الاسلام يقدم اجابات كونية لحيرة العلم المعاصر
صفحة 1 من اصل 1
الاسلام يقدم اجابات كونية لحيرة العلم المعاصر
الاسلام يقدم اجابات كونية لحيرة العلم المعاصر
عبد الحق كيدردوني
في الوقت الذي استندت فيه الثورة العلمية والصناعية الضخمة التي شهدت أوجها الفضاءات الأوروبية خلال القرنين الماضيين الى قطيعة كلية وحاسمة مع الموروث اللاهوتي، واستقالة لا رجعة فيها للعلوم عن الميتافزيقيا، الأمر الذي أسس لتراكم معرفي علمي مادي استبعد أي مكان للمفاهيم الروحانية في أي من تفاصيله، نجد الثورة العلمية الجديدة في هذا الغرب ذاته، تأتي اليوم مع مطلع هذا القرن الجديد لإعادة تطويع كافة المعلمات النظرية العلمية السابقة لتفسيرات ومفاهيم «صوفية» و«روحانية» لا تنتمي لنفس المرجعية العقلانية أو المادية السائدة حتى هذا التاريخ، وذلك أمام وجع ميتافزيقي صاعق أصاب علماء هذا القرن أمام المعطيات «العلمية» الجديدة التي أركعت غرور العقل الإنساني بالقياس الى «عجائب» الكون والوجود التي صارت تفلت عن يد «العلم» وعن مقاييسه التي كان يضنها نهايته!
في هذا الحوار، نلتقي مع عالم فيزياء الفلك عبد الحق برنو كيدردوني مدير أبحاث بالمركز القومي للبحوث العلمية في فرنسا، ومدير الابحاث بمركز دراسات الفضاء والعلوم الفلكية، ومدير معهد الدراسات العليا الاسلامية.
لنبحث معه عن هذا الدور الجديد للاسلام في اسعاف العلوم الحديثة بإيجابات كونية، ومفاهيم ضرورية لصياغة تاريخ العلم المعاصر من جهة، وعن أسباب «الغفوة» الحضارية التي انغلق فيها العالم الإسلامي خلال القرون السابقة، رغم كل المعطيات الحضارية التي يملكها، والتي تجعل منه أحد أهم الرموز الفاعلة باتجاه حركة علمية إنسانية حسية وكونية
- تكاد تقابل الاستقالة التي عرفتها العلوم في أوروبا عن الثيولوجي، استقالة لليتولوجي «والذي كان يسود الفضاء العربي الإسلامي» عن المعرفة العلمية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة في هذه الفضاءات؟ مع ذلك فإن مشروعكم العلمي (كمدير لمعهد الدراسات العليا الإسلامية) ينهض للتأكيد على أن مستقبل العلوم يأتي في نقطة وسط بين هذين الطرفين أين يبدأ لقاء العلم بالإسلام، وأين ينتهي؟
- لا يحتاج البحث عن تاريخ علاقة الاسلام بالعلم، لتأريخ منفصل عن تاريخ الإسلام نفسه، فقد دعى الاسلام للبحث والعلم وارتكز اليه، وجعل مهمة الانسان على الارض ان يكتشف عجائبها وقوانينها باعتبارها الطريق الى الله دون أن يتدخل في اعطائها اجابة نهائية حول هذا الموضوع. لقد اكتفى الوحي بأن يؤسس لرسالة روحانية كان كتاب الله إليها مع اللاهوت والوسيلة.
لذلك فإن القطيعة التي عرفتها العلوم في أوروبا مع اللاهوت بعد محاكمة غاليليو، لم تحدث عن الاطلاق عند المسلمين، على العكس ظل العلم معتبراً كقيمة عليا، حث عليها الوحي ذاته، وقد عرفت الفضاءات الاسلامية وفق هذا الاعتقاد عمالقة من العلماء الذين كانوا منفتحين على كل أفق المعرفة البشرية، ابتداء من المعارف الميتافيزيقية الى أدق المعارف العلمية،
لكن الذي أصاب الفضاء الاسلامي من جمود او نكوص، بالقياس الى تسارع النهضة العلمية في الغرب، إنما جاء بالقياس الى اختلال التوازن بين هذين المعيارين، أقصد الوعي العلمي والوعي الميتافزيقي.
نعبر تتابعية تاريخية يصعب أختصارها هنا، وجد المسلمون انفسهم في حالة دفاع عن مرورثهم الثقافي الديني بالذات، والذي رأوه يتهدد بهذه العلوم «الملحدة» او المستقيلة عن الايمان كما اشرنا، وقد ظهرت بالقياس الى هذا لخوف ذاته مدارس اسلامية تحاول تطويع المعارف العلمية لاثبات حقيقة الرسالة المحمدية أو مصداقية القرآن الكريم. وهو ما سيعرف فيما بعد بمدارس الاعجاز القرآني التي تحاول أن تثبت ان كل ما جاء به العلم قد سبق وأن ذكره أو أشار اليه القرآن الكريم؟ أو أنه يمكن اثات وجود الله عن طريق العلم أو الرياضيات. غير ان الذي حدث، ويحدث، أن هؤلاء قد أخطأوا الطريق، لأن القرآن من جهة ليس بحاجة الى اثبات، وهو منزل من علي كريم وقادر. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهو صادق بذاته، متعالي عن اي حاجة. وهو من ناحية أخرى كتاب روحاني لم يحاول على أي مستوى أن يؤسس لمعرفة علمية بالمعنى البحثي للكلمة. فإن الله العزيز القادر لو أراد أن يكتب كتباً علمية لما أسقت لها الأرض أو الأكوان، وكل الذي أراده القرآن الكريم هو التأسيس لهذا الوصال الروحاني بين العبد وربه وفق هذا العهد القرآني الرباني المتعالي عن اي قيمة مادية أو أرضية قد يعطيها له الانسان، من ناحية أخرى، فإن العلوم التي يوظفها هؤلاء لاضفاء قيم علمية او مصداقية معرفية للقرآن قد انكشف انها علوم محدودة وقاصرة وعاجزة عن اجابة علمية نهائية، أي انهم قد وقعوا في خطأ اللجوء لما هو قاصر للتأكيد على ما هو الكمال بذاته. وهم تدخلوا على هذا النحو لاعطاء قيمة ايجابية لعلوم قاصرة، ومتواضعة بما عرقل مسألة النقد العقلي الضروري الذي قاد لمعارف القرن الواحد والعشرين «الخرافية»، مروراً بثورات سابقة كانت مقدمة لها، والتخلف أو الجمود الذي أصاب المنطقة، بالقياس الى هذه المعارف التي كانت قد قادت الغرب الى مرحلة حيوية من البحث العلمي، هو ان هذه التيارات قد حاولت «أسلمة» العلوم، أو مطاوعتها للاسلام حتى في سياق المزاوجة بينها وبين معطيات الرسالة المحمدية الروحانية.
حيث كان تدخل علماء الدين مؤثراً باتجاه عرقلة البحث العلمي الحر، وفق القيود التي كانوا يفرضونها على بعض من مناحي البحث، خشية عدم مطابقتها او معارضتها للدين الاسلامي. بل ان بعضهم قد ذهب الى ضرورة جعل القرآن المصدر الوحيد لكل المعرفة الإنسانية (العلمية/ التطبيقية/ أو الفكرية) الإسلامية.
- وكيف يمكن ان نمر نحو منهجية علمية اسلامية، تفصل بين الروحاني والعلمي، دون أن تقطع من تطرف الجادية علوم القرن العشرين؟
- الحل هو منطقة وسط، عبر حوار منهجي اسلامي بين رجال العلم، ورجال الدين، وفق معرفة حقيقية يمتلكها كل من الطرفين فإن الذي اساء للاسلام هو توظيف معرفة ركيكة وسطحية بالعلوم، واستخدامها في تفسيرات ركيكة ومفتعلة للروحانيات، فأفقد العلوم علميتها وأفقد الروحانيات كل روحاني فيها. لأن هذه الاجابة التي قد يكشف عنها هذا الحوار الاسلامي هي ما تحتاجه كل المعارف العلمية البشيرة في هذا العصر الذي أثبت محدودية المعرفة العلمية.
- هذا القلق الذي بعصف بالعلوم، والعلوم البحتة في أوروبا، ويدفعها لاستشراف الاجابات في الفضاء الشرق الاسلامي لتلك الاشكاليات العلمية التي بدت لهم عسيرة الفهم هل يعكس عجز نهائي للعلوم لتقديم اجابات علمية نهائية لقوانين الوجود؟
- ان ما اكتشفته العلوم في الغرب هو حقيقة محدوديتها، وحقيقة عجزها عن تقديم اجابات أبعد أمام بعض المعضلات التي تحكم قوانين الكون، وبالتالي تأكد نسبية المعرفة وقصورها أمام ألغاز الوجود، وهذا يعني من الناحية العلمية ان العلوم التي كانت تعرف بالعلوم البحتة، والمستندة الى قوانين لا شك فيها قد فقدت هذه المصداقية، وصارت كغيرها من العلوم النسبية التي تملك قدراً محدوداً من الاجابات، لن تكون بحال ايجابات نهائية ولا كاملة.
- وهل ينطبق هذا على كل العلوم؟
- نعم، كل العلوم، بما في ذلك علم الرياضيات، والذي كان الى فترة غير بعيدة يُعد العلم الذي لا يقبل بأي شك قد يأتيه من بين يديه أو من خلفه كما يقال، وهذه الاشكالية تقدم البينة الرياضية لأي نظرية مصاغة بشكل رياضي، وبالتالي تتدخل في هز كافية النظريات الفيزيائية والكوسمولوجية، حيث برهن العلم الحديث ومنذ نظرية غودل عام 1391 انه لا يوجد اي نظام رياضي مغلق منطقياً. اي ان أي نظام رياضي لا بد ان يحتوي على قضايا لا يمكن اثبات صحتها او عدم صحتها. بحيث بدأ الهيكل العام للرياضيات وكأنه مطرز بالحفر، والتي لن يكون في مقدرة العقل الانساني يوماً ما أن يملأها، وهي النظرية التي طورها وأكد على أهميتها علماء كثيرون من بعده.
- هل تعني ان المعرفة البشرية لن يكون في مقدورها التطور، والوصول الى اجابات قد ت تدخل في سد هذه الثغرات الرياضية؟
- هذه هي ضخامة الاكتشاف المعاصر لطبيعة العلم، اننا كبشر لن نتمكن على الاطلاق من سد هذه الثغرات، فهي موجودة، وستبقى هكذا، أي أن العقل، والمعرفة البشرية قد وصلت الى حدها الأقصى، وأن قدراتها عاجزة عن الاجابات العقلية أو المنطقية التي يمكن لها أن تستمدها من قدراتها بما هي عقل او فكر أو من المعطيات المادية المباشرة، بالقياس الى المعرفة لا يمكن أن تتم الا من خارج دائرة الوجود.
- وهذا يعني اهتزاز الفيزياء بدورها؟
- مع اهتزاز الاطار الرياضي اهتزت النظريات الفزيائية بطبيعة الحال، وتأكد عجزها ومحدوديتها بالقياس الى اكتشافات اخرى اكثر مباشرة وتعلق بالفزياء بالذات. منها تأكد حقيقة «اللاممكن تحديده بدقة» وهذا بدوره لا يعود الى عجز الأجهزة التي يوظفها الانسان والتي لو انه تمكن من تطويرها لوصل الى مستوى أفضل من الاداء العلمي، بل الى عجز عن القدرة العقلية او العلمية في تحديد مستقبل الظاهرة الكونية، فقدراتنا تنصب على التأكد من «الآن» دون القدرة على الجزم بمستقبل الظاهرة في الزمان.
وفي مجال علم الفلك على سبيل المثال، تأكد لنا أن ما يمكن ان نعرف، اما تيسر او سيتيسر لنا معرفة هو جزء خرافي الصغر، بالقياس الى كون (أو أكوان خرافية الضخامة.
- وهل يدفع العجز العلم الى احضان الميتافزيقيا بالضرورة؟
- إ المشروع الفلسفي للعرب، الذي تأسس كمشروع يملك الاجابة على كل الاسئلة انطلاقاً من معطيات اساسية محددة، كما في الرياضيات انطلاقاً من بعض المسلمات او من الفزياء انطلاقاً من بعض القوانين النهائية: هذا المشروع قد تحطم نهائياً. والذين اسسوا طموحاتهم العلمية بناء على مقدمات هذا المشروع وجدوا انفسهم فجأة في حالة من عدم التوازن وعدم اليقين (يعترف الفيزيائي الرياضي الايماني الشهير فايل بأن الشك الذي تحمله في طياتها مبرهنه غودل حول الرياضيات قد كبح وبشكل كبير الحماس والعزيمة اللذان كنت اواصل بهما ابحاثي)، رغم انه قد كان على العلماء الانتظار حوالي مئة عام لادراك خطورة هذه الأزمة الاساسية في العلم.
لهذا كانوا قد استشعروا الحاجة للبحث عن مفاهيم اخرى خارج هذه الاطر (العلمغراتية) التي اظهرت محدوديتها وقصورها المقلق، وتوجهوا نحو الفلسفة الشرقية بالذات للبحث في الميتافزيقيا عن مخارج لازماتهم الفزيائية والعلمية، واعطاء معنى لكل ذلك المتعسر على الفهم في مكونات الوجود.
- أنت تعبر عن هذه الصدمة العلمية التي عصفت بعلوم القرن الماضي، والتي فتحت آفاقاً لثورة علمية كونية جديدة مع بدايات هذا القرن باعتبارها باباً يفتح باتجاه الاسلام، كيف تفسرون ذلك؟
- ان الاديان الانسانية الكبرى، وعلى رأسها الدين الإسلامي،و تملك موروثاً ميتافزيقياً ومثالياً يؤسس لاطلالة مهمة نحو الحقائق باطلاق.
والاسلام بصورة خاصة قد راكم موروثا ضخماً من هذا الاتجاه المثالي والفلسفي الكلامي، القادر على نجدة العلوم المعاصرة واعطاء المعاني الكافية للاكتشافات العلمية الكبرى التي تحير علماء العصر.
ولماذا يواجه الانسان - المخلوق من الله - حدود المعرفة، وان الحقيقة المطلقة تقع خارج حدود الانسان، (لأن الحق باطلاق هو الله تعالى وحده)، وان فهم الدلالات العلمية وتفسير الاكتشافات المقلقة يمكن ان يتم في اطار ميتافزيقي روحاني يملكه الاسلام بكل عمق.
وهذه أهم نقطة يمكن التأكيد من خلالها على صلة الوصل بين العلم والايمان وهي ما تعطى قراءة مهمة لاشكاليات عجز المعرفة البشرية امام الحدود التي تنصبها الطبيعة في مواجهة العقل او المعرفة البشرية.
فالاسلام قادر على شرح اشكاليات العلم المعاصر، وكيف أن الكون غير مكتفئ بذاته، وان معرفته تعود او تعتمد على قدرة خارجة عنه، ويعتمد في كل تفاصيله على خالقه تعالى.
فهناك حفر كثيرة قد ثقبت العلوم المعاصرة، وهذه الحفر التي اخترقت يقين العلم هي ابواب مشرعة نحو الخالق.
المصدر: مجلة النور اللندنية، العدد 151، 2003.
عبد الحق كيدردوني
في الوقت الذي استندت فيه الثورة العلمية والصناعية الضخمة التي شهدت أوجها الفضاءات الأوروبية خلال القرنين الماضيين الى قطيعة كلية وحاسمة مع الموروث اللاهوتي، واستقالة لا رجعة فيها للعلوم عن الميتافزيقيا، الأمر الذي أسس لتراكم معرفي علمي مادي استبعد أي مكان للمفاهيم الروحانية في أي من تفاصيله، نجد الثورة العلمية الجديدة في هذا الغرب ذاته، تأتي اليوم مع مطلع هذا القرن الجديد لإعادة تطويع كافة المعلمات النظرية العلمية السابقة لتفسيرات ومفاهيم «صوفية» و«روحانية» لا تنتمي لنفس المرجعية العقلانية أو المادية السائدة حتى هذا التاريخ، وذلك أمام وجع ميتافزيقي صاعق أصاب علماء هذا القرن أمام المعطيات «العلمية» الجديدة التي أركعت غرور العقل الإنساني بالقياس الى «عجائب» الكون والوجود التي صارت تفلت عن يد «العلم» وعن مقاييسه التي كان يضنها نهايته!
في هذا الحوار، نلتقي مع عالم فيزياء الفلك عبد الحق برنو كيدردوني مدير أبحاث بالمركز القومي للبحوث العلمية في فرنسا، ومدير الابحاث بمركز دراسات الفضاء والعلوم الفلكية، ومدير معهد الدراسات العليا الاسلامية.
لنبحث معه عن هذا الدور الجديد للاسلام في اسعاف العلوم الحديثة بإيجابات كونية، ومفاهيم ضرورية لصياغة تاريخ العلم المعاصر من جهة، وعن أسباب «الغفوة» الحضارية التي انغلق فيها العالم الإسلامي خلال القرون السابقة، رغم كل المعطيات الحضارية التي يملكها، والتي تجعل منه أحد أهم الرموز الفاعلة باتجاه حركة علمية إنسانية حسية وكونية
- تكاد تقابل الاستقالة التي عرفتها العلوم في أوروبا عن الثيولوجي، استقالة لليتولوجي «والذي كان يسود الفضاء العربي الإسلامي» عن المعرفة العلمية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة في هذه الفضاءات؟ مع ذلك فإن مشروعكم العلمي (كمدير لمعهد الدراسات العليا الإسلامية) ينهض للتأكيد على أن مستقبل العلوم يأتي في نقطة وسط بين هذين الطرفين أين يبدأ لقاء العلم بالإسلام، وأين ينتهي؟
- لا يحتاج البحث عن تاريخ علاقة الاسلام بالعلم، لتأريخ منفصل عن تاريخ الإسلام نفسه، فقد دعى الاسلام للبحث والعلم وارتكز اليه، وجعل مهمة الانسان على الارض ان يكتشف عجائبها وقوانينها باعتبارها الطريق الى الله دون أن يتدخل في اعطائها اجابة نهائية حول هذا الموضوع. لقد اكتفى الوحي بأن يؤسس لرسالة روحانية كان كتاب الله إليها مع اللاهوت والوسيلة.
لذلك فإن القطيعة التي عرفتها العلوم في أوروبا مع اللاهوت بعد محاكمة غاليليو، لم تحدث عن الاطلاق عند المسلمين، على العكس ظل العلم معتبراً كقيمة عليا، حث عليها الوحي ذاته، وقد عرفت الفضاءات الاسلامية وفق هذا الاعتقاد عمالقة من العلماء الذين كانوا منفتحين على كل أفق المعرفة البشرية، ابتداء من المعارف الميتافيزيقية الى أدق المعارف العلمية،
لكن الذي أصاب الفضاء الاسلامي من جمود او نكوص، بالقياس الى تسارع النهضة العلمية في الغرب، إنما جاء بالقياس الى اختلال التوازن بين هذين المعيارين، أقصد الوعي العلمي والوعي الميتافزيقي.
نعبر تتابعية تاريخية يصعب أختصارها هنا، وجد المسلمون انفسهم في حالة دفاع عن مرورثهم الثقافي الديني بالذات، والذي رأوه يتهدد بهذه العلوم «الملحدة» او المستقيلة عن الايمان كما اشرنا، وقد ظهرت بالقياس الى هذا لخوف ذاته مدارس اسلامية تحاول تطويع المعارف العلمية لاثبات حقيقة الرسالة المحمدية أو مصداقية القرآن الكريم. وهو ما سيعرف فيما بعد بمدارس الاعجاز القرآني التي تحاول أن تثبت ان كل ما جاء به العلم قد سبق وأن ذكره أو أشار اليه القرآن الكريم؟ أو أنه يمكن اثات وجود الله عن طريق العلم أو الرياضيات. غير ان الذي حدث، ويحدث، أن هؤلاء قد أخطأوا الطريق، لأن القرآن من جهة ليس بحاجة الى اثبات، وهو منزل من علي كريم وقادر. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهو صادق بذاته، متعالي عن اي حاجة. وهو من ناحية أخرى كتاب روحاني لم يحاول على أي مستوى أن يؤسس لمعرفة علمية بالمعنى البحثي للكلمة. فإن الله العزيز القادر لو أراد أن يكتب كتباً علمية لما أسقت لها الأرض أو الأكوان، وكل الذي أراده القرآن الكريم هو التأسيس لهذا الوصال الروحاني بين العبد وربه وفق هذا العهد القرآني الرباني المتعالي عن اي قيمة مادية أو أرضية قد يعطيها له الانسان، من ناحية أخرى، فإن العلوم التي يوظفها هؤلاء لاضفاء قيم علمية او مصداقية معرفية للقرآن قد انكشف انها علوم محدودة وقاصرة وعاجزة عن اجابة علمية نهائية، أي انهم قد وقعوا في خطأ اللجوء لما هو قاصر للتأكيد على ما هو الكمال بذاته. وهم تدخلوا على هذا النحو لاعطاء قيمة ايجابية لعلوم قاصرة، ومتواضعة بما عرقل مسألة النقد العقلي الضروري الذي قاد لمعارف القرن الواحد والعشرين «الخرافية»، مروراً بثورات سابقة كانت مقدمة لها، والتخلف أو الجمود الذي أصاب المنطقة، بالقياس الى هذه المعارف التي كانت قد قادت الغرب الى مرحلة حيوية من البحث العلمي، هو ان هذه التيارات قد حاولت «أسلمة» العلوم، أو مطاوعتها للاسلام حتى في سياق المزاوجة بينها وبين معطيات الرسالة المحمدية الروحانية.
حيث كان تدخل علماء الدين مؤثراً باتجاه عرقلة البحث العلمي الحر، وفق القيود التي كانوا يفرضونها على بعض من مناحي البحث، خشية عدم مطابقتها او معارضتها للدين الاسلامي. بل ان بعضهم قد ذهب الى ضرورة جعل القرآن المصدر الوحيد لكل المعرفة الإنسانية (العلمية/ التطبيقية/ أو الفكرية) الإسلامية.
- وكيف يمكن ان نمر نحو منهجية علمية اسلامية، تفصل بين الروحاني والعلمي، دون أن تقطع من تطرف الجادية علوم القرن العشرين؟
- الحل هو منطقة وسط، عبر حوار منهجي اسلامي بين رجال العلم، ورجال الدين، وفق معرفة حقيقية يمتلكها كل من الطرفين فإن الذي اساء للاسلام هو توظيف معرفة ركيكة وسطحية بالعلوم، واستخدامها في تفسيرات ركيكة ومفتعلة للروحانيات، فأفقد العلوم علميتها وأفقد الروحانيات كل روحاني فيها. لأن هذه الاجابة التي قد يكشف عنها هذا الحوار الاسلامي هي ما تحتاجه كل المعارف العلمية البشيرة في هذا العصر الذي أثبت محدودية المعرفة العلمية.
- هذا القلق الذي بعصف بالعلوم، والعلوم البحتة في أوروبا، ويدفعها لاستشراف الاجابات في الفضاء الشرق الاسلامي لتلك الاشكاليات العلمية التي بدت لهم عسيرة الفهم هل يعكس عجز نهائي للعلوم لتقديم اجابات علمية نهائية لقوانين الوجود؟
- ان ما اكتشفته العلوم في الغرب هو حقيقة محدوديتها، وحقيقة عجزها عن تقديم اجابات أبعد أمام بعض المعضلات التي تحكم قوانين الكون، وبالتالي تأكد نسبية المعرفة وقصورها أمام ألغاز الوجود، وهذا يعني من الناحية العلمية ان العلوم التي كانت تعرف بالعلوم البحتة، والمستندة الى قوانين لا شك فيها قد فقدت هذه المصداقية، وصارت كغيرها من العلوم النسبية التي تملك قدراً محدوداً من الاجابات، لن تكون بحال ايجابات نهائية ولا كاملة.
- وهل ينطبق هذا على كل العلوم؟
- نعم، كل العلوم، بما في ذلك علم الرياضيات، والذي كان الى فترة غير بعيدة يُعد العلم الذي لا يقبل بأي شك قد يأتيه من بين يديه أو من خلفه كما يقال، وهذه الاشكالية تقدم البينة الرياضية لأي نظرية مصاغة بشكل رياضي، وبالتالي تتدخل في هز كافية النظريات الفيزيائية والكوسمولوجية، حيث برهن العلم الحديث ومنذ نظرية غودل عام 1391 انه لا يوجد اي نظام رياضي مغلق منطقياً. اي ان أي نظام رياضي لا بد ان يحتوي على قضايا لا يمكن اثبات صحتها او عدم صحتها. بحيث بدأ الهيكل العام للرياضيات وكأنه مطرز بالحفر، والتي لن يكون في مقدرة العقل الانساني يوماً ما أن يملأها، وهي النظرية التي طورها وأكد على أهميتها علماء كثيرون من بعده.
- هل تعني ان المعرفة البشرية لن يكون في مقدورها التطور، والوصول الى اجابات قد ت تدخل في سد هذه الثغرات الرياضية؟
- هذه هي ضخامة الاكتشاف المعاصر لطبيعة العلم، اننا كبشر لن نتمكن على الاطلاق من سد هذه الثغرات، فهي موجودة، وستبقى هكذا، أي أن العقل، والمعرفة البشرية قد وصلت الى حدها الأقصى، وأن قدراتها عاجزة عن الاجابات العقلية أو المنطقية التي يمكن لها أن تستمدها من قدراتها بما هي عقل او فكر أو من المعطيات المادية المباشرة، بالقياس الى المعرفة لا يمكن أن تتم الا من خارج دائرة الوجود.
- وهذا يعني اهتزاز الفيزياء بدورها؟
- مع اهتزاز الاطار الرياضي اهتزت النظريات الفزيائية بطبيعة الحال، وتأكد عجزها ومحدوديتها بالقياس الى اكتشافات اخرى اكثر مباشرة وتعلق بالفزياء بالذات. منها تأكد حقيقة «اللاممكن تحديده بدقة» وهذا بدوره لا يعود الى عجز الأجهزة التي يوظفها الانسان والتي لو انه تمكن من تطويرها لوصل الى مستوى أفضل من الاداء العلمي، بل الى عجز عن القدرة العقلية او العلمية في تحديد مستقبل الظاهرة الكونية، فقدراتنا تنصب على التأكد من «الآن» دون القدرة على الجزم بمستقبل الظاهرة في الزمان.
وفي مجال علم الفلك على سبيل المثال، تأكد لنا أن ما يمكن ان نعرف، اما تيسر او سيتيسر لنا معرفة هو جزء خرافي الصغر، بالقياس الى كون (أو أكوان خرافية الضخامة.
- وهل يدفع العجز العلم الى احضان الميتافزيقيا بالضرورة؟
- إ المشروع الفلسفي للعرب، الذي تأسس كمشروع يملك الاجابة على كل الاسئلة انطلاقاً من معطيات اساسية محددة، كما في الرياضيات انطلاقاً من بعض المسلمات او من الفزياء انطلاقاً من بعض القوانين النهائية: هذا المشروع قد تحطم نهائياً. والذين اسسوا طموحاتهم العلمية بناء على مقدمات هذا المشروع وجدوا انفسهم فجأة في حالة من عدم التوازن وعدم اليقين (يعترف الفيزيائي الرياضي الايماني الشهير فايل بأن الشك الذي تحمله في طياتها مبرهنه غودل حول الرياضيات قد كبح وبشكل كبير الحماس والعزيمة اللذان كنت اواصل بهما ابحاثي)، رغم انه قد كان على العلماء الانتظار حوالي مئة عام لادراك خطورة هذه الأزمة الاساسية في العلم.
لهذا كانوا قد استشعروا الحاجة للبحث عن مفاهيم اخرى خارج هذه الاطر (العلمغراتية) التي اظهرت محدوديتها وقصورها المقلق، وتوجهوا نحو الفلسفة الشرقية بالذات للبحث في الميتافزيقيا عن مخارج لازماتهم الفزيائية والعلمية، واعطاء معنى لكل ذلك المتعسر على الفهم في مكونات الوجود.
- أنت تعبر عن هذه الصدمة العلمية التي عصفت بعلوم القرن الماضي، والتي فتحت آفاقاً لثورة علمية كونية جديدة مع بدايات هذا القرن باعتبارها باباً يفتح باتجاه الاسلام، كيف تفسرون ذلك؟
- ان الاديان الانسانية الكبرى، وعلى رأسها الدين الإسلامي،و تملك موروثاً ميتافزيقياً ومثالياً يؤسس لاطلالة مهمة نحو الحقائق باطلاق.
والاسلام بصورة خاصة قد راكم موروثا ضخماً من هذا الاتجاه المثالي والفلسفي الكلامي، القادر على نجدة العلوم المعاصرة واعطاء المعاني الكافية للاكتشافات العلمية الكبرى التي تحير علماء العصر.
ولماذا يواجه الانسان - المخلوق من الله - حدود المعرفة، وان الحقيقة المطلقة تقع خارج حدود الانسان، (لأن الحق باطلاق هو الله تعالى وحده)، وان فهم الدلالات العلمية وتفسير الاكتشافات المقلقة يمكن ان يتم في اطار ميتافزيقي روحاني يملكه الاسلام بكل عمق.
وهذه أهم نقطة يمكن التأكيد من خلالها على صلة الوصل بين العلم والايمان وهي ما تعطى قراءة مهمة لاشكاليات عجز المعرفة البشرية امام الحدود التي تنصبها الطبيعة في مواجهة العقل او المعرفة البشرية.
فالاسلام قادر على شرح اشكاليات العلم المعاصر، وكيف أن الكون غير مكتفئ بذاته، وان معرفته تعود او تعتمد على قدرة خارجة عنه، ويعتمد في كل تفاصيله على خالقه تعالى.
فهناك حفر كثيرة قد ثقبت العلوم المعاصرة، وهذه الحفر التي اخترقت يقين العلم هي ابواب مشرعة نحو الخالق.
المصدر: مجلة النور اللندنية، العدد 151، 2003.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» قراءة فى كتاب علم المستقبل في الفكر العالمي المعاصر
» الإحاطة والرسوخ في العمل الإسلامي المعاصر / يحي نعيم
» فهرس موضوعات الساحة الثقافية شامل ومتجدد
» قراءة فى كتاب أدب طلب العلم
» نماذج من النظريات الماركسية في علم الاجتماع المعاصر ـ إبراهيم بايزو
» الإحاطة والرسوخ في العمل الإسلامي المعاصر / يحي نعيم
» فهرس موضوعات الساحة الثقافية شامل ومتجدد
» قراءة فى كتاب أدب طلب العلم
» نماذج من النظريات الماركسية في علم الاجتماع المعاصر ـ إبراهيم بايزو
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى