الطريق إلى بناء حضاري يواجه تحديات العصر
صفحة 1 من اصل 1
الطريق إلى بناء حضاري يواجه تحديات العصر
من الذي يتصدى للحديث عن الإسلام؟!!.. بدايةً: كم نتمنى أن يكون كل من يتصدى للحديث عن الإسلام، وفكره ومنهجه ورؤيته المستقبلية.. كم نتمنى أن يكون هذا المتحدث من أصحاب البديهة الحاضرة، والفكر المتجدد السابق لعصره، والرؤيا الثقافية الواعية التي من خلالها يتمكن من وضع يده على مواطن الداء، ولا يكتفي بذلك بل يضع له العلاج الناجع.
وإلى جانب ذلك فإن المتصدي للحديث عن قضايا الإسلام يجب أن يمتاز بالاعتدال، بل عليه أن يؤكد دوماً أن أعظم ما في الإسلام هو سماحته وعقلانيته وعطاؤه المتجدد دائماً، وعالميته وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا التأكيد يجب أن يصحبه الأدلة القاطعة، والبراهين الواضحة.
تحديات كثيرة
إن هناك تحديات كثيرة تواجه المسلمين في هذه المرحلة التي نعيشها، وأهم هذه التحديات التخلف الذي تعاني منه معظم البلاد الإسلامية بدرجاته المختلفة، وخاصة مع بروز قطبية وحيدة تقود العالم أجمع، وهذا يعني أن المرحلة الحالية تحتاج إلى تجمع إسلامي حقيقي، وإلى توحد وتوجه من الدول الإسلامية نحو من يتعاون معها بجدية والتزام من الدول المتقدمة.
ومن أبرز التحديات التي تواجهنا أننا في حاجة ماسة إلى تجديد أساليب الدعوة الإسلامية، وبمعنى آخر تجديد أساليب الخطاب الديني مع المحافظة على ثوابتنا الدينية والتي تنطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وعلينا أن نعي جيداً أن إدراك عطاء الإسلام الحضاري ومشاركته الفاعلة في واقعنا المعاش عملية تقوم على أساس الوعي بالذات وفهم العصر الذي نعيشه وآلياته، والأخذ بأسباب العلم الحديث، وحسن استيعاب التراث الإسلامي مع حسن الاستفادة منه، وتوظيفه من أجل حل مشاكلنا الراهنة.
وهذا الإدراك الذي نطالب به شرط جوهري لتقديم رسالة الإسلام إلى العالم، والإسهام في الحضارة الإنسانية الراهنة، ولن يتم للمسلمين عمل يؤدّونه على الوجه الذي يرضي ضمائرهم ما لم يتضح لديهم هذا الإدراك الواعي الرشيد.
ولا بد للأمة الإسلامية أن تعمق داخلها هذا الإدراك الذي أساسه الاعتماد على النفس، وهي قادرة على ذلك إذا ركزت على منابع التقدم، وأدركت أن التقدم يجب أن يقوم على بناء قوي، والبناء القوي لا بد له من التخطيط السليم، وهذا التخطيط يكون تنفيذه باستكمال أدوات البناء الحضاري استعداداً للمستقبل.
إن التقدم في عصرنا الراهن، هذا العصر الذي يتسم بالتكامل بين القادرين، ورفع مستوى الإنتاج المنافس، عن طريق البحث العلمي المتقدم والتطور التكنولوجي الذي لا يهدأ، ولكي تستطيع سلعنا المنافسة في الأسواق العالمية، يجب علينا السعي إلى بناء صناعات متعددة تعتمد على العلم والتخطيط العلمي، وتشجيع الاستثمارات والجهود الذاتية والخاصة، والعمل على زيادة المدخرات، ورفع مستوى الحياة، وإحداث التنمية المنشودة بكافة مجالاتها.
وتأسيساً على ما سلف فإن الأساس لإحداث تقدم الأمة هو الإنسان بكل عظمته، فالآلة المنفردة، والموارد الغزيرة، والمصادر المتوفرة لا يمكن لها أن تصنع التقدم، فالتقدم صناعة إنسانية في المقام الأول، ولا يتحقق إلا عندما تبدعه أيد قادرة على تحريك كل القدرات والإمكانيات والأفكار لمصلحة رقي الأمة ونهوضها.
نؤكد على أن الإنسان الفرد هو لب التقدم، وإليه يعود النفع، لذلك ينبغي أن يكون هذا الفرد قادراً على القيام بواجبه الفاعل ليستفيد ويتمتع بكل جديد ومستحدث في المعارف عن طريق التعليم المتميز المستمر. وهنا يجب أن نلح على أن التطور لا يبدأ إلا من المعمل المدرسي، ومن تعليم شبابنا البحث العلمي المنهجي، والمثابرة، والقدرة على اقتحام المشاكل، ورفع مستوى الإنتاج في كل المجالات بما يمكننا من توفير متطلبات التقدم على الصعيد المحلي، وعلى الصعيد العالمي الذي يؤهلنا للمنافسة العالمية، والمشاركة الفاعلة، بعيدأ عن الاكتفاء بالجلوس في مقاعد المتفرجين.
الوحدة أمر حتمي
إن الأمة الإسلامية تواجه في هذه المرحلة مشاكل وتحديات كثيرة، تقتضي من الجميع الترابط والتقارب والتفاهم، فالعالم توحد قبلنا حتى لو كان هذا التوحد أساسه المصالح والمنافع، وإن لم نفعل كنا على شفا التهلكة.
نحن في عالم أضحت فيه وسائل الاتصالات والمواصلات سهلة ميسرة، ولذلك ظهرت تلك المفاهيم التي تدعو إلى ترابط الأمم والشعوب، وتقارب المصالح، وهنا ظهرت قضايا التعاون بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتأكيد التكامل بين القادر وغيره، ثم ظهرت قضايا تنظيم التجارة العالمية واتفاقيات الجات، وهي أخطر أساس تشريعي ظهر في تاريخ البشرية لتحكم القادرين في غير القادرين.
ومن كل ما سبق، يتحتم أن تترابط الشعوب، وتتقارب العقائد، وتتفاهم العقول، وتتحد القدرات، بعيداً عن التعصب الأعمى، وعن ضيق الأفق، وعلينا أن نسعى جميعاً من أجل الحفاظ على الإنسان من مهاترات ومخاطر الحقد والكراهية، ومخاطر التحديات المليئة بالصراعات والصدامات التي لا طائل منها.
حقيقة التخوف
البعض يكتب ويقول: "إن الغرب يتخوف من الإسلام والمسلمين (الزحف أو الخطر الأخضر)، والكاتب بدوره لا يميل إلى نظرية المؤامرة، بمعنى أن نرجع أي أمر لا نرجوه ولا نتمناه إلى تآمر الآخرين علينا، على كل حال فإن هذا التخوف من الإسلام ـ إن صح ـ فهو بسبب ظهور بعض التيارات الإسلامية الخاطئة المُضلَلة أو غير الواعية بمنهج الإسلام الذي أساسه احترام الآخرين، والتعاون معهم، من أجل التقدم إلى الأمام.
إن واجب أمتنا أن تقف بصدق وجلاء مع نفسها، وتبرز السمو في العقيدة الإسلامية، ودعوتها إلى السماحة في التعامل مع الآخر واحترامه، بعيداً عن التعصب والتطرف والعنف وضيق الأفق، ولعل أكبر الأدلة على ذلك الأسوة الحسنة التي برزت في أقوال وأفعال وتقارير الرسول الكريم محمد (صلي الله عليه وسلم) والذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وكان بحق على خلق عظيم، لأنه لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، وكذلك صحابته البررة الكرام وتأكيدهم على رعاية الآخرين، وكذلك الأقليات الذين اعتبرهم الإسلام جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع، وأهل الذمة الذي دعا الإسلام إلى الحفاظ على حقوقهم وممتلكاتهم، ودياناتهم، وأرواحهم.. وكل ذلك يؤكد الأسلوب الأمثل في التعامل مع الآخر وقبوله.
المفكر الواعي
إننا في أمس الحاجة ونحن نواجه مشاكلنا وقضايانا ومتاعبنا إلى المفكر الواعي الذي يدرك جيداً ما على أرض الواقع، المفكر المعتدل فكراً وفعلاً، ولا يمكن أن يتواجد أمثال هؤلاء إلا بتوفير المناخ الصالح.
إن الباحث والمفكر عندما يتابع عن كثب ما يجري في العالم الإسلامي يجد قائمة طويلة من المنازعات والصدامات والصراعات تستهلك ـ دون أدنى سبب ـ طاقات المسلمين، وتبدد جهودهم في غير طائل، وتشغلهم عن قضاياهم الحيوية، والتي من أهمها: البناء والتعمير والتحديث واللحاق بركاب العلم والتحضر.
لقد وقع أهل الإسلام في خلل جسيم حيث أنهم انساقوا في تفكيرهم إلى الجزئيات والتي شغلتهم الشغل التام عن الكليات، هذا الخلل الفكري أدى إلى انتشار صورة ظالمة للإسلام والمسلمين في العالم، فتصور البعض أن الإسلام عقبة كئود في طريق التقدم والعلم، وأن المسلمين أعداء للتحضر والاستنارة، ودعاة للجمود والتخلف، وعليه استخفوا بالمسلمين لأنهم أظهروا أنفسهم في صورة الجامدين والمتعصبين، صورة المفرطين في حقوقهم، صورة المتواكلين الخاملين، صورة المعتمدين على الآخر.
واللازم على كل مسلم تعزيز التعاون مع الآخرين في المجال الثقافي، وهذا فرض عين على كل قادر، بل هو حق وتكليف إسلامي من أجل التعايش مع المتغيرات والمستجدات العالمية المعاصرة، وإذا لم نستيقظ تمام اليقظة، ونحاول العمل الجاد المثمر، ومواكبة عصرنا دون إفراط أو تفريط، سنكون منعزلين عن مواكبة عالمنا المتقدم.
لذلك كان حقاً على كل عالم، ومفكر، وباحث، ومثقف، أن يفتح قنوات التعارف والتقارب مع الآخرين، دون خوف أو وجل، فالتقارب والتعارف مع مختلف الثقافات والتخصصات يفيدنا، ويضيف إلينا، فالله خلقنا من أجل أن نتعارف و نتعاون، من أجل أن نتبادل الآراء والأفكار والخبرات، بهدف تحقيق واقع أفضل لنا ولذوينا.
الحوار مع النفس أولاً
وإذا كانت العالمية أو العولمة تدعونا إلى رفع الحدود، وتقارب الثقافات وحتى اللغات، فإن من الواجب الأكبر علينا ضرورة التقارب والتفاهم مع أنفسنا، حتى لا يكون كل واحد منا في جزيرة منعزلة تماماً عن الجزيرة الذي يعيش فيها أخوه. بمعنى آخر التفاهم الإسلامي فكراً وعلماً، قولاً وفعلاً، التفاهم الذي يقرِِّب وجهات النظر، ويذوب الخلافات، ويعمل على التقارب بين المذاهب المختلفة التي تفرق بين المؤمنين بالله تعالى وبرسوله (صلي الله عليه وسلم)، وتلك بداية لفكر إسلامي معتدل، فكر مقبول ومؤثر عالمياً، ولعلنا نفعل ذلك ونحن على ثقة كبيرة في أنفسنا، دون أدنى خوف أو خشية.
إن التقارب بين الدول الإسلامية أضحى من أوجب الواجبات، ومن أهم المتطلبات في ظروفنا الراهنة، ونضيف إلى التقارب الإسلامي الذي ننشده أهمية احترام العلم والمعرفة، وتشجيع وتقدير العلماء والمفكرين، والعمل على إصلاح النفوس، وتقارب المصالح، فلا بد أن ندرك جيداً أن توحيد الجهود، وتنسيق الأعمال، والانشغال بهموم الأمة هو الطريق إلى إزالة ما نحن فيه من غمة، ووصولنا إلى طريق التقدم والرقي، ورعاية مصالح بلادنا المختلفة بعيداً عن التبعية والهيمنة.
الكفاءة القادرة
نحن في حاجة إلى أن نتأمل واقعنا كمسلمين في أيامنا الراهنة، في حاجة إلى أن نتحاور بجدية حول طبيعة الإسهام الذي يمكن أن نقدمه للحضارة الإنسانية بوجه عام. أمتنا الإسلامية لا ينقصها الكفاءة القادرة على إثبات الذات، والمفكرون المسلمون على مدى عصور مضت كانوا هم المصابيح المضيئة في سماء الإنسانية، ثم ضلوا السبل عندما تفرقت بهم، وذلك بسبب المعارك الداخلية غير المجدية، وبسبب الاستعمار الثقافي، فتوقفت حركة التقدم، حركة الوعي والاستنارة، وانقسمت الأمة إلى غني وفقير، إلى قادر وغير قادر، ودخلنا في مهاترات سقيمة، وجدل بيزنطي فارغ، وسفسطة مضى عصرها إلى غير رجعة، وبذلك وبسذاجة عجيبة وغريبة أضعنا عدة قرون دون طائل..!!.
لقد آن الأوان لأن تخرج الأمة من كربتها، وأن تستغل أحسن استغلال قدرتها الكامنة فيها، من أجل أن تجاري متطلبات عصرنا من علم وتكنولوجيا، وهذه المجاراة لن تكون إلا بإيجاد الإمكانيات العلمية، والإدارة الحديثة الهادفة، والتي تمكن الأمة الإسلامية من دخول عالم التقنيات المختلفة.
كفانا قناعة بدور المتفرج على ما يحدث من تقدم في دنيانا، كفانا قناعة بدور المستورد العاجز عن الإنتاج والابتكار والإبداع، لقد حان الوقت لأن نتفاعل مع عالمنا، لأن نكون مشاركين منتجين للتكنولوجيا، مساهمين فيها، وهنا: يتحتم علينا أن نضع طاقاتنا في خدمة مجتمعنا، ومنحها ما يستحق من تشجيع وإمكانيات تمكنها من تجسيد تجاربها العلمية والتكنولوجية.
إننا لو فعلنا ذلك أمكننا بحق أن نثبت بالبرهان الدامغ، والدليل العلمي الواضح، أننا لا نعاني من عقدة التخلف العقلي أو العلمي، بل إننا نستطيع القول جازمين بأن ما نملكه من قدرات علمية وموارد بشرية تؤهلنا إلى أن نكون في مستوى الدول المتقدمة، ومن المعروف أن الوسائل العلمية تتطور وتتضاعف بشكل مستمر (ديمومي)، فنحن نحتاج إلى حركة نشيطة، حركة فاعلة متفاعلة، بل في حاجة إلى ثورة ندرك بها متطلبات العصر، واستعمال القوى الكامنة والقادرة على إحداث التقدم المنشود.
وختاماً: فإن رعاية المستقبل (مستقبل الأمة الإسلامية)، فرض واجب على كل مسلم ومسلمة، هذا المستقبل لن يتحقق في أجمل صوره إلا بالعلم التعلم، والتعليم المجود، والبحث المتفوق الجاد، والتطور التكنولوجي، وذلك في إطار من التكاملية والتخطيط العلمي الممنهج، أضف إلى ذلك الاندماج التام والكامل بين ومع شركاء المستقبل لخدمة أمتنا الإسلامية.
بقلم /الأستاذ يسري عبد الغني عبد الله
باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية
المصدر
http://www.wahdaislamyia.org/issues/102/yabdgani.htm
وإلى جانب ذلك فإن المتصدي للحديث عن قضايا الإسلام يجب أن يمتاز بالاعتدال، بل عليه أن يؤكد دوماً أن أعظم ما في الإسلام هو سماحته وعقلانيته وعطاؤه المتجدد دائماً، وعالميته وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا التأكيد يجب أن يصحبه الأدلة القاطعة، والبراهين الواضحة.
تحديات كثيرة
إن هناك تحديات كثيرة تواجه المسلمين في هذه المرحلة التي نعيشها، وأهم هذه التحديات التخلف الذي تعاني منه معظم البلاد الإسلامية بدرجاته المختلفة، وخاصة مع بروز قطبية وحيدة تقود العالم أجمع، وهذا يعني أن المرحلة الحالية تحتاج إلى تجمع إسلامي حقيقي، وإلى توحد وتوجه من الدول الإسلامية نحو من يتعاون معها بجدية والتزام من الدول المتقدمة.
ومن أبرز التحديات التي تواجهنا أننا في حاجة ماسة إلى تجديد أساليب الدعوة الإسلامية، وبمعنى آخر تجديد أساليب الخطاب الديني مع المحافظة على ثوابتنا الدينية والتي تنطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
وعلينا أن نعي جيداً أن إدراك عطاء الإسلام الحضاري ومشاركته الفاعلة في واقعنا المعاش عملية تقوم على أساس الوعي بالذات وفهم العصر الذي نعيشه وآلياته، والأخذ بأسباب العلم الحديث، وحسن استيعاب التراث الإسلامي مع حسن الاستفادة منه، وتوظيفه من أجل حل مشاكلنا الراهنة.
وهذا الإدراك الذي نطالب به شرط جوهري لتقديم رسالة الإسلام إلى العالم، والإسهام في الحضارة الإنسانية الراهنة، ولن يتم للمسلمين عمل يؤدّونه على الوجه الذي يرضي ضمائرهم ما لم يتضح لديهم هذا الإدراك الواعي الرشيد.
ولا بد للأمة الإسلامية أن تعمق داخلها هذا الإدراك الذي أساسه الاعتماد على النفس، وهي قادرة على ذلك إذا ركزت على منابع التقدم، وأدركت أن التقدم يجب أن يقوم على بناء قوي، والبناء القوي لا بد له من التخطيط السليم، وهذا التخطيط يكون تنفيذه باستكمال أدوات البناء الحضاري استعداداً للمستقبل.
إن التقدم في عصرنا الراهن، هذا العصر الذي يتسم بالتكامل بين القادرين، ورفع مستوى الإنتاج المنافس، عن طريق البحث العلمي المتقدم والتطور التكنولوجي الذي لا يهدأ، ولكي تستطيع سلعنا المنافسة في الأسواق العالمية، يجب علينا السعي إلى بناء صناعات متعددة تعتمد على العلم والتخطيط العلمي، وتشجيع الاستثمارات والجهود الذاتية والخاصة، والعمل على زيادة المدخرات، ورفع مستوى الحياة، وإحداث التنمية المنشودة بكافة مجالاتها.
وتأسيساً على ما سلف فإن الأساس لإحداث تقدم الأمة هو الإنسان بكل عظمته، فالآلة المنفردة، والموارد الغزيرة، والمصادر المتوفرة لا يمكن لها أن تصنع التقدم، فالتقدم صناعة إنسانية في المقام الأول، ولا يتحقق إلا عندما تبدعه أيد قادرة على تحريك كل القدرات والإمكانيات والأفكار لمصلحة رقي الأمة ونهوضها.
نؤكد على أن الإنسان الفرد هو لب التقدم، وإليه يعود النفع، لذلك ينبغي أن يكون هذا الفرد قادراً على القيام بواجبه الفاعل ليستفيد ويتمتع بكل جديد ومستحدث في المعارف عن طريق التعليم المتميز المستمر. وهنا يجب أن نلح على أن التطور لا يبدأ إلا من المعمل المدرسي، ومن تعليم شبابنا البحث العلمي المنهجي، والمثابرة، والقدرة على اقتحام المشاكل، ورفع مستوى الإنتاج في كل المجالات بما يمكننا من توفير متطلبات التقدم على الصعيد المحلي، وعلى الصعيد العالمي الذي يؤهلنا للمنافسة العالمية، والمشاركة الفاعلة، بعيدأ عن الاكتفاء بالجلوس في مقاعد المتفرجين.
الوحدة أمر حتمي
إن الأمة الإسلامية تواجه في هذه المرحلة مشاكل وتحديات كثيرة، تقتضي من الجميع الترابط والتقارب والتفاهم، فالعالم توحد قبلنا حتى لو كان هذا التوحد أساسه المصالح والمنافع، وإن لم نفعل كنا على شفا التهلكة.
نحن في عالم أضحت فيه وسائل الاتصالات والمواصلات سهلة ميسرة، ولذلك ظهرت تلك المفاهيم التي تدعو إلى ترابط الأمم والشعوب، وتقارب المصالح، وهنا ظهرت قضايا التعاون بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتأكيد التكامل بين القادر وغيره، ثم ظهرت قضايا تنظيم التجارة العالمية واتفاقيات الجات، وهي أخطر أساس تشريعي ظهر في تاريخ البشرية لتحكم القادرين في غير القادرين.
ومن كل ما سبق، يتحتم أن تترابط الشعوب، وتتقارب العقائد، وتتفاهم العقول، وتتحد القدرات، بعيداً عن التعصب الأعمى، وعن ضيق الأفق، وعلينا أن نسعى جميعاً من أجل الحفاظ على الإنسان من مهاترات ومخاطر الحقد والكراهية، ومخاطر التحديات المليئة بالصراعات والصدامات التي لا طائل منها.
حقيقة التخوف
البعض يكتب ويقول: "إن الغرب يتخوف من الإسلام والمسلمين (الزحف أو الخطر الأخضر)، والكاتب بدوره لا يميل إلى نظرية المؤامرة، بمعنى أن نرجع أي أمر لا نرجوه ولا نتمناه إلى تآمر الآخرين علينا، على كل حال فإن هذا التخوف من الإسلام ـ إن صح ـ فهو بسبب ظهور بعض التيارات الإسلامية الخاطئة المُضلَلة أو غير الواعية بمنهج الإسلام الذي أساسه احترام الآخرين، والتعاون معهم، من أجل التقدم إلى الأمام.
إن واجب أمتنا أن تقف بصدق وجلاء مع نفسها، وتبرز السمو في العقيدة الإسلامية، ودعوتها إلى السماحة في التعامل مع الآخر واحترامه، بعيداً عن التعصب والتطرف والعنف وضيق الأفق، ولعل أكبر الأدلة على ذلك الأسوة الحسنة التي برزت في أقوال وأفعال وتقارير الرسول الكريم محمد (صلي الله عليه وسلم) والذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وكان بحق على خلق عظيم، لأنه لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، وكذلك صحابته البررة الكرام وتأكيدهم على رعاية الآخرين، وكذلك الأقليات الذين اعتبرهم الإسلام جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع، وأهل الذمة الذي دعا الإسلام إلى الحفاظ على حقوقهم وممتلكاتهم، ودياناتهم، وأرواحهم.. وكل ذلك يؤكد الأسلوب الأمثل في التعامل مع الآخر وقبوله.
المفكر الواعي
إننا في أمس الحاجة ونحن نواجه مشاكلنا وقضايانا ومتاعبنا إلى المفكر الواعي الذي يدرك جيداً ما على أرض الواقع، المفكر المعتدل فكراً وفعلاً، ولا يمكن أن يتواجد أمثال هؤلاء إلا بتوفير المناخ الصالح.
إن الباحث والمفكر عندما يتابع عن كثب ما يجري في العالم الإسلامي يجد قائمة طويلة من المنازعات والصدامات والصراعات تستهلك ـ دون أدنى سبب ـ طاقات المسلمين، وتبدد جهودهم في غير طائل، وتشغلهم عن قضاياهم الحيوية، والتي من أهمها: البناء والتعمير والتحديث واللحاق بركاب العلم والتحضر.
لقد وقع أهل الإسلام في خلل جسيم حيث أنهم انساقوا في تفكيرهم إلى الجزئيات والتي شغلتهم الشغل التام عن الكليات، هذا الخلل الفكري أدى إلى انتشار صورة ظالمة للإسلام والمسلمين في العالم، فتصور البعض أن الإسلام عقبة كئود في طريق التقدم والعلم، وأن المسلمين أعداء للتحضر والاستنارة، ودعاة للجمود والتخلف، وعليه استخفوا بالمسلمين لأنهم أظهروا أنفسهم في صورة الجامدين والمتعصبين، صورة المفرطين في حقوقهم، صورة المتواكلين الخاملين، صورة المعتمدين على الآخر.
واللازم على كل مسلم تعزيز التعاون مع الآخرين في المجال الثقافي، وهذا فرض عين على كل قادر، بل هو حق وتكليف إسلامي من أجل التعايش مع المتغيرات والمستجدات العالمية المعاصرة، وإذا لم نستيقظ تمام اليقظة، ونحاول العمل الجاد المثمر، ومواكبة عصرنا دون إفراط أو تفريط، سنكون منعزلين عن مواكبة عالمنا المتقدم.
لذلك كان حقاً على كل عالم، ومفكر، وباحث، ومثقف، أن يفتح قنوات التعارف والتقارب مع الآخرين، دون خوف أو وجل، فالتقارب والتعارف مع مختلف الثقافات والتخصصات يفيدنا، ويضيف إلينا، فالله خلقنا من أجل أن نتعارف و نتعاون، من أجل أن نتبادل الآراء والأفكار والخبرات، بهدف تحقيق واقع أفضل لنا ولذوينا.
الحوار مع النفس أولاً
وإذا كانت العالمية أو العولمة تدعونا إلى رفع الحدود، وتقارب الثقافات وحتى اللغات، فإن من الواجب الأكبر علينا ضرورة التقارب والتفاهم مع أنفسنا، حتى لا يكون كل واحد منا في جزيرة منعزلة تماماً عن الجزيرة الذي يعيش فيها أخوه. بمعنى آخر التفاهم الإسلامي فكراً وعلماً، قولاً وفعلاً، التفاهم الذي يقرِِّب وجهات النظر، ويذوب الخلافات، ويعمل على التقارب بين المذاهب المختلفة التي تفرق بين المؤمنين بالله تعالى وبرسوله (صلي الله عليه وسلم)، وتلك بداية لفكر إسلامي معتدل، فكر مقبول ومؤثر عالمياً، ولعلنا نفعل ذلك ونحن على ثقة كبيرة في أنفسنا، دون أدنى خوف أو خشية.
إن التقارب بين الدول الإسلامية أضحى من أوجب الواجبات، ومن أهم المتطلبات في ظروفنا الراهنة، ونضيف إلى التقارب الإسلامي الذي ننشده أهمية احترام العلم والمعرفة، وتشجيع وتقدير العلماء والمفكرين، والعمل على إصلاح النفوس، وتقارب المصالح، فلا بد أن ندرك جيداً أن توحيد الجهود، وتنسيق الأعمال، والانشغال بهموم الأمة هو الطريق إلى إزالة ما نحن فيه من غمة، ووصولنا إلى طريق التقدم والرقي، ورعاية مصالح بلادنا المختلفة بعيداً عن التبعية والهيمنة.
الكفاءة القادرة
نحن في حاجة إلى أن نتأمل واقعنا كمسلمين في أيامنا الراهنة، في حاجة إلى أن نتحاور بجدية حول طبيعة الإسهام الذي يمكن أن نقدمه للحضارة الإنسانية بوجه عام. أمتنا الإسلامية لا ينقصها الكفاءة القادرة على إثبات الذات، والمفكرون المسلمون على مدى عصور مضت كانوا هم المصابيح المضيئة في سماء الإنسانية، ثم ضلوا السبل عندما تفرقت بهم، وذلك بسبب المعارك الداخلية غير المجدية، وبسبب الاستعمار الثقافي، فتوقفت حركة التقدم، حركة الوعي والاستنارة، وانقسمت الأمة إلى غني وفقير، إلى قادر وغير قادر، ودخلنا في مهاترات سقيمة، وجدل بيزنطي فارغ، وسفسطة مضى عصرها إلى غير رجعة، وبذلك وبسذاجة عجيبة وغريبة أضعنا عدة قرون دون طائل..!!.
لقد آن الأوان لأن تخرج الأمة من كربتها، وأن تستغل أحسن استغلال قدرتها الكامنة فيها، من أجل أن تجاري متطلبات عصرنا من علم وتكنولوجيا، وهذه المجاراة لن تكون إلا بإيجاد الإمكانيات العلمية، والإدارة الحديثة الهادفة، والتي تمكن الأمة الإسلامية من دخول عالم التقنيات المختلفة.
كفانا قناعة بدور المتفرج على ما يحدث من تقدم في دنيانا، كفانا قناعة بدور المستورد العاجز عن الإنتاج والابتكار والإبداع، لقد حان الوقت لأن نتفاعل مع عالمنا، لأن نكون مشاركين منتجين للتكنولوجيا، مساهمين فيها، وهنا: يتحتم علينا أن نضع طاقاتنا في خدمة مجتمعنا، ومنحها ما يستحق من تشجيع وإمكانيات تمكنها من تجسيد تجاربها العلمية والتكنولوجية.
إننا لو فعلنا ذلك أمكننا بحق أن نثبت بالبرهان الدامغ، والدليل العلمي الواضح، أننا لا نعاني من عقدة التخلف العقلي أو العلمي، بل إننا نستطيع القول جازمين بأن ما نملكه من قدرات علمية وموارد بشرية تؤهلنا إلى أن نكون في مستوى الدول المتقدمة، ومن المعروف أن الوسائل العلمية تتطور وتتضاعف بشكل مستمر (ديمومي)، فنحن نحتاج إلى حركة نشيطة، حركة فاعلة متفاعلة، بل في حاجة إلى ثورة ندرك بها متطلبات العصر، واستعمال القوى الكامنة والقادرة على إحداث التقدم المنشود.
وختاماً: فإن رعاية المستقبل (مستقبل الأمة الإسلامية)، فرض واجب على كل مسلم ومسلمة، هذا المستقبل لن يتحقق في أجمل صوره إلا بالعلم التعلم، والتعليم المجود، والبحث المتفوق الجاد، والتطور التكنولوجي، وذلك في إطار من التكاملية والتخطيط العلمي الممنهج، أضف إلى ذلك الاندماج التام والكامل بين ومع شركاء المستقبل لخدمة أمتنا الإسلامية.
بقلم /الأستاذ يسري عبد الغني عبد الله
باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية
المصدر
http://www.wahdaislamyia.org/issues/102/yabdgani.htm
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» اليهود في مصر في العصر البطلمي
» حمل أخطر كتاب إسلامي في العصر الحديث.."آذان الإنعام"..
» نظرات فى مقال تحديات مجنونة: كسر حدود التحمل
» حمل كتاب: إيران والخليج تحديات وعقبات
» السيده رابعة العدوية والرؤيا الصا لحة وبداية الطريق
» حمل أخطر كتاب إسلامي في العصر الحديث.."آذان الإنعام"..
» نظرات فى مقال تحديات مجنونة: كسر حدود التحمل
» حمل كتاب: إيران والخليج تحديات وعقبات
» السيده رابعة العدوية والرؤيا الصا لحة وبداية الطريق
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى