مقدمات لمستقبل الإسلام
صفحة 1 من اصل 1
مقدمات لمستقبل الإسلام
مقدمات لمستقبل الإسلام
مقدمة
هذا الكتاب له مطمح أول هو أن يصبر القارئ عليه حتى ينسجم مع الخط الذي يرجع إليه الفكر بعد تموجات تدعو إليها معاناة واقع نريد تغييره، وأمل نرجو أن يتحقق، وهو قيام دولة القرآن، دولة الخلافة على منهاج النبوة. الخط الذي يعود إليه الفكر ويأوي إليه عبر تعرجات البحث والاستدلال والتخطيط هو ذلك المستقيم الصاعد بالعبد المومن إلى معارج الإيمان والإحسان. هو الصراط المستقيم الذي بلغ الله سبحانه عليه من اصطفاهم من عباده النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا. فمهما نكتب أو نقرأ منبسطين في أكوان الأرض والسماء، وعوالم السياسة والاقتصاد والصراع مع الباطل، فإنما نهيِّئ الفهم لجهاد عملي فيه الخبط والضراب والمعارك. فإن لم يكن لنا مع الله عز وجل ساعة لا يسعنا فيها غير ذكره، بل إن لم يكن شِغاف قلبنا مخدعا للحنين الدائم إليه سبحانه، ولم يَكن مَحْيانا ومماتنا وصلاتنا ونسكنا لله حقا وحده لا شريك له، فقد أوشكنا أن تذرونا الرياح، ونذْهب بددا مع الحركة، فتقتطفنا يد الهوى ونصبح من الخاسرين.
مطمح هذا الكتاب الأول أن نحافظ في هذه الرفقة على ذكر الله وما يقربنا إليه، بل أن يوقظ في أنفسنا هَمَّ الله ولقائه، لكيلا يَغلب جسم الحركة والفكر على روح طلب رضى الله عز وجل.
والمطمح الثاني التابع هو أن نرسم في هذه الفصول والأبواب منهاج عمل يتجاوز هَمَّ الساعة إلى التطلع لغد الإسلام. وإنَّ من بيننا من يرى، وله رأيه، أن الحركة الإسلامية ينبغي لها ألا تفكر لغد لا يزال في طي الغيب. ينبغي لها أن تركز الجهد على الحاضر، تاركة فضول الترقب لمراحل تأتي. بل الأدهى من ذلك أن منا من يكتب هذا الكلام المذهل الذي مؤداه أن الحركة الإسلامية غير مسؤولة عما آل إليه أمر المسلمين، ومن ثم فلا داعي لحمل همه. وتبقى الفجوة واسعة في الفكر الإسلامي بين مثالية النموذج النبوي والنداء القرآني الخالدين وبين ما تعانيه الأمة من بأساء على أرض الواقع، أرض الغثائية والاستضعاف والفقر والجهل والعبودية للطاغوت.
كأن بعضنا يتصور أن جند الله يوم يصلون إلى الحكم يكفيهم أن يكنسوا الواقع البغيض بجرة قلم أو ضربة سيف كما كان، ولا يزال، يسمع عامتنا عن خرافات البطل الذي يطرح الآلاف من أعدائه بحركة حسامه.
مطمحنا الثاني التابع هو أن نقدم تصورنا لمنهاج عمل ينطلق بنا مما نحن عليه من علل، ويجمع من أطراف الحكمة لوصف الكيف : كيف كان النموذج النبوي في التربية والجهاد والحكم فذّاً وبم كان ؟ كيف تحول المجتمع الجاهلي مجتمعا إسلاميا ؟ كيف تطور التاريخ بالأمة على عهد الخلفاء الراشدين انحدارا إلى زوابع الفتنة، ثم بعد ذلك إلى الملك العاض فالجبري ؟ ثم كيف العمل اليوم وغدا لإتمام اليقظة الإسلامية المباركة، فانتزاع إمامة الأمة من يد ذرارينا المغربين، فقيادة الزحف الإسلامي إلى مسك زمام الحكم، فإقامة دولة القرآن بتربية الرجال، وتجنيد الشباب، واكتساب العلم، وتوجيه الجهاد، وبناء المؤسسات السياسية، وإحياء الاقتصاد، وتحرير الأمة من الاستعباد والتبعية حتى توحيد دار الإسلام، ونصب الخلافة على منهاج النبوة ؟
لا يغني الوصف لولا صحوة الأمة على عتبة هذا القرن الخامس عشر قرن الإسلام. فهي تزداد تلهفا لمعرفة دينها، وتزداد استعدادا لتحمل أعباء الجهاد، وتزداد، بتردي أوضاعنا وفشل ساسة الطاغوت، تلهفا وترقبا ليوم تخفق فيه راية الإسلام على ربوعنا.
نداءات كثيرة تسمع في ديارنا فيما يرجع لمذاهب الفكر وأساليب التنظيم والحكم. كل ينادي على بضاعته، ويزين، ويلهج بالمديح. لكن صوت الإسلام وحده يُطرب هذه الأجيال المباركة، وبضاعة الإسلام وحدها تَنْفُق.
ما قَضَّ ويقُض مضاجع الجبارين إلا هذا النداء وهذه الاستجابة.
لأن الدعوة حق، ولأن الأمة، خاصة شبابها، أُشْرِبَتْ هذا الدين في سُوَيداءِ القلوب.
في عصر الأقمار الصناعية، والهول النووي، والتسارع الآلي، والثورة الإعلامية، تعاني الإنسانية من ضراوة الحضارة الجاهلية المستعبدة للشعوب، المبذرة لثروات الأرض، المحاربة لكل ما يرفع شأن المستضعفين، ويحررهم من أوهاق الاستعمار. ويضج المستضعفون، والمسلمون أشدهم آلاما، من وطأة الاستكبار العالمي. ينتظر المستضعفون في الأرض خلاصا من غزو التفقير والنهب، ومن الاحتلال العسكري والاقتصادي والثقافي. وقد بدأ المسلمون، مع العالم، يدركون أية قوة احتفظت بها عقيدة التوحيد، وأية طاقة يستطيع الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر تفجيرها في وجه الاستكبار وأعوانه. رأى العالم بدهشة تنم عما هنالك من ازدراء تقليدي بالمسلمين كيف هب إخوتنا الشيعة في إيران وكيف صال أسْدُ الله في أفغانستان. وكان درسا تعلموه فازدادوا خوفا من العملاق الإسلامي النائم. وتصدر اهتماماتهم جميعا رصد المومنين وملاحقتهم وسفك دمائهم إشفاقا أن تسري روح الجهاد في الأمة فتعصف بالظالمين.
برز جهاد المسلمين العزل في أفغانستان وانتصاراتهم برهانا على أن هذا الدين قوة المستقبل، قوة لا تقهر، قوة تتحدى بالإيمان أعتى طواغيت الأرض.
مقدمة
هذا الكتاب له مطمح أول هو أن يصبر القارئ عليه حتى ينسجم مع الخط الذي يرجع إليه الفكر بعد تموجات تدعو إليها معاناة واقع نريد تغييره، وأمل نرجو أن يتحقق، وهو قيام دولة القرآن، دولة الخلافة على منهاج النبوة. الخط الذي يعود إليه الفكر ويأوي إليه عبر تعرجات البحث والاستدلال والتخطيط هو ذلك المستقيم الصاعد بالعبد المومن إلى معارج الإيمان والإحسان. هو الصراط المستقيم الذي بلغ الله سبحانه عليه من اصطفاهم من عباده النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا. فمهما نكتب أو نقرأ منبسطين في أكوان الأرض والسماء، وعوالم السياسة والاقتصاد والصراع مع الباطل، فإنما نهيِّئ الفهم لجهاد عملي فيه الخبط والضراب والمعارك. فإن لم يكن لنا مع الله عز وجل ساعة لا يسعنا فيها غير ذكره، بل إن لم يكن شِغاف قلبنا مخدعا للحنين الدائم إليه سبحانه، ولم يَكن مَحْيانا ومماتنا وصلاتنا ونسكنا لله حقا وحده لا شريك له، فقد أوشكنا أن تذرونا الرياح، ونذْهب بددا مع الحركة، فتقتطفنا يد الهوى ونصبح من الخاسرين.
مطمح هذا الكتاب الأول أن نحافظ في هذه الرفقة على ذكر الله وما يقربنا إليه، بل أن يوقظ في أنفسنا هَمَّ الله ولقائه، لكيلا يَغلب جسم الحركة والفكر على روح طلب رضى الله عز وجل.
والمطمح الثاني التابع هو أن نرسم في هذه الفصول والأبواب منهاج عمل يتجاوز هَمَّ الساعة إلى التطلع لغد الإسلام. وإنَّ من بيننا من يرى، وله رأيه، أن الحركة الإسلامية ينبغي لها ألا تفكر لغد لا يزال في طي الغيب. ينبغي لها أن تركز الجهد على الحاضر، تاركة فضول الترقب لمراحل تأتي. بل الأدهى من ذلك أن منا من يكتب هذا الكلام المذهل الذي مؤداه أن الحركة الإسلامية غير مسؤولة عما آل إليه أمر المسلمين، ومن ثم فلا داعي لحمل همه. وتبقى الفجوة واسعة في الفكر الإسلامي بين مثالية النموذج النبوي والنداء القرآني الخالدين وبين ما تعانيه الأمة من بأساء على أرض الواقع، أرض الغثائية والاستضعاف والفقر والجهل والعبودية للطاغوت.
كأن بعضنا يتصور أن جند الله يوم يصلون إلى الحكم يكفيهم أن يكنسوا الواقع البغيض بجرة قلم أو ضربة سيف كما كان، ولا يزال، يسمع عامتنا عن خرافات البطل الذي يطرح الآلاف من أعدائه بحركة حسامه.
مطمحنا الثاني التابع هو أن نقدم تصورنا لمنهاج عمل ينطلق بنا مما نحن عليه من علل، ويجمع من أطراف الحكمة لوصف الكيف : كيف كان النموذج النبوي في التربية والجهاد والحكم فذّاً وبم كان ؟ كيف تحول المجتمع الجاهلي مجتمعا إسلاميا ؟ كيف تطور التاريخ بالأمة على عهد الخلفاء الراشدين انحدارا إلى زوابع الفتنة، ثم بعد ذلك إلى الملك العاض فالجبري ؟ ثم كيف العمل اليوم وغدا لإتمام اليقظة الإسلامية المباركة، فانتزاع إمامة الأمة من يد ذرارينا المغربين، فقيادة الزحف الإسلامي إلى مسك زمام الحكم، فإقامة دولة القرآن بتربية الرجال، وتجنيد الشباب، واكتساب العلم، وتوجيه الجهاد، وبناء المؤسسات السياسية، وإحياء الاقتصاد، وتحرير الأمة من الاستعباد والتبعية حتى توحيد دار الإسلام، ونصب الخلافة على منهاج النبوة ؟
لا يغني الوصف لولا صحوة الأمة على عتبة هذا القرن الخامس عشر قرن الإسلام. فهي تزداد تلهفا لمعرفة دينها، وتزداد استعدادا لتحمل أعباء الجهاد، وتزداد، بتردي أوضاعنا وفشل ساسة الطاغوت، تلهفا وترقبا ليوم تخفق فيه راية الإسلام على ربوعنا.
نداءات كثيرة تسمع في ديارنا فيما يرجع لمذاهب الفكر وأساليب التنظيم والحكم. كل ينادي على بضاعته، ويزين، ويلهج بالمديح. لكن صوت الإسلام وحده يُطرب هذه الأجيال المباركة، وبضاعة الإسلام وحدها تَنْفُق.
ما قَضَّ ويقُض مضاجع الجبارين إلا هذا النداء وهذه الاستجابة.
لأن الدعوة حق، ولأن الأمة، خاصة شبابها، أُشْرِبَتْ هذا الدين في سُوَيداءِ القلوب.
في عصر الأقمار الصناعية، والهول النووي، والتسارع الآلي، والثورة الإعلامية، تعاني الإنسانية من ضراوة الحضارة الجاهلية المستعبدة للشعوب، المبذرة لثروات الأرض، المحاربة لكل ما يرفع شأن المستضعفين، ويحررهم من أوهاق الاستعمار. ويضج المستضعفون، والمسلمون أشدهم آلاما، من وطأة الاستكبار العالمي. ينتظر المستضعفون في الأرض خلاصا من غزو التفقير والنهب، ومن الاحتلال العسكري والاقتصادي والثقافي. وقد بدأ المسلمون، مع العالم، يدركون أية قوة احتفظت بها عقيدة التوحيد، وأية طاقة يستطيع الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر تفجيرها في وجه الاستكبار وأعوانه. رأى العالم بدهشة تنم عما هنالك من ازدراء تقليدي بالمسلمين كيف هب إخوتنا الشيعة في إيران وكيف صال أسْدُ الله في أفغانستان. وكان درسا تعلموه فازدادوا خوفا من العملاق الإسلامي النائم. وتصدر اهتماماتهم جميعا رصد المومنين وملاحقتهم وسفك دمائهم إشفاقا أن تسري روح الجهاد في الأمة فتعصف بالظالمين.
برز جهاد المسلمين العزل في أفغانستان وانتصاراتهم برهانا على أن هذا الدين قوة المستقبل، قوة لا تقهر، قوة تتحدى بالإيمان أعتى طواغيت الأرض.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: مقدمات لمستقبل الإسلام
تأصيل المنهاج
في رفقتنا عبر صفحات هذا الكتاب نحتاج أن يتم بيننا تفاهم، ويبقى واضحا حبْلُ الأفكار.
فبعد مطمحنا الأول والأساس أن تكون كل كلمة نخطها ونقرأها تذكرنا بالله.
وبعد المطمح الثاني التابع أن نبحث ونعثر على المنهاج النبوي العملي لإقامة دولة القرآن تأسيسا وبناء وتوحيدا للأمة.
نأمل أن لا نتيه بين أساليب الكلام ومصطلحاته، وأن يكون استمدادنا العلم القرآني والهدي النبوي أصلا ثابتا يحصننا من الضياع، دون أن يحجب عنا حكمة الله في آفاق الكون وتسلسل التاريخ. دون أن تمنعنا موعظة القرآن من الاتعاظ بعبرة القُرى، وهو تعبير قرآني عن مجتمعات بشرية خلت يعرضها علينا الله سبحانه دروسا. بل إن عبرة القُرى -أي دروس التاريخ- من موعظة القرآن.
إن كان الوحي أصل معرفتنا فالأرض وعامروها واضطرابهم عليها مهبط ذلك الوحي. يخاطِب الأمر الإلهي فينا حاسة الإيمان كما يخاطب فينا العقل وهو مناط التكليف. ونتلقى السيرة النبوية وروائع الجهاد تحت راية القرآن بالإكبار والتطلع لخير مثال يحتذى. يحصل في الذهن تصور لما كُلِّفْنا به من قبل الحق عز وجل، يتفاوت وضوحا وتتفاوت دواعي إنجازه حسب ما عند كل منا من إيمان وإيقان وإرادة. وتحصل في الخيال صورة النموذج النبوي والراشدي ملونة بالحنين إلى عهد يضفي عليه تفرده بالقيادة المعصومة والتوفيق الذي يخص الله تعالى به أصفياءه حلة الجاذبية والمثالية.
ذلك عهد التقت فيه معاني السماء بتطلعات الأرض، وتجسدت أثناءه حركة التاريخ في أمة هي خير أمة أخرجت للناس. ويتحدث اليوم المتكلمون باسم الإسلام أصنافا ومدارس. فتجد منهم من يقلص السيرة النبوية إلى حجم أرضي صرف ويفسر ظهور الإسلام بانتصار طبقة العبيد والمقهورين تحت قيادة رجل عبقري وقائد موهوب اسمه محمد، أقول : صلى الله عليه وسلم. وتجد آخرين يعالجون تاريخ الإسلام عبر هذه العصور الطويلة بالعرض المجرد، لا ينفذ نظرهم إلى ما وراء الأحداث وما سبقها وما نتج عنها. وبين أصحاب التفسير المادي للتاريخ و"المؤرخين" السُّذَّج لا يمكن تفاهم، بل يضيع فكر طالب العلم بين الطائفتين. ينفر طالب العلم من الماركسي المادي الملحد وتحليله، وقد يكب على استعراض السيرة العطرة يتناغى معها مناغاة عاطفية تسليه عن واقعه المهزوم، أو يستهويه البريق الكاذب لتجار التضليل المادي تلامذة ماركس فإذا ظهور الإسلام بين عينيه أمجاد قومية لا غير.
سوق الحديث القومي عن الإسلام صاخبة، لذا نتأكد من مواقع أقدامنا في هذه الرفقة لكيلا نتبلد مع الإعجاب العاجز بتاريخ عزِّنا، ولا نغتر بمن يُعْوِزُهم السنَدُ في صفوف الأمة، فينصبون لها الشرَك السياسي لاصطياد ودها بترديد عبارات المديح للقائد العبقري والزخم القومي المجيد.
في رفقتنا عبر صفحات هذا الكتاب نحتاج أن يتم بيننا تفاهم، ويبقى واضحا حبْلُ الأفكار.
فبعد مطمحنا الأول والأساس أن تكون كل كلمة نخطها ونقرأها تذكرنا بالله.
وبعد المطمح الثاني التابع أن نبحث ونعثر على المنهاج النبوي العملي لإقامة دولة القرآن تأسيسا وبناء وتوحيدا للأمة.
نأمل أن لا نتيه بين أساليب الكلام ومصطلحاته، وأن يكون استمدادنا العلم القرآني والهدي النبوي أصلا ثابتا يحصننا من الضياع، دون أن يحجب عنا حكمة الله في آفاق الكون وتسلسل التاريخ. دون أن تمنعنا موعظة القرآن من الاتعاظ بعبرة القُرى، وهو تعبير قرآني عن مجتمعات بشرية خلت يعرضها علينا الله سبحانه دروسا. بل إن عبرة القُرى -أي دروس التاريخ- من موعظة القرآن.
إن كان الوحي أصل معرفتنا فالأرض وعامروها واضطرابهم عليها مهبط ذلك الوحي. يخاطِب الأمر الإلهي فينا حاسة الإيمان كما يخاطب فينا العقل وهو مناط التكليف. ونتلقى السيرة النبوية وروائع الجهاد تحت راية القرآن بالإكبار والتطلع لخير مثال يحتذى. يحصل في الذهن تصور لما كُلِّفْنا به من قبل الحق عز وجل، يتفاوت وضوحا وتتفاوت دواعي إنجازه حسب ما عند كل منا من إيمان وإيقان وإرادة. وتحصل في الخيال صورة النموذج النبوي والراشدي ملونة بالحنين إلى عهد يضفي عليه تفرده بالقيادة المعصومة والتوفيق الذي يخص الله تعالى به أصفياءه حلة الجاذبية والمثالية.
ذلك عهد التقت فيه معاني السماء بتطلعات الأرض، وتجسدت أثناءه حركة التاريخ في أمة هي خير أمة أخرجت للناس. ويتحدث اليوم المتكلمون باسم الإسلام أصنافا ومدارس. فتجد منهم من يقلص السيرة النبوية إلى حجم أرضي صرف ويفسر ظهور الإسلام بانتصار طبقة العبيد والمقهورين تحت قيادة رجل عبقري وقائد موهوب اسمه محمد، أقول : صلى الله عليه وسلم. وتجد آخرين يعالجون تاريخ الإسلام عبر هذه العصور الطويلة بالعرض المجرد، لا ينفذ نظرهم إلى ما وراء الأحداث وما سبقها وما نتج عنها. وبين أصحاب التفسير المادي للتاريخ و"المؤرخين" السُّذَّج لا يمكن تفاهم، بل يضيع فكر طالب العلم بين الطائفتين. ينفر طالب العلم من الماركسي المادي الملحد وتحليله، وقد يكب على استعراض السيرة العطرة يتناغى معها مناغاة عاطفية تسليه عن واقعه المهزوم، أو يستهويه البريق الكاذب لتجار التضليل المادي تلامذة ماركس فإذا ظهور الإسلام بين عينيه أمجاد قومية لا غير.
سوق الحديث القومي عن الإسلام صاخبة، لذا نتأكد من مواقع أقدامنا في هذه الرفقة لكيلا نتبلد مع الإعجاب العاجز بتاريخ عزِّنا، ولا نغتر بمن يُعْوِزُهم السنَدُ في صفوف الأمة، فينصبون لها الشرَك السياسي لاصطياد ودها بترديد عبارات المديح للقائد العبقري والزخم القومي المجيد.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: مقدمات لمستقبل الإسلام
الانقطاع المعرفي
اعتذاري للقارئ الذي بقي على أصله لم يبتل بمجادلة أجيال تلوك الكلام المترجم. إنها طوائف مما يسمى بالمثقفين نحب أن يجدوا هنا يوم تنقشع عن أعينهم الغفلة، أو بعضُ سُحُبِها، أسبابا للحوار عسى يفيئون إلى الله ويرجعون عن أفيون الفكر المادي.
سيطرت الحضارة الجاهلية المحتلة على أرض المسلمين واقتصادهم وثقافتهم، فانقطع في تصور الذراري المغربين ما كان موصولا في تاريخنا. فإذا بهم يقفون أساتذة، نوابا وخلفاء للمستعمر، يلقون في جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم وفي جامعاتنا ومدارسنا الدعوة للنمط الجاهلي، يستندون إلى هيبة الحضارة الميكانيكية في نفوس المغلوبين. يغمرون الجو الثقافي بفلسفة المدارس الجاهلية التي ينوبون عنها بين ظهرانينا. ويشوهون للأجيال الصاعدة صورة الإسلام وتاريخ الإسلام، ويبثون منهاج اللاييكية والتاريخانية والتراثية القومية.
من هؤلاء، وفي طليعة الغزو الفكري، دعاة لما يسمونه "الانقطاع الإبستمولوجي". وتعني الكلمة والدعوة أن نفصل بيننا وبين القرآن والإيمان والألوهية والربوبية والنبوة والوحي فصلا نهائيا. وذلك عندهم شرط أساس لنهضة "الأمة" العربية. يا حسرتا على عروبة تخرب الإسلام ولم تكن العروبة شيئا يذكر لولا الإسلام ! عندهم ماثلا في العقول والضمائر تاريخ أوربا، فلا يتصورون سبيلا للخلاص التاريخي إلا بمحاكاة ذلك التاريخ. فكما انقطعت شعوب أوربا عن الكنيسة واعتمدت مصدرا للمعرفة الفكرَ الحرَّ البشري الذي كانت تضطهده وتقاتله الكنيسة، يجب أن ننقطع نحن عن الدين السماوي، ونُهديَ كياننا قربانا للعبقرية الأوربية، علها تقبلنا وتعترف بأننا من بني الإنسان. ولا بأس بعد ذلك أن نحتفظ بالتراث في متحف الأمجاد القومية.
إن تأثير الحضارة الجاهلية على عقول الذراري المغربين أنكى من تأثيرها على حريتنا واقتصادنا. ذلك أن استعمار الأرض، ونهب الخيرات، وسفك الدماء، لا يعدو أن يصيب الأطراف. أما احتلال العقول وتشكيل حياة الناس في كل المناحي فهو غزو حضاري يصيبنا في الصميم. وإن التحول العميق في تاريخنا، منذ صدمة الاستعمار، ومن جراء الهزائم المتتالية العسكرية والمعنوية، وخاصة منذ حصلت بلاد المسلمين على الاستقلال الصوري وخلَفَ الكفارَ المستعمرين في الحكم نشءٌ مرتد كُلاّ أو بعضا، تحول عميق ويزداد عمقا. تَشَبَّهنا بالغزاة وتشرَّبنا بمخالطتهم والتلمذة لهم -كما هو شأن المغلوب مع الغالب- رُوحَ الجاهلية شعارا، وأنماطها الحضارية دثارا.
والخَلْفُ المغَرب يريد في زعمه أن يقاتل الأمبريالية -حسب تعبيرهم- ويظن أن أمضى سلاح في هذا القتال هو سلاح صنع خلال تاريخ أوربا فهو جاهز. صانعوه راغبون في تصديره، والخَلْفُ المغرب حريص على الترويج له. هذا السلاح يسمونه العقلانية. وتعني الكلمة أوَّلَ ما تعني أن لا إله إلا العقل، وأن عباقرته لم ينقطع جيلهم، وأنه لا بد للعرب من نُبغاء ينتقدون هيجل وماركس، ويتجاوزون الاشتراكية الأوربية، ويبتكرون اشتراكية قومية تراثية. والعقلانية حبل واصل متين بيننا وبين البشرية، فلكي نكون على مستوى العصر ينبغي أن ننقطع عن الغيبيات وكل هذا الهراء.
إننا إذ نفتتح الحديث عن دولة القرآن لا نستغني عن تفقد ما زرعه الجاهليون ويزرعه وكلاؤهم من سموم وأشواك. وإننا إذ نريد تأسيس معرفتنا على الكتاب والسنة لا نستغني عن الالتفات لمن ينادون بقطع الصلة بيننا وبين كل ذلك إلا باعتبار القرآن "خطابا" عربيا، واعتبار النبوة عبقرية عربية، واعتبار ظهور الإسلام تاريخا قوميا مجيدا. أفرز كل ذلك، في اللحظة المناسبة الحتمية، تاريخٌ اضطرب في أحشاء العرب، حملته الرحم القومية، وحضر عملية الولادة وأشرف عليها عبقري من بني جلدتنا. فأي حاجة مع هذا للبناء الفوقي الإديولوجي المتمثل في الألوهية والنبوة والوحي ؟!
لا نستغني -رغم أن كتابنا هذا ليس كتاب جدل- عن تفقد ما يسود في عقول طوائف المثقفين المغربين ولا عن الالتفات لخطورة زرع الجاهلية فينا.
لا نستطيع معالجة جاهلية اليوم دون أن نعرف تركيبها ووجهتها ومنبعها. ولا مستقبل للإسلام إن سقط في فخ المواجهة الفكرية والجهادية بسلاح مستعار من غيرنا. فلا بد من انقطاع معرفي وحضاري. لا بد من قطع حبال الجاهلية اليوم كما قطعها سلفنا الصالح. بيد أن دعاة العصرنة والتغريب، حين ينادون بالانقطاع المعرفي، يرفعون الصوت بدعوتهم عاليا بعد أن مكنوا أقدامهم -سواء كانوا حزبا حاكما أو حزب معارضة- على أرض الواقع. حبلهم موصول بالعالمية الجاهلية، وحقهم مصون، وبرنامجهم معروض للسائل، مدسوس في المدرسة والجامعة والشارع والكتب والنشرات. فتحت عَلَم السيادة الحضارية الجاهلية تخفُق أعلامهم، ومن مائها يستقون، ومن طعامها الفكري والمادي يتغذون، ولا تخشى مجامع الجاهلية أن تلتقي بهم بل تحرص. وتــؤوي جامعاتهم، وتشجع أئمتهم. وتنتظر حكومات الجاهلية صعود عصاباتهم على رقاب الشعوب الإسلامية لتخالل وتخادن وتناجي وتلقن وتعتنق بالأحضان. صلتهم الحميمة بالجاهلية قلبا وقالبا جرَّأَتهم على الجهر بالردة والدعوة لها تحت عبارات مستغلقة كعبارة "الانقطاع الإبستمولوجي".
أما نحن تحت وطأة الحكم الجبار فدعوتنا لقطع حبال الجاهلية لا يرحب بها إلا المستضعفون الذين نجوا من التخدير الدعائي، الرسمي منه والحزبي والقومي.
أما نحن فالذي يصلنا بالله ورسوله إيمان بالله ورسوله وكتابه. إيمان سماوي تحتقبه القلوب. وقد يصدمه الواقع المر العنيف علينا فيحلق في عَلِيِّ المثال. لذلك تجد بعضنا لا يقول بضرورة عرض منهاج كامل لعملنا، فأحرى عرض برنامج قابل للتطبيق في ميادين السياسة والاقتصاد وتغيير المجتمع.
معاني السماء في قلوبنا، وحقائق الأرض تحتجن أموالنا وتشل طاقاتنا، وتُغيرُ على حُرمَاتنا، وتخدر أفكارنا.
وإنه لضروري صياغةُ معرفة بالكيف الإسلامي لإنجاز ما عندنا من غاية وأهداف، صياغة تأخذ في اعتبارها أمسنا الممجد، وغدنا المتألق بوعد الله ورسوله، وحاضرنا المرهون في يد أعدائنا. ويرجى أن تكون هذه الصياغة ملتقى في العقول لقدر الله المتمثل في التاريخ وشرعه المنزل المصون. ويرجى بعدئذ أن تتوحد النظرة، ويتوحد على إثرِها منهاج العمل وبرامجه، فيكون غدنا ابتكارا إسلاميا لا تقليدا للجاهلية يلفق من شعارات التراث ستارة يتم وراءها اغتيال الإسلام.
اعتذاري للقارئ الذي بقي على أصله لم يبتل بمجادلة أجيال تلوك الكلام المترجم. إنها طوائف مما يسمى بالمثقفين نحب أن يجدوا هنا يوم تنقشع عن أعينهم الغفلة، أو بعضُ سُحُبِها، أسبابا للحوار عسى يفيئون إلى الله ويرجعون عن أفيون الفكر المادي.
سيطرت الحضارة الجاهلية المحتلة على أرض المسلمين واقتصادهم وثقافتهم، فانقطع في تصور الذراري المغربين ما كان موصولا في تاريخنا. فإذا بهم يقفون أساتذة، نوابا وخلفاء للمستعمر، يلقون في جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم وفي جامعاتنا ومدارسنا الدعوة للنمط الجاهلي، يستندون إلى هيبة الحضارة الميكانيكية في نفوس المغلوبين. يغمرون الجو الثقافي بفلسفة المدارس الجاهلية التي ينوبون عنها بين ظهرانينا. ويشوهون للأجيال الصاعدة صورة الإسلام وتاريخ الإسلام، ويبثون منهاج اللاييكية والتاريخانية والتراثية القومية.
من هؤلاء، وفي طليعة الغزو الفكري، دعاة لما يسمونه "الانقطاع الإبستمولوجي". وتعني الكلمة والدعوة أن نفصل بيننا وبين القرآن والإيمان والألوهية والربوبية والنبوة والوحي فصلا نهائيا. وذلك عندهم شرط أساس لنهضة "الأمة" العربية. يا حسرتا على عروبة تخرب الإسلام ولم تكن العروبة شيئا يذكر لولا الإسلام ! عندهم ماثلا في العقول والضمائر تاريخ أوربا، فلا يتصورون سبيلا للخلاص التاريخي إلا بمحاكاة ذلك التاريخ. فكما انقطعت شعوب أوربا عن الكنيسة واعتمدت مصدرا للمعرفة الفكرَ الحرَّ البشري الذي كانت تضطهده وتقاتله الكنيسة، يجب أن ننقطع نحن عن الدين السماوي، ونُهديَ كياننا قربانا للعبقرية الأوربية، علها تقبلنا وتعترف بأننا من بني الإنسان. ولا بأس بعد ذلك أن نحتفظ بالتراث في متحف الأمجاد القومية.
إن تأثير الحضارة الجاهلية على عقول الذراري المغربين أنكى من تأثيرها على حريتنا واقتصادنا. ذلك أن استعمار الأرض، ونهب الخيرات، وسفك الدماء، لا يعدو أن يصيب الأطراف. أما احتلال العقول وتشكيل حياة الناس في كل المناحي فهو غزو حضاري يصيبنا في الصميم. وإن التحول العميق في تاريخنا، منذ صدمة الاستعمار، ومن جراء الهزائم المتتالية العسكرية والمعنوية، وخاصة منذ حصلت بلاد المسلمين على الاستقلال الصوري وخلَفَ الكفارَ المستعمرين في الحكم نشءٌ مرتد كُلاّ أو بعضا، تحول عميق ويزداد عمقا. تَشَبَّهنا بالغزاة وتشرَّبنا بمخالطتهم والتلمذة لهم -كما هو شأن المغلوب مع الغالب- رُوحَ الجاهلية شعارا، وأنماطها الحضارية دثارا.
والخَلْفُ المغَرب يريد في زعمه أن يقاتل الأمبريالية -حسب تعبيرهم- ويظن أن أمضى سلاح في هذا القتال هو سلاح صنع خلال تاريخ أوربا فهو جاهز. صانعوه راغبون في تصديره، والخَلْفُ المغرب حريص على الترويج له. هذا السلاح يسمونه العقلانية. وتعني الكلمة أوَّلَ ما تعني أن لا إله إلا العقل، وأن عباقرته لم ينقطع جيلهم، وأنه لا بد للعرب من نُبغاء ينتقدون هيجل وماركس، ويتجاوزون الاشتراكية الأوربية، ويبتكرون اشتراكية قومية تراثية. والعقلانية حبل واصل متين بيننا وبين البشرية، فلكي نكون على مستوى العصر ينبغي أن ننقطع عن الغيبيات وكل هذا الهراء.
إننا إذ نفتتح الحديث عن دولة القرآن لا نستغني عن تفقد ما زرعه الجاهليون ويزرعه وكلاؤهم من سموم وأشواك. وإننا إذ نريد تأسيس معرفتنا على الكتاب والسنة لا نستغني عن الالتفات لمن ينادون بقطع الصلة بيننا وبين كل ذلك إلا باعتبار القرآن "خطابا" عربيا، واعتبار النبوة عبقرية عربية، واعتبار ظهور الإسلام تاريخا قوميا مجيدا. أفرز كل ذلك، في اللحظة المناسبة الحتمية، تاريخٌ اضطرب في أحشاء العرب، حملته الرحم القومية، وحضر عملية الولادة وأشرف عليها عبقري من بني جلدتنا. فأي حاجة مع هذا للبناء الفوقي الإديولوجي المتمثل في الألوهية والنبوة والوحي ؟!
لا نستغني -رغم أن كتابنا هذا ليس كتاب جدل- عن تفقد ما يسود في عقول طوائف المثقفين المغربين ولا عن الالتفات لخطورة زرع الجاهلية فينا.
لا نستطيع معالجة جاهلية اليوم دون أن نعرف تركيبها ووجهتها ومنبعها. ولا مستقبل للإسلام إن سقط في فخ المواجهة الفكرية والجهادية بسلاح مستعار من غيرنا. فلا بد من انقطاع معرفي وحضاري. لا بد من قطع حبال الجاهلية اليوم كما قطعها سلفنا الصالح. بيد أن دعاة العصرنة والتغريب، حين ينادون بالانقطاع المعرفي، يرفعون الصوت بدعوتهم عاليا بعد أن مكنوا أقدامهم -سواء كانوا حزبا حاكما أو حزب معارضة- على أرض الواقع. حبلهم موصول بالعالمية الجاهلية، وحقهم مصون، وبرنامجهم معروض للسائل، مدسوس في المدرسة والجامعة والشارع والكتب والنشرات. فتحت عَلَم السيادة الحضارية الجاهلية تخفُق أعلامهم، ومن مائها يستقون، ومن طعامها الفكري والمادي يتغذون، ولا تخشى مجامع الجاهلية أن تلتقي بهم بل تحرص. وتــؤوي جامعاتهم، وتشجع أئمتهم. وتنتظر حكومات الجاهلية صعود عصاباتهم على رقاب الشعوب الإسلامية لتخالل وتخادن وتناجي وتلقن وتعتنق بالأحضان. صلتهم الحميمة بالجاهلية قلبا وقالبا جرَّأَتهم على الجهر بالردة والدعوة لها تحت عبارات مستغلقة كعبارة "الانقطاع الإبستمولوجي".
أما نحن تحت وطأة الحكم الجبار فدعوتنا لقطع حبال الجاهلية لا يرحب بها إلا المستضعفون الذين نجوا من التخدير الدعائي، الرسمي منه والحزبي والقومي.
أما نحن فالذي يصلنا بالله ورسوله إيمان بالله ورسوله وكتابه. إيمان سماوي تحتقبه القلوب. وقد يصدمه الواقع المر العنيف علينا فيحلق في عَلِيِّ المثال. لذلك تجد بعضنا لا يقول بضرورة عرض منهاج كامل لعملنا، فأحرى عرض برنامج قابل للتطبيق في ميادين السياسة والاقتصاد وتغيير المجتمع.
معاني السماء في قلوبنا، وحقائق الأرض تحتجن أموالنا وتشل طاقاتنا، وتُغيرُ على حُرمَاتنا، وتخدر أفكارنا.
وإنه لضروري صياغةُ معرفة بالكيف الإسلامي لإنجاز ما عندنا من غاية وأهداف، صياغة تأخذ في اعتبارها أمسنا الممجد، وغدنا المتألق بوعد الله ورسوله، وحاضرنا المرهون في يد أعدائنا. ويرجى أن تكون هذه الصياغة ملتقى في العقول لقدر الله المتمثل في التاريخ وشرعه المنزل المصون. ويرجى بعدئذ أن تتوحد النظرة، ويتوحد على إثرِها منهاج العمل وبرامجه، فيكون غدنا ابتكارا إسلاميا لا تقليدا للجاهلية يلفق من شعارات التراث ستارة يتم وراءها اغتيال الإسلام.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: مقدمات لمستقبل الإسلام
ابتداء من الحاضر
ما نريده ونحدث به أنفسنا من جهاد يكلله الله بالنصر غيب في غيب. ثم إن تلك الإرادة الإيمانية هي الطاقة المحركة. فيكون تجديد الإيمان وتربيته وتقويته وتعميمه وتكوين جند الله المقاتلين عن الإسلام الخطوة الحاسمة.
وجند الله بعد أن يتألقوا صفا مجاهدا، وخلال ائتلافهم، جزء من الأمة يعايشونها وينالهم ما ينالها. لا معنى للجهاد إن نفض جند الله أيديهم من الحاضر المكروه ولم يُعْنَوْا العنايةَ التامة بتركيبه ودقائقه وحركته والقوى المهيمنة عليه.
من هذا الواقع الحاضر تبدأ الحركة، وإياه تقصد بالتغيير.
زماننا تتوالى فيه النكبات علينا. نحن فيه الضحية السهلة والغنيمة السائغة لشيع الصراع العالمي. في ميزان التكتلات نحن الأخف وزنا، وتطوق أجهزة القمع المحلية والعالمية تحركاتنا لتَخنُق الوليد الإسلامي، لا سيما وهو يعبر عن حيويته بكل وسيلة، وتبلغ قوته أن يُسْقط عروشا تسندها الجاهلية بكل قوتها.
وعلى من يريد فتح باب مستقبل الدولة القرآنية أن يزاحم ويصابر ويتصدى لكل التحديات. ولن تترك الجاهلية ربائبها بيننا تتحطم مراكبهم وتغرق في أمواج المد الإسلامي إلا عن يأس نهائي. ولا ييأس الذين كفروا ولا يرضون دون تكفيرنا وإخضاعنا المستمر.
الحاضر ثِقْلُه علينا كُلُّه، ودعاة الباطل ورعاته بيننا تخطب الجاهليةُ وُدَّهُمْ، إن كان الأذناب يحتاجون السيد أن يتزلف إليهم.
والأمة مُنَوّمة بالتخدير الكلي الذي ما ترك مجالا من مجالات الحياة إلا أنسى فيها تعاليم الإسلام وأهداف الإسلام ومعنى الإسلام. غزوٌ شامل، وقبضة باطشة، وتهديد ووعيد لزجر كل نَأْمَةٍ إسلامية تحررية وتمييعها وقتلها.
الأمة منوّمةٌ مقهــورة، وعلى السطـح طبقة حاكمة منشقة على نفسها -متفاهمة ضد الإسلام- تتعاقب على كرسي الزعامة، وتنوع علينا أساليب البطش. تحتكر هذه الطبقة علوم العصر، ونظرية الإصلاح والثورة، ومناهج التغيير، وخبرة السياسة. وتكتشف هذه الطبقة على مر التجارب أن محيطها لا يتعدى "نخبة" شمت ريح الجاهلية، ثم أُشْرِبَتْ روحها، وتقمصت حضارتها. وتكتشف أن "خط الجماهير" لا يلتقي بخطها لأن أمتنا مسلمة لا تزال. وعندما تُعْلِمُ أحداثُ القومة الإسلامية العالم أن الإسلام حي في الأمة، وأن طاقته لا تُغالب، يلفق مُنظِّرو الثورة الجماهيرية شعارا بديلا عن شعاراتهم بالأمس، يسمونه "القومية" التي تكن للتراث أجمل الذكر وأفخم التقدير... ليبقى في الرف بعد أن تفعل شعارات احترام الدين فعلها المخدر. وهيهات بعد اليوم !
إمامة الأمة محورُ الصراع بين عُصبة الإيمان وعِصابة الوُكلاء عن الجاهلية. نحن بلُحمة الإيمان الواصلة بيننا وبين العامَّة أقرب لقلوب الأمة، وهم أحَدُّ وَعْياً لعامل الالتصاق بالشعب وأعلى ادعاء له. ويبقى التصاقاً من خارج بجسم الأمة الذي لا يقبل الدخيل. وكما يكون لصيق القوم الدخيل فيهم أحرص الناس على إثبات نسبه فيهم لينفي التهمة عنه، فأدعياء الجماهيرية يزعمون أنهم المعبرون عن إرادة الشعب، القادرون وحدهم على تفجير طاقاته، وقيادته في مسار الثورة المحررة، واسترجاع الكرامة، ومحاربة الصهاينة.
لا يتخلى اللبراليون، وهم أتباع الغرب الجاهلي، عن تبني "خط الجماهير" لإخوانهم "التقدميين" الثوريين أتباع وأذناب الشرق الجاهلي. من وراء هؤلاء وأولئك دعم روسيا وأمريكا ومن في دائرة المعسكرين[1].
وفي سوق التزييف يقدم مشروع كل فريق على أنه الإسلام، فما شئت من اشتراكية إسلامية وإسلام إصلاحي. والأمة متعطشة لعدل هو عندها مرادف "إسلام"، محتاجة لحكم عادل هو في ضميرها شورى الإسلام، منتظرة ليوم مشرق تسود فيه الكرامة والرخاء والقوة تحت راية الإسلام.
وقد مكنت عملية الإرث التي تسلم بمقتضاها المغربون زمام الحكم من يد الاستعمار أقدام الاستعمار الجديد على يد أبناء جلدتنا. فيسخرون وسائل العلوم والمال والسلطة للإقناع بمنهاجهم وفرضه.
[1]وضعت هذا الكتاب أوائل سنة 1403 قبل الأحداث الضخمة سنة 1410 التي تمخضت عن انهيار الشيوعية والمعسكر الشيوعي. لكن مثقفينا المغربين، وهم إنما أخذوا صبغتهم الفكرية والعقائدية من فترة تقابل المعسكرين وانتصاب روسيا في مكانة نصير المقهورين، لا يرجعون إلى تقدير جديد للموقف العالمي. (ملاحظة سنة 1410).
ما نريده ونحدث به أنفسنا من جهاد يكلله الله بالنصر غيب في غيب. ثم إن تلك الإرادة الإيمانية هي الطاقة المحركة. فيكون تجديد الإيمان وتربيته وتقويته وتعميمه وتكوين جند الله المقاتلين عن الإسلام الخطوة الحاسمة.
وجند الله بعد أن يتألقوا صفا مجاهدا، وخلال ائتلافهم، جزء من الأمة يعايشونها وينالهم ما ينالها. لا معنى للجهاد إن نفض جند الله أيديهم من الحاضر المكروه ولم يُعْنَوْا العنايةَ التامة بتركيبه ودقائقه وحركته والقوى المهيمنة عليه.
من هذا الواقع الحاضر تبدأ الحركة، وإياه تقصد بالتغيير.
زماننا تتوالى فيه النكبات علينا. نحن فيه الضحية السهلة والغنيمة السائغة لشيع الصراع العالمي. في ميزان التكتلات نحن الأخف وزنا، وتطوق أجهزة القمع المحلية والعالمية تحركاتنا لتَخنُق الوليد الإسلامي، لا سيما وهو يعبر عن حيويته بكل وسيلة، وتبلغ قوته أن يُسْقط عروشا تسندها الجاهلية بكل قوتها.
وعلى من يريد فتح باب مستقبل الدولة القرآنية أن يزاحم ويصابر ويتصدى لكل التحديات. ولن تترك الجاهلية ربائبها بيننا تتحطم مراكبهم وتغرق في أمواج المد الإسلامي إلا عن يأس نهائي. ولا ييأس الذين كفروا ولا يرضون دون تكفيرنا وإخضاعنا المستمر.
الحاضر ثِقْلُه علينا كُلُّه، ودعاة الباطل ورعاته بيننا تخطب الجاهليةُ وُدَّهُمْ، إن كان الأذناب يحتاجون السيد أن يتزلف إليهم.
والأمة مُنَوّمة بالتخدير الكلي الذي ما ترك مجالا من مجالات الحياة إلا أنسى فيها تعاليم الإسلام وأهداف الإسلام ومعنى الإسلام. غزوٌ شامل، وقبضة باطشة، وتهديد ووعيد لزجر كل نَأْمَةٍ إسلامية تحررية وتمييعها وقتلها.
الأمة منوّمةٌ مقهــورة، وعلى السطـح طبقة حاكمة منشقة على نفسها -متفاهمة ضد الإسلام- تتعاقب على كرسي الزعامة، وتنوع علينا أساليب البطش. تحتكر هذه الطبقة علوم العصر، ونظرية الإصلاح والثورة، ومناهج التغيير، وخبرة السياسة. وتكتشف هذه الطبقة على مر التجارب أن محيطها لا يتعدى "نخبة" شمت ريح الجاهلية، ثم أُشْرِبَتْ روحها، وتقمصت حضارتها. وتكتشف أن "خط الجماهير" لا يلتقي بخطها لأن أمتنا مسلمة لا تزال. وعندما تُعْلِمُ أحداثُ القومة الإسلامية العالم أن الإسلام حي في الأمة، وأن طاقته لا تُغالب، يلفق مُنظِّرو الثورة الجماهيرية شعارا بديلا عن شعاراتهم بالأمس، يسمونه "القومية" التي تكن للتراث أجمل الذكر وأفخم التقدير... ليبقى في الرف بعد أن تفعل شعارات احترام الدين فعلها المخدر. وهيهات بعد اليوم !
إمامة الأمة محورُ الصراع بين عُصبة الإيمان وعِصابة الوُكلاء عن الجاهلية. نحن بلُحمة الإيمان الواصلة بيننا وبين العامَّة أقرب لقلوب الأمة، وهم أحَدُّ وَعْياً لعامل الالتصاق بالشعب وأعلى ادعاء له. ويبقى التصاقاً من خارج بجسم الأمة الذي لا يقبل الدخيل. وكما يكون لصيق القوم الدخيل فيهم أحرص الناس على إثبات نسبه فيهم لينفي التهمة عنه، فأدعياء الجماهيرية يزعمون أنهم المعبرون عن إرادة الشعب، القادرون وحدهم على تفجير طاقاته، وقيادته في مسار الثورة المحررة، واسترجاع الكرامة، ومحاربة الصهاينة.
لا يتخلى اللبراليون، وهم أتباع الغرب الجاهلي، عن تبني "خط الجماهير" لإخوانهم "التقدميين" الثوريين أتباع وأذناب الشرق الجاهلي. من وراء هؤلاء وأولئك دعم روسيا وأمريكا ومن في دائرة المعسكرين[1].
وفي سوق التزييف يقدم مشروع كل فريق على أنه الإسلام، فما شئت من اشتراكية إسلامية وإسلام إصلاحي. والأمة متعطشة لعدل هو عندها مرادف "إسلام"، محتاجة لحكم عادل هو في ضميرها شورى الإسلام، منتظرة ليوم مشرق تسود فيه الكرامة والرخاء والقوة تحت راية الإسلام.
وقد مكنت عملية الإرث التي تسلم بمقتضاها المغربون زمام الحكم من يد الاستعمار أقدام الاستعمار الجديد على يد أبناء جلدتنا. فيسخرون وسائل العلوم والمال والسلطة للإقناع بمنهاجهم وفرضه.
[1]وضعت هذا الكتاب أوائل سنة 1403 قبل الأحداث الضخمة سنة 1410 التي تمخضت عن انهيار الشيوعية والمعسكر الشيوعي. لكن مثقفينا المغربين، وهم إنما أخذوا صبغتهم الفكرية والعقائدية من فترة تقابل المعسكرين وانتصاب روسيا في مكانة نصير المقهورين، لا يرجعون إلى تقدير جديد للموقف العالمي. (ملاحظة سنة 1410).
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: مقدمات لمستقبل الإسلام
المنهاج النبوي
الحاضر خضم زاخر، تاريخ يعج بالتحديات. وجند الله لن يشقوا ذلك العباب إلى غد الإسلام إلا بعقيدة لا إله إلا الله، وأخلاقية لا إله إلا الله، وعقل تابع لوحي الله، ماض في تنفيذ أمر الله، على خطى رسول الله.
انقطاع كلي ضروري عن تفسخ الآخرين خلقا، وهجانتهم فكرا، وتبعيتهم حسا ومعنى.
وبقدر ما تكون وصلة جند الله بكلمة الله وسنة الله أقوى، تتضاءل في أعيننا العقبات والتحديات. ويكتسب الحاضر المعقد الثقيل الوطأة على الأمة إغراء فريدا للمجاهد الذي يجعل غاية أمانيه إحدى الحسنيين.
أعداء الإسلام يصفون لنا السم على أنه الدواء الناجع. يشيرون بِحِمْيَةِ "الانقطاع الإبستمولوجي" لِمَرِيضِنَا ليتم بتر الإسلام من كيان الأمة. ويجعلون هذا الانقطاع مقدمة ضرورية لنقلنا إلى منهاج اللاييكية والاشتراكية والثورية إلخ.
والمنهاج النبوي يبدأ أيضا بالانقطاع عن موارد الجاهلية فيما يرجع للعقيدة والخلق والذاتية ومنهاج العلم والعمل. ليكون الوحي مصدر فكرنا، وتكليف الله سبحانه وتعالى حافزنا للعمل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رائدنا.
دع قِصار الفهم، عن غباوة أو تَغَابٍ، يُسِفُّون عندما يلقنون الناس أن الإسلام رجوع لحضارة الجمل، وفكر الحيض والنفاس، استخفافا لعقول الناس، واستهزاء بأحكام الله، ومنها أحكام الحيض والنفاس التي تحتل مكانتها، وتبقى خالدة ما تُلي القرآن. وكل حكم من أحكام الله عز وجل جزء لا يتجزأ من المنهاج النبوي.
وردت كلمة "منهاج" في الكتاب والسنة :
قال الله عز من قائل : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً" (سورة المائدة،48). فسر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الشرعة بأنها ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة. فعلى هذا تكون الشريعة أو الشِّرْعَةُ أمرَ الله المنزل الضابط للتكليف وشروطه وأحوال المكلفين، ويكون المنهاج هو التطبيقَ العملي للشريعة، وإنزالَها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي الاقتصادي السياسي المتغير المتطور، الذي تمثل السيرة النبوية نموذجا فذا له، لكن نموذجا حيا قابلا للتجدد في روحه وإن تنوع الشكل. وبهذا الفهم الواسع المتحرك للسنة يمكننا أن نتجاوز ضيق من يفهم السنة تكرارا حرفيا تعبديا للشكل، تكرارا يضيع معه ومن جرائه روح السنة وأهدافها. فما كان من السنة تعبدا من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ثوابت لا يجوز عليها التحويل. وما كان منها سلوكا سياسيا ومعالجة لحياة الناس وسياسة للمال والجهاد دخل في حيز الصناعة التي تستقي الحكمة من معين الوحي والنبوة، والحكمة العملية من خبرة التاريخ.
وهي صناعة يساعد على فهمها صيغة "مِفْعال" التي جاء عليها "منهاج" الدالة في لغة العرب على الآلة كمسمار، أو مجال الحركة كمضمار، أو أداة القسمة والعدل كميزان. سنة إذا هي المنهاج بشمولية قابلياتها في الفعل والحركة ووضع الأمور في مسارها الشرعي.
وفعل نهج وانتهج في اللغة يلحق معنى كلمةِ شرع واشترع. إذ كلاهما يحمل معاني الطريق والسلوك والسير.
فلننظر كيف جاءت كلمة "منهاج" في كلام النبوة لنستخلص منها مفتاح الطريق في رفقتنا هذه التي تنطلق من الإطلال على حاضرٍ مُرٍّ، وتتبع ما رسمه الوحي لتاريخنا الماضي والحاضر والمستقبل.
الحديث الأول :
روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن حبيب بن سالم رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : "كنا قعودا في المسجد مع[1] رسول الله عليه وسلم، وكان بشير رجلا يكف حديثه. فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال : يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء ؟ فقال حذيفة : أنا أحفظُ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت. قال حبيب : فلما قام (أي وَلِيَ الأمر، وأحتَفِظُ باستعمالهم لكلمة قام فلنا معها شأن) عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المومنين، يعني عمر، بعد الملك العاض والجبرية. فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به وأعجبه".
من خلال هذا الحديث النبوي تدخل كلمة منهاج لتؤدي وظيفتها الحركية، إذ تربط تاريخ انبعاث الأمة بعد أطوار الخلافة الراشدة الأولى، فالملك العاض، فالملك الجبري، باتباع المنهاج النبوي. والحديث يتضمن الوعد الصادق بأن الخلافة الراشدة تعود. يتشبث وهم التاريخانيين بنظرية "الحتمية التاريخية" التي لا سندَ علميا لها والتي انتهى أجلها مع موت الإديولوجيات في عصرنا، ويملأ هذا الوهم في تفكير المادي فراغا خلَّفَه كُفْرُهم بالقضاء والقدر. وها هو هذا الحديث يجمع لنا :
1- شرع الله الذي يضمن الخلافة في الأرض لمن اتبع الهدي النبوي.
2- قدر الله الذي يَكشف أطوارَه الوحيُ، وتبلغُ بشارتُه عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيُسَرُّ، وتبلُغُنا فنُشَمِّرُ احتفاء بالبشرى، وتأهبا لورود القدر الموعود، توكلا منا، مع إعداد القوة، واتخاذ الأسباب، لا نعاسا وأحلاما.
الحديث الثاني :
نقل الإمام الشاطبي عن الحافظ البزار رحمهما الله رواية لهذا الحديث تشتمل على زيادة مهمة. جاء في كتاب الموافقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أول دينكم نبوة ورحمة. وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي، ويُلْقِي الإسلام بِجِرَانِهِ (أي يتمكن في الأرض) في الأرض، يَرْضَى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مِدْراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته".
إن الفرق بين المومن الذي يسمع عن الله ورسوله ويعقل وبين صم العقلانية الكافرة أنَّ المومن العاقل بقلبه عن الله لا تنفصل في ذهنه ولا في عمله حركة الشرع الإلهي الآمر بالمغالبة والمقاتلة والجهاد والمدافعة لنصر الله عن سماعه بالإيمان والإيقان حديث القدَر المُنَزَّلَ به الوحي.
المحلل المادي لا يرى التاريخ البشري إلا صراع طبقات وعصبيات بمعزل عن السماء. والمسلم الخرافي يتحول إيمانه بالقدر انسحابا من ميدان العمل والمدافعة، فيتعطل لديه الحافز الشرعيُّ على عمل الصالحات. أما المومن الجامع بين النظرتين فلا تناقض لديه بين ما أمِرَ به وما قُدِّر عليه. يسعى جهده، ترتبت النتائج المنطقية على جهده أو تخلَّفَتْ. فهو بهذا طاقة فاعلة. وهكذا كان المرسلون والصديقون والشهداء والصالحون. ولا فرق بين خرافية الحالمين من المسلمين وخرافية معتقدي الحتمية التاريخية إلا أن عقيدة هؤلاء تُحْيِي فيهم جذوة الصراع وتُضْرِمُ ناره، بينما تقتل خرافية أولئك روح الجهاد.
حديث البزار رحمه الله يزيدنا توضيحا للخلافة الموعودة المرتقبة حيث يعرف المنهاج النبوي أنه : "عمل في الناس"، أي سياسة وحكم وتصرف اقتصادي وعدل اجتماعي، بسنة النبي. كما يزيدنا توضيحا لنتائج اتباع منهاج النبوة، من رضى ساكن السماء وساكن الأرض عنها، أي بركة الله واجتماع كلمة الأمة. ويصف لنا هذه البركة ازدهارا اقتصاديا ورخاء.
نكمل هذين الحديثين العظيمين بستة أحاديث لم تذكر فيها كلمة "منهاج" لكنها تبين للذين يومنون بالغيب فيهيئون له من الأسباب المشروعة ما يكفل نزول القدر مراحل تاريخ الأمة كما سُطِّرَتْ في الأزل وأخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :
الحديث الثالث :
روى الشيخان وأبو داود رحمهم الله عن حذيفة رضي الله عنه قال : "كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ! قلت : وهل بعد ذاك الشر من خير ؟ قال : نعم ! وفيه دَخَن. قلت : وما دخَنُه يا رسول الله ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ! دعاة على أبواب جهنم. من أجابهم قذفوه فيها. فقلت يا رسول الله ! فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفِرَقَ كلّها ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
هذا الحديث الشريف يزيدنا بيانا لمرحلة الملك العاض، وهو، والله أعلمُ، الملك الوراثي من لدن نهاية الخلفاء الأربعة الراشدين إلى سقوط الدولة العثمانية. ويزيدنا بيانا لمرحلة الملك الجبري وهو، والله أعلم، الحكم المستبد الذي يعرفه زمننا، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول والثاني المرحلة التالية بأنها ملك عاض. صفتان تخرجان الحكم عن دائرة السنة من حيث كونُه ملكاً لا خلافة، ومن حيث كونُه عاضا أو عضوضا كما في بعض الروايات. والعض القهر والظلم. وفي الحديث الأول والثاني يصف المصطفى صلى الله عليه وسلم المرحلة التالية بأنها ملك جبرية. ملك كالأولى وجبر هو أشد من العض. في حديث حذيفة رضي الله عنه يتطابق الملك العاض مع مرحلة الخير الذي فيه دخَن. والدخن الكدَر. ولا ريب أن من ملوك الوراثة السابقين أفذاذاً قليلين كانوا رجال الإسلام، دافعوا وجاهدوا. فهم الخير في سلسلة الوراثة العاضة وهي الشر. ولا شك أن تلك الدول لم تتنكر للإسلام جهارا، رغم الفسق المستخفي والمفضوح، كما يتنكر له حكام هذا الزمان الذين يجهرون بالكفر. هؤلاء الحكام المرتدون علنا أو ضمنا منذ أتاتورك أحق من ينطبق عليهم اسم الدعاة على أبواب جهنم.
في هذا الحديث الثالث يوصي المعلم المعصوم صلى الله عليه وسلم كل مومن، من خلال وصيته لحذيفة رضي الله عنه، أن يلزم إن أدركه عهد أهل الجبرية، جماعة المسلمين وإمامهم وأن ينقطع عن تلك الفرق، عصابات الدعاة على أبواب جهنم. وانظر رحمك الله من حواليك كم حزبا لاييكيا لبراليا أو تقدميا اشتراكيا أو جماهيريا شعبيا يدعو الناس لنبذ الدين كِفاحاً أو يتلون على الدين نفاقاً، فمُعْضِل المومن الحريص على دينه أن ينجوَ من النار ودُعاتِها كما حَرَص حذيفة رضي الله عنه ألا يقع في الشر بعد الخير. هنا يُبَلِّغُ صوت النذير البشير صلى الله عليه وسلم المومن أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فإن لم يكن جماعة وإمام فلا أقل من اعتزال فرق الضلال. وجماعة المسلمين اليوم وغدا لا تزال في طور التكوين وليداً ناشئا في أرجاء أقطار التجزئة. واجب المومن الحريص على دينه أن يساهم في إنشائها وتقويتها ودعمها استعدادا للمرحلة الموعودة، مرحلة ما بعد الملك الجبرية. وهي كما قرأنا في الحديثين الأول والثاني مرحلة الخلافة على منهاج النبوة. وللمومن الضعيف دائما رخصة الفرار بدينه يرعى غنمه في قُنَّة جبل ويدع الناس من شره كما جاء في الصحيح.
الحديث الرابع :
أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَر (أي سكان الحضر والبادية) إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ. إما يعزهم عز وجل فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها". ويروي الإمام أحمد رحمه الله الحديث من طريق آخر عن تميم الداري رضي الله عنه.
هذا الحديث يبشر بظهور الإسلام وعزته وانتشاره في الأرض انتشارا يعم ظهرها. وهذا ما لم يحدث بعدُ. ولعل الله عز وجل يذخر للآخرين رجال الخلافة الثانية مِثلَ ما يسر على يد الأولين.
الحديث الخامس :
أخرج الإمام مسلم وأبو داود والترمذي رحمهم الله عن ثوبانَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكُها ما زوى لي منها". الحديث.
وهذا لما يحدث. لما يبلغ سلطان الإسلام -بعز عزيز أو ذل ذليل- مشارق الأرض ومغاربها. وسيحدث، وعد من الله ورسوله غير مكذوب. وينفسح أمام المومن أفق المستقبل مشعا. وما أشد ظلمة حسابات المستقبليين الذين يتخيلون "سيناريوهات" لمستقبل البشرية إذ يعتمدون على تدبيرهم وحذقهم. والمستقبلي المومن بين يديه وعد الله ورسوله ينير أمامه، فإنْ حَسَبَ وقدَّر واحتاط وخطط -وكل هذا واجب شرعي- فإنما يفعل على بينة من قَدَر ربه. وهذا فرق ما بين الذي يخبط في ظلام الأرقام والأوهام والذي تلقى كلمة الحق فهي له إمام.
الحديث السادس :
أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى، فيقول أميرهم : تعال صل لنا. فيقول : لا ! إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة".
هذه الرواية أخرجها الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه. وفي كتاب الإمارة أخرج الحديث من تسع طرق يكمل بعضها متن بعض تفيد أن طائفة من الأمة لا تزال إلى يوم القيامة "ظاهرين على الحق" "لا يضرهم من خذلهم"، ولا من "خالفهم" ولا من "ناوأهم"، "قاهرين لعدوهم". وآخر رواية في كتاب الإمارة هي المسندة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". وقد فسر المحدثون "أهل الغرب" بأنهم العرب، قاله ابن المديني رحمه الله. وفسروه بأنهم أهل الشام أو أهل بيت المقدس أو أهل الدلو. وقال عياض رحمه الله : هم أهل الشدة والجَلَد. وذكر التادلي رحمه الله في مقدمة كتاب التشوف أن الحديث ورد في مسند بَقِيٍ بن مَخْلَدٍ رحمه الله، وهو كتاب تحت الطبع في الكويت، وعند الدارقطني رحمه الله بلفظ المغرب بميم قبل الغين[2]. فهل هو ما يسمى اليوم بالمغرب. وهل يجوز أن نقصر الخير في قطر دون قطر ؟ نعم جاء في أحاديث صحاح تأكيد فضل أهل اليمن وأهل الشام وغيرهما. لكن نرجو أن تكون هذه الطائفة الموعودة المقاتلة على الحق المنتصرة القائمة على جهادها خلافة المنهاج النبوي أوسع دائرة وأعمق أثرا من أن يحصرها قطر.
في حديث نزول عيسى عليه السلام أن بعضنا على بعض أمراء، ونحن يومئذ ظاهرون أي لنا دولة وشأن في العالم. هذا يزيدنا فهما للبشارة. وتخصص أحاديث كثيرة -بلغ بها بعض المحدثين سبعين حديثا و أكثر- فيها الثوابت الحسان، دولة الإسلام آخر الزمان بنعت الهداية، تخبرنا عن المهدي من آل البيت الذي "يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا". من هذه الأحاديث ما رواه أبو داود والترمذي رحمهما الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني -أو من أهل بيتي- يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما مُلئت ظلما وجَوْراً". وهو حديث ثابت لا يقل عن درجة الحسن. وله عند أبي داود والترمذي وغيرهما رحمهم الله ظهائر كثيرة تقويه.
لكن الخطرَ كلَّ الخطر في الفهم العامي لقيام المهدي الموعود. رجال قاموا في تاريخنا وتسموا مهديين ونفع الله بهم. معذورون إن اشرأبت أعناقهم للمزية الفريدة، ومعذور من قاتل عن الإسلام إلى جانبهم. وما هي إلا هَبَّات متتابعة التقى فيها الداعي المقتنع بقضيته بجمهور ينتظر. أما الانتظار البليد فهو الخطر. أن تبقى العامة في أحلام الانتظار وخموله دون النهوض والتشمير. ومن الفهم العامي أن يتصور الناس رجلا -بلغ ما بلغ من التوفيق والعلم والشجاعة والحيوية- يبرز فجأة والناس من حوله نيام خاملون فتحدث المعجزة. ولن يبلغ أحد ولا معشار ما خص به محمد صلى الله عليه وسلم من التوفيق وكل خصال الخير. ومع خاصية النبوة والرسالة والعصمة فإن قيامه صلى الله عليه وسلم تدرج على سنة الله في النبيئين قبله، واندرج جهاده في تاريخ الأرض وهو صراع ومدافعة ومغالبة. ولن يكون المهدي الموعود، الذي نصدق به جميعا أيتها الأمة من شيعة وسنة، إلا لحظة من لحظات الجهاد والخلافة على منهاج النبوة. ربما يكون زمانُه قمة الجهاد والخلافة كما تدل على ذلك الأحاديث الثابتة عندنا وعند إخوتنا. لكن حياة رجل يجدد الله به أمة ويوحدها لا تكفي لتهيء الإحياء والتجديد والتوحيد. والفهم السليم لأخبار المهدي هو ذلك الفهم الذي لا يعزل القدرَ المنحدرةَ إلينا حقائقُه، روايةً، عن شرع الله الذي يطلب إلينا دراية الجهاد وضرورة إيقاظ الأمة وتعبئة الطاقات.
الحديث السادس الذي أوردناه يشد من عزمنا على طريق الخلافة على المنهاج النبوي، إذ أحْضَرَنَا مشهداً غيبيا يشهد لنا فيه المسيح عليه السلام أن إمامنا مِنَّا، تحقيقا لبشارة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من الأمة لا تزال "ظاهرة" على الحق إلى يوم القيامة. والحديثان الرابع والخامس يفسران الظهور بأن الإسلام يعم أهل المَدَر والوَبَر، ويبلغ ملكُ هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها. وفي إطار هذه البشارة لا تتفرد أحاديث المهدي عن سياق القتال عن الدين والقوة في ذلك، حتى "لا يضرهم من خذلهم وناوأهم"، وحتى يقهروا عدوهم. ففي هذا السياق لا تكتسي قيادة رجل موفق مهدي حلة السماوية المحلقة فوق الواقع المتعالية عليه. وإنما بعد جهاد تاريخي لأمة موعودة. ولحاجة الناس إلى تجسيد المعاني في رجل تبلورت همم أجيال المسلمين حول الانتظار. ونرجو أن يستيقظ هذا الانتظار من خمول القرون، وأن يتحرر من القفزات التاريخية باسم الهداية لينشط زحف الأمة إلى غدها المحقق وعدا من الله ورسوله.
الحديث السابع :
روى الإمام أبو داود والإمام أحمد رحمهما الله بسند جيد عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تَدَاعى الأكَلَةُ على قَصْعَتِها. فقال قائل : ومن قِلَّةٍ نحنُ يومئذ ؟ قال : بل أنتم كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل ! ولَيَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابةَ منكم. ولَيَقذفنَّ الله في قلوبكم الوهْن. فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهْن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت".
هذا الحديث يوقظنا من الأماني المستقبلية لحاضر نعرف ما فيه من اتفاق عدونا على قتالنا حتى إننا قصعةٌ هنيئة يُحَلِّقُون حولها. ما أنصع بيانك يا سيدي يا رسول الله ! ونعرف كثرتنا عددا وهواننا على عدونا هوانَ الغُثَاءِ. ونعرف جرأة عدونا علينا حتى يغزونا في عواصم أقطارنا فلا نحركَ ساكناً. يا لله لبَيروتَ ومظلومي فلسطين وضحايا أفغانستان ! ونعرف الوهْن –وهو كلمةٌ مِفتاحٌ- على شكل تخاذل قادة العرب والمسلمين واستسلامهم للعدو، بل تملُّقِهِم المَهِينِ على الأعتاب لتبقى الكراسي عليها أصنام طاغوتية تتماثل لتعبدها أمة التوحيد. ينبغي أن نزداد معرفة بكل هذه الأدواء لنتعلم كيف نستخلص النار من تحت الرماد، كيف نأكل بدل أن نترُكَ قادة الجبر يقدموننا لقمة سائغة للعدو، كيف نجند هذه الكثرة لتنهض بأعباء البناء، كيف ننفخ في الأمة نفَس العزة بالله، كيف نقتحم صروح العدو مفضلين الموت في سبيل الله على عيشة الهوان.
هذا الحديث يرجعنا إلى الأرض والزمان والحالة المزرية. والمسافة بعيدة بين الموعود المشرق والظلام المحدق. بين الأمة المقاتلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة الأولى وبين الأمة الغثائية اليوم. بدأ الانتعاش والحمد لله وبزغ فجر الصحوة. لكن الدعوة اليوم في طفولتها لا ترقى لرجولة المهاجرين والأنصار ومن زاحمهم في الصف واصطف بالمناكب. رغم بطولات مجاهدينا في أفغانستان وعرامة الثورة الإسلامية في إيران لا تزال السِّمَةُ السائدة في سواد الأمة الخمولَ والوهْنَ.
إن أمة الإسلام أمة تومن بالغيب، ولا هدي في القرآن لمن لا يومن بالغيب. وما آمن من آمن إلا بالغيب : بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. كل ذلك غيب. غيب ينفعل له عالم الحس والشهادة بالإيمان الفاعل المحرك. تخاف الله وعقابه فتنفعل. ترجو جنته ورضاه فتنفعل. يَحْيَى قلبُك بحب الله ورسوله وبتصديق وعدهما وترتفع همتك لتكون ممن يحبهم الله ويقربهم إليه فيَرتفع عملك وجهادك ليسامي جهاد السابقين وعملهم. والله عز وجل الفاعل لا غيره.
إن مما يثبط العزائم ويدخل اليأس في الأمة تراخيها عن منافسة السلف الصالح وتلذذها بذكرهم وتسليها بتقديس أمجادهم، تعويضا عن ضآلة الحاضر وهوانه، وتحولا عن مواجهة أنفسنا لنحملها محمل الرجال. يقرأ بعضنا الأحاديث النبوية التي تشير لفضل الصحابة وفضل القرون الأولى، وينسى أن يتلقى الأحاديث الواردة في فضل الأجيال اللاحقة بما تستحقه من فرح واستبشار وتحفز للجهاد. لذا نورد الحديث الثامن ونبرزه كما أبرزنا أحاديث الخلافة الثانية وقوة الطائفة المهدية الظاهرة، وانتشار الإسلام وانتصاره.
الحديث الثامن :
أخرج أبو داود رحمه الله عن أبي أمية الشعباني رحمه الله أنه سأل أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : "ما تقول في هذه الآية : "عليكم أنفسكم" ؟ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ! سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مُؤْثَرَةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوام. فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيها مثل قبض على الجمر. للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله". قال أبو داود رحمه الله : وزادني غيره : قال يا رسول الله ! أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم".
هذا حديث صحيح أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة وابن حبان رحمهم الله. قال الترمذي رحمه الله : حديث حسن.
فيه حث على الائتمار بالمعروف والتناهي عن المنكر. وهما واجبان على الأمة وجوب كفاية، يُسْتثنَى من الوجوب من لا يستطيع أن يقوم نفسه وغيره. فذاك يفتح الحديث له رخصة التزام خُوَيْصَّةِ نفسه والابتعاد عن العامة. وتحت الحكم العاض والجبري انزلق مجال الوجوب الكفائي فأصبح استثناء وتحول الاستثناء المرخص للضعفاء قاعدة عامة. وهكذا عم الرضى بالظلم والخنوع لسلطان القهر والسيف.
في زماننا وصل الشح المطاع ذروته على شكل مستكبرين استأثروا بثروات الأمة. ووصل الهوى المتبع غايته بفشو الفجور والفسق والردة والفساد. واتسع الناس في الدنيا وتنافسوها ونسُوا الآخرة. وتنازعت السلطانَ على رقاب الأمة طوائفُ متشاكسة تستند إلى مدارس وثقافات دخيلة علينا. فما يجد طلاب العذر وملتمسو الرخص فرصة أبين من هذا ليستروا وَهْنَهم وراء تأويل الحديث النبوي.
أما من يحمل همم الرجال، ويتصدى لمهمات الرجال، ويحدث نفسه بمزاحمة الرجال على باب الله الكريم الوهاب، فهي الغنيمة المثلى : أن يصبر في الواجهة ويقاتل لنصر الله، مقتحما وهج نيران الفتنة، ولفيح التيار الجاهلي الغازي، فيفوز بالعمل الفرد بأجر خمسين منهم رضي الله عنا وعنهم.
من الناس من يقرأ شطر الحديث ويقف عند رخصة الانزواء عن العامة، أي تطليق هم مصير الأمة. وتلزم جهود لنضع في بؤرة اهتمام هذه الأجيال هذه العزمة النبوية على شد القبضة والصبر ساعة على مرائر الجهاد. وإنها لمأدُبَةٌ من الله ما أكرمها ! ولا ينهج منهاج النبوة من لا يصبر كما صبر الأولون ويعمل للذي عملوا.
[1] كذا في المسند. ولعل المتن يستقيم هكذا : في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2] في جل مخطوطات صحيح مسلم : لا يزال أهل المغرب بالميم.
الحاضر خضم زاخر، تاريخ يعج بالتحديات. وجند الله لن يشقوا ذلك العباب إلى غد الإسلام إلا بعقيدة لا إله إلا الله، وأخلاقية لا إله إلا الله، وعقل تابع لوحي الله، ماض في تنفيذ أمر الله، على خطى رسول الله.
انقطاع كلي ضروري عن تفسخ الآخرين خلقا، وهجانتهم فكرا، وتبعيتهم حسا ومعنى.
وبقدر ما تكون وصلة جند الله بكلمة الله وسنة الله أقوى، تتضاءل في أعيننا العقبات والتحديات. ويكتسب الحاضر المعقد الثقيل الوطأة على الأمة إغراء فريدا للمجاهد الذي يجعل غاية أمانيه إحدى الحسنيين.
أعداء الإسلام يصفون لنا السم على أنه الدواء الناجع. يشيرون بِحِمْيَةِ "الانقطاع الإبستمولوجي" لِمَرِيضِنَا ليتم بتر الإسلام من كيان الأمة. ويجعلون هذا الانقطاع مقدمة ضرورية لنقلنا إلى منهاج اللاييكية والاشتراكية والثورية إلخ.
والمنهاج النبوي يبدأ أيضا بالانقطاع عن موارد الجاهلية فيما يرجع للعقيدة والخلق والذاتية ومنهاج العلم والعمل. ليكون الوحي مصدر فكرنا، وتكليف الله سبحانه وتعالى حافزنا للعمل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رائدنا.
دع قِصار الفهم، عن غباوة أو تَغَابٍ، يُسِفُّون عندما يلقنون الناس أن الإسلام رجوع لحضارة الجمل، وفكر الحيض والنفاس، استخفافا لعقول الناس، واستهزاء بأحكام الله، ومنها أحكام الحيض والنفاس التي تحتل مكانتها، وتبقى خالدة ما تُلي القرآن. وكل حكم من أحكام الله عز وجل جزء لا يتجزأ من المنهاج النبوي.
وردت كلمة "منهاج" في الكتاب والسنة :
قال الله عز من قائل : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً" (سورة المائدة،48). فسر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الشرعة بأنها ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة. فعلى هذا تكون الشريعة أو الشِّرْعَةُ أمرَ الله المنزل الضابط للتكليف وشروطه وأحوال المكلفين، ويكون المنهاج هو التطبيقَ العملي للشريعة، وإنزالَها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي الاقتصادي السياسي المتغير المتطور، الذي تمثل السيرة النبوية نموذجا فذا له، لكن نموذجا حيا قابلا للتجدد في روحه وإن تنوع الشكل. وبهذا الفهم الواسع المتحرك للسنة يمكننا أن نتجاوز ضيق من يفهم السنة تكرارا حرفيا تعبديا للشكل، تكرارا يضيع معه ومن جرائه روح السنة وأهدافها. فما كان من السنة تعبدا من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ثوابت لا يجوز عليها التحويل. وما كان منها سلوكا سياسيا ومعالجة لحياة الناس وسياسة للمال والجهاد دخل في حيز الصناعة التي تستقي الحكمة من معين الوحي والنبوة، والحكمة العملية من خبرة التاريخ.
وهي صناعة يساعد على فهمها صيغة "مِفْعال" التي جاء عليها "منهاج" الدالة في لغة العرب على الآلة كمسمار، أو مجال الحركة كمضمار، أو أداة القسمة والعدل كميزان. سنة إذا هي المنهاج بشمولية قابلياتها في الفعل والحركة ووضع الأمور في مسارها الشرعي.
وفعل نهج وانتهج في اللغة يلحق معنى كلمةِ شرع واشترع. إذ كلاهما يحمل معاني الطريق والسلوك والسير.
فلننظر كيف جاءت كلمة "منهاج" في كلام النبوة لنستخلص منها مفتاح الطريق في رفقتنا هذه التي تنطلق من الإطلال على حاضرٍ مُرٍّ، وتتبع ما رسمه الوحي لتاريخنا الماضي والحاضر والمستقبل.
الحديث الأول :
روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن حبيب بن سالم رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : "كنا قعودا في المسجد مع[1] رسول الله عليه وسلم، وكان بشير رجلا يكف حديثه. فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال : يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء ؟ فقال حذيفة : أنا أحفظُ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت. قال حبيب : فلما قام (أي وَلِيَ الأمر، وأحتَفِظُ باستعمالهم لكلمة قام فلنا معها شأن) عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المومنين، يعني عمر، بعد الملك العاض والجبرية. فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به وأعجبه".
من خلال هذا الحديث النبوي تدخل كلمة منهاج لتؤدي وظيفتها الحركية، إذ تربط تاريخ انبعاث الأمة بعد أطوار الخلافة الراشدة الأولى، فالملك العاض، فالملك الجبري، باتباع المنهاج النبوي. والحديث يتضمن الوعد الصادق بأن الخلافة الراشدة تعود. يتشبث وهم التاريخانيين بنظرية "الحتمية التاريخية" التي لا سندَ علميا لها والتي انتهى أجلها مع موت الإديولوجيات في عصرنا، ويملأ هذا الوهم في تفكير المادي فراغا خلَّفَه كُفْرُهم بالقضاء والقدر. وها هو هذا الحديث يجمع لنا :
1- شرع الله الذي يضمن الخلافة في الأرض لمن اتبع الهدي النبوي.
2- قدر الله الذي يَكشف أطوارَه الوحيُ، وتبلغُ بشارتُه عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيُسَرُّ، وتبلُغُنا فنُشَمِّرُ احتفاء بالبشرى، وتأهبا لورود القدر الموعود، توكلا منا، مع إعداد القوة، واتخاذ الأسباب، لا نعاسا وأحلاما.
الحديث الثاني :
نقل الإمام الشاطبي عن الحافظ البزار رحمهما الله رواية لهذا الحديث تشتمل على زيادة مهمة. جاء في كتاب الموافقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أول دينكم نبوة ورحمة. وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي، ويُلْقِي الإسلام بِجِرَانِهِ (أي يتمكن في الأرض) في الأرض، يَرْضَى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مِدْراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته".
إن الفرق بين المومن الذي يسمع عن الله ورسوله ويعقل وبين صم العقلانية الكافرة أنَّ المومن العاقل بقلبه عن الله لا تنفصل في ذهنه ولا في عمله حركة الشرع الإلهي الآمر بالمغالبة والمقاتلة والجهاد والمدافعة لنصر الله عن سماعه بالإيمان والإيقان حديث القدَر المُنَزَّلَ به الوحي.
المحلل المادي لا يرى التاريخ البشري إلا صراع طبقات وعصبيات بمعزل عن السماء. والمسلم الخرافي يتحول إيمانه بالقدر انسحابا من ميدان العمل والمدافعة، فيتعطل لديه الحافز الشرعيُّ على عمل الصالحات. أما المومن الجامع بين النظرتين فلا تناقض لديه بين ما أمِرَ به وما قُدِّر عليه. يسعى جهده، ترتبت النتائج المنطقية على جهده أو تخلَّفَتْ. فهو بهذا طاقة فاعلة. وهكذا كان المرسلون والصديقون والشهداء والصالحون. ولا فرق بين خرافية الحالمين من المسلمين وخرافية معتقدي الحتمية التاريخية إلا أن عقيدة هؤلاء تُحْيِي فيهم جذوة الصراع وتُضْرِمُ ناره، بينما تقتل خرافية أولئك روح الجهاد.
حديث البزار رحمه الله يزيدنا توضيحا للخلافة الموعودة المرتقبة حيث يعرف المنهاج النبوي أنه : "عمل في الناس"، أي سياسة وحكم وتصرف اقتصادي وعدل اجتماعي، بسنة النبي. كما يزيدنا توضيحا لنتائج اتباع منهاج النبوة، من رضى ساكن السماء وساكن الأرض عنها، أي بركة الله واجتماع كلمة الأمة. ويصف لنا هذه البركة ازدهارا اقتصاديا ورخاء.
نكمل هذين الحديثين العظيمين بستة أحاديث لم تذكر فيها كلمة "منهاج" لكنها تبين للذين يومنون بالغيب فيهيئون له من الأسباب المشروعة ما يكفل نزول القدر مراحل تاريخ الأمة كما سُطِّرَتْ في الأزل وأخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :
الحديث الثالث :
روى الشيخان وأبو داود رحمهم الله عن حذيفة رضي الله عنه قال : "كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ! قلت : وهل بعد ذاك الشر من خير ؟ قال : نعم ! وفيه دَخَن. قلت : وما دخَنُه يا رسول الله ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ! دعاة على أبواب جهنم. من أجابهم قذفوه فيها. فقلت يا رسول الله ! فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفِرَقَ كلّها ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
هذا الحديث الشريف يزيدنا بيانا لمرحلة الملك العاض، وهو، والله أعلمُ، الملك الوراثي من لدن نهاية الخلفاء الأربعة الراشدين إلى سقوط الدولة العثمانية. ويزيدنا بيانا لمرحلة الملك الجبري وهو، والله أعلم، الحكم المستبد الذي يعرفه زمننا، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول والثاني المرحلة التالية بأنها ملك عاض. صفتان تخرجان الحكم عن دائرة السنة من حيث كونُه ملكاً لا خلافة، ومن حيث كونُه عاضا أو عضوضا كما في بعض الروايات. والعض القهر والظلم. وفي الحديث الأول والثاني يصف المصطفى صلى الله عليه وسلم المرحلة التالية بأنها ملك جبرية. ملك كالأولى وجبر هو أشد من العض. في حديث حذيفة رضي الله عنه يتطابق الملك العاض مع مرحلة الخير الذي فيه دخَن. والدخن الكدَر. ولا ريب أن من ملوك الوراثة السابقين أفذاذاً قليلين كانوا رجال الإسلام، دافعوا وجاهدوا. فهم الخير في سلسلة الوراثة العاضة وهي الشر. ولا شك أن تلك الدول لم تتنكر للإسلام جهارا، رغم الفسق المستخفي والمفضوح، كما يتنكر له حكام هذا الزمان الذين يجهرون بالكفر. هؤلاء الحكام المرتدون علنا أو ضمنا منذ أتاتورك أحق من ينطبق عليهم اسم الدعاة على أبواب جهنم.
في هذا الحديث الثالث يوصي المعلم المعصوم صلى الله عليه وسلم كل مومن، من خلال وصيته لحذيفة رضي الله عنه، أن يلزم إن أدركه عهد أهل الجبرية، جماعة المسلمين وإمامهم وأن ينقطع عن تلك الفرق، عصابات الدعاة على أبواب جهنم. وانظر رحمك الله من حواليك كم حزبا لاييكيا لبراليا أو تقدميا اشتراكيا أو جماهيريا شعبيا يدعو الناس لنبذ الدين كِفاحاً أو يتلون على الدين نفاقاً، فمُعْضِل المومن الحريص على دينه أن ينجوَ من النار ودُعاتِها كما حَرَص حذيفة رضي الله عنه ألا يقع في الشر بعد الخير. هنا يُبَلِّغُ صوت النذير البشير صلى الله عليه وسلم المومن أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فإن لم يكن جماعة وإمام فلا أقل من اعتزال فرق الضلال. وجماعة المسلمين اليوم وغدا لا تزال في طور التكوين وليداً ناشئا في أرجاء أقطار التجزئة. واجب المومن الحريص على دينه أن يساهم في إنشائها وتقويتها ودعمها استعدادا للمرحلة الموعودة، مرحلة ما بعد الملك الجبرية. وهي كما قرأنا في الحديثين الأول والثاني مرحلة الخلافة على منهاج النبوة. وللمومن الضعيف دائما رخصة الفرار بدينه يرعى غنمه في قُنَّة جبل ويدع الناس من شره كما جاء في الصحيح.
الحديث الرابع :
أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَر (أي سكان الحضر والبادية) إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ. إما يعزهم عز وجل فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها". ويروي الإمام أحمد رحمه الله الحديث من طريق آخر عن تميم الداري رضي الله عنه.
هذا الحديث يبشر بظهور الإسلام وعزته وانتشاره في الأرض انتشارا يعم ظهرها. وهذا ما لم يحدث بعدُ. ولعل الله عز وجل يذخر للآخرين رجال الخلافة الثانية مِثلَ ما يسر على يد الأولين.
الحديث الخامس :
أخرج الإمام مسلم وأبو داود والترمذي رحمهم الله عن ثوبانَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكُها ما زوى لي منها". الحديث.
وهذا لما يحدث. لما يبلغ سلطان الإسلام -بعز عزيز أو ذل ذليل- مشارق الأرض ومغاربها. وسيحدث، وعد من الله ورسوله غير مكذوب. وينفسح أمام المومن أفق المستقبل مشعا. وما أشد ظلمة حسابات المستقبليين الذين يتخيلون "سيناريوهات" لمستقبل البشرية إذ يعتمدون على تدبيرهم وحذقهم. والمستقبلي المومن بين يديه وعد الله ورسوله ينير أمامه، فإنْ حَسَبَ وقدَّر واحتاط وخطط -وكل هذا واجب شرعي- فإنما يفعل على بينة من قَدَر ربه. وهذا فرق ما بين الذي يخبط في ظلام الأرقام والأوهام والذي تلقى كلمة الحق فهي له إمام.
الحديث السادس :
أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى، فيقول أميرهم : تعال صل لنا. فيقول : لا ! إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة".
هذه الرواية أخرجها الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه. وفي كتاب الإمارة أخرج الحديث من تسع طرق يكمل بعضها متن بعض تفيد أن طائفة من الأمة لا تزال إلى يوم القيامة "ظاهرين على الحق" "لا يضرهم من خذلهم"، ولا من "خالفهم" ولا من "ناوأهم"، "قاهرين لعدوهم". وآخر رواية في كتاب الإمارة هي المسندة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". وقد فسر المحدثون "أهل الغرب" بأنهم العرب، قاله ابن المديني رحمه الله. وفسروه بأنهم أهل الشام أو أهل بيت المقدس أو أهل الدلو. وقال عياض رحمه الله : هم أهل الشدة والجَلَد. وذكر التادلي رحمه الله في مقدمة كتاب التشوف أن الحديث ورد في مسند بَقِيٍ بن مَخْلَدٍ رحمه الله، وهو كتاب تحت الطبع في الكويت، وعند الدارقطني رحمه الله بلفظ المغرب بميم قبل الغين[2]. فهل هو ما يسمى اليوم بالمغرب. وهل يجوز أن نقصر الخير في قطر دون قطر ؟ نعم جاء في أحاديث صحاح تأكيد فضل أهل اليمن وأهل الشام وغيرهما. لكن نرجو أن تكون هذه الطائفة الموعودة المقاتلة على الحق المنتصرة القائمة على جهادها خلافة المنهاج النبوي أوسع دائرة وأعمق أثرا من أن يحصرها قطر.
في حديث نزول عيسى عليه السلام أن بعضنا على بعض أمراء، ونحن يومئذ ظاهرون أي لنا دولة وشأن في العالم. هذا يزيدنا فهما للبشارة. وتخصص أحاديث كثيرة -بلغ بها بعض المحدثين سبعين حديثا و أكثر- فيها الثوابت الحسان، دولة الإسلام آخر الزمان بنعت الهداية، تخبرنا عن المهدي من آل البيت الذي "يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا". من هذه الأحاديث ما رواه أبو داود والترمذي رحمهما الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني -أو من أهل بيتي- يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما مُلئت ظلما وجَوْراً". وهو حديث ثابت لا يقل عن درجة الحسن. وله عند أبي داود والترمذي وغيرهما رحمهم الله ظهائر كثيرة تقويه.
لكن الخطرَ كلَّ الخطر في الفهم العامي لقيام المهدي الموعود. رجال قاموا في تاريخنا وتسموا مهديين ونفع الله بهم. معذورون إن اشرأبت أعناقهم للمزية الفريدة، ومعذور من قاتل عن الإسلام إلى جانبهم. وما هي إلا هَبَّات متتابعة التقى فيها الداعي المقتنع بقضيته بجمهور ينتظر. أما الانتظار البليد فهو الخطر. أن تبقى العامة في أحلام الانتظار وخموله دون النهوض والتشمير. ومن الفهم العامي أن يتصور الناس رجلا -بلغ ما بلغ من التوفيق والعلم والشجاعة والحيوية- يبرز فجأة والناس من حوله نيام خاملون فتحدث المعجزة. ولن يبلغ أحد ولا معشار ما خص به محمد صلى الله عليه وسلم من التوفيق وكل خصال الخير. ومع خاصية النبوة والرسالة والعصمة فإن قيامه صلى الله عليه وسلم تدرج على سنة الله في النبيئين قبله، واندرج جهاده في تاريخ الأرض وهو صراع ومدافعة ومغالبة. ولن يكون المهدي الموعود، الذي نصدق به جميعا أيتها الأمة من شيعة وسنة، إلا لحظة من لحظات الجهاد والخلافة على منهاج النبوة. ربما يكون زمانُه قمة الجهاد والخلافة كما تدل على ذلك الأحاديث الثابتة عندنا وعند إخوتنا. لكن حياة رجل يجدد الله به أمة ويوحدها لا تكفي لتهيء الإحياء والتجديد والتوحيد. والفهم السليم لأخبار المهدي هو ذلك الفهم الذي لا يعزل القدرَ المنحدرةَ إلينا حقائقُه، روايةً، عن شرع الله الذي يطلب إلينا دراية الجهاد وضرورة إيقاظ الأمة وتعبئة الطاقات.
الحديث السادس الذي أوردناه يشد من عزمنا على طريق الخلافة على المنهاج النبوي، إذ أحْضَرَنَا مشهداً غيبيا يشهد لنا فيه المسيح عليه السلام أن إمامنا مِنَّا، تحقيقا لبشارة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من الأمة لا تزال "ظاهرة" على الحق إلى يوم القيامة. والحديثان الرابع والخامس يفسران الظهور بأن الإسلام يعم أهل المَدَر والوَبَر، ويبلغ ملكُ هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها. وفي إطار هذه البشارة لا تتفرد أحاديث المهدي عن سياق القتال عن الدين والقوة في ذلك، حتى "لا يضرهم من خذلهم وناوأهم"، وحتى يقهروا عدوهم. ففي هذا السياق لا تكتسي قيادة رجل موفق مهدي حلة السماوية المحلقة فوق الواقع المتعالية عليه. وإنما بعد جهاد تاريخي لأمة موعودة. ولحاجة الناس إلى تجسيد المعاني في رجل تبلورت همم أجيال المسلمين حول الانتظار. ونرجو أن يستيقظ هذا الانتظار من خمول القرون، وأن يتحرر من القفزات التاريخية باسم الهداية لينشط زحف الأمة إلى غدها المحقق وعدا من الله ورسوله.
الحديث السابع :
روى الإمام أبو داود والإمام أحمد رحمهما الله بسند جيد عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تَدَاعى الأكَلَةُ على قَصْعَتِها. فقال قائل : ومن قِلَّةٍ نحنُ يومئذ ؟ قال : بل أنتم كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل ! ولَيَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابةَ منكم. ولَيَقذفنَّ الله في قلوبكم الوهْن. فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهْن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت".
هذا الحديث يوقظنا من الأماني المستقبلية لحاضر نعرف ما فيه من اتفاق عدونا على قتالنا حتى إننا قصعةٌ هنيئة يُحَلِّقُون حولها. ما أنصع بيانك يا سيدي يا رسول الله ! ونعرف كثرتنا عددا وهواننا على عدونا هوانَ الغُثَاءِ. ونعرف جرأة عدونا علينا حتى يغزونا في عواصم أقطارنا فلا نحركَ ساكناً. يا لله لبَيروتَ ومظلومي فلسطين وضحايا أفغانستان ! ونعرف الوهْن –وهو كلمةٌ مِفتاحٌ- على شكل تخاذل قادة العرب والمسلمين واستسلامهم للعدو، بل تملُّقِهِم المَهِينِ على الأعتاب لتبقى الكراسي عليها أصنام طاغوتية تتماثل لتعبدها أمة التوحيد. ينبغي أن نزداد معرفة بكل هذه الأدواء لنتعلم كيف نستخلص النار من تحت الرماد، كيف نأكل بدل أن نترُكَ قادة الجبر يقدموننا لقمة سائغة للعدو، كيف نجند هذه الكثرة لتنهض بأعباء البناء، كيف ننفخ في الأمة نفَس العزة بالله، كيف نقتحم صروح العدو مفضلين الموت في سبيل الله على عيشة الهوان.
هذا الحديث يرجعنا إلى الأرض والزمان والحالة المزرية. والمسافة بعيدة بين الموعود المشرق والظلام المحدق. بين الأمة المقاتلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة الأولى وبين الأمة الغثائية اليوم. بدأ الانتعاش والحمد لله وبزغ فجر الصحوة. لكن الدعوة اليوم في طفولتها لا ترقى لرجولة المهاجرين والأنصار ومن زاحمهم في الصف واصطف بالمناكب. رغم بطولات مجاهدينا في أفغانستان وعرامة الثورة الإسلامية في إيران لا تزال السِّمَةُ السائدة في سواد الأمة الخمولَ والوهْنَ.
إن أمة الإسلام أمة تومن بالغيب، ولا هدي في القرآن لمن لا يومن بالغيب. وما آمن من آمن إلا بالغيب : بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. كل ذلك غيب. غيب ينفعل له عالم الحس والشهادة بالإيمان الفاعل المحرك. تخاف الله وعقابه فتنفعل. ترجو جنته ورضاه فتنفعل. يَحْيَى قلبُك بحب الله ورسوله وبتصديق وعدهما وترتفع همتك لتكون ممن يحبهم الله ويقربهم إليه فيَرتفع عملك وجهادك ليسامي جهاد السابقين وعملهم. والله عز وجل الفاعل لا غيره.
إن مما يثبط العزائم ويدخل اليأس في الأمة تراخيها عن منافسة السلف الصالح وتلذذها بذكرهم وتسليها بتقديس أمجادهم، تعويضا عن ضآلة الحاضر وهوانه، وتحولا عن مواجهة أنفسنا لنحملها محمل الرجال. يقرأ بعضنا الأحاديث النبوية التي تشير لفضل الصحابة وفضل القرون الأولى، وينسى أن يتلقى الأحاديث الواردة في فضل الأجيال اللاحقة بما تستحقه من فرح واستبشار وتحفز للجهاد. لذا نورد الحديث الثامن ونبرزه كما أبرزنا أحاديث الخلافة الثانية وقوة الطائفة المهدية الظاهرة، وانتشار الإسلام وانتصاره.
الحديث الثامن :
أخرج أبو داود رحمه الله عن أبي أمية الشعباني رحمه الله أنه سأل أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : "ما تقول في هذه الآية : "عليكم أنفسكم" ؟ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ! سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مُؤْثَرَةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوام. فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيها مثل قبض على الجمر. للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله". قال أبو داود رحمه الله : وزادني غيره : قال يا رسول الله ! أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم".
هذا حديث صحيح أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة وابن حبان رحمهم الله. قال الترمذي رحمه الله : حديث حسن.
فيه حث على الائتمار بالمعروف والتناهي عن المنكر. وهما واجبان على الأمة وجوب كفاية، يُسْتثنَى من الوجوب من لا يستطيع أن يقوم نفسه وغيره. فذاك يفتح الحديث له رخصة التزام خُوَيْصَّةِ نفسه والابتعاد عن العامة. وتحت الحكم العاض والجبري انزلق مجال الوجوب الكفائي فأصبح استثناء وتحول الاستثناء المرخص للضعفاء قاعدة عامة. وهكذا عم الرضى بالظلم والخنوع لسلطان القهر والسيف.
في زماننا وصل الشح المطاع ذروته على شكل مستكبرين استأثروا بثروات الأمة. ووصل الهوى المتبع غايته بفشو الفجور والفسق والردة والفساد. واتسع الناس في الدنيا وتنافسوها ونسُوا الآخرة. وتنازعت السلطانَ على رقاب الأمة طوائفُ متشاكسة تستند إلى مدارس وثقافات دخيلة علينا. فما يجد طلاب العذر وملتمسو الرخص فرصة أبين من هذا ليستروا وَهْنَهم وراء تأويل الحديث النبوي.
أما من يحمل همم الرجال، ويتصدى لمهمات الرجال، ويحدث نفسه بمزاحمة الرجال على باب الله الكريم الوهاب، فهي الغنيمة المثلى : أن يصبر في الواجهة ويقاتل لنصر الله، مقتحما وهج نيران الفتنة، ولفيح التيار الجاهلي الغازي، فيفوز بالعمل الفرد بأجر خمسين منهم رضي الله عنا وعنهم.
من الناس من يقرأ شطر الحديث ويقف عند رخصة الانزواء عن العامة، أي تطليق هم مصير الأمة. وتلزم جهود لنضع في بؤرة اهتمام هذه الأجيال هذه العزمة النبوية على شد القبضة والصبر ساعة على مرائر الجهاد. وإنها لمأدُبَةٌ من الله ما أكرمها ! ولا ينهج منهاج النبوة من لا يصبر كما صبر الأولون ويعمل للذي عملوا.
[1] كذا في المسند. ولعل المتن يستقيم هكذا : في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2] في جل مخطوطات صحيح مسلم : لا يزال أهل المغرب بالميم.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: مقدمات لمستقبل الإسلام
إحدى الحسنيين
النظرة الثورية الواردة المستوردة تركز على التكتيل والتعبئة وصراع الطبقات وما يواكب ذلك في قطار الإديولوجية محررة الإنسان في زعمها. وشباب المسلمين يحسون الظلم الواقع على الشعوب الإسلامية ويتفاعلون مع الناقم على الظلم ويلتفون حول الصارخ على الظلم، وتجيش عواطفهم فيتجندون تحت لواء الاشتراكية الثورية يلعب بهم المثقفون المغربون وطلاب الزعامات. ذلك أن غثائية الأمة ووهنها، وهما ناتجان عن قرون العض والجبر، فتتت العزائم الإيمانية وسكنت رياح الإيمان التي تحمل لعشاق الشهادة عبير الجنة.
واليوم برز المومنون لميدان الجهاد. فهم معرضون لعَدْوَى الحوافز الأرضية التي تسلح الأعداء وتدفعهم. فعلى اللسان تظهر عبارات الثورة والنضال وما إليهما. وفي النفوس يتسلل الحقد على العدو والاعتماد على مجرد الوسائل الأرضية. وفي الآمال يتخايل النصر على صورة رئاسة وعلو نبلغُهما باسم الإسلام. عَدْوَى مُهَدِّدَة لا بد من التماس المنعة ضدها.
لئن اتكل المسلمون على كثرتهم وحيلتهم وذكائهم يوشك أن لا يُغْنِيَهم ذلك من الله شيئا. من الممكن أن يبدأ تحركنا استجابة لموعود الله واستقبالا للخلافة الموعودة. ثم إذا توغلنا في المعركة ووقفنا وجها لوجه مع شاغلات المدافعة نسينا الله ورسوله، ونسينا طلبنا الأول، وذبنَا في طلب الظهور حبا للظهور. ويومئذ لا تكون الخلافة على منهاج النبوة لأنَّ من بيدهم سيف السلطان نبذوا القرآن.
إن دولة القرآن ما هي معنى نازل من السماء. إنما هي نصر من الله يسعى على الأرض ممَثّلا في صف جند الله، وتنظيم جند الله، وتولي جند الله الخلافة في الأرض عن الله. ما داموا جنداً لله، عبيداً لله، طالبين وجه الله فهي الخلافة.
إن جند الله لا ينشأون نشأة عفوية على أخلاق الرجال وإيمان الرجال وعزائم الرجال وعبودية الرجال لله عز وجل. إنما تؤلفهم التربية، ويؤلفهم التنظيم، ويجمعهم ويوحدهم آصرة الإحسان. نذكر هنا بهذا الحق لكيلا ننسى أن تربية جند الله وتأليفهم مقدمة لكل عمل جهادي ينبري للعظائم. وقد كتبنا في الموضوع ما شاء الله من فهمنا "للمنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا" في كتابنا الذي يحمل هذا العنوان. فليكن هذا مقررا. فإن هذا الكتاب الذي بين أيدينا مبني على ذاك. يشرحه ويكمله.
ونختم بوصف جند الله من كتاب الله وصفا جامعا.
قال الله تعالى : ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّلَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَوَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْأَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِيبَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِوَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة التوبة).
انظر كيف سبقت وظائفَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحفاظ لحدود الله شروطُ التوبة والعبادة والحمد والسياحة (وهي الصيام كما فسرت عائشة وابن عباس رضي الله عنهم) والركوع والسجود. عندما غلب جند الله الأولون جيوش الروم كان الروم يصفون المسلمين بوصف مزدوج غريب عليهم. قالوا : "هؤلاء رهبان بالليل فرسان بالنهار". في نظر الروم اجتمع المتناقضان : الرهبانية الخاشعة والفروسية الفاتكة.
إن شمولية جهادنا لنْ تقوم إلا بتربية شاملة، وعقيدة لا تعطل قدر الله بتعظيم الأسباب، ولا شرع الله باحتقارها وإهمالها. وإن الذي يناجي ربه بالليل يطلب حسنى المعاد والزلفى عند الله فذلك الطلب لُبُّ حياته وغايتُها. حتى إذا أصبح في صف الجهاد انبعثتْ له مسألة ثانية تابعة للأولى مرتبطة بها فهي حسنى بهذا الارتباط لا بنفسها، وهي مسألة النصر والخلافة في الأرض. فإن انقلب الميزان، وكان طلب الظهور يمسك بالزمام، فالإيمان في تقلص، والجهاد آئل لمعاني النضال الأرضي، والخلافة المزعومة متردية إلى ملك عاض وجبري فغثائية وانهزام.
لا نمل التذكير بهذا ولن نكف عنه، فلأن نرابط في مساجدنا تائبين حامدين ذاكرين تالين مائة سنة حتى يولد إيماننا فَيَشِبَّ فيَقْوَى خيرٌ من مغامرة باسم الإسلام والقلوب فارغة إلا من طلب السيف للتسلط على العباد. لست ممن يقول بإمكان إعداد الرجال في الخدور وبين أساطين الانزواء لكنها نكتة ساقها القلم. والله المستعان.
النظرة الثورية الواردة المستوردة تركز على التكتيل والتعبئة وصراع الطبقات وما يواكب ذلك في قطار الإديولوجية محررة الإنسان في زعمها. وشباب المسلمين يحسون الظلم الواقع على الشعوب الإسلامية ويتفاعلون مع الناقم على الظلم ويلتفون حول الصارخ على الظلم، وتجيش عواطفهم فيتجندون تحت لواء الاشتراكية الثورية يلعب بهم المثقفون المغربون وطلاب الزعامات. ذلك أن غثائية الأمة ووهنها، وهما ناتجان عن قرون العض والجبر، فتتت العزائم الإيمانية وسكنت رياح الإيمان التي تحمل لعشاق الشهادة عبير الجنة.
واليوم برز المومنون لميدان الجهاد. فهم معرضون لعَدْوَى الحوافز الأرضية التي تسلح الأعداء وتدفعهم. فعلى اللسان تظهر عبارات الثورة والنضال وما إليهما. وفي النفوس يتسلل الحقد على العدو والاعتماد على مجرد الوسائل الأرضية. وفي الآمال يتخايل النصر على صورة رئاسة وعلو نبلغُهما باسم الإسلام. عَدْوَى مُهَدِّدَة لا بد من التماس المنعة ضدها.
لئن اتكل المسلمون على كثرتهم وحيلتهم وذكائهم يوشك أن لا يُغْنِيَهم ذلك من الله شيئا. من الممكن أن يبدأ تحركنا استجابة لموعود الله واستقبالا للخلافة الموعودة. ثم إذا توغلنا في المعركة ووقفنا وجها لوجه مع شاغلات المدافعة نسينا الله ورسوله، ونسينا طلبنا الأول، وذبنَا في طلب الظهور حبا للظهور. ويومئذ لا تكون الخلافة على منهاج النبوة لأنَّ من بيدهم سيف السلطان نبذوا القرآن.
إن دولة القرآن ما هي معنى نازل من السماء. إنما هي نصر من الله يسعى على الأرض ممَثّلا في صف جند الله، وتنظيم جند الله، وتولي جند الله الخلافة في الأرض عن الله. ما داموا جنداً لله، عبيداً لله، طالبين وجه الله فهي الخلافة.
إن جند الله لا ينشأون نشأة عفوية على أخلاق الرجال وإيمان الرجال وعزائم الرجال وعبودية الرجال لله عز وجل. إنما تؤلفهم التربية، ويؤلفهم التنظيم، ويجمعهم ويوحدهم آصرة الإحسان. نذكر هنا بهذا الحق لكيلا ننسى أن تربية جند الله وتأليفهم مقدمة لكل عمل جهادي ينبري للعظائم. وقد كتبنا في الموضوع ما شاء الله من فهمنا "للمنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا" في كتابنا الذي يحمل هذا العنوان. فليكن هذا مقررا. فإن هذا الكتاب الذي بين أيدينا مبني على ذاك. يشرحه ويكمله.
ونختم بوصف جند الله من كتاب الله وصفا جامعا.
قال الله تعالى : ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّلَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَوَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْأَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِيبَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِوَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة التوبة).
انظر كيف سبقت وظائفَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحفاظ لحدود الله شروطُ التوبة والعبادة والحمد والسياحة (وهي الصيام كما فسرت عائشة وابن عباس رضي الله عنهم) والركوع والسجود. عندما غلب جند الله الأولون جيوش الروم كان الروم يصفون المسلمين بوصف مزدوج غريب عليهم. قالوا : "هؤلاء رهبان بالليل فرسان بالنهار". في نظر الروم اجتمع المتناقضان : الرهبانية الخاشعة والفروسية الفاتكة.
إن شمولية جهادنا لنْ تقوم إلا بتربية شاملة، وعقيدة لا تعطل قدر الله بتعظيم الأسباب، ولا شرع الله باحتقارها وإهمالها. وإن الذي يناجي ربه بالليل يطلب حسنى المعاد والزلفى عند الله فذلك الطلب لُبُّ حياته وغايتُها. حتى إذا أصبح في صف الجهاد انبعثتْ له مسألة ثانية تابعة للأولى مرتبطة بها فهي حسنى بهذا الارتباط لا بنفسها، وهي مسألة النصر والخلافة في الأرض. فإن انقلب الميزان، وكان طلب الظهور يمسك بالزمام، فالإيمان في تقلص، والجهاد آئل لمعاني النضال الأرضي، والخلافة المزعومة متردية إلى ملك عاض وجبري فغثائية وانهزام.
لا نمل التذكير بهذا ولن نكف عنه، فلأن نرابط في مساجدنا تائبين حامدين ذاكرين تالين مائة سنة حتى يولد إيماننا فَيَشِبَّ فيَقْوَى خيرٌ من مغامرة باسم الإسلام والقلوب فارغة إلا من طلب السيف للتسلط على العباد. لست ممن يقول بإمكان إعداد الرجال في الخدور وبين أساطين الانزواء لكنها نكتة ساقها القلم. والله المستعان.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: مقدمات لمستقبل الإسلام
مقدمات لمستقبل الإسلام
خطبة الكتاب
إهداء
مقدمة
تأصيل المنهاج
الانقطاع المعرفي
ابتداء من الحاضر
المنهاج النبوي
إحدى الحسنيين
للشيخ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل و الإحسان
خطبة الكتاب
إهداء
مقدمة
تأصيل المنهاج
الانقطاع المعرفي
ابتداء من الحاضر
المنهاج النبوي
إحدى الحسنيين
للشيخ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل و الإحسان
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
مواضيع مماثلة
» حكم الرجم في الإسلام
» حكم ضرب الزوجة في الإسلام
» الإسلام أو الطوفان
» لا خلافة في الإسلام
» التخصص فى الإسلام
» حكم ضرب الزوجة في الإسلام
» الإسلام أو الطوفان
» لا خلافة في الإسلام
» التخصص فى الإسلام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى