حريق مكتبة الإسكندرية في ضوء النقد التاريخي
صفحة 1 من اصل 1
حريق مكتبة الإسكندرية في ضوء النقد التاريخي
بقلم نادر قريط (نقلاً عن الأوان)
مجازر المعرفة وإعدام الكتب ربّما حرّضت الشاعر الألماني هاينه ليكتب: هناك حيث يحرقون الكتب يحرقون البشر أيضا.
فجميعنا سمع عن مكتبة الإسكندرية، إحدى منارات المعرفة لعصر الأنتيكا وكيف التهمتها نيران التعصّب، وكلّنا سمع عن نهر دجلة الذي اسودّ ماؤه بحبر مكتبات بغداد، التي ألقاها هولاكو، وكلنا يعرف قصة خزائن الكتب الفاطمية النفيسة، التي أكلتها نار صلاح الدين بن أيوب، وكيف تحوّل جلد أغلفتها إلى أحذية انتعلها الحفاة.. والأغرب أنّ القصص تتكرّر ويتكرّر شهودها: فالموروث يخبرنا عن قصّة حرق مكتبة (العالم) في الإسكندرية، ويصف لنا كيف جاء أمر الخليفة عمر بن الخطاب، بعد أن استفتاه ابن العاص بشأنها، فقال له ما معناه: إن كانت نافعة فقد عوّضنا الله بكتابه الكريم. وإن كانت ضارّة فالنار أحقّ بها.
القصّة تتكرّر أثناء فتح فارس وحرق المكتبة السورو ـ آرامية في جنديشابور؟!
كلّ شيء يتحدّث عن حرق الكتب. عثمان حرق المصاحف المخالفة. قسطنطين التاسع حرق الأناجيل المحرّفة، اليهود حرقوا النسخ القديمة بعد أن أنجزوا التوراة الميسورية. حتى عالم الكتاب المقدس "تيشندورف"، الذي عثر على (أو ربّما زوّر) المخطوط السينائي منتصف القرن 19، اتّهم رهبان دير كاترين (الأجلاف حسب زعمه) بأنّهم كانوا على وشك حرقه للتدفئة (لولا عناية الله التي قادته إلى ذلك المكان الموحش ليُنقذ هذا الكنز من أيدي الوحوش؟!) والأحلى أنّ المخطوط الحلبي للكتاب المقدس (المفترض أنه مكتوب على جلد ثمين) عثر عليه في إسطنبول، بأيدي باعة سمك، استخدموا صحفه للفّ مشتريات الزبائن؟!
حتى الحاجة أمّ أحمد والدة محمد سمّان، الذي عثر (بالصدفة؟!) على كنز نجا حمادي عام 1945، انتزعت أوراقا من تلك المصنّفات القبطية النادرة، لإيقاد تنّور الخبز؟
في الحقيقة إنّ حرق المكتبات والكتب من ألغاز التاريخ؟ هل ما حدث حدث فعلا، أم أننا ضحية للأساطير والحكايا؟ من يستطيع تأكيد تلك الحرائق المروّعة التي دمّرت ذاكرتنا؟
أثناء ترجمة كاتب السطور لفصول من كتاب نقدي "تزوير التاريخ" عثرت على ما يثير الفضول والشهية.. فالإيطالي لوتشاينو كانفورا Luciano Canfora ترك كتابا بعنوان: المكتبة المفقودة ( la bibliotrca scomparsa صدر عام 1986) يتحدّث فيه عن مكتبات العالم القديم. بلغة مغلّفة بروح السخرية والدعابة.. وكان يمكن للموضوع أن ينتهي عند هذا الحدّ، فكتّاب نقد التاريخ لديهم شطحاتهم أيضا، لكن الأمر لا ينطبق تماما على كانفورا، الذي يُوصف بأنه من أفضل الاختصاصيين ودارسي تراث الأنتيكا الكلاسيكي (الهليني اليوناني الروماني)، ومشاركة في هذا الجدل القديم الحديث، وجدت أن أختصر المادة لتتناسب مع ثقافة النت السريعة.
المكتبة المفقودة: لوتشيانو كانفورا
تجدر الإشارة إلى أنّ النص الألماني يخبرنا بأنّ عنوان كانفورا "المكتبة المفقودة (أو المُختفية)" مزدوج الدلالة، وينطوي على جناس لفظيّ، فالعبارة تعني أيضا: المكتبة المُخجلة (منPlamable ) وكانفورا يقول بصوت عال: إنّ المكتبة الشهيرة لمدينة طيبة ذات البوابات المائة، ليس لها وجود مثلها مثل مكتبة الإسكندرية وبرغامون Prgamon (1) ، وإنّ تدمير تلك الكنوز العظيمة للأنتيكا هو أمر غريب، تمّ تسويقه بواسطة بروباغاندا وأصبح بمثابة حقيقة تاريخية؟؟
كانفورا أحد أهمّ العارفين بتراث الأنتيكا يبدأ بتعقّب رحلة إلى طيبة، قام بها هركاتايوس آبديرا Herkataios (عاش حوالي 300ق.م) رحلة وصلتنا عن طريق ديودور الصقلي، الذي يبتعد عنه 250 سنة. والذي نقل إثباتا عن كتابة هركاتايوس، زعم أنّه رآها بأم عينه، وهي تخبرنا عن زيارته لصالة رمسيس الثاني (حيث المكتبة) التي وصفها بما يفوق التصوّر والتعقل.
ثمّ يضيف كانفورا بأنّ أوصاف المكتبة كما وردت عند هركاتايوس وناسخه ديودور، دفعت عشرات من علماء الأركيولوجيا للبحث عنها دون جدوى. لكنّ الأفكار الحادة لكانفورا ذهبت إلى أنّ مكتبة طيبة، ليست أكثر من بضعة رفوف حائطية وضعت فيها الكتب (لفائف البردي) الخاصة بالطقوس والقداس. تماما كما في معبد إدفو Edfu (حوالي 100كم جنوب الأقصر) المشابه، فهناك عُثر على جدارية تخبر بوجود خزانتين من كتب الملك تحتوي على 37 عنوانا، وضعت على اثنين من الرفوف الحائطية.
وبدعابة وصف كانفورا العلماء وهم يقفزون من ردهة إلى أخرى داخل صالة رمسيس حيث كانوا يتحاورون قليلا ثم يلجون ردهة أخرى على أمل أن تكون المكتبة المزعومة؟ أخيرا تقلص الحلم واختُصر في خزانة جدارية للكتب.
أما النقوش الهيروغليفية في الصالة فقد فسّرها لنا هركاتايوس بتصوّرات عبثية وجنونية، إذ وصف رمسيس وهو ينتصر على شعوب البكتير (في شمال أفغانستان الحالية، ويعتقد أنّ هذه التصوّرات مأخوذة عن رواية الإسكندر) ويخبرنا أيضا بأنّ قرابين رمسيس للآلهة بلغت سنويا 32 مليون من الفضة، ولم ينس أيضا أن يُخبر عن اضطهاد اليهود في مصر، مع توضيحه بأنّ مؤرخي الأنتيكا أغفلوا قصة اليهود لأنها ذات مضمون تيولوجي بحت (2)
ثمّ ينتقل كانفورا إلى رسالة اريستياس Aristeas وهي أفضل شهادة عن مكتبة الإسكندرية وعصر الأنتيكا. وارستياس يهودي يوناني إسكندراني وموظف في القصر والمكتبة، عرف كيف يخفي يهوديته، وحاول أيضا إثبات عراقة العهد القديم، لهذا اقترح على مدير المكتبة ديموديوس، إسماع الملك بطليموس الثاني (فيلاديلفيوس) بضرورة وضع الكتاب العبراني على رفوف المكتبة بعد ترجمته لليونانية، فقد عزي لهذا الملك جلبه أهمّ كتب العالم إلى مكتبته العالمية بعد ترجمتها لليونانية، وقُدّر عدد الكتب (من لفائف البردي) التي جُمعت بنصف مليون، وباختصار فإنّ مكتبة الإسكندرية تفوّقت على كلّ ما عاصرها، واستحقّت أن تُفرز مكانا لائقا للعهد القديم، سيما وأنّ الرعايا اليهود في المدينة كانوا نافذين ماليا.
وهكذا أرسل ارستياس ومرافقه إلى القدس لمقابلة الكاهن الأكبر اليعازر مع رجاء ملكي لتزويدهم بنسخة من الكتاب المقدس ( وهنا يمكن للمرء أن يهمس ويسأل: أما كان عند الجالية اليهودية نسخة من الكتاب المقدس؟)، وتعبيرا عن حسن النيّة قام الملك بعتق مئة ألف يهودي من غلّ العبودية وقام بتعويض مالكيهم من خزينة الدولة، وتمّ تعيين الكثير من اليهود في الجيش (هذا كلّه من أجل أن يتكرّم الكاهن أليعازر بمنح بركته وتزويد المكتبة بنسخة؟!) أمّا بقية الأقصوصة فيختصرها كانفورا بإرسال 72 رابي (كاهن يهودي) من الأسباط الإثني عشر ( نصف دزينة من كل سبط) وبعد أن أجابوا عن أسئلة الملك السبعة.. أمر بوقف عرض المسرحيات الإغريقية المسيئة لليهود التي كانت تُعرض في ساحات الإسكندرية، ثم أرسلهم إلى جزيرة فاروس، حيث أتمّوا الترجمة خلال 72 يوم.. وتسمّى هذه النسخة بالسبعينية، وهي الأساس لكلّ معلومات العهد القديم بالنسبة للمسيحيين، ولم يعترف اليهود بها إلا في عصر النهضة.
النقد التاريخي الحالي يعرف أنّ إطار هذه القصة يرمي لربط السبعينية بعصر الأنتيكا. أمّا كانفورا الذي قام بغربلة معظم المصادر وتقييمها، فيقول حول ترجمة السبعينية ما مفاده: كلما كبرت الرواية أصبحت أكثر مصداقية، حتى لو كانت تفاصيلها سخيفة وعبيطة.
الملفت أنّ مؤرّخي أيّامنا تركوا ارستياس يعيش حوالي 100ق.م، وهذا يعني أنّ عمله في المكتبة سبق ولادته بقرنين من الزمان (حلو)، أمّا حريق المكتبة الشهيرة فحدث خلال حرب أهلية، حُمّل وزرها يوليوس قيصر (توفي حوالي38 ق.م)، وأنتج تدمير أربعمائة ألف من الكتب (لفائف البردي)، وما عدا النسخة التي أرسلها الكاهن اليعازر، فقد احترقت أيضا مائتا ألف نسخة من الكتاب المقدّس؟! لهذا لم يجد كانفورا إلا أن يفقد أعصابه ويصل إلى نتيجة تقول: الحريق لم يحدث قط (ص.88)، لأنّ سترابون استمرّ يعمل في المكتبة 20سنة بعد دمارها الشهير، ومئات آلاف الكتب ضرب من الأساطير. أيضا في الإسكندرية كما في معبد إدفو وبرغامون، كانت المكتبة عبارة عن بضعة رفوف في حائط إحدى الصالات.
لكنّ مكتبة الإسكندرية لم تكن وحيدة زمانها، فهناك منافستها في أثينا الني نهب مصنفاتها الثمينة الملك الفارسي كسيرس ونقلها إلى بلاده، ثمّ استرجعها الملك سلويكوس بعد 180سنة، ويعزى تأسيسها إلى الملك استراموس (560 ـ 527 ق.م) الذي حرص أن تحتوي على أعمال الأدب وأشعار هوميروس. إضافة إلى ما ذُكر عن الإسكندر المقدوني، ورغبته في إنشاء مكتبة عالمية، إذ دأب على ترجمة أعمال الكلدانيين في نينوى، ناهيك عن بدايته بجمع وترجمة مليوني آية (حكمة) من نصوص زرادشت.
أما مكتبة برغامون فافتخرت بجمعها كتابات أرسطو وتلامذته، حيث أصابتها حمّى جمع الكتب لتغدو منافسا للإسكندرية، ممّا دعا الأخيرة إلى منع تصدير ورق البردي إليها، فاحتار البرغامونيون بأمرهم (وحكّوا رأسهم وفكّروا بعمق) فابتكروا الكتابة على الجلود، ومذّاك أصبحت الرقع الجلدية تسمّى "برغامنت" Pergament
كما تمّت إضافة حريق آخر إلى حريق مكتبة الإسكندرية في القرن الرابع ميلادي، هذه المرّة حمل وزره الأسقف تيوفيلوس حيث قامت غوغاء المسيحية بتدمير المعبد الوثني والمكتبة وأطعمت كنوزها للنيران، وهكذا استطاعت المسيحية أن تتخلّص من الفلسفة (وترتاح). واستمرّت الرواية، فبعد ثلاثمائة عام حضر (الغازي) العربي عمرو بن العاص (642م)، والتقى شارح أرسطو يوحنا فيلوبونوس في الإسكندرية، وتحاور معه حول مسائل إيمانية، وقضيّة ألوهية يسوع، وأثناء ذلك حاول يوحنّا أن يقنعه بإنقاذ المصنّفات اليونانية، فأرسل إلى الخليفة (كما في القصة المعروفة)، ويقال إنّها استخدمت في تسخين مياه أربعة آلاف من حمامات الإسكندرية لمدّة ستّة أشهر؟! وهكذا ضاع هذا الكنز المعرفي إلى الأبد باستثناء كتب أرسطو.
كانفورا أورد هذه المعلومات عن القفطي ( 1172 ـ 1248م) وهو مؤرّخ من صعيد مصر، يُنسب إليه 26 مؤلفا، لم يبق من نسخها الأصلية شيئا، إضافة لكتابين مفقودين هما: تاريخ السلاجقة، وسيرة محمد الغزنوي وأولاده.. أما معلوماته فقد وردت في كتابه "تاريخ الحُكما" الذي وصلنا كمقاطع ضمن كتاب لمحمد الجوزاني (الزوزاني)؟ ويتحدث فيه عن تقاليد (ومعارف) اليونان في الإسلام.
ثم يضيف كانفورا بأن القفطي، الذي تفصله حوالي 600 سنة، عن حديث ابن العاص مع يوحنا، لم يقدم وثيقة حول تلك المحادثة، ويستنتج أيضا أنّ عدد الكتب التالفة (54000) اقتبسه (القفطي) عن كاتب يوناني اسمه إيبيفانيوس.
ويستنتج الكاتب: بأنّ حرق الكتب هو جزء من نشر المسيحية (ص.184) وهناك خيط أحمر ناظم، فكل شيء بدأ في الإسكندرية، أمّا حريق مكتبات برغامون وانطاكيا روما أثينا فكان صدى؟ أيضا مكتبات بيزنطة احترقت جميعها.
خاتمة:
إن النقد المعاصر، بدأ يطرح علامات استفهام حول كثير من المسلّمات التاريخية. لاكتشافه آليات السرد الأسطوري، إضافة إلى حقائق على الأرض تتناقض مع ماهية الرواية. فحجم المدن القديمة وأعداد سكانها، تحدّده أسوارها وآثارها الدارسة.. إنّ عدد سكان العالم القديم كان ضئيلا، والمدن كانت عرضة للأوبئة والكوارث، والقراءة والكتابة اختصت بالنخبة والدوائر السلطانية والملكية، ولم تكن مشاعا للناس، وتقنيات الكتابة وموادّها لم تكن ميسّرة..لذا فإنّ أعداد الكتب والمكتبات (الشهيدة) مبالغ بأمرها..الإسكندرية لم تكن قط بحاجة لـ 200ألف نسخة من الكتاب العبراني، ولا حتى لمائة نسخة؟!
فلهم كامماير أحد آباء النقد، أطلق على التاريخ مصطلح "الحملة الكبرى" وهي الكذبة التي تشترك الأجيال بتغطيتها وتصديقها.
ملاحظات:
1ـ برغامون: من مدن الأنتيكا اليونانية المهمة، تقع على الساحل الغربي لتركيا. حوالي 80كم شمال أزمير
2ـ وهذا تأكيد على أن هركاتايوس وديودور .. عكسا أفكار الإنسانيين "الهيومانيست" فيما بين القرن 12 و14 الذين حاولوا منح الكتاب المقدس بريقا تاريخيا، وأصالة ترجع إلى عصر الأنتيكا.
مجازر المعرفة وإعدام الكتب ربّما حرّضت الشاعر الألماني هاينه ليكتب: هناك حيث يحرقون الكتب يحرقون البشر أيضا.
فجميعنا سمع عن مكتبة الإسكندرية، إحدى منارات المعرفة لعصر الأنتيكا وكيف التهمتها نيران التعصّب، وكلّنا سمع عن نهر دجلة الذي اسودّ ماؤه بحبر مكتبات بغداد، التي ألقاها هولاكو، وكلنا يعرف قصة خزائن الكتب الفاطمية النفيسة، التي أكلتها نار صلاح الدين بن أيوب، وكيف تحوّل جلد أغلفتها إلى أحذية انتعلها الحفاة.. والأغرب أنّ القصص تتكرّر ويتكرّر شهودها: فالموروث يخبرنا عن قصّة حرق مكتبة (العالم) في الإسكندرية، ويصف لنا كيف جاء أمر الخليفة عمر بن الخطاب، بعد أن استفتاه ابن العاص بشأنها، فقال له ما معناه: إن كانت نافعة فقد عوّضنا الله بكتابه الكريم. وإن كانت ضارّة فالنار أحقّ بها.
القصّة تتكرّر أثناء فتح فارس وحرق المكتبة السورو ـ آرامية في جنديشابور؟!
كلّ شيء يتحدّث عن حرق الكتب. عثمان حرق المصاحف المخالفة. قسطنطين التاسع حرق الأناجيل المحرّفة، اليهود حرقوا النسخ القديمة بعد أن أنجزوا التوراة الميسورية. حتى عالم الكتاب المقدس "تيشندورف"، الذي عثر على (أو ربّما زوّر) المخطوط السينائي منتصف القرن 19، اتّهم رهبان دير كاترين (الأجلاف حسب زعمه) بأنّهم كانوا على وشك حرقه للتدفئة (لولا عناية الله التي قادته إلى ذلك المكان الموحش ليُنقذ هذا الكنز من أيدي الوحوش؟!) والأحلى أنّ المخطوط الحلبي للكتاب المقدس (المفترض أنه مكتوب على جلد ثمين) عثر عليه في إسطنبول، بأيدي باعة سمك، استخدموا صحفه للفّ مشتريات الزبائن؟!
حتى الحاجة أمّ أحمد والدة محمد سمّان، الذي عثر (بالصدفة؟!) على كنز نجا حمادي عام 1945، انتزعت أوراقا من تلك المصنّفات القبطية النادرة، لإيقاد تنّور الخبز؟
في الحقيقة إنّ حرق المكتبات والكتب من ألغاز التاريخ؟ هل ما حدث حدث فعلا، أم أننا ضحية للأساطير والحكايا؟ من يستطيع تأكيد تلك الحرائق المروّعة التي دمّرت ذاكرتنا؟
أثناء ترجمة كاتب السطور لفصول من كتاب نقدي "تزوير التاريخ" عثرت على ما يثير الفضول والشهية.. فالإيطالي لوتشاينو كانفورا Luciano Canfora ترك كتابا بعنوان: المكتبة المفقودة ( la bibliotrca scomparsa صدر عام 1986) يتحدّث فيه عن مكتبات العالم القديم. بلغة مغلّفة بروح السخرية والدعابة.. وكان يمكن للموضوع أن ينتهي عند هذا الحدّ، فكتّاب نقد التاريخ لديهم شطحاتهم أيضا، لكن الأمر لا ينطبق تماما على كانفورا، الذي يُوصف بأنه من أفضل الاختصاصيين ودارسي تراث الأنتيكا الكلاسيكي (الهليني اليوناني الروماني)، ومشاركة في هذا الجدل القديم الحديث، وجدت أن أختصر المادة لتتناسب مع ثقافة النت السريعة.
المكتبة المفقودة: لوتشيانو كانفورا
تجدر الإشارة إلى أنّ النص الألماني يخبرنا بأنّ عنوان كانفورا "المكتبة المفقودة (أو المُختفية)" مزدوج الدلالة، وينطوي على جناس لفظيّ، فالعبارة تعني أيضا: المكتبة المُخجلة (منPlamable ) وكانفورا يقول بصوت عال: إنّ المكتبة الشهيرة لمدينة طيبة ذات البوابات المائة، ليس لها وجود مثلها مثل مكتبة الإسكندرية وبرغامون Prgamon (1) ، وإنّ تدمير تلك الكنوز العظيمة للأنتيكا هو أمر غريب، تمّ تسويقه بواسطة بروباغاندا وأصبح بمثابة حقيقة تاريخية؟؟
كانفورا أحد أهمّ العارفين بتراث الأنتيكا يبدأ بتعقّب رحلة إلى طيبة، قام بها هركاتايوس آبديرا Herkataios (عاش حوالي 300ق.م) رحلة وصلتنا عن طريق ديودور الصقلي، الذي يبتعد عنه 250 سنة. والذي نقل إثباتا عن كتابة هركاتايوس، زعم أنّه رآها بأم عينه، وهي تخبرنا عن زيارته لصالة رمسيس الثاني (حيث المكتبة) التي وصفها بما يفوق التصوّر والتعقل.
ثمّ يضيف كانفورا بأنّ أوصاف المكتبة كما وردت عند هركاتايوس وناسخه ديودور، دفعت عشرات من علماء الأركيولوجيا للبحث عنها دون جدوى. لكنّ الأفكار الحادة لكانفورا ذهبت إلى أنّ مكتبة طيبة، ليست أكثر من بضعة رفوف حائطية وضعت فيها الكتب (لفائف البردي) الخاصة بالطقوس والقداس. تماما كما في معبد إدفو Edfu (حوالي 100كم جنوب الأقصر) المشابه، فهناك عُثر على جدارية تخبر بوجود خزانتين من كتب الملك تحتوي على 37 عنوانا، وضعت على اثنين من الرفوف الحائطية.
وبدعابة وصف كانفورا العلماء وهم يقفزون من ردهة إلى أخرى داخل صالة رمسيس حيث كانوا يتحاورون قليلا ثم يلجون ردهة أخرى على أمل أن تكون المكتبة المزعومة؟ أخيرا تقلص الحلم واختُصر في خزانة جدارية للكتب.
أما النقوش الهيروغليفية في الصالة فقد فسّرها لنا هركاتايوس بتصوّرات عبثية وجنونية، إذ وصف رمسيس وهو ينتصر على شعوب البكتير (في شمال أفغانستان الحالية، ويعتقد أنّ هذه التصوّرات مأخوذة عن رواية الإسكندر) ويخبرنا أيضا بأنّ قرابين رمسيس للآلهة بلغت سنويا 32 مليون من الفضة، ولم ينس أيضا أن يُخبر عن اضطهاد اليهود في مصر، مع توضيحه بأنّ مؤرخي الأنتيكا أغفلوا قصة اليهود لأنها ذات مضمون تيولوجي بحت (2)
ثمّ ينتقل كانفورا إلى رسالة اريستياس Aristeas وهي أفضل شهادة عن مكتبة الإسكندرية وعصر الأنتيكا. وارستياس يهودي يوناني إسكندراني وموظف في القصر والمكتبة، عرف كيف يخفي يهوديته، وحاول أيضا إثبات عراقة العهد القديم، لهذا اقترح على مدير المكتبة ديموديوس، إسماع الملك بطليموس الثاني (فيلاديلفيوس) بضرورة وضع الكتاب العبراني على رفوف المكتبة بعد ترجمته لليونانية، فقد عزي لهذا الملك جلبه أهمّ كتب العالم إلى مكتبته العالمية بعد ترجمتها لليونانية، وقُدّر عدد الكتب (من لفائف البردي) التي جُمعت بنصف مليون، وباختصار فإنّ مكتبة الإسكندرية تفوّقت على كلّ ما عاصرها، واستحقّت أن تُفرز مكانا لائقا للعهد القديم، سيما وأنّ الرعايا اليهود في المدينة كانوا نافذين ماليا.
وهكذا أرسل ارستياس ومرافقه إلى القدس لمقابلة الكاهن الأكبر اليعازر مع رجاء ملكي لتزويدهم بنسخة من الكتاب المقدس ( وهنا يمكن للمرء أن يهمس ويسأل: أما كان عند الجالية اليهودية نسخة من الكتاب المقدس؟)، وتعبيرا عن حسن النيّة قام الملك بعتق مئة ألف يهودي من غلّ العبودية وقام بتعويض مالكيهم من خزينة الدولة، وتمّ تعيين الكثير من اليهود في الجيش (هذا كلّه من أجل أن يتكرّم الكاهن أليعازر بمنح بركته وتزويد المكتبة بنسخة؟!) أمّا بقية الأقصوصة فيختصرها كانفورا بإرسال 72 رابي (كاهن يهودي) من الأسباط الإثني عشر ( نصف دزينة من كل سبط) وبعد أن أجابوا عن أسئلة الملك السبعة.. أمر بوقف عرض المسرحيات الإغريقية المسيئة لليهود التي كانت تُعرض في ساحات الإسكندرية، ثم أرسلهم إلى جزيرة فاروس، حيث أتمّوا الترجمة خلال 72 يوم.. وتسمّى هذه النسخة بالسبعينية، وهي الأساس لكلّ معلومات العهد القديم بالنسبة للمسيحيين، ولم يعترف اليهود بها إلا في عصر النهضة.
النقد التاريخي الحالي يعرف أنّ إطار هذه القصة يرمي لربط السبعينية بعصر الأنتيكا. أمّا كانفورا الذي قام بغربلة معظم المصادر وتقييمها، فيقول حول ترجمة السبعينية ما مفاده: كلما كبرت الرواية أصبحت أكثر مصداقية، حتى لو كانت تفاصيلها سخيفة وعبيطة.
الملفت أنّ مؤرّخي أيّامنا تركوا ارستياس يعيش حوالي 100ق.م، وهذا يعني أنّ عمله في المكتبة سبق ولادته بقرنين من الزمان (حلو)، أمّا حريق المكتبة الشهيرة فحدث خلال حرب أهلية، حُمّل وزرها يوليوس قيصر (توفي حوالي38 ق.م)، وأنتج تدمير أربعمائة ألف من الكتب (لفائف البردي)، وما عدا النسخة التي أرسلها الكاهن اليعازر، فقد احترقت أيضا مائتا ألف نسخة من الكتاب المقدّس؟! لهذا لم يجد كانفورا إلا أن يفقد أعصابه ويصل إلى نتيجة تقول: الحريق لم يحدث قط (ص.88)، لأنّ سترابون استمرّ يعمل في المكتبة 20سنة بعد دمارها الشهير، ومئات آلاف الكتب ضرب من الأساطير. أيضا في الإسكندرية كما في معبد إدفو وبرغامون، كانت المكتبة عبارة عن بضعة رفوف في حائط إحدى الصالات.
لكنّ مكتبة الإسكندرية لم تكن وحيدة زمانها، فهناك منافستها في أثينا الني نهب مصنفاتها الثمينة الملك الفارسي كسيرس ونقلها إلى بلاده، ثمّ استرجعها الملك سلويكوس بعد 180سنة، ويعزى تأسيسها إلى الملك استراموس (560 ـ 527 ق.م) الذي حرص أن تحتوي على أعمال الأدب وأشعار هوميروس. إضافة إلى ما ذُكر عن الإسكندر المقدوني، ورغبته في إنشاء مكتبة عالمية، إذ دأب على ترجمة أعمال الكلدانيين في نينوى، ناهيك عن بدايته بجمع وترجمة مليوني آية (حكمة) من نصوص زرادشت.
أما مكتبة برغامون فافتخرت بجمعها كتابات أرسطو وتلامذته، حيث أصابتها حمّى جمع الكتب لتغدو منافسا للإسكندرية، ممّا دعا الأخيرة إلى منع تصدير ورق البردي إليها، فاحتار البرغامونيون بأمرهم (وحكّوا رأسهم وفكّروا بعمق) فابتكروا الكتابة على الجلود، ومذّاك أصبحت الرقع الجلدية تسمّى "برغامنت" Pergament
كما تمّت إضافة حريق آخر إلى حريق مكتبة الإسكندرية في القرن الرابع ميلادي، هذه المرّة حمل وزره الأسقف تيوفيلوس حيث قامت غوغاء المسيحية بتدمير المعبد الوثني والمكتبة وأطعمت كنوزها للنيران، وهكذا استطاعت المسيحية أن تتخلّص من الفلسفة (وترتاح). واستمرّت الرواية، فبعد ثلاثمائة عام حضر (الغازي) العربي عمرو بن العاص (642م)، والتقى شارح أرسطو يوحنا فيلوبونوس في الإسكندرية، وتحاور معه حول مسائل إيمانية، وقضيّة ألوهية يسوع، وأثناء ذلك حاول يوحنّا أن يقنعه بإنقاذ المصنّفات اليونانية، فأرسل إلى الخليفة (كما في القصة المعروفة)، ويقال إنّها استخدمت في تسخين مياه أربعة آلاف من حمامات الإسكندرية لمدّة ستّة أشهر؟! وهكذا ضاع هذا الكنز المعرفي إلى الأبد باستثناء كتب أرسطو.
كانفورا أورد هذه المعلومات عن القفطي ( 1172 ـ 1248م) وهو مؤرّخ من صعيد مصر، يُنسب إليه 26 مؤلفا، لم يبق من نسخها الأصلية شيئا، إضافة لكتابين مفقودين هما: تاريخ السلاجقة، وسيرة محمد الغزنوي وأولاده.. أما معلوماته فقد وردت في كتابه "تاريخ الحُكما" الذي وصلنا كمقاطع ضمن كتاب لمحمد الجوزاني (الزوزاني)؟ ويتحدث فيه عن تقاليد (ومعارف) اليونان في الإسلام.
ثم يضيف كانفورا بأن القفطي، الذي تفصله حوالي 600 سنة، عن حديث ابن العاص مع يوحنا، لم يقدم وثيقة حول تلك المحادثة، ويستنتج أيضا أنّ عدد الكتب التالفة (54000) اقتبسه (القفطي) عن كاتب يوناني اسمه إيبيفانيوس.
ويستنتج الكاتب: بأنّ حرق الكتب هو جزء من نشر المسيحية (ص.184) وهناك خيط أحمر ناظم، فكل شيء بدأ في الإسكندرية، أمّا حريق مكتبات برغامون وانطاكيا روما أثينا فكان صدى؟ أيضا مكتبات بيزنطة احترقت جميعها.
خاتمة:
إن النقد المعاصر، بدأ يطرح علامات استفهام حول كثير من المسلّمات التاريخية. لاكتشافه آليات السرد الأسطوري، إضافة إلى حقائق على الأرض تتناقض مع ماهية الرواية. فحجم المدن القديمة وأعداد سكانها، تحدّده أسوارها وآثارها الدارسة.. إنّ عدد سكان العالم القديم كان ضئيلا، والمدن كانت عرضة للأوبئة والكوارث، والقراءة والكتابة اختصت بالنخبة والدوائر السلطانية والملكية، ولم تكن مشاعا للناس، وتقنيات الكتابة وموادّها لم تكن ميسّرة..لذا فإنّ أعداد الكتب والمكتبات (الشهيدة) مبالغ بأمرها..الإسكندرية لم تكن قط بحاجة لـ 200ألف نسخة من الكتاب العبراني، ولا حتى لمائة نسخة؟!
فلهم كامماير أحد آباء النقد، أطلق على التاريخ مصطلح "الحملة الكبرى" وهي الكذبة التي تشترك الأجيال بتغطيتها وتصديقها.
ملاحظات:
1ـ برغامون: من مدن الأنتيكا اليونانية المهمة، تقع على الساحل الغربي لتركيا. حوالي 80كم شمال أزمير
2ـ وهذا تأكيد على أن هركاتايوس وديودور .. عكسا أفكار الإنسانيين "الهيومانيست" فيما بين القرن 12 و14 الذين حاولوا منح الكتاب المقدس بريقا تاريخيا، وأصالة ترجع إلى عصر الأنتيكا.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» تحميل مكتبة الإسكندرية
» نقد النقد :دعاء كميل بن زياد في ميزان النقد العلمي
» المصدر التاريخي
» دموع في الإسكندرية
» اندلاع حريق محدود أعلى البنك المركزى
» نقد النقد :دعاء كميل بن زياد في ميزان النقد العلمي
» المصدر التاريخي
» دموع في الإسكندرية
» اندلاع حريق محدود أعلى البنك المركزى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى