الخليفة)، وما دون ذلك فشروطه شروط الخليفة، وصلاحياته كما شهدنا في الفقرة السابقة.
جـ/ مـدّة الأمـير:
والأصل في الأمير التوقيت وليس التأبيد، فمن حقّ الخليفة أن يعزله متى شاء وبدون شروط.
يقول الماوردي: " فهو نائب عنه، فيجوز له أن ينفرد بعزله والاستبدال به بحسب ما يؤديه الاجتهاد إليه من النظر ". وأهل الحلّ والعقد الذين صاروا بمثابة الخليفة، فمن يعين أو يختار هو الذي يعزل، فيحقّ لهم عزله أو توليته إلى مدّة معيّنة ولو كان مستقيم السيرة مؤدّياً لواجبه.
د / انعقــاد الإمــارة:
ويحتاج في ابتداء العقد أن يقول: قد قلّدتُك ناحية كذا إمارة على أهلها ونظراً على جميع ما يتعلّق بها على تفصيلٍ لا يدخله إجمال ولا يتناوله احتمال.
هـ/ صلاحيـات الأمـير:
" ويجوز لهذا الأمير أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بأمر الخليفة وبغير أمره، ولا يجوز أن يستوزر وزير تفويض إلا عن إذن الخليفة وأمره؛ لأنّ وزير التنفيذ معين، ووزير التفويض مستبد ".
وصلاحيات وزير التنفيذ هي:
" وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف، وشروطها أقلّ؛ لأنّ النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما حكم.. فهو معين بتنفيذ الأمور وليس بِوالٍ عليها ولا متقلداً لها.. وإنما هو مقصور النظر على أمرين؛ أحدهما: أن يؤدي إلى الخليفة، والثاني: أن يؤدي عنه، فيراعى فيه سبعة أوصاف:
1- أحدها: الأمانة، حتى لا يخون فيما اؤتُمِن عليه ولا يغشّ فيما استنصح فيه.
2- الثـاني: صدق اللهجة، حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه.
3- الثالث: قلة الطمع، حتى لا يرتشي فيما يلي، ولا ينخدع فيما يتساهل.
4- الرابـع: أن يسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء؛ فإنّ العداوة تصدّ عن التناصف، وتحضّ على التعاطف.
5- الخامس: أن يكون ذكوراً لِما يؤديه إليه الخليفة وعنه؛ لأنّه شاهد له وعليه.
6- السادس: الذكاء والفطنة، حتى لا تدلس عليه الأمور فتشتبه ولا تموه عليه فتلتبس.
7- السـابع: أن لا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحقّ إلى الباطل. ويتدلس عليه المحقّ من المبطل.
8- الثـامن: فإذا كان هذا الوزير مشاركاً في الرأي، احتاج إلى وصفٍ ثامن، وهو الحنكة والتجربة ".
وهكذا نرى أن السُّلطة التنفيذية من رئيس الوزراء والوزراء معه كلهم وزراء تنفيذ مسؤولون أمام الأمير.
ثم يضيف الماوردي حظر وإجازة، هما:
1- الحظـر: " ولا يجوز أن تقوم بذلك امرأة، وإن كان خبرها مقبولاً؛ لِما تضمّنه معنى الولايات المصروفة عن النساء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما أفلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة)) ".
ولأنّ فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهنّ محظور.
2- الجـواز: " ويجوز أن يكونَ الوزير من أهل الذمّة وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم. ويكون الفرق بين هاتين الوزارتين بحسب الفرق بينهما في النظرين، وذلك من أربعة أوجه:
أحدها: أنه يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
الثاني: أنه يجوز لوزير التفويض أن يتصرّف في أموال بيت المال يقبض ما يستحقّ له ويدفع ما يجب فيه، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
الثالث: أنه يجوز لوزير التفويض أن يباشر الحروب، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
الرابع: أنه يجوز لوزير التفويض أن يستبد بتقليد الولاة، وليس ذلك لوزير التنفيذ ".
فوزير التفويض يمارس صلاحيات الخليفة، وليس كذلك وزير التنفيذ.
الثاني والعشرون:- ملخص البحـث:
1- الخلافة هي الولاية العامة على كافة الأمّة والقيام بأمورها والنهوض بأعبائها، أو هي موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
2- الإسلام لم يجعل الخلافة من أصول الاعتقاد على ما هو عليه جمهور العلماء. وشذّ الإمامية عن ذلك، فجعلوها واحداً من أركان الإيمان.
3- ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الخلافة في قوله: (( الخلافة بعدي ثلاثون عاماً، ثم تكون مُلكاً)). والخلافة الراشدة للخلفاء الأربعة ومدّة الحسن معهم رضي الله عنه هي ثلاثون عاماً.
4- أول خليفة اختاره المسلمون في تاريخهم هو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، وأطلق عليه خليفة رسول الله.
5- الذي عليه العُرف العامّ هو إطلاق اسم الخليفة على كلّ مَن قام بأمر المسلمين القيام العامّ.
6- نخلص إلى أنّ الخلافة منهج وليست سُلطة حسب الأحاديث النبوية، وقد امتدّت ثلاثين عاماً. ثم أعقبها الملك العاض، ثم ملك الجبرية. وستعود الخلافة الراشدة في آخر الزمان، خلافة على منهاج النبوة، والأمراء الصالحون في التاريخ الإسلامي يمكن أن ينضمّوا إلى هؤلاء الخلفاء.
7- حكم نصب الخليفة واجب بالإجماع، واختلف في وجوبها بالشرع أو بالعقل، والأرجح بالشرع، وهي فرض كفاية، إذا قام بها مَن هو أهلها سقط، وإلا فالأمّة آثمة، وخاصة أهل الحلّ والعقد فيها. وشذّ عن ذلك مَن لا يعتدّ بخلافه.
8- شروط أهل الاختيار للخليفة، أو أهل الحلّ والعقد ثلاثة: العلم، والعدالة، والرأي والحكمة. ومنهم مَن اشترط الذكورية، وهو رأي مرجوح. وهم أهل العِلم والاختصاص ورؤساء الناس.
9- شروط الخليفة التي استنبطها الفقهاء أربعة عشر شرطاً: (البلوغ، العقل، البصر، السمع، النطق، سلامة الأعضاء، الحرية، الإسلام، الذكورية، العدالة، الشجاعة، العلم، النسب، صحة الرأي).
10- تنعقد الخلافة بترشيح الخليفة ابتداءً من خليفة سابق، أو بعض أهل العقد، ثم تكون البيعة الخاصة له من أكثريتهم، فتنعقد خلافته، ثم تكون البيعة العامّة للأمّة له.
11- يمكن أن يكون الاستفتاء العامّ للأمّة قبل بيعة أهل الحلّ والعقد كما جرى في خلافة عثمان رضي الله عنه.
12- أهل الحلّ والعقد هم بأكثريتهم يختارون الخليفة كما نصّ الحنابلة على ذلك. وهو ما نرجّحه.
13- مَن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، وأراد أن ينفرد عنهم، فقد عرّض نفسه ومرشّحه للقتل.
14- بالتدقيق في موضوع ولاية العهد وتفحص النصوص في عهد الخلافة الراشدة، نصل إلى أنّ العهد فيها لم يكن أكثر من ترشيح للخليفة. أما الخلافة فلا تنعقد إلا بعد بيعة أهل الحلّ والعقد له.
15- البيعة هي أن يجتمع أهل الحلّ والعقد، ويعقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها.
16- واجبات الخليفة عشرة أشياء: حفظ الدين، تنفيذ الأحكام، حماية البيضة، إقامة الحدود، تحصين الثغور، جهاد العدوّ، جباية الفيء والصدقات، توزيعها فيما شرعه الله، استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء، أن يباشر بنفسه الحكم.
17- واجبات الأمّة تجاه الخليفة: الطاعة في المعروف، المعاضدة والمناصرة في أمور الدين والدنيا، عدم الخروج عليه.
18- عزل الخليفة يتمّ إما بعزله نفسه (الاستقالة)، أو وفاته، أو عزل أهل الحلّ والعقد له إن أخلَّ بواجباته، أو عجزه عن ممارسة مهامّه إذا أسر من عدوّه.
19- تطوّرت الخلافة من الهدي النبوي خلال العهد الراشدي إلى الاهتمام بأبهة الخلافة ومظاهرها في العهد الأموي، واتساع رقعتها كذلك. ثم فاقت بأبهتها الأكاسرة والقياصرة في العهد العباسي الأول، إلى انحسارها وانتقال السلطة للوزراء والسلاطين في عهد البويهيين والسلاجقة.
20- مقرّات الخلافة: المدينة، الكوفة، دمشق، بغداد، مصر، استامبول، الأندلس أو غرناطة.
21- امتدّ حكم الخلافة خلال التاريخ الإسلامي فيما بين المشارق والمغارب (العراق، أذربيجان، أرمينية، الأهواز،كرمان، سجستان، فارس، السند، الهند، ما وراء النهر، خراسان، طبرستان) في المشرق.وفي المغرب: (أفريقية،الغرب الأوسط،الغرب الأقصى، الأندلس). وفي الوسط: (الشام، ومصر، وبلاد الروم).
22- أما امتدادها في العهد العثماني: (القسطنطينية، بلاد القرم، جزر الأرخبيل، قلعة أوترانتو في إيطاليا، بلغراد، المجر، حصار فيينا، سواحل أوربا وشمال أفريقية، الجزائر، الشرق العربي، كردستان.. وغير ذلك).
23- نجحت جهود الدول الأوربية في إزالة الخلافة على مراحل: إسقاط السلطان عبد الحميد، عملية التغريب على يدي جمعية الاتحاد والترقي، وتقسيم العثمانيين إلى قوميات متنازعة، المؤامرات الأجنبية والدسائس الداخلية، الكمالية في تركية، وفي الوطن العربي والإسلامي التي خضعت للاستخبارات البريطانية، ونفذت شروطها.
24- الجهات الأربعة التي ساهمت في إسقاط الخلافة: الصهيونية، الماسونية، الدول الأوربية، الكمالية.
25- اعترفت الماسونية بدورها في إيصال أتاتورك للسلطة الذي ألغى الخلافة، وأبطل المحاكم الشرعية، وألغى دين الدولة.
26- لقد كان للحضارة الإسلامية في ظلّ الخلافة تأثير عظيم في العالم. فالعرب والمسلمون هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله في المعارف العلمية والأدبية والفلسفية. وظلّت ترجمات كتبهم هي المعتمدة في أوربا لخمسة قرون.وكما قال ليبيري: (لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة عدّة قرون).
27- حزب التحرير يرى أنّ الخلافة هي النظام الإسلامي الوحيد للحكم. ويحرم شرعاً أن يكونَ للمسلمين أكثر من دولة واحدة، وأبرزوا وجوب تطبيق الإسلام دفعة واحدة، وحرمة التدرج في التطبيق.
28- وخالف حزب التحرير السلف في شروط الخليفة؛ إذ اعتبروا النسب والاجتهاد شرطا أفضلية، لا شرطا انعقاد.
29- نظر الإخوان المسلمون إلى الواقع، فرغم اعتبارهم الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، وضرورة العمل لإعادتها انطلاقاً من الأحاديث الدالّة على ذلك، لكنهم يرون أنّها تحتاج إلى تمهيدات كثيرة، ثم تعاون بين الشعوب، ثم إقامة عصبة الأمم الإسلامية، ثم توحيد الممالك والدول تحت راية الخلافة.
30- الاعتراف بشرعية الدول الإسلامية القائمة اليوم بتطبيق أحكام الإمرة والأمير عليهم. فإمارة الاستكفاء إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله.
31- يقوم أهل الحلّ والعقد بانتخاب الأمير، ولا يشترط النسب للأمير، ولا يشترط الاستمرار، بل الأصل أن يكون بيد الخليفة أو أهل الحلّ والعقد عزله متى شاؤوا. وبذلك يمكن تحديد مدّة زمنية له.
32- صلاحيات الأمير هي صلاحيات الخليفة، لكن على إقليم. أو صلاحيات وزير التفويض، ويستعين بوزراء تنفيذيين يعينونه على الحكم.
33- وواجباته هي واجبات وزير التفويض نائب الخليفة، ويجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة. والخلاف في المرأة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» الاقتصاد المصري.. تحديات ومقترحات / إخوان أون لاين
» التحديات الدولية في الإسلام
» ابن رشد ، وجهة نظر
» قراءة فى كتاب الأحلام من وجهة نظر الإسلام
» وجهة نظر في الوحدة الإسلامية / الشيخ مصطفى ملص
» التحديات الدولية في الإسلام
» ابن رشد ، وجهة نظر
» قراءة فى كتاب الأحلام من وجهة نظر الإسلام
» وجهة نظر في الوحدة الإسلامية / الشيخ مصطفى ملص
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى