إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر

تَوْضِيحُ مَعْنِى قَوْلِ أَبِي القَاسِمِ الشَّابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ:

إِذَا الشَّعْبُ يَوْماً أَرَادَ الحَيَاةَ
فَلَابُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ القَدَرُ

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد استشكل بعض الناس هذا البيت من الشعر، ونسبوا قائله إلى مخالفة العقيدة الإسلامية، وبعض المتعصبين الجهلة نسبوه إلى أعظم من ذلك، والحق أن هذا البيت سليم المبنى صحيح المعنى لا يرتاب في ذلك صاحب ذوق سليم وفهم مستقيم.

وبيان ذلك يتمهد بإيضاح مقدمتين:

ـ المقدمة الأولى: هي أن قضاء الله تعالى هو إرادتُه الأزليَّةُ المتعلِّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال.
ـ والمقدمة الثانية: هي أن قَدَرَهُ سبحانه وتعالى هو إيجادُه تلك الأشياء على قَدَرٍ مخصوص وتقدير مُعيَّنٍ في ذواتها وأحوالها.

إذا تبين هذا، فقول أبي القاسم الشابي رحمه الله «إِذَا الشَّعْبُ يَوْماً أَرَادَ الحَيَاةَ» صريح في أنّ الإرادة التي نسبها إلى الشعب إرادةٌ محدَثةٌ مخلوقة من العدم، وُجِدت في زمَن معيَّن دون غيره، وهذا يجعلها مفتَقِرَةً إلى خالق موجِد يخرجها من العدم إلى الوجود ويخصصها بإرادته بزمن دون زمن، وذلك الموجِد الخالِقُ هو الله تعالى بحكم الأدلة العقلية القطعية المذكورة في كتب أصول الدين، فإرادة الشعب بهذا الاعتبار هي إرادة مخلوقةٌ مخصَّصةٌ بإرادة الـلَّهِ الأزلية، وإرادتُه سبحانه هي قضاؤه كما سبق التنبيه عليه في المقدمة الأولى.

فإذا تقرر هذا تبين أن قول أبي القاسم الشابي رحمه الله في عَجُز البيت « فَلَابُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ القَدَرُ» صحيح المعنى من حيث إنّ قدَرَ الـلَّهُ تعالى يَرْجِعُ إلى إيجادِه ما أراد وجودَه وقضَى سبحانه بأنه سيوجَد، وما أراد الله تعالى إيجادَهُ فسيوجَدُ لا محالة؛ لأنه سبحانه لا تُدافَعُ إرادتُه ولا تعارَضَ مشيئَتُه، فبذلك الاعتبار لابدّ أن يستجيب القدَرُ ـ وهو هنا كناية عن قُدرَةِ الله تعالى ـ إلى قضاءِ الله تعالى المتمثل هنا في إيجادِ إرادة للشعب يريد بها الحياة الكريمة.
فتبين بكل وضوح لمن له ذوق سليم ولمن هو بعيد عن الفهم السقيم أن كلام أبي القاسم الشابي رحمه الله يتضمن معاني إيمانية راقية جدّا، وأنه ما نطق بهذا الكلام الدقيق العميق المعنى إلا عن وَعْيٍ تام بأبعاد العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية.

ولا شك أن مقصده رحمه الله بهذا البيت هو حثُّ ودَفْعُ الشعب المقهور إلى السعي وراء اكتساب إرادة الحياة الكريمة بما أودع الله تعالى في أفراده من ميل إليها وتشوق لتحصيلها، مبيّناً لهم أنهم إذا سعوا بجد واجتهاد إلى تحصيل العيش الكريم دل ذلك على أن الله تعالى قد قضى لهم بكريم فضله وواسع جوده بالحيَاة الكريمة قضاء مبرماً فلابد أن يتحقق لهم ذلك بقدَرِ الله تعالى وقُدرِته.

أما الذين نسبوا أبا القاسم الشابي إلى مخالفة العقيدة الإسلامية في هذا البيت فذلك ناتج عن سوء فهمهم حيث توهموا أن إرادة الشعب واقعة بمحض خلقهم وأنهم هم الذين قضوها لأنفسهم، وهذا باطل لأن إرادتهم يستحيل أن تكون مخلوقة من طرفهم لأن ذواتهم أصلا مخلوقة فيستحيل أن تكون خالقةً، وركبوا على هذا الجهل جهلا آخر فظنوا أن الله تعالى يستجيب بقدره كالمجبَر إلى إرادة الشعب التي أوجدوها لأنفسهم، وهذا الفهم السقيم البعيد عن الحق هو الذي دفعهم إلى اتهام أبي القاسم الشابي بما اتهموه، والحقيقة كما بينتُ خلاف ذلك كليا.

كتبه نزار حمادي

معنى عميق
ليت الناس يفهموه
وبارك الله فيكم أخى الحبيب

وجزاكم بمثله أخي الحبيب هاني الإخواني

صراحه هذا حوار دار بين الأخوه طلاب العلم في أحد المواقع، وسنعرض حق الرد عليه لاحقا بإذن الله

وفي الختام سنعرض رأينا الشخصي، هذا لكي نكون قد أحطنا بالموضوع من كافة جوانبه

بوركت اخى الحبيب

دعك والظاهرية الجدد فقد تركوا كل شئ ولم يهتموا سوى بقولة الشابى تلك

قاتل الله الجهل مرة وقاتل الهوى ألف مرة

أخوكم

كاره اليهود كتب:بوركت اخى الحبيب

دعك والظاهرية الجدد فقد تركوا كل شئ ولم يهتموا سوى بقولة الشابى تلك

قاتل الله الجهل مرة وقاتل الهوى ألف مرة

أخوكم

وبارك عليكم أستاذ كاره اليهود.

لقد وعدنا بأن نأتي بالرد علي هذا الطرح العلمي والرد علي الرد، هذا لكي نضع القارئ وكأننا في حلقه نقاشيه،الميزه في الموضوع أننا سنحيط بهذا الأمر من كافة جوانبه بإذن الله.

بداية من المشاركه القادمه سنبدأ

الأستاذ الفاضل نزار و أنت المتخصّص في العقيدة ، لا يخفى على جنابكم أنّكم لم تحرّروا محلّ النزاع و أنّ ماهو محلّ شبهة لم تتعرّضوا له أصلا .

البيت فيه إجمال ، و قد يطلق و يراد به معنى فاسدا يتضمّن الكفر أو يقتضيه ، و قد يطلق و يراد به معنى سليما موافقا لقواعد العقيدة الإسلامية و مقرّرا لمضمون أحد السنن الكونيّة ، و عليه أرى أنّه من الخطأ اعتبار كلام الشاعر رحمه الله واضحا بيّنا لا لبس فيه و لا إجمال ، و أنّه من الوضوح بمكان بحيث لا سند و لا حجّة لمن استشكل على ما في معانيه من الإبهام ، و نسبة المعترض للجهل أمر قبيح .

موضع الإجمال هو في قول الشاعر " فلا بدّ أن يستجيب " ، إذ على فرض التسليم أنّ الشاعر أراد من القدر هنا ما قصده السادة الأشاعرة ، أعني خلق الله على وفق إرادته و علمه ، فيكون القدر فعلا من أفعال مولانا عزّ و جلّ ، و هو حادث بلا ريب عندهم ، فموضع الشبهة هو في جعل الله سبحانه فاعلا بالإيجاب لا بالاختيار ، و كلمة " لا بدّ " تحتمل الإيجاب على وجه الإجمال ، فقد يكون إيجابا عاديّا ، و هنا لا محذور من إرادة هذا المعنى ، بل فيه تقرير لسنّة كونيّة ، تقضي بأنّ الله سبحانه كما رتّب الإحراق على ملامسة النار و الشبع على أكل الطعام ( و هذا مشاهد و محسوس ) ، كذلك رتّب النصر و تغيير الأوضاع الاجتماعية على إرادة الناس ، فيخلق ربّنا النصر و التمكين و التغيير عقب إرادة الشعب ( و هذا ما غاب عن الكثير و الحال أنّه سنّة كونيّة كغيرها من السنن ) ، و الإشارة إلى هذه السنّة الكونيّة أتت في قوله سبحانه " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، و هذا معنى جميل و صحيح .

و لكن إذا قصد بلفظة " لا بدّ " الإيجاب العقلي أي أنّ الربّ سبحانه يخلق بالإيجاب و الاضطرار فهنا الخطر ، أي أنّ إرادة الشعب الحياة يترتّب عليها عقلا خلق الله لها ، و هذا كما لا يخفى على جنابكم قول في غاية البعد عن أسس العقيدة الإسلامية .

فلكي تبطل هذا المعنى الذي ظهر لنا من هذا البيت و تبيّن لنا أنّه من قبيل المبيّن الذي لا إجمال فيه ، عليك أن تقوم قبلها ببيان أنّ " لا بدّ " ليست من قبيل المشترك ، و أنّها لا تتضمّن الإيجاب العقلي لا وضعا و لا عقلا .

فمحلّ النزاع الذي أغفلته هو ما ذكرته لك ، لا كون القدر هو فعل من أفعال مولانا ، إذا لا يخفى عليكم أيضا أنّ هذا لا يستقيم على اصطلاح السادة الماتريديّة ، فلا الأفعال عندهم حادثة و لا القدر هو فعله سبحانه على وفق إرادته و علمه ، بل اصطلحوا على عكس ما ذكرت .

و السلام عليكم و رحمة الله .

أسامه بن صالح الشرادي

الأخ أسامة: لعلك إذا استرشدت عن الفرق بين الفعل بالإيجاب والفعل بالاختيار.. قد يتبين لك ما في كلامك من الخلط.

ختاما: القرآن العظيم تضمن من الكلام المجمل والمتشابه ما اتخذه أصحاب النوايا الفاسدة ذريعة للطعن في معانيه وإخراجها عن مراد قائلها... وكذلك يفعل الكثير من أهل الزيغ في معاني كلام بعض العلماء والفضلاء للطعن فيهم وحصر فهم الشريعة في عقولهم...

وقليل هم الذين يحملون الكلام على معانيه الصحيحة الموافقة لقواعد الشريعة.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء..

نزار حمادي

لم يكن قصدي ممّا تعقّبت به على مقالك الطعن في أبي القاسم الشابي رحمه الله ، بل أردتّ أن أوضّح أنّ في بيت المذكور أعلاه إجمالا يجعله حمّالا لمعاني صحيحة و باطلة و اعترضت على جعلك كلامه ( بغضّ النظر عن القرائن الحاليّة للشاعر ) من قبيل الواضح الجليّ الذي لا لبس فيه .

فالنظر في سيرة الشاعر و معرفة كونه من خريجي جامع الزيتونة و الملازمين لعلمائها تجعلنا نقطع بتعيّن المعنى الصحيح من كلامه و عدم إرادته لما يخالف الشرع .

و ما يؤيّد ما ذهبت إليه كلام الأزهري في هذا الموضوع :

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

إن أراد بها معنى قوله تعالى إن تنصروا الله ينصركم ومعنى قوله تعالى حتى يغيروا ما بأنفسهم فلا بأس، ويكون المعنى إذا بذلت الأسباب جاءت الإجابة من الله، وأما من قصد بأن النتائج المرجوة ستأتي بخلاف إرادة الله تعالى وقدره فهو كافر، ولا نظن أحدا يقصد هذا المعنى، والأولى ترك هذه العبارة الموهمة لضعفاء الناس، والله أعلم.

أسامه بن صالح الشرادي

الأخ أسامة:

هل رأيت في كلامي وصفا لبيت أبي القاسم الشابي بأنه من قبيل الواضح الجلي الذي لا لبس فيه، أو أنه كما قلتَ: أنه من الوضوح بمكان بحيث لا سند و لا حجّة لمن استشكل على ما في معانيه من الإبهام ؟؟؟

بل لو دققت في المقال لوجدت مقدمتان تمهدان لمن استشكل كلام أبي القاسم فهمَ المراد وحمل الكلام على أحسن المعاني بلا تكلف ولا تردد ولا زيغ يؤدي إلى اتهام الشابي بالشنائع التي هو من أبعد الناس عنها لمن يعرف تكوينه ورقة شعوره.
فالحاصل أن صاحب النية الطيبة والسريرة الصافية والخلق المحمدي لن يعدم بقليل من الجهد وجود ما يوضح له صحة كلام أبي القاسم الشابي وسلامة بيته معنى ومبنى..

والحال من مداخلتك أنك حملت كلامي ما لا يحتمله فجعلته مصرحا بما لم يصرح به، وهذا منك من مسالك من يحملون الكلام على غير مراد قائله وغير ما يرضاه كما يفعل البعض بكلام الشابي، ثم عند إرادتك ذكر محمل فاسد لكلام الشابي ذكرت وجها بعيدا جدا لا يرتضيه العقل السليم وهو إفضاء عجز البيت إلى جعل الله تعالى فاعلا بالإيجاب، ولا أدري أي وهم يقود المرء الواعي إلى ذلك؟؟؟ إلا الخلط بين المفاهيم كما أشرت مع كثير من التعسف، فالفاعل بالإيجاب لا يوجد إلا في عقول الفلاسفة، ومعلول الموجِب أزلي قديم كهو، واستجابة القدر بتنجيز مراد الله تعالى متعلقها محدث، فما أبعد الإيجاب عن الاختيار، وما أوضح الفرق بينهما، ومهما قلب المقلب كلام الشابي وكان عارفا بالفرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار تورع عن توهم إفضاء كلام الشابي إلى القول بالإيجاب على الله تعالى فضلا عن أن يتفوه به..

وفي هذا كفاية... والله تعالى أعلم.

نزار الحمادي

هل رأيت في كلامي وصفا لبيت أبي القاسم الشابي بأنه من قبيل الواضح الجلي الذي لا لبس فيه

هذا ما ظهر لي في كلامك أعلاه .

والحق أن هذا البيت سليم المبنى صحيح المعنى لا يرتاب في ذلك صاحب ذوق سليم وفهم مستقيم

ثمّ أضفت .

ثم عند إرادتك ذكر محمل فاسد لكلام الشابي ذكرت وجها بعيدا جدا لا يرتضيه العقل السليم وهو إفضاء عجز البيت إلى جعل الله تعالى فاعلا بالإيجاب، ولا أدري أي وهم يقود المرء الواعي إلى ذلك؟؟؟

نسبة الإفضاء إلى المعنى الفاسد من البيت إلى إرادتي وهم منك ، فاللفظ من قبيل المجمل و المبهم و هذا ما لم يخالفني فيه صاحب عقل سليم ، و هذا ما لم تثبت نقيضه ، فالإجمال ثابت في نفس الأمر و إنّما أنا كاشف عنه فتنبّه .

لفظة " لا بدّ " بحسب الحصر إمّا أن يكون المقصود منها اللزوم على وجه الوضع أو العقل أو العادة ، الأول ممنوع و لا أحد قائل به ، و الثالث صحيح و سليم ، و الثاني ماذا يفهم منه صاحب العقل السليم ؟ و بلا تعسّف أيضا ؟

أكتفي بهذا القدر ، و رزقنا الله حسن الفهم و رحم الله أبا القاسم الشابي و أسكنه فسيح جنّاته .

أسامه بن صالح الشرادي

للأسف لم تدرك بعد معنى الإيجاب بالذات
تأمل هذا المثال:
الله تعالى أراد وقوع أمر ما، وتعلقت قدرته سبحانه بأن يوجد ذلك الأمر، فلابد أن يوجد.

فهل يقول عاقل بأن الله تعالى موجب بالذات وفاعل بالإيجاب؟؟
لا يقول ذلك إلا شخص لا يعلم معنى الإيجاب ولا يفهم المقصود من الموجب بالذات، فإن الإيجاب نقيض الاختيار، ومقتضى الموجب القديم قديم، ومفعول المختار محدث.

تأمل ثانية:

الله تعالى أراد إيجاد عرض الإرادة في شخص ما، وأراد سبحانه أن تتعلق تلك الإرادة المحدثة بأمر ما، ثم تعلقت قدرة الله تعالى بإيجاد عرض الإرادة بذلك الشخص، فتعلق ذلك العرض بأمر ما، وتعلقت قدرته سبحانه بإيجاد مراد ذلك الشخص، فلا بد أن تنجز قدرته سبحانه وتعالى ما تعلقت به إرادة ذلك الشخص الراجعة للإرادة الأزلية التي خصصت وجودها وتأثيرها تنجيزا..

فهل يقول عاقل أن تعلق قدرة الله تعالى بإيجاد متعلق تلك الإرادة الحادثة بحسب ما خصصته الإرادة القديمة هو من قبيل الإيجاب الذاتي؟؟؟

فأي تسعف بعد ادعاء تضمن كلام أبي القاسم الشابي الإيجاب على الله تعالى؟؟؟
ويلزم على قياس هذا التفكير أن يكون كل ما نجزته قدرته تعالى مما تعلقت به إرادته عز وجل آيل إلى الإيجاب... وهذا خلل ما بعده خلل.

فالحاصل أن الإيجاب المناقض للاختيار، لا مجال لاحتماله هنا، فإن الإيجاب يعني الفعل الملازم وجودا لوجود الذات، ويعني القول بالعلة والمعلول، ولا يتصور فاعل قديم بالإيجاب وفعله محدَث، فإنه تناقض، وكلام أبي القاسم الشابي ناص على أن إرادة الشعب محدثة وحصول متعلقها محدثا فلا مجال لاحتمال الإيجاب أصلا لا من بعيد ولا من قريب، ومن سمى تعلق قدرة الله تعالى بإيجاد متعلق إرادة الشعب وفق إرادة الله القديمة إيجابا فسلام على عقله وفهمه..

وفي كلامك ملاحظات أخرى نتركها اكتفاء بما ذكر
أرجو أن تكون قد فهمت المراد أخي أسامة...

نزار الحمادي

الأستاذ نزار ، حفظكم الله و رعاكم .

إنّني بحمد الله من الذين يرجعون إلى الحقّ إذا ظهر أمامهم ، و من المستعدّين للاعتراف بالخطأ إذا بدر منّي ، و ستجدني إن شاء الله من المذعنين ، شرط أن تبيّن خلطي بالدليل و البرهان ، و أظنّ أنيّ فهمت وجه منعك لاعتراضي ، و سأحاول تلخيص توجيهك و أحرّر محلّ النزاع ، و أشفعه بتعقيب ، و لكم الردّ إن سمح وقتكم .

أنت ترى أنّ عجز البيت لا يحتمل الفهم الغريب الذي أتيت به ، و علّلت ذلك بكون الشاعر رحمه الله نصّ على إرادة محدثة للشعب ، و هو ما يستلزم فعلا حادثا للربّ جلّ في علاه ( بناء على تفسير القدر ) ، و كون فعله سبحانه حادثا يستلزم أن يكون فاعلا بالاختيار لا الاضطرار ، و أنّه لا مجال لاحتمال الإيجاب مع النصّ على حدوث أفعال مولانا عزّ و جلّ ، لأنّه من قبيل التناقض .

أقول ، أرى في كلام مغالطة واضحة ، إذ أنا أسلّم باستحالة الفعل بالإيجاب على مولانا ، و لست أزعم أنّه يجتمع إيجاب مع اختيار ، و زعمك أنّ مجرّد ذكر الشاعر لحدوث أفعال الربّ قرينة صارفة عن إرادة الإيجاب العقلي على الله سبحانه ، كلام غير سديد ، إذ حديثنا عن المفهوم من نفس صيغة البيت و عن اللزوم الذي زعمته من نفس الصيغة لا في نفس الأمر ، فجعلك خلافي معك في اللزوم من نفس الصيغة خلافا في نفس الأمر لا يستقيم ، نعم أسلّم أنّ القائل بالإيجاب قائل بمحالات عديدة منها ما ذكرته ، و لكن هذا لا يعني أنّ عجز البيت لا يستلزم بصيغته ما زعمته من معنى .

فمحلّ النزاع هو : هل صيغة البيت تحيل الذهاب للمعنى الذي زعمته ممّا يفهم من عجزه ؟

فلا خلاف أنّ الإيجاب العقلي باطل عقلا و نقلا ، و أنّ القائل به يلزمه محالات عديدة ، و لكن نازعتك في كون لفظة " لا بدّ " نصّ في الإيجاب مجملة في نوعه ، و هذه الصيغة وحدها تتضمّن القول بمعنى صحيح و معنى كفري ، هذا بغضّ النظر عن معرفتنا بالشاعر ، و هي التي تجعلنا نقطع بتعيّن المعنى الصحيح و عدم إرادة المعنى الفاسد .

ثمّ زعمت أنّ مجرّد الإتيان بما يفهم منه حدوث أفعال مولانا في صدر البيت كاف في بعد أيّ معنى فاسد ، بل و زعمت أنّ فهمي فيه كثير من التعسّف و يشابه طريقة من حمّل كلام أبي القاسم الشابي ما لا يحتمل ، و ردّي هو منع ما ذكرته و الدليل من الشرح الصغير للإمام اللقاني على جوهرة التوحيد ، إذ قال :

"و أشار لمذهب أهل الحقّ بعد الحكم ببطلان مذهب المعتزلة بقوله :
( ما عليه ) أي الله تعالى ( واجب ) أي شيء واجب ، لا من أصلح و لا من لطف و لا من عوض ، و لا غير ذلك من فعل أو ترك ، بل أفعاله سبحانه كلّها جائزة بالنظر إلى ذاتها واقعة على وجه الإحسان و الفضل ، أو على وجه المؤاخذة و العدل ، لا يجب عليه سبحانه شيء منها و لا يستحيل ، و إلا لانقلب الممكن واجبا أو مستحيلا و هو محال .

و أيضا : هو سبحانه فاعل بالاختيار لا بالإيجاب و الطبيعة ، فلو وجب عليه فعل أو ترك لما كان مختارا فيه ، إذ المختار هو الذي يتأتّى منه الفعل و الترك ، و لأنّ الموجب للفعل في حقّه تعالى لا يجوز أن يكون خارجا عن ذاته ، و إلا لكان متأثّرا عن غيره ، فتعيّن أن يكون فاعلا بذاته ، فإن كان قديما لزم قدم الفعل و هو خلاف ما مرّ من وجوب الحدوث لكلّ ما سواه تعالى ، و إن كان حادثا لزم اتصاف ذاته تعالى بالحوادث و قد سبق استحالتها عليه . " انتهى

و نفس المعنى ذكره أيضا الإمام البيجوري في تحقيق المقام علي كفايه العوام في علم الكلام :


" و الدليل على أنّ الممكنات جائزة في حقّه تعالى أنّه اتفق على جوازها فلو وجب عليه تعالى فعل شيء منها لانقلب الجائز واجبا و لو امتنع عليه فعل شيء منها لانقلب الجائز مستحيلا و انقلاب الجائز واجبا أو مستحيلا باطل .

( أنّه اتفق على جوازها ) أي في ذاتها فهي جائزة في ذاتها و إنّما الخلاف الذي وقع بالنسبة لصدوره من الله فهي جائزة في ذاتها بإجماع جميع الفرق غاية الأمر أنّ بعضهم قال بوجوب بعض الممكنات في حقّه تعالى و بعضهم قال باستحالة بعض الممكنات كذلك فليتأمّل " انتهى .

الشاهد أنّ المعتزلة قائلون بحدوث أفعال مولانا عزّ و جلّ و حدوث العالم و مع ذلك هم قائلون بالإيجاب و إن كان مأخذهم التحسين و التقبيح العقلي ، أي نعم كلامهم فاسد ، و لكن هذا ما لا أنازع فيه أصلا ، أي الفساد في نفس الأمر ، و لكن هل يفهم من صيغة من نصّ على حدوث أفعال مولانا أنّه ناف للإيجاب ؟

و ملخّص الكلام أنّ ما تزعمه لازما ليس كذلك لا بالأخصّ و لا الأعمّ ، و خلاف المعتزلة أكبر دليل ( و لست أزعم صحّة كلامهم ) .

أرجو أن أكون قد وضّحت وجهة نظري ، و بارك الله فيكم .

أسامه بن صالح الشرادي