شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
2 مشترك
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(1)
دكتور محمد سليم العوَّا
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(1)
مسلم هو أحد أئمة الحديث العرب، وأنا أقول العرب لأن كثيرًا جدًّا من أئمة الحديث كانوا ممن يسمونهم الموالي. وهذا لم يكن مقصورًا على علم الحديث ولكنه شمل علوم الإسلام كلها: علوم اللغة، علوم التفسير، حتى النحويين، كثير من النحويين كانوا من الموالي من أصل فارسي، أو من أصل غير عربي ودخلوا الإسلام ولما احتاجوا إلى اللغة، درسوها فأصبحوا أئمة فيها وقعَّدوا قواعدها. والذي يشتغل بهذه العلوم يعجب من كثرة غير العرب الذين أتقنوا اللغة العربية، وتخصصوا فيها، وبرزوا وأصبحوا هم الأئمة.
انطبق هذا الأمر على علم الحديث كما انطبق على غيره من علوم الإسلام. وكثير من أساتذتنا القدماء يقولون إنه من الاستثناءات أن هناك أحدًا من العرب قد نبغ. ووجود نوابغ في علوم الإسلام كلها من غير العرب مزية للإسلام وليست عيبًا. ومزية للمسلمين وليست عيبًا. ولكنه ليس صحيحًا أن نبوغ العرب كان استثناءً. لكن مناقشة هذه القضية وتمحيصها ليس هذا مكانه.
الإمام مسلم بن الحجاج القشيري عربي صليبة، يعني عربي صحيح النسب، وهو أحد الأمثلة على أن العرب لم يقلّوا نبوغًا عن غيرهم من الأمم في علوم الإسلام وما اتصل بها من معارف، ومنها علم الحديث.
كلنا نعرف البخاري، مسلم هو أحد تلامذة البخاري، بل هو أخص تلامذته، وأكثرهم علمًا بروايته، وأكثرهم انتهالاً من علمه.
لم يكن شيخه البخاري وحده ولكن كان شيخه الأخص، كان له شيوخ كثيرون لأن العلم في زمانهم، ولا يزال في زماننا، بكثرة المشايخ. كلما كثر عدد العلماء الذين يتلقى عنهم طالب العلم، أو يتعلم منهم، كلما كان علمه أكثر وأوسع، وكلما قل عددهم كان علمه بحسب ما تعلم منهم.
وكما أن مسلمًا روى عن البخاري، أمير المؤمنين في الحديث، روى عن مسلم أئمة: الترمذي وغيره ممن نسمع أسماء كتبهم.
كُتب مسلم كثيرة ولكن أهمها وأشهرها وأكثرها شيوعًا بين الناس هو هذا الصحيح المسمى: «كتاب صحيح مسلم»، والذي هو الجامع الصحيح لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول المسلمون عنه هو وصحيح البخاري إنهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى. وبعض الناس يبالغ ويقول عن كتاب البخاري: "ليس تحت أديم السماء بعد القرآن أصح من كتاب البخاري"، وبعض الناس يتعصبون لمسلم فيقولون: "ليس تحت أديم السماء بعد كتاب الله أو بعد القرآن الكريم أصح من كتاب مسلم".
ونحن يكفينا أن نعرف أن مجموع ما في هذين الكتابين من الأحاديث صحيح النسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن هذه الصحة بالمعايير الاصطلاحية مسلَّمٌ بها بين العلماء. وكثيرًا ما نجد انتقادات في بعض الكتب، كأن يشتري أحدنا كتابًا من على باب الجامع، أو من محطة الترام أو القطار، ويجد كاتبًا يقول إنَّ إمامًا من الأئمة ينتقد كلامًا قاله الإمام مسلم، أو حديثًا من أحاديث مسلم، فيتصور هذا القارئ أن مسلم أخطأ، ويقول: كيف تقولون عنه إنه إمام وإن أحاديثه صحيحة وهو مخطئ؟ العلماء بالحديث يعرفون وجوه هذا الخطأ وأنها لا تؤثر في صحة الحديث، كأن يروي عمن اشتهر بإرسال الحديث. والذين يدرسون علم الحديث يعرفون أنه إذا روى راوٍ بالإرسال فقط، يعني هذه الرواية ليست مسندة إسنادًا متصلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي موجودة في مسلم، فمعنى ذلك أنها إما من المتابعات وإما من الشواهد. والمتابعات والشواهد هي الأحاديث التي ينقلها الأئمة لبيان زيادة معنى، أو لبيان غاية معينة، وردت في اللفظ الذي رواه هذا المُرسِل ليست موجودة في الموصول والمسند الذي بدءوا به الباب أو الكتاب.
وكتاب مسلم بالنسبة لطلاب العلم وذوي المعرفة به فيه خصيصة لطيفة جدًّا تدل على ذكائه: فهو صدَّر كل باب بأصح الأحاديث التي في هذا الباب عنده. فعندما تقرأ مسلم نفسه، الأصل وليس المختصر، إذا قرأت الحديث الأول من الباب فاعرف أن هذا هو الأعلى من حيث درجة الصحة في نظر الإمام مسلم، ثم تقرأ الذي بعده إلى أن تصل للرابع أو الخامس أو ساعات عاشر حديث في الباب وتجده أصبح من المتابعات والشواهد الذي يجوز فيها أن يدخل بعض الإرسال أو بعض كذا، ولكن ليست هذه هي الرواية المعتمدة في مسلم. والمتن في كتاب مسلم نفسه، مروي فيه الحديث بسند صحيح متصل، فليس هناك عيب ولا خطأ.
إذن، ما هي العيوب التي يأخذها هؤلاء العلماء على بعض؟ نجد من العلماء من ينتقد أحاديث على البخاري. ما معني انتقدوه؟ هل هي ضعيفة، موضوعة، مكذوبة؟
لا، انتقدوها بمعنى أن البخاري خالف منهجه في جزئية من الجزئيات التي يضمها هذا المنهج في الرواية. لذلك، إذا وجدنا انتقادًا لهذين الإمامين الكبيرين لا نحكم أن الحديث المنتقد ضعيف، هو ليس ضعيفًا، إنما نبحث عن سبب الانتقاد من حيث المنهج الذي التزمه كل واحد منهما وقرره في كتابه.
المزية الثانية في كتاب مسلم، بالنسبة لكتاب البخاري على وجه الخصوص، أنه جمع الحديث الواحد في المكان الواحد، صحيح هناك أحاديث أخرجها عدة مرات، والأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله عليه، له فهرس مخصوص للأحاديث التي أخرجها مسلم مرتين أو أكثر، وعندما طبع هو نسخة من صحيح مسلم محققة، جاء هذا الفهرس في 22 صفحة يذكر فيها الأحاديث التي أخرجها مسلم أكثر من مرة. لكن مسلم كل مرة يُخرج الحديث يذكر النص النبوي كاملاً، بينما كتاب البخاري مبني على فقه البخاري بما فهمه من الحديث، فيأتي مرة بكلمة ومرة بجملة ومرة بسطر ومرة بثلاثة أرباع الحديث ومرة بالحديث كاملاً.
لذلك كان آخر عمل نُشِر للشيخ الألباني رحمة الله عليه قبل وفاته من صناعة يده، لأن تلامذته نشروا بعد ذلك أشياء له، لكن آخر عمل نُشر له من صناعة يده كان اسمه «مختصر صحيح البخاري» وكان منهجه في هذا الاختصار أن يجمع الحديث الواحد للبخاري، الذي وزعه في أبواب عديدة، يجمعه كله في مكان واحد، لأن البخاري يرويه بنفس السند، بنفس الرواة ويقسمه حسب الفقه الذي استخرجه منه. فالألباني أراد أن يجمع كتابًا للبخاري على نمط كتاب مسلم، لا أعرف أكمله أم لا، لكن الجزء الأول الذي صدر منه نفيس جدًّا، وإن كان عدد الأحاديث التي فيه قليل جدًّا أقل من 500 حديث. [صدر كاملا بعد ذلك في أربعة مجلدات لكنه بلا فهارس فالنفع به أقل كثيرًا من النفع به لو صدرت فهارسه].
ومن الشائع عند العلماء أن الإمام مسلم لم يضع عناوين لكتابه التي نسميها تراجم الأبواب. لكن عندما طُبِع كتاب القاضي عياض «إكمال إكمال المُعْلِمْ لشرح صحيح مسلم»، وهو تكملة لأن هناك المُعْلِمْ ثم إكمال المُعْلِمْ للإمام المازري ثم إكمال الإكمال. فلما طُبع إكمال الإكمال وجد الدكتور الشيخ يحيي إسماعيل الذي حققه، وجد نصًا غريبًا جدًّا للقاضي عياض وهو يتكلم عن كتاب مسلم في جزء من الأجزاء فقال: "وهذا يُبطل قول من قال إن مسلمًا لم يبوب كتابه، إنما تلك نسخهم لم تكن فيها أبواب"، وذكر أن التبويب الذي عمله في الكتاب هو تبويب نسخة مسلم التي قرأها على مشايخه.
فسواء أكان مسلم ترجم لكتابه، يعني صنع أبوابًا أو عناوين أم لم يصنع، فهذا لا يؤثر في صحة الكتاب والثقة به. لأن الأبواب عبارة عن ما يستفيده المُحدِّثُ، أو يفهمه المُحدِّثُ من نص الحديث النبوي. أو يريد أن يدلنا بهذا العنوان على مضمون الحديث، نحن نستطيع أن نقرأ الحديث ونعرف مضمونه.
من أهم الأشياء التي في كتاب مسلم الأصلي أنه كتب مقدمة ليست بقصيرة في بيان مراتب رواة الحديث ومراتب المتون، أي النصوص المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال إن الصحيح فيها ليس درجة واحدة، ولا الضعيف درجة واحدة. وأتى بأمثلة من الرواة المتفق على صحة ما رووه. وذكر مثلاً خمسة أسماء وقال بعدهم خمسة أسماء أخرى، وبعدها خمسة أسماء، وكل من يشتغل بهذا العلم يعرف أن رواية الفريق الثالث أقل عند العلماء درجةً من رواية الفريق الذي قبله، ورواية الفريق الذي قبله أقل عند العلماء درجةً من رواية الفريق الأول. ولذلك لما رتب كتابه جعل أول حديث في الباب أصح حديث لأنه جاء عن رواة المجموعة الأولى، ثم رتب سائر أحاديث الباب على هذا الترتيب للرواة.
وكان عندما يذكر الأسماء يقول وأضرابهم، يعني نظراءهم في العلم والمعرفة والنقل والتحري والدقة والضبط والإتقان والتقى...الخ.
فهذه مقدمة جيدة يندر أن يصنعها مُحدِّث لكتابه ولكن مسلم صنعها.
والأمر الثاني أنه تكلم عن المتون أيضًا، المتون التي اختلطت على بعض الرواة: لفظ اختلط، اسم راوٍ صُحِّف، كلام النبي صلى الله عليه وسلم نُقِل بالمعنى، وموجود في مكان آخر باللفظ، فبين أين التصحيح. وهذه أيضًا أمثلة أراد أن يبين للناس أن طريقة التأليف في علم الحديث تقتضي هذا النوع من الضبط والدقة والإتقان...الخ
هذا هو الإمام مسلم باختصار شديد وهذا هو صحيحه الذي هو ثاني الكتب بعد كتاب البخاري. والفرق الأساسي بين الاثنين أن البخاري اشترط في العلماء الذين يروي عنهم: التلاقي، ثبوت مقابلة كل راوٍ لشيخه الذي روى عنه. بينما مسلم اكتفى بالمعاصرة، وكل العلماء الآخرين اكتفوا بالمعاصرة، ولم يشترط ثبوت التلاقي إلا الإمام البخاري. وهذا الذي تميز به البخاري عن بقية الناس وجعل منهجه أصعب من مناهج بقية المحدثين. إنما مثلاً اثنان متعاصران، واحد في الأندلس وواحد في مكة، وثابت أن الذي في الأندلس لم يخرج إلى مكة في ذلك الوقت، والآخر لم يأت إليه فتبقى اللقيا مستحيلة. وعندئذ إذا روى واحد من هذين الاثنين عن الآخر لا يُقبل. لكن اثنان في بغداد أو اثنان كانا يسافران بين بغداد والقاهرة، أوفلسطين والقاهرة، أوالنجف ومكة والمدينة فلا بأس. ثم إن لقاء العلماء كان أكثره في الحج وزيارة بيت المقدس، كان آلاف العلماء يلتقون في آلاف المناسبات المتعلقة بالحج والعمرة وزيارة بيت المقدس، ولذلك فإن مسألة اللقاء بين العلماء لم تكن مستحيلة ولا نادرة. وشرط البخاري وإن قال العلماء إنه تشدد فيه إلا أنه لم يشترط ما لا يمكن وقوعه ولذلك كان في كتابه تلك الآلاف من الأحاديث الصحيحة على شرطه. وقال «وما تركت من الصحيح أكثر» ولعل هذه الكلمة تشير إلى الصحيح لا على شرطه وحده بل على شرط جمهور العلماء. لأن هذا الشرط التزمه البخاري في صحيحه وحده، وليس في كل ما رواه من سائر الأحاديث في كتبه كلها.
* * * * *
مختصر صحيح مسلم صنعه عالم دمشقي عاش في مصر وكان مفتياً فيها، وهو الإمام حافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. والمنذري له قصة طريفة مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام. عندما كان العز يُدرس في دمشق كان عنده يوم من أيام الأسبوع يقرأ فيه الحديث قليلاً؛ لأنه فقيه شافعي عظيم ولكنه ليس مشتغلاً كثيرًا بالحديث ولكن ليسمع طلابه منه حديثًا، وتتصل السلسلة الإسنادية. فلما دخل مصر كف عن التحديث في اليوم الخاص به وقال إن الحافظ المنذري موجود فلن أُدرس الحديث سأحضر معكم عند الحافظ المنذري في حلقته. فلما سمع الناس الحديث وتقدموا إلى المنذري بإفتاء فقال: أنا كففت عن الفتوى منذ دخل العز بن عبد السلام مصر، فهو أحق مني في الفتوى. فهذا شافعي وهذا شافعي، وهذا إمام وهذا إمام، وهذا محدّث فقيه وهذا محدِّث فقيه، لكن، احترما التخصص. أما نحن فنهجم على الأشياء كما تعرفون، ونفتي بغير علم، ونتحدث في اللغة ونحن جُهال بها، ونُضَعِّفُ الروايات ونحن لا نعرف أسانيدها من متونها، ونُضعِّفُ المتون لأننا نفهم معاني الألفاظ كما نفهمها اليوم، وهي في زمانها كانت تُستعمل بمعنى آخر. والله يرحمها الدكتورة عائشة عبد الرحمن مرة قالت لي: "عندما يقول ربنا: «وإن من قرية إلا خلا فيها نذير» هو أنتم فاكرين المقصود بهذه القرية واحدة من ال 4200 قرية بتوعكم؟ طيب المركز يأتي له كم نبي بقى؟".. فالناس تفهم الألفاظ على هذا النحو، يفهمون القرية هي قريتنا، ولفظ الناس في القرآن على أنه كل الخلق، مع أن هناك آية واحدة فيها كلمة الناس مرتين، وكل مرة كان المقصود بها مجموعة معينة من الناس، ولم يقصد بها الخلق كلهم، «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل». فالألفاظ لابد أن تُفهم على نحو ما كانت تُستعمل، وتُشرح على نحو ما كانت تُستعمل؛ وإلا سنبتعد، ليس بفهمنا فقط، وإنما سنبتعد بتطبيقنا وبعبادتنا وبطاعتنا عما ينبغي أن تكون عليه الطاعة والعبادة والعمل الموافق لصحيح الشرع.
الحافظ المنذري جمع هذا المختصر على وفق رؤيته العلمية لأنه عالم كبير، أمسك كتاب مسلم واختار منه الأحاديث التي يرى أن الإنسان المسلم إذا عرفها، تكفيه في علمه الديني مما جمعه مسلم. ثم رتبها ترتيبًا على رأيه هو فلم، يتَّبع ترتيب مسلم لكتابه، ولم يتَّبع اختيار مسلم للأحاديث. يعني نجده في بعض الأبواب أتى بالحديث الرابع عند مسلم أو الخامس مع أن مسلم عنده في الرواية أن الأول هو الأصح. لكن الحافظ المنذري وجد أن الحديث الرابع فيه المعنى الزائد أو المعلومة الجديدة أو الإضافة التي يريد أن يقدمها لطالب العلم. فهذا المختصر ليس على نمط مسلم في الترتيب، ولا على نمط مسلم في الاختيار. هذا كتاب آخر غير صحيح مسلم. كل الأحاديث التي فيه مأخوذة من صحيح مسلم لكنه ليس بترتيب مسلم ولا باختيار مسلم، إنما باختياره هو، باختيار الحافظ المنذري، وهو من كبار حفَّاظ الحديث وعلمائه.
حقق هذا الكتاب واحد ونشره واحد، لا أستطيع أن أقول عليه تحقيق، الذي حقق هذه النشرة التي نستخدمها هو الشيخ ناصر الدين الألباني وهذه نشرة المكتب الإسلامي.
الذي نشره قبل ذلك واحد من علماء الهند، هو صِدِّيق حسن خان، يقولون عليه القنوجي نسبة إلى بلده. وعمله هو كتاب ثالث، يعني المنذري اختار كتابًا من صحيح مسلم وسماه مختصر صحيح مسلم فأصبح عندنا كتابان، وهو أعني صديق حسن خان شرح ما جاء به المنذري من كتب الحديث الأخرى وعلوم الفقه الأخرى وعلوم اللغة الأخرى، وسمى كتابه «السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج» السراج الوهاج يعني السراج المضئ، من كشف مطالب يعني بيان الموضوعات والعناوين والفقرات المهمة والمعلومات الضرورية في صحيح مسلم. الفقرات والمعلومات من أين جاء بها؟.. من كتاب حافظ المنذري. هو اعتبر أن حافظ المنذري اختصر مسلم ليُقرِّب للناس أهم مطالب مسلم، أهم موضوعات مسلم. فهو شرح هذه الموضوعات في السراج الوهاج من كشف مطالب مسلم بن الحجاج، وطُبِع في الهند. ومن هذه الطبعة استفاد الشيخ ناصر أصلاً لأنه وجد نسختين مخطوطتين من مختصر المنذري بعد ذلك، لكنه استفاد من هذه الطبعة الهندية باعتبارها أصلاً من أصول طبعته التي صدرت عدة مرات عن المكتب الإسلامي في بيروت ودمشق، الذي صاحبه زهير الشاويش، وجعل المقابلة بينها وبين النسختين المخطوطتين.
تتميز هذه الطبعة أن الشيخ الألباني شَرَح شرحاً قليلاً جدًّا جداً لبعض الكلمات الغامضة المأخوذة من شروح مسلم أساسًا، وبالذات من شرح النووي. والمزية الثانية أن فيها بعض الإشارات الفقهية إلى بعض الأحكام في الهوامش، المأخوذة أيضًا من شروح مسلم، لأنه هناك مسائل خلافية فالمسائل التي تحتاج توضيحًا، حاول الشيخ الألباني أن يوضحها.
الشيخ الألباني نفسه، رحمة الله عليه، اختصر صحيح مسلم، عندما كان مسجوناً في دمشق، اختصره من عند نفسه، في كتابٍ على نمط ما صنع مسلم، اختصره باختيار الحديث الأول في كل باب وبوبه بتبويب مسلم وترتيبه. لكن هذا المختصر مما لا يكف الإنسان عن الأسف عليه، لأنه ضاع عند خروج الشيخ من السجن. لأنه كان يشتغل في أوراق أثناء ما كان مسجونًا. فجاءوا فجأة وأخرجوه، أخرجوه ولم يسمحوا له أن يأخذ حاجاته. وبعد مدة أحضروا له مِخْلَة فيها بعض حاجات وقصاصات من هذا المختصر، والباقي ضاع. حدثنا رحمه الله بذلك في عمان بنفسه. ومات الله يرحمه دون أن نرى هذا المختصر. وكنت أتمنى أن نراه. يمكن ربنا يوفق أحداً من طلاب العلم لأن يعمل هذا الاختصار، هو ليس عسيرًا ولا مستحيلاً ولكنه يحتاج مجهودًا وعلمًا بالحديث.
* * * * *
بدأ الحافظ المنذري كتابه بمقدمة صغيرة جداً في هذه الأسطر القليلة لهذا الكتاب الذي يضم أكثر من ألفي حديث، فقال في مقدمته:
بعد الحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه، وقال عنهم «وأصحابه الجدراءِ بالتعظيمِ والإكبار» صلاة باقية دائمة بقاء الليل والنهار. قال: «وبعد، فهذا كتاب اختصرته من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القُشيري النيسابوري رضي الله عنه، اختصارًا يُسهله على حافظيه ويُقربه للناظر فيه (يجعل من السهل أن تفهم الأحكام الواردة فيه) ورتبته ترتيبًا يسرع بالطالب إلى وجود مطلبه في مظلته (لأنه من أصعب الأشياء في كتبنا العلمية كافة، سواء أكانت كتب لغة أم كتب نحو أم كتب فقه أم كتب تاريخ أم كتب شعر، أن يجد الطالب ما يريده. والشعر أسهل حاجة لأنهم رتبوه على القافية في الغالب فالذي يحفظ آخر كلمة في البيت أو من أي بيت من القصيدة يقدر يجدها في القوافي بتاعته، لكن ما عدا ذلك فالترتيب من أصعب ما يمكن). وقد تضمن مع صغر حجمه جلَّ مقصود الأصل (هو لم يأت بكل مقصود مسلم، ولذلك قلت لحضراتكم إن الفرق بينه وبين مختصر الألباني أن مختصر الألباني كان سيضع تحت أيدينا صحيح مسلم كاملاً في أصح ما رواه مسلم فيه من أحاديث. أما هذا المختصر فالمنذري عمله واختار جُلَّ مقصود صحيح الإمام مسلم يعني أغلبه أو معظمه، وليس كل كتاب الإمام مسلم) وقال: وإلى الله سبحانه وتعالى أرغب في أن ينفعني به وقارئه وكاتبه والناظر فيه، إنه قريب مجيب».
* * * * *
أول كتاب بدأه أو أول عنوان وضعه في كتابه، كتاب الإيمان وهذا أمر طبيعي أن يبدأ المسلم كتابًا في السنة بالإيمان. وجعل أول باب فيه: «باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله» هذا أول عنوان من عناوين كتاب الإيمان. وروى فيه حديث وفد عبد القيس، وهذه قصة مشهورة في السنّة: ناس حضروا للنبي صلى الله عليه وسلم وسألوه بعض الأسئلة، وقالوا له ما معناه: لقد جئنا من مسافة بعيدة ولا نستطيع أن نصل إليك كل يوم لأن قريش تمنعنا من الوصول إليك، فمرنا بأشياء جامعة نخبر به قومنا. وبدأ الإمام المنذري بهذا الحديث.
* * * * *
الحديث الأول: الراوي لهذا الحديث هو أبو جمرة يقول: «كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس وبين الناس» أبو جمرة يقول كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس. هل يعني هذا أنه كان ينقل من لغة لأخرى؟ لا كان يُبلِّغ، ينقل كلام ابن عباس الذي يقوله بصوت يسمعه القريبون منه بصوت عال يسمعه البعيدون عنه.
فقال: «كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر» نبيذ الجر هو نوع من أنواع الخمور توضع في جرار، والجرار جمع جرة، يضعون فيها العنب أو التمر حتى يخمر فيشربوه. فقال عبد الله بن عباس: «إن وفد عبد قيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الوفد؟ أو مَن القوم؟ قالوا: ربيعة. قال: مرحباً بالقوم أو الوفد (أو هذه من عند ابن عباس يعني إما أنه قال لهم القوم أو الوفد) غير خزايا ولا ندامى. فقالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شُقة بعيدة (مكان بعيد جدًّا) وإنا بيننا وبينك هذا الحي (يعني هذه الجماعة أو هذه القبيلة) من كفار مُضر (مُضَر هم قريش) وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فمُرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا (أمر فصل يقطع ويفصل بيننا وبين الكفر والشرك) وندخل به الجنة. قال عبد الله بن عباس فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع. قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده. قال لهم أتدرون ما الإيمان؟ أو هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن توءدوا خُمسًا من المغنم» لو قلنا الشهادتين حاجة واحدة يبقى عندنا حاجة واحدة زيادة وهي خُمس المغنم.
العلماء وقفوا هنا وقفة طويلة، قالوا هم كانوا بجوار القبائل المعادية للرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت حدود أراضيهم التي يرعون فيها إبلهم وأغنامهم وفيها مياههم مستباحة، المشركون المعارضون والمحاربون للرسول صلى الله عليه وسلم يدخلونها ويخرجون منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء لا يكفيهم هذه الأركان الأربع، إنما يحتاجون إلى شيء يزيد عليهم وهو أن يحموا ثغرهم الإسلامي. كيف يحموه؟ أن يُقاتلوا في سبيل الله، المَغنم هذا لن يأتي إلا بالقتال في سبيل الله «واعلموا أن ما غنتم من شيء فأن لله خمسه» من أين سيأتي هذا الخمس؟ هو لا يريد أن يقول من أول لحظة اذهبوا وقاتلوا الناس بالسيوف، إنما قال لهم أشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأدوا الصلاة والزكاة والصوم، وأدوا الخمس من المغنم.
إذن ستقاتلون. وعندما تقاتلون سينصركم الله وتغنموا، فإذا غنمتم يبقى لكم الأربعة أخماس وعليكم الخمس.
أليست هذه بشارة عظيمة جدًّا؟ عبارة الخمس من المغنم حلت لهم المشكلة وعلمتهم أمرًا لم يكونوا يعرفونه، وقالت لهم: عندما تحاربون ستنتصرون وستغنمون أموالاً. فَبَشَّرَهم أنها ستكون حرب غنيمة وليست حرب مغرم، وقال لهم أدوا الخُمس من المغنم.
ونهاهم عن الدُبَّاء (الدباء هو القرع الكبير أو الوعاء المُتَخذ منه الذي يُخمرون فيه التمر أو العنب) والحنتم (الحنتم هي الجرار التي كانوا يصنعونها من الفخار ويطلونها بلون أخضر وكانوا يحضرون اللون الأخضر من نبات اسمه الحنتم فاختصر الرسول صلى الله عليه وسلم القصة، وفي بعض الروايات قالوا له: وما أدراك يا رسول الله بالدباء والحنتم؟ كيف عرفت وأنت من قريش فقال لهم: ألا تعرفون أني أعرف؟ فقالوا له: الله ورسوله أعلم والمُزَفَّت (أوالمُقيَّر أي المطلي بالقار أو بالزِّفت)، (والكلمتان واردتان في روايات صحيحة) (قال شعبة وربما قال: النقير). أي نهاهم عن النقير (النقير هو جذع النخلة ينقر وسطه ويكون من الأسفل أصم ليس به ما يُنْزِل الماء ويضعون داخله النبات ثم يصبون عليه الماء ثم يشربونه بعد أن يخمر وهو مُسكِر. فنهاهم عن الآنية التي توضع فيها الأشياء فتتحول إلى شراب مسكر أي نهاهم عن المسكر نفسه بالنهي عن الإناء الذي يوضع فيه.وسيأتي معنا في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الآنية أو القدور فقالوا له: "أنغسلها ونشرب فيها" فقال لهم إن الظرف لا يحرم شيئاً ولا يحلله فاغسلوها وكلوا فيها ما حل أو اشربوا فيها ما حل. وقال: "احفظوه (احفظوا هذه الوصية الخماسية أوالرباعية) وأخبروا من وراءكم»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج، أشج عبد القيس (الأشج هو من عنده جرح غائر وملتئم فسُمي أشج عبد القيس نسبة إلى قبيلته) «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» الحلم هو الصبر وسعة الصدر واحتمال الآخرين وغفران الزلات، والأناة هي عدم الاستعجال.
فقال النبي e لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة». ليت كل واحد منا ينظر إلى الخصال التي يحبها الله، التي سترد معنا بعد ذلك في عددٍ الأحاديث، ويحاول أن يتخلق بها، لكنا نخرج من هذا اللقاء وقد تخلقنا بمعظم أخلاق الإسلام، إن لم يكن بكلها. ولكن إذا استمعنا إلى هذه الأحاديث على أنها جلسة مسلية سنخرج دون أن نتعلم شيئاً.
فلنجعل أول ما نتعلمه من هذا الدرس هو الحلم والأناة، فيحاول كل واحد فينا؛ العصبي لا يكون عصبياً، المتعجل لا يكون متعجلاً، الغضوب لا يكون غضوبًا. الذي يريد أن تنتهي الأمور في ساعة زمن يحاول أن يجعلها ساعتين لأنه لن يحصل شيء في التأني. لأن هذا من الأناة التي يحبها الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم مدح بها أشج عبد القيس.
وإذا نظرت في مدح الرسول e أشجَّ عبد القيس علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيًا عن إسداء هذا المدح، رجل جاء مع الوفد من قبيلته أو قومه، وقالوا كلمتين وأخذوا كلمتين، وقعدوا كام يوم في المدينة، فما الذي يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة ما خرج عليهم وقال لهم مرحبًا بالوفد غير خزايا ولا ندامى، يختار واحدًا منهم ويقول له إن فيك لخصلتين يحبهما الله؟.. ما هذا الثناء العظيم؟ في الواقع ليس هناك تطييب للقلوب أكثر من الثناء على كبراء الناس وعظمائهم ومقَّدميهم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يطيّب قلوب أصحابه، فهو لم يكن فظًا ولا غليظ القلب كما وصفه القرآن: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك». فالله سبحانه وتعالى ألقى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الرأفة والرحمة التي جعلته يُحبب الناس في نفسه ودينه بهذه الطريقة اللطيفة. لم يقل لهم شيئًا كاذبًا؛ لم يقل يا أفخم الفخماء، ولا يا سمو الأمير، ولا يا معالي الوزير. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، إنما قال له شيئًا صادقًا. قال له: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة». ولا ريب أن هذا تطييب للقلوب عظيم. وهو تعليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته كلها، سابقها ولاحقها، أن الحلم والأناة من الخصال التي يحبها الله، وإذا أحبهما الله يحبهما رسوله أيضًا، ويحبهما المؤمنون. ثم إذا أحبهما المؤمنون فيحبون من هما فيه. انظر إلى هذه السلسلة حتى تصل بالمسألة إلى الفهم الدقيق بالتفصيل.
هذا هو الحديث الأول الذي أتى به الإمام المنذري تحت عنوان أول الإيمان قول لا إله إلا الله.
* * *
الحديث الثاني: رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، (يعني قاعدًا) فآتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخِر. قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه ( وفي رواية أخرى إن لم تكن تراه) فإنه يراك (عليك أن تعبده وأنت عالم أنه مطَّلع على ما تفعل في هذه العبادة، وليس المقصود بالعبادة هنا مجرد الصلاة والصوم، المقصود حياتنا كلها «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» فنحن مخلوقون للعبادة، إذًا حياتنا كلها ينبغي أن تكون بهذا التوجه، وأن تكون نيتنا في عملنا وفي سهرنا وفي قيامنا وفي زيارتنا وفي عطائنا وفي منعنا أن نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى) قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها (الأشراط هي العلامات) إذا ولدت الأمة ربها (وفي رواية إذا ولدت الأمة ربتها) (وهذا معناه أن يكثُر الإماء الذين يُتَخذون في البيوت ويكون في هذه الكثرة نوع من أنواع فساد الأخلاق لأنه لا يجوز استرقاق الإنسان للإنسان، هذا كان أمرًا متعلقاً بزمن الحرب، ومتعلقًا بالمعاملة بالمثل. فإذا انقضت المعاملة بالمثل، وانقضى هذا النوع من التنظيم الدولي فينبغي أن ينقضي عندنا أيضًا. وإذا استمر فهذا الاستمرار هو نوع من الفساد. فهذا كله كناية عن عدم جواز استرقاق الإنسان للإنسان إلا في الظروف المحددة التي كانت قائمة وقتها، وقت ظهور الإسلام أو بعد النبي صلى الله عليه وسلم) فذاك من أشراطها (فسَّروا ميلاد الرب أو الربة عندما تلد من سيدها، تلد ممن يملكها، فكأنها تلد من يملكها بعد وفاة أبيه. ونحن نعرف أنه لما كنا نُجيز الاسترقاق كان عندنا إنسانية في هذا الاسترقاق، فكانت المرأة إذا ولدت لزوجها حتى لو مات ولدها أو وليدتها مجرد ما تلد تكون على ذمة التحرر، تكون أم ولد، عندما يموت تكون حرة لا تكون أمة مملوكة لأولادها منه أو من غيره) وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها (الحفاة العراة كناية عن الطبقات السيئة الخُلق، السيئة السلوك التي لا تعرف كيف تدير الدنيا ولا كيف تؤدي للناس حقوقها ولا كيف تحترم ملكيات الناس وما لهم على الآخرين من حقوق. كنَّى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الطبقات التي هي لا عقل لها ولا علم عندها ولا تراث ولا ماضٍ كما قال الشاعر: "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم". سراة يعني رؤساء، يعني لا يكون هناك رئيس، ولا سراة إذا جهالهم سادوا. إذا كان الذي يحكمنا جاهل لا يحسن القراءة ولا الكتابة، لا يحسن الصلاة. أو لا يُحسن الفهم عن الناس إذا حدَّثوه، أو لا يُحسن الرد على السؤال إذا سُئل، فكيف يكون لهم السيادة؟!. هؤلاء لا يستحقون السيادة. من نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد) وإذا تطاول رِعَاءُ البَهْمِ (وفي رواية أخرى رعاة البهم) في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله» (رعاة البهم هم الذين يرعون الإبل والغنم وما إليها، الناس الذين حياتهم أصلاً بسيطة وتجدهم اغتنوا فجأة من حيث لا يعرف الناس، ستجدهم يتطاولون في البنيان. ليس فقط رعاة الإبل ولكن كل الذين أتاهم مال من غير طريق الحلال المشروع، من غير الطريق الذي يعرفه الناس، وأتاهم فجأة دون أن يتعبوا في تحصيله بطرق السعي وراء الرزق المعتادة. ولذلك سيدنا علي له كلمة جميلة عندما قالوا له إن فلاناً كَثُر ماله، فسكت، فاغتاظ الناس؛ لأنه كان فقيرًا ووجدوه فجأة قد امتلأ بالمال. فقالوا له: يا أمير المؤمنين، فلان كثُر ماله. فلما أكثروا عليه (أي لما قالوا ذلك عدة مرات)، قال لهم: "المال ألف فإن زاد فألفان وفي الثلاثة شك". فإذا كان هذا الرجل قد كثر ماله لدرجة أنكم عرفتم ذلك عنه؛ لأن الألف أو الألفين لا يظهرون. فقال لهم: "المال ألف فإن زاد فألفان وفي الثلاثة شك". بعد الثلاثة انظروا وتأكدوا من أين جاء بهم. فهؤلاء الحفاة العراة أصبحوا رؤوس الناس، ثم رعاء البهم تطاولوا في البنيان وكثرت أموالهم فلم يكتفوا بالبيوت العادية إنما تطاولوا في البنيان ليظهروا أنهم أغنى من الناس وأنهم أقوى من الناس، وعندهم ما لا يملكه الناس.
هذه علامات ستكون قبل قيام الساعة. هذه علامات دالة على قرب الموعد. لكن الموعد واحد من خمسة أشياء لا يعرفها إلا الله) ثم تلا e قول الله تعالى «وإن الله عنده علم الساعة ويُنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» (فتلا على هذا السائل هذه الآية ليدله على أن العلم اليقيني بالساعة ليس لأحد من الخلق وإنما هو للخالق سبحانه وتعالى، هو في الأول قال له: ما المسؤول عنها أعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها. طيب كيف؟ وأنت تعرف كل هذه الأسرار. فرجع إلى أصل الجواب مرة أخرى، قال له: انتبه.. علمي بهذه الأشراط لا يعني علمي بالموعد. فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول إن علمه بأشراطها لا يعني علمه بالموعد) ثم أدبر الرجل (ذهب ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا عليَّ الرجل"، فأخذوا ليردوه (انطلقوا بسرعة) فلم يروا شيئًا. وفي رواية فلم يجدوا شيئًا فعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله ما رأينا أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل جاء ليُعلم الناس دينهم».
هذا الحديث من الأحاديث الجامعة في الإسلام، والعلماء تكلموا عنه كلامًا كثيرًا. أريد أن أقول كلمة واحدة مما استوقف العلماء في هذا: أن أحدًا لم يكن قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأسئلة قبل أن يأتيه جبريل فيسأله، إنما جاء ليسأله حتى يعرف المسلمون ما الإيمان وما الإسلام والإحسان، وليعرفوا حدودهم في الكلام عن يوم القيامة. هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بالناس وهذا دليل على أن الإيمان في نفوس هؤلاء الصحابة، الذين لقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كان إيمانًا من نوع عجيب، لا يحتاجون أن يسألوه عن شيء. قال لهم لا إله إلا الله فصدقوه. هذه الواقعة كانت في المدينة، لأنه جاء في روايات أخرى أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بمسجده، فجلس بإزائه، فجعل ركبتيه بإزاء ركبتيه ووضع كفيه على فخديه (أي فخذي الرجل)، قصة وحديث طويل. إذن، فقد أقاموا مسلمين في مكة 13 سنة ثم ذهبوا إلى المدينة وحاربوا وانتصروا، وانهزموا في أُحد.. وهكذا. ثم يأتي جبريل ويسأل هذه الأسئلة. إذن، لقد قبلوا هذا الإيمان وصدقوا هذا الرسول ومضوا خلفه وقاتلوا معه وقدموا أموالهم وأنفسهم فداء لدينه دون أن يسألوا هذه الأسئلة الجوهرية؛ لأنه كفاهم صدق قوله، فرحمهم ربهم تبارك وتعالى وأرسل جبريل بهذه الأسئلة لكي يعرفوا الإجابة عنها.
* * *
الحديث الثالث: والأخير في هذا الباب الذي هو باب: أول الإيمان لا إله إلا الله: «عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة (كان يُحتَضَر) جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة (قلها كلمة أشهد لك بها عند ربنا، وفي روايات كثيرة جداً: كلمة تدخل بها الجنة، كلمة تنجو بها من النار) حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم به هو على ملة عبد المطلب»
شوفوا الرواية الجميلة هنا، الراوي لم يقل أن أبا طالب قال أنا على ملة عبد المطلب، وعبد المطلب على ملة عبادة الأوثان. فالراوي مسلم موحد، فقال إن أبا طالب قال هو على ملة عبد المطلب، لا يريد أن يقول أنا على ملة عبد المطلب.
«فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله عز وجل «ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم» وأنزل لأبي طالب بالذات الآية الثانية «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين» العلماء يقولون بالإجماع إن هذه الآية نزلت في أبي طالب، ومختلفون في الآية الأولى.
في هذا الحديث أمر مهم ينبغي أن ننتبه إليه: بعض إخواننا الطيبين أصحاب الفهم الحرفي للنصوص لو واحد قال له: "والله".فربما ضربه أو نهره بشدة. أما إذا لم يكن شديد التمسك بحرفيته فربما يقول لك: "يا شيخ لا تحلف، لا تحلف، لا تعرض لسانك لليمين". وإذا كان عنده بعض علم يقول لك: "لا تحلف إلا إذا حُبِست على اليمين"، هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف في هذا الحديث للمشرك الذي لا يريد أن يقول لا إله إلا الله "والله لأستغفرن عنك ما لم أنه عنك"
أخذ منها الإمام النووي مأخذًا جميلاً قال:"في هذا الحديث جواز الحَلِفِ دون أن يُستحلف، والحَلِفِ بغير حاجة، والحَلِفِ في غير مجلس القضاء". ثلاث مسائل: يحلف من غير أن يستحلفه أحد، ويحلف من غير أن تكون هناك حاجة للحلف، ويحلف في غير مجلس القضاء. وهذا رد على إخواننا الذين يقولون لا تحلف إلا إذا حُبست على اليمين، أي كنت واقفًا أمام القاضي. والله أعلم.
دكتور محمد سليم العوَّا
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(1)
مسلم هو أحد أئمة الحديث العرب، وأنا أقول العرب لأن كثيرًا جدًّا من أئمة الحديث كانوا ممن يسمونهم الموالي. وهذا لم يكن مقصورًا على علم الحديث ولكنه شمل علوم الإسلام كلها: علوم اللغة، علوم التفسير، حتى النحويين، كثير من النحويين كانوا من الموالي من أصل فارسي، أو من أصل غير عربي ودخلوا الإسلام ولما احتاجوا إلى اللغة، درسوها فأصبحوا أئمة فيها وقعَّدوا قواعدها. والذي يشتغل بهذه العلوم يعجب من كثرة غير العرب الذين أتقنوا اللغة العربية، وتخصصوا فيها، وبرزوا وأصبحوا هم الأئمة.
انطبق هذا الأمر على علم الحديث كما انطبق على غيره من علوم الإسلام. وكثير من أساتذتنا القدماء يقولون إنه من الاستثناءات أن هناك أحدًا من العرب قد نبغ. ووجود نوابغ في علوم الإسلام كلها من غير العرب مزية للإسلام وليست عيبًا. ومزية للمسلمين وليست عيبًا. ولكنه ليس صحيحًا أن نبوغ العرب كان استثناءً. لكن مناقشة هذه القضية وتمحيصها ليس هذا مكانه.
الإمام مسلم بن الحجاج القشيري عربي صليبة، يعني عربي صحيح النسب، وهو أحد الأمثلة على أن العرب لم يقلّوا نبوغًا عن غيرهم من الأمم في علوم الإسلام وما اتصل بها من معارف، ومنها علم الحديث.
كلنا نعرف البخاري، مسلم هو أحد تلامذة البخاري، بل هو أخص تلامذته، وأكثرهم علمًا بروايته، وأكثرهم انتهالاً من علمه.
لم يكن شيخه البخاري وحده ولكن كان شيخه الأخص، كان له شيوخ كثيرون لأن العلم في زمانهم، ولا يزال في زماننا، بكثرة المشايخ. كلما كثر عدد العلماء الذين يتلقى عنهم طالب العلم، أو يتعلم منهم، كلما كان علمه أكثر وأوسع، وكلما قل عددهم كان علمه بحسب ما تعلم منهم.
وكما أن مسلمًا روى عن البخاري، أمير المؤمنين في الحديث، روى عن مسلم أئمة: الترمذي وغيره ممن نسمع أسماء كتبهم.
كُتب مسلم كثيرة ولكن أهمها وأشهرها وأكثرها شيوعًا بين الناس هو هذا الصحيح المسمى: «كتاب صحيح مسلم»، والذي هو الجامع الصحيح لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول المسلمون عنه هو وصحيح البخاري إنهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى. وبعض الناس يبالغ ويقول عن كتاب البخاري: "ليس تحت أديم السماء بعد القرآن أصح من كتاب البخاري"، وبعض الناس يتعصبون لمسلم فيقولون: "ليس تحت أديم السماء بعد كتاب الله أو بعد القرآن الكريم أصح من كتاب مسلم".
ونحن يكفينا أن نعرف أن مجموع ما في هذين الكتابين من الأحاديث صحيح النسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن هذه الصحة بالمعايير الاصطلاحية مسلَّمٌ بها بين العلماء. وكثيرًا ما نجد انتقادات في بعض الكتب، كأن يشتري أحدنا كتابًا من على باب الجامع، أو من محطة الترام أو القطار، ويجد كاتبًا يقول إنَّ إمامًا من الأئمة ينتقد كلامًا قاله الإمام مسلم، أو حديثًا من أحاديث مسلم، فيتصور هذا القارئ أن مسلم أخطأ، ويقول: كيف تقولون عنه إنه إمام وإن أحاديثه صحيحة وهو مخطئ؟ العلماء بالحديث يعرفون وجوه هذا الخطأ وأنها لا تؤثر في صحة الحديث، كأن يروي عمن اشتهر بإرسال الحديث. والذين يدرسون علم الحديث يعرفون أنه إذا روى راوٍ بالإرسال فقط، يعني هذه الرواية ليست مسندة إسنادًا متصلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي موجودة في مسلم، فمعنى ذلك أنها إما من المتابعات وإما من الشواهد. والمتابعات والشواهد هي الأحاديث التي ينقلها الأئمة لبيان زيادة معنى، أو لبيان غاية معينة، وردت في اللفظ الذي رواه هذا المُرسِل ليست موجودة في الموصول والمسند الذي بدءوا به الباب أو الكتاب.
وكتاب مسلم بالنسبة لطلاب العلم وذوي المعرفة به فيه خصيصة لطيفة جدًّا تدل على ذكائه: فهو صدَّر كل باب بأصح الأحاديث التي في هذا الباب عنده. فعندما تقرأ مسلم نفسه، الأصل وليس المختصر، إذا قرأت الحديث الأول من الباب فاعرف أن هذا هو الأعلى من حيث درجة الصحة في نظر الإمام مسلم، ثم تقرأ الذي بعده إلى أن تصل للرابع أو الخامس أو ساعات عاشر حديث في الباب وتجده أصبح من المتابعات والشواهد الذي يجوز فيها أن يدخل بعض الإرسال أو بعض كذا، ولكن ليست هذه هي الرواية المعتمدة في مسلم. والمتن في كتاب مسلم نفسه، مروي فيه الحديث بسند صحيح متصل، فليس هناك عيب ولا خطأ.
إذن، ما هي العيوب التي يأخذها هؤلاء العلماء على بعض؟ نجد من العلماء من ينتقد أحاديث على البخاري. ما معني انتقدوه؟ هل هي ضعيفة، موضوعة، مكذوبة؟
لا، انتقدوها بمعنى أن البخاري خالف منهجه في جزئية من الجزئيات التي يضمها هذا المنهج في الرواية. لذلك، إذا وجدنا انتقادًا لهذين الإمامين الكبيرين لا نحكم أن الحديث المنتقد ضعيف، هو ليس ضعيفًا، إنما نبحث عن سبب الانتقاد من حيث المنهج الذي التزمه كل واحد منهما وقرره في كتابه.
المزية الثانية في كتاب مسلم، بالنسبة لكتاب البخاري على وجه الخصوص، أنه جمع الحديث الواحد في المكان الواحد، صحيح هناك أحاديث أخرجها عدة مرات، والأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله عليه، له فهرس مخصوص للأحاديث التي أخرجها مسلم مرتين أو أكثر، وعندما طبع هو نسخة من صحيح مسلم محققة، جاء هذا الفهرس في 22 صفحة يذكر فيها الأحاديث التي أخرجها مسلم أكثر من مرة. لكن مسلم كل مرة يُخرج الحديث يذكر النص النبوي كاملاً، بينما كتاب البخاري مبني على فقه البخاري بما فهمه من الحديث، فيأتي مرة بكلمة ومرة بجملة ومرة بسطر ومرة بثلاثة أرباع الحديث ومرة بالحديث كاملاً.
لذلك كان آخر عمل نُشِر للشيخ الألباني رحمة الله عليه قبل وفاته من صناعة يده، لأن تلامذته نشروا بعد ذلك أشياء له، لكن آخر عمل نُشر له من صناعة يده كان اسمه «مختصر صحيح البخاري» وكان منهجه في هذا الاختصار أن يجمع الحديث الواحد للبخاري، الذي وزعه في أبواب عديدة، يجمعه كله في مكان واحد، لأن البخاري يرويه بنفس السند، بنفس الرواة ويقسمه حسب الفقه الذي استخرجه منه. فالألباني أراد أن يجمع كتابًا للبخاري على نمط كتاب مسلم، لا أعرف أكمله أم لا، لكن الجزء الأول الذي صدر منه نفيس جدًّا، وإن كان عدد الأحاديث التي فيه قليل جدًّا أقل من 500 حديث. [صدر كاملا بعد ذلك في أربعة مجلدات لكنه بلا فهارس فالنفع به أقل كثيرًا من النفع به لو صدرت فهارسه].
ومن الشائع عند العلماء أن الإمام مسلم لم يضع عناوين لكتابه التي نسميها تراجم الأبواب. لكن عندما طُبِع كتاب القاضي عياض «إكمال إكمال المُعْلِمْ لشرح صحيح مسلم»، وهو تكملة لأن هناك المُعْلِمْ ثم إكمال المُعْلِمْ للإمام المازري ثم إكمال الإكمال. فلما طُبع إكمال الإكمال وجد الدكتور الشيخ يحيي إسماعيل الذي حققه، وجد نصًا غريبًا جدًّا للقاضي عياض وهو يتكلم عن كتاب مسلم في جزء من الأجزاء فقال: "وهذا يُبطل قول من قال إن مسلمًا لم يبوب كتابه، إنما تلك نسخهم لم تكن فيها أبواب"، وذكر أن التبويب الذي عمله في الكتاب هو تبويب نسخة مسلم التي قرأها على مشايخه.
فسواء أكان مسلم ترجم لكتابه، يعني صنع أبوابًا أو عناوين أم لم يصنع، فهذا لا يؤثر في صحة الكتاب والثقة به. لأن الأبواب عبارة عن ما يستفيده المُحدِّثُ، أو يفهمه المُحدِّثُ من نص الحديث النبوي. أو يريد أن يدلنا بهذا العنوان على مضمون الحديث، نحن نستطيع أن نقرأ الحديث ونعرف مضمونه.
من أهم الأشياء التي في كتاب مسلم الأصلي أنه كتب مقدمة ليست بقصيرة في بيان مراتب رواة الحديث ومراتب المتون، أي النصوص المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال إن الصحيح فيها ليس درجة واحدة، ولا الضعيف درجة واحدة. وأتى بأمثلة من الرواة المتفق على صحة ما رووه. وذكر مثلاً خمسة أسماء وقال بعدهم خمسة أسماء أخرى، وبعدها خمسة أسماء، وكل من يشتغل بهذا العلم يعرف أن رواية الفريق الثالث أقل عند العلماء درجةً من رواية الفريق الذي قبله، ورواية الفريق الذي قبله أقل عند العلماء درجةً من رواية الفريق الأول. ولذلك لما رتب كتابه جعل أول حديث في الباب أصح حديث لأنه جاء عن رواة المجموعة الأولى، ثم رتب سائر أحاديث الباب على هذا الترتيب للرواة.
وكان عندما يذكر الأسماء يقول وأضرابهم، يعني نظراءهم في العلم والمعرفة والنقل والتحري والدقة والضبط والإتقان والتقى...الخ.
فهذه مقدمة جيدة يندر أن يصنعها مُحدِّث لكتابه ولكن مسلم صنعها.
والأمر الثاني أنه تكلم عن المتون أيضًا، المتون التي اختلطت على بعض الرواة: لفظ اختلط، اسم راوٍ صُحِّف، كلام النبي صلى الله عليه وسلم نُقِل بالمعنى، وموجود في مكان آخر باللفظ، فبين أين التصحيح. وهذه أيضًا أمثلة أراد أن يبين للناس أن طريقة التأليف في علم الحديث تقتضي هذا النوع من الضبط والدقة والإتقان...الخ
هذا هو الإمام مسلم باختصار شديد وهذا هو صحيحه الذي هو ثاني الكتب بعد كتاب البخاري. والفرق الأساسي بين الاثنين أن البخاري اشترط في العلماء الذين يروي عنهم: التلاقي، ثبوت مقابلة كل راوٍ لشيخه الذي روى عنه. بينما مسلم اكتفى بالمعاصرة، وكل العلماء الآخرين اكتفوا بالمعاصرة، ولم يشترط ثبوت التلاقي إلا الإمام البخاري. وهذا الذي تميز به البخاري عن بقية الناس وجعل منهجه أصعب من مناهج بقية المحدثين. إنما مثلاً اثنان متعاصران، واحد في الأندلس وواحد في مكة، وثابت أن الذي في الأندلس لم يخرج إلى مكة في ذلك الوقت، والآخر لم يأت إليه فتبقى اللقيا مستحيلة. وعندئذ إذا روى واحد من هذين الاثنين عن الآخر لا يُقبل. لكن اثنان في بغداد أو اثنان كانا يسافران بين بغداد والقاهرة، أوفلسطين والقاهرة، أوالنجف ومكة والمدينة فلا بأس. ثم إن لقاء العلماء كان أكثره في الحج وزيارة بيت المقدس، كان آلاف العلماء يلتقون في آلاف المناسبات المتعلقة بالحج والعمرة وزيارة بيت المقدس، ولذلك فإن مسألة اللقاء بين العلماء لم تكن مستحيلة ولا نادرة. وشرط البخاري وإن قال العلماء إنه تشدد فيه إلا أنه لم يشترط ما لا يمكن وقوعه ولذلك كان في كتابه تلك الآلاف من الأحاديث الصحيحة على شرطه. وقال «وما تركت من الصحيح أكثر» ولعل هذه الكلمة تشير إلى الصحيح لا على شرطه وحده بل على شرط جمهور العلماء. لأن هذا الشرط التزمه البخاري في صحيحه وحده، وليس في كل ما رواه من سائر الأحاديث في كتبه كلها.
* * * * *
مختصر صحيح مسلم صنعه عالم دمشقي عاش في مصر وكان مفتياً فيها، وهو الإمام حافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. والمنذري له قصة طريفة مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام. عندما كان العز يُدرس في دمشق كان عنده يوم من أيام الأسبوع يقرأ فيه الحديث قليلاً؛ لأنه فقيه شافعي عظيم ولكنه ليس مشتغلاً كثيرًا بالحديث ولكن ليسمع طلابه منه حديثًا، وتتصل السلسلة الإسنادية. فلما دخل مصر كف عن التحديث في اليوم الخاص به وقال إن الحافظ المنذري موجود فلن أُدرس الحديث سأحضر معكم عند الحافظ المنذري في حلقته. فلما سمع الناس الحديث وتقدموا إلى المنذري بإفتاء فقال: أنا كففت عن الفتوى منذ دخل العز بن عبد السلام مصر، فهو أحق مني في الفتوى. فهذا شافعي وهذا شافعي، وهذا إمام وهذا إمام، وهذا محدّث فقيه وهذا محدِّث فقيه، لكن، احترما التخصص. أما نحن فنهجم على الأشياء كما تعرفون، ونفتي بغير علم، ونتحدث في اللغة ونحن جُهال بها، ونُضَعِّفُ الروايات ونحن لا نعرف أسانيدها من متونها، ونُضعِّفُ المتون لأننا نفهم معاني الألفاظ كما نفهمها اليوم، وهي في زمانها كانت تُستعمل بمعنى آخر. والله يرحمها الدكتورة عائشة عبد الرحمن مرة قالت لي: "عندما يقول ربنا: «وإن من قرية إلا خلا فيها نذير» هو أنتم فاكرين المقصود بهذه القرية واحدة من ال 4200 قرية بتوعكم؟ طيب المركز يأتي له كم نبي بقى؟".. فالناس تفهم الألفاظ على هذا النحو، يفهمون القرية هي قريتنا، ولفظ الناس في القرآن على أنه كل الخلق، مع أن هناك آية واحدة فيها كلمة الناس مرتين، وكل مرة كان المقصود بها مجموعة معينة من الناس، ولم يقصد بها الخلق كلهم، «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل». فالألفاظ لابد أن تُفهم على نحو ما كانت تُستعمل، وتُشرح على نحو ما كانت تُستعمل؛ وإلا سنبتعد، ليس بفهمنا فقط، وإنما سنبتعد بتطبيقنا وبعبادتنا وبطاعتنا عما ينبغي أن تكون عليه الطاعة والعبادة والعمل الموافق لصحيح الشرع.
الحافظ المنذري جمع هذا المختصر على وفق رؤيته العلمية لأنه عالم كبير، أمسك كتاب مسلم واختار منه الأحاديث التي يرى أن الإنسان المسلم إذا عرفها، تكفيه في علمه الديني مما جمعه مسلم. ثم رتبها ترتيبًا على رأيه هو فلم، يتَّبع ترتيب مسلم لكتابه، ولم يتَّبع اختيار مسلم للأحاديث. يعني نجده في بعض الأبواب أتى بالحديث الرابع عند مسلم أو الخامس مع أن مسلم عنده في الرواية أن الأول هو الأصح. لكن الحافظ المنذري وجد أن الحديث الرابع فيه المعنى الزائد أو المعلومة الجديدة أو الإضافة التي يريد أن يقدمها لطالب العلم. فهذا المختصر ليس على نمط مسلم في الترتيب، ولا على نمط مسلم في الاختيار. هذا كتاب آخر غير صحيح مسلم. كل الأحاديث التي فيه مأخوذة من صحيح مسلم لكنه ليس بترتيب مسلم ولا باختيار مسلم، إنما باختياره هو، باختيار الحافظ المنذري، وهو من كبار حفَّاظ الحديث وعلمائه.
حقق هذا الكتاب واحد ونشره واحد، لا أستطيع أن أقول عليه تحقيق، الذي حقق هذه النشرة التي نستخدمها هو الشيخ ناصر الدين الألباني وهذه نشرة المكتب الإسلامي.
الذي نشره قبل ذلك واحد من علماء الهند، هو صِدِّيق حسن خان، يقولون عليه القنوجي نسبة إلى بلده. وعمله هو كتاب ثالث، يعني المنذري اختار كتابًا من صحيح مسلم وسماه مختصر صحيح مسلم فأصبح عندنا كتابان، وهو أعني صديق حسن خان شرح ما جاء به المنذري من كتب الحديث الأخرى وعلوم الفقه الأخرى وعلوم اللغة الأخرى، وسمى كتابه «السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج» السراج الوهاج يعني السراج المضئ، من كشف مطالب يعني بيان الموضوعات والعناوين والفقرات المهمة والمعلومات الضرورية في صحيح مسلم. الفقرات والمعلومات من أين جاء بها؟.. من كتاب حافظ المنذري. هو اعتبر أن حافظ المنذري اختصر مسلم ليُقرِّب للناس أهم مطالب مسلم، أهم موضوعات مسلم. فهو شرح هذه الموضوعات في السراج الوهاج من كشف مطالب مسلم بن الحجاج، وطُبِع في الهند. ومن هذه الطبعة استفاد الشيخ ناصر أصلاً لأنه وجد نسختين مخطوطتين من مختصر المنذري بعد ذلك، لكنه استفاد من هذه الطبعة الهندية باعتبارها أصلاً من أصول طبعته التي صدرت عدة مرات عن المكتب الإسلامي في بيروت ودمشق، الذي صاحبه زهير الشاويش، وجعل المقابلة بينها وبين النسختين المخطوطتين.
تتميز هذه الطبعة أن الشيخ الألباني شَرَح شرحاً قليلاً جدًّا جداً لبعض الكلمات الغامضة المأخوذة من شروح مسلم أساسًا، وبالذات من شرح النووي. والمزية الثانية أن فيها بعض الإشارات الفقهية إلى بعض الأحكام في الهوامش، المأخوذة أيضًا من شروح مسلم، لأنه هناك مسائل خلافية فالمسائل التي تحتاج توضيحًا، حاول الشيخ الألباني أن يوضحها.
الشيخ الألباني نفسه، رحمة الله عليه، اختصر صحيح مسلم، عندما كان مسجوناً في دمشق، اختصره من عند نفسه، في كتابٍ على نمط ما صنع مسلم، اختصره باختيار الحديث الأول في كل باب وبوبه بتبويب مسلم وترتيبه. لكن هذا المختصر مما لا يكف الإنسان عن الأسف عليه، لأنه ضاع عند خروج الشيخ من السجن. لأنه كان يشتغل في أوراق أثناء ما كان مسجونًا. فجاءوا فجأة وأخرجوه، أخرجوه ولم يسمحوا له أن يأخذ حاجاته. وبعد مدة أحضروا له مِخْلَة فيها بعض حاجات وقصاصات من هذا المختصر، والباقي ضاع. حدثنا رحمه الله بذلك في عمان بنفسه. ومات الله يرحمه دون أن نرى هذا المختصر. وكنت أتمنى أن نراه. يمكن ربنا يوفق أحداً من طلاب العلم لأن يعمل هذا الاختصار، هو ليس عسيرًا ولا مستحيلاً ولكنه يحتاج مجهودًا وعلمًا بالحديث.
* * * * *
بدأ الحافظ المنذري كتابه بمقدمة صغيرة جداً في هذه الأسطر القليلة لهذا الكتاب الذي يضم أكثر من ألفي حديث، فقال في مقدمته:
بعد الحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه، وقال عنهم «وأصحابه الجدراءِ بالتعظيمِ والإكبار» صلاة باقية دائمة بقاء الليل والنهار. قال: «وبعد، فهذا كتاب اختصرته من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القُشيري النيسابوري رضي الله عنه، اختصارًا يُسهله على حافظيه ويُقربه للناظر فيه (يجعل من السهل أن تفهم الأحكام الواردة فيه) ورتبته ترتيبًا يسرع بالطالب إلى وجود مطلبه في مظلته (لأنه من أصعب الأشياء في كتبنا العلمية كافة، سواء أكانت كتب لغة أم كتب نحو أم كتب فقه أم كتب تاريخ أم كتب شعر، أن يجد الطالب ما يريده. والشعر أسهل حاجة لأنهم رتبوه على القافية في الغالب فالذي يحفظ آخر كلمة في البيت أو من أي بيت من القصيدة يقدر يجدها في القوافي بتاعته، لكن ما عدا ذلك فالترتيب من أصعب ما يمكن). وقد تضمن مع صغر حجمه جلَّ مقصود الأصل (هو لم يأت بكل مقصود مسلم، ولذلك قلت لحضراتكم إن الفرق بينه وبين مختصر الألباني أن مختصر الألباني كان سيضع تحت أيدينا صحيح مسلم كاملاً في أصح ما رواه مسلم فيه من أحاديث. أما هذا المختصر فالمنذري عمله واختار جُلَّ مقصود صحيح الإمام مسلم يعني أغلبه أو معظمه، وليس كل كتاب الإمام مسلم) وقال: وإلى الله سبحانه وتعالى أرغب في أن ينفعني به وقارئه وكاتبه والناظر فيه، إنه قريب مجيب».
* * * * *
أول كتاب بدأه أو أول عنوان وضعه في كتابه، كتاب الإيمان وهذا أمر طبيعي أن يبدأ المسلم كتابًا في السنة بالإيمان. وجعل أول باب فيه: «باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله» هذا أول عنوان من عناوين كتاب الإيمان. وروى فيه حديث وفد عبد القيس، وهذه قصة مشهورة في السنّة: ناس حضروا للنبي صلى الله عليه وسلم وسألوه بعض الأسئلة، وقالوا له ما معناه: لقد جئنا من مسافة بعيدة ولا نستطيع أن نصل إليك كل يوم لأن قريش تمنعنا من الوصول إليك، فمرنا بأشياء جامعة نخبر به قومنا. وبدأ الإمام المنذري بهذا الحديث.
* * * * *
الحديث الأول: الراوي لهذا الحديث هو أبو جمرة يقول: «كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس وبين الناس» أبو جمرة يقول كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس. هل يعني هذا أنه كان ينقل من لغة لأخرى؟ لا كان يُبلِّغ، ينقل كلام ابن عباس الذي يقوله بصوت يسمعه القريبون منه بصوت عال يسمعه البعيدون عنه.
فقال: «كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر» نبيذ الجر هو نوع من أنواع الخمور توضع في جرار، والجرار جمع جرة، يضعون فيها العنب أو التمر حتى يخمر فيشربوه. فقال عبد الله بن عباس: «إن وفد عبد قيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الوفد؟ أو مَن القوم؟ قالوا: ربيعة. قال: مرحباً بالقوم أو الوفد (أو هذه من عند ابن عباس يعني إما أنه قال لهم القوم أو الوفد) غير خزايا ولا ندامى. فقالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شُقة بعيدة (مكان بعيد جدًّا) وإنا بيننا وبينك هذا الحي (يعني هذه الجماعة أو هذه القبيلة) من كفار مُضر (مُضَر هم قريش) وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فمُرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا (أمر فصل يقطع ويفصل بيننا وبين الكفر والشرك) وندخل به الجنة. قال عبد الله بن عباس فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع. قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده. قال لهم أتدرون ما الإيمان؟ أو هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن توءدوا خُمسًا من المغنم» لو قلنا الشهادتين حاجة واحدة يبقى عندنا حاجة واحدة زيادة وهي خُمس المغنم.
العلماء وقفوا هنا وقفة طويلة، قالوا هم كانوا بجوار القبائل المعادية للرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت حدود أراضيهم التي يرعون فيها إبلهم وأغنامهم وفيها مياههم مستباحة، المشركون المعارضون والمحاربون للرسول صلى الله عليه وسلم يدخلونها ويخرجون منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء لا يكفيهم هذه الأركان الأربع، إنما يحتاجون إلى شيء يزيد عليهم وهو أن يحموا ثغرهم الإسلامي. كيف يحموه؟ أن يُقاتلوا في سبيل الله، المَغنم هذا لن يأتي إلا بالقتال في سبيل الله «واعلموا أن ما غنتم من شيء فأن لله خمسه» من أين سيأتي هذا الخمس؟ هو لا يريد أن يقول من أول لحظة اذهبوا وقاتلوا الناس بالسيوف، إنما قال لهم أشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأدوا الصلاة والزكاة والصوم، وأدوا الخمس من المغنم.
إذن ستقاتلون. وعندما تقاتلون سينصركم الله وتغنموا، فإذا غنمتم يبقى لكم الأربعة أخماس وعليكم الخمس.
أليست هذه بشارة عظيمة جدًّا؟ عبارة الخمس من المغنم حلت لهم المشكلة وعلمتهم أمرًا لم يكونوا يعرفونه، وقالت لهم: عندما تحاربون ستنتصرون وستغنمون أموالاً. فَبَشَّرَهم أنها ستكون حرب غنيمة وليست حرب مغرم، وقال لهم أدوا الخُمس من المغنم.
ونهاهم عن الدُبَّاء (الدباء هو القرع الكبير أو الوعاء المُتَخذ منه الذي يُخمرون فيه التمر أو العنب) والحنتم (الحنتم هي الجرار التي كانوا يصنعونها من الفخار ويطلونها بلون أخضر وكانوا يحضرون اللون الأخضر من نبات اسمه الحنتم فاختصر الرسول صلى الله عليه وسلم القصة، وفي بعض الروايات قالوا له: وما أدراك يا رسول الله بالدباء والحنتم؟ كيف عرفت وأنت من قريش فقال لهم: ألا تعرفون أني أعرف؟ فقالوا له: الله ورسوله أعلم والمُزَفَّت (أوالمُقيَّر أي المطلي بالقار أو بالزِّفت)، (والكلمتان واردتان في روايات صحيحة) (قال شعبة وربما قال: النقير). أي نهاهم عن النقير (النقير هو جذع النخلة ينقر وسطه ويكون من الأسفل أصم ليس به ما يُنْزِل الماء ويضعون داخله النبات ثم يصبون عليه الماء ثم يشربونه بعد أن يخمر وهو مُسكِر. فنهاهم عن الآنية التي توضع فيها الأشياء فتتحول إلى شراب مسكر أي نهاهم عن المسكر نفسه بالنهي عن الإناء الذي يوضع فيه.وسيأتي معنا في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الآنية أو القدور فقالوا له: "أنغسلها ونشرب فيها" فقال لهم إن الظرف لا يحرم شيئاً ولا يحلله فاغسلوها وكلوا فيها ما حل أو اشربوا فيها ما حل. وقال: "احفظوه (احفظوا هذه الوصية الخماسية أوالرباعية) وأخبروا من وراءكم»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج، أشج عبد القيس (الأشج هو من عنده جرح غائر وملتئم فسُمي أشج عبد القيس نسبة إلى قبيلته) «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» الحلم هو الصبر وسعة الصدر واحتمال الآخرين وغفران الزلات، والأناة هي عدم الاستعجال.
فقال النبي e لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة». ليت كل واحد منا ينظر إلى الخصال التي يحبها الله، التي سترد معنا بعد ذلك في عددٍ الأحاديث، ويحاول أن يتخلق بها، لكنا نخرج من هذا اللقاء وقد تخلقنا بمعظم أخلاق الإسلام، إن لم يكن بكلها. ولكن إذا استمعنا إلى هذه الأحاديث على أنها جلسة مسلية سنخرج دون أن نتعلم شيئاً.
فلنجعل أول ما نتعلمه من هذا الدرس هو الحلم والأناة، فيحاول كل واحد فينا؛ العصبي لا يكون عصبياً، المتعجل لا يكون متعجلاً، الغضوب لا يكون غضوبًا. الذي يريد أن تنتهي الأمور في ساعة زمن يحاول أن يجعلها ساعتين لأنه لن يحصل شيء في التأني. لأن هذا من الأناة التي يحبها الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم مدح بها أشج عبد القيس.
وإذا نظرت في مدح الرسول e أشجَّ عبد القيس علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيًا عن إسداء هذا المدح، رجل جاء مع الوفد من قبيلته أو قومه، وقالوا كلمتين وأخذوا كلمتين، وقعدوا كام يوم في المدينة، فما الذي يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة ما خرج عليهم وقال لهم مرحبًا بالوفد غير خزايا ولا ندامى، يختار واحدًا منهم ويقول له إن فيك لخصلتين يحبهما الله؟.. ما هذا الثناء العظيم؟ في الواقع ليس هناك تطييب للقلوب أكثر من الثناء على كبراء الناس وعظمائهم ومقَّدميهم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يطيّب قلوب أصحابه، فهو لم يكن فظًا ولا غليظ القلب كما وصفه القرآن: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك». فالله سبحانه وتعالى ألقى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الرأفة والرحمة التي جعلته يُحبب الناس في نفسه ودينه بهذه الطريقة اللطيفة. لم يقل لهم شيئًا كاذبًا؛ لم يقل يا أفخم الفخماء، ولا يا سمو الأمير، ولا يا معالي الوزير. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، إنما قال له شيئًا صادقًا. قال له: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة». ولا ريب أن هذا تطييب للقلوب عظيم. وهو تعليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته كلها، سابقها ولاحقها، أن الحلم والأناة من الخصال التي يحبها الله، وإذا أحبهما الله يحبهما رسوله أيضًا، ويحبهما المؤمنون. ثم إذا أحبهما المؤمنون فيحبون من هما فيه. انظر إلى هذه السلسلة حتى تصل بالمسألة إلى الفهم الدقيق بالتفصيل.
هذا هو الحديث الأول الذي أتى به الإمام المنذري تحت عنوان أول الإيمان قول لا إله إلا الله.
* * *
الحديث الثاني: رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس، (يعني قاعدًا) فآتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخِر. قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه ( وفي رواية أخرى إن لم تكن تراه) فإنه يراك (عليك أن تعبده وأنت عالم أنه مطَّلع على ما تفعل في هذه العبادة، وليس المقصود بالعبادة هنا مجرد الصلاة والصوم، المقصود حياتنا كلها «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» فنحن مخلوقون للعبادة، إذًا حياتنا كلها ينبغي أن تكون بهذا التوجه، وأن تكون نيتنا في عملنا وفي سهرنا وفي قيامنا وفي زيارتنا وفي عطائنا وفي منعنا أن نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى) قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها (الأشراط هي العلامات) إذا ولدت الأمة ربها (وفي رواية إذا ولدت الأمة ربتها) (وهذا معناه أن يكثُر الإماء الذين يُتَخذون في البيوت ويكون في هذه الكثرة نوع من أنواع فساد الأخلاق لأنه لا يجوز استرقاق الإنسان للإنسان، هذا كان أمرًا متعلقاً بزمن الحرب، ومتعلقًا بالمعاملة بالمثل. فإذا انقضت المعاملة بالمثل، وانقضى هذا النوع من التنظيم الدولي فينبغي أن ينقضي عندنا أيضًا. وإذا استمر فهذا الاستمرار هو نوع من الفساد. فهذا كله كناية عن عدم جواز استرقاق الإنسان للإنسان إلا في الظروف المحددة التي كانت قائمة وقتها، وقت ظهور الإسلام أو بعد النبي صلى الله عليه وسلم) فذاك من أشراطها (فسَّروا ميلاد الرب أو الربة عندما تلد من سيدها، تلد ممن يملكها، فكأنها تلد من يملكها بعد وفاة أبيه. ونحن نعرف أنه لما كنا نُجيز الاسترقاق كان عندنا إنسانية في هذا الاسترقاق، فكانت المرأة إذا ولدت لزوجها حتى لو مات ولدها أو وليدتها مجرد ما تلد تكون على ذمة التحرر، تكون أم ولد، عندما يموت تكون حرة لا تكون أمة مملوكة لأولادها منه أو من غيره) وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها (الحفاة العراة كناية عن الطبقات السيئة الخُلق، السيئة السلوك التي لا تعرف كيف تدير الدنيا ولا كيف تؤدي للناس حقوقها ولا كيف تحترم ملكيات الناس وما لهم على الآخرين من حقوق. كنَّى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الطبقات التي هي لا عقل لها ولا علم عندها ولا تراث ولا ماضٍ كما قال الشاعر: "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم". سراة يعني رؤساء، يعني لا يكون هناك رئيس، ولا سراة إذا جهالهم سادوا. إذا كان الذي يحكمنا جاهل لا يحسن القراءة ولا الكتابة، لا يحسن الصلاة. أو لا يُحسن الفهم عن الناس إذا حدَّثوه، أو لا يُحسن الرد على السؤال إذا سُئل، فكيف يكون لهم السيادة؟!. هؤلاء لا يستحقون السيادة. من نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد) وإذا تطاول رِعَاءُ البَهْمِ (وفي رواية أخرى رعاة البهم) في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله» (رعاة البهم هم الذين يرعون الإبل والغنم وما إليها، الناس الذين حياتهم أصلاً بسيطة وتجدهم اغتنوا فجأة من حيث لا يعرف الناس، ستجدهم يتطاولون في البنيان. ليس فقط رعاة الإبل ولكن كل الذين أتاهم مال من غير طريق الحلال المشروع، من غير الطريق الذي يعرفه الناس، وأتاهم فجأة دون أن يتعبوا في تحصيله بطرق السعي وراء الرزق المعتادة. ولذلك سيدنا علي له كلمة جميلة عندما قالوا له إن فلاناً كَثُر ماله، فسكت، فاغتاظ الناس؛ لأنه كان فقيرًا ووجدوه فجأة قد امتلأ بالمال. فقالوا له: يا أمير المؤمنين، فلان كثُر ماله. فلما أكثروا عليه (أي لما قالوا ذلك عدة مرات)، قال لهم: "المال ألف فإن زاد فألفان وفي الثلاثة شك". فإذا كان هذا الرجل قد كثر ماله لدرجة أنكم عرفتم ذلك عنه؛ لأن الألف أو الألفين لا يظهرون. فقال لهم: "المال ألف فإن زاد فألفان وفي الثلاثة شك". بعد الثلاثة انظروا وتأكدوا من أين جاء بهم. فهؤلاء الحفاة العراة أصبحوا رؤوس الناس، ثم رعاء البهم تطاولوا في البنيان وكثرت أموالهم فلم يكتفوا بالبيوت العادية إنما تطاولوا في البنيان ليظهروا أنهم أغنى من الناس وأنهم أقوى من الناس، وعندهم ما لا يملكه الناس.
هذه علامات ستكون قبل قيام الساعة. هذه علامات دالة على قرب الموعد. لكن الموعد واحد من خمسة أشياء لا يعرفها إلا الله) ثم تلا e قول الله تعالى «وإن الله عنده علم الساعة ويُنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» (فتلا على هذا السائل هذه الآية ليدله على أن العلم اليقيني بالساعة ليس لأحد من الخلق وإنما هو للخالق سبحانه وتعالى، هو في الأول قال له: ما المسؤول عنها أعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها. طيب كيف؟ وأنت تعرف كل هذه الأسرار. فرجع إلى أصل الجواب مرة أخرى، قال له: انتبه.. علمي بهذه الأشراط لا يعني علمي بالموعد. فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول إن علمه بأشراطها لا يعني علمه بالموعد) ثم أدبر الرجل (ذهب ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا عليَّ الرجل"، فأخذوا ليردوه (انطلقوا بسرعة) فلم يروا شيئًا. وفي رواية فلم يجدوا شيئًا فعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله ما رأينا أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل جاء ليُعلم الناس دينهم».
هذا الحديث من الأحاديث الجامعة في الإسلام، والعلماء تكلموا عنه كلامًا كثيرًا. أريد أن أقول كلمة واحدة مما استوقف العلماء في هذا: أن أحدًا لم يكن قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأسئلة قبل أن يأتيه جبريل فيسأله، إنما جاء ليسأله حتى يعرف المسلمون ما الإيمان وما الإسلام والإحسان، وليعرفوا حدودهم في الكلام عن يوم القيامة. هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بالناس وهذا دليل على أن الإيمان في نفوس هؤلاء الصحابة، الذين لقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كان إيمانًا من نوع عجيب، لا يحتاجون أن يسألوه عن شيء. قال لهم لا إله إلا الله فصدقوه. هذه الواقعة كانت في المدينة، لأنه جاء في روايات أخرى أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بمسجده، فجلس بإزائه، فجعل ركبتيه بإزاء ركبتيه ووضع كفيه على فخديه (أي فخذي الرجل)، قصة وحديث طويل. إذن، فقد أقاموا مسلمين في مكة 13 سنة ثم ذهبوا إلى المدينة وحاربوا وانتصروا، وانهزموا في أُحد.. وهكذا. ثم يأتي جبريل ويسأل هذه الأسئلة. إذن، لقد قبلوا هذا الإيمان وصدقوا هذا الرسول ومضوا خلفه وقاتلوا معه وقدموا أموالهم وأنفسهم فداء لدينه دون أن يسألوا هذه الأسئلة الجوهرية؛ لأنه كفاهم صدق قوله، فرحمهم ربهم تبارك وتعالى وأرسل جبريل بهذه الأسئلة لكي يعرفوا الإجابة عنها.
* * *
الحديث الثالث: والأخير في هذا الباب الذي هو باب: أول الإيمان لا إله إلا الله: «عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة (كان يُحتَضَر) جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة (قلها كلمة أشهد لك بها عند ربنا، وفي روايات كثيرة جداً: كلمة تدخل بها الجنة، كلمة تنجو بها من النار) حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم به هو على ملة عبد المطلب»
شوفوا الرواية الجميلة هنا، الراوي لم يقل أن أبا طالب قال أنا على ملة عبد المطلب، وعبد المطلب على ملة عبادة الأوثان. فالراوي مسلم موحد، فقال إن أبا طالب قال هو على ملة عبد المطلب، لا يريد أن يقول أنا على ملة عبد المطلب.
«فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله عز وجل «ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم» وأنزل لأبي طالب بالذات الآية الثانية «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين» العلماء يقولون بالإجماع إن هذه الآية نزلت في أبي طالب، ومختلفون في الآية الأولى.
في هذا الحديث أمر مهم ينبغي أن ننتبه إليه: بعض إخواننا الطيبين أصحاب الفهم الحرفي للنصوص لو واحد قال له: "والله".فربما ضربه أو نهره بشدة. أما إذا لم يكن شديد التمسك بحرفيته فربما يقول لك: "يا شيخ لا تحلف، لا تحلف، لا تعرض لسانك لليمين". وإذا كان عنده بعض علم يقول لك: "لا تحلف إلا إذا حُبِست على اليمين"، هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف في هذا الحديث للمشرك الذي لا يريد أن يقول لا إله إلا الله "والله لأستغفرن عنك ما لم أنه عنك"
أخذ منها الإمام النووي مأخذًا جميلاً قال:"في هذا الحديث جواز الحَلِفِ دون أن يُستحلف، والحَلِفِ بغير حاجة، والحَلِفِ في غير مجلس القضاء". ثلاث مسائل: يحلف من غير أن يستحلفه أحد، ويحلف من غير أن تكون هناك حاجة للحلف، ويحلف في غير مجلس القضاء. وهذا رد على إخواننا الذين يقولون لا تحلف إلا إذا حُبست على اليمين، أي كنت واقفًا أمام القاضي. والله أعلم.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(2)
دكتور محمد سليم العوَّا
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(2)
المختصر الذي نقرأه هو مختصر الإمام المنذري. حققه وعلق عليه تعليقات مختصرة جدًّا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه. وأنا أستعمل فيما أقوله من معلومات حوله أربعة كتب: شرح النووي وشرح القاضي عياض، وشرح السنوسي والأبي المطبوعين معًا. وهما تكملة لشرح القاضي عياض وشرح الشيخ موسى شاهين لاشين الذي كان عميد كلية أصول الدين فتح المنعم بشرح صحيح مسلم.
* * * * *
سنبدأ بالباب الذي عنونه الإمام المنذري بباب «أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأورد فيه حديثين أحدهما لأبي هريرة والثاني لعبد الله بن عمر بن الخطاب.
حديث أبي هريرة فيه أنه «لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» هذا كلام سيدنا عمر وهذه روايته للحديث. فقال أبو بكر رضي الله عنه: «والله لأُقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.» فقال عمر بن الخطاب: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق».
هذا الحديث من الأحاديث الأمهات في السنَّة الصحيحة وعليه كلام كثير من الأقدمين والمحدثين. وبعض الإخوان استبطلوا الحديث لأنه يتضمن جواز الإكراه في الدين، والإكراه في الدين منفي بنص القرآن الكريم الذي يقول فيه ربنا «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي». واستبطل الحديث يعني طلب بطلانه،أو زعم بطلانه، وأنا أقول استبطل الحديث لأنه ليس باطلاً، فهو حديث صحيح ومعناه صحيح.
استبطل الحديث بأمرين: الأمر الأول أن فيه وجوب مقاتلة كل الناس إلى أن يقولوا لا إله إلا الله، والأمر الثاني أن أحد رواته متهم بالتدليس.
أريد أن أقف عند الأمر الأول لأن الأمر الثاني متعلق بعلم الرجال وعلم المصطلح وبمعنى التدليس نفسه، والتدليس طبقات وأنواع ومنه تدليس مقبول وتدليس غير مقبول، وتدليس عن ثقات وتدليس عن كذابين.
ولكن أُريد أن أقف عند الكلمة الأولى «أُمرت أن أقاتل الناس» الناس هنا ليسوا كل الخلق، الناس هنا هم فئة خاصة من الناس، قال العلماء إنهم مشركو العرب من عبدة الأوثان ونحوهم. لماذا قالوا عبدة الأوثان ونحوهم؟ لأنه كان هناك ناس يعبدون الأوثان ويقولون إنها آلهة تنفع وتضر، وناس يعبدون الأوثان لتقربهم إلى الله زلفى، وناس يعبدون الأوثان لأنهم وجدوا آباءهم على أمة وهم على آثارهم مقتدون. فليس كل الذين يعبدون الأوثان كانوا على نسق واحد أو نمط واحد، كان منهم أنماط وأنساق مختلفة.
فقالوا "الناس" في قول النبي «أُمرت أن أُقاتل الناس» مقصود بها مشركو العرب وعبدة الأوثان وغيرهم. واستدلوا على ذلك بأن الله تبارك وتعالى ذكر في القرآن لفظ الناس ولا يعني به كل الناس في الآية «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» فلا الناس الذين قالوا كانوا كل الناس، ولا الناس الذين جمعوا كانوا كل الناس. إنما الناس الذين قالوا كانوا ركبًا مسافرين، والناس الذين جمعوا كانوا بقايا من بقيَ من قريش أو من تجمع من قريش للرجوع إلى مكة بعد غزوة أحد.
فإذا فهم أحد من كلمة الناس أنهم الخلق جميعًا، فالمشكلة عنده هو، ويتعين عليه أن ينظر في التعبير العربي كيف مضى، وفي السُنَّة العربية كيف مضت.
أحد العلماء الأحناف يقول: إن للعرب في كلامها سمَتًا، من علمه علم معنى كلام الله ورسوله. ومن جهل سمت كلام العرب (السَمت هو الشكل، هو اللفظ، هو النسق) لم يستطع أن يدرك معنى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن سمت كلام العرب أن تذكر الجزء تريد به الكل، وتذكر الكل تريد به الجزء.
والإمام النووي يقول في شرحه إن هذا كثير في لسان العرب: التعبير عن الجزء بلفظ يشمل الجميع، أو التعبير عن الكل بلفظٍ أصل دلالته جزئية.
والقاضي عياض يقول إنهم المشركون من عرب الجزيرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» فجعل التخصيص بحديث آخر دل على اختصاص هذه الجزيرة بحماية الإسلام وحفظه، وأنها حوزته. وعندنا الحديث «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني يرجع وينحصر وتكون المدينة مصدر قوته ومصدر انفتاحه وانتشاره مرة ثانية. وعندنا الحديث «الإيمان يمان والحكمة يمانية» ليس معناه أن كل الإيمان في اليمن، ولا معناه أن أهل اليمن أكثر الناس إيمانًا. إنما الوفد الذي جاء للرسول صلى الله عليه وسلم كانت هذه صفتهم. فعندنا أحاديث كثيرة تدل على أن المراد بهذا اللفظ العام معنى خاص، فهو من العام الذي يراد به الخاص، وليس من العام الذي يراد به العام. وعندنا هذان النوعان من الألفاظ كثيرًا في كلام العرب.
الأمر الثاني أن هذا الحديث رُوِيَ بروايات عدة منها روايتان أخريان في مسلم إحداهما عن أنس والثانية عن عبد الله بن عمر وفيهما تفاصيل.
لكن الصاحبين الجليلين أبا بكر وعمر لم يسمعا هاتين الروايتين المفصلتين. في الروايات الأخرى «وصلى وصام وزكى وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا». إذن، هناك روايات مفصلة لو كان الصاحبان قد سمعاها لما وقع بينهما هذا الجدال ولما احتج أبو بكر بالقياس ولما استجاب عمر لدليل القياس. لأن الذي فعله أبو بكر أنه قال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال» إذن هو استعمل القياس. وعمر يقول: «فما أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق» فاستجاب لدليل القياس.
لو كان عندهم الدليل النبوي، النص الذي سيأتي معنا في حديث عبد الله بن عمر وحديث أنس، ما كانا احتاجا لهذا الجدال لأن الحديث حُجة على عمر. إذاً يجوز أن يفوت على الكبير في العلم والمقام، والقديم في الصحبة والملازم للنبي صلى الله عليه وسلم، علمٌ حضره أو سمعه أو نقله، أو نُقِل إلى من هو أقل منه صحبة ودراية وأقل منه وقتاً قضاه مع النبي صلى الله عليه ومسلم أو علمًا بمجمل سنته. لأنه لا شك عند أحد أن أبا بكر وعمر كانا أعلم بمجمل السُنَّة من عبد الله بن عمر ومن أنس. ومع ذلك حفظ أنس وعبد الله بن عمر حديثًا لم يحفظه الصاحبان الكبيران أبو بكر وعمر.
ثم «فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقَالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم...» هذه الكلمة أيضًا وقف عندها العلماء وقوفًا طويلاً.
العِقَال هو الحبل الذي يقاد به البعير، أو يربط به في سارية أو جدار حتى لا يفلت. فأبو بكر عندما يقول لو منعوني عِقالاً يريد أن يقول لو منعوني أدنى شيء كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العِقال ليس من الزكاة. فقال العلماء: لا، بل العقال من الزكاة. لأن عمر عندما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات كان لا يأخذ بعيرًا ولا ناقة إلا بِعِقالها. وعندما ولّي محمد بن مسلمة زكوات البحرين كان لا يأخذ فريضتين إلا بعقالين، فريضتين يعني ناقتين أو جملين أو شاتين أو أي نوع من أنواع الإبل والغنم، لا يأخذها إلا ومعها عقالها. لكن هذا تكلف في الحقيقة لأن مقصود أبي بكر رضي الله عنه في هذا الحديث أن يقول لعمر: اعلم يا عمر أنهم لو كانوا يؤدون شيئًا مهما قلَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بحكم كونه رئيسًا للدولة، وبحكم أنه تكليف على المؤمنين يجب عليهم أن يؤدوه مثل الزكاة، لقاتلتهم عليه مهما كان صغيرًا.
فجاء فريق آخر من العلماء قالوا: لا، هذه الرواية تجبَّها وتلغيها رواية أخرى صحيحة فيها «لو منعوني عناقًا» (العناق هو الأنثى من الماعز). فرد عليهم الأولون، قالوا: العناق الواحدة ليس فيها زكاة لأنه في كل أربعين شاة شاة واحدة. فهذا الموضوع لا ينطبق عليه.
وتجادلوا في معنى العقال والعناق، فقال قوم آخرون: لا هي عقال، ولكن المقصود بالعقال زكاة سنة كاملة، وهذا هو المقصود بقول أبي بكر: عقال.
فنقل النووي كلام أحد مشايخه الذين قالوا: أن نسبة هذه اللفظة إلى زكاة السنة تعسف وتكلف وخروج عن المراد بها؛ لأن المراد بها تقليل ما منعوه. مهما قل ما منعوه فأنا محاربهم عنه.
ثم «لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق»
هنا مسألة مهمة جدًّا:
لما يأتي إخواننا يدرسون الشورى ويقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف لم يأخذ بالشورى، وأبو بكر رضي الله عنه في بعض المواقف لم يأخذ بالشورى، يضربون بهذه الحادثة مثلاً. لأنه في بعض روايات الحديث في الكتب الصحيحة أن أبا بكر قال: «والله لأقاتلنهم ولو خرجت إليهم وحدي» فقالوا لم تكن هناك شورى هذا كان أمر بالإكراه، فيُرد عليهم بأن عمر قال: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق» أي شخص سمع عن عمر وعن سيرته يقول إن عمر يرى الحق ويجانبه؟!.. أم يرى الحق فيتبعه؟!
لا شك أن عمر إذا رأى الحق كان يتبعه، النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفاروق؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، وقال له إنه ما مشي في طريق إلا وهرب الشيطان منه. فعمر ليس الذي يرى الحق ويعدل عنه أو ينحرف.
فعمر كان إذا رأى الحق مضى وراءه، حتى عندما رده الرجل في موضوع منع طواف الرجال مع النساء في الحرم: فقد وجد عمر أن الدنيا زحمة والناس تطوف، فخاف من اللخبطة فنهى عن أن يطوف الرجال والنساء في وقت واحد. ثم في اليوم الثاني ذهب إلى المسجد فوجد رجلاً يطوف في وسط النساء في الوقت الذي كان مخصصاً للنساء. فضربه وقال له: "كيف تطوف في الوقت الذي نهيت عن الطواف فيه؟" فقال له: "أنا لم أسمع لك عزمة" (عزمة يعني أمرًا) يعني لم أسمع نهيك عن طواف الرجال مع النساء في هذا الوقت. فقال له عمر: "دونك القصاص" (فأعطاه الجلدة التي يضرب بها الناس ليقتص بها). فقال الرجل: "لا، تضربني في ملأ وتريد أن أقتص منك في خلوة(!) انتظر حتى إذا كان الغد في الموضع الذي ضربتني فيه تأتي فأضربك". فجاء عمر ثاني يوم ومعه الجلدة وأعطاها له وقال له تفضل القصاص. فقال له الرجل: "والله ما كنت لأقتص منك يا أمير المؤمنين ولكني أحببت أن يعرف من جاء للحج من قومي أنه ليس في هذا الدين فضل لأحد على أحد".
وهذا يذكرنا بالرجل، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت ضربت له ظهراً فهذا ظهري..." وهذا كان في وقت الوفاة، في آخر خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم على منبره. لكن يوم غزوة بدر أثناء ما كان يسوي الصفوف، خبط واحد على بطنه وقال له: ارجع (يعني ادخل في الصف) فالرجل زعل وقال له: أنت آلمتني فتعال أقتص منك. فقال له: تفضل اقتص مني كما ضربتك اضربني. فقال الرجل: لا حتى تُعري بطنك (الرجل في الغزوة كان لابس رداء وإزار فهذا الجزء من بطنه كان عاريًا) فلما عرى النبي صلى الله عليه وسلم بطنه، أهوى إليه وقبَّله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصنع؟ قال: إنما أردت أن يكون آخر عهدي في الدنيا إذا مت في هذه الحرب أن يمس جلدي جلدك. ومات شهيدًا.
فهذه الوقائع كثيرة في التاريخ الإسلامي الصحيح، وتدلنا على أن هذه الأمة نشأت على العدل وعلى المساواة، وعلى الجرأة من الحاكم أمام المحكوم، ومن المحكوم أمام الحاكم. ولهذا استقام أمرهم، فلما تركت هذا كله جرى عليها الذي تعرفونه.
فهذه هي المسألة المتعلقة بالشورى، لم يكن في هذا الأمر إجبار، ولم يكن فيه مخالفة للشورى. بل كان عمر رضي الله عنه قد عرف أنه الحق لما رأى الله شرح صدر أبي بكر للقتال، ولا يمكن لعمر أن يعرف أنه الحق فيخرج عنه.
أحب أن أقول لكم عن الزهري، الراوي الذي قالوا إنه مدلس في هذا الحديث. فأثناء بحثي في الأقوال التي نسبت إليه التدليس وجدت كلمتين، جميلتين: الأولى كلمة عمر بن عبد العزيز قال: «لم يبق في زماننا على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية من الزهري»؛ ليس هناك على وجه الأرض في زمن عمر بن عبد العزيز واحد أعلم بالسنَّن الثابتة، السنَّة الماضية يعني سنَّة ثابتة قديمة منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نسبة صحيحة معمولاً بها، ونقلها العلماء وتلقاها الناس بالقبول فعملوا بها. والكلمة الثانية كلمة مالك بن أنس، ينقل عن شيخه ابن أبي ذئب يقول: "قال ابن أبي ذئب بقي ابن شهاب (وهو ابن شهاب الزهري) وليس له في الدنيا نظير" أي أنه عاش مدة من الزمن حتى أصبح وحيد زمانه ليس له في الدنيا نظير.
فالرجل بهذه المكانة، ثم يقرأ واحد كلمة مدلس، ويفهم كلمة مدلس على أنه كذاب، ثم يُكذِّب أحاديثه! فسيضيع لنا الثقة ليس بهذا الحديث فقط، ولكن بنصف أحاديث مسلم والبخاري وأبي داوود والترمذي وغيرها. إن ما يسمّى تدليس الزهري هو ما وقع في بعض ما رواه من الحديث مرسلا لا فيما رواه مسندًا، فإن ما أسنده لم يعبه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هم مطبقون على الاحتجاج به والثناء عليه. قال الذهبي فيه، في سير أعلام النبلاء: «إمام العلم، حافظ زمانه» وقال عنه «الثبت الحجة. وأين مثل الزهري رحمه الله؟».
* * *
الحديث الثاني الذي أتى به المختصر هو حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
لو كان هذا النص ثابتًا عند أبي بكر وعمر، لكان كل الجدل الذي سمعناه في الحديث الأول ليس له لزوم، لأن أبا بكر كان احتج عليه بأن النبي أمر أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا لم يفعلوا واحدة من الاثنتين يجوز له أن يقاتلهم.
تبقى عبارة: و«حسابهم على الله»، وهي واردة معنا في الحديثين. فما معناها؟ لأنه إذا أقام الصلاة وآتى الزكاة وأصبح مسلمًا ودخل في ملة الإسلام من سيحاسبه؟ بالطبع حسابه على الله.
قال العلماء: ليس هذا هو المعنى المراد، وإنما المعنى أنَّ حسابهم على الله فيما أخفوه، حسابهم على الله فيما أبطنوه، حسابهم على الله فيما لا نعرفه من أحوالهم؛ لأن لنا الظاهر والله يتولى السرائر. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أحكم بالظاهر» وقال للذين اختصموا إليه: «إنما أنا بشر وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ظلمًا فلا يأخذه، فإنما أقضي لهم بجمرة (أو بقطعة) من النار».
إذن وحسابهم على الله فيما أخفوه، حسابهم على الله فيما أبطنوه، حسابهم على الله فيما لم يبدوه لنا، إما من معاصي إن شاء الله أن يغفرها أو شاء أن يحاسب بها فهذا أمره. وإما من طاعات لا نعرفها فلا نذكرها وتخفى، وتجد الواحد يموت فيقولون: والله كان فاتح كذا بيت، ده كان بيعمل كذا لفلان. وأهله وأولاده وزوجته لا يعرفون عنه شيئًا. هذا الإخفاء حسابه عند من؟ حسابه على الله تبارك وتعالى.
فكلمة حسابهم على الله ليست فقط العقاب إنما الحساب يشمل الثواب ويشمل العقاب، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، عليها هذه ليست لازمة، عليها هذه قد يغفرها الله تعالى وقد يعفو عنها، وقد يتجاوز. وقد تكون هناك أسباب لا نطَّلع عليها: ربنا اطَّلع على امرأة سقت كلبًا فأدخلها الجنة واطَّلع على امرأة حبست هرة فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض فأدخلها النار، والناس الذين من حولهم لا يعرفون. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمر:«ما يدريك لعل الله قد اطَّلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم». فنحن لا نعرف إطلاع الله على عباده وما أخفاه لهم من ثواب أو من عقاب. فمعنى حسابهم على الله في الحالين حساب المثوبة، أو حساب العقوبة كلاهما على الله سبحانه وتعالى ولا شأن لنا بها.
موضوع الردة: هذا القتال كان قتال المرتدين. موضوع الردة موضوع اختلطت فيه الآراء، وكثير من الناس قالوا كلامًا صحيحًا، وكثيرون قالوا كلامًا فاسدًا أكثر من الصحيح، وزعموا أن هناك إكراهًا للناس على الدين.
لكن حقيقة موضوع الردة لخصها الإمام الجليل أبو سليمان الخطَّابي صاحب «معالم السنن» ومعالم السنن هو شرح لسنن الإمام أبي داوود، وهو شرح كبير قال عنه العلماء: من اطلع على هذا الكتاب وحده من كتبه أيقن بإمامته.
الخطابي تكلم عن الردة فقال إن الناس كانوا صنفين:
صنف ارتد عن الدين ونابذوا المِلة وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة في قوله في هذا الحديث «وكَفَر منْ كَفَر من العرب» هؤلاء كفروا كفرًا صريحاً وأنكروا الإسلام وارتدوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية.
وهذه الفرقة طائفتان: أحدهما أصحاب مسيلِمة من بني حنيفة وغيرهم...، والأسود العنسي وسجاح.. وغيرهم من الذين صدَّقوهم على دعواهم النبوة، ومن كان يستجيب لهم من أهل الأمصار وأهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مُدعيَّة بنبوة غيره. فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قَتَلَ اللهُ مسيلٍمة الكذاب باليمامة وكان الأسود العنسي قد قتل بصنعاء قبل موت النبي e بقليل ومن بقي من أتباعه قاتلهم عمال النبي e في عهد أبي بكر وقضي على فتنته بعودة غالب هؤلاء إلى الإسلام. وانقضت جموعهم وهلك أكثرهم. فهؤلاء قُوتِلوا على الكفر الصراح. هم ارتدوا وادعوا نبوة لغير محمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن يقول «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين» فمن يدَّعي النبوة من بعده فهو كافر به وبالقرآن، ومن صدَّق بنبوة غيره بعده فهو أيضًا كافر به وبالقرآن؛ لأنه لا يجوز لمسلم أن يصدق بنبوة أحدٍ بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فهذه هي الطائفة الأولى من المرتدين الذين كفروا كفرًا صريحًا.
والطائفة الثانية أنكروا الشرائع، كان ارتدادهم عن الدين بأن أنكروا الشرائع، وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. حتى إنه لم يكن يُسجد لله تعالى في بسيط الأرض كلها إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس في البحرين (الأحساء الآن) في قرية يقال لها جواثى. وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم محصورين بجواثى (ذكر في اسمها أيضًا جواثاء، وجؤاثا)، لا يستطيعون الخروج من قريتهم إلى أن فتح الله على المسلمين اليمامة، فاستنجد بعضهم بأبي بكر. وهؤلاء كانوا عددًا قليلاً بضع عشرات أو مئة.
الصنف الثالث هم الذين رُويَ عنهم أنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، وقالوا نؤدي الصلاة ولا نؤتي الزكاة؛ لأن أداء الزكاة كان لمحمد صلى الله عليه وسلم لأن ربنا تعالى قال له: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم». فهؤلاء قالوا: لا نؤدي الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنًا لنا.
ثم إن المرتدين الذين تركوا الإسلام جملة لم يكونوا جالسين في بيوتهم، وإنما حملوا السيف واتبعوا نبيًا جديدًا، وتأهبوا لغزو المدينة، وأرادوا أن يفتكوا بمن بقي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فلو قعد المسلمون عن مقاتلتهم لضاع الإسلام وقتها. فكان من رحمة الله وتوفيقه لأهله أن قيض أبا بكر لهذا الموقف العظيم.
* * *
جاء بعد ذلك إلى باب «من قتل رجلاً من الكفار بعد أن قال: لا إله إلا الله» وهذا من الأبواب الجميلة في الإسلام. وفي هذا الباب أورد المنذري الحديث الذي رواه مسلم: «عن المقداد بن الأسود أنه قال: "يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله. أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: "يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».
المنذري أتى بهذا الحديث في الأول مع أن مسلم جاء به في آخر الباب، لأن المنذري اعتبر أن حديث المقداد سؤال في قضية عامة، سؤال في قاعدة عامة. مسلم جاء في أول الباب بحديث أسامة بن زيد؛ لأن رواته عنده أوثق، وإن كانوا كلهم من طبقة أهل الثقة.
وكما قلت، إن هذا كتاب آخر غير صحيح مسلم، هو مأخوذ مما في صحيح مسلم لكنه كتاب من تأليف المنذري على حسب فهمه للموضوع.
* * *
الحديث الرابع: جاء بعد ذلك بالحديث الآخر، وهو الحديث المروي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبَّحنا الحروقات من جهينة (الحروقات بطن من بطون قبيلة جهينة) فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك (يعني حدثته نفسه أن هذا موضوع مهم) فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه (هل فتحت قلبه ورأيت أقالها خوفاً من السلاح أم قالها يقيناً) حتى تعلم أقالها أم لا؟! قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ».
قال، (القائل هنا الراوي عن أسامة بن زيد. المنذري لم يأت باسمه لأن المنذري بدأ بالصحابي أول الحديث فقط). قال الراوي عن أسامة بن زيد إن سعد بن أبي وقاص الذي حدثهم بهذا الحديث عن أسامة قال: "وأنا والله لا أقتل مسلمًا حتى يقتله ذو البطين". يعني أسامة
(متى كان هذا؟.. هذا في فتنة علي ومعاوية رضي الله عنهما، عندما قالوا لسعد، خال رسول الله، ومُجاب الدعوة: "ترمي فتصيب من عشرة عشرة ثم تترك عليًّا وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهلكهم أهل الشام؟" قال: «ما عندي إلا سيف من خشب» (أمسك بعصا) فقالوا له: ليس عندك سلاح تخرج تقاتل به؟ قال لنا: «حتى تأتوني بسيف يقول يا سعد هذا مسلم فلا تقتله، وهذا مشرك فاقتله» فقالوا له: كيف نصنع ذلك؟ وهذا بقية الحديث....قال: قال رجل ألم يقل الله تعالى «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» فقال سعد: قد قاتلنا (يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم) حتى لا تكون فتنة وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة» (أنتم تُقاتلون حتى توقعوا الفتنة بين فريقين كبيرين من المسلمين، على رأس هذا صحابي جليل وعلى رأس الثاني صحابي جليل، وأنتم تمشون بينهم بالفتن. قال سعد: نحن قاتلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قتال المشركين، وبعد ذلك في الغزوات حتى لا تكون فتنة) فامتنع سعد عن القتال في فتنة علي ومعاوية أخذًا بحديث أسامة رضي الله عنه.
* * *
الحديث الخامس: «عن صفوان بن محرز أن جُنْدَبَ بن عبد الله البَجَلي (وهو صحابي) بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير (فتنة ابن الزبير كانت أيام يزيد بن معاوية، يعني بعد فتنة علي ومعاوية بسنين) فقال اجمع لي نفراً من إخوانك (عسعس بن سلامة وإخوانه كانوا مع عبد الله بن الزبير) حتى أحدثهم، فبعث رسولاً إليهم، فلما اجتمعوا جاء جُنْدَبٌ وعليه برنس أصفر (البرنس هو رداء متصل به غطاء للرأس، ومزية لبسه أنه يخفي المعالم قليلاً) قال: تحدثوا بما كنتم تحدثون به، حتى دار الحديث، فلما وصل الحديث إليه، حسر البرنس عن رأسه (لكي يعرفوه قبل أن يتكلم) فقال: إني أتيتكم لا أُريد أن أُخبركم إلا عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قومٍ من المشركين، وإنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد إليه فقتله، (كان شديد البأس كلما أراد أن يقتل واحداً من أبطال المسلمين يذهب ويقتله) وإن رجلاً من المسلمين تحين غفلته وفي رواية قصد غفلته، قال: وكنا نُحدَّث (إذن، جندب لم يكن حاضراً الواقعة لكن الناس حكوا له) أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف (رفع أسامة على هذا المشرك الذي يقتل كل مسلم يراه) قال (الرجل) لا إله إلا الله. فقتله أسامة بعد أن قالها. فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله (أي عن أحبار من جاء من عندهم من المسلمين)، فأخبره خبر الرجل وكيف صنع. فدعاه (أي دعا أسامة) فسأله فقال: "لم قتلته؟" فقال: "يا رسول الله أوجع في المسلمين، فقتل فلاناً وفلاناً" (سمى له نفراً من الصحابة) وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله." قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته؟" قال: "نعم." قال: "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!" قال: "يا رسول الله استغفر لي." قال: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!" قاليعني جندب) فجعل لا يزيده على أن يقول له «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة». فأسامة يستزيد صلى الله عليه وسلم طلب المغفرة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه إلا بقول «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة».
هذا الحديث برواياته المختلفة أصل لا يجوز لأحد أن يغفل عنه. ومن غفل عنه فإن أحسن حالاته أن يكون كأسامة بن زيد. على أن أسامة بن زيد لا يمكن أن يساويه أحد لأنه لم يكن قد أُخبر بعدم جواز قتل من قال لا إله إلا الله، لم يكن قد بلغه الحكم إنما جاء هذا التشريع بعد فعلة أسامة.
القاعدة العامة هي التي في حديث المقداد: لا يجوز أن يَقْتُل أحد أحدًا يقول لا إله إلا الله. طيب، فيأتي واحد يتأول أنه يقول لا إله إلا الله ولكنه يحكم بالقانون الوضعي وليس بالشريعة الإسلامية!!.. إنه يقول لا إله إلا الله ولا يطلق ذقنه، أو يقول لا إله إلا الله وزوجته غير محجبة!!...
مادام قال لا إله إلا الله فقد عصم منك ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله. طيب، إلا بحقه التي قيلت في حديث عمر وأبي بكر: إلا بحقهما. حقهما هذا يقوم بتقديره وتقريره ودعوة الناس للعمل به الحاكم الشرعي المسلم الذي يحكم بالشريعة، الذي يعرف الحلال والحرام، والذي إما أن يكون مجتهدًا وإما أن يكون عنده من المجتهدين من يدلونه على الأمر الواجب فيفعله، أو عن المنهي عنه فلا يفعله. ولكن ليس كل فتاة ولا شاب ولا رجل ولا جماعة يستطيع أن يقرر أن هذا خرج عن مقتضى لا إله إلا الله ولم يأت بحقها فيجوِّزُ قَتْلًه. لقد قُتِل أُناس كثيرون بغير حق على هذا التأويل، فتاوى باطلة قالها أناس ضلوا السبيل لأنهم ظنوا أن من حقهم أن يقرروا أن هذا قد أتى حقها وهذا لم يأت بحقها. حتى الحاكم لا يجوز أن يقتل إلا بحق، فإن قتل بغير حق فهو آثم ويحاسب بها يوم القيامة. فإيانا ثم إيانا أن نسمع لأحد أو نطيع أحدًا أو نداهن أحدًا يزعم أن من حقه أن يقرر من الذي يُقتَل ومن الذي يعيش. كل من يقول لا إله إلا الله معصوم الدم، ولا يجوز لأحد أن يترخص في هذا. والمترخص في هذا آثم إثمًا عظيمًا أدناه أن يكون كأسامة، ولا يمكن لأحد أن يكون كأسامة؛ لأن أسامة كما قلت قتل الرجل حين لم يكن التشريع قد نزل. التشريع نزل في حالته هو، فلا ينطبق عليه. وإنما كان هذا تحذيرًا من النبي صلى الله عليه وسلم وتخويفًا له، وترويعًا للمسلمين الذين يأتون من بعده من أن يقعوا في مثل هذه الفعلة، فيقتل بعضهم بعضًا. والنبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه نظر إلى الكعبة فقال:«ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والله لمحجمة (التي تحجم الدم الفاسد) من دم امرئ مسلم أعظم حرمة عند الله منك». فإذا جاء الحاكم يوم القيامة محملاً بدماء الناس، قد قتل هذا، وسجن هذا ،وضرب هذا، أين سيذهب؟
* * *
الباب الذي بعد ذلك هو باب «من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاك فيه» أي ليس عنده أدنى شك في هذا الإيمان، الإيمان مستقر في قلبه مستيقن في نفسه.
وفيه الحديث الخامس من أحاديث هذه المحاضرات المنذري عندما ألف، لم يفعل مثل مسلم ويرتب الأحاديث حسب رجاحة الرواة، إنما أتى المنذري في أول كل باب بحديث مثل القاعدة، وأتى هنا بحديث عثمان «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» قاعدة لو حفظناها تكفينا عن الباقي.
* * *
الحديث السادس: «عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن أبي سعد رضي الله عنه (الشك من الأعمش) قال: لما كنا يوم غزوة تبوك (يعني في زمن غزوة تبوك وليس في يوم محدد لأنه ليس هناك يوم محدد لغزوة تبوك كانت مدة سفر وعودة) أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذِنت لنا فنحرنا نواضحنا (النواضح هي الإبل التي يحملون عليها الماء) فأكلنا وادَّهنّا (أكلنا لحمها واستعملنا دهنها لأجسامنا فيطرِّي الجلد ويجعله قادرًا على تحمل أشعة الشمس وما إليها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. فجاء عمر (وفي بعض الروايات فزعاً) فقال: يا رسول الله إذا فعلت قل الظهر (إذا ذبحوها لن تكون لدينا دواب كافية نركبها) ولكن ادعهم (اجمع أصحابك ومرهم أن يأتوا) بفضل أزوادهم (يأتي كل منهم بما بقي معه من الزاد) ثم ادع الله لهم بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك (يعني يجعل في ذلك بركة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فدعا بنِطع فبسطه (النِطع هو قطعة من الجلد، بساط من الجلد، جلد بقرة أو ناقة فيفرشوه) ثم دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكِسرة (أي من الخبز) حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم، (قصة الدعوة على الطعام القليل متكررة جداً، قال النووي أنها بلغت مبلغ التواتر الذي لا ينكره إلا شاك، ولكن يجب أن نتوقف عند الألفاظ التي استعملت لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة) قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءًا إلا ملؤه فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة (بعض الطعام) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيُحجَبَ عن الجنة».
وفي الوقائع الأخرى تكررت عبارات مثل هذه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العلماء قولا جميلا:
قالوا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفيه أن يدعو بالبركة، فيُبَارِكَ الله في الطعام، ويأكل الناس ويعرفوا أنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد إيمانهم ويستيقنوا أنه نبي من عند الله. إنما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ليعلموا أن المعجزة ليست من صنعه، وأن البركة ليست من عنده، وإنما هو داعٍ، والله هو الذي بارك في الطعام، وزود الأزواد.
لأننا لو ظننا أن للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا صنعًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم شريكًا لله تبارك وتعالى في قدرته، وهذا محال. وتفرد الله سبحانه وتعالى وحده بالقدرة على الإطعام وعلى الإشباع والرزق والزيادة والإنقاص إلى آخر ما نعرف هو الاعتقاد الصحيح الذي لا يجوز لمسلم مخالفته. واستجابة الله سبحانه وتعالى لدعاء نبيه e فضل منه سبحانه وإكرامٌ لهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كلمة «لعل» التي قالها عمر للنبي e، لعل وقد وعسى ونحو ذلك لها استعمالات، ومن معانيها التحقيق. وإذا قيلت في حق الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، أو في صحيح السنَّة، أو في كلام الصحابة، فمعناها التحقيق، لعل الله يعني أنا موقن أن الله سيبارك في هذا الطعام.
فهناك فرق بين التألي الذي يدَّعي فيه الإنسان أنه يعلم علمًا يقينيًا منفصلاً عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وعن رحمته وعن قدرته، وبين الذي يتيقن: بعلمه برحمة الله، ويقينه بسعة قدرته وعمق تصديقه بمحمد صلى الله عليه وسلم أن الله لن يضيعه.
فليس في مثل هذا تألٍ أن يقول لعل بمعنى أنا واثق، أنا متيقن، فذلك ليس فيه تألٍ. ذلك الذي تألى قال للرجل لن يغفر الله لك أبدًا، فغفر الله للعاصي وأحبط عمل الطائع المتألي. تيئيس الناس من رحمته والحكم عليهم بعدم دخول الجنة أو بالدخول في النار، هذا هو التألي على الله عز وجل.
وهناك فرق بين الاثنين: أن تُطمِع الناس، كما جاء الرجل لعبد الله بن عباس وقال له:«القاتل له توبة؟» فقال له: «توبة إن شاء الله» قال: «من أين؟» قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ألم تسمع إلى قول الله تعالى «إن الله يغفر الذنوب جميعًا» قال: «بلى» قال: "فللقاتل توبة".
ثم بعد عدة أيام جاء إليه رجل آخر يقول له: «أللقاتل توبة؟» قال: «لا» قال: «من أين؟» قال: «ألم تسمع إلى قول الله تعالى «ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا...». فمجاهد تلميذه كان يمشي معه في الواقعتين فقال له: «يا ابن عم رسول الله قلت للأول كذا وقلت لهذا الرجل كذا» قال: «لقد رأيت في وجه الأول توبة وندمًا وعلمت أنه قاتل يريد أن يتوب فيتوب الله عليه، ففتحت له باب رحمته تبارك وتعالى. ورأيت في وجه الثاني غضبًا ونقمة، فخشيت أن يكون قد انتوى قتلاً فأردت أن أصده».
فهذه الفراسة عند المؤمنين، وبالذات عند الطبقة العليا من الصحابة، واردة ومتوفرة ومشهورة، ولا يمكن أن يكذبها أحد، فكلمة «لعل» هنا من باب اليقين في رحمة الله وليست من باب التألي الممنوع شرعًا؛ والله أعلم.
* * *
الحديث السابع: «عن عبد الرحمن بن عُسَيْلَة المرادي ثم الصُّنابحي (وهو تابعي جليل هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات النبي قبل وصوله إلى المدينة بليالٍ معدودة. فكان يقول ليتني عجَّلت) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال (الذي قال هو عبد الرحمن بن عُسَيلة) قال: دخلت عليه (على عبادة بن الصامت) وهو في الموت فوجدته يبكي فقلت: مهلاً لم تبكي؟ فوالله لئن استشهدُتُ (يوم القيامة) لأشهدن لك ولئن شُفِّعتُ لأشفعن لك ولئن استطعتُ (في الآخرة) لأنفعنك (هذا يقين وثقة بالله أنه يكرم عباده) ثم قال (عبادة بن الصامت): والله ما من حديث سمعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثًا واحدًا وسوف أحدثكموه اليوم فقد أحيط بنفسي. قال (عبادة بن الصامت) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرَّم الله عليه النار».
هذا هو الحديث الذي أخفاه عبادة بن الصامت إلى أن كان في الاحتضار فقاله لمن حضره ومنهم عبد الرحمن بن عسيلة.
لماذا يُخفي واحد أحاديث؟ هو بيَّنَ العِلَّةَ، قال: "ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير". العلماء بحثوا عن الأحاديث التي ليس فيها خير، قالوا إن بعض الصحابة لم يُحدِّثوا بأحاديث أشراط الساعة، وبعض الصحابة لم يتحدثوا عن أحاديث فيها ذكر أقوام بأعينهم، يعرفونهم لأنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، بأوصاف سوء أو بأوصاف غير مستحسنة، وبعض الصحابة لم يتحدثوا عن الأحاديث التي لا عمل تحتها مثل أحاديث يأجوج ومأجوج، وأحاديث عذاب القبر، وبعض الصحابة لم يتحدثوا بالأحاديث التي لا ضرورة لذكرها كأخبار المنافقين الذين أبادهم الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد عمر وعهد عثمان، وبعض الصحابة لم يرضوا أن يتحدثوا بأحاديث خشية أن يكون قد اختلط عليهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعوه من غيره.
عبارة «بيَّن السبب» قال أنا كنت حدثتكم بجميع الأحاديث التي فيها خير لكم، الآن أوشك أن أموت، وكما قال أبو داوود: إنما ترك عبادة هذا الحديث فحدث به عند موته تأثمًا، (خشية الإثم أو أن يقع في الذنب) أنه كتم علمًا مما ينفع الناس.
هذا الحديث والحديث الذي قبله والأحاديث التي ستأتي معنا بعد ذلك إن شاء الله كلها تدور في هذا المعنى، في معنى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، وأن من آمن به إيمانًا لا يداخله شك دخل الجنة، وأن من اختلط في قلبه شك بالإيمان هو الذي عليه الخوف، وربنا سبحانه وتعالى يتولى أمره. حتى في هذا، ليس من حقنا أن نقطع في كلامنا بكفره أو دخوله النار؛ لأن الله تبارك وتعالى يحاسب الناس بما علِم ونحن نحاسب الناس بما ظهر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وحسابهم على الله» وقال عن شهادة ألا إله إلا الله: «فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم (أي في شأن الباطن الذي لا أطلع عليه، في الآخرة) على الله تعالى».
والله سبحانه وتعالى أعلم
دكتور محمد سليم العوَّا
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(2)
المختصر الذي نقرأه هو مختصر الإمام المنذري. حققه وعلق عليه تعليقات مختصرة جدًّا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه. وأنا أستعمل فيما أقوله من معلومات حوله أربعة كتب: شرح النووي وشرح القاضي عياض، وشرح السنوسي والأبي المطبوعين معًا. وهما تكملة لشرح القاضي عياض وشرح الشيخ موسى شاهين لاشين الذي كان عميد كلية أصول الدين فتح المنعم بشرح صحيح مسلم.
* * * * *
سنبدأ بالباب الذي عنونه الإمام المنذري بباب «أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأورد فيه حديثين أحدهما لأبي هريرة والثاني لعبد الله بن عمر بن الخطاب.
حديث أبي هريرة فيه أنه «لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» هذا كلام سيدنا عمر وهذه روايته للحديث. فقال أبو بكر رضي الله عنه: «والله لأُقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.» فقال عمر بن الخطاب: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق».
هذا الحديث من الأحاديث الأمهات في السنَّة الصحيحة وعليه كلام كثير من الأقدمين والمحدثين. وبعض الإخوان استبطلوا الحديث لأنه يتضمن جواز الإكراه في الدين، والإكراه في الدين منفي بنص القرآن الكريم الذي يقول فيه ربنا «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي». واستبطل الحديث يعني طلب بطلانه،أو زعم بطلانه، وأنا أقول استبطل الحديث لأنه ليس باطلاً، فهو حديث صحيح ومعناه صحيح.
استبطل الحديث بأمرين: الأمر الأول أن فيه وجوب مقاتلة كل الناس إلى أن يقولوا لا إله إلا الله، والأمر الثاني أن أحد رواته متهم بالتدليس.
أريد أن أقف عند الأمر الأول لأن الأمر الثاني متعلق بعلم الرجال وعلم المصطلح وبمعنى التدليس نفسه، والتدليس طبقات وأنواع ومنه تدليس مقبول وتدليس غير مقبول، وتدليس عن ثقات وتدليس عن كذابين.
ولكن أُريد أن أقف عند الكلمة الأولى «أُمرت أن أقاتل الناس» الناس هنا ليسوا كل الخلق، الناس هنا هم فئة خاصة من الناس، قال العلماء إنهم مشركو العرب من عبدة الأوثان ونحوهم. لماذا قالوا عبدة الأوثان ونحوهم؟ لأنه كان هناك ناس يعبدون الأوثان ويقولون إنها آلهة تنفع وتضر، وناس يعبدون الأوثان لتقربهم إلى الله زلفى، وناس يعبدون الأوثان لأنهم وجدوا آباءهم على أمة وهم على آثارهم مقتدون. فليس كل الذين يعبدون الأوثان كانوا على نسق واحد أو نمط واحد، كان منهم أنماط وأنساق مختلفة.
فقالوا "الناس" في قول النبي «أُمرت أن أُقاتل الناس» مقصود بها مشركو العرب وعبدة الأوثان وغيرهم. واستدلوا على ذلك بأن الله تبارك وتعالى ذكر في القرآن لفظ الناس ولا يعني به كل الناس في الآية «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» فلا الناس الذين قالوا كانوا كل الناس، ولا الناس الذين جمعوا كانوا كل الناس. إنما الناس الذين قالوا كانوا ركبًا مسافرين، والناس الذين جمعوا كانوا بقايا من بقيَ من قريش أو من تجمع من قريش للرجوع إلى مكة بعد غزوة أحد.
فإذا فهم أحد من كلمة الناس أنهم الخلق جميعًا، فالمشكلة عنده هو، ويتعين عليه أن ينظر في التعبير العربي كيف مضى، وفي السُنَّة العربية كيف مضت.
أحد العلماء الأحناف يقول: إن للعرب في كلامها سمَتًا، من علمه علم معنى كلام الله ورسوله. ومن جهل سمت كلام العرب (السَمت هو الشكل، هو اللفظ، هو النسق) لم يستطع أن يدرك معنى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن سمت كلام العرب أن تذكر الجزء تريد به الكل، وتذكر الكل تريد به الجزء.
والإمام النووي يقول في شرحه إن هذا كثير في لسان العرب: التعبير عن الجزء بلفظ يشمل الجميع، أو التعبير عن الكل بلفظٍ أصل دلالته جزئية.
والقاضي عياض يقول إنهم المشركون من عرب الجزيرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» فجعل التخصيص بحديث آخر دل على اختصاص هذه الجزيرة بحماية الإسلام وحفظه، وأنها حوزته. وعندنا الحديث «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني يرجع وينحصر وتكون المدينة مصدر قوته ومصدر انفتاحه وانتشاره مرة ثانية. وعندنا الحديث «الإيمان يمان والحكمة يمانية» ليس معناه أن كل الإيمان في اليمن، ولا معناه أن أهل اليمن أكثر الناس إيمانًا. إنما الوفد الذي جاء للرسول صلى الله عليه وسلم كانت هذه صفتهم. فعندنا أحاديث كثيرة تدل على أن المراد بهذا اللفظ العام معنى خاص، فهو من العام الذي يراد به الخاص، وليس من العام الذي يراد به العام. وعندنا هذان النوعان من الألفاظ كثيرًا في كلام العرب.
الأمر الثاني أن هذا الحديث رُوِيَ بروايات عدة منها روايتان أخريان في مسلم إحداهما عن أنس والثانية عن عبد الله بن عمر وفيهما تفاصيل.
لكن الصاحبين الجليلين أبا بكر وعمر لم يسمعا هاتين الروايتين المفصلتين. في الروايات الأخرى «وصلى وصام وزكى وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا». إذن، هناك روايات مفصلة لو كان الصاحبان قد سمعاها لما وقع بينهما هذا الجدال ولما احتج أبو بكر بالقياس ولما استجاب عمر لدليل القياس. لأن الذي فعله أبو بكر أنه قال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال» إذن هو استعمل القياس. وعمر يقول: «فما أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق» فاستجاب لدليل القياس.
لو كان عندهم الدليل النبوي، النص الذي سيأتي معنا في حديث عبد الله بن عمر وحديث أنس، ما كانا احتاجا لهذا الجدال لأن الحديث حُجة على عمر. إذاً يجوز أن يفوت على الكبير في العلم والمقام، والقديم في الصحبة والملازم للنبي صلى الله عليه وسلم، علمٌ حضره أو سمعه أو نقله، أو نُقِل إلى من هو أقل منه صحبة ودراية وأقل منه وقتاً قضاه مع النبي صلى الله عليه ومسلم أو علمًا بمجمل سنته. لأنه لا شك عند أحد أن أبا بكر وعمر كانا أعلم بمجمل السُنَّة من عبد الله بن عمر ومن أنس. ومع ذلك حفظ أنس وعبد الله بن عمر حديثًا لم يحفظه الصاحبان الكبيران أبو بكر وعمر.
ثم «فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقَالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم...» هذه الكلمة أيضًا وقف عندها العلماء وقوفًا طويلاً.
العِقَال هو الحبل الذي يقاد به البعير، أو يربط به في سارية أو جدار حتى لا يفلت. فأبو بكر عندما يقول لو منعوني عِقالاً يريد أن يقول لو منعوني أدنى شيء كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العِقال ليس من الزكاة. فقال العلماء: لا، بل العقال من الزكاة. لأن عمر عندما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات كان لا يأخذ بعيرًا ولا ناقة إلا بِعِقالها. وعندما ولّي محمد بن مسلمة زكوات البحرين كان لا يأخذ فريضتين إلا بعقالين، فريضتين يعني ناقتين أو جملين أو شاتين أو أي نوع من أنواع الإبل والغنم، لا يأخذها إلا ومعها عقالها. لكن هذا تكلف في الحقيقة لأن مقصود أبي بكر رضي الله عنه في هذا الحديث أن يقول لعمر: اعلم يا عمر أنهم لو كانوا يؤدون شيئًا مهما قلَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بحكم كونه رئيسًا للدولة، وبحكم أنه تكليف على المؤمنين يجب عليهم أن يؤدوه مثل الزكاة، لقاتلتهم عليه مهما كان صغيرًا.
فجاء فريق آخر من العلماء قالوا: لا، هذه الرواية تجبَّها وتلغيها رواية أخرى صحيحة فيها «لو منعوني عناقًا» (العناق هو الأنثى من الماعز). فرد عليهم الأولون، قالوا: العناق الواحدة ليس فيها زكاة لأنه في كل أربعين شاة شاة واحدة. فهذا الموضوع لا ينطبق عليه.
وتجادلوا في معنى العقال والعناق، فقال قوم آخرون: لا هي عقال، ولكن المقصود بالعقال زكاة سنة كاملة، وهذا هو المقصود بقول أبي بكر: عقال.
فنقل النووي كلام أحد مشايخه الذين قالوا: أن نسبة هذه اللفظة إلى زكاة السنة تعسف وتكلف وخروج عن المراد بها؛ لأن المراد بها تقليل ما منعوه. مهما قل ما منعوه فأنا محاربهم عنه.
ثم «لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق»
هنا مسألة مهمة جدًّا:
لما يأتي إخواننا يدرسون الشورى ويقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف لم يأخذ بالشورى، وأبو بكر رضي الله عنه في بعض المواقف لم يأخذ بالشورى، يضربون بهذه الحادثة مثلاً. لأنه في بعض روايات الحديث في الكتب الصحيحة أن أبا بكر قال: «والله لأقاتلنهم ولو خرجت إليهم وحدي» فقالوا لم تكن هناك شورى هذا كان أمر بالإكراه، فيُرد عليهم بأن عمر قال: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق» أي شخص سمع عن عمر وعن سيرته يقول إن عمر يرى الحق ويجانبه؟!.. أم يرى الحق فيتبعه؟!
لا شك أن عمر إذا رأى الحق كان يتبعه، النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفاروق؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، وقال له إنه ما مشي في طريق إلا وهرب الشيطان منه. فعمر ليس الذي يرى الحق ويعدل عنه أو ينحرف.
فعمر كان إذا رأى الحق مضى وراءه، حتى عندما رده الرجل في موضوع منع طواف الرجال مع النساء في الحرم: فقد وجد عمر أن الدنيا زحمة والناس تطوف، فخاف من اللخبطة فنهى عن أن يطوف الرجال والنساء في وقت واحد. ثم في اليوم الثاني ذهب إلى المسجد فوجد رجلاً يطوف في وسط النساء في الوقت الذي كان مخصصاً للنساء. فضربه وقال له: "كيف تطوف في الوقت الذي نهيت عن الطواف فيه؟" فقال له: "أنا لم أسمع لك عزمة" (عزمة يعني أمرًا) يعني لم أسمع نهيك عن طواف الرجال مع النساء في هذا الوقت. فقال له عمر: "دونك القصاص" (فأعطاه الجلدة التي يضرب بها الناس ليقتص بها). فقال الرجل: "لا، تضربني في ملأ وتريد أن أقتص منك في خلوة(!) انتظر حتى إذا كان الغد في الموضع الذي ضربتني فيه تأتي فأضربك". فجاء عمر ثاني يوم ومعه الجلدة وأعطاها له وقال له تفضل القصاص. فقال له الرجل: "والله ما كنت لأقتص منك يا أمير المؤمنين ولكني أحببت أن يعرف من جاء للحج من قومي أنه ليس في هذا الدين فضل لأحد على أحد".
وهذا يذكرنا بالرجل، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت ضربت له ظهراً فهذا ظهري..." وهذا كان في وقت الوفاة، في آخر خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم على منبره. لكن يوم غزوة بدر أثناء ما كان يسوي الصفوف، خبط واحد على بطنه وقال له: ارجع (يعني ادخل في الصف) فالرجل زعل وقال له: أنت آلمتني فتعال أقتص منك. فقال له: تفضل اقتص مني كما ضربتك اضربني. فقال الرجل: لا حتى تُعري بطنك (الرجل في الغزوة كان لابس رداء وإزار فهذا الجزء من بطنه كان عاريًا) فلما عرى النبي صلى الله عليه وسلم بطنه، أهوى إليه وقبَّله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصنع؟ قال: إنما أردت أن يكون آخر عهدي في الدنيا إذا مت في هذه الحرب أن يمس جلدي جلدك. ومات شهيدًا.
فهذه الوقائع كثيرة في التاريخ الإسلامي الصحيح، وتدلنا على أن هذه الأمة نشأت على العدل وعلى المساواة، وعلى الجرأة من الحاكم أمام المحكوم، ومن المحكوم أمام الحاكم. ولهذا استقام أمرهم، فلما تركت هذا كله جرى عليها الذي تعرفونه.
فهذه هي المسألة المتعلقة بالشورى، لم يكن في هذا الأمر إجبار، ولم يكن فيه مخالفة للشورى. بل كان عمر رضي الله عنه قد عرف أنه الحق لما رأى الله شرح صدر أبي بكر للقتال، ولا يمكن لعمر أن يعرف أنه الحق فيخرج عنه.
أحب أن أقول لكم عن الزهري، الراوي الذي قالوا إنه مدلس في هذا الحديث. فأثناء بحثي في الأقوال التي نسبت إليه التدليس وجدت كلمتين، جميلتين: الأولى كلمة عمر بن عبد العزيز قال: «لم يبق في زماننا على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية من الزهري»؛ ليس هناك على وجه الأرض في زمن عمر بن عبد العزيز واحد أعلم بالسنَّن الثابتة، السنَّة الماضية يعني سنَّة ثابتة قديمة منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نسبة صحيحة معمولاً بها، ونقلها العلماء وتلقاها الناس بالقبول فعملوا بها. والكلمة الثانية كلمة مالك بن أنس، ينقل عن شيخه ابن أبي ذئب يقول: "قال ابن أبي ذئب بقي ابن شهاب (وهو ابن شهاب الزهري) وليس له في الدنيا نظير" أي أنه عاش مدة من الزمن حتى أصبح وحيد زمانه ليس له في الدنيا نظير.
فالرجل بهذه المكانة، ثم يقرأ واحد كلمة مدلس، ويفهم كلمة مدلس على أنه كذاب، ثم يُكذِّب أحاديثه! فسيضيع لنا الثقة ليس بهذا الحديث فقط، ولكن بنصف أحاديث مسلم والبخاري وأبي داوود والترمذي وغيرها. إن ما يسمّى تدليس الزهري هو ما وقع في بعض ما رواه من الحديث مرسلا لا فيما رواه مسندًا، فإن ما أسنده لم يعبه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هم مطبقون على الاحتجاج به والثناء عليه. قال الذهبي فيه، في سير أعلام النبلاء: «إمام العلم، حافظ زمانه» وقال عنه «الثبت الحجة. وأين مثل الزهري رحمه الله؟».
* * *
الحديث الثاني الذي أتى به المختصر هو حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».
لو كان هذا النص ثابتًا عند أبي بكر وعمر، لكان كل الجدل الذي سمعناه في الحديث الأول ليس له لزوم، لأن أبا بكر كان احتج عليه بأن النبي أمر أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا لم يفعلوا واحدة من الاثنتين يجوز له أن يقاتلهم.
تبقى عبارة: و«حسابهم على الله»، وهي واردة معنا في الحديثين. فما معناها؟ لأنه إذا أقام الصلاة وآتى الزكاة وأصبح مسلمًا ودخل في ملة الإسلام من سيحاسبه؟ بالطبع حسابه على الله.
قال العلماء: ليس هذا هو المعنى المراد، وإنما المعنى أنَّ حسابهم على الله فيما أخفوه، حسابهم على الله فيما أبطنوه، حسابهم على الله فيما لا نعرفه من أحوالهم؛ لأن لنا الظاهر والله يتولى السرائر. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أحكم بالظاهر» وقال للذين اختصموا إليه: «إنما أنا بشر وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ظلمًا فلا يأخذه، فإنما أقضي لهم بجمرة (أو بقطعة) من النار».
إذن وحسابهم على الله فيما أخفوه، حسابهم على الله فيما أبطنوه، حسابهم على الله فيما لم يبدوه لنا، إما من معاصي إن شاء الله أن يغفرها أو شاء أن يحاسب بها فهذا أمره. وإما من طاعات لا نعرفها فلا نذكرها وتخفى، وتجد الواحد يموت فيقولون: والله كان فاتح كذا بيت، ده كان بيعمل كذا لفلان. وأهله وأولاده وزوجته لا يعرفون عنه شيئًا. هذا الإخفاء حسابه عند من؟ حسابه على الله تبارك وتعالى.
فكلمة حسابهم على الله ليست فقط العقاب إنما الحساب يشمل الثواب ويشمل العقاب، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، عليها هذه ليست لازمة، عليها هذه قد يغفرها الله تعالى وقد يعفو عنها، وقد يتجاوز. وقد تكون هناك أسباب لا نطَّلع عليها: ربنا اطَّلع على امرأة سقت كلبًا فأدخلها الجنة واطَّلع على امرأة حبست هرة فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض فأدخلها النار، والناس الذين من حولهم لا يعرفون. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمر:«ما يدريك لعل الله قد اطَّلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم». فنحن لا نعرف إطلاع الله على عباده وما أخفاه لهم من ثواب أو من عقاب. فمعنى حسابهم على الله في الحالين حساب المثوبة، أو حساب العقوبة كلاهما على الله سبحانه وتعالى ولا شأن لنا بها.
موضوع الردة: هذا القتال كان قتال المرتدين. موضوع الردة موضوع اختلطت فيه الآراء، وكثير من الناس قالوا كلامًا صحيحًا، وكثيرون قالوا كلامًا فاسدًا أكثر من الصحيح، وزعموا أن هناك إكراهًا للناس على الدين.
لكن حقيقة موضوع الردة لخصها الإمام الجليل أبو سليمان الخطَّابي صاحب «معالم السنن» ومعالم السنن هو شرح لسنن الإمام أبي داوود، وهو شرح كبير قال عنه العلماء: من اطلع على هذا الكتاب وحده من كتبه أيقن بإمامته.
الخطابي تكلم عن الردة فقال إن الناس كانوا صنفين:
صنف ارتد عن الدين ونابذوا المِلة وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة في قوله في هذا الحديث «وكَفَر منْ كَفَر من العرب» هؤلاء كفروا كفرًا صريحاً وأنكروا الإسلام وارتدوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية.
وهذه الفرقة طائفتان: أحدهما أصحاب مسيلِمة من بني حنيفة وغيرهم...، والأسود العنسي وسجاح.. وغيرهم من الذين صدَّقوهم على دعواهم النبوة، ومن كان يستجيب لهم من أهل الأمصار وأهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مُدعيَّة بنبوة غيره. فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قَتَلَ اللهُ مسيلٍمة الكذاب باليمامة وكان الأسود العنسي قد قتل بصنعاء قبل موت النبي e بقليل ومن بقي من أتباعه قاتلهم عمال النبي e في عهد أبي بكر وقضي على فتنته بعودة غالب هؤلاء إلى الإسلام. وانقضت جموعهم وهلك أكثرهم. فهؤلاء قُوتِلوا على الكفر الصراح. هم ارتدوا وادعوا نبوة لغير محمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن يقول «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين» فمن يدَّعي النبوة من بعده فهو كافر به وبالقرآن، ومن صدَّق بنبوة غيره بعده فهو أيضًا كافر به وبالقرآن؛ لأنه لا يجوز لمسلم أن يصدق بنبوة أحدٍ بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فهذه هي الطائفة الأولى من المرتدين الذين كفروا كفرًا صريحًا.
والطائفة الثانية أنكروا الشرائع، كان ارتدادهم عن الدين بأن أنكروا الشرائع، وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. حتى إنه لم يكن يُسجد لله تعالى في بسيط الأرض كلها إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس في البحرين (الأحساء الآن) في قرية يقال لها جواثى. وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم محصورين بجواثى (ذكر في اسمها أيضًا جواثاء، وجؤاثا)، لا يستطيعون الخروج من قريتهم إلى أن فتح الله على المسلمين اليمامة، فاستنجد بعضهم بأبي بكر. وهؤلاء كانوا عددًا قليلاً بضع عشرات أو مئة.
الصنف الثالث هم الذين رُويَ عنهم أنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، وقالوا نؤدي الصلاة ولا نؤتي الزكاة؛ لأن أداء الزكاة كان لمحمد صلى الله عليه وسلم لأن ربنا تعالى قال له: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم». فهؤلاء قالوا: لا نؤدي الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنًا لنا.
ثم إن المرتدين الذين تركوا الإسلام جملة لم يكونوا جالسين في بيوتهم، وإنما حملوا السيف واتبعوا نبيًا جديدًا، وتأهبوا لغزو المدينة، وأرادوا أن يفتكوا بمن بقي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فلو قعد المسلمون عن مقاتلتهم لضاع الإسلام وقتها. فكان من رحمة الله وتوفيقه لأهله أن قيض أبا بكر لهذا الموقف العظيم.
* * *
جاء بعد ذلك إلى باب «من قتل رجلاً من الكفار بعد أن قال: لا إله إلا الله» وهذا من الأبواب الجميلة في الإسلام. وفي هذا الباب أورد المنذري الحديث الذي رواه مسلم: «عن المقداد بن الأسود أنه قال: "يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله. أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: "يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».
المنذري أتى بهذا الحديث في الأول مع أن مسلم جاء به في آخر الباب، لأن المنذري اعتبر أن حديث المقداد سؤال في قضية عامة، سؤال في قاعدة عامة. مسلم جاء في أول الباب بحديث أسامة بن زيد؛ لأن رواته عنده أوثق، وإن كانوا كلهم من طبقة أهل الثقة.
وكما قلت، إن هذا كتاب آخر غير صحيح مسلم، هو مأخوذ مما في صحيح مسلم لكنه كتاب من تأليف المنذري على حسب فهمه للموضوع.
* * *
الحديث الرابع: جاء بعد ذلك بالحديث الآخر، وهو الحديث المروي عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبَّحنا الحروقات من جهينة (الحروقات بطن من بطون قبيلة جهينة) فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك (يعني حدثته نفسه أن هذا موضوع مهم) فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه (هل فتحت قلبه ورأيت أقالها خوفاً من السلاح أم قالها يقيناً) حتى تعلم أقالها أم لا؟! قال أسامة: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ».
قال، (القائل هنا الراوي عن أسامة بن زيد. المنذري لم يأت باسمه لأن المنذري بدأ بالصحابي أول الحديث فقط). قال الراوي عن أسامة بن زيد إن سعد بن أبي وقاص الذي حدثهم بهذا الحديث عن أسامة قال: "وأنا والله لا أقتل مسلمًا حتى يقتله ذو البطين". يعني أسامة
(متى كان هذا؟.. هذا في فتنة علي ومعاوية رضي الله عنهما، عندما قالوا لسعد، خال رسول الله، ومُجاب الدعوة: "ترمي فتصيب من عشرة عشرة ثم تترك عليًّا وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهلكهم أهل الشام؟" قال: «ما عندي إلا سيف من خشب» (أمسك بعصا) فقالوا له: ليس عندك سلاح تخرج تقاتل به؟ قال لنا: «حتى تأتوني بسيف يقول يا سعد هذا مسلم فلا تقتله، وهذا مشرك فاقتله» فقالوا له: كيف نصنع ذلك؟ وهذا بقية الحديث....قال: قال رجل ألم يقل الله تعالى «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» فقال سعد: قد قاتلنا (يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم) حتى لا تكون فتنة وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة» (أنتم تُقاتلون حتى توقعوا الفتنة بين فريقين كبيرين من المسلمين، على رأس هذا صحابي جليل وعلى رأس الثاني صحابي جليل، وأنتم تمشون بينهم بالفتن. قال سعد: نحن قاتلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قتال المشركين، وبعد ذلك في الغزوات حتى لا تكون فتنة) فامتنع سعد عن القتال في فتنة علي ومعاوية أخذًا بحديث أسامة رضي الله عنه.
* * *
الحديث الخامس: «عن صفوان بن محرز أن جُنْدَبَ بن عبد الله البَجَلي (وهو صحابي) بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير (فتنة ابن الزبير كانت أيام يزيد بن معاوية، يعني بعد فتنة علي ومعاوية بسنين) فقال اجمع لي نفراً من إخوانك (عسعس بن سلامة وإخوانه كانوا مع عبد الله بن الزبير) حتى أحدثهم، فبعث رسولاً إليهم، فلما اجتمعوا جاء جُنْدَبٌ وعليه برنس أصفر (البرنس هو رداء متصل به غطاء للرأس، ومزية لبسه أنه يخفي المعالم قليلاً) قال: تحدثوا بما كنتم تحدثون به، حتى دار الحديث، فلما وصل الحديث إليه، حسر البرنس عن رأسه (لكي يعرفوه قبل أن يتكلم) فقال: إني أتيتكم لا أُريد أن أُخبركم إلا عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قومٍ من المشركين، وإنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد إليه فقتله، (كان شديد البأس كلما أراد أن يقتل واحداً من أبطال المسلمين يذهب ويقتله) وإن رجلاً من المسلمين تحين غفلته وفي رواية قصد غفلته، قال: وكنا نُحدَّث (إذن، جندب لم يكن حاضراً الواقعة لكن الناس حكوا له) أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف (رفع أسامة على هذا المشرك الذي يقتل كل مسلم يراه) قال (الرجل) لا إله إلا الله. فقتله أسامة بعد أن قالها. فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله (أي عن أحبار من جاء من عندهم من المسلمين)، فأخبره خبر الرجل وكيف صنع. فدعاه (أي دعا أسامة) فسأله فقال: "لم قتلته؟" فقال: "يا رسول الله أوجع في المسلمين، فقتل فلاناً وفلاناً" (سمى له نفراً من الصحابة) وإني حملت عليه فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله." قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته؟" قال: "نعم." قال: "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!" قال: "يا رسول الله استغفر لي." قال: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!" قاليعني جندب) فجعل لا يزيده على أن يقول له «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة». فأسامة يستزيد صلى الله عليه وسلم طلب المغفرة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه إلا بقول «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة».
هذا الحديث برواياته المختلفة أصل لا يجوز لأحد أن يغفل عنه. ومن غفل عنه فإن أحسن حالاته أن يكون كأسامة بن زيد. على أن أسامة بن زيد لا يمكن أن يساويه أحد لأنه لم يكن قد أُخبر بعدم جواز قتل من قال لا إله إلا الله، لم يكن قد بلغه الحكم إنما جاء هذا التشريع بعد فعلة أسامة.
القاعدة العامة هي التي في حديث المقداد: لا يجوز أن يَقْتُل أحد أحدًا يقول لا إله إلا الله. طيب، فيأتي واحد يتأول أنه يقول لا إله إلا الله ولكنه يحكم بالقانون الوضعي وليس بالشريعة الإسلامية!!.. إنه يقول لا إله إلا الله ولا يطلق ذقنه، أو يقول لا إله إلا الله وزوجته غير محجبة!!...
مادام قال لا إله إلا الله فقد عصم منك ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله. طيب، إلا بحقه التي قيلت في حديث عمر وأبي بكر: إلا بحقهما. حقهما هذا يقوم بتقديره وتقريره ودعوة الناس للعمل به الحاكم الشرعي المسلم الذي يحكم بالشريعة، الذي يعرف الحلال والحرام، والذي إما أن يكون مجتهدًا وإما أن يكون عنده من المجتهدين من يدلونه على الأمر الواجب فيفعله، أو عن المنهي عنه فلا يفعله. ولكن ليس كل فتاة ولا شاب ولا رجل ولا جماعة يستطيع أن يقرر أن هذا خرج عن مقتضى لا إله إلا الله ولم يأت بحقها فيجوِّزُ قَتْلًه. لقد قُتِل أُناس كثيرون بغير حق على هذا التأويل، فتاوى باطلة قالها أناس ضلوا السبيل لأنهم ظنوا أن من حقهم أن يقرروا أن هذا قد أتى حقها وهذا لم يأت بحقها. حتى الحاكم لا يجوز أن يقتل إلا بحق، فإن قتل بغير حق فهو آثم ويحاسب بها يوم القيامة. فإيانا ثم إيانا أن نسمع لأحد أو نطيع أحدًا أو نداهن أحدًا يزعم أن من حقه أن يقرر من الذي يُقتَل ومن الذي يعيش. كل من يقول لا إله إلا الله معصوم الدم، ولا يجوز لأحد أن يترخص في هذا. والمترخص في هذا آثم إثمًا عظيمًا أدناه أن يكون كأسامة، ولا يمكن لأحد أن يكون كأسامة؛ لأن أسامة كما قلت قتل الرجل حين لم يكن التشريع قد نزل. التشريع نزل في حالته هو، فلا ينطبق عليه. وإنما كان هذا تحذيرًا من النبي صلى الله عليه وسلم وتخويفًا له، وترويعًا للمسلمين الذين يأتون من بعده من أن يقعوا في مثل هذه الفعلة، فيقتل بعضهم بعضًا. والنبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه نظر إلى الكعبة فقال:«ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والله لمحجمة (التي تحجم الدم الفاسد) من دم امرئ مسلم أعظم حرمة عند الله منك». فإذا جاء الحاكم يوم القيامة محملاً بدماء الناس، قد قتل هذا، وسجن هذا ،وضرب هذا، أين سيذهب؟
* * *
الباب الذي بعد ذلك هو باب «من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاك فيه» أي ليس عنده أدنى شك في هذا الإيمان، الإيمان مستقر في قلبه مستيقن في نفسه.
وفيه الحديث الخامس من أحاديث هذه المحاضرات المنذري عندما ألف، لم يفعل مثل مسلم ويرتب الأحاديث حسب رجاحة الرواة، إنما أتى المنذري في أول كل باب بحديث مثل القاعدة، وأتى هنا بحديث عثمان «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» قاعدة لو حفظناها تكفينا عن الباقي.
* * *
الحديث السادس: «عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن أبي سعد رضي الله عنه (الشك من الأعمش) قال: لما كنا يوم غزوة تبوك (يعني في زمن غزوة تبوك وليس في يوم محدد لأنه ليس هناك يوم محدد لغزوة تبوك كانت مدة سفر وعودة) أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذِنت لنا فنحرنا نواضحنا (النواضح هي الإبل التي يحملون عليها الماء) فأكلنا وادَّهنّا (أكلنا لحمها واستعملنا دهنها لأجسامنا فيطرِّي الجلد ويجعله قادرًا على تحمل أشعة الشمس وما إليها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. فجاء عمر (وفي بعض الروايات فزعاً) فقال: يا رسول الله إذا فعلت قل الظهر (إذا ذبحوها لن تكون لدينا دواب كافية نركبها) ولكن ادعهم (اجمع أصحابك ومرهم أن يأتوا) بفضل أزوادهم (يأتي كل منهم بما بقي معه من الزاد) ثم ادع الله لهم بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك (يعني يجعل في ذلك بركة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فدعا بنِطع فبسطه (النِطع هو قطعة من الجلد، بساط من الجلد، جلد بقرة أو ناقة فيفرشوه) ثم دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكِسرة (أي من الخبز) حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم، (قصة الدعوة على الطعام القليل متكررة جداً، قال النووي أنها بلغت مبلغ التواتر الذي لا ينكره إلا شاك، ولكن يجب أن نتوقف عند الألفاظ التي استعملت لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة) قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءًا إلا ملؤه فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة (بعض الطعام) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيُحجَبَ عن الجنة».
وفي الوقائع الأخرى تكررت عبارات مثل هذه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العلماء قولا جميلا:
قالوا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفيه أن يدعو بالبركة، فيُبَارِكَ الله في الطعام، ويأكل الناس ويعرفوا أنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد إيمانهم ويستيقنوا أنه نبي من عند الله. إنما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ليعلموا أن المعجزة ليست من صنعه، وأن البركة ليست من عنده، وإنما هو داعٍ، والله هو الذي بارك في الطعام، وزود الأزواد.
لأننا لو ظننا أن للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا صنعًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم شريكًا لله تبارك وتعالى في قدرته، وهذا محال. وتفرد الله سبحانه وتعالى وحده بالقدرة على الإطعام وعلى الإشباع والرزق والزيادة والإنقاص إلى آخر ما نعرف هو الاعتقاد الصحيح الذي لا يجوز لمسلم مخالفته. واستجابة الله سبحانه وتعالى لدعاء نبيه e فضل منه سبحانه وإكرامٌ لهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كلمة «لعل» التي قالها عمر للنبي e، لعل وقد وعسى ونحو ذلك لها استعمالات، ومن معانيها التحقيق. وإذا قيلت في حق الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، أو في صحيح السنَّة، أو في كلام الصحابة، فمعناها التحقيق، لعل الله يعني أنا موقن أن الله سيبارك في هذا الطعام.
فهناك فرق بين التألي الذي يدَّعي فيه الإنسان أنه يعلم علمًا يقينيًا منفصلاً عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وعن رحمته وعن قدرته، وبين الذي يتيقن: بعلمه برحمة الله، ويقينه بسعة قدرته وعمق تصديقه بمحمد صلى الله عليه وسلم أن الله لن يضيعه.
فليس في مثل هذا تألٍ أن يقول لعل بمعنى أنا واثق، أنا متيقن، فذلك ليس فيه تألٍ. ذلك الذي تألى قال للرجل لن يغفر الله لك أبدًا، فغفر الله للعاصي وأحبط عمل الطائع المتألي. تيئيس الناس من رحمته والحكم عليهم بعدم دخول الجنة أو بالدخول في النار، هذا هو التألي على الله عز وجل.
وهناك فرق بين الاثنين: أن تُطمِع الناس، كما جاء الرجل لعبد الله بن عباس وقال له:«القاتل له توبة؟» فقال له: «توبة إن شاء الله» قال: «من أين؟» قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ألم تسمع إلى قول الله تعالى «إن الله يغفر الذنوب جميعًا» قال: «بلى» قال: "فللقاتل توبة".
ثم بعد عدة أيام جاء إليه رجل آخر يقول له: «أللقاتل توبة؟» قال: «لا» قال: «من أين؟» قال: «ألم تسمع إلى قول الله تعالى «ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا...». فمجاهد تلميذه كان يمشي معه في الواقعتين فقال له: «يا ابن عم رسول الله قلت للأول كذا وقلت لهذا الرجل كذا» قال: «لقد رأيت في وجه الأول توبة وندمًا وعلمت أنه قاتل يريد أن يتوب فيتوب الله عليه، ففتحت له باب رحمته تبارك وتعالى. ورأيت في وجه الثاني غضبًا ونقمة، فخشيت أن يكون قد انتوى قتلاً فأردت أن أصده».
فهذه الفراسة عند المؤمنين، وبالذات عند الطبقة العليا من الصحابة، واردة ومتوفرة ومشهورة، ولا يمكن أن يكذبها أحد، فكلمة «لعل» هنا من باب اليقين في رحمة الله وليست من باب التألي الممنوع شرعًا؛ والله أعلم.
* * *
الحديث السابع: «عن عبد الرحمن بن عُسَيْلَة المرادي ثم الصُّنابحي (وهو تابعي جليل هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات النبي قبل وصوله إلى المدينة بليالٍ معدودة. فكان يقول ليتني عجَّلت) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال (الذي قال هو عبد الرحمن بن عُسَيلة) قال: دخلت عليه (على عبادة بن الصامت) وهو في الموت فوجدته يبكي فقلت: مهلاً لم تبكي؟ فوالله لئن استشهدُتُ (يوم القيامة) لأشهدن لك ولئن شُفِّعتُ لأشفعن لك ولئن استطعتُ (في الآخرة) لأنفعنك (هذا يقين وثقة بالله أنه يكرم عباده) ثم قال (عبادة بن الصامت): والله ما من حديث سمعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثًا واحدًا وسوف أحدثكموه اليوم فقد أحيط بنفسي. قال (عبادة بن الصامت) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرَّم الله عليه النار».
هذا هو الحديث الذي أخفاه عبادة بن الصامت إلى أن كان في الاحتضار فقاله لمن حضره ومنهم عبد الرحمن بن عسيلة.
لماذا يُخفي واحد أحاديث؟ هو بيَّنَ العِلَّةَ، قال: "ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير". العلماء بحثوا عن الأحاديث التي ليس فيها خير، قالوا إن بعض الصحابة لم يُحدِّثوا بأحاديث أشراط الساعة، وبعض الصحابة لم يتحدثوا عن أحاديث فيها ذكر أقوام بأعينهم، يعرفونهم لأنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، بأوصاف سوء أو بأوصاف غير مستحسنة، وبعض الصحابة لم يتحدثوا عن الأحاديث التي لا عمل تحتها مثل أحاديث يأجوج ومأجوج، وأحاديث عذاب القبر، وبعض الصحابة لم يتحدثوا بالأحاديث التي لا ضرورة لذكرها كأخبار المنافقين الذين أبادهم الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد عمر وعهد عثمان، وبعض الصحابة لم يرضوا أن يتحدثوا بأحاديث خشية أن يكون قد اختلط عليهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعوه من غيره.
عبارة «بيَّن السبب» قال أنا كنت حدثتكم بجميع الأحاديث التي فيها خير لكم، الآن أوشك أن أموت، وكما قال أبو داوود: إنما ترك عبادة هذا الحديث فحدث به عند موته تأثمًا، (خشية الإثم أو أن يقع في الذنب) أنه كتم علمًا مما ينفع الناس.
هذا الحديث والحديث الذي قبله والأحاديث التي ستأتي معنا بعد ذلك إن شاء الله كلها تدور في هذا المعنى، في معنى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، وأن من آمن به إيمانًا لا يداخله شك دخل الجنة، وأن من اختلط في قلبه شك بالإيمان هو الذي عليه الخوف، وربنا سبحانه وتعالى يتولى أمره. حتى في هذا، ليس من حقنا أن نقطع في كلامنا بكفره أو دخوله النار؛ لأن الله تبارك وتعالى يحاسب الناس بما علِم ونحن نحاسب الناس بما ظهر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وحسابهم على الله» وقال عن شهادة ألا إله إلا الله: «فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم (أي في شأن الباطن الذي لا أطلع عليه، في الآخرة) على الله تعالى».
والله سبحانه وتعالى أعلم
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(3)
دكتور محمد سليم العوَّاِ
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(3)
لا نزال في أحاديث الباب الذي سمّاه الإمام المنذري «باب: من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاكٍ فيه دخل الجنة».
* * *
الحديثالأول: وقفنا في هذا الباب عند حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا قعودًا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر (في نفر يعني في جماعة، جماعة من الصحابة) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا (قام من المجلس الذي كانوا فيه،انتقل إلى مكان آخر يؤدي عملاً، أو لحاجة لم يعرفوها، من بين أظهرنا يعني من جماعتنا، وليس معناها أنه أعطى لهم ظهره. من بين أظهر الناس وبين ظهرانيهم يعني من وسطهم، من جماعتهم. ولها أصل لغوي جميل: واحد ظهره للآخر، ظهره عضد للآخر أو حماية للآخر عندما يكون الإنسان في وسط ناس، لأنه عندما يكون منفردًايُخشى عليه) فأبطأ علينا (تأخر) وخشينا أن يقتطع دوننا (خافوا أن يكون يجده بعض أعدائه المشركين من الكفارمنفردًا فيغتاله أو يضربه أو يعتدي عليه أي عدوان. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معصومًا من هذا، هو كان معصومًا من أن يخطئ في تبليغ الرسالة أو يحال بينه وبين تبليغها {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك والله يعصمك من الناس وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}فالعصمة في التبليغ، أما في الحرب فهو جُرح وكُسِرت رباعيته وضُرب على ترقوته، فكان من الممكن أن يصيبه ما يصيب الناس) وفزعنا فقمنا (قاموا يبحثونعنه) قال أبو هريرةفكنت أول من فزع (أنا أول منأسرعتفي أثره) فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني أبحث عنه)حتى أتيت حائطًا للأنصار (الحائط يعني البستان، حديقة صغرت أم كبرت،والمزروعة بالذات بالفواكه أو نخيل فهذه يسمونها حائط لأنها كانت تسور عادة بحائط)لبني النجار فدرت به (يعني دار حول هذه الحوطة، أو الحائط)فلم أجد له بابًا فإذا ربيع يدخل في جوف الحائط من بئر خارجها (الربيع هو الجدول، هو جدول الماء الصغير،النُهير الصغير)فاحتفزت فدخلت على رسول الله (احتفز يعني صغَّر نفسه حتى يدخل من هذا المكان) مع الربيع فقال: أبو هريرة؟ (يعني النبي صلى الله عليه وسلم سأل هل الداخل هوأبو هريرة) فقلت نعم يا رسول الله. قال: ما شأنك؟ (ما الذي أحضرك)قلت: كنتََبين أظهرنا فقمتَفأبطأتَعلينا فخشينا أن تُقتطع دوننا (بين له العذر،أي أنهلا يتجسس عليه أو يريد أن يرى ماذا يفعل، أو دخل عليه دون إذن)ففزعنا فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس ورائي (كل الذين كانوا معك يبحثونعنك معي وورائي)فقال: يا أبا هريرة(!)وأعطاني نعليه وقال: اذهب بنعليَّهاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبهُفبشره بالجنة....»
أريد أنأقف هنا قبل أنأكمل الحديث. أبو هريرة يحكي لناعن نفر معين من الناس كانوا جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فاستبطأوه فخافوا أن يقتطع من بينهم،ففزع أبو هريرة أولَالناس،ثم سيأتي الباقونلأنهم وراءه. هذا الكلامكانموجهًالمجموعة معينة، ولقدقلتُكثيرًا،ولا زلت أقول،إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فهذه الواقعةتخص أناسًامعينين، أما عموم الحديث فيخص كل المسلمين: «من لقيتَيشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة». فنحن من حقنا أن نبشر كل من استيقن قلبه بلا إله إلا الله بأنه من أهل الجنة إن شاء الله، رغم أن هذه الواقعة متعلقة بقوم معينين كانوا جلوسًافي وقت محدد وقاموا يبحثونعن النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يصح أن يقال، كما يقول بعض الناس في الآيات والأحاديث التي عرفنا أسباب نزولها أو ورودها"إنهاخاصة بهؤلاء".لا،هي ليست خاصة بهؤلاء،لأنه قال له من لقيت وراء هذا الحائط، فالعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.
قال أبو هريرة: «... فكان أول من لقيتُعمر بن الخطاب رضي الله عنهفقال: ما هاتان النعلان ياأبا هريرة؟ (ارتاب؛وجده حاملاً نعلين ووجد نعلين في قدميه)فقلت هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما؛من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بَشَّرْتُهُبالجنة. قال: فضرب عمر بيده بين ثَدْيَيَّ(ضربه في صدره)فخررت لاستي (وهو المقعدة؛المكان الذي يجلس عليه)فقال: ارجع يا أبا هريرة. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً(أول ما وصل عند النبي صلى الله عليه وسلم، عارفين الطفل يظل متماسكاًإذاأغضبهأحد، وأول ما يرى أمه أو أباه أو أخاه أو أخته ينفجر بكاءً. لماذا؟ لأنه وجد الذي سيحميه. فهكذا كان أبو هريرة مع النبي صلى الله عليه وسلم. أبو هريرة كان فقيرًا ومن أهل الصُفّة ولما جاء احتضنه النبي صلى الله عليه وسلم،وأنفق عليه وكان يطعمه، وكان يعطيه من ماله الذي يأتيه. فكان يشعر مع النبي صلى الله عليه وسلم بشعور خاص، فأول ما رآه انفجر في البكاء)وركبني عمر فإذا هو على أثري (ركبني يعني جاء يجري وراءه،ولم يتركه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله لقيت عمر، فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثدييّضربة خررت لاستي، فقال: ارجع.(وكان عمر قد وصل)فقال له رسول الله e:يا عمر ما حملك على ما صنعت؟(ما الذي فعلته؟ أنا أرسلت رجلاً برسالة تقابله وتضربه وتوقعهعلى الأرضوتقول له ارجع؟) قال:يا رسول الله بأبي أنت وأمي (هذا أدب عظيم من الصحابة مع النبي e؛يريد أن يقول له:أنا لست مخالفًا لأمرك، أنا لست عاصيًا، لست معترضًا على ما وجهت به أبا هريرة. فقال له بأبي أنت وأمي. العرب لما يقولوا بأبي أنت وأمي يعني أفديك بأبي وأمي وهذا من أعظم الثناء وأبلغ التقدير)يا رسول اللهأبعثت أبا هريرة بنعليك؛من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة. قال: (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) نعم. قال: فلا تفعل يا رسول الله(قال ليأحد أبنائنا فيالمرة السابقة:هذا اعتراض على كلام النبي صلى الله عليه وسلم. لا،هذا ليس اعتراضًا، هذه هي المشورة الواجبة لكل مسلم على كل مسلم،والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم. عندما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟»لمن نقدم هذه النصيحة ؟.. هل أجول في الطرقات فأنصح كل واحدألقاه؟ أم ما هي النصيحة؟ المورد الأول لله، أنصح لله بأن أدل الناس على ما أمر به وعلى ما نهى عنه، وأعلمهم ما علمني ـ سبحانه ـمن علم، وأبين لهم ما أنزل في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الأحكام. إذن،لله.ولكتابه (القرآنأعلُّم منه ما أعلم وأسأل العلماء عما لا أعلم) ولرسوله (يعني أبين السنة وأعلم الناس إياها وأدلهم عليها وهكذا).ولأئمة المسلمين وعامتهم. فكلام عمر هذا من باب النصيحة،لمن؟لإمام الأئمة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. جاءه عمر ينصحه وتلطف في النصح فبدأ بقوله بأبي أنت وأمي يا رسول الله. ثم أوردالسؤالعن صحة ما قال له أبو هريرة. (لماذا؟هلأبو هريرة كذاب؟ هليخطر ببالأحدأن رجلاًيخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم،ومن المكان الذي دخل منه مع الماء، يخرج ليقول إن النبي بعثني بكذا وكذا،ومعه النعلين، كل ذلك ويكون كاذبًا؟..هذا السؤال سؤال استيثاق وتمهيد للنصيحة التي سيقدمها عمر للنبي صلى الله عليه وسلم.) فإني أخشى أن يتكل الناس (عندما يعرفونأن من قال لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه،فيقصرونفي الطاعات ويزيدونفي المعاصي، ويؤخرونالزكوات، ويقصرون في الصلاة والصيام،وكلما اشتاقت نفسه إلى هفوة هفاها، وإلى شهوة يشتهيها أصابها. ثم بعد ذلك يقول: قلبي مستيقن، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد صنمًاولا وثنًاولا حاكمًاولا محكومًا، إذنسأدخل الجنة).لكن هذا ليس هو المقصود. المقصود هو أن الاستيقان بلا إله إلا الله يؤدي بالمرء إلى أن يعمل بمقتضاه، وإلى أن يسمع ما أُمِر به فيعمله، وما نُهي عنه فيجتنبه، إلى آخر المأمورات والمنهيات. هذا هو المقصود بلا إله إلا الله واستيقان القلب بها. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر:«الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل» فهذا معنى مستيقنًا بها قلبه. إنما عمر لأنه فهم المعنى الصحيح للبشارة النبوية قال له: أخاف لو أن أباهريرة قال هذا للناس على وجه العموم "مستيقنًا بها قلبه دخل الجنة"سيهملون العمل بمقتضاها، يعني يخشى أن يتكلوا) قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها،فَخَلِّهِم يعملون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَخَلِّهِم»
هلخسرنا شيئاًبمنع سيدنا عمر لأبي هريرة بان يبلغ الناس بهذا الحديث؟ لم نخسر أبدًا. ولاالإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خسر،لأن النبي قال هذا الكلام لأكثر من عشرة من الصحابة، فهذا المعنى مروي عن أكثر من 11 أو 12 من الصحابة بصيغ وألفاظ مختلفة.
فجيل الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يخسروا شيئًا،والجيل الذي يليه، جيل التابعين رووا هذه الأحاديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فما هي إذنحكاية «أخشى أن يتكلوا»؟.كانت هذه مرحلة لحظية، كان الإيمان في أول أمره والإسلام في بداية تشريعه في المدينة المنورة، والناس بين مؤمن إيمانًا يقينيًا وبين نصف مؤمن وربع مؤمن، وواحد مؤمن من أجل المال، أولأن النبي صلى الله عليه وسلم ألف قلبه بالهدايا، والمسألة مازالت غير مستقرة. قال عمر أخشى أن يتكلوا الآن. ولكن بعد أن يستقر الإيمان فالاتكال قليل ومن اتكل فهو المخطئ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال خلِّهم وكأنه قال خلِّهم الآن، خلِّهم في هذا الزمن، خلِّهم في هذا الجيل، خلِّهم فيما بينكم أنتم مجموعة الصحابة.
والعلماء لهم كلام كثير في مسألة مَنْالذي كان موجودًافي ذلك الوقت، ومن كان فيهم، ومن منهم قال ماذا، كل هذا كلام جميل،ولكن ليس له دلالةخاصة في معنى الحديث ونتيجته.
دلالة الحديث الذي معنا، ونتيجته،أنه من قال لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه ومعنى ذلك أن يكون أدى العمل بمقتضاها، فإنه إن شاء الله من أهل الجنة.
* * *
الحديث الثاني:الحديث الذي يليهفي هذا الباب عند المنذري، باب: من لقي الله بالإيمان غير شاكٍ فيه دخل الجنةهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم(الردف هو ما يأتي بعد الشيء، شيء يأتي بعد شيء، والرديف والردف كلمتان بمعنى واحد، وتكون غالبًا في الركوب، في المسير وتستعمل في البقاء. وعندنا كلمة في العربية المعاصرةمشهورة في تقسيم جنود الجيش وهي الرديف، ويقصدون به الاحتياط الذي لا يعمل في خدمة القوات المسلحة أو الجهات العسكريةطول الوقت لكنه تحتد الاستدعاء عند الحاجة إليه).إذن،كان معاذ خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الرحل(في الناقة أو الجمل أو الحصان) ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل (يريد أن يقول إنه كان قريبًا جدًّا، والمؤخرة هي العود الذي يوضع على نهاية سنام الجمل أو الحصان أو الحمار لكي يفصل بين راكبين، وهي قطعة خشب، إذن،ليس بيني وبينه غير قطعة الخشب هذه التي تفصل بين راكبين)فقال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة (الساعة في أصل اللغة تعني مدةوليس معناها 60 دقيقة كما هو تقسيمنا الآن للوقت) ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك.ثم سار ساعة. (لبيك يعني طاعة بعد طاعة، في الحج لبيك يعني طاعة لله بعد طاعة، متكررة، دائمة، أبدية لا تنقطع من جانب المسلمين. وسعديك يعني أنا أساعد نفسي على طاعتك، أساعد نفسي بالطاعة على الطاعة؛لأن الإنسان إذا أطاع استحلى الطاعة فيستمرفيها، وإذا لا قدر الله،عصى يغلبه الشيطان وتحلو المعصية في عينيه ويستسهلها. فأنا أساعد نفسي مرة بعد مرة على أن أعمل مزيدًا مما تأمر به. فقال له كل مرة لبيك يا رسول الله وسعديك) ثم قال يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.(هل هناكأبسط من ذلك؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. هذا مصداق من قال لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، يعبد الله ولا يشرك به شيئًا. والعبادة كما نعرف ليستهيمجرد هذه الشعائرالتي نؤديهامن صوم وصلاة وصدقة وحج....إلخ إنما حياتنا كلها عبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون}كل حياتنا عبادة، أداؤنا للعملعبادة، زيارتنا لصديقناعبادة، صلة الرحمعبادة، تعليم العلمعبادة، تعلم العلم عبادة، هذا كله من العبادة. فقالeحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ (ذلك يعني الذي ذكره من قبل: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. تأمل هذا اللفظالنبوي الجميل: حق العباد على الله!هل لنا نحنحق عند ربنا؟!الذي خلقنا وأوجدنا ورزقنا، وبعث الأنبياء ليهدونا، وأنزل الكتب لتبقى بين ظهرانينا.أنعم علينا بهذه النعم حتى سمى نفسه رب العالمين يعني مربيهم بنعمه. لنا عليه حق بعد هذا كله؟!هذا من تفضل الله علينا ومن إنعامه، ومن تحببه إلى خلقه حتى يحبوه ويطيعوه)قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم».
هذه هي الصفقة، هذه هي المقايضة، هذا هو الثمن. إذا عبدنا اللهلا نشرك به شيئًا؛العبادة بمعناها الكامل الشامل.فنحن في أمن من العذاب. تدفع الثمن مقدمًا تأخذ السلعة مؤخرًا، تدفع الثمن وأنت قادر وتأخذ السلعة يوم لا يكون بيدك أن تنفع نفسك ولا أن تضرها،فضلاً على أن تنفع غيرك أو تضره. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك، إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئًا،ألا يعذبهم. معادلة بسيطة جدًّا لكن أكثر الناس لا يعلمون.
* * *
الحديث الذي يليه عن محمود بن الربيع عن عِتْبان بن مالك قال:"قدمت المدينة فلقيت عِتْبان (اسمه عِتبانعلى قول الأكثرينوعُتبانبضم العين عند بعضهم)فقلت حديث بلغني عنك (يعني هناكحديث من الأحاديث النبوية بلغني،ولك علاقة به أو لك شأن فيه، لك قصة مع الحديث. فما هو هذا الحديث؟.محمود بن الربيع صحابي لقي عِتبان وهو صحابي آخر ـ في زيارة لمحمود بن الربيع للمدينة ـ فسأله عن حديث له به شأن؟ولنلاحظ هنا أننا مع رجلين من الصحابة يروي أحدهما الآخر. وفي أصل الحديث عند مسلم أن أنسًا يرويه عن محمود بن الربيع الذي يرويه عن عِتبان، فهم ثلاثة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض وهذا دليل اهتمامهم العظيم بحديث النبي eلم يكن أحدهم يكتفي بما سمعه بنفسه مباشرة بل كانوا يتتبعون مالم يسمعوه لئلا يفوتهم من السنة شيء. وفي هذه الرواية دليل على أنه لا كبر في العلم، فإن أنس أكبرسنًا ومقامًا من محمود بن الربيع، ومع ذلك يروي عنه. وهذا كثير في الرواية في مختلف الأجيال لأن العلم علَّمهم أن العبرة به، لا بالسن ولا بقدم الإسلام والصحبة ولا بالمكانة الاجتماعية أو غيرها) قال: أصابني في بصري (إخواننا الذين عندهم هذه النسخةمن مختصر مسلم للمنذري سيجدون هذه الكلمة، «في بصري»،للأسف في طبعاتها الخمس مكتوبة "في بعدي" ولم ينتبه أحد لهذا الخطأ. الخمس طبعات فيها هذا الخطأ، بما فيها طبعة الكويت،وما انتبه أحد ، مع أن المراجعة دقيقة جداً، لكن سبحان الله،أبى الله أن يُتم إلا كتابه. ويحكى عنالشافعيأنه كانيقول لو روي عنيكتاب ألف مرة فلابد أن يوجد فيه الخطأ؛لأن الله أبى أن يصح إلا كتابه. فلا يستكثرن أحدكم أن يراجع كتابه المرة بعد المرة. راجع ألف مرة ستجد أخطاء، لأنه لا يوجد كتاب في الدنيا بلا خطأ.وهذه من المعجزات الغريبة،أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يخلو من الخطأ إلى يوم القيامة)أصابني في بصري بعض الشيء( يعني بصره ضعف، هو لم يقل إنه عميَ،ولكن بعض مفسري الحديث قالوا إنه فقد بصره، لكنه لميقل إنه فقد بصره وإنمااستعمل تعبيراًأرق وقال أصابني في بصري بعض الشيء)فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مُصلى (قال له تعال صَلِّفي مكان في بيتي أتخذه للصلاة وأتوجه للقبلة كما توجهت وأقف حيث وقفت وأجلس حيث جلست. حدد لي مصلى أصلي فيه في البيت. لماذا؟ لأنه أصيب في بصره ولن يستطيع الذهابإلى المسجد. أصبح كفيفاً أو ضعيف البصر، لو سار يخاف أن يقع،يخاف حشرة أو دابة أو غيره. فكان هذا عذره كي يصلي في البيت. والنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا العذر وذهب إلى بيته) قال: فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه (لم يأت بمفرده، جاء ومعه جماعة من أصحابه، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) فدخل وهو يصلي في منزلي،ويتحدثون بينهم(النبي دخل يصلي وحده، ده منزل صغير مش عدة غرف، هو غرفة بالكثير غرفتين، منهم غرفة فيها الدابة أو بعض الأكل أو كذا) ثم أسندوا عُظْمَذلك وكُبْرَهُإلى مالك بن دخشم ( ما هي هذهالحكاية؟..النبي صلى الله عليه وسلم دخل يصلي في بيت الرجل والصحابة جالسون، يتحدثون فأتوا على ذكر المنافقين وقالوا فيهم مقالة سوء ونسبوا أكثر ما قالوه عنهم إلى مالك بن دخشم) قال: ودوا أنه دعا عليه فهلك وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والتفت إليهم (إذن، كانالمكان قريباً،لم يكن ببعيد)وقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ (هذا الرجل الذي تذكرونهبسوءوتسبونه أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟)قالوا: يا رسول اللهإنه يقول ذلك وما هو في قلبه. قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار،أو تطعمه النار"
لم يقل هنا: هلاشققت عن قلبه؟لأن الذي في قصة أسامةكان أسامة قد قتله وقُضي الأمر، لذلكقال لأسامة، تعليمًا وتأنيبًا،هلاشققت عن قلبه؟ لكن هذا الرجل موجود معهم،والنبي صلى الله عليه وسلم وسطهم. قال أنس ـ الصحابي الراوي عن صحابيين ـ فأعجبني الحديث فقلت لابني اكتبه فكتبه.لا شك أن الصحابةكانوا يحفظونالأحاديث بالذاكرة.لكن هذا الحديث رُوِيَ له وأعجبه، وهو لم يكن حاضرًا عند وقوع القصة فيذكرها،فخاف أن ينساه فقال لابنه اكتبه فكتبه).
في رواية البخاري: "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله."..أنا أتيت بهذهالجملة من البخاري لأن فيها رداًجميلاًعلى الناس الذين يقولون يكفي القول باللسان ولا يحتاج إلى الاعتقاد بالقلب. هناك من الفِرَقالإسلامية منيقولونإنه يكفي أن يقولها بلسانه، أي بظاهر الحديث.
فالبخاري في روايته: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله."ومسلم في الحديث السابق قال: "مستيقناً بها قلبه". فهاتان العبارتان يدلان على أنه لا يكفي الكلام باللسان إنما ينبغي أن يكون معها الاعتقاد بالقلب.
وقبل أن نترك هذا الحديث ننبه إلى كلمتين واسم. فأما الكلمتان فهما (عُظْم) و(كُبِر).
(عُظْم) الشيء بضم العين أن معظمه وأكثره. و(كُبِر) بضم الكاف وكسرها لغتان فصيحتان مشهورتان، لكن الرواية في الحديث رجَّح الرواة فيها الضَّم، ومعناها أكبر التبعة في أمر ما، كما قال تعالى في سورة النور {والذي تولى كِبْره} [النور:11] أي الذي أشاع قالة الباطل عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وهي مقروءة في المتواتر بكسر الكاف. وقرأ بعض القراء العشرة بكسرها (حميد الأعرج ويعقوب الحضرمي). وأما الاسم فهو (مالك بن دخشُمْ) هكذا رواه الإمام مسلم، وروي (ابن دخشيم) و(ابن الدخشم) و(ابن الدخشيم) و(ابن الدِخشن) و(ابن الدِخشين)! وهذا الاختلاف في الاسم لا أثر له لأن العرب كانت تنادي بعضها بأسماء متقاربة مالم يكن في تغيير الاسم قرينة هزءٍ بصاحبه أو سخرية منه. ومالك هذا شهد بدرًا وما بعدها، وأصحاب التراجم مختلفون هل شهد العقبة (البيعة فيها قبل الهجرة) أم لم يشهدها؟!
وقد علق الإمام النووي على هذا الحديث بقوله: «وقد نص النبي eعلى إيمانه باطنًا وبراءته من النفاق بقوله eفي رواية البخاري: ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى؟ فهذه شهادة من رسول الله eله... فلا ينبغي أن يشك في صدق إيمانه رضي الله عنه»
* * * * *
باب الإيمان ما هو وبيان خصاله
أول حديث معنا في هذا الباب،وهوليس فيه إلاحديث واحد في الحقيقة، وقد مر بنا هذاالحديث في أول الكتاب، حديث وفد عبد القيس.وهو أمر يقتضي كلمة عن تكرار الأحاديث النبوية في دواوين السنة:
ذات مرة كنت أقرأ في بعض الكتب التي تُدَرَّس في بعض الجامعات،فوجدت أستاذاًيقول إن الكتب الفلانية (كتب الحديث: صحيح البخاري وصحيح مسلم وجامع الترمذي...الخ) فيها مكرر ولو نُقيت من هذا المكرر لاختُصِر حجمها فيتمكنالناس من دراستها ببساطة أكثر. فبصرف النظر عن أنه لا يعرف عدد المكرر ولايعرف ما معنىمكررأصلاً.فالمكرر ليس مكرراً عبثاً، ليس مكرراً بنفس اللفظ، ليس مكرراً بنفس المعنى، ليس مكررًا بنفس الطريق (أي الرواة أنفسهم)، إنما هو مكرر لأن فيه زيادة معرفة؛إما في الرواية وإما في الدراية. في الرواية بمعنى أن واحداًرواه بمعنى أقرب للنبي صلى الله عليه وسلم من واحد آخر ، أو واحد أوثق أو واحد أضبطأو رواه مرة بواسطة بينه وبين شيخه ومرة بلا واسطة...الخ
أو في الدراية لأن فيه معنى زائدًا،لم يأت في الحديث السابق، فكرروه لهذا السبب، وليس عبثاً أو غفلة حتى يقول نحذفالمكرر منه. هذا التكرار له فوائد في كل حديث مختلفة عن الحديث الآخر، وأهل العلم بالحديث يعرفون ذلك، وواجب من يستغلق عليه أمر عملي أن يسأل فيه أهل الذكر قبل أن يقول برأيه فيضع نفسه حيث لا يجب لها أن تكون.
* * *
حديث الباب هو حديث أبي سعيد الخدري قال: «إن أناساً من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا حيّ من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع:اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم،
هناأمر بخمس طاعات وهو قال لهم:آمركم بأربع. قال العلماء: أمرهم بالأربع التي وعدهم بها ثم زادهم خامسة وهي أداء الخمس من المغنم.
لماذا؟ لأنه،كما قلنا في المرة السابقةالتي مر بنا فيها هذا الحديث،إنهم كانوا بين قبائل المسلمين وقبائل المشركينكان بينهم وبين النبي eكفار مضر (ومضر هو الجد السابع عشر للنبي eفي المتفق عليه من نسبه الشريف، وفي البخاري نسبته eإليه من حديث زينب بن أم سلمة ربيبته e.فكانوا أهل غزو، ويمكن أن تقع لهم غنائم. كانت قبائل أخرى جاءت للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل لهم عنالمغنم لأنبلادهابعيدة عن مواطن المشركين؛لكن الذين يحتمل أن يقاتلوا المشركين فيغنموا أمرهم بأداء الخمسمن الغنيمة، كما قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول...الآية}.
وأنهاكم عن أربع: عن (الدباء والحنتم والمزفت والنقير.) قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنقير؟ قال: بلى جذع تنقرونه فتقذفون فيه من القطيعاء (القطيعاء هو نوع صغير من التمر)قال سعيد (وهو ابن أبي عروبة أحد رواة الحديث)أو قال من التمر (هذا الشك من سعيد نفسه، هذا الشك لأن سعيد اختلط في آخر عمره، كان مع إبراهيم بنعبد الله بنالحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في حربه للعباسيين في أول أمرهم، فلما هُزِم إبراهيم ومُثِل بجيشه تمثيلاً شديداً،كان هو فيمن انهزم وعز عليه أن هذا الصِّدِّيق،ابن الأنبياء،يُفعل به ما فُعِل به،فأصيب بالاكتئاب ثم اختلط. والعلماء فرقوا بين من سمع منه قبل سنة 142هـ، ومن سمع منه بعدها،وهو مات سنة 156أو 157هـ. فقبل سنة 142هـمن سمع منه فسماعه صحيح، وبعد سنة 142هـاختلط فأصبح لا يُحَدَّثُبما سُمِع منه.)ثم تصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى أن أحدكم أو إن أحدهم (هنا الشك ليس من سعيد ولكن من الراوي الذي قبل سعيد)ليضرب ابن عمه بالسيف. قال (يعني أبو سعيد الخدري)وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك (قال كان في هؤلاء الناس واحد مجروح في ساقه بسبب واقعة كهذه، ابن عمه ضربه فأصابه) قال: فكنت أخبؤها حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو اعتقد أنه قد عرفه، حتى إذا قام أحدهم وقال إنمثلذلك لا يحدث،يقول لهالنبي e:"فما بال هذا؟". فالرجل كان يخفي قدمه حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.)فقلت (المتحدث هو ذلك الرجل من عبد القيس)ففيمَنشرب يا رسول الله؟ قال: في أسقية الأَدَمِ(وهي جلد الماعز ونحوها يخيطونها بالجلد أيضاً)التي يُلاث على أفواهها (يُلاث يعني يُربط).قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان (مليئة بالفئران)ولا تبقى به أسقية الأَدَم..فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها الجرذان"ثلاث مرات، وطبعاً في تكرار هذا اللفظ ثلاث مرات تبكيت للذي كان معترضاً على أن يُؤمر بالشرب فيأسقية الأَدَم لأن الفئران ستأكلها. ستأكلها الجرذان اعملوا غيرها.وليقارن من شاء بين الموقف مع القائل: «إن أرضنا كثيرة الجرذان» وموقف النبي eمن عمر حين أشار عليه ألا يدع أبا هريرة ينفذ أمره النبوي بتبشير من شهد أن لا إله إلا الله بالجنة لئلا يتكل الناس عليها ويتركوا العمل. فهذه كانت نصيحة عمرية استصوبها النبي eفقبلها. وتلك كانت تحمل شبهة اعتراض على اتخاذ أسقية الأَدَمِ أواني لماء الشرب فرد النبي eبلهجة حازمة آمرة فيها ما يشبه التبكيت لمن بدت منه تلك الشبهة. والفرق بين النصيحة والاعتراض بين. والأولى واجبة لله ورسوله، والثاني غير جائز إذا أمر النبي بشيء أو نهى عن شيء، إذ ليس للمسلم عندئذ إلا الامتثال{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} [النور:51] {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب:36]
"قال أبو سعيد الخدري:وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبد القيس: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة».
هذا الحديث به فائدتان غير موجودتين في الحديث السابق أو الآخر، الفائدة الأولى أنه أمرهم ببديل لما نهاهمعنه، لمينههم ويتركهم، لكنه عندما نهاهم عما كان عندهم من الأوعية والآنية فقالوا له ماذا نفعل؟.أمرهم بالبديل وقال لهم في أسقية الأَدَم.
الأمر الثاني أنه لما تعارض النهي عن اتخاذ أوانٍمعينة مع حالهم البيئي لوجود الفئران التي تأكل أسقية الأَدَم قال لهم تحملوا العبء المالي، تحملوا الغُرم الذي يصيبكم، تحملوا المشقة،فكلما أكلتالفئران هذهالأسقية،اعملوا غيرها، وربمايعلمهم هذا كيف يتخلصونمن الفئران.
فعلمهم أن التكلفةالمالية،أو العبء،يُستهان به في سبيل الطاعة، لأن ترك أنواع تلك الأواني الأربعة من الطاعة. فعلمهم أن العبء يُستهان به ويُتحمل في سبيل الطاعة لما أمرهم به ربهم ونبيه صلى الله عليه وسلم..والحديث الآخر لم تكن به هاتان الفائدتان وفي إدراك هذا بعض الرد الذي ذكرناه من قبل على الذي يطالبون بحذف المكرر من الأحاديث من دواوين السنة (!!)
* * * * *
باب الإيمان بالله أفضل الأعمال
عن أبى ذر رضي الله عنه قال:قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله.
هلالإيمان عمل؟ نعم، الإيمان عمل القلب، وهو يزيد أو ينقص نتيجة ما يُقبل عليه المرء من الطاعات، أو ما يقترفه من المعاصي، أو ما يَرِين على قلبه أحياناً من الغفلة والانشغال بالدنيا. فالإيمان هو عمل القلب وكسبه، كما أن المال عمل اليد والعقل والجسم وكسبها. وفَصْلُالإيمانِعن بقية الأعمال كلها،لا لشرف محله وهو القلب، وإنما لشرف متعلَّقه وهو ذات الله تبارك وتعالى،ونبيه صلى الله عليه وسلم، وكتبه،وملائكته،واليوم الآخر،إلى باقي أركان الإيمان. ففضل الإيمان بفضل ما تعلق به: تعلق الإيمان بربنا تبارك وتعالى، وتعلق بأنبيائه ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.وليس في الدنيا شيء أشرف من هذا كله. فأشرف الأعمال وأفضلها وأعلاها قدراً هو عمل القلب الذي هو الإيمان.
ثم قال: والجهاد في سبيله، لأنك في الجهاد تضحي بأعز شيء عليك، تضحي بنفسك في سبيل ما تؤمن به.
إذنالإيمان هو عمل القلب الذي لا يُرى، وقديجلس أمامك المؤمن صادق الإيمان والمنافق صادق النفاق، وأنت لا تعرف هذا من ذاك.وترى الاثنين يُصَليانمعك في المسجد، وتقول عنالمنافق إنه أتقى من المؤمن.ويلتبس حال الناس علينا لأننا لا نعرف ما في القلوب.
وفي الحديث عمل باطن لا يراه الناس ولا يطلَّعون عليه، وهو الإيمان بالله تعالى؛ وعمل ظاهر يراه الكافة، هو الجهاد في سبيل الله. فأنت ترى المجاهد يخرج ويترك وراءه ماله وأهله وأولاده وحياته المعتادة كلها ليقاتل في سبيل الله الذين يقاتلون أهل دين الله، ويصد الاعتداء، ويرد الأعداء، ويحرص على الشهادة لا لشيء إلا لتكون كلمة الله هي العليا. هذا هو المجاهد الحق.
لكن فريقًا من الناس يقومون بهذا كله رياءً ورئاء الناس، وفي الحديث أن من الثلاثة الذي تُسعَّر بهم النهار رجل قاتل حتى قتل؛ فيسأل يوم القيامة عن حاله في الدنيا، فيقول: يارب قاتلت في سبيلك حتى قتلت. فيقال له: قاتلت ليقال شجاع، ألا فقد قيل، ثم يلقى به في النار. وفي الحديث قصة رجل قتل في إحدى المواقع مع رسول الله e، فقال فيه الصحابة قولاً حسنًا، ومدحوه. وقال لهم رسول الله: «هو في النار» فقالوا يا رسول الله لقد أكثر في المشركين (يعني في قتلهم وقتالهم) فكرر الكلمة حتى قاله ثلاثًا. فذهب أحد الصحابة ينظر إليه لعله يتعرف على السبب الذي حمل النبي eعلى الحكم عليه بأنه في النار، فوجده أصيب في المعركة بجراح فوقع على الأرض، فاتكأ على قائم سيفه فأدخله في قلبه. هذا رجل قتل نفسه، انتحر، ولم يقتل في المعركة شهيدًا. أصيب وكان من الممكن أن يشفى كما شفي كثيرون في أعقاب المعارك، ولكن هذا أصيب فغلبه اليأس فقتل نفسه، فلَمْ يستحق أجر الشهادة، ولم يكن جديرًا بثناء الصحابة (رضي الله عنهم) عليه وعلى جهاده، لأن موته لم يكن في سبيل الله ـ كما يموت المجاهد شهيدًا ـ وإنما كان يأسًا وقنوطًا لا يلقيان بالمسلم الذي يؤمن برحمة الله ويرجوها على كل أحواله.
وكون هذا الرجل في النار لا يعني خلوده فيها إلا إن قتل نفسه مستحلاً لذلك وهو عالمٌ بأنه حرام. أما من سوى هذا فدخول النار عقوبة موقوتة ثم لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري. وفي حديث جابر بن عبد الله عند مسلم الدليل على أن المسلم الذي يقتل نفسه جزعًا أو يأسًا من مرض أصابه ونحو ذلك لا يكفر.
ثم قال أبو ذر، في الحديث نفسه، قلت: أي الرقاب أفضل (يعني الرقاب التي تعتق في الكفارات أو التي تعتق تقربًا إلى الله تعالى. كأنه يقول: إذا أردت التقرب بعتق رقبة أيَّ رقبة أعتق؟ الجيدة الطيبة الغالية الثمن، أم التي زهد فيها الناس لنقص أو عيب أو علةٍ؟) قال (أي رسول الله e): أنْفَسُهاعند أهلها وأغلاها ثمنًا. هذان وصفان يعود إليهما استحسان العبد أو الأمة. أن يكون ذا قيمة عند أهله لما يحسنه من العمل أو الصنعة أو الكسب أو الإدارة، فهذه أنفسها عند أهلها. وهي التي يحبون بقاءَها لديهم، ولا يفرطون فيها وهم القادرون على الاحتفاظ بها. وأن تكون الرقبة (العبد أو الأمة) غالية الثمن. وهي تكون كذلك لأسباب كثيرة منها ما ذكرناه وغيره. والحضُّ على العتق في الإسلام ـ بنص هذا الحديث ونظائره ـ حضٌّ على عتق أحسن الأرقاء، وأكثرهم قدرة على العمل والنشاط ممن يعد تصرفهم في المجتمع وهم أحرار من ربقة الرق إضافة إليه وتنمية له وزيادة في قوته. نعم يحب الإسلام تحرير الرقيق جميعًا، وهو وجد الرق سائدًا فشرع له أبواب العتق، كما كان يقول شيخنا العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، لكن التقرب بالأفضل أفضل بغير شك. والذي لا يجد ثمن أفضل الرقاب سيجد ثمن ما دونها فيؤول الأمر إلى عتق الجميع وتحريرهم.
قال (القائل أبو ذر): قلت فإن لم أفعل؟ لم أجد رقبة نفيسة عند أهلها ولا ثمنها غالٍ، أو ليس عندي مال. فإن لم أستطع أن أعتق رقبة نفيسة عند أهلها غالية الثمن ماذا أفعل؟
قال: تُعين صانعاً أو تصنع لأخرق.تُعين صانعاًيعني رجلاًيعرف كيف يعمل ولكن يحتاج إلى مساعدة.أو رجل أخرق، الأخرق هو الذي لا يُحسن صناعة شيء، لا يستطيع أن يكسب. هذاماذا نفعل له؟ نصنع له. هناكمثل صيني يقول: "علمني الصيدولا تعطني سمكة".هو ذلك،تصنع لأخرق، أيتعلمه أن يصنع لنفسه، تأخذ بيده وتعلمه الصنعة.
تُعين صانعاً يعني امرءًيعرف كيف يصيد فتصيد معه وتقول له هذا السمك هدية لك. أو يعرف في النجارة فتشتغل في النجارة معه...الخ. الثاني أخرق، عاجز عن الصنعة، عاجز عن الكسب، فتصنع له كي يتعلم كيف يصنع لنفسه، لكن لاتظل تصنع له وتنفق عليهطول الوقت، ويظل هو عاجزًا غير كفء لشيءلا،علمه كيف يصنع فيصبح هو قائماًبأمر نفسه.
قال(أي أبو ذر)قلت: "يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل"؟انظروا إلى هذا الصحابي الجليل لا يترك شيئاً، يريد أنيعرف كل شيء. وهو الذي قال: "كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه". يعني الناس تذهبإلى النبي eوتسأله عن الذي سينفعهم وأنا أسأله عن الذي سيضرني.فكان كثير السؤال. فسأله إذا لم أستطع فعل أي شيء من الذي علمتنيه: لم أجد رقبة ولا صنعت لأخرق ولا ساعدت صانعًا، ماذا أفعل؟
قال: تكف شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.فنسأل أنفسنا:هل هناكأحد لا يستطيع أن يكف شره عن الناس؟.تكف لسانك ويدك وعينك ورجلك،ومالك الذي تدفعه في الحرام لتؤذي الآخرين...الخ. تكف شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.يعني أنكتأخذ بذلك ثواباً. والحقيقة أن هذه النصيحة لو عمل بها المسلمون اليوم لتغير حالهم. فقط هذه النصيحة: تكف شرَّك عن الناس. إنهاصعبة جداً، بل إن هناك أناسًاليس عندهم عمل غير أن يفعلوا الشر للناس.وهي نوع من الجهاد الأكبر الذي يقف فيه الإنسان ضد رغباته وشهواته ودوافع الثأر والانتقام في نفسه ودواعي الحقد على غيره والحسد له... فيكف بذلك شره عن الناس. وأسعد الناسف في الدنيا والآخرة من سهَّل الله ذلك وأعانه عليه.
* * * * *
باب في الأمر بالإيمان والاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان
فيه حديثان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله فمن خلق الله؟
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بأن قوماً ستوسوس لهم الشياطين،من الفراغ ومن عدم الاشتغال بالعلم الصحيح، ومن كثرة زعم أنهم مفكرون ومتفلسفون وأكاديميون، ولا يجدونإلا أن يسألوا من خلق الله؟..الله خلق كل شيء،فمن الذي خلق الله؟
فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من هؤلاء الناس. قال: لا يزال الناس يسألونكمعن العلم حتى يقولوا هذا الله فمن خلق الله؟ قال (أبو هريرة): فبينا (يعني بينما) أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال (أبو هريرة)فأخذ حصى بكفه فرماهم به (يعني أبو هريرة يقول على نفسه أنه أخذ حصى ورماهم به)ثم قال: "قوموا قوموا صدق خليلي صلى الله عليه وسلم»
قال: «لا يزال الناس يسألونكم عن العلم. يبدؤون بالعلم النافع ثم يتعمقون شيئًا فشيئًا في الفلسفة، ثم يتعمقونفي الكلام الذي ليس له معنى، ثم يصلونإلى هذه الوسوسة التي يجب أن يُستعاذ بالله منها.حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال هذا وهو آخذ بيد رجل فقال صدق الله ورسوله سألني واحد وهذا الثاني».
أبو هريرة لما جاءه الثاني أخذه وسار به في الشارع يقول للناس:صدق رسول الله. واحد سألني من قبل والثاني معيالآن.يدُّلهم عليه كأنه يُشهِّر به ويريهم فساد عقله وتفاهة سؤاله. وأبو هريرة له من هذا القبيلأشياءكثيرة، يعملها ويشيعها في الناس.
وجدت كلاماًجميلاًللإمام القرطبي، القرطبي شارح مسلم وله كتابجميل اسمه "المُفهم في شرح صحيح مسلم" لكنه ليس القرطبي المُفسِر الذي نعرفه، بلهو شيخه.الذي شرح مسلم هو شيخ القرطبي، فلا يختلط الاثنان على أحد.
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا في حديث آخر جاء به مسلم،ولم يخرجه المنذري:أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قال: فمن وجد من ذلك شيئاً (يعني من وجد من ذلك في قلبه أو في نفسه أو سمع أحداً يتكلم به، من وجده بأي طريقكان)فليقل آمنت بالله. يقول القرطبيفي المفهم:قوله صلى الله عليه وسلم فليقل آمنت بالله،أمرٌبتذكر الإيمان الشرعي واشتغال القلب به لتنمحي تلك الشبهات، وتضمحل هذه الترهات المذكورة في الأحاديث. وهذه أدوية القلوب السليمة الصحيحة المستقيمة، أن يتذكر الإنسان ويقول آمنت بالله، يقول لا إله إلا الله، يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقول لا حول ولا قوة إلا بالله.يُحضر في قلبه ذكر الله تعالى، فإذا استحضر في قلبه ذكر الله ضاعت منه وسوسة الشيطان. قال وهذه أدوية القلوب السليمة الصحيحة المستقيمة التي تعرض لها الشبهة فلا تبقى فيها. فإذا استعملت الأدوية بنحو ما أمر به طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم بقيت القلوب على سلامتها وصحتها. وإذا لم تُستعمل على نحو ما أمر به فكيف ستأتي بنتيجة؟ فطريق الشفاء من هذه الأدواء هو الذكر الشرعي واستحضار الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وتذكُّر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقول آمنت بالله، يعني يستحضر هذا المعنى الصحيح صريحًا في نفسه,
في حديث آخر في مسلم أن الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يستعظم أن ينطق به. وفي رواية صحيحة:ما يود لو خرَّ من السماء فتخطفته الطير على أن يتكلم به. (والمقصود هو التساؤل الذي جاء في حديث أبي هريرة) فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجدتموه؟ فقال نفر منهم: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان.
وقد أخطأ في هذا الموضع كثير من الشراح؛ظنوا أن صريح الإيمان أن تجد هذا المعنى في نفسك. الحقيقة أن صريح الإيمان أن تسكت عن النطق بها. أن تمسك عن الكلام. أن تتوقف وتستعظم حتى تجد أنه لو وقعت من السماء وأكلتك الطيور الجارحة أحب إليكمن أن تنطق بهذه الكلمة. فهذا الاستعظام الذي أدى إلى الامتناع هو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صريح الإيمان. أوجدتموه؟ قالوا: نعم. يعني هل وجدتم في أنفسكم هذا الخوف من النطق بهذه الكلمة فكتمتموها؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان. صريح الإيمان هوالسكوتعندما يرد على الخاطر معنىً فاسد، صريح الإيمان هواستكثار النطق بهذه الكلمة أو استعظامها. وهذا الباب فيه، عند الإمام مسلم وغيره،أحاديث جميلة جديرة بالوقوف عليها.
* * * * *
باب الإيمان بالله والاستقامة
«عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداًبعدك. وفي رواية لا أسأل عنه أحداًغيرك».عندما يقول واحد قل لي في الإسلام..طبعاً أنتم تعرفونكتاب مئة سؤال عن الإسلام، وكتاب أنت تسأل والإسلام يجيب، وعلى غلافهصورة أحد العلماء: أنت تسأل فوق الصورة، وتحتهاالإسلام يُجيب.فالصورة صورة هذا العالم الجليل كأنههو الإسلام نفسه.
أما رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن، ويأتيه جبريل في الليل والنهار، وفي السفر والحضر، وفي الصيف والشتاء. رسولنا عندما سُئل عن كلمة لا يسأل السائل بعدها غيره أحداً عنها قال له خمس كلمات. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم.»
قال القاضي عياض: هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ومن جوامع كلمه، ومن معجزاته أن يقول هذا القول الصغير البليغ. الاستقامة هي العمل بالأركان وترك المحظورات وإتيان المأمورات.
ولذلك قال العلماء إنه لو شُرِح هذا الحديث لكان الإسلام كله. لأنه سيتضمن شرح العبادات والمعاملات والجهاد والزواج والطلاق، كل الإسلام.. فاستقم، ربنا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم {فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك} [هود:112]ولذلك قال ابن عباس لم تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد من هذه الآية، حتى قال لما ذُكِر له الشيب:بعض الصحابة قالوا له شبت يا رسول الله، أو شاب شعر رأسك يارسول الله،قال: شيبتني هودوأخواتها:{فاستقم كما أُمِرت ومن تاب معك}. فاستثقل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، لأنه ليسأمرًا له هو وحده.لكنه أمر لهولكل المؤمنين إلى يوم القيامة. من الذي سيستطيع أن يستقيم كما أُمِرالنبي بذلك؟ كلنا على صراط بعضنا يكاد يفلت وبعضنا لا يكاد، نسأل الله الستر وحسن الخاتمة.
الاستقامة في المأمور بها في هذا الحديث، وفي هذه الآية هي العمل بالمأمورات وترك المحظورات على عمومهما واتساعهماومن وفق إلى ذلك فقد هُديَ وأوتي رشده ومن زاغ فالله يغفر لنا وله بفضله ورحمته.
* * * * *
باب في آيات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به
وأخرج فيه حديثان:الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أُعطي من الآيات (يعني من المعجزات)ما مِثْلُهُآمن عليه البشرُ(واحد عصا موسى، والثاني يحيي الموتى ويبرئ الأبكم والأبرص والثالث يصنع الحديد، والجن تخدمه. كل نبي كان عنده معجزات حسية مادية رآها الناس فآمنوا)وإنما كان الذي أُوتيتُوحياً أوحى الله إلي، (وفي رواية أوحاه الله إليّ)فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»
أشار العلماء هنا إلى ثلاثةمعانٍ مهمة جداً، وزادوا معنى رابعًا أهم من الثلاثة. قالوا،أولاً، إن معجزته هو القرآن المحفوظ بحفظ الله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9]أما معجزات الأنبياء الأخرى فكانت في أوقاتهم، ولم تُحفظ بعدهم، رآها من رآها ومن لم يرها لم يعرفها إلا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. القرآن الذي نُزِّل على محمد هو الدليل على معجزات الأنبياء السابقين، ولولا هذا القرآن ما صدقنا المعجزات الأخرى، وإلا كيف سنصدقها؟بل كيف سنعرفها؟من الكتب المؤلفة أم من الكتب المُحرفة؟ الكتب نوعان:مؤلفة ومحرفة. فهي إمامؤلفة من أولها لأخرها، وإما لها أصل لكنهمحرفوه وعدلوا به عن أصلهالذي أنزله الله على النبي أو الرسول.
المعنى الثاني الذي استنبطه العلماء من هذا الحديث هو: استمرار القرآن وانقراض معجزاتهم.فحفظ الله تعالى للقرآن، وكون القرآن نصًا محفوظًا في الصدور مدونًا في السطور جعله باقيًا إلى يوم القيامة؛ على خلاف معجزات الأنبياء السابقين.
المعنى الثالث هو: أن معجزات الرسل السابقين على محمد eوهي حسية مادية قد تُعارَض بأمرين: بالتخيل {ييخيلإليه من سحرهم أنها تسعى}[طه:64] أو بالسحر نفسه {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} [الأعراف:116].وتُعارَض بأمر ثالث: هو تفاوت العقول في التلقي والقبول فإدراك أن هذا حقيقة أم خيال يحتاج إلى إعمال الفكر،والناس ليسوا سواء في مستوى التفكيرفيصدقون ويكذبون بحسب أفهامهم، لكن المعجزة التي لا يرِدُ عليها شيء من هذا كله هيالقرآن الكريم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه هي الجملة الرابعة التي هي أهم من الثلاث جمل السابقة «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»تابعاً هنا يعني أتباعًا في دينهلانتشار الإسلام وبقاء هذه المعجزة إلى يوم القيامة. قال النبي eهذا الكلام في زمن قلة الإسلام وضعفه وهجوم أعدائه عليه، ولما ذهب بعد ست سنوات ليؤدي العمرة، كانعدد كل المسلمين الذين في المدينة وما حولها نحو ألف وخمسمائة، في المدينة وما حولها من الأعراب والبوادي.
نبيٌ،يكون حاله هكذا، وهذا عدد أتباعه بعد نحو تسع عشرة سنة في الدعوة إلى دين الله،ويقول أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة؟ قال العلماء فما إن مات صلى الله عليه وسلم حتى بدأ فتح البلاد وانتشار الإسلام، وهو يظل في ازدياد إلى أن تقوم الساعة.ونحن نرى هذا إلى يوم الناس هذا (!!)
ليس مهماً أننا في مراحل نكون غثاء كغثاء السيل، وفي مراحل نكون مهزومين، ومراحل نكون ضعفاء، هذه كلها عوائق، إنما أصل الإسلام باق ومنتشر، وطالما هو باق ومنتشر تأتي له أيام ينتصرفيها،وتأتي فيها أيام ينهزم: {تلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140].
إنما الأصل أن الإسلام ينتشر، وطالما ينتشر فلابد أن ينتصر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنما كان الذي أُتيته وحياً أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة». وقال في الحديث الآخر«وليبلغن هذا الدين ما طلعت عليه الشمس»«حتى لا يبقى بيت دبر ولا مدر إلا ودخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل»هذا لم يحدث بعد،لكن سيحدث(!)لأن الرسول صلى الله عليه وسلملم يقل شيئاً ولم يحدث، كل الذي يقوله يحدث.هو لا ينطق عن الهوى، ولا يخبر بأمنياته، لكنه ينطق عن الوحي ويخبر بالحق الذي يقع ولو
دكتور محمد سليم العوَّاِ
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(3)
لا نزال في أحاديث الباب الذي سمّاه الإمام المنذري «باب: من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاكٍ فيه دخل الجنة».
* * *
الحديثالأول: وقفنا في هذا الباب عند حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا قعودًا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر (في نفر يعني في جماعة، جماعة من الصحابة) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا (قام من المجلس الذي كانوا فيه،انتقل إلى مكان آخر يؤدي عملاً، أو لحاجة لم يعرفوها، من بين أظهرنا يعني من جماعتنا، وليس معناها أنه أعطى لهم ظهره. من بين أظهر الناس وبين ظهرانيهم يعني من وسطهم، من جماعتهم. ولها أصل لغوي جميل: واحد ظهره للآخر، ظهره عضد للآخر أو حماية للآخر عندما يكون الإنسان في وسط ناس، لأنه عندما يكون منفردًايُخشى عليه) فأبطأ علينا (تأخر) وخشينا أن يقتطع دوننا (خافوا أن يكون يجده بعض أعدائه المشركين من الكفارمنفردًا فيغتاله أو يضربه أو يعتدي عليه أي عدوان. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معصومًا من هذا، هو كان معصومًا من أن يخطئ في تبليغ الرسالة أو يحال بينه وبين تبليغها {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك والله يعصمك من الناس وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}فالعصمة في التبليغ، أما في الحرب فهو جُرح وكُسِرت رباعيته وضُرب على ترقوته، فكان من الممكن أن يصيبه ما يصيب الناس) وفزعنا فقمنا (قاموا يبحثونعنه) قال أبو هريرةفكنت أول من فزع (أنا أول منأسرعتفي أثره) فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني أبحث عنه)حتى أتيت حائطًا للأنصار (الحائط يعني البستان، حديقة صغرت أم كبرت،والمزروعة بالذات بالفواكه أو نخيل فهذه يسمونها حائط لأنها كانت تسور عادة بحائط)لبني النجار فدرت به (يعني دار حول هذه الحوطة، أو الحائط)فلم أجد له بابًا فإذا ربيع يدخل في جوف الحائط من بئر خارجها (الربيع هو الجدول، هو جدول الماء الصغير،النُهير الصغير)فاحتفزت فدخلت على رسول الله (احتفز يعني صغَّر نفسه حتى يدخل من هذا المكان) مع الربيع فقال: أبو هريرة؟ (يعني النبي صلى الله عليه وسلم سأل هل الداخل هوأبو هريرة) فقلت نعم يا رسول الله. قال: ما شأنك؟ (ما الذي أحضرك)قلت: كنتََبين أظهرنا فقمتَفأبطأتَعلينا فخشينا أن تُقتطع دوننا (بين له العذر،أي أنهلا يتجسس عليه أو يريد أن يرى ماذا يفعل، أو دخل عليه دون إذن)ففزعنا فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس ورائي (كل الذين كانوا معك يبحثونعنك معي وورائي)فقال: يا أبا هريرة(!)وأعطاني نعليه وقال: اذهب بنعليَّهاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبهُفبشره بالجنة....»
أريد أنأقف هنا قبل أنأكمل الحديث. أبو هريرة يحكي لناعن نفر معين من الناس كانوا جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فاستبطأوه فخافوا أن يقتطع من بينهم،ففزع أبو هريرة أولَالناس،ثم سيأتي الباقونلأنهم وراءه. هذا الكلامكانموجهًالمجموعة معينة، ولقدقلتُكثيرًا،ولا زلت أقول،إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فهذه الواقعةتخص أناسًامعينين، أما عموم الحديث فيخص كل المسلمين: «من لقيتَيشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة». فنحن من حقنا أن نبشر كل من استيقن قلبه بلا إله إلا الله بأنه من أهل الجنة إن شاء الله، رغم أن هذه الواقعة متعلقة بقوم معينين كانوا جلوسًافي وقت محدد وقاموا يبحثونعن النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يصح أن يقال، كما يقول بعض الناس في الآيات والأحاديث التي عرفنا أسباب نزولها أو ورودها"إنهاخاصة بهؤلاء".لا،هي ليست خاصة بهؤلاء،لأنه قال له من لقيت وراء هذا الحائط، فالعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.
قال أبو هريرة: «... فكان أول من لقيتُعمر بن الخطاب رضي الله عنهفقال: ما هاتان النعلان ياأبا هريرة؟ (ارتاب؛وجده حاملاً نعلين ووجد نعلين في قدميه)فقلت هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما؛من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بَشَّرْتُهُبالجنة. قال: فضرب عمر بيده بين ثَدْيَيَّ(ضربه في صدره)فخررت لاستي (وهو المقعدة؛المكان الذي يجلس عليه)فقال: ارجع يا أبا هريرة. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً(أول ما وصل عند النبي صلى الله عليه وسلم، عارفين الطفل يظل متماسكاًإذاأغضبهأحد، وأول ما يرى أمه أو أباه أو أخاه أو أخته ينفجر بكاءً. لماذا؟ لأنه وجد الذي سيحميه. فهكذا كان أبو هريرة مع النبي صلى الله عليه وسلم. أبو هريرة كان فقيرًا ومن أهل الصُفّة ولما جاء احتضنه النبي صلى الله عليه وسلم،وأنفق عليه وكان يطعمه، وكان يعطيه من ماله الذي يأتيه. فكان يشعر مع النبي صلى الله عليه وسلم بشعور خاص، فأول ما رآه انفجر في البكاء)وركبني عمر فإذا هو على أثري (ركبني يعني جاء يجري وراءه،ولم يتركه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله لقيت عمر، فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثدييّضربة خررت لاستي، فقال: ارجع.(وكان عمر قد وصل)فقال له رسول الله e:يا عمر ما حملك على ما صنعت؟(ما الذي فعلته؟ أنا أرسلت رجلاً برسالة تقابله وتضربه وتوقعهعلى الأرضوتقول له ارجع؟) قال:يا رسول الله بأبي أنت وأمي (هذا أدب عظيم من الصحابة مع النبي e؛يريد أن يقول له:أنا لست مخالفًا لأمرك، أنا لست عاصيًا، لست معترضًا على ما وجهت به أبا هريرة. فقال له بأبي أنت وأمي. العرب لما يقولوا بأبي أنت وأمي يعني أفديك بأبي وأمي وهذا من أعظم الثناء وأبلغ التقدير)يا رسول اللهأبعثت أبا هريرة بنعليك؛من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة. قال: (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) نعم. قال: فلا تفعل يا رسول الله(قال ليأحد أبنائنا فيالمرة السابقة:هذا اعتراض على كلام النبي صلى الله عليه وسلم. لا،هذا ليس اعتراضًا، هذه هي المشورة الواجبة لكل مسلم على كل مسلم،والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم. عندما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟»لمن نقدم هذه النصيحة ؟.. هل أجول في الطرقات فأنصح كل واحدألقاه؟ أم ما هي النصيحة؟ المورد الأول لله، أنصح لله بأن أدل الناس على ما أمر به وعلى ما نهى عنه، وأعلمهم ما علمني ـ سبحانه ـمن علم، وأبين لهم ما أنزل في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الأحكام. إذن،لله.ولكتابه (القرآنأعلُّم منه ما أعلم وأسأل العلماء عما لا أعلم) ولرسوله (يعني أبين السنة وأعلم الناس إياها وأدلهم عليها وهكذا).ولأئمة المسلمين وعامتهم. فكلام عمر هذا من باب النصيحة،لمن؟لإمام الأئمة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. جاءه عمر ينصحه وتلطف في النصح فبدأ بقوله بأبي أنت وأمي يا رسول الله. ثم أوردالسؤالعن صحة ما قال له أبو هريرة. (لماذا؟هلأبو هريرة كذاب؟ هليخطر ببالأحدأن رجلاًيخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم،ومن المكان الذي دخل منه مع الماء، يخرج ليقول إن النبي بعثني بكذا وكذا،ومعه النعلين، كل ذلك ويكون كاذبًا؟..هذا السؤال سؤال استيثاق وتمهيد للنصيحة التي سيقدمها عمر للنبي صلى الله عليه وسلم.) فإني أخشى أن يتكل الناس (عندما يعرفونأن من قال لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه،فيقصرونفي الطاعات ويزيدونفي المعاصي، ويؤخرونالزكوات، ويقصرون في الصلاة والصيام،وكلما اشتاقت نفسه إلى هفوة هفاها، وإلى شهوة يشتهيها أصابها. ثم بعد ذلك يقول: قلبي مستيقن، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد صنمًاولا وثنًاولا حاكمًاولا محكومًا، إذنسأدخل الجنة).لكن هذا ليس هو المقصود. المقصود هو أن الاستيقان بلا إله إلا الله يؤدي بالمرء إلى أن يعمل بمقتضاه، وإلى أن يسمع ما أُمِر به فيعمله، وما نُهي عنه فيجتنبه، إلى آخر المأمورات والمنهيات. هذا هو المقصود بلا إله إلا الله واستيقان القلب بها. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر:«الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل» فهذا معنى مستيقنًا بها قلبه. إنما عمر لأنه فهم المعنى الصحيح للبشارة النبوية قال له: أخاف لو أن أباهريرة قال هذا للناس على وجه العموم "مستيقنًا بها قلبه دخل الجنة"سيهملون العمل بمقتضاها، يعني يخشى أن يتكلوا) قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها،فَخَلِّهِم يعملون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَخَلِّهِم»
هلخسرنا شيئاًبمنع سيدنا عمر لأبي هريرة بان يبلغ الناس بهذا الحديث؟ لم نخسر أبدًا. ولاالإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خسر،لأن النبي قال هذا الكلام لأكثر من عشرة من الصحابة، فهذا المعنى مروي عن أكثر من 11 أو 12 من الصحابة بصيغ وألفاظ مختلفة.
فجيل الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يخسروا شيئًا،والجيل الذي يليه، جيل التابعين رووا هذه الأحاديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فما هي إذنحكاية «أخشى أن يتكلوا»؟.كانت هذه مرحلة لحظية، كان الإيمان في أول أمره والإسلام في بداية تشريعه في المدينة المنورة، والناس بين مؤمن إيمانًا يقينيًا وبين نصف مؤمن وربع مؤمن، وواحد مؤمن من أجل المال، أولأن النبي صلى الله عليه وسلم ألف قلبه بالهدايا، والمسألة مازالت غير مستقرة. قال عمر أخشى أن يتكلوا الآن. ولكن بعد أن يستقر الإيمان فالاتكال قليل ومن اتكل فهو المخطئ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال خلِّهم وكأنه قال خلِّهم الآن، خلِّهم في هذا الزمن، خلِّهم في هذا الجيل، خلِّهم فيما بينكم أنتم مجموعة الصحابة.
والعلماء لهم كلام كثير في مسألة مَنْالذي كان موجودًافي ذلك الوقت، ومن كان فيهم، ومن منهم قال ماذا، كل هذا كلام جميل،ولكن ليس له دلالةخاصة في معنى الحديث ونتيجته.
دلالة الحديث الذي معنا، ونتيجته،أنه من قال لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه ومعنى ذلك أن يكون أدى العمل بمقتضاها، فإنه إن شاء الله من أهل الجنة.
* * *
الحديث الثاني:الحديث الذي يليهفي هذا الباب عند المنذري، باب: من لقي الله بالإيمان غير شاكٍ فيه دخل الجنةهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم(الردف هو ما يأتي بعد الشيء، شيء يأتي بعد شيء، والرديف والردف كلمتان بمعنى واحد، وتكون غالبًا في الركوب، في المسير وتستعمل في البقاء. وعندنا كلمة في العربية المعاصرةمشهورة في تقسيم جنود الجيش وهي الرديف، ويقصدون به الاحتياط الذي لا يعمل في خدمة القوات المسلحة أو الجهات العسكريةطول الوقت لكنه تحتد الاستدعاء عند الحاجة إليه).إذن،كان معاذ خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الرحل(في الناقة أو الجمل أو الحصان) ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل (يريد أن يقول إنه كان قريبًا جدًّا، والمؤخرة هي العود الذي يوضع على نهاية سنام الجمل أو الحصان أو الحمار لكي يفصل بين راكبين، وهي قطعة خشب، إذن،ليس بيني وبينه غير قطعة الخشب هذه التي تفصل بين راكبين)فقال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة (الساعة في أصل اللغة تعني مدةوليس معناها 60 دقيقة كما هو تقسيمنا الآن للوقت) ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك.ثم سار ساعة. (لبيك يعني طاعة بعد طاعة، في الحج لبيك يعني طاعة لله بعد طاعة، متكررة، دائمة، أبدية لا تنقطع من جانب المسلمين. وسعديك يعني أنا أساعد نفسي على طاعتك، أساعد نفسي بالطاعة على الطاعة؛لأن الإنسان إذا أطاع استحلى الطاعة فيستمرفيها، وإذا لا قدر الله،عصى يغلبه الشيطان وتحلو المعصية في عينيه ويستسهلها. فأنا أساعد نفسي مرة بعد مرة على أن أعمل مزيدًا مما تأمر به. فقال له كل مرة لبيك يا رسول الله وسعديك) ثم قال يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.(هل هناكأبسط من ذلك؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. هذا مصداق من قال لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، يعبد الله ولا يشرك به شيئًا. والعبادة كما نعرف ليستهيمجرد هذه الشعائرالتي نؤديهامن صوم وصلاة وصدقة وحج....إلخ إنما حياتنا كلها عبادة {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون}كل حياتنا عبادة، أداؤنا للعملعبادة، زيارتنا لصديقناعبادة، صلة الرحمعبادة، تعليم العلمعبادة، تعلم العلم عبادة، هذا كله من العبادة. فقالeحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ (ذلك يعني الذي ذكره من قبل: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. تأمل هذا اللفظالنبوي الجميل: حق العباد على الله!هل لنا نحنحق عند ربنا؟!الذي خلقنا وأوجدنا ورزقنا، وبعث الأنبياء ليهدونا، وأنزل الكتب لتبقى بين ظهرانينا.أنعم علينا بهذه النعم حتى سمى نفسه رب العالمين يعني مربيهم بنعمه. لنا عليه حق بعد هذا كله؟!هذا من تفضل الله علينا ومن إنعامه، ومن تحببه إلى خلقه حتى يحبوه ويطيعوه)قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم».
هذه هي الصفقة، هذه هي المقايضة، هذا هو الثمن. إذا عبدنا اللهلا نشرك به شيئًا؛العبادة بمعناها الكامل الشامل.فنحن في أمن من العذاب. تدفع الثمن مقدمًا تأخذ السلعة مؤخرًا، تدفع الثمن وأنت قادر وتأخذ السلعة يوم لا يكون بيدك أن تنفع نفسك ولا أن تضرها،فضلاً على أن تنفع غيرك أو تضره. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك، إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئًا،ألا يعذبهم. معادلة بسيطة جدًّا لكن أكثر الناس لا يعلمون.
* * *
الحديث الذي يليه عن محمود بن الربيع عن عِتْبان بن مالك قال:"قدمت المدينة فلقيت عِتْبان (اسمه عِتبانعلى قول الأكثرينوعُتبانبضم العين عند بعضهم)فقلت حديث بلغني عنك (يعني هناكحديث من الأحاديث النبوية بلغني،ولك علاقة به أو لك شأن فيه، لك قصة مع الحديث. فما هو هذا الحديث؟.محمود بن الربيع صحابي لقي عِتبان وهو صحابي آخر ـ في زيارة لمحمود بن الربيع للمدينة ـ فسأله عن حديث له به شأن؟ولنلاحظ هنا أننا مع رجلين من الصحابة يروي أحدهما الآخر. وفي أصل الحديث عند مسلم أن أنسًا يرويه عن محمود بن الربيع الذي يرويه عن عِتبان، فهم ثلاثة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض وهذا دليل اهتمامهم العظيم بحديث النبي eلم يكن أحدهم يكتفي بما سمعه بنفسه مباشرة بل كانوا يتتبعون مالم يسمعوه لئلا يفوتهم من السنة شيء. وفي هذه الرواية دليل على أنه لا كبر في العلم، فإن أنس أكبرسنًا ومقامًا من محمود بن الربيع، ومع ذلك يروي عنه. وهذا كثير في الرواية في مختلف الأجيال لأن العلم علَّمهم أن العبرة به، لا بالسن ولا بقدم الإسلام والصحبة ولا بالمكانة الاجتماعية أو غيرها) قال: أصابني في بصري (إخواننا الذين عندهم هذه النسخةمن مختصر مسلم للمنذري سيجدون هذه الكلمة، «في بصري»،للأسف في طبعاتها الخمس مكتوبة "في بعدي" ولم ينتبه أحد لهذا الخطأ. الخمس طبعات فيها هذا الخطأ، بما فيها طبعة الكويت،وما انتبه أحد ، مع أن المراجعة دقيقة جداً، لكن سبحان الله،أبى الله أن يُتم إلا كتابه. ويحكى عنالشافعيأنه كانيقول لو روي عنيكتاب ألف مرة فلابد أن يوجد فيه الخطأ؛لأن الله أبى أن يصح إلا كتابه. فلا يستكثرن أحدكم أن يراجع كتابه المرة بعد المرة. راجع ألف مرة ستجد أخطاء، لأنه لا يوجد كتاب في الدنيا بلا خطأ.وهذه من المعجزات الغريبة،أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يخلو من الخطأ إلى يوم القيامة)أصابني في بصري بعض الشيء( يعني بصره ضعف، هو لم يقل إنه عميَ،ولكن بعض مفسري الحديث قالوا إنه فقد بصره، لكنه لميقل إنه فقد بصره وإنمااستعمل تعبيراًأرق وقال أصابني في بصري بعض الشيء)فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مُصلى (قال له تعال صَلِّفي مكان في بيتي أتخذه للصلاة وأتوجه للقبلة كما توجهت وأقف حيث وقفت وأجلس حيث جلست. حدد لي مصلى أصلي فيه في البيت. لماذا؟ لأنه أصيب في بصره ولن يستطيع الذهابإلى المسجد. أصبح كفيفاً أو ضعيف البصر، لو سار يخاف أن يقع،يخاف حشرة أو دابة أو غيره. فكان هذا عذره كي يصلي في البيت. والنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا العذر وذهب إلى بيته) قال: فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه (لم يأت بمفرده، جاء ومعه جماعة من أصحابه، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) فدخل وهو يصلي في منزلي،ويتحدثون بينهم(النبي دخل يصلي وحده، ده منزل صغير مش عدة غرف، هو غرفة بالكثير غرفتين، منهم غرفة فيها الدابة أو بعض الأكل أو كذا) ثم أسندوا عُظْمَذلك وكُبْرَهُإلى مالك بن دخشم ( ما هي هذهالحكاية؟..النبي صلى الله عليه وسلم دخل يصلي في بيت الرجل والصحابة جالسون، يتحدثون فأتوا على ذكر المنافقين وقالوا فيهم مقالة سوء ونسبوا أكثر ما قالوه عنهم إلى مالك بن دخشم) قال: ودوا أنه دعا عليه فهلك وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والتفت إليهم (إذن، كانالمكان قريباً،لم يكن ببعيد)وقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ (هذا الرجل الذي تذكرونهبسوءوتسبونه أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟)قالوا: يا رسول اللهإنه يقول ذلك وما هو في قلبه. قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار،أو تطعمه النار"
لم يقل هنا: هلاشققت عن قلبه؟لأن الذي في قصة أسامةكان أسامة قد قتله وقُضي الأمر، لذلكقال لأسامة، تعليمًا وتأنيبًا،هلاشققت عن قلبه؟ لكن هذا الرجل موجود معهم،والنبي صلى الله عليه وسلم وسطهم. قال أنس ـ الصحابي الراوي عن صحابيين ـ فأعجبني الحديث فقلت لابني اكتبه فكتبه.لا شك أن الصحابةكانوا يحفظونالأحاديث بالذاكرة.لكن هذا الحديث رُوِيَ له وأعجبه، وهو لم يكن حاضرًا عند وقوع القصة فيذكرها،فخاف أن ينساه فقال لابنه اكتبه فكتبه).
في رواية البخاري: "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله."..أنا أتيت بهذهالجملة من البخاري لأن فيها رداًجميلاًعلى الناس الذين يقولون يكفي القول باللسان ولا يحتاج إلى الاعتقاد بالقلب. هناك من الفِرَقالإسلامية منيقولونإنه يكفي أن يقولها بلسانه، أي بظاهر الحديث.
فالبخاري في روايته: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله."ومسلم في الحديث السابق قال: "مستيقناً بها قلبه". فهاتان العبارتان يدلان على أنه لا يكفي الكلام باللسان إنما ينبغي أن يكون معها الاعتقاد بالقلب.
وقبل أن نترك هذا الحديث ننبه إلى كلمتين واسم. فأما الكلمتان فهما (عُظْم) و(كُبِر).
(عُظْم) الشيء بضم العين أن معظمه وأكثره. و(كُبِر) بضم الكاف وكسرها لغتان فصيحتان مشهورتان، لكن الرواية في الحديث رجَّح الرواة فيها الضَّم، ومعناها أكبر التبعة في أمر ما، كما قال تعالى في سورة النور {والذي تولى كِبْره} [النور:11] أي الذي أشاع قالة الباطل عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وهي مقروءة في المتواتر بكسر الكاف. وقرأ بعض القراء العشرة بكسرها (حميد الأعرج ويعقوب الحضرمي). وأما الاسم فهو (مالك بن دخشُمْ) هكذا رواه الإمام مسلم، وروي (ابن دخشيم) و(ابن الدخشم) و(ابن الدخشيم) و(ابن الدِخشن) و(ابن الدِخشين)! وهذا الاختلاف في الاسم لا أثر له لأن العرب كانت تنادي بعضها بأسماء متقاربة مالم يكن في تغيير الاسم قرينة هزءٍ بصاحبه أو سخرية منه. ومالك هذا شهد بدرًا وما بعدها، وأصحاب التراجم مختلفون هل شهد العقبة (البيعة فيها قبل الهجرة) أم لم يشهدها؟!
وقد علق الإمام النووي على هذا الحديث بقوله: «وقد نص النبي eعلى إيمانه باطنًا وبراءته من النفاق بقوله eفي رواية البخاري: ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى؟ فهذه شهادة من رسول الله eله... فلا ينبغي أن يشك في صدق إيمانه رضي الله عنه»
* * * * *
باب الإيمان ما هو وبيان خصاله
أول حديث معنا في هذا الباب،وهوليس فيه إلاحديث واحد في الحقيقة، وقد مر بنا هذاالحديث في أول الكتاب، حديث وفد عبد القيس.وهو أمر يقتضي كلمة عن تكرار الأحاديث النبوية في دواوين السنة:
ذات مرة كنت أقرأ في بعض الكتب التي تُدَرَّس في بعض الجامعات،فوجدت أستاذاًيقول إن الكتب الفلانية (كتب الحديث: صحيح البخاري وصحيح مسلم وجامع الترمذي...الخ) فيها مكرر ولو نُقيت من هذا المكرر لاختُصِر حجمها فيتمكنالناس من دراستها ببساطة أكثر. فبصرف النظر عن أنه لا يعرف عدد المكرر ولايعرف ما معنىمكررأصلاً.فالمكرر ليس مكرراً عبثاً، ليس مكرراً بنفس اللفظ، ليس مكرراً بنفس المعنى، ليس مكررًا بنفس الطريق (أي الرواة أنفسهم)، إنما هو مكرر لأن فيه زيادة معرفة؛إما في الرواية وإما في الدراية. في الرواية بمعنى أن واحداًرواه بمعنى أقرب للنبي صلى الله عليه وسلم من واحد آخر ، أو واحد أوثق أو واحد أضبطأو رواه مرة بواسطة بينه وبين شيخه ومرة بلا واسطة...الخ
أو في الدراية لأن فيه معنى زائدًا،لم يأت في الحديث السابق، فكرروه لهذا السبب، وليس عبثاً أو غفلة حتى يقول نحذفالمكرر منه. هذا التكرار له فوائد في كل حديث مختلفة عن الحديث الآخر، وأهل العلم بالحديث يعرفون ذلك، وواجب من يستغلق عليه أمر عملي أن يسأل فيه أهل الذكر قبل أن يقول برأيه فيضع نفسه حيث لا يجب لها أن تكون.
* * *
حديث الباب هو حديث أبي سعيد الخدري قال: «إن أناساً من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا حيّ من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع:اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم،
هناأمر بخمس طاعات وهو قال لهم:آمركم بأربع. قال العلماء: أمرهم بالأربع التي وعدهم بها ثم زادهم خامسة وهي أداء الخمس من المغنم.
لماذا؟ لأنه،كما قلنا في المرة السابقةالتي مر بنا فيها هذا الحديث،إنهم كانوا بين قبائل المسلمين وقبائل المشركينكان بينهم وبين النبي eكفار مضر (ومضر هو الجد السابع عشر للنبي eفي المتفق عليه من نسبه الشريف، وفي البخاري نسبته eإليه من حديث زينب بن أم سلمة ربيبته e.فكانوا أهل غزو، ويمكن أن تقع لهم غنائم. كانت قبائل أخرى جاءت للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل لهم عنالمغنم لأنبلادهابعيدة عن مواطن المشركين؛لكن الذين يحتمل أن يقاتلوا المشركين فيغنموا أمرهم بأداء الخمسمن الغنيمة، كما قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول...الآية}.
وأنهاكم عن أربع: عن (الدباء والحنتم والمزفت والنقير.) قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنقير؟ قال: بلى جذع تنقرونه فتقذفون فيه من القطيعاء (القطيعاء هو نوع صغير من التمر)قال سعيد (وهو ابن أبي عروبة أحد رواة الحديث)أو قال من التمر (هذا الشك من سعيد نفسه، هذا الشك لأن سعيد اختلط في آخر عمره، كان مع إبراهيم بنعبد الله بنالحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في حربه للعباسيين في أول أمرهم، فلما هُزِم إبراهيم ومُثِل بجيشه تمثيلاً شديداً،كان هو فيمن انهزم وعز عليه أن هذا الصِّدِّيق،ابن الأنبياء،يُفعل به ما فُعِل به،فأصيب بالاكتئاب ثم اختلط. والعلماء فرقوا بين من سمع منه قبل سنة 142هـ، ومن سمع منه بعدها،وهو مات سنة 156أو 157هـ. فقبل سنة 142هـمن سمع منه فسماعه صحيح، وبعد سنة 142هـاختلط فأصبح لا يُحَدَّثُبما سُمِع منه.)ثم تصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى أن أحدكم أو إن أحدهم (هنا الشك ليس من سعيد ولكن من الراوي الذي قبل سعيد)ليضرب ابن عمه بالسيف. قال (يعني أبو سعيد الخدري)وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك (قال كان في هؤلاء الناس واحد مجروح في ساقه بسبب واقعة كهذه، ابن عمه ضربه فأصابه) قال: فكنت أخبؤها حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو اعتقد أنه قد عرفه، حتى إذا قام أحدهم وقال إنمثلذلك لا يحدث،يقول لهالنبي e:"فما بال هذا؟". فالرجل كان يخفي قدمه حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.)فقلت (المتحدث هو ذلك الرجل من عبد القيس)ففيمَنشرب يا رسول الله؟ قال: في أسقية الأَدَمِ(وهي جلد الماعز ونحوها يخيطونها بالجلد أيضاً)التي يُلاث على أفواهها (يُلاث يعني يُربط).قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان (مليئة بالفئران)ولا تبقى به أسقية الأَدَم..فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها الجرذان"ثلاث مرات، وطبعاً في تكرار هذا اللفظ ثلاث مرات تبكيت للذي كان معترضاً على أن يُؤمر بالشرب فيأسقية الأَدَم لأن الفئران ستأكلها. ستأكلها الجرذان اعملوا غيرها.وليقارن من شاء بين الموقف مع القائل: «إن أرضنا كثيرة الجرذان» وموقف النبي eمن عمر حين أشار عليه ألا يدع أبا هريرة ينفذ أمره النبوي بتبشير من شهد أن لا إله إلا الله بالجنة لئلا يتكل الناس عليها ويتركوا العمل. فهذه كانت نصيحة عمرية استصوبها النبي eفقبلها. وتلك كانت تحمل شبهة اعتراض على اتخاذ أسقية الأَدَمِ أواني لماء الشرب فرد النبي eبلهجة حازمة آمرة فيها ما يشبه التبكيت لمن بدت منه تلك الشبهة. والفرق بين النصيحة والاعتراض بين. والأولى واجبة لله ورسوله، والثاني غير جائز إذا أمر النبي بشيء أو نهى عن شيء، إذ ليس للمسلم عندئذ إلا الامتثال{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} [النور:51] {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب:36]
"قال أبو سعيد الخدري:وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبد القيس: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة».
هذا الحديث به فائدتان غير موجودتين في الحديث السابق أو الآخر، الفائدة الأولى أنه أمرهم ببديل لما نهاهمعنه، لمينههم ويتركهم، لكنه عندما نهاهم عما كان عندهم من الأوعية والآنية فقالوا له ماذا نفعل؟.أمرهم بالبديل وقال لهم في أسقية الأَدَم.
الأمر الثاني أنه لما تعارض النهي عن اتخاذ أوانٍمعينة مع حالهم البيئي لوجود الفئران التي تأكل أسقية الأَدَم قال لهم تحملوا العبء المالي، تحملوا الغُرم الذي يصيبكم، تحملوا المشقة،فكلما أكلتالفئران هذهالأسقية،اعملوا غيرها، وربمايعلمهم هذا كيف يتخلصونمن الفئران.
فعلمهم أن التكلفةالمالية،أو العبء،يُستهان به في سبيل الطاعة، لأن ترك أنواع تلك الأواني الأربعة من الطاعة. فعلمهم أن العبء يُستهان به ويُتحمل في سبيل الطاعة لما أمرهم به ربهم ونبيه صلى الله عليه وسلم..والحديث الآخر لم تكن به هاتان الفائدتان وفي إدراك هذا بعض الرد الذي ذكرناه من قبل على الذي يطالبون بحذف المكرر من الأحاديث من دواوين السنة (!!)
* * * * *
باب الإيمان بالله أفضل الأعمال
عن أبى ذر رضي الله عنه قال:قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله.
هلالإيمان عمل؟ نعم، الإيمان عمل القلب، وهو يزيد أو ينقص نتيجة ما يُقبل عليه المرء من الطاعات، أو ما يقترفه من المعاصي، أو ما يَرِين على قلبه أحياناً من الغفلة والانشغال بالدنيا. فالإيمان هو عمل القلب وكسبه، كما أن المال عمل اليد والعقل والجسم وكسبها. وفَصْلُالإيمانِعن بقية الأعمال كلها،لا لشرف محله وهو القلب، وإنما لشرف متعلَّقه وهو ذات الله تبارك وتعالى،ونبيه صلى الله عليه وسلم، وكتبه،وملائكته،واليوم الآخر،إلى باقي أركان الإيمان. ففضل الإيمان بفضل ما تعلق به: تعلق الإيمان بربنا تبارك وتعالى، وتعلق بأنبيائه ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.وليس في الدنيا شيء أشرف من هذا كله. فأشرف الأعمال وأفضلها وأعلاها قدراً هو عمل القلب الذي هو الإيمان.
ثم قال: والجهاد في سبيله، لأنك في الجهاد تضحي بأعز شيء عليك، تضحي بنفسك في سبيل ما تؤمن به.
إذنالإيمان هو عمل القلب الذي لا يُرى، وقديجلس أمامك المؤمن صادق الإيمان والمنافق صادق النفاق، وأنت لا تعرف هذا من ذاك.وترى الاثنين يُصَليانمعك في المسجد، وتقول عنالمنافق إنه أتقى من المؤمن.ويلتبس حال الناس علينا لأننا لا نعرف ما في القلوب.
وفي الحديث عمل باطن لا يراه الناس ولا يطلَّعون عليه، وهو الإيمان بالله تعالى؛ وعمل ظاهر يراه الكافة، هو الجهاد في سبيل الله. فأنت ترى المجاهد يخرج ويترك وراءه ماله وأهله وأولاده وحياته المعتادة كلها ليقاتل في سبيل الله الذين يقاتلون أهل دين الله، ويصد الاعتداء، ويرد الأعداء، ويحرص على الشهادة لا لشيء إلا لتكون كلمة الله هي العليا. هذا هو المجاهد الحق.
لكن فريقًا من الناس يقومون بهذا كله رياءً ورئاء الناس، وفي الحديث أن من الثلاثة الذي تُسعَّر بهم النهار رجل قاتل حتى قتل؛ فيسأل يوم القيامة عن حاله في الدنيا، فيقول: يارب قاتلت في سبيلك حتى قتلت. فيقال له: قاتلت ليقال شجاع، ألا فقد قيل، ثم يلقى به في النار. وفي الحديث قصة رجل قتل في إحدى المواقع مع رسول الله e، فقال فيه الصحابة قولاً حسنًا، ومدحوه. وقال لهم رسول الله: «هو في النار» فقالوا يا رسول الله لقد أكثر في المشركين (يعني في قتلهم وقتالهم) فكرر الكلمة حتى قاله ثلاثًا. فذهب أحد الصحابة ينظر إليه لعله يتعرف على السبب الذي حمل النبي eعلى الحكم عليه بأنه في النار، فوجده أصيب في المعركة بجراح فوقع على الأرض، فاتكأ على قائم سيفه فأدخله في قلبه. هذا رجل قتل نفسه، انتحر، ولم يقتل في المعركة شهيدًا. أصيب وكان من الممكن أن يشفى كما شفي كثيرون في أعقاب المعارك، ولكن هذا أصيب فغلبه اليأس فقتل نفسه، فلَمْ يستحق أجر الشهادة، ولم يكن جديرًا بثناء الصحابة (رضي الله عنهم) عليه وعلى جهاده، لأن موته لم يكن في سبيل الله ـ كما يموت المجاهد شهيدًا ـ وإنما كان يأسًا وقنوطًا لا يلقيان بالمسلم الذي يؤمن برحمة الله ويرجوها على كل أحواله.
وكون هذا الرجل في النار لا يعني خلوده فيها إلا إن قتل نفسه مستحلاً لذلك وهو عالمٌ بأنه حرام. أما من سوى هذا فدخول النار عقوبة موقوتة ثم لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري. وفي حديث جابر بن عبد الله عند مسلم الدليل على أن المسلم الذي يقتل نفسه جزعًا أو يأسًا من مرض أصابه ونحو ذلك لا يكفر.
ثم قال أبو ذر، في الحديث نفسه، قلت: أي الرقاب أفضل (يعني الرقاب التي تعتق في الكفارات أو التي تعتق تقربًا إلى الله تعالى. كأنه يقول: إذا أردت التقرب بعتق رقبة أيَّ رقبة أعتق؟ الجيدة الطيبة الغالية الثمن، أم التي زهد فيها الناس لنقص أو عيب أو علةٍ؟) قال (أي رسول الله e): أنْفَسُهاعند أهلها وأغلاها ثمنًا. هذان وصفان يعود إليهما استحسان العبد أو الأمة. أن يكون ذا قيمة عند أهله لما يحسنه من العمل أو الصنعة أو الكسب أو الإدارة، فهذه أنفسها عند أهلها. وهي التي يحبون بقاءَها لديهم، ولا يفرطون فيها وهم القادرون على الاحتفاظ بها. وأن تكون الرقبة (العبد أو الأمة) غالية الثمن. وهي تكون كذلك لأسباب كثيرة منها ما ذكرناه وغيره. والحضُّ على العتق في الإسلام ـ بنص هذا الحديث ونظائره ـ حضٌّ على عتق أحسن الأرقاء، وأكثرهم قدرة على العمل والنشاط ممن يعد تصرفهم في المجتمع وهم أحرار من ربقة الرق إضافة إليه وتنمية له وزيادة في قوته. نعم يحب الإسلام تحرير الرقيق جميعًا، وهو وجد الرق سائدًا فشرع له أبواب العتق، كما كان يقول شيخنا العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، لكن التقرب بالأفضل أفضل بغير شك. والذي لا يجد ثمن أفضل الرقاب سيجد ثمن ما دونها فيؤول الأمر إلى عتق الجميع وتحريرهم.
قال (القائل أبو ذر): قلت فإن لم أفعل؟ لم أجد رقبة نفيسة عند أهلها ولا ثمنها غالٍ، أو ليس عندي مال. فإن لم أستطع أن أعتق رقبة نفيسة عند أهلها غالية الثمن ماذا أفعل؟
قال: تُعين صانعاً أو تصنع لأخرق.تُعين صانعاًيعني رجلاًيعرف كيف يعمل ولكن يحتاج إلى مساعدة.أو رجل أخرق، الأخرق هو الذي لا يُحسن صناعة شيء، لا يستطيع أن يكسب. هذاماذا نفعل له؟ نصنع له. هناكمثل صيني يقول: "علمني الصيدولا تعطني سمكة".هو ذلك،تصنع لأخرق، أيتعلمه أن يصنع لنفسه، تأخذ بيده وتعلمه الصنعة.
تُعين صانعاً يعني امرءًيعرف كيف يصيد فتصيد معه وتقول له هذا السمك هدية لك. أو يعرف في النجارة فتشتغل في النجارة معه...الخ. الثاني أخرق، عاجز عن الصنعة، عاجز عن الكسب، فتصنع له كي يتعلم كيف يصنع لنفسه، لكن لاتظل تصنع له وتنفق عليهطول الوقت، ويظل هو عاجزًا غير كفء لشيءلا،علمه كيف يصنع فيصبح هو قائماًبأمر نفسه.
قال(أي أبو ذر)قلت: "يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل"؟انظروا إلى هذا الصحابي الجليل لا يترك شيئاً، يريد أنيعرف كل شيء. وهو الذي قال: "كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه". يعني الناس تذهبإلى النبي eوتسأله عن الذي سينفعهم وأنا أسأله عن الذي سيضرني.فكان كثير السؤال. فسأله إذا لم أستطع فعل أي شيء من الذي علمتنيه: لم أجد رقبة ولا صنعت لأخرق ولا ساعدت صانعًا، ماذا أفعل؟
قال: تكف شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.فنسأل أنفسنا:هل هناكأحد لا يستطيع أن يكف شره عن الناس؟.تكف لسانك ويدك وعينك ورجلك،ومالك الذي تدفعه في الحرام لتؤذي الآخرين...الخ. تكف شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.يعني أنكتأخذ بذلك ثواباً. والحقيقة أن هذه النصيحة لو عمل بها المسلمون اليوم لتغير حالهم. فقط هذه النصيحة: تكف شرَّك عن الناس. إنهاصعبة جداً، بل إن هناك أناسًاليس عندهم عمل غير أن يفعلوا الشر للناس.وهي نوع من الجهاد الأكبر الذي يقف فيه الإنسان ضد رغباته وشهواته ودوافع الثأر والانتقام في نفسه ودواعي الحقد على غيره والحسد له... فيكف بذلك شره عن الناس. وأسعد الناسف في الدنيا والآخرة من سهَّل الله ذلك وأعانه عليه.
* * * * *
باب في الأمر بالإيمان والاستعاذة بالله عند وسوسة الشيطان
فيه حديثان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا الله فمن خلق الله؟
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بأن قوماً ستوسوس لهم الشياطين،من الفراغ ومن عدم الاشتغال بالعلم الصحيح، ومن كثرة زعم أنهم مفكرون ومتفلسفون وأكاديميون، ولا يجدونإلا أن يسألوا من خلق الله؟..الله خلق كل شيء،فمن الذي خلق الله؟
فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من هؤلاء الناس. قال: لا يزال الناس يسألونكمعن العلم حتى يقولوا هذا الله فمن خلق الله؟ قال (أبو هريرة): فبينا (يعني بينما) أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال (أبو هريرة)فأخذ حصى بكفه فرماهم به (يعني أبو هريرة يقول على نفسه أنه أخذ حصى ورماهم به)ثم قال: "قوموا قوموا صدق خليلي صلى الله عليه وسلم»
قال: «لا يزال الناس يسألونكم عن العلم. يبدؤون بالعلم النافع ثم يتعمقون شيئًا فشيئًا في الفلسفة، ثم يتعمقونفي الكلام الذي ليس له معنى، ثم يصلونإلى هذه الوسوسة التي يجب أن يُستعاذ بالله منها.حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال هذا وهو آخذ بيد رجل فقال صدق الله ورسوله سألني واحد وهذا الثاني».
أبو هريرة لما جاءه الثاني أخذه وسار به في الشارع يقول للناس:صدق رسول الله. واحد سألني من قبل والثاني معيالآن.يدُّلهم عليه كأنه يُشهِّر به ويريهم فساد عقله وتفاهة سؤاله. وأبو هريرة له من هذا القبيلأشياءكثيرة، يعملها ويشيعها في الناس.
وجدت كلاماًجميلاًللإمام القرطبي، القرطبي شارح مسلم وله كتابجميل اسمه "المُفهم في شرح صحيح مسلم" لكنه ليس القرطبي المُفسِر الذي نعرفه، بلهو شيخه.الذي شرح مسلم هو شيخ القرطبي، فلا يختلط الاثنان على أحد.
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا في حديث آخر جاء به مسلم،ولم يخرجه المنذري:أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم قال: فمن وجد من ذلك شيئاً (يعني من وجد من ذلك في قلبه أو في نفسه أو سمع أحداً يتكلم به، من وجده بأي طريقكان)فليقل آمنت بالله. يقول القرطبيفي المفهم:قوله صلى الله عليه وسلم فليقل آمنت بالله،أمرٌبتذكر الإيمان الشرعي واشتغال القلب به لتنمحي تلك الشبهات، وتضمحل هذه الترهات المذكورة في الأحاديث. وهذه أدوية القلوب السليمة الصحيحة المستقيمة، أن يتذكر الإنسان ويقول آمنت بالله، يقول لا إله إلا الله، يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقول لا حول ولا قوة إلا بالله.يُحضر في قلبه ذكر الله تعالى، فإذا استحضر في قلبه ذكر الله ضاعت منه وسوسة الشيطان. قال وهذه أدوية القلوب السليمة الصحيحة المستقيمة التي تعرض لها الشبهة فلا تبقى فيها. فإذا استعملت الأدوية بنحو ما أمر به طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم بقيت القلوب على سلامتها وصحتها. وإذا لم تُستعمل على نحو ما أمر به فكيف ستأتي بنتيجة؟ فطريق الشفاء من هذه الأدواء هو الذكر الشرعي واستحضار الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وتذكُّر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقول آمنت بالله، يعني يستحضر هذا المعنى الصحيح صريحًا في نفسه,
في حديث آخر في مسلم أن الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يستعظم أن ينطق به. وفي رواية صحيحة:ما يود لو خرَّ من السماء فتخطفته الطير على أن يتكلم به. (والمقصود هو التساؤل الذي جاء في حديث أبي هريرة) فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجدتموه؟ فقال نفر منهم: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان.
وقد أخطأ في هذا الموضع كثير من الشراح؛ظنوا أن صريح الإيمان أن تجد هذا المعنى في نفسك. الحقيقة أن صريح الإيمان أن تسكت عن النطق بها. أن تمسك عن الكلام. أن تتوقف وتستعظم حتى تجد أنه لو وقعت من السماء وأكلتك الطيور الجارحة أحب إليكمن أن تنطق بهذه الكلمة. فهذا الاستعظام الذي أدى إلى الامتناع هو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صريح الإيمان. أوجدتموه؟ قالوا: نعم. يعني هل وجدتم في أنفسكم هذا الخوف من النطق بهذه الكلمة فكتمتموها؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان. صريح الإيمان هوالسكوتعندما يرد على الخاطر معنىً فاسد، صريح الإيمان هواستكثار النطق بهذه الكلمة أو استعظامها. وهذا الباب فيه، عند الإمام مسلم وغيره،أحاديث جميلة جديرة بالوقوف عليها.
* * * * *
باب الإيمان بالله والاستقامة
«عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداًبعدك. وفي رواية لا أسأل عنه أحداًغيرك».عندما يقول واحد قل لي في الإسلام..طبعاً أنتم تعرفونكتاب مئة سؤال عن الإسلام، وكتاب أنت تسأل والإسلام يجيب، وعلى غلافهصورة أحد العلماء: أنت تسأل فوق الصورة، وتحتهاالإسلام يُجيب.فالصورة صورة هذا العالم الجليل كأنههو الإسلام نفسه.
أما رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن، ويأتيه جبريل في الليل والنهار، وفي السفر والحضر، وفي الصيف والشتاء. رسولنا عندما سُئل عن كلمة لا يسأل السائل بعدها غيره أحداً عنها قال له خمس كلمات. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم.»
قال القاضي عياض: هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ومن جوامع كلمه، ومن معجزاته أن يقول هذا القول الصغير البليغ. الاستقامة هي العمل بالأركان وترك المحظورات وإتيان المأمورات.
ولذلك قال العلماء إنه لو شُرِح هذا الحديث لكان الإسلام كله. لأنه سيتضمن شرح العبادات والمعاملات والجهاد والزواج والطلاق، كل الإسلام.. فاستقم، ربنا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم {فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك} [هود:112]ولذلك قال ابن عباس لم تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد من هذه الآية، حتى قال لما ذُكِر له الشيب:بعض الصحابة قالوا له شبت يا رسول الله، أو شاب شعر رأسك يارسول الله،قال: شيبتني هودوأخواتها:{فاستقم كما أُمِرت ومن تاب معك}. فاستثقل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، لأنه ليسأمرًا له هو وحده.لكنه أمر لهولكل المؤمنين إلى يوم القيامة. من الذي سيستطيع أن يستقيم كما أُمِرالنبي بذلك؟ كلنا على صراط بعضنا يكاد يفلت وبعضنا لا يكاد، نسأل الله الستر وحسن الخاتمة.
الاستقامة في المأمور بها في هذا الحديث، وفي هذه الآية هي العمل بالمأمورات وترك المحظورات على عمومهما واتساعهماومن وفق إلى ذلك فقد هُديَ وأوتي رشده ومن زاغ فالله يغفر لنا وله بفضله ورحمته.
* * * * *
باب في آيات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به
وأخرج فيه حديثان:الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أُعطي من الآيات (يعني من المعجزات)ما مِثْلُهُآمن عليه البشرُ(واحد عصا موسى، والثاني يحيي الموتى ويبرئ الأبكم والأبرص والثالث يصنع الحديد، والجن تخدمه. كل نبي كان عنده معجزات حسية مادية رآها الناس فآمنوا)وإنما كان الذي أُوتيتُوحياً أوحى الله إلي، (وفي رواية أوحاه الله إليّ)فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»
أشار العلماء هنا إلى ثلاثةمعانٍ مهمة جداً، وزادوا معنى رابعًا أهم من الثلاثة. قالوا،أولاً، إن معجزته هو القرآن المحفوظ بحفظ الله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9]أما معجزات الأنبياء الأخرى فكانت في أوقاتهم، ولم تُحفظ بعدهم، رآها من رآها ومن لم يرها لم يعرفها إلا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. القرآن الذي نُزِّل على محمد هو الدليل على معجزات الأنبياء السابقين، ولولا هذا القرآن ما صدقنا المعجزات الأخرى، وإلا كيف سنصدقها؟بل كيف سنعرفها؟من الكتب المؤلفة أم من الكتب المُحرفة؟ الكتب نوعان:مؤلفة ومحرفة. فهي إمامؤلفة من أولها لأخرها، وإما لها أصل لكنهمحرفوه وعدلوا به عن أصلهالذي أنزله الله على النبي أو الرسول.
المعنى الثاني الذي استنبطه العلماء من هذا الحديث هو: استمرار القرآن وانقراض معجزاتهم.فحفظ الله تعالى للقرآن، وكون القرآن نصًا محفوظًا في الصدور مدونًا في السطور جعله باقيًا إلى يوم القيامة؛ على خلاف معجزات الأنبياء السابقين.
المعنى الثالث هو: أن معجزات الرسل السابقين على محمد eوهي حسية مادية قد تُعارَض بأمرين: بالتخيل {ييخيلإليه من سحرهم أنها تسعى}[طه:64] أو بالسحر نفسه {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} [الأعراف:116].وتُعارَض بأمر ثالث: هو تفاوت العقول في التلقي والقبول فإدراك أن هذا حقيقة أم خيال يحتاج إلى إعمال الفكر،والناس ليسوا سواء في مستوى التفكيرفيصدقون ويكذبون بحسب أفهامهم، لكن المعجزة التي لا يرِدُ عليها شيء من هذا كله هيالقرآن الكريم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه هي الجملة الرابعة التي هي أهم من الثلاث جمل السابقة «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»تابعاً هنا يعني أتباعًا في دينهلانتشار الإسلام وبقاء هذه المعجزة إلى يوم القيامة. قال النبي eهذا الكلام في زمن قلة الإسلام وضعفه وهجوم أعدائه عليه، ولما ذهب بعد ست سنوات ليؤدي العمرة، كانعدد كل المسلمين الذين في المدينة وما حولها نحو ألف وخمسمائة، في المدينة وما حولها من الأعراب والبوادي.
نبيٌ،يكون حاله هكذا، وهذا عدد أتباعه بعد نحو تسع عشرة سنة في الدعوة إلى دين الله،ويقول أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة؟ قال العلماء فما إن مات صلى الله عليه وسلم حتى بدأ فتح البلاد وانتشار الإسلام، وهو يظل في ازدياد إلى أن تقوم الساعة.ونحن نرى هذا إلى يوم الناس هذا (!!)
ليس مهماً أننا في مراحل نكون غثاء كغثاء السيل، وفي مراحل نكون مهزومين، ومراحل نكون ضعفاء، هذه كلها عوائق، إنما أصل الإسلام باق ومنتشر، وطالما هو باق ومنتشر تأتي له أيام ينتصرفيها،وتأتي فيها أيام ينهزم: {تلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140].
إنما الأصل أن الإسلام ينتشر، وطالما ينتشر فلابد أن ينتصر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنما كان الذي أُتيته وحياً أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة». وقال في الحديث الآخر«وليبلغن هذا الدين ما طلعت عليه الشمس»«حتى لا يبقى بيت دبر ولا مدر إلا ودخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل»هذا لم يحدث بعد،لكن سيحدث(!)لأن الرسول صلى الله عليه وسلملم يقل شيئاً ولم يحدث، كل الذي يقوله يحدث.هو لا ينطق عن الهوى، ولا يخبر بأمنياته، لكنه ينطق عن الوحي ويخبر بالحق الذي يقع ولو
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
اخ ابو عبد الرحمن
يرجى الاختصار بالمواضيع فالمواضيع التي تنقلها طويلة جدا
مما يتعذر علينا قراتها لطولها
مع تحياتي
يرجى الاختصار بالمواضيع فالمواضيع التي تنقلها طويلة جدا
مما يتعذر علينا قراتها لطولها
مع تحياتي
اللهم صلِ على النبي المختار واله الاطهار
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
ابو الامير العراقي- فريق الإشراف
- الديانه : الاسلام
البلد : العراق
عدد المساهمات : 182
نقاط : 5341
السٌّمعَة : 9
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
ابو الامير العراقي كتب:اخ ابو عبد الرحمن
يرجى الاختصار بالمواضيع فالمواضيع التي تنقلها طويلة جدا
مما يتعذر علينا قراتها لطولها
مع تحياتي
جزاكم الله خيرا أخي الحبيب
هذه سلسلة للمراجعة البحثية وليست موضوعا مختصرا أو فكرة للنقاش
السلسلة طويلة وهي عبارة عن تفريغ ل11 محاضرة تم عرض ثلاثة منها فقط والباقي إن شاء الله سنطرحه لاحقا
تحياتي
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(4)
دكتور محمد سليم العوَّاِ
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(4)
كان قد بقي معنا من الباب الذي عنوانه "في آيات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به" حديث واحد رواه الشعبي «عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة يؤتَون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله عز وجل عليه وحق سيده فله أجران (لا كان متبرمًا بالقدر الذي ضرب عليه هذه العبودية،ولا كان ضائقًا بها حتى يؤذي من تمَلكَه، ولا كان سيء النية في ماله ولا سيء النية في ممتلكاته، إنما عَلِم أن هذا قضاء وقدر،عليه أن يصبر ويحتسب لعل الله يجعل له مخرجًا. ففي فترة الاحتساب هذه أدى حق الله عليه، وأدى حق من تمَلكَه على الرغم من ثِقَل الشعور بالتملك والشعور بالقهر من إنسان لآخر. بعض الناس عندما يسمعونهذا الحديث يقولونإن الإسلام يحض الناس على أن يستسلِموا لأقدارهم،وعلى أن يرضوا بهذه العبودية، مع أنكم تقولونإن هذا دين تحرير الإنسان من الخرافات والبدع، فكيف يحرره من الخرافات والبدع ويتركه مملوكًاويتركه رقيقًا؟ ينبغي هنا أن نستحضر أمرين: الأمر الأول تعبير الشيخ الغزالي رحمة الله عليه الذي كان يقول: "جاء الإسلام فوجد الرق فشرع العتق". وليس قبل الإسلام شريعة من الشرائع شرَّعت العِتق، الإسلام هو أول شريعة يعرفها البشر تُشرِّع عتق الرقيق في الرقاب، في الكفارات، وفي الصدقات، وفي القتل الخطأ وإلى آخر ما جاء. الأمر الثاني:أن التذمر على المصائب ليس من خُلق العباد الصالحين،سواء كان هؤلاء العباد أحرارًاأم أرقاء، والإسلام يُريد من الإنسان أن يكون صالح الخُلق، فمن حُسن الخُلق أن يؤدي حق الله تبارك وتعالى وحق من تَملَكه، لأن لهذا المُتملك حقيجب أن يؤدىإلى أن يقضي الله خيرًا للمملوك يتحرر به من أسر الرق) ورجل كانت له أمة فغذاها (يعني أعطاها التغذية المستديمة التي تُقيم حياتها طول الوقت) فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران».
والمطلوب ممن كانت له أمة أربعة أشياء: أن يُحسن غذاءها،وأن يؤدبها فيحسن تأديبها فيعلمها القرآن ويعلمها الصلاة ويعلمها الواجبات الشرعية الواجبة عليها، ثم إذا استطاع أن يعتقها فليفعل، فإن تزوجها وجب له في هذه الأربعة أجران. الأجر الأول هو الإحسان لهذه الأمة، والإحسان إلى المرأة أولى لأنها في عادة الناس آنئذٍ كانت موضع الاستهانة بها،أو موضع استعمالها فيما لا يجوز،وموضع المشقة عليها فيما تُكَلف به، فوصَّى النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة المملوكة أكثر مما وصى بالرجل المملوك.
الشعبي لم يقل هذا الحديث دون سبب، تعرفون أن إخواننا أهل العراق وما وراء العراق من أهل إيران وما إليها كانوا كثيري الافتراضات والأسئلة، وفي الفقه الحنفي عندنا: أرأيت، أرأيت.وعندما ذهب رجللمالك وقال له:"أرأيت إن كان كذا". فقال لهمالك:"هذه سليسلة بنت سليسلة،إن أردت هذا فعليك بالعراق". وكان من موروث فقه المدينة أن يقال للسائل: أوقعت هذه؟ فإن قيل نعم، أفتوه.وإن قيل لا،قالوا دعوها حتى تقع.
لا نستطيع أن نقول إن هذا منهج جيد وهذا منهج غير جيد، لأنه لما سُئل أبو حنيفة عن مسألة الافتراض هذه قال:"إننا نستعد للبلاء قبل وقوعه حتى إذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه". وكان شيخنا العلامة مصطفى شلبي، رحمة الله عليه، يقول لنا: "لا يستهين أحد بالافتراضات،فلولا هذه الافتراضات لحدثت مصائب بعد أن اُُخترعت الطائرات والصواريخ وما إليها". فقلنا له: كيف؟ قال: "عندهم في الفقه الحنفي إذا تزوج مشرقي بمغربية فالولد للفراش. مشرقي بمغربية وهو قاعد في المشرق والناس يرونه في كل وقت. الآن فيه طائرة ويقدر يروح المغرب في ثلاث ساعات ويقضي اليوم كله هناك ويعود ويقسم الناس أنهم رأوه في صلاة الفجر وصلاة العشاء". فكان يحاول أن يُقرب إلى أذهاننا فكرة أن الفقه الافتراضي ليس شرًا كله بأن يعطينا أمثلة من هذه الاختراعات الحديثة التي لا يحل مشاكلها عند المقلدين الخُلَّص إلا ذلك الفقه الافتراضي(!)
أحد أهل خراسان؛الذين كان عندهم هذا الفقه الافتراضي،جاءإلى الشعبي وقالله: "يا أبا عمرو أنتمنقذ لنا من أهل خراسان ومن والاهم،يقولون إن الرجل إذا أعتق أمته (يعني هذا الحديث) ثم تزوجها كان كالراكب بدنته".(البدنة هي الناقة أو الجمل أو البقرة التي تُهدى لبيت الله الحرام لمناسبة الحج أو العمرة،والعلماء يكرهون ركوبها إلا من ضرورة، من ساعة إحرامه، أما من غير ضرورة فلا يجوز تعظيمًا لشأن البيت الحرام الذي أهداها إليه.فلا يجوز له أن يعتدي على ما أهداه لهذا البيت الحرام إلا لضرورة.)
فقال الخراساني للشعبي إنهم كرهوا أن يتزوج الرجل الأمة إذا أعتقها كما يكرهون أن يركب الحاج أو المعتمر بدنة أهداها إلى البيت الحرام في أثناء طريقه إلى الحج. فحدثه الشعبي بهذا الحديث وقال: "خذ هذا الحديث عني بغير شيء،وقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة".يريد أن يقول له إن العلم انتشر ووصل إلى العراق، وأنت جئت من خراسان، بينما كان الإنسان لكي يصل إليه حديث مثل هذا لابد أن يركب إلى المدينة حيث كان العلم محصورًا فيها عندما كان الصحابة قليلين ولم يخرجوا منها. بينما في وقت الشعبي كان العلم قد انتشر فبلغ البلدان كلها.
* * * * *
الباب الذي يليه باب «ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان».
«عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،وأن يحبَالمرءَلا يحبُهُإلا لله،وأن يكرهَأن يعودَفي الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار»
الإمام النووي وهو يبدأ في شرح هذا الحديث قال:"هذا حديث عظيم وأصل من أصول الإسلام".لماذا؟
لأنه بهذه الخصال يستقر في نفس المرء المؤمن تلذذ بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وبغير هذا التلذذ لا يستطيع الإنسان أن يشعر بطعم العبادة، ولا بطعم الطاعة، ولا بطعم الصوم الذي يجوعه ويعطشه، ولا بطعم الصدقة التي تُنقص من ماله، ولا يصدق أنه ما نقصت صدقة من مال.
كيف يستقر الإيمان في القلب فنجد حلاوته؟ بهذه الخصال الثلاثة. قال إن حلاوة الإيمان هي التلذذ بالطاعات وتحمل المشقات. وهي بمعنى الحديث الوارد في مسلم في موضع آخر «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا»
وقال إن المحبة لا تصح إلا بالطاعة، ولذلكقالنسب إلى الإمام الشافعي، عندما أراد أن يترجم هذا المعنى، أنه قال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقـًا لأطعته إن المحب لمن أحب مطيـع
تحمل المشقات في مرضات الله تبارك وتعالى ـ إذن ـ دليل محبة العبد لربه. لذلك قال القاضي عياض: ولا محبة إلا بالطاعة، ولا تصح المحبة في الله وكراهة العودة إلى الكفر إلا لمن قويَ إيمانه، وتحقق يقينه، واطمأنت به نفسه حتى خالط لحمه ودمه، فأصبح يشعر أن هذه المحبة لله تعالى متمكنة منه حتى لا تحمله أعضاؤه على معصية ولا تصده عن طاعة.
ثم في الحديث وجوب حب بعضنا لبعض: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله".كيف ذلك؟..الحب في الله من ثمرات حب الله، إذا أحببت الله أحببت الصالحين من عباده، إذا أحببت الله أحببت الصادقين، أحببت الشهداء والمجاهدين، أحببت الشيعين للتطبيع، وأحببت المقاومين للعدو المحتل الصهيوني، وأحببت المقاومين للعدو الغازي بلاد المسلمين بجيوشه أو بثقافته، ليصرفهم عن ثقافتهم ويمسخ هويتهم... فالذي يحب الله حبًا حقيقيًا يجد ثمرة هذا الحب في عمله وفي تصرفاته، وفيما يقول وفيما يكتب، في كل شيء يأتيه أو يدعه. والذي يدَّعي حب الله وليس صادقًا فيه لا تجد عنده لهذه المحبة أثرًا أو تجد لها أثرًا قليلاً لا يكاد يُحَس.
كاهن كاثوليكي لبناني كتب مقالاً طويلاًعن أن مشكلة المسلمين أن دينهم يقوم على الخوف ولا يقوم على الحب، قال:كل حاجة عندهم عذاب عظيم، عذاب أليم. إنما نحن عندنا الحب،فنحن أقرب إلى الله منهم ونستطيع أن نتسامح وهم لا يتسامحون، ولذلك يضربونا بالنار وبالقنابل والرصاص.
وقدانشغلت بالرد عليه مدة، وجمعت الأحاديث والآيات التي فيها المحبة فوجدت شيئًالا يُتَصور، يهدم زعمه من أساسه وينقض بناءه! وتعمدت أن أجمع ذلك بعيدًا عن التصوف؛لأني لو دخلت في باب الحب في التصوف قد لا ننتهيأبدًا.
العلماء يقولونأصل المحبة مواطأة القلب، يعني مطابقته، يعني أن يكون مطمئنًا وراضيًا ومقبلاً. مواطأة القلب على ما يُرضي الرب سبحانه وتعالى. إذن،العمل من المحبة والترك من المحبة، والإقبال من المحبة، والامتناع من المحبة. فليست المشكلة أني خائف،إنما المسألة أني أُحب هذا الخالق العظيم وأعرف له قدره. هذه المحبة أصل من الأصول الإيمانية، فإذا اكتملت في الإنسان واشتمل عليها قلبه،ظهر أثرها في سائر أفعاله وأقواله.وبمقدار ما تقل يقل أثرها في ذلك كله.
لذلك قال القاضي عياض: "أصل المحبة مواطأة القلب على ما يُرضي الرب سبحانه وتعالى، فيُحب الإنسان ما أحبه الله ويكره ما يكرهه". قال:"هي من واجبات الإسلام".
فهذه ليست زيادة ولا كمال من الكمالات، إنها واجب من الواجبات بموجب هذه الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما.
إذن:"من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحبَّالمرء لا يحبه إلا لله".هل إذا كانت بيني وبينه دنيا تمنع أن تكون المحبةلله؟.لا،لا تمنع، إذا كان بيني وبينه منفعة،لا تمنع أن تكون المحبة لله؟.وإذا كانت بيني وبينه تجارة،لا تمنع.إذا كان يؤدي لي خدمة وأؤدي له خدمة، كل هذا تزيده المحبة في الله ثراءًوتوثقًا،ولا تنقصه.
إنما الذي لا يُقبل ولا يُرضى به؟ أن يكون الأصل في الصلة بين الناس هذه المنفعة المادية. عندئذ تختفي المحبة في الله وتظهر المحبة في الدنيا، فإذا اقتصرت المحبة على محبة الدنيا فهي زائلة، أما إذا كانت محبة الله هي الأصل فيها ولو جاءت معها محبة دنيوية فهذا لا بأس به، جميع الصحابة كانوا يتبايعون ويتزاوجون ولم يُنقص هذا من محبة بعضهم لبعض في الله سبحانه وتعالى.
* * *
الحديث الذي يليه عن أنس رضي الله عنه أيضاً: قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يُحب لجاره،أو قال لأخيه،ما يُحب لنفسه»
الحديث فيه عدة روايات: لا يؤمن عبد، لا يؤمن أحدكم، ولا يؤمن الرجل. كل هذه الروايات موجودة في مسلم وكلها صحيحة، وفي رواية أنس،الشك منه هو وليس من أحد الرواة في رواية مسلم:"والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه" أو قال لأخيه هذه في عبارة أنس في رواية مسلم. ولكن عند البخاري وغيره من الرواة: "لا يؤمن أحدكم أو لا يؤمن عبد أو لا يؤمن رجل حتى يحب لأخيه" وليس هناك "لجاره أو قال لأخيه". فهذا الشك جاء عند مسلم فقط، وهذا الشك أيضًا صحيح عن أنس، يعني هذا ليس ضعفًافي رواية أنس، كأن أنس في مرحلة من المراحل قال: هلقالحتىيحب لجاره،أم قال حتى يحب لأخيه؟..فشك أنس،فذكر اللفظين.وهذا يقع كثيرًا من المحدّثين ولا يقلل من درجة الحديث ولا من صحته ولا من جودته ولا من عملنا به. وهذه المغايرة لا إشكال فيها: فالجار أو الأخ،يمكن أن تُحمل على الأخوة في الإنسانية، أو الأخوة في الوطن، وإن كان الأصل فيها أخوة الإسلام.قال العلماء:إذا كان في اللفظ مغايرة في بعض الروايات،يُعمل باللفظين طالما كانا مرويين برواية صحيحة وبسند صحيح. أييبقى اللفظان صحيحين ويُعمل باللفظين معًا. وهذا من علوم الحديث المهمة.
فأنس قال:"قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يُحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه"
أي حب هنا؟.الحب الذي هو حب الطبع؟ كأن أحب ابنيأوعمتي... هذا حب طبع، الإنسان ينشأ فيجد نفسه في وسط عائلي فيحب هذا الوسط كله، يقلق لقلقه، يفرح لفرحه، هذا نسميه حب الطبع الذي لا فضل للإنسان فيه.
إنما الحب المقصود في هذا الحديث هو حب الاختيار الذي لا يأتي إلا بإرادتنا، والذي تصنعه بنفسك فَتُؤْجَر عليه عند الله تبارك وتعالى، هذا يُسمونه حب الاختيار.
وقال العلماء: إن معنى لا يؤمن أحدكم أو لا يؤمن عبد أو لا يؤمن الرجل،ليس معناه أنه يصبحكافرًا، إنما يبقى إيمانه به بعضالنقص، لا يؤمن إيمانًا كاملاً، لا يؤمن إيمانًا لا يأتيه شيء من بين يديه ولا من خلفه. وهناك أحاديث كثيرة فيها نفي الإيمان، وسنأتي لأحاديث أخرى فيها كلمة الكفر، فهذه الكلمات لا تُحْمَلُعلى ظاهرها، ولا يُظَن أن معنى لا يؤمن، في كل الأحاديث، أنه يكفر ويدخل النار. لكن لا يؤمن هنا معناها لا يؤمن إيمانًا كاملاً، أو لا يؤمن في لحظة معينة، أو لا يؤمن في أثناء فعل معين.
الإمام أبو سليمان الخطابي، وهو أحد أئمة السنة،قال:إن معنى هذا أن يُفني المرء نفسه في طاعة الله عز وجل. ومن طاعة الله حب الجار وحب الأخ وحب الصديق، وحب الذي يتصل بك بصلة صالحة، إذا كان هذا كله حبًا في الله. قال النووي هذا من حب الله تعالى،وأرجع ذلك للحديث الذي قبله، وهما متتاليان في الرواية أيضًا عند أبي داوود. فقال: هما حديثان بمعنى واحد ويُكمل أحدهما الآخر، فينبغي عليك إذا أحببت الله حق الحب أن تحب أخاك وأن تحب جارك، وأن تُحِب له ما تُحِب لنفسك.
أبو عمرو بن الصلاح، أحد الأئمة الشُرَّاح، في أثناءشرحهلصحيح مسلم،قال: "هذا يبدو من المستبعد الذي لا يكاد يقع"؛ يقصد أن أُحب لجاري أو لأخي شقيقي، فضلاً عن أخي في الإسلام، ما أحبه لنفسي. كأن أريد بيتًا مثل الذي عندي لأخي، أو أحسن منه....
قال: الأمر ليس كذلك. ولكنه استدرك على هذا الاستبعاد بأنك إذا نظرت إلى ظاهر الحديث وجدت أن المقصود منك أن تطلب لأخيك مثل ما تطلب لنفسك، وهذا معقول لا شيء فيه، إلا إذا دخل في قلب الإنسان الشعور بأنه أحسن من أخيه أو أفضل منه فيرى أنه يستحق خيرًا مما عند أخيه، أو أنه يستحق ما هو فيه من نعمة وأخوه لا يستحق مثلها، هنا يكون قد يكون قلب العبد قد أصبح دغلاً أي تمكن منه بعض أمراضه مثل الحقد أو الحسد أو الغل، وبالجملة يكون قد وقع في القلب فساد، يجب أن يسعى المرء في إصلاحه بالطاعة المتوالية والدعاء ونحوهما. (وتعبير الدغل يقصد به فساد القلب تشبيهًا له بالأحراش التي تلتف فيها الأشجار والأشواك فلا يخلص للإنسان منه الطيب من الخبيث، ولا النافع منا الضار)
إن المطلوب في هذا الحديث أن يُحب المرء لأخيه النعمة التي عنده وزيادة دون أن تنقص نعمته هو. كأنه يقول يا رب أعط لكل الناس مثل ما عندي وأكثر، لكن يا رب لا تنقص نعمتي أنا. قال ابن الصلاح: وهذا أمر يسير على أصحاب القلوب السليمة. أي إن الذي يرضى بنعمته، ويحمد الله عليها لا يخطر بباله أنه يستفيد إذا نقصت نعم الناس. لأن القلوب السليمةتحب الخير لإخوانها ولأهلها ولجيرانها. إذا بلغ الإنسان هذه المنزلة فقد نجا وكمل إيمانه على وفق هذا الحديث.
المسألة الثانية في هذا الحديث، هي أنه يتناول أمر الدنيا ومباحاتها من النعم الحلال ونحوها، من الطيبات والمال الحلال وصلاح الأولاد إلى آخر ذلك.
أما الآخرة ففيها قول الله تبارك وتعالى «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»لأن في الآخرة معيارًالا نعرف كنهه،ومكيالاًلا نستطيع أن نعرف مقداره. إنما في مقادير الدنيا بيننا يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه أو مثل ما يحب لنفسه دون أن يطلب نقصان نعمة غيره، وبذلك ترتاح القلوب وتستقر للناس أوضاعها.
أنا أُطيل في هذه المعاني لأن بعض إخواننا يتساءلونما جدوى أن نتكلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كلام قديم نسمعه كل جمعة من على المنابر.
الحقيقة أننا عندما فكرنا نقرأ مختصر صحيح مسلم كان هدفنا أن نحاول أن العيش في ظلال السُنَّة النبوية، بمعنى أن تؤثر في حياتنا، وأن نتعلم منها كيف نحيا، ونحولها لعمل حقيقي.
فإذا استطعنا في لقاءاتنا هذه أن يجمع كل واحد منا لنفسه ما يقدر عليه أو ما يحبه أو ما يبقى في ذهنه، أو إذا ما نام ليلاً تساءل:ما هي حكاية لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه؟.ويسأل عنها،ويبدأ يحب لأخيه ما يحبه لنفسه بعد أن لم يكن يعرف هذا. فهذه مهمتنا في هذه اللقاءات؛أن نحاول أن نعيش،ولو قليلاً، بالسنَّة،وليس أن نعيش مع السنَّة. بالسنَّة يعني نُدْخِلها في سلوكنا وفي حياتنا، ونجعلها معيارًا نقيس به تصرفاتنا وأفعالنا وعواطفنا. لأن كل هذه الأحاديث في العواطف؛في المحبة وفي الكره وفي البغض. فنفعل هذا لنتعلم كيف يرضى الله تعالى عنا بقدر ما نستطيع.
* * *
الحديث الذي يلي هذا الحديث هو قول أنس «عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.» هذا أصعب من السابق، إذا كان الأول لا يؤمن حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه. وقالوا إن هذا من المستبعد الذي يكاد أن لا يكون. هنا لا يؤمن حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده. هل هناك من هو أحب للإنسان من ولده؟ ووالده هل هناك أحد مثل الوالد؟ والناس أجمعين؛دخلت فيهم زوجتك وأهلك،ودخل فيها كل من له فضل عليك.
في رواية أخرى صحيحة لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك وقال:«ونفسه التي بين جنبيه»فسيدنا عمر، وسيدنا عمر كان كثير المراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم،قال له:"يارسول الله والله إنك لأحب إلي من أمي وأبي والناس أجمعين" فقال له:"ونفسك يا عمر؟".قال:"لا يا رسول الله"،قال:"لا إذن".قال:"والذي نفسي بيده يارسول الله،أنت أحب إلي من نفسي"،قال:"الآن إذن".
ماذا كان يفعل عمر؟ كان يرى إلى أين يمكنه أن يقف. ممكن يفلت بالحكاية؟ فيقدم نفسه على النبي أو يقدم النبي على نفسه.
العلماء قالوا في هذا الحديث أمرًاجميلاًجدًّا. قالوا: هذا ما قاله الرسوللسيدنا عمر، لكنه قال لعموم المسلمين الحديث الذي في مسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى..." وذلك لأمرين:
الأمر الأول:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم وليس معنا. فالافتراض الخيالي الخاص:أتقدم أنا على الرسول صلى الله عليه وسلم أم يتقدمهو، افتراضغير موجود، مع أنه في الحقيقة موجود في نصر السنَّة،والدفاع عن الدين،والدفاع عن الشريعة،وقول الحق والجهر به في أيام الباطل.لكن هذا ما قاله العلماء.
الأمر الثاني:أن هذا عمر، خاصة الخاصة، هو من الذين لا يُقبل منهمأقل من ذلك. مثل ما قال العلماء العارفونإنحسنات الأبرار سيئات المقربين، يريدون أن الخلقطبقات، فأهل الطبقة الأولى الذينلا يُقبل منهم إلا هذا أمثالأبو بكر وعمر ونظرائهما من كبار الصحابة.
ولكن الحديث الذي معنا "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".قال العلماء مرة أخرى: هذا هو حب الاختيار، وقالوا كلامًاجميلاًجدًّا.
قالوا: الحب ثلاثةأنواع:حب شفقة؛كما يُحب الإنسان أولاده شفقة ورحمة وما إلى ذلك.
وحب إعظام وإجلال؛يُحب الإنسان من هو أكبر منه،ومن هو أعظم منه،ومن هو أرقى منه وما إلى ذلك.
ومحبة مشاكلة واستحسان؛كمحبة سائر الناس بعضهم لبعض. أنا أُحب أحدًايعني نحن الأثنين قريبين لبعض،طباعنا مثل بعض، أخلاقنا مثل بعض. هذا هو حب المشاكلة.
قالوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي محبة الإعظام والإجلال وليست من محبة الشفقة والرحمة، ولا من محبة المشاكلة. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في مقامه العالي،وهو الذي بلَّغنا الوحي، والذي علمنا الدين، والذي استنقذنا الله به من النار، والذي هُدينا به من الضلالة.هذه هي محبة الإعظام والإجلال، وهذه هي المحبة التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. المحبة التي حملت الصحابة أن يفدوه بأنفسهم في المعارك التي خاضوها معه رجالاً ونساءً، وأن يتترسوا دونه حتى يمنعوا وصول العدو إليه، فيُجرح الرجال والنساء.هذا النوع من المحبة لا يكون إلا محبة الإجلال والإعظام، وهذه هي التي يستحقها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي عياض كلامًاجميلاًجداً. قال: "من استكمل الإيمان على وفق الأحاديث السابقة علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من حق أبيه وابنه وزوجه وسائر الناس". لماذا؟ قال: "لأن من الواجب أن يُبَيِّن نصره،وليس لأحد دين ينصره.ومن الواجب على كل مسلم الدفاع عن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وليس لأحد سُنَّة تُنصر.ومن واجب كل مسلم ألا يقبل أي مساس بكيان أو قدر أو شرف أو احترام النبي صلى الله عليه وسلم،وليس هذا واجباً لكل الناس إنما يجب لبعضهم". وعدد الأسباب التي تُوجب أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر تأكيدًامن محبة الخلق أجمعين. وقال: "وجميع ذلك يبدو في أن الله اختاره ليُنزِّل عليه القرآن". وقال: "لو ما كان ربنا سبحانه وتعالى رآه أصفى خلقه وأنقاهم وأحقهم بهذه الرسالة ما أنزلها عليه". وقدهُدينا من الضلالوخرجنا من الكفر عندما بلغتنا هذه الرسالة. إذن،فحق هذا النبي علينا هذا القدر من الإعظام والإجلال.
وهذه ليست محبة نَوْحٌوبكاء لفراق النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعض الناس عند قبره الشريف. هو مات من 14 قرن،والذين كانوا معه لم يفعلوا ذلك. بكوا ودفنوه،وذهبوا ليبايعوا أبا بكر قبل أن يكملوا الدفن. فليست هذه المحبة، إنما محبته محبة الإجلال والإعظام والائتمار بأمره والانتهاء عند نهيه.
أحد إخواننا عندما تكلمنا عن الأحاديث النبوية سأل: هل نحن مطالبون أن نتبع كل سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلت له: نعم نحن مطالبون بأن نتبع السُنَّة الصحيحة كلها.لكن السُنَّة الصحيحة نفسها فيها أقسام، فيها الواجبات، والمندوبات والمباحات وفيها المكروهات وهكذا.
لكن هذا السؤال لم يكن يرد على ذهن مسلم من الصدر الأول أبدًا. عندما قال أبو الدرداء لمعاوية كلامًاعن بيع الذهب المصنوع،والذهب غير المصنوع،فقال معاوية: "لا أرى في هذا بأسًا". قالأبو الدرداء: "أحدثك عن رسول الله وتخبرني برأيك. لا أُساكنك بأرض". وخرج من الشام، خرج مجاهدًا ومرابطًا ومات على ثغور اسطنبول، وقبره بها معروف يزار إلى اليوم، رضي الله عنه.
كانوا يستكبرون جدًّا أن يفكر واحد،مجرد التفكير،في أن يناقش السُنَّة النبوية الثابتة. الآن أصبح سهلاً جدًّا أن تسأل الناس بعضهاطول النهار:"هو أنا ملزَم؟"أو:"لا يا أخي سُنة إيه؟!". فهذا من المصائب الجديدةالتي لم يعرفها المسلمون منقبل.
لذلك قالوا كل من أحسن إليك فحق رسول الله أكبر من حقه، وكل من أنعم عليك وتفضل عليك فحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من حقه.ولا تقارن؛لا تظل تقول فلان علمني أكثر، فلان تصدق علي أكثر. كل..بالإطلاق والشمول والعموم.كل من له عليك نعمة،فنعمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك أعظم. لماذا؟
لأنك لو قارنت أي نعمة أخرى بنعمة الإسلام،لرجحت نعمة الإسلام كل النعم.
* * * * *
باب "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا".
وفيه حديث واحد «عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه (وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً».
ذاق طعم الإيمان يعني وجد هذه الحلاوة التي كنا نتحدث عنها قبل قليل؛"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان".ذاق يعني شعر بلذة هذه الطاعة وكره نفسه عند المعصية، ونظر إلى ماضيه نظرة المستغفر التائب، وإلى مستقبله نظرة المؤمل في رضا الله ورحمته. هذا هو الذي يستقر الإيمان في قلبه، وأنا قلت قبل ذلك إنه ليس في الإسلام تأنيب ضمير، وليس فيه أن أظل أضرب نفسي بالكرابيج طول الليل وأبكي، هذا غير موجود في الإسلام. الموجود في الإسلام التوبة من الذنوب «إن الله يغفر الذنوب جميعًا»فإذا أذنب المسلم يتوب وإذا أخطأ يتوب، إذا ارتكب كبيرة من الكبائر يتوب،ثم بعد هذه التوبة يُصلح حاله. أما العيش في ظل المعصية وانتظار المطهِر والمخلِّص فهذا ليس من الإسلام،هذا من الأديان الأخرى.
فذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وآمن بأن هذا الرب غفور رحيم، وآمن بأن هذا الرب شديد العقاب فحاول أن يتجنب عقابه، وحاول أن يكون أهلاً لمغفرته ورحمته. بماذا؟ بالتوبة والاستغفار والصدقة والصلاة النافلة والصوم النافلة إلى آخر ذلك.
ولذلك قال النووي: وحاصل هذا الحديث أن الإيمان هو التزام طريق الإسلام. فكل ما دلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم افعله،وكل ما نهاك عنه اتركه.
قال: وإذا دخل الإيمان قلب المرء سهُلت عليه الطاعة وصعبت عليه المعصية. عندما يواجهمعصية يكون مترددًاخائفًاقلقًاوغير مطمئن. وعندما تأتي الطاعة يقبل عليها، يستعجل إقامة الصلاة ويستعجل دخول رمضان. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء شعبان يقول:"اللهم بلغنا رمضان"؛لكي نصوم ونطيع. بعض الناس ممن حجوا أو اعتمروا عندما يأتي وقت الحج تجدهم يبكون،ويقول لك أحدهم:أنا مشتاق. مع أنه ذاهب في مشقة وتعب. إنما هذا الإيمان الذي وقر في قلبه سهَّل عليه هذه المشقات فسهَّل عليه الطاعات. والثاني والعياذ بالله،صعبت عليه الطاعات، كالذييستصعب حج الفريضة لأن أماكن المناسك مزدحمة(!). فأمثال هؤلاء لم يستقر في قلوبهم هذا النوع من الإيمان الذي يجعلهم يستلذون بالطاعات على المشقة التي فيها.
* * * * *
الباب الذي بعد ذلك باب "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا".
«عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (ستجدونفي المختصر مكتوب عن عبد الله بن عمر إنما هي في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عبد الله بن عمر له حديث آخر في مواضع أخرى) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كان فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذاخاصم فجر».
غير أنه في حديث سفيان (أي سفيان الثوري)، في رواية من الروايات:«وإن كانت فيه خصلة منهن أو خلة منهن كانت فيه خصلة أو خلة من النفاق».
قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الحديث من شرح النووي على مسلم، أُريد أن أقول إن هذا الحديث وأشباهه للتحذير الشديد من هذه الخصال السيئة،وليست تكفيراللمسلم. فلا يظن أحد أنه من فعل شيئًامن هذه الخصال فقد كفر أو نافق، أو أن من وقع فيها مرة أو مرتين أو عشرة في حياته يكون نافَق عشر مرات،وسيدخل جهنم وفي الدرك الأسفل من النار.
لا،هذا الحديث وأمثاله للتحذير الشديد وليس معناه الحكم بنفاق مرتكب هذه الأشياء على كثرتها وكبرها وخطورتها. بل هو كما قال الإمام الترمذي: "أجمع العلماء على أن هذا النفاق هو نفاق العمل، وأما نفاق الإيمان فكان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فأول مسألة هنا أن هذا الحديث وأمثاله للتحذير،وليس لتقرير حكم بكفر أو نفاق أو بالخروج من المِلة لمن وقع في واحدة من هذه الخصال.
معه الحديث الثاني لأن هذا الباب فيه حديثان. الحديث الثاني:«عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذِب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان».
ليس هنا إذا خاصم فجر ولا إذا عاهد غدر. فلما نجمع الثلاث والأربع وأصبحت خمس خصال. والعلماء وجدوا خصلة سادسة في القرآن الكريم «إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى»وأوصاف المنافقين في القرآن الكريم كثيرة. إذن،هذه ليست كل خصال المنافق، هذه أظهرها أو أهمها أو أكثرها وقوعًا، أو التي تشتبه على بعض الناس فلا يعرفون أنها تؤدي بهم إلى النفاق، ويقعون فيها على وجه الفلتة أو الغفلة.
الإمام النووي قال كلامًاجميلاًفي هذا الحديث،نقله عن العلماء،قال: "هذا الحديث مما عدَّه جماعة من العلماء مشكلاً". قالوا هذا حديث فيه مشكلة كبيرة. لماذا؟
من حيث إن هذه الخصال الأربع والثلاث،وأصبحوا خمسًا عندما جمعناها معًا.قد توجد في المسلم المصدِّق الذي ليس في إيمانه شك. ولقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال أو بعضها لا يُحكَم عليه بالكفر، ولا هو منافق يخلُد في النار. فإن أخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال. هل إخوة يوسف كانوا كفاراً؟!كانوا منافقين؟!وسيذهبون لجهنم؟!..إخوة يوسف أنبياء، هم الأسباط، هم أبناء يعقوب،وقد جمعوا هذه الخصال كلها ولم يدخلوا النار،وما كانوا من المنافقين.
طيب، قد يقال إنإخوة يوسف كانوا من شرع من قبلنا، وربماكان عندهم شرع غير شرعنا. قال النووي: "وكذا وُجِد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذا أو كله". بعض السلف الصالحين من الأمة الإسلامية، ولبعض العلماء الذين يُقتدى بهم، ويؤخذ عنهم بعض هذا،أو كله.
فالنووي رد وقال: "هذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال،ولكن معناه مُختَلَفٌفيه". فالذي قاله المحققون، وهم العلماء وليسوا محققي الكتب، فالمحققون هم العلماء الذين نظروا في المشكلات وعرفوا وجوه الخروج من الإشكال؛ قال: فالذي قاله المحققون والأكثرون،وهو الصحيح المختار (عند النووي نفسه) إن معناه (معنى هذا الحديث) أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين (ليس منافقًا).
فالذين يُشددونعلى الناس يجب أن ينتبهوا أن معنى هذا الحديث أن من كانت فيه خصلة من هذه الخصال فهو شبيه بالمنافقين، ومُتخلِق بأخلاقهم في الوقت الذي يمارس فيه هذه الخصلة أو يقع فيها، أو يرتكب فيه هذه الرذيلة، وليسطول حياته ولا طول عمره ولا في كل أحواله. ويكون نفاقه في حق من حدَّثه فكذب عليه،أو وعده فأخلفه، أو عاهده فغدر به،أوائتمنه فخان الأمانة.ليس نفاقًاعموميًايُدخله النار ويجعله في الدرك الأسفل.
قال النووي: ولم يُرِد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أنه منافق نفاق الكفار المُخَلدين في الدرك الأسفل من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم "كان منافقاً خالصاً" معناه شديد الشبه بالمنافقين، لأن معنى الأولى الشبه فقط فالمنافق خالصًا معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال.
وقال بعض العلماء: "وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، أما من يندر ذلك منه فليس داخلاً في هذا الوعيد أصلاً".
قال النووي: "وهذا هو المختار في هذا الحديث".
وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع المشهور،رحنه الله معنى هذا الحديث (عن العلماء مطلقًا. نتكلم عن علماء الدنيا، عن علماء الإسلام كلهم)،فقال: "إن معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل". وقال جماعة من العلماء: "المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم. وهذا هو قول سعيد بن الزبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد أن قال بغيره".
وقصة كلام الحسن البصري الأولى والرجوع موجودة في الإكمال للقاضي عياض بالتفصيل. لكن فيها حديث ليس له أصل، والقرطبي في المفهم (وهو شيخ المفسِّرين) قال:رويَ عن ابن عباس (هذا هو الحديث الضعيف) أنهما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث فضحك وقال لهما:"ما لكما ولهم؟ إنما خصصت بهن المنافقين وأنتم من ذلك براء".ثم قال لهم تعملوا كذا وتعملوا كذا وقصة طويلة، وعدد من العلماء قالوا لم نجده في كتب الحديث.
ثم أخونا الشيخ يحيي إسماعيل ـ في تحقيقه لإكمال القاضي عياض ـ قال: "ليس عليه نور النبوة".
إذن مجموع آراء العلماء يقول إن هذا الحديث الذي معنا ـ من صحيح مسلم ـ للتخويف وللتحذير الشديد، وإن من يفعل خَصلة من هذه الخصال أو خَلة من هذه الخلال كان منافقًا يعني شبيهًا بالمنافقين. ورواية كان منافقًا خالصًا يعني شديد الشبه بالمنافقين، وليس معناه أنه نفاق يُدخل صاحبه النار ويجعله في الدرك الأسفل.
قال النووي: "وحكى الخطابي رحمه الله (أبو سليمان الخطابي) قولاً آخر، أن معنى هذا الحديث ومثله التحذير للمسلمين أن يعتادوا هذه الخصال التي يُخَاف عليهم أن تُفضي بهم إلى حقيقة النفاق".
حكى قولاً آخر أنها (أي هذه الأحاديث) وردت في رجل بعينه كان قد وعد النبي وحدث وكذا... وكما قلنا رويَ وحُكيَ ونُقِل وقيل؛كل هذه ألفاظ التضعيف،تدل على أن الحديث ليس صحيحًا الصحة المطلقة.
فحاصل أقوال العلماء في هذا أنه للتحذير وأن من فَعَلَهذا كان شبيهًا بالمنافقين وأنه إذا اشتد شبهه جاز أن يسميه النبي صلى الله عليه وسلم منافقًا خالصًا؛ رغم أن المقصود ليس النفاق الحقيقي الذي يورِد صاحبه والعياذ بالله في النار.
في بعض الروايات لحديث مسلم، وهي روايات صحيحة:«وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»فاستشكل العلماء هذا مع كلامه السابق. وأجيب بأنه ليس فيه إشكال؛ ذكر وإنصام وصلى، لأن كثيرًا ممن يفعل هذا يصوم ويصلي ويزعم أنه مسلم. وقوله: وزعم أنه مسلم يعني زعم أنه مسلم كامل الإسلام، زعم أنه مؤمن كامل الإيمان، زعم أنه مسلم لا يأتي بالمعاصي.فهو صادق في زعمه الإسلام لكنهمسلم عاصٍ، هومسلم مخطئ، هو مسلم مقصر، هو مسلم ارتكب خطيئة، فيُحاسب عليها؛إن شاء الله تبارك وتعالى غفر له وإن شاء عذَّبه
دكتور محمد سليم العوَّاِ
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(4)
كان قد بقي معنا من الباب الذي عنوانه "في آيات النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به" حديث واحد رواه الشعبي «عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة يؤتَون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله عز وجل عليه وحق سيده فله أجران (لا كان متبرمًا بالقدر الذي ضرب عليه هذه العبودية،ولا كان ضائقًا بها حتى يؤذي من تمَلكَه، ولا كان سيء النية في ماله ولا سيء النية في ممتلكاته، إنما عَلِم أن هذا قضاء وقدر،عليه أن يصبر ويحتسب لعل الله يجعل له مخرجًا. ففي فترة الاحتساب هذه أدى حق الله عليه، وأدى حق من تمَلكَه على الرغم من ثِقَل الشعور بالتملك والشعور بالقهر من إنسان لآخر. بعض الناس عندما يسمعونهذا الحديث يقولونإن الإسلام يحض الناس على أن يستسلِموا لأقدارهم،وعلى أن يرضوا بهذه العبودية، مع أنكم تقولونإن هذا دين تحرير الإنسان من الخرافات والبدع، فكيف يحرره من الخرافات والبدع ويتركه مملوكًاويتركه رقيقًا؟ ينبغي هنا أن نستحضر أمرين: الأمر الأول تعبير الشيخ الغزالي رحمة الله عليه الذي كان يقول: "جاء الإسلام فوجد الرق فشرع العتق". وليس قبل الإسلام شريعة من الشرائع شرَّعت العِتق، الإسلام هو أول شريعة يعرفها البشر تُشرِّع عتق الرقيق في الرقاب، في الكفارات، وفي الصدقات، وفي القتل الخطأ وإلى آخر ما جاء. الأمر الثاني:أن التذمر على المصائب ليس من خُلق العباد الصالحين،سواء كان هؤلاء العباد أحرارًاأم أرقاء، والإسلام يُريد من الإنسان أن يكون صالح الخُلق، فمن حُسن الخُلق أن يؤدي حق الله تبارك وتعالى وحق من تَملَكه، لأن لهذا المُتملك حقيجب أن يؤدىإلى أن يقضي الله خيرًا للمملوك يتحرر به من أسر الرق) ورجل كانت له أمة فغذاها (يعني أعطاها التغذية المستديمة التي تُقيم حياتها طول الوقت) فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران».
والمطلوب ممن كانت له أمة أربعة أشياء: أن يُحسن غذاءها،وأن يؤدبها فيحسن تأديبها فيعلمها القرآن ويعلمها الصلاة ويعلمها الواجبات الشرعية الواجبة عليها، ثم إذا استطاع أن يعتقها فليفعل، فإن تزوجها وجب له في هذه الأربعة أجران. الأجر الأول هو الإحسان لهذه الأمة، والإحسان إلى المرأة أولى لأنها في عادة الناس آنئذٍ كانت موضع الاستهانة بها،أو موضع استعمالها فيما لا يجوز،وموضع المشقة عليها فيما تُكَلف به، فوصَّى النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة المملوكة أكثر مما وصى بالرجل المملوك.
الشعبي لم يقل هذا الحديث دون سبب، تعرفون أن إخواننا أهل العراق وما وراء العراق من أهل إيران وما إليها كانوا كثيري الافتراضات والأسئلة، وفي الفقه الحنفي عندنا: أرأيت، أرأيت.وعندما ذهب رجللمالك وقال له:"أرأيت إن كان كذا". فقال لهمالك:"هذه سليسلة بنت سليسلة،إن أردت هذا فعليك بالعراق". وكان من موروث فقه المدينة أن يقال للسائل: أوقعت هذه؟ فإن قيل نعم، أفتوه.وإن قيل لا،قالوا دعوها حتى تقع.
لا نستطيع أن نقول إن هذا منهج جيد وهذا منهج غير جيد، لأنه لما سُئل أبو حنيفة عن مسألة الافتراض هذه قال:"إننا نستعد للبلاء قبل وقوعه حتى إذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه". وكان شيخنا العلامة مصطفى شلبي، رحمة الله عليه، يقول لنا: "لا يستهين أحد بالافتراضات،فلولا هذه الافتراضات لحدثت مصائب بعد أن اُُخترعت الطائرات والصواريخ وما إليها". فقلنا له: كيف؟ قال: "عندهم في الفقه الحنفي إذا تزوج مشرقي بمغربية فالولد للفراش. مشرقي بمغربية وهو قاعد في المشرق والناس يرونه في كل وقت. الآن فيه طائرة ويقدر يروح المغرب في ثلاث ساعات ويقضي اليوم كله هناك ويعود ويقسم الناس أنهم رأوه في صلاة الفجر وصلاة العشاء". فكان يحاول أن يُقرب إلى أذهاننا فكرة أن الفقه الافتراضي ليس شرًا كله بأن يعطينا أمثلة من هذه الاختراعات الحديثة التي لا يحل مشاكلها عند المقلدين الخُلَّص إلا ذلك الفقه الافتراضي(!)
أحد أهل خراسان؛الذين كان عندهم هذا الفقه الافتراضي،جاءإلى الشعبي وقالله: "يا أبا عمرو أنتمنقذ لنا من أهل خراسان ومن والاهم،يقولون إن الرجل إذا أعتق أمته (يعني هذا الحديث) ثم تزوجها كان كالراكب بدنته".(البدنة هي الناقة أو الجمل أو البقرة التي تُهدى لبيت الله الحرام لمناسبة الحج أو العمرة،والعلماء يكرهون ركوبها إلا من ضرورة، من ساعة إحرامه، أما من غير ضرورة فلا يجوز تعظيمًا لشأن البيت الحرام الذي أهداها إليه.فلا يجوز له أن يعتدي على ما أهداه لهذا البيت الحرام إلا لضرورة.)
فقال الخراساني للشعبي إنهم كرهوا أن يتزوج الرجل الأمة إذا أعتقها كما يكرهون أن يركب الحاج أو المعتمر بدنة أهداها إلى البيت الحرام في أثناء طريقه إلى الحج. فحدثه الشعبي بهذا الحديث وقال: "خذ هذا الحديث عني بغير شيء،وقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة".يريد أن يقول له إن العلم انتشر ووصل إلى العراق، وأنت جئت من خراسان، بينما كان الإنسان لكي يصل إليه حديث مثل هذا لابد أن يركب إلى المدينة حيث كان العلم محصورًا فيها عندما كان الصحابة قليلين ولم يخرجوا منها. بينما في وقت الشعبي كان العلم قد انتشر فبلغ البلدان كلها.
* * * * *
الباب الذي يليه باب «ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان».
«عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،وأن يحبَالمرءَلا يحبُهُإلا لله،وأن يكرهَأن يعودَفي الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار»
الإمام النووي وهو يبدأ في شرح هذا الحديث قال:"هذا حديث عظيم وأصل من أصول الإسلام".لماذا؟
لأنه بهذه الخصال يستقر في نفس المرء المؤمن تلذذ بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وبغير هذا التلذذ لا يستطيع الإنسان أن يشعر بطعم العبادة، ولا بطعم الطاعة، ولا بطعم الصوم الذي يجوعه ويعطشه، ولا بطعم الصدقة التي تُنقص من ماله، ولا يصدق أنه ما نقصت صدقة من مال.
كيف يستقر الإيمان في القلب فنجد حلاوته؟ بهذه الخصال الثلاثة. قال إن حلاوة الإيمان هي التلذذ بالطاعات وتحمل المشقات. وهي بمعنى الحديث الوارد في مسلم في موضع آخر «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا»
وقال إن المحبة لا تصح إلا بالطاعة، ولذلكقالنسب إلى الإمام الشافعي، عندما أراد أن يترجم هذا المعنى، أنه قال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقـًا لأطعته إن المحب لمن أحب مطيـع
تحمل المشقات في مرضات الله تبارك وتعالى ـ إذن ـ دليل محبة العبد لربه. لذلك قال القاضي عياض: ولا محبة إلا بالطاعة، ولا تصح المحبة في الله وكراهة العودة إلى الكفر إلا لمن قويَ إيمانه، وتحقق يقينه، واطمأنت به نفسه حتى خالط لحمه ودمه، فأصبح يشعر أن هذه المحبة لله تعالى متمكنة منه حتى لا تحمله أعضاؤه على معصية ولا تصده عن طاعة.
ثم في الحديث وجوب حب بعضنا لبعض: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله".كيف ذلك؟..الحب في الله من ثمرات حب الله، إذا أحببت الله أحببت الصالحين من عباده، إذا أحببت الله أحببت الصادقين، أحببت الشهداء والمجاهدين، أحببت الشيعين للتطبيع، وأحببت المقاومين للعدو المحتل الصهيوني، وأحببت المقاومين للعدو الغازي بلاد المسلمين بجيوشه أو بثقافته، ليصرفهم عن ثقافتهم ويمسخ هويتهم... فالذي يحب الله حبًا حقيقيًا يجد ثمرة هذا الحب في عمله وفي تصرفاته، وفيما يقول وفيما يكتب، في كل شيء يأتيه أو يدعه. والذي يدَّعي حب الله وليس صادقًا فيه لا تجد عنده لهذه المحبة أثرًا أو تجد لها أثرًا قليلاً لا يكاد يُحَس.
كاهن كاثوليكي لبناني كتب مقالاً طويلاًعن أن مشكلة المسلمين أن دينهم يقوم على الخوف ولا يقوم على الحب، قال:كل حاجة عندهم عذاب عظيم، عذاب أليم. إنما نحن عندنا الحب،فنحن أقرب إلى الله منهم ونستطيع أن نتسامح وهم لا يتسامحون، ولذلك يضربونا بالنار وبالقنابل والرصاص.
وقدانشغلت بالرد عليه مدة، وجمعت الأحاديث والآيات التي فيها المحبة فوجدت شيئًالا يُتَصور، يهدم زعمه من أساسه وينقض بناءه! وتعمدت أن أجمع ذلك بعيدًا عن التصوف؛لأني لو دخلت في باب الحب في التصوف قد لا ننتهيأبدًا.
العلماء يقولونأصل المحبة مواطأة القلب، يعني مطابقته، يعني أن يكون مطمئنًا وراضيًا ومقبلاً. مواطأة القلب على ما يُرضي الرب سبحانه وتعالى. إذن،العمل من المحبة والترك من المحبة، والإقبال من المحبة، والامتناع من المحبة. فليست المشكلة أني خائف،إنما المسألة أني أُحب هذا الخالق العظيم وأعرف له قدره. هذه المحبة أصل من الأصول الإيمانية، فإذا اكتملت في الإنسان واشتمل عليها قلبه،ظهر أثرها في سائر أفعاله وأقواله.وبمقدار ما تقل يقل أثرها في ذلك كله.
لذلك قال القاضي عياض: "أصل المحبة مواطأة القلب على ما يُرضي الرب سبحانه وتعالى، فيُحب الإنسان ما أحبه الله ويكره ما يكرهه". قال:"هي من واجبات الإسلام".
فهذه ليست زيادة ولا كمال من الكمالات، إنها واجب من الواجبات بموجب هذه الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما.
إذن:"من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحبَّالمرء لا يحبه إلا لله".هل إذا كانت بيني وبينه دنيا تمنع أن تكون المحبةلله؟.لا،لا تمنع، إذا كان بيني وبينه منفعة،لا تمنع أن تكون المحبة لله؟.وإذا كانت بيني وبينه تجارة،لا تمنع.إذا كان يؤدي لي خدمة وأؤدي له خدمة، كل هذا تزيده المحبة في الله ثراءًوتوثقًا،ولا تنقصه.
إنما الذي لا يُقبل ولا يُرضى به؟ أن يكون الأصل في الصلة بين الناس هذه المنفعة المادية. عندئذ تختفي المحبة في الله وتظهر المحبة في الدنيا، فإذا اقتصرت المحبة على محبة الدنيا فهي زائلة، أما إذا كانت محبة الله هي الأصل فيها ولو جاءت معها محبة دنيوية فهذا لا بأس به، جميع الصحابة كانوا يتبايعون ويتزاوجون ولم يُنقص هذا من محبة بعضهم لبعض في الله سبحانه وتعالى.
* * *
الحديث الذي يليه عن أنس رضي الله عنه أيضاً: قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يُحب لجاره،أو قال لأخيه،ما يُحب لنفسه»
الحديث فيه عدة روايات: لا يؤمن عبد، لا يؤمن أحدكم، ولا يؤمن الرجل. كل هذه الروايات موجودة في مسلم وكلها صحيحة، وفي رواية أنس،الشك منه هو وليس من أحد الرواة في رواية مسلم:"والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه" أو قال لأخيه هذه في عبارة أنس في رواية مسلم. ولكن عند البخاري وغيره من الرواة: "لا يؤمن أحدكم أو لا يؤمن عبد أو لا يؤمن رجل حتى يحب لأخيه" وليس هناك "لجاره أو قال لأخيه". فهذا الشك جاء عند مسلم فقط، وهذا الشك أيضًا صحيح عن أنس، يعني هذا ليس ضعفًافي رواية أنس، كأن أنس في مرحلة من المراحل قال: هلقالحتىيحب لجاره،أم قال حتى يحب لأخيه؟..فشك أنس،فذكر اللفظين.وهذا يقع كثيرًا من المحدّثين ولا يقلل من درجة الحديث ولا من صحته ولا من جودته ولا من عملنا به. وهذه المغايرة لا إشكال فيها: فالجار أو الأخ،يمكن أن تُحمل على الأخوة في الإنسانية، أو الأخوة في الوطن، وإن كان الأصل فيها أخوة الإسلام.قال العلماء:إذا كان في اللفظ مغايرة في بعض الروايات،يُعمل باللفظين طالما كانا مرويين برواية صحيحة وبسند صحيح. أييبقى اللفظان صحيحين ويُعمل باللفظين معًا. وهذا من علوم الحديث المهمة.
فأنس قال:"قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يُحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه"
أي حب هنا؟.الحب الذي هو حب الطبع؟ كأن أحب ابنيأوعمتي... هذا حب طبع، الإنسان ينشأ فيجد نفسه في وسط عائلي فيحب هذا الوسط كله، يقلق لقلقه، يفرح لفرحه، هذا نسميه حب الطبع الذي لا فضل للإنسان فيه.
إنما الحب المقصود في هذا الحديث هو حب الاختيار الذي لا يأتي إلا بإرادتنا، والذي تصنعه بنفسك فَتُؤْجَر عليه عند الله تبارك وتعالى، هذا يُسمونه حب الاختيار.
وقال العلماء: إن معنى لا يؤمن أحدكم أو لا يؤمن عبد أو لا يؤمن الرجل،ليس معناه أنه يصبحكافرًا، إنما يبقى إيمانه به بعضالنقص، لا يؤمن إيمانًا كاملاً، لا يؤمن إيمانًا لا يأتيه شيء من بين يديه ولا من خلفه. وهناك أحاديث كثيرة فيها نفي الإيمان، وسنأتي لأحاديث أخرى فيها كلمة الكفر، فهذه الكلمات لا تُحْمَلُعلى ظاهرها، ولا يُظَن أن معنى لا يؤمن، في كل الأحاديث، أنه يكفر ويدخل النار. لكن لا يؤمن هنا معناها لا يؤمن إيمانًا كاملاً، أو لا يؤمن في لحظة معينة، أو لا يؤمن في أثناء فعل معين.
الإمام أبو سليمان الخطابي، وهو أحد أئمة السنة،قال:إن معنى هذا أن يُفني المرء نفسه في طاعة الله عز وجل. ومن طاعة الله حب الجار وحب الأخ وحب الصديق، وحب الذي يتصل بك بصلة صالحة، إذا كان هذا كله حبًا في الله. قال النووي هذا من حب الله تعالى،وأرجع ذلك للحديث الذي قبله، وهما متتاليان في الرواية أيضًا عند أبي داوود. فقال: هما حديثان بمعنى واحد ويُكمل أحدهما الآخر، فينبغي عليك إذا أحببت الله حق الحب أن تحب أخاك وأن تحب جارك، وأن تُحِب له ما تُحِب لنفسك.
أبو عمرو بن الصلاح، أحد الأئمة الشُرَّاح، في أثناءشرحهلصحيح مسلم،قال: "هذا يبدو من المستبعد الذي لا يكاد يقع"؛ يقصد أن أُحب لجاري أو لأخي شقيقي، فضلاً عن أخي في الإسلام، ما أحبه لنفسي. كأن أريد بيتًا مثل الذي عندي لأخي، أو أحسن منه....
قال: الأمر ليس كذلك. ولكنه استدرك على هذا الاستبعاد بأنك إذا نظرت إلى ظاهر الحديث وجدت أن المقصود منك أن تطلب لأخيك مثل ما تطلب لنفسك، وهذا معقول لا شيء فيه، إلا إذا دخل في قلب الإنسان الشعور بأنه أحسن من أخيه أو أفضل منه فيرى أنه يستحق خيرًا مما عند أخيه، أو أنه يستحق ما هو فيه من نعمة وأخوه لا يستحق مثلها، هنا يكون قد يكون قلب العبد قد أصبح دغلاً أي تمكن منه بعض أمراضه مثل الحقد أو الحسد أو الغل، وبالجملة يكون قد وقع في القلب فساد، يجب أن يسعى المرء في إصلاحه بالطاعة المتوالية والدعاء ونحوهما. (وتعبير الدغل يقصد به فساد القلب تشبيهًا له بالأحراش التي تلتف فيها الأشجار والأشواك فلا يخلص للإنسان منه الطيب من الخبيث، ولا النافع منا الضار)
إن المطلوب في هذا الحديث أن يُحب المرء لأخيه النعمة التي عنده وزيادة دون أن تنقص نعمته هو. كأنه يقول يا رب أعط لكل الناس مثل ما عندي وأكثر، لكن يا رب لا تنقص نعمتي أنا. قال ابن الصلاح: وهذا أمر يسير على أصحاب القلوب السليمة. أي إن الذي يرضى بنعمته، ويحمد الله عليها لا يخطر بباله أنه يستفيد إذا نقصت نعم الناس. لأن القلوب السليمةتحب الخير لإخوانها ولأهلها ولجيرانها. إذا بلغ الإنسان هذه المنزلة فقد نجا وكمل إيمانه على وفق هذا الحديث.
المسألة الثانية في هذا الحديث، هي أنه يتناول أمر الدنيا ومباحاتها من النعم الحلال ونحوها، من الطيبات والمال الحلال وصلاح الأولاد إلى آخر ذلك.
أما الآخرة ففيها قول الله تبارك وتعالى «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»لأن في الآخرة معيارًالا نعرف كنهه،ومكيالاًلا نستطيع أن نعرف مقداره. إنما في مقادير الدنيا بيننا يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه أو مثل ما يحب لنفسه دون أن يطلب نقصان نعمة غيره، وبذلك ترتاح القلوب وتستقر للناس أوضاعها.
أنا أُطيل في هذه المعاني لأن بعض إخواننا يتساءلونما جدوى أن نتكلم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كلام قديم نسمعه كل جمعة من على المنابر.
الحقيقة أننا عندما فكرنا نقرأ مختصر صحيح مسلم كان هدفنا أن نحاول أن العيش في ظلال السُنَّة النبوية، بمعنى أن تؤثر في حياتنا، وأن نتعلم منها كيف نحيا، ونحولها لعمل حقيقي.
فإذا استطعنا في لقاءاتنا هذه أن يجمع كل واحد منا لنفسه ما يقدر عليه أو ما يحبه أو ما يبقى في ذهنه، أو إذا ما نام ليلاً تساءل:ما هي حكاية لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه؟.ويسأل عنها،ويبدأ يحب لأخيه ما يحبه لنفسه بعد أن لم يكن يعرف هذا. فهذه مهمتنا في هذه اللقاءات؛أن نحاول أن نعيش،ولو قليلاً، بالسنَّة،وليس أن نعيش مع السنَّة. بالسنَّة يعني نُدْخِلها في سلوكنا وفي حياتنا، ونجعلها معيارًا نقيس به تصرفاتنا وأفعالنا وعواطفنا. لأن كل هذه الأحاديث في العواطف؛في المحبة وفي الكره وفي البغض. فنفعل هذا لنتعلم كيف يرضى الله تعالى عنا بقدر ما نستطيع.
* * *
الحديث الذي يلي هذا الحديث هو قول أنس «عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.» هذا أصعب من السابق، إذا كان الأول لا يؤمن حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه. وقالوا إن هذا من المستبعد الذي يكاد أن لا يكون. هنا لا يؤمن حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده. هل هناك من هو أحب للإنسان من ولده؟ ووالده هل هناك أحد مثل الوالد؟ والناس أجمعين؛دخلت فيهم زوجتك وأهلك،ودخل فيها كل من له فضل عليك.
في رواية أخرى صحيحة لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك وقال:«ونفسه التي بين جنبيه»فسيدنا عمر، وسيدنا عمر كان كثير المراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم،قال له:"يارسول الله والله إنك لأحب إلي من أمي وأبي والناس أجمعين" فقال له:"ونفسك يا عمر؟".قال:"لا يا رسول الله"،قال:"لا إذن".قال:"والذي نفسي بيده يارسول الله،أنت أحب إلي من نفسي"،قال:"الآن إذن".
ماذا كان يفعل عمر؟ كان يرى إلى أين يمكنه أن يقف. ممكن يفلت بالحكاية؟ فيقدم نفسه على النبي أو يقدم النبي على نفسه.
العلماء قالوا في هذا الحديث أمرًاجميلاًجدًّا. قالوا: هذا ما قاله الرسوللسيدنا عمر، لكنه قال لعموم المسلمين الحديث الذي في مسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى..." وذلك لأمرين:
الأمر الأول:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم وليس معنا. فالافتراض الخيالي الخاص:أتقدم أنا على الرسول صلى الله عليه وسلم أم يتقدمهو، افتراضغير موجود، مع أنه في الحقيقة موجود في نصر السنَّة،والدفاع عن الدين،والدفاع عن الشريعة،وقول الحق والجهر به في أيام الباطل.لكن هذا ما قاله العلماء.
الأمر الثاني:أن هذا عمر، خاصة الخاصة، هو من الذين لا يُقبل منهمأقل من ذلك. مثل ما قال العلماء العارفونإنحسنات الأبرار سيئات المقربين، يريدون أن الخلقطبقات، فأهل الطبقة الأولى الذينلا يُقبل منهم إلا هذا أمثالأبو بكر وعمر ونظرائهما من كبار الصحابة.
ولكن الحديث الذي معنا "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".قال العلماء مرة أخرى: هذا هو حب الاختيار، وقالوا كلامًاجميلاًجدًّا.
قالوا: الحب ثلاثةأنواع:حب شفقة؛كما يُحب الإنسان أولاده شفقة ورحمة وما إلى ذلك.
وحب إعظام وإجلال؛يُحب الإنسان من هو أكبر منه،ومن هو أعظم منه،ومن هو أرقى منه وما إلى ذلك.
ومحبة مشاكلة واستحسان؛كمحبة سائر الناس بعضهم لبعض. أنا أُحب أحدًايعني نحن الأثنين قريبين لبعض،طباعنا مثل بعض، أخلاقنا مثل بعض. هذا هو حب المشاكلة.
قالوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي محبة الإعظام والإجلال وليست من محبة الشفقة والرحمة، ولا من محبة المشاكلة. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في مقامه العالي،وهو الذي بلَّغنا الوحي، والذي علمنا الدين، والذي استنقذنا الله به من النار، والذي هُدينا به من الضلالة.هذه هي محبة الإعظام والإجلال، وهذه هي المحبة التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. المحبة التي حملت الصحابة أن يفدوه بأنفسهم في المعارك التي خاضوها معه رجالاً ونساءً، وأن يتترسوا دونه حتى يمنعوا وصول العدو إليه، فيُجرح الرجال والنساء.هذا النوع من المحبة لا يكون إلا محبة الإجلال والإعظام، وهذه هي التي يستحقها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي عياض كلامًاجميلاًجداً. قال: "من استكمل الإيمان على وفق الأحاديث السابقة علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من حق أبيه وابنه وزوجه وسائر الناس". لماذا؟ قال: "لأن من الواجب أن يُبَيِّن نصره،وليس لأحد دين ينصره.ومن الواجب على كل مسلم الدفاع عن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وليس لأحد سُنَّة تُنصر.ومن واجب كل مسلم ألا يقبل أي مساس بكيان أو قدر أو شرف أو احترام النبي صلى الله عليه وسلم،وليس هذا واجباً لكل الناس إنما يجب لبعضهم". وعدد الأسباب التي تُوجب أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر تأكيدًامن محبة الخلق أجمعين. وقال: "وجميع ذلك يبدو في أن الله اختاره ليُنزِّل عليه القرآن". وقال: "لو ما كان ربنا سبحانه وتعالى رآه أصفى خلقه وأنقاهم وأحقهم بهذه الرسالة ما أنزلها عليه". وقدهُدينا من الضلالوخرجنا من الكفر عندما بلغتنا هذه الرسالة. إذن،فحق هذا النبي علينا هذا القدر من الإعظام والإجلال.
وهذه ليست محبة نَوْحٌوبكاء لفراق النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعض الناس عند قبره الشريف. هو مات من 14 قرن،والذين كانوا معه لم يفعلوا ذلك. بكوا ودفنوه،وذهبوا ليبايعوا أبا بكر قبل أن يكملوا الدفن. فليست هذه المحبة، إنما محبته محبة الإجلال والإعظام والائتمار بأمره والانتهاء عند نهيه.
أحد إخواننا عندما تكلمنا عن الأحاديث النبوية سأل: هل نحن مطالبون أن نتبع كل سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلت له: نعم نحن مطالبون بأن نتبع السُنَّة الصحيحة كلها.لكن السُنَّة الصحيحة نفسها فيها أقسام، فيها الواجبات، والمندوبات والمباحات وفيها المكروهات وهكذا.
لكن هذا السؤال لم يكن يرد على ذهن مسلم من الصدر الأول أبدًا. عندما قال أبو الدرداء لمعاوية كلامًاعن بيع الذهب المصنوع،والذهب غير المصنوع،فقال معاوية: "لا أرى في هذا بأسًا". قالأبو الدرداء: "أحدثك عن رسول الله وتخبرني برأيك. لا أُساكنك بأرض". وخرج من الشام، خرج مجاهدًا ومرابطًا ومات على ثغور اسطنبول، وقبره بها معروف يزار إلى اليوم، رضي الله عنه.
كانوا يستكبرون جدًّا أن يفكر واحد،مجرد التفكير،في أن يناقش السُنَّة النبوية الثابتة. الآن أصبح سهلاً جدًّا أن تسأل الناس بعضهاطول النهار:"هو أنا ملزَم؟"أو:"لا يا أخي سُنة إيه؟!". فهذا من المصائب الجديدةالتي لم يعرفها المسلمون منقبل.
لذلك قالوا كل من أحسن إليك فحق رسول الله أكبر من حقه، وكل من أنعم عليك وتفضل عليك فحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من حقه.ولا تقارن؛لا تظل تقول فلان علمني أكثر، فلان تصدق علي أكثر. كل..بالإطلاق والشمول والعموم.كل من له عليك نعمة،فنعمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك أعظم. لماذا؟
لأنك لو قارنت أي نعمة أخرى بنعمة الإسلام،لرجحت نعمة الإسلام كل النعم.
* * * * *
باب "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا".
وفيه حديث واحد «عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه (وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً».
ذاق طعم الإيمان يعني وجد هذه الحلاوة التي كنا نتحدث عنها قبل قليل؛"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان".ذاق يعني شعر بلذة هذه الطاعة وكره نفسه عند المعصية، ونظر إلى ماضيه نظرة المستغفر التائب، وإلى مستقبله نظرة المؤمل في رضا الله ورحمته. هذا هو الذي يستقر الإيمان في قلبه، وأنا قلت قبل ذلك إنه ليس في الإسلام تأنيب ضمير، وليس فيه أن أظل أضرب نفسي بالكرابيج طول الليل وأبكي، هذا غير موجود في الإسلام. الموجود في الإسلام التوبة من الذنوب «إن الله يغفر الذنوب جميعًا»فإذا أذنب المسلم يتوب وإذا أخطأ يتوب، إذا ارتكب كبيرة من الكبائر يتوب،ثم بعد هذه التوبة يُصلح حاله. أما العيش في ظل المعصية وانتظار المطهِر والمخلِّص فهذا ليس من الإسلام،هذا من الأديان الأخرى.
فذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وآمن بأن هذا الرب غفور رحيم، وآمن بأن هذا الرب شديد العقاب فحاول أن يتجنب عقابه، وحاول أن يكون أهلاً لمغفرته ورحمته. بماذا؟ بالتوبة والاستغفار والصدقة والصلاة النافلة والصوم النافلة إلى آخر ذلك.
ولذلك قال النووي: وحاصل هذا الحديث أن الإيمان هو التزام طريق الإسلام. فكل ما دلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم افعله،وكل ما نهاك عنه اتركه.
قال: وإذا دخل الإيمان قلب المرء سهُلت عليه الطاعة وصعبت عليه المعصية. عندما يواجهمعصية يكون مترددًاخائفًاقلقًاوغير مطمئن. وعندما تأتي الطاعة يقبل عليها، يستعجل إقامة الصلاة ويستعجل دخول رمضان. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء شعبان يقول:"اللهم بلغنا رمضان"؛لكي نصوم ونطيع. بعض الناس ممن حجوا أو اعتمروا عندما يأتي وقت الحج تجدهم يبكون،ويقول لك أحدهم:أنا مشتاق. مع أنه ذاهب في مشقة وتعب. إنما هذا الإيمان الذي وقر في قلبه سهَّل عليه هذه المشقات فسهَّل عليه الطاعات. والثاني والعياذ بالله،صعبت عليه الطاعات، كالذييستصعب حج الفريضة لأن أماكن المناسك مزدحمة(!). فأمثال هؤلاء لم يستقر في قلوبهم هذا النوع من الإيمان الذي يجعلهم يستلذون بالطاعات على المشقة التي فيها.
* * * * *
الباب الذي بعد ذلك باب "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا".
«عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (ستجدونفي المختصر مكتوب عن عبد الله بن عمر إنما هي في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عبد الله بن عمر له حديث آخر في مواضع أخرى) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كان فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذاخاصم فجر».
غير أنه في حديث سفيان (أي سفيان الثوري)، في رواية من الروايات:«وإن كانت فيه خصلة منهن أو خلة منهن كانت فيه خصلة أو خلة من النفاق».
قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الحديث من شرح النووي على مسلم، أُريد أن أقول إن هذا الحديث وأشباهه للتحذير الشديد من هذه الخصال السيئة،وليست تكفيراللمسلم. فلا يظن أحد أنه من فعل شيئًامن هذه الخصال فقد كفر أو نافق، أو أن من وقع فيها مرة أو مرتين أو عشرة في حياته يكون نافَق عشر مرات،وسيدخل جهنم وفي الدرك الأسفل من النار.
لا،هذا الحديث وأمثاله للتحذير الشديد وليس معناه الحكم بنفاق مرتكب هذه الأشياء على كثرتها وكبرها وخطورتها. بل هو كما قال الإمام الترمذي: "أجمع العلماء على أن هذا النفاق هو نفاق العمل، وأما نفاق الإيمان فكان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فأول مسألة هنا أن هذا الحديث وأمثاله للتحذير،وليس لتقرير حكم بكفر أو نفاق أو بالخروج من المِلة لمن وقع في واحدة من هذه الخصال.
معه الحديث الثاني لأن هذا الباب فيه حديثان. الحديث الثاني:«عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذِب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان».
ليس هنا إذا خاصم فجر ولا إذا عاهد غدر. فلما نجمع الثلاث والأربع وأصبحت خمس خصال. والعلماء وجدوا خصلة سادسة في القرآن الكريم «إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى»وأوصاف المنافقين في القرآن الكريم كثيرة. إذن،هذه ليست كل خصال المنافق، هذه أظهرها أو أهمها أو أكثرها وقوعًا، أو التي تشتبه على بعض الناس فلا يعرفون أنها تؤدي بهم إلى النفاق، ويقعون فيها على وجه الفلتة أو الغفلة.
الإمام النووي قال كلامًاجميلاًفي هذا الحديث،نقله عن العلماء،قال: "هذا الحديث مما عدَّه جماعة من العلماء مشكلاً". قالوا هذا حديث فيه مشكلة كبيرة. لماذا؟
من حيث إن هذه الخصال الأربع والثلاث،وأصبحوا خمسًا عندما جمعناها معًا.قد توجد في المسلم المصدِّق الذي ليس في إيمانه شك. ولقد أجمع العلماء على أن من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال أو بعضها لا يُحكَم عليه بالكفر، ولا هو منافق يخلُد في النار. فإن أخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال. هل إخوة يوسف كانوا كفاراً؟!كانوا منافقين؟!وسيذهبون لجهنم؟!..إخوة يوسف أنبياء، هم الأسباط، هم أبناء يعقوب،وقد جمعوا هذه الخصال كلها ولم يدخلوا النار،وما كانوا من المنافقين.
طيب، قد يقال إنإخوة يوسف كانوا من شرع من قبلنا، وربماكان عندهم شرع غير شرعنا. قال النووي: "وكذا وُجِد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذا أو كله". بعض السلف الصالحين من الأمة الإسلامية، ولبعض العلماء الذين يُقتدى بهم، ويؤخذ عنهم بعض هذا،أو كله.
فالنووي رد وقال: "هذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال،ولكن معناه مُختَلَفٌفيه". فالذي قاله المحققون، وهم العلماء وليسوا محققي الكتب، فالمحققون هم العلماء الذين نظروا في المشكلات وعرفوا وجوه الخروج من الإشكال؛ قال: فالذي قاله المحققون والأكثرون،وهو الصحيح المختار (عند النووي نفسه) إن معناه (معنى هذا الحديث) أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين (ليس منافقًا).
فالذين يُشددونعلى الناس يجب أن ينتبهوا أن معنى هذا الحديث أن من كانت فيه خصلة من هذه الخصال فهو شبيه بالمنافقين، ومُتخلِق بأخلاقهم في الوقت الذي يمارس فيه هذه الخصلة أو يقع فيها، أو يرتكب فيه هذه الرذيلة، وليسطول حياته ولا طول عمره ولا في كل أحواله. ويكون نفاقه في حق من حدَّثه فكذب عليه،أو وعده فأخلفه، أو عاهده فغدر به،أوائتمنه فخان الأمانة.ليس نفاقًاعموميًايُدخله النار ويجعله في الدرك الأسفل.
قال النووي: ولم يُرِد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أنه منافق نفاق الكفار المُخَلدين في الدرك الأسفل من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم "كان منافقاً خالصاً" معناه شديد الشبه بالمنافقين، لأن معنى الأولى الشبه فقط فالمنافق خالصًا معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال.
وقال بعض العلماء: "وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، أما من يندر ذلك منه فليس داخلاً في هذا الوعيد أصلاً".
قال النووي: "وهذا هو المختار في هذا الحديث".
وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع المشهور،رحنه الله معنى هذا الحديث (عن العلماء مطلقًا. نتكلم عن علماء الدنيا، عن علماء الإسلام كلهم)،فقال: "إن معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل". وقال جماعة من العلماء: "المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا، وفجروا في خصوماتهم. وهذا هو قول سعيد بن الزبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد أن قال بغيره".
وقصة كلام الحسن البصري الأولى والرجوع موجودة في الإكمال للقاضي عياض بالتفصيل. لكن فيها حديث ليس له أصل، والقرطبي في المفهم (وهو شيخ المفسِّرين) قال:رويَ عن ابن عباس (هذا هو الحديث الضعيف) أنهما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث فضحك وقال لهما:"ما لكما ولهم؟ إنما خصصت بهن المنافقين وأنتم من ذلك براء".ثم قال لهم تعملوا كذا وتعملوا كذا وقصة طويلة، وعدد من العلماء قالوا لم نجده في كتب الحديث.
ثم أخونا الشيخ يحيي إسماعيل ـ في تحقيقه لإكمال القاضي عياض ـ قال: "ليس عليه نور النبوة".
إذن مجموع آراء العلماء يقول إن هذا الحديث الذي معنا ـ من صحيح مسلم ـ للتخويف وللتحذير الشديد، وإن من يفعل خَصلة من هذه الخصال أو خَلة من هذه الخلال كان منافقًا يعني شبيهًا بالمنافقين. ورواية كان منافقًا خالصًا يعني شديد الشبه بالمنافقين، وليس معناه أنه نفاق يُدخل صاحبه النار ويجعله في الدرك الأسفل.
قال النووي: "وحكى الخطابي رحمه الله (أبو سليمان الخطابي) قولاً آخر، أن معنى هذا الحديث ومثله التحذير للمسلمين أن يعتادوا هذه الخصال التي يُخَاف عليهم أن تُفضي بهم إلى حقيقة النفاق".
حكى قولاً آخر أنها (أي هذه الأحاديث) وردت في رجل بعينه كان قد وعد النبي وحدث وكذا... وكما قلنا رويَ وحُكيَ ونُقِل وقيل؛كل هذه ألفاظ التضعيف،تدل على أن الحديث ليس صحيحًا الصحة المطلقة.
فحاصل أقوال العلماء في هذا أنه للتحذير وأن من فَعَلَهذا كان شبيهًا بالمنافقين وأنه إذا اشتد شبهه جاز أن يسميه النبي صلى الله عليه وسلم منافقًا خالصًا؛ رغم أن المقصود ليس النفاق الحقيقي الذي يورِد صاحبه والعياذ بالله في النار.
في بعض الروايات لحديث مسلم، وهي روايات صحيحة:«وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»فاستشكل العلماء هذا مع كلامه السابق. وأجيب بأنه ليس فيه إشكال؛ ذكر وإنصام وصلى، لأن كثيرًا ممن يفعل هذا يصوم ويصلي ويزعم أنه مسلم. وقوله: وزعم أنه مسلم يعني زعم أنه مسلم كامل الإسلام، زعم أنه مؤمن كامل الإيمان، زعم أنه مسلم لا يأتي بالمعاصي.فهو صادق في زعمه الإسلام لكنهمسلم عاصٍ، هومسلم مخطئ، هو مسلم مقصر، هو مسلم ارتكب خطيئة، فيُحاسب عليها؛إن شاء الله تبارك وتعالى غفر له وإن شاء عذَّبه
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
مختصر صحيح مسلم دكتور محمد سليم العوَّاِ(5،6)
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(5، 6)
أبدأ اليوم ببعض ما دار في أعقاب المحاضرة السابقة من مناقشات حول بعض الأحاديث التي تذكر في المواعظ والخطب الدينية ونحوها. سأل بعض الإخوان عن عدد من الأحاديث التي فيها ترهيب شديد على ذنب صغير، أو التي فيها وعد بثواب كبير على طاعة صغيرة.
والقاعدة عند العلماء في مثل هذا هي ما قرره ابن قيم الجوزية في كتابه «المنار المنيف في معرفة الصحيح من الضعيف». قال: إن من علامات الوضع ـ أو عدم الصحة ـ أن يتضمن الحديث مثل هذا الوعيد أو ذاك الوعد بعذاب شديد أو ثواب عظيم على أمر ليس من معهود الشرع العقاب عليه أو الإثابة على فعله بمثل ذلك من العقاب أو الثواب. وابن قيم الجوزية قد خصص كتابه هذا لمعرفة درجة الحديث دون نظر في سنده أي ليمكن المسلم العاقل غير العارف بعلوم الحديث من عدد من القواعد التي تجعله يدرك ـ على سبيل غلبة الظن ـ ما إذا كان الحديث صحيحًا أم غير صحيح. ومن قواعده في هذا الكتاب قوله:"فكل شيء ضاد اليسر فشكَّ فيه". فمن واجب إخواننا الدعاة والوعاظ والخطباء أن يجعلوا لهم من علم الحديث نصيبًا يمكنهم من إشاعة الحديث الصحيح والتنبيه على الضعيف والموضوع ونحوهما. ومن لم يتمكن من ذلك فعليه بمثل كتاب المنار المنيف لابن قيم الجوزية ليعرف ما فيه من قواعد. وليكن همه في شأن الحديث النبوي منصرفًا إلى الكتب الصحيحة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ الإمام مالك، فإذا لجأ إلى غير هذه الكتب فليستعن في شأن أحاديثها بأقوال العلماء تصحيحًا أو تضعيفًا. والله يوفق الجميع إلى العلم بسنة نبيه والعمل بها.
* * * * *
اليوم نبدأ بباب سماه المنذري «مثل المؤمن كالزرع ومثل المنافق والكافر كالأَرْزَةِ». (الأرزة هي شجرة الأرز الموجودة في لبنان).
«عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، وتصرعها مرة، وتعدلها أخرى؛ حتى تهيج. ومثل الكافر كمثل الأرزة المُجْذِيَّة على أصلها، لا يُفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرةً واحدةً».
مثل المؤمن كمثل الخامة (الخامة هي ساق النبات أو الشجرة اللينة الخفيفة التي تميل من الهواء) من الزرع تُفيئها الريح (تُفيئها يعني تحركها) تصرعها مرة (تجعلها تميل مرة) وتعدلها أخرى (مرة تميل إلى اليمين ومرة تميل إلى الشمال ومرة تعتدل. فالمؤمن كذلك؛ يعمل الصالحات ويعمل المعاصي، يقع في الخطأ ويتوب، يعمل الحسنات ثم يقع في سيئة. فهو كذلك بين الخوف والرجاء، بين المعصية والطاعة، بين الأمل في رحمة الله والخوف من العذاب. أحواله ليست جامدة لأنه يعرف أن الإنسان خُلِق من ضعف، وهذا الضعف يقتضيه أحيانًا بعض المخالفات، فإذا خالف عاد واستقام. ثم يأتي الشيطان فيجذبه مرة ثانية فيُخالف، فيتوب ويستغفر ويستقيم وهكذا حتى يأتيه أجله) حتى تهيج. (تهيج يعني تجف وتموت، كناية عن إتيان أجلها).
ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية (الأرزة المجذية هي الأرزة الثابتة التي لا تتحرك من الأرض، جذعها ثابت في جذورها وجذورها ضاربة في الصخر. فالكافر ثابت على الضلال، وثابت على الكفر، وثابت على المعاصي، ليس ثباتًا على الخير، بل ثبات على الشر. فهذا الثبات شُبِّهَ بثبات هذه الشجرة التي لا تتحرك أبدًا) على أصلها لا يفيئها شيء (لا تروح يمينًا ولا تروح شمالاً) حتى يكون انجعافها مرة واحدة (عند موتها توقعها على الأرض أية ريح ضعيفة. كيف؟ لأن الجذور التي كانت في الأرض تمدها بالحياة قد انتهت. فكذلك الكافر؛ يبقى على ضلاله وغيه وفساد أحواله إلى أن ينتهي أجله فيلقى الله بما يستحق. أما المؤمن فيلقى الله بين الخوف والرجاء، يلقى الله بين الأمل والإشفاق، وهكذا إلى أن يعفو الله عنه فهذا هو حال المؤمن). وليتنبه قارئ هذا الحديث أو سامعه إلى أن بعض رواياته الصحيحة في مسلم وغيره فيها كلمة (المنافق) بدلا من كلمة (الكافر)، والمقصود بالمنافق هنا المبتلى بنفاق العقيدة والإيمان وليس الواقع في بعض نفاق العمل الذي أشرنا إليه في المحاضرات السابقة.
عندما يصف النبي صلى الله عليه وسلم حال هذين الرجلين، الرجل المؤمن والرجل الكافر، ماذا يقول لنا؟ يقول لنا لا تخافوا من الغلط، لا تخافوا من المخالفة، وإنما اقتربوا إلى الله بعد ذلك. مع كل ذنب توبة، مع كل معصية رجوع، مع كل خطيئة تذكَّر أن لك ربًا يغفر الذنب ويقبل التوب ويطلع عليك، وإذا تبت إليه قَبِلَك، وهو أفرح بعبده التائب إليه من أحدكم في فلاة (يعني صحراء واسعة) تضل دابته حتى يظن أنه قد هلك فينام فيصحو من النوم فإذا دابته عند رأسه.
مثل المؤمن كمثل الخامة (القصبة أو الساق) تفيئها الريح، يعني تحركها مرة وأخرى. ما هي الريح؟ الريح هي الطاعات والمعاصي، تفيئها مرة وتصرعها مرة. تصرعها المعصية وتعدلها الطاعات. تصرعه المعصية لأن الإنسان إذا عصى شعر بتأنيب الضمير، يشعر بوخز الألم، يشعر بأنه أغضب الله فيستعيذ بالله من هذا الغضب، يشعر أن الشيطان تغلب عليه فيستغفر «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون». كيف تذكروا فإذا هم مبصرون؟ لأن الشيطان عندما يأتينا، كأنه يعمي أبصارنا عن رؤية الحقيقة، لا يجعلنا نرى المعصية خطيرة، ولا يجعلنا نرى أن الطاعة مهمة، إنما يجعلنا نرى المعصية حقيرة فنستصغر شأنها، فنُقْبِل عليها. ونرى الطاعة أمرًا ممكنًا، إن لم أُطِعْ اليوم أطع غدًا، إن لم أطع غدًا أطع بعد غد، فَيَمُدُّ لنا، إذا مد لنا هذا الشعور كأننا عَمَيْنا والعياذ بالله. «فالذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون» كأن هذه الغشاوة تزول عن العيون.
فهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها مرة، تصرعها بالمعاصي وتعدلها بالطاعات وبالتوبة والاستغفار. ولذلك الأحاديث كثيرة التي فيها أن المؤمن إذا استغفر وتوضأ وصلى ركعتين، فكأن ذنبه لم يكن وغفر الله ذنبه. والتي فيها أن العبد أذنب فاستغفر فاطلع الله عليه فقال:«عَلِمَ عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويقبل التوب ويأخذ بالذنب. عبدي افعل ما شئت فإني قد غفرت لك».
هذه الأحاديث المُرَغِّبة تقابلها الأحاديث المُرَهِّبة التي فيها: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". الترغيب والترهيب في الحديث النبوي يأتي عادة على سبيل تحبيب الناس في الطاعات وتكريههم في المعاصي.
فيصف الرسول صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، حالنا عندما نلتزم أوامر الله تبارك وتعالى ونجتنب نواهيه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بالطاعة إنها الإفاءة، أي العودة. أفاء يعني عاد، فاءت يعني رجعت. في سورة الحجرات «فإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ (يعني ترجع) إلى أمر الله فإن فاءت (يعني رجعت) فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا».
أما الكافر فثابت على ضلاله لا يرجع، فهذا انتهى وأفضى إلى مكانه.
فمزية هذا الحديث أو قيمة هذا الحديث، أو سبب ورود هذا الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ليس تخويفنا من حال الكافرين. طبعًا يجب أن نخاف من حال الكافرين ونستعيذ بالله ليل نهار. إنما سببه طمأنتنا على أحوالنا إذا أصابنا ما لا نحب أن يصيبنا من مخالفة أوامر الله تبارك وتعالى، لأنه لا يوجد إنسان على الأرض إلا ويقع في المخالفة. لا معصوم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هو آخر الرسل والرسل هم آخر المعصومين. أما من عدا ذلك من الخلق فيُخطئ ويُصيب، ويُحسن ويُسيئ. والخطأ إن شاء الله مغفور في جانب الإحسان، والإساءة مغفورة في جانب الصواب.
ومثل الكافر كمثل الأرزة، الكافر أو المنافق نفاق عقيدة. وهما يذكران في الأحاديث النبوية كأنهما شيء واحد؛ لأن المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إلا كفارًا. المنافقون موجودون في كل الأزمان، وفي زماننا يوجد المنافقين، نحن لا نستطيع أن نحكم على المنافقين في زماننا بالكفر لأننا لسنا أنبياء، ولم يُبلغنا الله تعالى أين مصير هؤلاء، وقد يتوب المنافق في أزماننا فينتهي به الأمر إلى الصلاح، ويغفر الله له ما كان من سوء العمل. أما المنافقون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أعني المنافقين نفاق العقيدة والإيمان ـ فقد كان نفاقهم كفرًا به صلى الله عليه وسلم. هل يعقل أن أحدًا يأتيه النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل عليه القرآن، ويرى الأنوار التي رآها الصحابة المؤمنون، ثم يتخلف عن هذا الرسول، ويُنافق ليُظهر الإيمان ويُبطن له الكفر؟!
تعلمون قصة حذيفة رضي الله عنه الذي «سمع بعض المنافقين في سفر، كان فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم، سمعهم يقولون: لقد نام محمد على راحلته، فلو أحطنا به، فطرحناه عنها لاندقت عنقه. فأسرع حذيفة براحلته حتى كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول: "لئن هموا بشيء منعتهم". فلما حاذيت رسول الله (أصبحت بجانبه في السير) جعلت أرفع صوتي بكلام، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من هذا؟" قلت: "حذيفة يا رسول الله". قال: "ومن هؤلاء؟" قلت له: فلان وفلان وعددتهم. فقال: "يا حذيفة إن فلان وفلان وفلان آخرين (لم يكونوا موجودين) إنهم منافقون، اعلم هذا ولا تُخبر به أحدًا"». فسُمي حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعرفه أحد. وكان عمر رضي الله عنه إذا مات أحد الناس في المدينة أرسل واحدًا، ويقول له: انظر هل حذيفة فيمن يُصلون عليه أم لا؟ا إذا كان حذيفة موجودًا يذهب عمر ويؤم الناس في الصلاة. إن لم يكن حذيفة فيمن يُصلون عليه قال: هذا منافق دون أن يفضح أحدًا، ولا يذكر اسم أحد.
وقد سأل عمر حذيفةَ فقال له: "يا حذيفة أتعرف في أو ترى في شيئًا من النفاق؟". هل من المعقول أن يكون سيدنا عمر منافقًا؟! النفاق هنا هو سوء الخُلق، مثل إخلاف الوعد، أي الأخلاق الخمسة التي وردت في الروايتين للبخاري ومسلم في المنافقين.
عندما يصف القرآن الكريم أو النبي صلى الله عليه أناسًا بأنهم منافقين، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم كفار لأن النفاق هنا هو نفاق العقيدة والإيمان لا نفاق العمل. والمنافق نفاق عقيدة في الدرك الأسفل من النار كما وصفهم القرآن الكريم، ولا يكون في الدرك الأسفل من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان؟! ففي الحديث الصحيح: «لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان». لا يدخل النار يعني لا يدخل دخول الخالدين، قد يمر عليها، قد يأخذ لفحة تنظف الذنوب، وتطهر الآثام، لكنه لا يخلد فيها. أما المنافقون ففي الدرك الأسفل من النار، ووصفهم القرآن «ولكن المنافقون هم الكاذبون» أي الذين يكذبون على الله ورسوله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر.
* * * * *
الحديث الثاني: «عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة شبه (أو كالرجل) المسلم لا يتحاتُّ ورقها (لا يسقط ورقها، ليس عندها خريف، ورقها ثابت دائمًا) تؤتي أكلها كل حين. قال ابن عمر رضي الله عنه: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم أوأقول شيئًا. فقال عمر (بعدما خرجوا) لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا». (يعني ذكر كثيرًا من النعم). قال إنه أحب إليَّ أن تقول هذه الكلمة عند النبي صلى الله عليه وسلم من هذه النعم. هذه هي أقل الروايات اختصارًا في صحيح مسلم لهذا الحديث. فهناك روايات مختلفة لهذا الحديث منها: «أن سيدنا عبد الله بن عمر قال نظرت إلى أسنان القوم (لأنه كان موجودًا عدد من الصحابة وليس عمر وأبا بكر فقط) فكرهت أن أتكلم وهم صامتون». وفي نفس هذه الرواية أن ابن عمر قال: «فوقع الناس في أشجار البوادي». ذكروا الأشجار التي تنبت في البادية، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، كلما ذكروا شجرة قال لهم لا. لماذا ذكروا أشجار البوادي؟ لأن الإنسان أحوج ما يكون إلى شجرة في البادية؛ حيث لا بناء يظله ولا ماء يروي عطشه، ولا مكان يستريح فيه إلا ظل الشجرة. فوقعوا في شجر البوادي ووقع في نفس عبد الله بن عمر أنها النخلة.
العلماء لما وقفوا عند هذا الحديث قالوا فيه مسائل جميلة. وكذلك في الرواية المطولة قال عبد الله بن عمر: فلما خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت (النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما سكتوا وعجزوا عن الجواب قال أنها النخلة) والله يا أبي قد وقع في نفسي أنها النخلة. وفي رواية قد وقع في روعي أنها النخلة قال: لأن كنت قلتها أحب إلى من كذا وكذا».
العلماء وقفوا عند هذا الحديث وقفات طويلة، وقالوا إن هذا الحديث فيه مسائل ينبغي أن يأخذ المسلم العبرة بها.
أول مسألة أنه يُستحب للعالم أن يُلقي المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في التفكر؛ لأن التفكر مهم «قل سيروا في الأرض فانظروا»، «أولم يتفكروا في خلق السماوات والأرض» فإذا وجد الإنسان أناسًا لا يفكرون وأحوالهم لا تتغير، فهؤلاء محتاجون إلى منشطات، ومن أهم المنشطات أن يُلقي عليهم مسائل تثير أذهانهم وتوقع التنافس بينهم، فيتحول الكسالى الخامدون إلى علماء عاملين أو مفكرين صالحين يستطيعون أن يُنشروا الذكاء والفهم وسرعة البديهة في الأمة. وليس المطلوب مجرد التفكير ولكن أن تُقلَّب المسألة مرة واثنتين وثلاثة، وتعتني أن تعرف الصواب من الخطأ، وأن تعرف وجوه الصواب في الرأي الذي يبدو خطأً، ووجوه الخطأ في الرأي الذي يبدو صوابًا.
ومن ذلك ما فعله مجاهد تلميذ ابن عباس عندما سُئل عن قول الله تبارك وتعالى «فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله»؟ فقال: إن العزم هو اتباع أهل الرأي بعد مشاورتهم. وليس ركوب الرأي دون روية عزمًا. والروية هنا هي المشاورة وطلب الرأي بعد الرأي. فلا عزم إلا بعد مشاورة. لأن المشاورة هي التي تبين أولى الآراء أو الأفعال بالصواب.
قال العلماء إن في هذا الحديث من الفوائد ضرورة ضرب الأمثال والأشباه. فبالمثل والشبيه يتبين المراد للمخاطبين فمن بعدهم.
كذلك في هذا الحديث من الفوائد التي نستفيد بها وجوب توقير الكبار، لأن عبد الله بن عمر لم يكن صغيرًا، فقد كان شابًا 18 أو 17 سنة أي أنه كان رجلاً في ذلك الوقت. لكن كان هناك من هو أسن منه مثل أبيه عمر بن الخطاب ومثل الصديق أبي بكر وباقي الصحابة الكبار. ولذلك في الرواية الموسعة قال: «فنظرت إلى أسنان القوم وهم لا يتكلمون» كل الناس الكبار القاعدين لا يتكلمون فأتكلم أنا؟!. لكن العلماء استدركوا على سيدنا عبد الله بن عمر هنا وقالوا: لكن إذا سكت ذوو الأسنان، إذا سكت الكبار، إذا سكت أهل الرأي، يجب على الصغير الذي ظن أنه يعلم أن يقول. وفيها فائدتان: الفائدة الأولى أن يعرف الناس الجواب، وأن يعرفوا أن هذا الإنسان ذكي ولا يستهينون بالصغار لأنهم صغار.
ومن ضرورة كلام الصغير إذا سكت الكبار أن يُعرف مكانه، طبعًا ليس كل الصغار على درجة واحدة: هناك صغار أذكياء نابهون، وهناك صغار يتعلمون بالتدريج. فتعطى فرصة للصغير في أن يثق بنفسه إن كان عالمًا، وتُعطى فرصة للصغير الآخر أن يتعلم.
الفائدة الثانية التي ذكرها العلماء أن يُصوَّب خطؤه. لأنه ربما يظن نفسه عارفًا وهو لا يعرف. فإذا تكلم في المسألة التي يتكلم فيها الكبار وكان كلامه خطأً. فالذي يعرف الصواب، أي العالم الذي ألقى السؤال، يُصوِّب خطأه.
قالوا أيضاً إن سيدنا عمر رضي الله عنه لما قال لابنه: أحب إليَّ من كذا وكذا، يعني من الخير والنعم. قالوا: لماذا؟ قالوا: لو أنه قال هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم أولاً لسُرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرور رسول الله كان أحب شيء إلى أصحابه، فسيكون ابنه السبب في سرور النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يُدخل السرور على المسلمين جميعًا.
الأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته إذا أصاب أحدٌ أن يدعو له. فكان سيدعو لابن عمر دعوة صالحة تظل معه إلى يوم القيامة.
الأمر الثالث: أن مكانته في الناس ستظل طول الوقت أنه منذ شبابه ومنذ صغره كان يتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذي كان يتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الذي كان يسمعه. فكانت مكانة عبد الله بن عمر سترتفع ما بقيت له حياة. وهذا معنى كلام عمر، أو بعض معناه.
قال النووي: "لأن علم النبي صلى الله عليه وسلم بنجابته خير لعبد الله نفسه من الدنيا وما فيها".
والفائدة الأخرى لهذا الحديث قالوا أن نعرف به فضل النخلة وكثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده مدة طويلة لا توجد في غيره من الثمار، فيؤكل من حين طلوعه إلى حين يبوسه. ثم قال فإذا يبس كثرت منافعها وتضاعفت، فخشب وورق وأغصان وجريد وجذوع ويعمل منها خشبًا وحطبًا وحصيرًا وعصيًا وحبالاً. ثم قال النووي: إنه حتى النوى يستخدم غذاءً جيدًا للإبل.
فالنخلة لا تكون غير ذات فائدة أبدًا، النخلة كلها يُنتفع بها، فضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم المثل للمؤمن: يعمل الصالحات ويحرص على الطاعات، ويصل الأرحام، ويؤدي الواجبات، فيكون مثله مثل النخلة في نفعها الدائم للإنسان
قال الإمام النووي: بحُسن عمل المؤمن يُجمل وجهه، وتحسن خصاله، وذلك مقابل لجمال النخلة في منظرها وظلها.
* * * * *
الباب الذي يليه «الحياء من الإيمان»
فيه حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون شعبة (أو بضع وستون) شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (إزالته)، والحياء شعبة من الإيمان».
فشعب الإيمان تبدأ بـ: لا إله إلا الله، التي هي صمام الأمر وزمامه، وتنتهي إلى إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما بقية الشُعب التي هي بضع وستون أو بضع وسبعون. والحياء شعبة من الإيمان. وعندنا روايات أخرى في صحيح مسلم وغيره من كتب السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء من الإيمان» قال الحياء من الإيمان فقط ولم يقل شُعبة، وأن الحياء لا يأتي إلا بالخير، وأن الحياء خير كله، وأن الحياء كله خير.
فعندنا خمس أو ست روايات في مدح الحياء كلها صحيحة غير الروايات الأخرى المفصَّلة.
فالإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله لأنه طبعاً بعد التوحيد تأتي كل الأشياء، وبغير التوحيد لا تصلح أي أعمال أو أي طاعات أو صدقات. فالشهادة بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته هي أصل شعب الإيمان كلها، وأصل معانيها كلها.
إذا قال رجل لرجل قل لا إله إلا الله ينبغي عليه أن يقول، إذا اختلف اثنان على أمر من الأمور؛ كثيرًا ما نسمع أحدهما يقول للآخر قل لا إله إلا الله، وكثيرًا ما نسمع الحمقى من هؤلاء يقولون: لا لن أقول. فإذا كان كذلك وقع في إثم كبير، وربما لو كان منعقدًا عليه عزمه كان في مصيبة. المصريون أذكياء يحبون أن يتخلصوا من المأزق، فاستبدلوا هذه العبارة الشائعة في البلاد الإسلامية كلها بصلي على النبي، فيقول عليه الصلاة والسلام ويخلص من هذا المأزق. لأنه لو قال له قل لا إله إلا الله فقال له لا سيكون في موقف عسير.
والقرآن الكريم يقول لنا في سورة النور «والذين كفروا أعمالهم كسراب» أعمالهم هنا يعني أعمالهم الصالحة، يعني ما يقومون به من خير وأعمال تنفع الإنسان وما إليه «أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب». قلت إن الله ضرب هذا المثل لأهل البَر الذين يمشون في الصحراوات. ثم ضرب لأهل البحر مثلاً آخر «كظلمات في بحر لُجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور».
إذن أعمال الكافرين لا قيمة لها ولا عبرة بها. عمل من الذي له قيمة وبه العِبرة؟ عمل المؤمن. والحسنات يُذهبن السيئات شرطها الإيمان والتوبة، شرطها الإيمان والرجوع عن المعاصي، كذلك أداء الواجبات، من صلى وصام وهو كافر بالله تعالى هل يُقبل منه شيئٌ؟ لا، لأن أصل الإيمان هو الذي يجمع هذه الخيرات وينميها ويزيد ثوابها، ويبقيها في ميزان الحسنات.
فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وفي موضوع إماطة الأذى عن الطريق حدث ولا حرج. لا توجد بلاد فيها أذى في الطرقات مثل بلاد المسلمين، والمسلمون كلهم يسمعون هذا الحديث كل أسبوع، ثم يلقون بالأذى في الطرقات غير ملقين بالاً لأحد.
أما المسلمون الحقيقيون فهم الذين يمنعون أولاً إلقاء الأذى في الطريق، ثم إذا وجدوه مصادفة في الطريق فمن واجبهم أن يميطوه. وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن هذا العمل الحسن فجعله شُعبة من شُعب الإيمان.
وإخواننا المختصون بالبيئة يستفيدون من هذا الحديث استفادة عظيمة جدًّا، ويقولون إنه دليل على العناية بالبيئة من وقت النبي صلى الله عليه وسلم.
نأتي للحياء، الذي هو الخصلة الثالثة من هذا الحديث التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر لا إله إلا الله، وذكر إماطة الأذى عن الطريق، ثم قال والحياء شعبة من الإيمان.
قال العلماء كلامًا عجيبًا جدًّا، قالوا: الحياء غريزة، هناك ناس عندهم حياء وناس ليس عندهم حياء. ما الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يجعل غريزة ما شعبة من شُعب الإيمان؟ غريزة مخلوقة في الناس كلهم، كيف تكون شعبة من شعب الإيمان؟
قال القاضي عياض: "هي غريزة ولكن استعمالها على وفق قانون الشرع يُثاب به الإنسان، واستعمالها على خلاف قانون الشرع يعني إهمالها وتركها يُعاقب عليه الإنسان. مثل غرائز الأكل والشرب والتزاوج والتناسل إلى آخره" هذه كلها غرائز، لكن، إذا استعمل الإنسان غرائزه على وفق ما أراده الله تبارك وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أُثيب على هذا الاستعمال. وإذا استعملها على خلاف ما أمره الله به عُوقِب على هذا الاستعمال.
ثم قال: "وهي في الأصل غريزة ولكنها بالتمرن تُكتسب. الإنسان إذا وَجَدَ عنده نقصًا في جانب من الجوانب يظل يتمرن عليه. إذا وجدت بعض الضعف في أخلاقك مرّن نفسك على تقويتها، إذا وجدت صبرك قليلاً مرِّن نفسك على الصبر. كذلك الحياء والبِر والحب واللطف مع الناس... كل هذه بالتمرين تُكتسب ولا يوجد شيء يستعصي على الإنسان أن يكتسبه.
ثم قال: إذا اكتسبه الإنسان على نية طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كان في مجرد محاولة اكتسابه ثواب جديد، ليس فقط ثوابًا لما اكتسبه إنما ثواب لمجرد محاولة الاكتساب.
قال عياض: فإذا اكتسبها مع نية وعلم فله بذلك ثواب، ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان.
في الآخر ما فائدة ذلك؟
قال القاضي عياض فائدة جميلة جدًّا، قال: فإذا اكتمل اكتساب الحياء كان باعثًا له على كل بِر حاضًا له على كل خير، آمرًا له بكل معروف، ناهيًا له عن كل منكر، مانعًا له من الوقوع في الإثم والمعصية.
عندما يُخطئ المرء، ويعصي الله سبحانه وتعالى، يرتكب حرامًا، أو يأكل حرامًا، أو يعمل خطيئة من الخطايا التي نقع فيها كلنا، ولا أحد معصوم. يتذكر: "أنا سأرى الله، أنا أستحي منه"، فخوف هذا الإنسان من الله وحياؤه منه يجعله يمتنع عن المعاصي. يصل الإنسان إلى هذا في مرحلة من المراحل في تربية النفس وليس في المراحل العادية.
تكلم العلماء عن شيء غريب في الحياء، قالوا إن هناك مشكلة تحدث أحيانًا في الحياء، فقد يستحي إنسان أن يواجه إنسانًا بخطئه، كأن يجد واحدًا على مصيبة دينية أو دنيوية أو ظالم لأولاده أو ظالم لزوجته فيستحي أن يقول له، فيقولون عنه: هذا عنده حياء.
الإمام أبو عمرو بن الصلاح، وهو من كبار المحدّثين العظماء، قال إن هذا ليس حياءً، هذا خَوَر وذل وضعف ومهانة؛ لأن الحياء يبعثك على أن تأمر بالمعروف. ألا تستحي من الله أن ترى المنكر ثم لا تغيره؟! الحياء يجعلك تستحي مما يُستحى منه، ولا تستحي مما لا يجوز أن تستحي منه. فإذا استحييت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا ذل وخَوَر ومهانة لأنك تستعظم أن تفعل ما أمرك الله تبارك وتعالى به.
قال النووي: إن الحياء خُلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق صاحب الحق. إذا رأيت القبيح تستحي أن تفعله، والحياء يمنعك أن تُقصر في حقوق أهلك ومن له حق عليك.
أما الصوفية فلهم كلام جميل جدًّا في الحياء لا ينقضي ولكن سأذكر لكم عبارة واحدة قالها الجنيد، الذي يقولون عنه سيد الطائفة، قال: "الحياء هو رؤية الآلاء" أي رؤية نِعَم الله سبحانه وتعالى، رؤية الأفضال التي تَفَضَّلَ بها الله تبارك وتعالى علينا من الخَلْق والسمع والبصر والمال والرزق والصحة...إلى آخر هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها».
قال: "الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير في جنبها". رؤية الآلاء الربانية ورؤية التقصير الإنساني في شكر هذه النعم والآلاء الربانية، فيتخلق من الحالين حال ثالثة هي التي يسمونها حياءً. قال هذا شعور داخلي في النفس يأتي لك عندما تعرف نعمة الله عليك وأنك لا تستطيع أن تشكره، وتعلم أنك لا تستطيع أن تشكره لأنه من الذي يستطيع أن يشكر نعم الله.
لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه في مفتتح كتابه «الرسالة» يقول جملة جميلة جدًّا يقول: "الحمد لله الذي لا تُحمد نعمة من نعمه إلا بنعمة منه حادثة (يعني جديدة) تستوجب مزيد شكر له". إذن متى تنتهي من الشكر؟ لا تنتهي، لأنه لا تُحمد نعمة إلا بنعمة جديدة تستوجب مزيدًا من الشكر، إذن، متى نشكره؟!
لا يستطيع الإنسان ولو بقي حياته كلها حامدًا شاكرًا بصدق وإخلاص ومتفرغًا لهذا الحمد أن يؤدي حق الله في الحمد.
قال إخواننا الصوفية في تعريف خُلقُ الحياء، قالوا: "هو رؤية الآلاء الربانية ورؤية تقصير العباد في شكرها". قال الجنيد شيخ الطريقة كما يسمونه: "فتتولد بينهما، (أي تتولد بين رؤية الآلاء وهي النعم وبين رؤية التقصير) تتولد منهما حالة الحياء". إذن هو ليس أمرًا جبليًا وليس أمرًا فطريًا، ليس أمرًا تولد به، إنما هو أمر تكتسبه.
إذا نظرنا إلى الحياء، نجد في الأحاديث:« الحياء من الإيمان»، و«الحياء شعبة من الإيمان»، و«الحياء لا يأتي إلا بخير»، و«الحياء خير كله»، و«الحياء كله خير».
كيف يكون هذا هو «الخير كله؟ أو كله خير»، أو «لا يأتي إلا بخير»؟ هو «شعبة من الإيمان». ثم يكون أمرًا مستغنىً عنه؟!. هناك ناس تتبجح وتقول: أنا مكشوف عني الحياء، وناس يصفون آخر بأنه ليس عنده حياء، ده سميك الجلد. الإنسان الذي ليس عنده حياء ترك أمرًا هو خير كله، ترك أمرًا لا يأتي إلا بخير، وترك أمرًا هو من الإيمان، وهو شعبة من بضع وستين أو بضع وسبعين شعبة من الإيمان، فكيف يُتوقع منه خير؟!
قالوا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياءً؛ لأنه حياء من الله تبارك وتعالى، وإن تضمن كشف عيوب بعض الناس الذين تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. ستقول إنه من الحياء ألا أوقفه على غلطه، من الحياء ألا أحرجه أمام الناس؛ لكن إذا اجتمع حياءان: حياء من الخلق وحياء من الخالق. تقدم أيًا منهما؟ تقدم طبعًا الحياء من الخالق؛ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ لأنه به تستقيم الحياة. فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حياء إنما هو جبن، أو رياء، أو مداهنة، أو نفاق ولكنه ليس حياء؛ لأن الحياء يكون من الله سبحانه وتعالى، تستحي منه فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
الإخلال بحقوق الغير ليس حياء بل هو عجز وخور. أنت من واجبك أن تنصر أخاك فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. قالوا يا رسول الله ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال «ترده عن ظلمه فإن ذلك نصر له». فإذا تركت هذا الواجب لا يكون هذا حياء، إنما هو ضعف وخور ومهانة، وإنما سُميت حياءً باصطلاح أهل الجبن. هذا قول الإمام أبي عمرو بن الصلاح المحدث المشهور. قال الذين يسمونها حياءً هم الجبناء، يسمونها حياءً حتى يجملوها. مش فيه ناس كثير تقول التطبيع حتى نكون مع العالم، التطبيع لأننا لسنا في جزيرة منفصلة، لسنا وحدنا في الدنيا، لازم نتعلم من الأجانب والأمريكان ونعيش مثلهم؛ ونتعامل مع إسرائيل لأنهم جيراننا. هذا تزيين الجبناء لأنفسهم ولغيرهم، ويقعون في هذه المصيبة الكبرى وهي التطبيع مع إسرائيل، والتعامل مع العدو الصهيوني، والخضوع للأمريكان. هذا ليس من الذكاء ولا من الفطنة، طبعًا هم يستعملون هذا الكلام، ويقولون: عنا إننا ليس عندنا ذكاء سياسي، إنما عندهم جمود وغباوة سياسية ولا نعرف كيف نتعامل مع العالم. والحقيقة أننا لدينا كل هذا الذي يتهموننا بفقده لكن نحن لا نفرط في حقوق شعوبنا وفي حقوق ديننا، أما هؤلاء فليس في بالهم أصلاً حقوق الشعوب ولا حقوق الأديان.
فكذلك ابن الصلاح قال إن الذي يسمي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياء، حتى لا يحرج الذي يأتي منكرًا أو يترك معروفًا، يسميه حياء، فهذا من اصطلاح أهل الجبن، أما أهل الشجاعة فيعرفون أن من واجبات ديننا أن نقول للمحسن أحسنت كما نقول للمسيء أسأت. منذ زمن سمعت رجلاً أُعجبت بكلمته قال: "نخطئ كما يُخطئ الرجل". فالرجل يُخطئ ويصيب، وليس هناك معصوم من الأخطاء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون" في مسألة الأعداد في القرآن الكريم والسنة قال العلماء: إن العدد لا مفهوم له، كأن يقول الله ألف من الملائكة، وثلاث آلاف من الملائكة. أو يقول النبي صلى الله عليه وسلم سبعين مرة، وستين مرة وعشر مرات. هذه الأعداد كلها يقول العلماء إنه لا مفهوم لها؛ لأن المقصود بها التكثير للدلالة على الكثرة. إما لا متناهية مثل في سبع وسبعين وما إليها، وإما الكثرة التي لا تبلغ تصورك، هل تصور أحد منا خمسة آلاف ملك ما مقدارهم؟ فهذا مقصود به التكثير الذي لا يبلغ خيالك، الذي تعجز عنه تصوراتك، الذي تشعر معه أن عظمة الله فوق كل ما يخطر ببالك، فإذا وقعت على هذه المعاني آمنت بقدرة الله تعالى. وأحسن من تكلم في هذا هو القاضي عياض، نقل عنه الإمام النووي في شرحه على مسلم، نقلاً طويلاً وقال في آخره: "قاله عياض وبلغ به الغاية".
* * * * *
الحديث الذي بعد ذلك هو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: «كنا عند عمران بن حصين (عمران بن حصين هو صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) في رهط (رهط يعني جماعة دون العشرة وفوق الثلاثة) وفينا بشير بن كعب فحدثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء خير كله. أو قال: الحياء كله خير. فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة (يعني كتب الأديان السابقة أو حكمة الفلاسفة والمفكرين الذين يكتبون كلامًا ويتركونه للناس ليتعلموا منه) أن منه سكينة ووقارًا لله تعالى وأن منه ضعف. فغضب عمران بن حصين حتى احمرَّتا عيناه وقال: لا أُراني (لا أكون) أُحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟!.قال: فأعاد عمران الحديث، قال فأعاد بشير، فغضب عمران؛ فما زلنا نقول إنه منا أبا نُجيد (أبو نجيد هو عمران وكان له ابن اسمه نُجيد يُكنى به. وإنه منا يعني لا بأس به، يعني أن بشير بن كعب ليس منافقًا ولا كافرًا ولا زنديقًا، إنما هو رجل جاءت له كلمة فقالها ولكن عمران ابن حصين ظل يؤنب الرجل ويُغلظ له القول).
لماذا نقف عند هذه الحكاية ؟ بشير بن كعب قال كلمة عارضة. قال إننا نجد في بعض الكتب والحكمة أن منه خيرًا ومنه ضعف. ورأى عمران بن حصين هذه المقولة كأنها ردٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الحياء كله خير أو الحياء خير كله. فإذا سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن نقول لكن فلان قال كذا. إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت كل قائل. وإذا جاء الكلام من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمن لم يضعه على رأسه فليعد النظر في إيمان نفسه. ونحن هنا نتكلم عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي صح، الذي وصلنا بأسانيد صحيحة.
من أهم ما يُستفاد من هذا الحديث أنه لا يُتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله»، ولا يُتقدم بين يديه بعد مماته. التقدم بين يديه بعد مماته بإنكار سنته أو الاعتراض عليها أو التوقف في قبولها بعد ثبوتها بالسند الصحيح. لو أن هناك شكًا في السند نبحث عنه. لكن إذا ثبتت نسبة حديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن نقبله ابتداءً. ثم بعد قبوله نرى كيف نفسره، كيف نفهمه، ما الذي يجب عمله بمقتضاه. لكن القبول أولاً. طبعًا هناك كثير جداً من إخواننا الذين تسمعونهم الآن وترونهم في التلفزيونات، يُعرض عليهم الحديث النبوي الصحيح فترى بعضهم يقول: "لا أدري، وبعضهم يقول: العقل يأباه، وترى بعضهم يقول: هذا كان زمان، وترى بعضهم يقول: لكن هذا لا يحقق مصالح المسلمين".
وهؤلاء أُتوا من أمرين: إما عدم علمهم بوجوب اتباع السنة الصحيحة ووجوب قبولها من حيث المبدأ، وإما عدم فقههم لمعنى الحديث الذي يُعرض عليهم.
فمثلاً عندنا مشكلة الحديث الذي يتكلم عنه كل الناس هذه الأيام: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا، أو يشهدوا، أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فإن قالوها عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
هناك أناس يعارضونه من حيث العقل، أحدهم قال: إن هذا الحديث لا يُعقل لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة كيف في ثلاث وعشرين سنة سيقاتل الناس كلهم إلى يوم القيامة؟ كيف سيُقاتلهم؟ والذين سيُخلقون من هم؟ ومن الذي سيحارب معه؟ وإننا مهزومون في كل مكان فكيف سنحارب الناس؟. هذا الرجل لم يعرف أن لفظ الناس في هذا الحديث مقصود به بإجماع العلماء مشركو جزيرة العرب، لا المشركين خارج جزيرة العرب ولا أصحاب الأديان الأخرى. وإلا فقد كان اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم حارب من حاربه منهم، حارب من خانه ونقض عهده منهم، ولم يحارب الباقين وتركهم إلى أن أخرجهم سيدنا عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة أبي بكر.
فمثل هذه الآفة، آفة عدم فهم معنى الحديث، إما لأنهم لم يدركوا اللغة، وإما لم يقرؤوا كتب التفسير التي تعب فيها العلماء تعبًا لا يُقدَّر حتى يشرحوا لنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم بمجموع رواياته، وفي ضوء القرآن الكريم، وبما قاله الصحابة والتابعون؛ هذا باب. والثاني باب الجهل بالحديث نفسه، فهم لا يعرفون وجوب قبوله فيقعوا في هذا الخطأ.
فَمَنْ يأتيه حديث من عند الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه: "ما جاء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وما جاء من عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من آرائهم نتخير منه (لماذا يتخير منه؟ ليرى أقربه للقرآن وأقربه للسنة التي صحت عنده) أما ما جاء من عند فلان وفلان، وذكر رجالاً من التابعين، قال: فهم رجال ونحن رجال (يعني هم أُوتوا أفهامًا ونحن أوتينا أفهامًا)"، فنجتهد كما اجتهدوا.
وتجد الشاب اليوم يحفظ خمس آيات من القرآن ثم يقول: "هم رجال ونحن رجال".. لا هل أنت أبو حنيفة؟ أبو حنيفة قال: هم رجال ونحن رجال عن أقرانه في العلم الذين لا يقل هو عنهم ذكاءً ولا فهمًا ولا إحاطة ولا معرفة بالقرآن ولا بالسنة.
* * * * *
الباب الذي يليه باب «من الإيمان حسن الجوار وإكرام الضيف».
فيه حديث أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» وفي رواية «أو ليصمت». والسكوت والصمت بمعنى واحد.
هذه ثلاث خصال من خصال المؤمنين، بعض الذين لا يفقهون الحديث فقهًا صحيحًا قالوا هذه هي كل خصال المؤمنين، فمن أكرم ضيفه وأحسن إلى جاره وصمت أو قال خيرًا يبقى خلاص جمع خصال الإيمان. لا، فعليه أن يصلي وأن يغتسل، وأن يحج. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يعمل كذا وكذا"، فأنا بعد الإيمان وأداء الفروض، أعمل هذه الخصال الثلاث.
يحسن إلى جاره: هل هي واجبة أم مندوبة؟ العلماء اختلفوا، إنما أهل الإيمان يرون أنها من أخلاق البِر، فإذا كانت من أخلاق البِر، فالذي يقدر على خُلق من أخلاق البر ويتركه يكون مفرِّطًا. فلو قال أحد العلماء إنها واجبة، قمنا بها. ولو قال أحدهم إنها مندوبة فلن نترك هذا المندوب لأنه لا يكلفنا شيئًا. ما هو الإحسان للجار؟ أخونا الدكتور محمد الرشيد، وزير المعارف السعودي السابق، عنده مثل نجدي جميل جدًّا كان يقول: "الإحسان شيء هين وجه طلق ولسان لين". وإلقاء السلام هو أدنى درجات الإحسان إلى الجار، إنما هناك درجات أعلى.
وفي الحديث:«من طبخ مرقًا فليكثر ماءه فيهدي إلى جاره».
كان هناك جار فارسي للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يُحسن صناعة المرق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا رسول الله صنعت لك مرقًا طيبًا فتعال تغدى معي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ وأشار على السيدة عائشة التي كانت بجواره، فقال الرجل: لا. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لا. فذهب إلى بيته ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: صنعت لك مرقًا طيبًا فتعال تغدى معي. فقال: وهذه. قال: لا ثم ذهب. عاد مرة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله صنعت لك مرقًا حسنًا تعال تغدى معي. قال: وهذه؟ قال: وهذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم". فقام هو وعائشة وذهبا للرجل وتغديا معه.
أنا لا أذكر هذا الحديث لإصرار النبي صلى الله عليه وسلم على إكرام زوجته، وهو معنى مهم يجب أن نعرفه. لكن أذكره لأن الجار يحسن إلى جاره ولو كان أدنى منه منزلة. فمن في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا أحد. فلا يستحقرن أحدنا أن يُحسن إلى من هو أعلى منه درجة اجتماعية، أو أغنى منه، أو أرقى منه مكانة. لأن الإسلام علمنا أن الإحسان للجار يكون من الأعلى للأدنى، ومن المساوي للمساوي، ومن الأدنى للأعلى.
بحث العلماء هل يُحسن إلى جاره في المدن أم في القرى؟ أم لجاره في الخيمة كذلك؟ أم للجار الذي في الدار؟ الإحسان لكل الجيران، حتى الجار الجالس بجوارك في الحافلة أو الطائرة.
ثم، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. الليث بن سعد قال كلمة جميلة جدًّا: "إكرام الضيف من خصال النبيين أو الصالحين أو الصديقين".
نعود لإكرام الضيف، هل إكرام الضيف واجب على كل الناس أم واجب على أهل الأماكن التي ليست فيها ضيافة، أو أهل الأماكن التي يؤكل فيها ويُشرَب مثل الفنادق والمطاعم؟.
العلماء من قديم فرَّقوا بين أهل البوادي وأهل الحواضر، الحواضر هي المدن. فالإمام مالك وتلميذه سحنون صاحب المدونة قالا إن هذا الواجب أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم على أهل البادية؛ لأن المُسافر إذا وجد قبيلة أو حتى عشيرة أو خيمة ليس له نُزل إلا هي. فإذا نزل عندهم لابد أن يُضيفوه، في بعض الأحاديث ليلة وفي بعض الأحاديث ثلاث.
أما الإمام الشافعي ومحمد بن الحكم وهو من أئمة المالكية في مصر فقد قالا إنها واجبة على الجميع، على أهل البوادي وعلى أهل المدن؛ لأنها ما دامت من أخلاق النبيين والصديقين فكيف يترك أهل المدن أخلاق النبيين والصديقين؟
ليس التنازع إذن في أصل إكرام الضيف، لكن التنازع في هل هو واجب يأثم المرء بتركه أم لا؟
لاحظوا أخلاق الإسلام، الكلام عن الوجوب وليس أن تقدم لضيفك ماء أو شاي أو لقمة يأكلها. الكلام على إذا لم تفعل ذلك أثمت أم لم تأثم؟
فالذين قالوا بوجوبها على كل الناس في البوادي وفي المدن وفي غيرها قالوا أي واحد لا يقدم لضيفه الضيافة يأثم. والذين قالوا إنها واجبة على أهل البوادي فقط قالوا يأثم إذا كان في البادية ولا يأثم إذا كان في المدينة.
العرب هجوا من كان بخيلاً على ضيفه، هجوه هجاءً مرًا فقالوا عنه:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار
فاحتقروهم بهذه الفضيحة في الشعر العربي، والشعر العربي هو ديوان العرب الباقي إلى اليوم.
إذن عليك أن تكرم ضيفك وأول إكرام الضيف أن تحسن لقاءه.
ثم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت. ليقل خيرًَا يعني ليقل كلاماً موقنًا أنه يُحسب له. «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد» أي لا يتلفظ بكلام إلا وقد اطمأن إلى أنه لا يُرتب عليه عند الله تبارك وتعالى عقابًا. إذا وجد أن لسانه سيسبقه يسكت، ويمسك لسانه، ويفكر هل هذا الكلام فيه نفع أم فيه ضرر، أم مباح مستوي الطرفين.
إخواننا الصوفية قالوا: يُمسك عما استوى طرفاه، يعني يمسك عن المباح لأنهم قالوا إن المباح هذا من فضول الكلام، لا يُقدم ولا يؤخر. إنما تتكلم فيما فيه خير محض، ويكون لكلامك دائمًا ثواب وله قيمة.
ولذلك فالإمام أبو القاسم القُشيري، وهو من كبار أئمة الصوفية السُنيين الطيبين، كان يقول "الصمت بسلامة هو الأصل". الصمت بسلامة الجوارح التي لا تتكلم. فالصمت بسلامة الجوارح من المعاصي. قال: "والسكوت في وقته صفة الرجال، والنطق في موضعه أشرف الخصال".
ليقل خيرًا يعني يتكلم بما يُثاب عليه: بالنصيحة، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بالموعظة الحسنة، بالعلم الذي لا يعرفه غيره، بذكر الله سبحانه وتعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم. يتكلم بالخير أو ليسكت: لا يأتي بسيرة الناس، لا يغتب، لا ينقل كلام الناس إلى الآخرين فيكون نمامًا، لا يذكر سيئات الناس ومعايبهم دون سبب، إذا سُئل عن أمر يستطيع أن يقول فيه بالمدارة وبالتورية فليقل بالمدارة والتورية، إذا كان لابد من التصريح يُصرح، كما في الحديث عن الحكام الظَلمة، والطغاة وأضرابهم، هؤلاء لا تجوز فيهم المداراة ينبغي فيهم التصريح لكشف معايبهم حتى يعرف الناس أين حقهم فيسعوا للحصول عليه.
إذن أنت في ثلاثة أحوال: أنت تصمت بسلامة، وتسكت عندما يتعين عليك السكوت. ولكن إذا جاء وقت قول الحق ووقت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقت كلمة حق عند سلطان جائر، ووقت الجهر بما ينبغي أن يُجهر به أمام الخلق حتى يتعلموا، لا يجوز لأحد أن يكتم العلم لأنه إذا كتمه يكون قد ترك أشرف الخصال إلى أدناها وأسوئها.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» وكررها في الثلاث مرات أنه من التزم شرائع الإسلام لزمته هذه الخصال، وليس معنى ذلك أن هذه هي كل خصال الإيمان.
لنقرأ الآن هذه الأحاديث الأربعة مرة أخرى:
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
«من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه».
«لا تغضب».
«لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحبه لنفسه».
لو أخذ الإنسان بهذه الأحاديث الأربعة لجمع خصال الخير كلها كما يقول أبو زيد القيرواني رحمه الله.
* * * * *
الحديث الأخير في هذه القراءة جاء به الإمام المنذري في باب:
«لا يدخل الجنة من لا يأمن جارَه بوائقَهُ».
عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».
البوائق يعني الدواهي والمهلكات والفتك والسخافات وإلقاء القمامة...، أن تؤذيه ولو بالصوت العالي ولو كان من المذياع الذي يذيع القرآن الكريم، لأن في هذا إيذاء للناس، إيذاء في نومهم، في مذاكرتهم، في عبادتهم. أن تستمع إلى أسرار جارك، التطلع إلى عورات الجيران كما يفعل الكثير من الفساق. والواحدة من البوائق هي بائقة.
العلماء قالوا إن هذا الحديث فيه قاعدتان تجريان فيه وفي أشباهه متعلقتان بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة» لا يدخل الجنة عقاب كبير جدًّا، فهل الأحاديث كلها التي وَرَدَ فيها لا يدخل الجنة، لا يدخل الجنة فعلاً. تتبع هنا أي قانون؟
وضع العلماء لها قانونًا من جزأين. قالوا: من استحل هذه الخصال وأنكر وجوب تركها أو وجوب فعلها، يعني من استحل عكس ما جاء به حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بالأمر والنهي، مع علمه بالتحريم أو الوجوب. يعني الحديث جاء بالتحريم فهو يعمله أو جاء بالوجوب فهو يتركه، عامدًا وعالمًا ومنكرًا للتحريم أو الوجوب فهذا يصدق فيه أنه لا يدخل الجنة. لأنه يكون في الواقع كافرًا بملة الإسلام، جاءه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له لا تفعل أو افعل. قال لن أفعل ـ منكرًا وجوب الطاعة ـ بعدما بلغه أنه من النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه يجب عليه الفعل أو الترك، فقالوا هذا يكون كافرًا.
لكن المشكلة في المسلمين الذين يصلون ويصومون ويزكون ثم يفعلون هذه الأعمال ويقولون هذه الأقوال. قالوا: هؤلاء لا يدخلون الجنة دخول الفائزين، لا يدخولونها في أول الوقت إنما يؤخرون حتى يُحاسبوا، فإن حوسبوا إما أن يجازيهم ربنا سبحانه وتعالى وإما أن يعفو عنهم، والعفو من الله إن شاء الله مرجوّ. إنما مجرد التأخير عن دخول الجنة
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(5، 6)
أبدأ اليوم ببعض ما دار في أعقاب المحاضرة السابقة من مناقشات حول بعض الأحاديث التي تذكر في المواعظ والخطب الدينية ونحوها. سأل بعض الإخوان عن عدد من الأحاديث التي فيها ترهيب شديد على ذنب صغير، أو التي فيها وعد بثواب كبير على طاعة صغيرة.
والقاعدة عند العلماء في مثل هذا هي ما قرره ابن قيم الجوزية في كتابه «المنار المنيف في معرفة الصحيح من الضعيف». قال: إن من علامات الوضع ـ أو عدم الصحة ـ أن يتضمن الحديث مثل هذا الوعيد أو ذاك الوعد بعذاب شديد أو ثواب عظيم على أمر ليس من معهود الشرع العقاب عليه أو الإثابة على فعله بمثل ذلك من العقاب أو الثواب. وابن قيم الجوزية قد خصص كتابه هذا لمعرفة درجة الحديث دون نظر في سنده أي ليمكن المسلم العاقل غير العارف بعلوم الحديث من عدد من القواعد التي تجعله يدرك ـ على سبيل غلبة الظن ـ ما إذا كان الحديث صحيحًا أم غير صحيح. ومن قواعده في هذا الكتاب قوله:"فكل شيء ضاد اليسر فشكَّ فيه". فمن واجب إخواننا الدعاة والوعاظ والخطباء أن يجعلوا لهم من علم الحديث نصيبًا يمكنهم من إشاعة الحديث الصحيح والتنبيه على الضعيف والموضوع ونحوهما. ومن لم يتمكن من ذلك فعليه بمثل كتاب المنار المنيف لابن قيم الجوزية ليعرف ما فيه من قواعد. وليكن همه في شأن الحديث النبوي منصرفًا إلى الكتب الصحيحة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ الإمام مالك، فإذا لجأ إلى غير هذه الكتب فليستعن في شأن أحاديثها بأقوال العلماء تصحيحًا أو تضعيفًا. والله يوفق الجميع إلى العلم بسنة نبيه والعمل بها.
* * * * *
اليوم نبدأ بباب سماه المنذري «مثل المؤمن كالزرع ومثل المنافق والكافر كالأَرْزَةِ». (الأرزة هي شجرة الأرز الموجودة في لبنان).
«عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، وتصرعها مرة، وتعدلها أخرى؛ حتى تهيج. ومثل الكافر كمثل الأرزة المُجْذِيَّة على أصلها، لا يُفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرةً واحدةً».
مثل المؤمن كمثل الخامة (الخامة هي ساق النبات أو الشجرة اللينة الخفيفة التي تميل من الهواء) من الزرع تُفيئها الريح (تُفيئها يعني تحركها) تصرعها مرة (تجعلها تميل مرة) وتعدلها أخرى (مرة تميل إلى اليمين ومرة تميل إلى الشمال ومرة تعتدل. فالمؤمن كذلك؛ يعمل الصالحات ويعمل المعاصي، يقع في الخطأ ويتوب، يعمل الحسنات ثم يقع في سيئة. فهو كذلك بين الخوف والرجاء، بين المعصية والطاعة، بين الأمل في رحمة الله والخوف من العذاب. أحواله ليست جامدة لأنه يعرف أن الإنسان خُلِق من ضعف، وهذا الضعف يقتضيه أحيانًا بعض المخالفات، فإذا خالف عاد واستقام. ثم يأتي الشيطان فيجذبه مرة ثانية فيُخالف، فيتوب ويستغفر ويستقيم وهكذا حتى يأتيه أجله) حتى تهيج. (تهيج يعني تجف وتموت، كناية عن إتيان أجلها).
ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية (الأرزة المجذية هي الأرزة الثابتة التي لا تتحرك من الأرض، جذعها ثابت في جذورها وجذورها ضاربة في الصخر. فالكافر ثابت على الضلال، وثابت على الكفر، وثابت على المعاصي، ليس ثباتًا على الخير، بل ثبات على الشر. فهذا الثبات شُبِّهَ بثبات هذه الشجرة التي لا تتحرك أبدًا) على أصلها لا يفيئها شيء (لا تروح يمينًا ولا تروح شمالاً) حتى يكون انجعافها مرة واحدة (عند موتها توقعها على الأرض أية ريح ضعيفة. كيف؟ لأن الجذور التي كانت في الأرض تمدها بالحياة قد انتهت. فكذلك الكافر؛ يبقى على ضلاله وغيه وفساد أحواله إلى أن ينتهي أجله فيلقى الله بما يستحق. أما المؤمن فيلقى الله بين الخوف والرجاء، يلقى الله بين الأمل والإشفاق، وهكذا إلى أن يعفو الله عنه فهذا هو حال المؤمن). وليتنبه قارئ هذا الحديث أو سامعه إلى أن بعض رواياته الصحيحة في مسلم وغيره فيها كلمة (المنافق) بدلا من كلمة (الكافر)، والمقصود بالمنافق هنا المبتلى بنفاق العقيدة والإيمان وليس الواقع في بعض نفاق العمل الذي أشرنا إليه في المحاضرات السابقة.
عندما يصف النبي صلى الله عليه وسلم حال هذين الرجلين، الرجل المؤمن والرجل الكافر، ماذا يقول لنا؟ يقول لنا لا تخافوا من الغلط، لا تخافوا من المخالفة، وإنما اقتربوا إلى الله بعد ذلك. مع كل ذنب توبة، مع كل معصية رجوع، مع كل خطيئة تذكَّر أن لك ربًا يغفر الذنب ويقبل التوب ويطلع عليك، وإذا تبت إليه قَبِلَك، وهو أفرح بعبده التائب إليه من أحدكم في فلاة (يعني صحراء واسعة) تضل دابته حتى يظن أنه قد هلك فينام فيصحو من النوم فإذا دابته عند رأسه.
مثل المؤمن كمثل الخامة (القصبة أو الساق) تفيئها الريح، يعني تحركها مرة وأخرى. ما هي الريح؟ الريح هي الطاعات والمعاصي، تفيئها مرة وتصرعها مرة. تصرعها المعصية وتعدلها الطاعات. تصرعه المعصية لأن الإنسان إذا عصى شعر بتأنيب الضمير، يشعر بوخز الألم، يشعر بأنه أغضب الله فيستعيذ بالله من هذا الغضب، يشعر أن الشيطان تغلب عليه فيستغفر «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون». كيف تذكروا فإذا هم مبصرون؟ لأن الشيطان عندما يأتينا، كأنه يعمي أبصارنا عن رؤية الحقيقة، لا يجعلنا نرى المعصية خطيرة، ولا يجعلنا نرى أن الطاعة مهمة، إنما يجعلنا نرى المعصية حقيرة فنستصغر شأنها، فنُقْبِل عليها. ونرى الطاعة أمرًا ممكنًا، إن لم أُطِعْ اليوم أطع غدًا، إن لم أطع غدًا أطع بعد غد، فَيَمُدُّ لنا، إذا مد لنا هذا الشعور كأننا عَمَيْنا والعياذ بالله. «فالذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون» كأن هذه الغشاوة تزول عن العيون.
فهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها مرة، تصرعها بالمعاصي وتعدلها بالطاعات وبالتوبة والاستغفار. ولذلك الأحاديث كثيرة التي فيها أن المؤمن إذا استغفر وتوضأ وصلى ركعتين، فكأن ذنبه لم يكن وغفر الله ذنبه. والتي فيها أن العبد أذنب فاستغفر فاطلع الله عليه فقال:«عَلِمَ عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويقبل التوب ويأخذ بالذنب. عبدي افعل ما شئت فإني قد غفرت لك».
هذه الأحاديث المُرَغِّبة تقابلها الأحاديث المُرَهِّبة التي فيها: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". الترغيب والترهيب في الحديث النبوي يأتي عادة على سبيل تحبيب الناس في الطاعات وتكريههم في المعاصي.
فيصف الرسول صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، حالنا عندما نلتزم أوامر الله تبارك وتعالى ونجتنب نواهيه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يتعلق بالطاعة إنها الإفاءة، أي العودة. أفاء يعني عاد، فاءت يعني رجعت. في سورة الحجرات «فإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ (يعني ترجع) إلى أمر الله فإن فاءت (يعني رجعت) فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا».
أما الكافر فثابت على ضلاله لا يرجع، فهذا انتهى وأفضى إلى مكانه.
فمزية هذا الحديث أو قيمة هذا الحديث، أو سبب ورود هذا الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ليس تخويفنا من حال الكافرين. طبعًا يجب أن نخاف من حال الكافرين ونستعيذ بالله ليل نهار. إنما سببه طمأنتنا على أحوالنا إذا أصابنا ما لا نحب أن يصيبنا من مخالفة أوامر الله تبارك وتعالى، لأنه لا يوجد إنسان على الأرض إلا ويقع في المخالفة. لا معصوم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هو آخر الرسل والرسل هم آخر المعصومين. أما من عدا ذلك من الخلق فيُخطئ ويُصيب، ويُحسن ويُسيئ. والخطأ إن شاء الله مغفور في جانب الإحسان، والإساءة مغفورة في جانب الصواب.
ومثل الكافر كمثل الأرزة، الكافر أو المنافق نفاق عقيدة. وهما يذكران في الأحاديث النبوية كأنهما شيء واحد؛ لأن المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إلا كفارًا. المنافقون موجودون في كل الأزمان، وفي زماننا يوجد المنافقين، نحن لا نستطيع أن نحكم على المنافقين في زماننا بالكفر لأننا لسنا أنبياء، ولم يُبلغنا الله تعالى أين مصير هؤلاء، وقد يتوب المنافق في أزماننا فينتهي به الأمر إلى الصلاح، ويغفر الله له ما كان من سوء العمل. أما المنافقون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أعني المنافقين نفاق العقيدة والإيمان ـ فقد كان نفاقهم كفرًا به صلى الله عليه وسلم. هل يعقل أن أحدًا يأتيه النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل عليه القرآن، ويرى الأنوار التي رآها الصحابة المؤمنون، ثم يتخلف عن هذا الرسول، ويُنافق ليُظهر الإيمان ويُبطن له الكفر؟!
تعلمون قصة حذيفة رضي الله عنه الذي «سمع بعض المنافقين في سفر، كان فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم، سمعهم يقولون: لقد نام محمد على راحلته، فلو أحطنا به، فطرحناه عنها لاندقت عنقه. فأسرع حذيفة براحلته حتى كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول: "لئن هموا بشيء منعتهم". فلما حاذيت رسول الله (أصبحت بجانبه في السير) جعلت أرفع صوتي بكلام، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من هذا؟" قلت: "حذيفة يا رسول الله". قال: "ومن هؤلاء؟" قلت له: فلان وفلان وعددتهم. فقال: "يا حذيفة إن فلان وفلان وفلان آخرين (لم يكونوا موجودين) إنهم منافقون، اعلم هذا ولا تُخبر به أحدًا"». فسُمي حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعرفه أحد. وكان عمر رضي الله عنه إذا مات أحد الناس في المدينة أرسل واحدًا، ويقول له: انظر هل حذيفة فيمن يُصلون عليه أم لا؟ا إذا كان حذيفة موجودًا يذهب عمر ويؤم الناس في الصلاة. إن لم يكن حذيفة فيمن يُصلون عليه قال: هذا منافق دون أن يفضح أحدًا، ولا يذكر اسم أحد.
وقد سأل عمر حذيفةَ فقال له: "يا حذيفة أتعرف في أو ترى في شيئًا من النفاق؟". هل من المعقول أن يكون سيدنا عمر منافقًا؟! النفاق هنا هو سوء الخُلق، مثل إخلاف الوعد، أي الأخلاق الخمسة التي وردت في الروايتين للبخاري ومسلم في المنافقين.
عندما يصف القرآن الكريم أو النبي صلى الله عليه أناسًا بأنهم منافقين، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم كفار لأن النفاق هنا هو نفاق العقيدة والإيمان لا نفاق العمل. والمنافق نفاق عقيدة في الدرك الأسفل من النار كما وصفهم القرآن الكريم، ولا يكون في الدرك الأسفل من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان؟! ففي الحديث الصحيح: «لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان». لا يدخل النار يعني لا يدخل دخول الخالدين، قد يمر عليها، قد يأخذ لفحة تنظف الذنوب، وتطهر الآثام، لكنه لا يخلد فيها. أما المنافقون ففي الدرك الأسفل من النار، ووصفهم القرآن «ولكن المنافقون هم الكاذبون» أي الذين يكذبون على الله ورسوله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر.
* * * * *
الحديث الثاني: «عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة شبه (أو كالرجل) المسلم لا يتحاتُّ ورقها (لا يسقط ورقها، ليس عندها خريف، ورقها ثابت دائمًا) تؤتي أكلها كل حين. قال ابن عمر رضي الله عنه: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم أوأقول شيئًا. فقال عمر (بعدما خرجوا) لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا». (يعني ذكر كثيرًا من النعم). قال إنه أحب إليَّ أن تقول هذه الكلمة عند النبي صلى الله عليه وسلم من هذه النعم. هذه هي أقل الروايات اختصارًا في صحيح مسلم لهذا الحديث. فهناك روايات مختلفة لهذا الحديث منها: «أن سيدنا عبد الله بن عمر قال نظرت إلى أسنان القوم (لأنه كان موجودًا عدد من الصحابة وليس عمر وأبا بكر فقط) فكرهت أن أتكلم وهم صامتون». وفي نفس هذه الرواية أن ابن عمر قال: «فوقع الناس في أشجار البوادي». ذكروا الأشجار التي تنبت في البادية، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، كلما ذكروا شجرة قال لهم لا. لماذا ذكروا أشجار البوادي؟ لأن الإنسان أحوج ما يكون إلى شجرة في البادية؛ حيث لا بناء يظله ولا ماء يروي عطشه، ولا مكان يستريح فيه إلا ظل الشجرة. فوقعوا في شجر البوادي ووقع في نفس عبد الله بن عمر أنها النخلة.
العلماء لما وقفوا عند هذا الحديث قالوا فيه مسائل جميلة. وكذلك في الرواية المطولة قال عبد الله بن عمر: فلما خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت (النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما سكتوا وعجزوا عن الجواب قال أنها النخلة) والله يا أبي قد وقع في نفسي أنها النخلة. وفي رواية قد وقع في روعي أنها النخلة قال: لأن كنت قلتها أحب إلى من كذا وكذا».
العلماء وقفوا عند هذا الحديث وقفات طويلة، وقالوا إن هذا الحديث فيه مسائل ينبغي أن يأخذ المسلم العبرة بها.
أول مسألة أنه يُستحب للعالم أن يُلقي المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في التفكر؛ لأن التفكر مهم «قل سيروا في الأرض فانظروا»، «أولم يتفكروا في خلق السماوات والأرض» فإذا وجد الإنسان أناسًا لا يفكرون وأحوالهم لا تتغير، فهؤلاء محتاجون إلى منشطات، ومن أهم المنشطات أن يُلقي عليهم مسائل تثير أذهانهم وتوقع التنافس بينهم، فيتحول الكسالى الخامدون إلى علماء عاملين أو مفكرين صالحين يستطيعون أن يُنشروا الذكاء والفهم وسرعة البديهة في الأمة. وليس المطلوب مجرد التفكير ولكن أن تُقلَّب المسألة مرة واثنتين وثلاثة، وتعتني أن تعرف الصواب من الخطأ، وأن تعرف وجوه الصواب في الرأي الذي يبدو خطأً، ووجوه الخطأ في الرأي الذي يبدو صوابًا.
ومن ذلك ما فعله مجاهد تلميذ ابن عباس عندما سُئل عن قول الله تبارك وتعالى «فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله»؟ فقال: إن العزم هو اتباع أهل الرأي بعد مشاورتهم. وليس ركوب الرأي دون روية عزمًا. والروية هنا هي المشاورة وطلب الرأي بعد الرأي. فلا عزم إلا بعد مشاورة. لأن المشاورة هي التي تبين أولى الآراء أو الأفعال بالصواب.
قال العلماء إن في هذا الحديث من الفوائد ضرورة ضرب الأمثال والأشباه. فبالمثل والشبيه يتبين المراد للمخاطبين فمن بعدهم.
كذلك في هذا الحديث من الفوائد التي نستفيد بها وجوب توقير الكبار، لأن عبد الله بن عمر لم يكن صغيرًا، فقد كان شابًا 18 أو 17 سنة أي أنه كان رجلاً في ذلك الوقت. لكن كان هناك من هو أسن منه مثل أبيه عمر بن الخطاب ومثل الصديق أبي بكر وباقي الصحابة الكبار. ولذلك في الرواية الموسعة قال: «فنظرت إلى أسنان القوم وهم لا يتكلمون» كل الناس الكبار القاعدين لا يتكلمون فأتكلم أنا؟!. لكن العلماء استدركوا على سيدنا عبد الله بن عمر هنا وقالوا: لكن إذا سكت ذوو الأسنان، إذا سكت الكبار، إذا سكت أهل الرأي، يجب على الصغير الذي ظن أنه يعلم أن يقول. وفيها فائدتان: الفائدة الأولى أن يعرف الناس الجواب، وأن يعرفوا أن هذا الإنسان ذكي ولا يستهينون بالصغار لأنهم صغار.
ومن ضرورة كلام الصغير إذا سكت الكبار أن يُعرف مكانه، طبعًا ليس كل الصغار على درجة واحدة: هناك صغار أذكياء نابهون، وهناك صغار يتعلمون بالتدريج. فتعطى فرصة للصغير في أن يثق بنفسه إن كان عالمًا، وتُعطى فرصة للصغير الآخر أن يتعلم.
الفائدة الثانية التي ذكرها العلماء أن يُصوَّب خطؤه. لأنه ربما يظن نفسه عارفًا وهو لا يعرف. فإذا تكلم في المسألة التي يتكلم فيها الكبار وكان كلامه خطأً. فالذي يعرف الصواب، أي العالم الذي ألقى السؤال، يُصوِّب خطأه.
قالوا أيضاً إن سيدنا عمر رضي الله عنه لما قال لابنه: أحب إليَّ من كذا وكذا، يعني من الخير والنعم. قالوا: لماذا؟ قالوا: لو أنه قال هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم أولاً لسُرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرور رسول الله كان أحب شيء إلى أصحابه، فسيكون ابنه السبب في سرور النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يُدخل السرور على المسلمين جميعًا.
الأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته إذا أصاب أحدٌ أن يدعو له. فكان سيدعو لابن عمر دعوة صالحة تظل معه إلى يوم القيامة.
الأمر الثالث: أن مكانته في الناس ستظل طول الوقت أنه منذ شبابه ومنذ صغره كان يتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذي كان يتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الذي كان يسمعه. فكانت مكانة عبد الله بن عمر سترتفع ما بقيت له حياة. وهذا معنى كلام عمر، أو بعض معناه.
قال النووي: "لأن علم النبي صلى الله عليه وسلم بنجابته خير لعبد الله نفسه من الدنيا وما فيها".
والفائدة الأخرى لهذا الحديث قالوا أن نعرف به فضل النخلة وكثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده مدة طويلة لا توجد في غيره من الثمار، فيؤكل من حين طلوعه إلى حين يبوسه. ثم قال فإذا يبس كثرت منافعها وتضاعفت، فخشب وورق وأغصان وجريد وجذوع ويعمل منها خشبًا وحطبًا وحصيرًا وعصيًا وحبالاً. ثم قال النووي: إنه حتى النوى يستخدم غذاءً جيدًا للإبل.
فالنخلة لا تكون غير ذات فائدة أبدًا، النخلة كلها يُنتفع بها، فضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم المثل للمؤمن: يعمل الصالحات ويحرص على الطاعات، ويصل الأرحام، ويؤدي الواجبات، فيكون مثله مثل النخلة في نفعها الدائم للإنسان
قال الإمام النووي: بحُسن عمل المؤمن يُجمل وجهه، وتحسن خصاله، وذلك مقابل لجمال النخلة في منظرها وظلها.
* * * * *
الباب الذي يليه «الحياء من الإيمان»
فيه حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون شعبة (أو بضع وستون) شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (إزالته)، والحياء شعبة من الإيمان».
فشعب الإيمان تبدأ بـ: لا إله إلا الله، التي هي صمام الأمر وزمامه، وتنتهي إلى إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما بقية الشُعب التي هي بضع وستون أو بضع وسبعون. والحياء شعبة من الإيمان. وعندنا روايات أخرى في صحيح مسلم وغيره من كتب السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء من الإيمان» قال الحياء من الإيمان فقط ولم يقل شُعبة، وأن الحياء لا يأتي إلا بالخير، وأن الحياء خير كله، وأن الحياء كله خير.
فعندنا خمس أو ست روايات في مدح الحياء كلها صحيحة غير الروايات الأخرى المفصَّلة.
فالإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله لأنه طبعاً بعد التوحيد تأتي كل الأشياء، وبغير التوحيد لا تصلح أي أعمال أو أي طاعات أو صدقات. فالشهادة بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته هي أصل شعب الإيمان كلها، وأصل معانيها كلها.
إذا قال رجل لرجل قل لا إله إلا الله ينبغي عليه أن يقول، إذا اختلف اثنان على أمر من الأمور؛ كثيرًا ما نسمع أحدهما يقول للآخر قل لا إله إلا الله، وكثيرًا ما نسمع الحمقى من هؤلاء يقولون: لا لن أقول. فإذا كان كذلك وقع في إثم كبير، وربما لو كان منعقدًا عليه عزمه كان في مصيبة. المصريون أذكياء يحبون أن يتخلصوا من المأزق، فاستبدلوا هذه العبارة الشائعة في البلاد الإسلامية كلها بصلي على النبي، فيقول عليه الصلاة والسلام ويخلص من هذا المأزق. لأنه لو قال له قل لا إله إلا الله فقال له لا سيكون في موقف عسير.
والقرآن الكريم يقول لنا في سورة النور «والذين كفروا أعمالهم كسراب» أعمالهم هنا يعني أعمالهم الصالحة، يعني ما يقومون به من خير وأعمال تنفع الإنسان وما إليه «أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب». قلت إن الله ضرب هذا المثل لأهل البَر الذين يمشون في الصحراوات. ثم ضرب لأهل البحر مثلاً آخر «كظلمات في بحر لُجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور».
إذن أعمال الكافرين لا قيمة لها ولا عبرة بها. عمل من الذي له قيمة وبه العِبرة؟ عمل المؤمن. والحسنات يُذهبن السيئات شرطها الإيمان والتوبة، شرطها الإيمان والرجوع عن المعاصي، كذلك أداء الواجبات، من صلى وصام وهو كافر بالله تعالى هل يُقبل منه شيئٌ؟ لا، لأن أصل الإيمان هو الذي يجمع هذه الخيرات وينميها ويزيد ثوابها، ويبقيها في ميزان الحسنات.
فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وفي موضوع إماطة الأذى عن الطريق حدث ولا حرج. لا توجد بلاد فيها أذى في الطرقات مثل بلاد المسلمين، والمسلمون كلهم يسمعون هذا الحديث كل أسبوع، ثم يلقون بالأذى في الطرقات غير ملقين بالاً لأحد.
أما المسلمون الحقيقيون فهم الذين يمنعون أولاً إلقاء الأذى في الطريق، ثم إذا وجدوه مصادفة في الطريق فمن واجبهم أن يميطوه. وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن هذا العمل الحسن فجعله شُعبة من شُعب الإيمان.
وإخواننا المختصون بالبيئة يستفيدون من هذا الحديث استفادة عظيمة جدًّا، ويقولون إنه دليل على العناية بالبيئة من وقت النبي صلى الله عليه وسلم.
نأتي للحياء، الذي هو الخصلة الثالثة من هذا الحديث التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر لا إله إلا الله، وذكر إماطة الأذى عن الطريق، ثم قال والحياء شعبة من الإيمان.
قال العلماء كلامًا عجيبًا جدًّا، قالوا: الحياء غريزة، هناك ناس عندهم حياء وناس ليس عندهم حياء. ما الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يجعل غريزة ما شعبة من شُعب الإيمان؟ غريزة مخلوقة في الناس كلهم، كيف تكون شعبة من شعب الإيمان؟
قال القاضي عياض: "هي غريزة ولكن استعمالها على وفق قانون الشرع يُثاب به الإنسان، واستعمالها على خلاف قانون الشرع يعني إهمالها وتركها يُعاقب عليه الإنسان. مثل غرائز الأكل والشرب والتزاوج والتناسل إلى آخره" هذه كلها غرائز، لكن، إذا استعمل الإنسان غرائزه على وفق ما أراده الله تبارك وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أُثيب على هذا الاستعمال. وإذا استعملها على خلاف ما أمره الله به عُوقِب على هذا الاستعمال.
ثم قال: "وهي في الأصل غريزة ولكنها بالتمرن تُكتسب. الإنسان إذا وَجَدَ عنده نقصًا في جانب من الجوانب يظل يتمرن عليه. إذا وجدت بعض الضعف في أخلاقك مرّن نفسك على تقويتها، إذا وجدت صبرك قليلاً مرِّن نفسك على الصبر. كذلك الحياء والبِر والحب واللطف مع الناس... كل هذه بالتمرين تُكتسب ولا يوجد شيء يستعصي على الإنسان أن يكتسبه.
ثم قال: إذا اكتسبه الإنسان على نية طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كان في مجرد محاولة اكتسابه ثواب جديد، ليس فقط ثوابًا لما اكتسبه إنما ثواب لمجرد محاولة الاكتساب.
قال عياض: فإذا اكتسبها مع نية وعلم فله بذلك ثواب، ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان.
في الآخر ما فائدة ذلك؟
قال القاضي عياض فائدة جميلة جدًّا، قال: فإذا اكتمل اكتساب الحياء كان باعثًا له على كل بِر حاضًا له على كل خير، آمرًا له بكل معروف، ناهيًا له عن كل منكر، مانعًا له من الوقوع في الإثم والمعصية.
عندما يُخطئ المرء، ويعصي الله سبحانه وتعالى، يرتكب حرامًا، أو يأكل حرامًا، أو يعمل خطيئة من الخطايا التي نقع فيها كلنا، ولا أحد معصوم. يتذكر: "أنا سأرى الله، أنا أستحي منه"، فخوف هذا الإنسان من الله وحياؤه منه يجعله يمتنع عن المعاصي. يصل الإنسان إلى هذا في مرحلة من المراحل في تربية النفس وليس في المراحل العادية.
تكلم العلماء عن شيء غريب في الحياء، قالوا إن هناك مشكلة تحدث أحيانًا في الحياء، فقد يستحي إنسان أن يواجه إنسانًا بخطئه، كأن يجد واحدًا على مصيبة دينية أو دنيوية أو ظالم لأولاده أو ظالم لزوجته فيستحي أن يقول له، فيقولون عنه: هذا عنده حياء.
الإمام أبو عمرو بن الصلاح، وهو من كبار المحدّثين العظماء، قال إن هذا ليس حياءً، هذا خَوَر وذل وضعف ومهانة؛ لأن الحياء يبعثك على أن تأمر بالمعروف. ألا تستحي من الله أن ترى المنكر ثم لا تغيره؟! الحياء يجعلك تستحي مما يُستحى منه، ولا تستحي مما لا يجوز أن تستحي منه. فإذا استحييت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا ذل وخَوَر ومهانة لأنك تستعظم أن تفعل ما أمرك الله تبارك وتعالى به.
قال النووي: إن الحياء خُلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق صاحب الحق. إذا رأيت القبيح تستحي أن تفعله، والحياء يمنعك أن تُقصر في حقوق أهلك ومن له حق عليك.
أما الصوفية فلهم كلام جميل جدًّا في الحياء لا ينقضي ولكن سأذكر لكم عبارة واحدة قالها الجنيد، الذي يقولون عنه سيد الطائفة، قال: "الحياء هو رؤية الآلاء" أي رؤية نِعَم الله سبحانه وتعالى، رؤية الأفضال التي تَفَضَّلَ بها الله تبارك وتعالى علينا من الخَلْق والسمع والبصر والمال والرزق والصحة...إلى آخر هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها».
قال: "الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير في جنبها". رؤية الآلاء الربانية ورؤية التقصير الإنساني في شكر هذه النعم والآلاء الربانية، فيتخلق من الحالين حال ثالثة هي التي يسمونها حياءً. قال هذا شعور داخلي في النفس يأتي لك عندما تعرف نعمة الله عليك وأنك لا تستطيع أن تشكره، وتعلم أنك لا تستطيع أن تشكره لأنه من الذي يستطيع أن يشكر نعم الله.
لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه في مفتتح كتابه «الرسالة» يقول جملة جميلة جدًّا يقول: "الحمد لله الذي لا تُحمد نعمة من نعمه إلا بنعمة منه حادثة (يعني جديدة) تستوجب مزيد شكر له". إذن متى تنتهي من الشكر؟ لا تنتهي، لأنه لا تُحمد نعمة إلا بنعمة جديدة تستوجب مزيدًا من الشكر، إذن، متى نشكره؟!
لا يستطيع الإنسان ولو بقي حياته كلها حامدًا شاكرًا بصدق وإخلاص ومتفرغًا لهذا الحمد أن يؤدي حق الله في الحمد.
قال إخواننا الصوفية في تعريف خُلقُ الحياء، قالوا: "هو رؤية الآلاء الربانية ورؤية تقصير العباد في شكرها". قال الجنيد شيخ الطريقة كما يسمونه: "فتتولد بينهما، (أي تتولد بين رؤية الآلاء وهي النعم وبين رؤية التقصير) تتولد منهما حالة الحياء". إذن هو ليس أمرًا جبليًا وليس أمرًا فطريًا، ليس أمرًا تولد به، إنما هو أمر تكتسبه.
إذا نظرنا إلى الحياء، نجد في الأحاديث:« الحياء من الإيمان»، و«الحياء شعبة من الإيمان»، و«الحياء لا يأتي إلا بخير»، و«الحياء خير كله»، و«الحياء كله خير».
كيف يكون هذا هو «الخير كله؟ أو كله خير»، أو «لا يأتي إلا بخير»؟ هو «شعبة من الإيمان». ثم يكون أمرًا مستغنىً عنه؟!. هناك ناس تتبجح وتقول: أنا مكشوف عني الحياء، وناس يصفون آخر بأنه ليس عنده حياء، ده سميك الجلد. الإنسان الذي ليس عنده حياء ترك أمرًا هو خير كله، ترك أمرًا لا يأتي إلا بخير، وترك أمرًا هو من الإيمان، وهو شعبة من بضع وستين أو بضع وسبعين شعبة من الإيمان، فكيف يُتوقع منه خير؟!
قالوا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياءً؛ لأنه حياء من الله تبارك وتعالى، وإن تضمن كشف عيوب بعض الناس الذين تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. ستقول إنه من الحياء ألا أوقفه على غلطه، من الحياء ألا أحرجه أمام الناس؛ لكن إذا اجتمع حياءان: حياء من الخلق وحياء من الخالق. تقدم أيًا منهما؟ تقدم طبعًا الحياء من الخالق؛ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ لأنه به تستقيم الحياة. فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حياء إنما هو جبن، أو رياء، أو مداهنة، أو نفاق ولكنه ليس حياء؛ لأن الحياء يكون من الله سبحانه وتعالى، تستحي منه فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
الإخلال بحقوق الغير ليس حياء بل هو عجز وخور. أنت من واجبك أن تنصر أخاك فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. قالوا يا رسول الله ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال «ترده عن ظلمه فإن ذلك نصر له». فإذا تركت هذا الواجب لا يكون هذا حياء، إنما هو ضعف وخور ومهانة، وإنما سُميت حياءً باصطلاح أهل الجبن. هذا قول الإمام أبي عمرو بن الصلاح المحدث المشهور. قال الذين يسمونها حياءً هم الجبناء، يسمونها حياءً حتى يجملوها. مش فيه ناس كثير تقول التطبيع حتى نكون مع العالم، التطبيع لأننا لسنا في جزيرة منفصلة، لسنا وحدنا في الدنيا، لازم نتعلم من الأجانب والأمريكان ونعيش مثلهم؛ ونتعامل مع إسرائيل لأنهم جيراننا. هذا تزيين الجبناء لأنفسهم ولغيرهم، ويقعون في هذه المصيبة الكبرى وهي التطبيع مع إسرائيل، والتعامل مع العدو الصهيوني، والخضوع للأمريكان. هذا ليس من الذكاء ولا من الفطنة، طبعًا هم يستعملون هذا الكلام، ويقولون: عنا إننا ليس عندنا ذكاء سياسي، إنما عندهم جمود وغباوة سياسية ولا نعرف كيف نتعامل مع العالم. والحقيقة أننا لدينا كل هذا الذي يتهموننا بفقده لكن نحن لا نفرط في حقوق شعوبنا وفي حقوق ديننا، أما هؤلاء فليس في بالهم أصلاً حقوق الشعوب ولا حقوق الأديان.
فكذلك ابن الصلاح قال إن الذي يسمي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياء، حتى لا يحرج الذي يأتي منكرًا أو يترك معروفًا، يسميه حياء، فهذا من اصطلاح أهل الجبن، أما أهل الشجاعة فيعرفون أن من واجبات ديننا أن نقول للمحسن أحسنت كما نقول للمسيء أسأت. منذ زمن سمعت رجلاً أُعجبت بكلمته قال: "نخطئ كما يُخطئ الرجل". فالرجل يُخطئ ويصيب، وليس هناك معصوم من الأخطاء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون" في مسألة الأعداد في القرآن الكريم والسنة قال العلماء: إن العدد لا مفهوم له، كأن يقول الله ألف من الملائكة، وثلاث آلاف من الملائكة. أو يقول النبي صلى الله عليه وسلم سبعين مرة، وستين مرة وعشر مرات. هذه الأعداد كلها يقول العلماء إنه لا مفهوم لها؛ لأن المقصود بها التكثير للدلالة على الكثرة. إما لا متناهية مثل في سبع وسبعين وما إليها، وإما الكثرة التي لا تبلغ تصورك، هل تصور أحد منا خمسة آلاف ملك ما مقدارهم؟ فهذا مقصود به التكثير الذي لا يبلغ خيالك، الذي تعجز عنه تصوراتك، الذي تشعر معه أن عظمة الله فوق كل ما يخطر ببالك، فإذا وقعت على هذه المعاني آمنت بقدرة الله تعالى. وأحسن من تكلم في هذا هو القاضي عياض، نقل عنه الإمام النووي في شرحه على مسلم، نقلاً طويلاً وقال في آخره: "قاله عياض وبلغ به الغاية".
* * * * *
الحديث الذي بعد ذلك هو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: «كنا عند عمران بن حصين (عمران بن حصين هو صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) في رهط (رهط يعني جماعة دون العشرة وفوق الثلاثة) وفينا بشير بن كعب فحدثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء خير كله. أو قال: الحياء كله خير. فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة (يعني كتب الأديان السابقة أو حكمة الفلاسفة والمفكرين الذين يكتبون كلامًا ويتركونه للناس ليتعلموا منه) أن منه سكينة ووقارًا لله تعالى وأن منه ضعف. فغضب عمران بن حصين حتى احمرَّتا عيناه وقال: لا أُراني (لا أكون) أُحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟!.قال: فأعاد عمران الحديث، قال فأعاد بشير، فغضب عمران؛ فما زلنا نقول إنه منا أبا نُجيد (أبو نجيد هو عمران وكان له ابن اسمه نُجيد يُكنى به. وإنه منا يعني لا بأس به، يعني أن بشير بن كعب ليس منافقًا ولا كافرًا ولا زنديقًا، إنما هو رجل جاءت له كلمة فقالها ولكن عمران ابن حصين ظل يؤنب الرجل ويُغلظ له القول).
لماذا نقف عند هذه الحكاية ؟ بشير بن كعب قال كلمة عارضة. قال إننا نجد في بعض الكتب والحكمة أن منه خيرًا ومنه ضعف. ورأى عمران بن حصين هذه المقولة كأنها ردٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الحياء كله خير أو الحياء خير كله. فإذا سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن نقول لكن فلان قال كذا. إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت كل قائل. وإذا جاء الكلام من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمن لم يضعه على رأسه فليعد النظر في إيمان نفسه. ونحن هنا نتكلم عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي صح، الذي وصلنا بأسانيد صحيحة.
من أهم ما يُستفاد من هذا الحديث أنه لا يُتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله»، ولا يُتقدم بين يديه بعد مماته. التقدم بين يديه بعد مماته بإنكار سنته أو الاعتراض عليها أو التوقف في قبولها بعد ثبوتها بالسند الصحيح. لو أن هناك شكًا في السند نبحث عنه. لكن إذا ثبتت نسبة حديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن نقبله ابتداءً. ثم بعد قبوله نرى كيف نفسره، كيف نفهمه، ما الذي يجب عمله بمقتضاه. لكن القبول أولاً. طبعًا هناك كثير جداً من إخواننا الذين تسمعونهم الآن وترونهم في التلفزيونات، يُعرض عليهم الحديث النبوي الصحيح فترى بعضهم يقول: "لا أدري، وبعضهم يقول: العقل يأباه، وترى بعضهم يقول: هذا كان زمان، وترى بعضهم يقول: لكن هذا لا يحقق مصالح المسلمين".
وهؤلاء أُتوا من أمرين: إما عدم علمهم بوجوب اتباع السنة الصحيحة ووجوب قبولها من حيث المبدأ، وإما عدم فقههم لمعنى الحديث الذي يُعرض عليهم.
فمثلاً عندنا مشكلة الحديث الذي يتكلم عنه كل الناس هذه الأيام: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا، أو يشهدوا، أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فإن قالوها عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
هناك أناس يعارضونه من حيث العقل، أحدهم قال: إن هذا الحديث لا يُعقل لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة كيف في ثلاث وعشرين سنة سيقاتل الناس كلهم إلى يوم القيامة؟ كيف سيُقاتلهم؟ والذين سيُخلقون من هم؟ ومن الذي سيحارب معه؟ وإننا مهزومون في كل مكان فكيف سنحارب الناس؟. هذا الرجل لم يعرف أن لفظ الناس في هذا الحديث مقصود به بإجماع العلماء مشركو جزيرة العرب، لا المشركين خارج جزيرة العرب ولا أصحاب الأديان الأخرى. وإلا فقد كان اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم حارب من حاربه منهم، حارب من خانه ونقض عهده منهم، ولم يحارب الباقين وتركهم إلى أن أخرجهم سيدنا عمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة أبي بكر.
فمثل هذه الآفة، آفة عدم فهم معنى الحديث، إما لأنهم لم يدركوا اللغة، وإما لم يقرؤوا كتب التفسير التي تعب فيها العلماء تعبًا لا يُقدَّر حتى يشرحوا لنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم بمجموع رواياته، وفي ضوء القرآن الكريم، وبما قاله الصحابة والتابعون؛ هذا باب. والثاني باب الجهل بالحديث نفسه، فهم لا يعرفون وجوب قبوله فيقعوا في هذا الخطأ.
فَمَنْ يأتيه حديث من عند الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه: "ما جاء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وما جاء من عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من آرائهم نتخير منه (لماذا يتخير منه؟ ليرى أقربه للقرآن وأقربه للسنة التي صحت عنده) أما ما جاء من عند فلان وفلان، وذكر رجالاً من التابعين، قال: فهم رجال ونحن رجال (يعني هم أُوتوا أفهامًا ونحن أوتينا أفهامًا)"، فنجتهد كما اجتهدوا.
وتجد الشاب اليوم يحفظ خمس آيات من القرآن ثم يقول: "هم رجال ونحن رجال".. لا هل أنت أبو حنيفة؟ أبو حنيفة قال: هم رجال ونحن رجال عن أقرانه في العلم الذين لا يقل هو عنهم ذكاءً ولا فهمًا ولا إحاطة ولا معرفة بالقرآن ولا بالسنة.
* * * * *
الباب الذي يليه باب «من الإيمان حسن الجوار وإكرام الضيف».
فيه حديث أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» وفي رواية «أو ليصمت». والسكوت والصمت بمعنى واحد.
هذه ثلاث خصال من خصال المؤمنين، بعض الذين لا يفقهون الحديث فقهًا صحيحًا قالوا هذه هي كل خصال المؤمنين، فمن أكرم ضيفه وأحسن إلى جاره وصمت أو قال خيرًا يبقى خلاص جمع خصال الإيمان. لا، فعليه أن يصلي وأن يغتسل، وأن يحج. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يعمل كذا وكذا"، فأنا بعد الإيمان وأداء الفروض، أعمل هذه الخصال الثلاث.
يحسن إلى جاره: هل هي واجبة أم مندوبة؟ العلماء اختلفوا، إنما أهل الإيمان يرون أنها من أخلاق البِر، فإذا كانت من أخلاق البِر، فالذي يقدر على خُلق من أخلاق البر ويتركه يكون مفرِّطًا. فلو قال أحد العلماء إنها واجبة، قمنا بها. ولو قال أحدهم إنها مندوبة فلن نترك هذا المندوب لأنه لا يكلفنا شيئًا. ما هو الإحسان للجار؟ أخونا الدكتور محمد الرشيد، وزير المعارف السعودي السابق، عنده مثل نجدي جميل جدًّا كان يقول: "الإحسان شيء هين وجه طلق ولسان لين". وإلقاء السلام هو أدنى درجات الإحسان إلى الجار، إنما هناك درجات أعلى.
وفي الحديث:«من طبخ مرقًا فليكثر ماءه فيهدي إلى جاره».
كان هناك جار فارسي للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يُحسن صناعة المرق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا رسول الله صنعت لك مرقًا طيبًا فتعال تغدى معي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ وأشار على السيدة عائشة التي كانت بجواره، فقال الرجل: لا. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لا. فذهب إلى بيته ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: صنعت لك مرقًا طيبًا فتعال تغدى معي. فقال: وهذه. قال: لا ثم ذهب. عاد مرة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله صنعت لك مرقًا حسنًا تعال تغدى معي. قال: وهذه؟ قال: وهذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم". فقام هو وعائشة وذهبا للرجل وتغديا معه.
أنا لا أذكر هذا الحديث لإصرار النبي صلى الله عليه وسلم على إكرام زوجته، وهو معنى مهم يجب أن نعرفه. لكن أذكره لأن الجار يحسن إلى جاره ولو كان أدنى منه منزلة. فمن في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا أحد. فلا يستحقرن أحدنا أن يُحسن إلى من هو أعلى منه درجة اجتماعية، أو أغنى منه، أو أرقى منه مكانة. لأن الإسلام علمنا أن الإحسان للجار يكون من الأعلى للأدنى، ومن المساوي للمساوي، ومن الأدنى للأعلى.
بحث العلماء هل يُحسن إلى جاره في المدن أم في القرى؟ أم لجاره في الخيمة كذلك؟ أم للجار الذي في الدار؟ الإحسان لكل الجيران، حتى الجار الجالس بجوارك في الحافلة أو الطائرة.
ثم، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. الليث بن سعد قال كلمة جميلة جدًّا: "إكرام الضيف من خصال النبيين أو الصالحين أو الصديقين".
نعود لإكرام الضيف، هل إكرام الضيف واجب على كل الناس أم واجب على أهل الأماكن التي ليست فيها ضيافة، أو أهل الأماكن التي يؤكل فيها ويُشرَب مثل الفنادق والمطاعم؟.
العلماء من قديم فرَّقوا بين أهل البوادي وأهل الحواضر، الحواضر هي المدن. فالإمام مالك وتلميذه سحنون صاحب المدونة قالا إن هذا الواجب أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم على أهل البادية؛ لأن المُسافر إذا وجد قبيلة أو حتى عشيرة أو خيمة ليس له نُزل إلا هي. فإذا نزل عندهم لابد أن يُضيفوه، في بعض الأحاديث ليلة وفي بعض الأحاديث ثلاث.
أما الإمام الشافعي ومحمد بن الحكم وهو من أئمة المالكية في مصر فقد قالا إنها واجبة على الجميع، على أهل البوادي وعلى أهل المدن؛ لأنها ما دامت من أخلاق النبيين والصديقين فكيف يترك أهل المدن أخلاق النبيين والصديقين؟
ليس التنازع إذن في أصل إكرام الضيف، لكن التنازع في هل هو واجب يأثم المرء بتركه أم لا؟
لاحظوا أخلاق الإسلام، الكلام عن الوجوب وليس أن تقدم لضيفك ماء أو شاي أو لقمة يأكلها. الكلام على إذا لم تفعل ذلك أثمت أم لم تأثم؟
فالذين قالوا بوجوبها على كل الناس في البوادي وفي المدن وفي غيرها قالوا أي واحد لا يقدم لضيفه الضيافة يأثم. والذين قالوا إنها واجبة على أهل البوادي فقط قالوا يأثم إذا كان في البادية ولا يأثم إذا كان في المدينة.
العرب هجوا من كان بخيلاً على ضيفه، هجوه هجاءً مرًا فقالوا عنه:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار
فاحتقروهم بهذه الفضيحة في الشعر العربي، والشعر العربي هو ديوان العرب الباقي إلى اليوم.
إذن عليك أن تكرم ضيفك وأول إكرام الضيف أن تحسن لقاءه.
ثم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت. ليقل خيرًَا يعني ليقل كلاماً موقنًا أنه يُحسب له. «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد» أي لا يتلفظ بكلام إلا وقد اطمأن إلى أنه لا يُرتب عليه عند الله تبارك وتعالى عقابًا. إذا وجد أن لسانه سيسبقه يسكت، ويمسك لسانه، ويفكر هل هذا الكلام فيه نفع أم فيه ضرر، أم مباح مستوي الطرفين.
إخواننا الصوفية قالوا: يُمسك عما استوى طرفاه، يعني يمسك عن المباح لأنهم قالوا إن المباح هذا من فضول الكلام، لا يُقدم ولا يؤخر. إنما تتكلم فيما فيه خير محض، ويكون لكلامك دائمًا ثواب وله قيمة.
ولذلك فالإمام أبو القاسم القُشيري، وهو من كبار أئمة الصوفية السُنيين الطيبين، كان يقول "الصمت بسلامة هو الأصل". الصمت بسلامة الجوارح التي لا تتكلم. فالصمت بسلامة الجوارح من المعاصي. قال: "والسكوت في وقته صفة الرجال، والنطق في موضعه أشرف الخصال".
ليقل خيرًا يعني يتكلم بما يُثاب عليه: بالنصيحة، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بالموعظة الحسنة، بالعلم الذي لا يعرفه غيره، بذكر الله سبحانه وتعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم. يتكلم بالخير أو ليسكت: لا يأتي بسيرة الناس، لا يغتب، لا ينقل كلام الناس إلى الآخرين فيكون نمامًا، لا يذكر سيئات الناس ومعايبهم دون سبب، إذا سُئل عن أمر يستطيع أن يقول فيه بالمدارة وبالتورية فليقل بالمدارة والتورية، إذا كان لابد من التصريح يُصرح، كما في الحديث عن الحكام الظَلمة، والطغاة وأضرابهم، هؤلاء لا تجوز فيهم المداراة ينبغي فيهم التصريح لكشف معايبهم حتى يعرف الناس أين حقهم فيسعوا للحصول عليه.
إذن أنت في ثلاثة أحوال: أنت تصمت بسلامة، وتسكت عندما يتعين عليك السكوت. ولكن إذا جاء وقت قول الحق ووقت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقت كلمة حق عند سلطان جائر، ووقت الجهر بما ينبغي أن يُجهر به أمام الخلق حتى يتعلموا، لا يجوز لأحد أن يكتم العلم لأنه إذا كتمه يكون قد ترك أشرف الخصال إلى أدناها وأسوئها.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» وكررها في الثلاث مرات أنه من التزم شرائع الإسلام لزمته هذه الخصال، وليس معنى ذلك أن هذه هي كل خصال الإيمان.
لنقرأ الآن هذه الأحاديث الأربعة مرة أخرى:
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
«من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه».
«لا تغضب».
«لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحبه لنفسه».
لو أخذ الإنسان بهذه الأحاديث الأربعة لجمع خصال الخير كلها كما يقول أبو زيد القيرواني رحمه الله.
* * * * *
الحديث الأخير في هذه القراءة جاء به الإمام المنذري في باب:
«لا يدخل الجنة من لا يأمن جارَه بوائقَهُ».
عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».
البوائق يعني الدواهي والمهلكات والفتك والسخافات وإلقاء القمامة...، أن تؤذيه ولو بالصوت العالي ولو كان من المذياع الذي يذيع القرآن الكريم، لأن في هذا إيذاء للناس، إيذاء في نومهم، في مذاكرتهم، في عبادتهم. أن تستمع إلى أسرار جارك، التطلع إلى عورات الجيران كما يفعل الكثير من الفساق. والواحدة من البوائق هي بائقة.
العلماء قالوا إن هذا الحديث فيه قاعدتان تجريان فيه وفي أشباهه متعلقتان بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة» لا يدخل الجنة عقاب كبير جدًّا، فهل الأحاديث كلها التي وَرَدَ فيها لا يدخل الجنة، لا يدخل الجنة فعلاً. تتبع هنا أي قانون؟
وضع العلماء لها قانونًا من جزأين. قالوا: من استحل هذه الخصال وأنكر وجوب تركها أو وجوب فعلها، يعني من استحل عكس ما جاء به حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بالأمر والنهي، مع علمه بالتحريم أو الوجوب. يعني الحديث جاء بالتحريم فهو يعمله أو جاء بالوجوب فهو يتركه، عامدًا وعالمًا ومنكرًا للتحريم أو الوجوب فهذا يصدق فيه أنه لا يدخل الجنة. لأنه يكون في الواقع كافرًا بملة الإسلام، جاءه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له لا تفعل أو افعل. قال لن أفعل ـ منكرًا وجوب الطاعة ـ بعدما بلغه أنه من النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه يجب عليه الفعل أو الترك، فقالوا هذا يكون كافرًا.
لكن المشكلة في المسلمين الذين يصلون ويصومون ويزكون ثم يفعلون هذه الأعمال ويقولون هذه الأقوال. قالوا: هؤلاء لا يدخلون الجنة دخول الفائزين، لا يدخولونها في أول الوقت إنما يؤخرون حتى يُحاسبوا، فإن حوسبوا إما أن يجازيهم ربنا سبحانه وتعالى وإما أن يعفو عنهم، والعفو من الله إن شاء الله مرجوّ. إنما مجرد التأخير عن دخول الجنة
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(8)
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(8)
ذكرنا في المحاضرة السابقة حديثين: حديث أبيسعيد الخدري الذي فيه تقديم مروان بن الحكم الخطبة قبل صلاة العيد. والحديث الثاني حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».وذكرنا أن الترتيب الوارد في هذا الحديث من حيث البدء باليد ليس مرادًا، وإنما المُراد أن اليد هي آخر ما ينتهي به التغيير، عندما يكون التغيير بالقلب، ثم باللسان، غير مجد. إذا كانالتغيير بالقلب في ذاته والتغيير باللسان غير منتج؛لأن القائم على المنكر أو الواقع فيه لا يُحب أن يقبل النصيحة، أو يرفضها، أو لا يستجيب لها. ويكون المُغير باليد قادرًاعلى إزالة هذا المنكر دون أن يُحدث منكرأ أكبر منه. ويكون هذا في الغالب لمن كان عنده سلطان، يعني قوة قانونية أو شرعية يستطيع أن يُزيل بها هذا المنكر؛ فعندئذ يجب التغيير باليد. وبغير استيفاء هذه الشروط لا يجوز استعمال القوة لتغيير المنكر. وهذا موضع اتفاق بين الفقهاء فليتنبه له طلاب العلم ودارسو الحديث.
* * *
الحديث الأول في قراءتنا اليوم هو حديث زَّر بن حُُبيش رضي الله عنه أنه قال: «قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمَة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ (يعني إلى عليّ)أنه لا يُحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق».
هذا الحديث يرويه عليّ عنرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له هو شخصيًا إنه لا يُحبك، يعني لا يُحِب عليًا إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق.
في هذا الحديث كلمات: أولها قول علي رضي الله عنه والذي فلق الحبة: فلق الحبة يعني شقها بالإنبات،فلق الحبة: أن تكون صماء متحجرة لا يمكن أن تمضغها بأسنانك أو تكسرها بأسنانك من شدتها، فإذا وضعت عليها قليلاً من الماء في تربة صالحة، تجد قدرة الله سبحانه وتعالى فلقتها وأخرجت منها خضرًا طريًالينًاتستطيع أن تقطعه بإصبعك، وهو على خلاف حالها الأول. فيُقسم علي رضي الله عنه بالذي فلق الحبة، وهو ربنا سبحانه وتعالى، أنه سمع هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبرأ النَّسَمَة: النسمة هي النفس الإنسانية، وبرأ يعني خلق. والذي برأ أي شيء يعني خلقه من عدم. ولا يوجد أحد يبدأ شيئًامن عدم إلا ربنا سبحانه وتعالى، كل الموجودات خلقها الله، وكل الأشياء التي في الدنيا برأها ربنا سبحانه وتعالى من العدم، يعني أَوْجَدَها بعد أن لم تكن.
يقول عليٌّ: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة".كأنه يُقسم قسماً مغلظًا بصدق ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الكلمة الثانية: هل كان عليّ رضي الله عنه محتاجًا للقسم لكي يؤكد صدق ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هناكأحد يُكذِّب عليًا فيما يقول إنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، لكن هناكخصوصية في هذا الحديث: إنه يروي عن أمر يخص نفسه، يروي عن شأن يرجع إليه هو، يروي أن حُبَّهُمن الإيمان وبُغْضَه من النفاق، وأنه لا يُحِبُّه إلا من كان مؤمنًا ولا يُبْغِضُه إلا من كان منافقًا. لأنهقد تخطر ببال بعض الذين يسمعون هذه الرواية أنه أمر شخصي.لذلك يؤكد علي أنه سمع ما يقول من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلاستبعاد الشبهة التي قد تقع، لا في ذهن سامعه من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فهؤلاء ما كان يخطر ببالهم أصلاً أن يستحلفوا عليًا على شيء لكرامته عندهم ولجلالة قدره. وإنما لدفع الشبهة التي قد ترد عندما يُسمع هذا الحديث في أجيال تالية.
فدفعاً لمثل هذه الشبهة، وهذا من النظر بنور الله الذي كان خاصة هؤلاء الصحاب الكبار، فدفعًا لهذه الشبهة التي قد تنشأ في هذه الأجيال اللاحقة،أقسم عليّ رضي الله عنه بمن فلق الحبة وبرأ النسمة أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل قال لي، ولم يقل أخبرني، ولم يقل حدثني وإنما قال ـ إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
الفرق بين العهد والخبر والتحديث أن الخبر والتحديث أنا أُخبرك بأمر وأنت تصدقني فستعتبره صدقًا. لكن قد يأتي بعدك من لا يُصدقني فلا يعتبره صدقًا. أنا أُخبرك بحديث أرويه لك عن شخص آخر، أُخبر أنه قد قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا. ليس عندك سبب أن تقول إنني ابتدعته،لكن قد يأتي بعدك من يقول إن العوَّا قد اخترع هذا الحديث.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في ذلك الوقت قد كُذِب عليه، لأن الكذب عليه لم يبدأ إلا بعد الفتنة بين عليّ ومعاوية. أما قبل الفتنة فلم يقع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فمن نظر عليّ رضي الله عنه بنور الله أقسم هذا القسم المُغلَّظ واستعمل هذه الكلمة: إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم. والعهد هو العقد والميثاق. كأن النبي صلى الله عليه وسلم واثقه، عقد معه عقدًا يَعْرِفُعليّ به الناس، من عرفه مُحِبًاله عرف فيه الإيمان، ومن عرفه مُبغضًاله عرف فيه النفاق.
الكلمة الثالثة عن تعبير: "لا يُحب" و"لا يُبغض" ماحكاية الحب والبغض هذه؟ لماذاأُحب عليّ الذي بيني وبينه أربعة عشر قرنًا!لماذا؟.ولماذا يحبه الذين سيأتون من بعدنا من المسلمين إلى يوم القيامة؟.ثم من يبغضه فينا وفيمن بعدنا يكونمنافقًا!لماذا؟.إنه لم يره ولم يسمعه، ولم يعمل فيه معروفًا،فلماذا يحبه؟
إننانحبه لله، سبب الحب هنا وسبب البغض هنا مرجعه إلى الدين. الذين يعرفون لعليّ فضله على هذا الدين، وفضله في مناصرة محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله في الوقوف معه وقت أن كذَّبه كل الناس، وفضله في المبيت في فراشه ليلة الهجرة معرضًا نفسه للموت، وفضله في الثبات معه في المواقف كلها. ما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدًا منذ بُعِث إلى أن لقي ربه إلا كان عليّ بين يديه.
الذي يعرف فضل عليّ في نصرة الإسلام،ونصرة محمد صلى الله عليه وسلم،ورفع كلمة هذا الدين، يعرف أن هذا الشخص يستحق الحب، يستحق الحب لأنهبهؤلاء وصل إلينا الإسلام:«الله أعلم حيث يجعل رسالته»أليس كذلك؟.«الله يصطفي من الملائكة رسلاًومن الناس».والحديث السابق:«ما من نبي قبلي إلا كان له حواريون...»،هؤلاء هم حواريو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الصحابة الذين اصطفاهم الله تعالى ليحملوا عنه الرسالة ويُبلغوها للناس. ولذلك قال:«بلِّغوا عني ولو آية»،وأمرهم بأوامر كثيرة تدل على أنهم هم نقلة الإسلام إلينا.
فنحن مأمورون بحبهم كلهم لنقلهم الإسلام، ومأمورون بحب الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلمفي وقت الأزمة، ونصروه في وقت الشدة، ووقفوا معه في خروجه لأعدائه. الذي يبغُض علياً إذن؟!.لماذا سيبغضه؟ هلقتل أباه؟ هلأخذ ماله؟ هو لم يفعل به شيئًا؛لا يبغضه إلا لأنه يبغض انتصار هذا الدين، لا يبغضه إلا لأنه يبغض نجاة محمد صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لا يبغضه إلا لأنه يؤلمه أن هذا الإسلام انتشر في الأرض، وكاد يبلغ من مشرقها إلى مغربها، أو بلغها بالفعل. فهو يؤلمه أن الإسلام وصل إلى هذه المكانة،ويبغض الذين ساهموا في إيصاله إلينا: وعليٌ رضي الله عنه من أئمتهم. لذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يُحبك إلا مؤمن ولا يبغُضك إلا منافق».
ونتأمل كلمات الحديث مرة أخرى: «عن عليّ رضي الله عنه قال:والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليّ أنه لا يُحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق».
* * * * *
الحديث الذي يليه فيه أيضًا حب وبغض، والحب والبغض فيه لنفس السبب، المنذري جعل له عنوانًا:
باب آية الإيمان حب الأنصار وبغضهم آية النفاق.
والإمام النووي جعل الحديثين في باب واحد عنونه بقوله:«باب الدليل أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان». وفي صحيح مسلم حديث حب الأنصار قبل حديث حب علي. بدأ مسلم بما يعم الأنصار جميعًا ثم ثنَّى بما يخص عليًا رضي الله عنه. الإمام المنذري عكس بدأ بالخاص ثم أتى بالعام. ولكل وجهة.
حديث الباب: «عن عديّ بن ثابت سمعت البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار:لا يُحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله».
هذا الحديث نظير بالضبط لحديث عليّ رضي الله عنه. عليّ نصر النبي صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى أن لقي ربه، والأنصار نصروا النبي صلى الله عليه وسلم من لحظة بيعتهم إياه في العقبة إلى أن لقي ربه. فالذي يُحب الأنصار يُحبهم لخدمتهم الإسلام، ولنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يبغضهم يبغضهم لما نال هذا الدين من رِفعة وانتشار وقوة ومنعة بمؤازرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيوائهم إياه في المدينة.
ثم هناكإضافة: من أحبهم أحبه الله غيرموجودة في حديث عليّ، من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله. ما هذا إلا تحصيل حاصل، ألا يحب ربناالمؤمن ويبغض المنافق؟.الحقيقة أنه ليستحصيل حاصل، إنماهو ترتيب النتيجة على المقدمة. إذا كان الإنسان مؤمنًا يُحب من نصر الدين وآزره، فإن ثمرة هذه المقدمة أن يُحب الله هذا المؤمن. وإذا كان منافقًا يبغض ويكره ويستوحش من ذكر الذين نصروا هذا الدين وآزروه، فإن النتيجة المترتبة على هذه المقدمة أن الله يبغضه. في حديث عليّ لا نعرف النتيجة نعرف فقط المقدمة «لا يُحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»في حديث الأنصار «من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله»فالذي يحب من نصر دينه يحبه الله تبارك وتعالى، ومن يبغض من نصر دينه يبغضه الله تعالى.
* * *
الحديث الذي يليه عنوانه:إن الإيمان ليأرِزُإلى المدينة.
وفيه حديث «أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:إن الإيمان لَيَأْرِزُإلى المدينة كما تَأْرِزُالحيةُإلى جحرها».
يأرز يعني ينضم بعضه إلى بعض، ويلتف بعضه حول بعض.
علماؤنا فهموا هذا الحديث على أنه ظاهره العموم، لأن ظاهر لفظه العموم. وأن معناه أن حال الإسلام في نهاية أمره سيكون كحاله في بداية أمره.أنه سيكون قليلاًومنحصرًافي المدينة المنورة، وليس له وجود إلا فيها كما كان الإسلام في أول أمره بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة.فلم يكن الإسلام إلا في المدينة ثم بدأت الحروب.والحروب أدخلت عددًا قليلاً جدًّا،بعد ست سنوات لم يزد عن ألف وخمسمائة مسلم، وهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية. ثم جاءت هدنة الحديبية فانتشر الإسلام، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عشرة آلاف مقاتل.
فقالوا سيتكرر الحال، كما أن الإسلام في أول الهجرةانحصر في المدينة، ولم يكن إلا فيها؛سوف يعود حال الإسلام في النهاية إلى مثل هذا الحال. هذا ما قاله العلماء في الكتب القديمة.
لكن التأمل في هذا الحديث وفي مجموع الأحاديث النبوية يقود إلى رأي آخر قد يكون صوابًاوقد يكون خطأً. إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطئًا فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه برئيان. عندماتأملت في هذا الحديث، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح:«والذي نفسي بيده ليبلغنَّ هذا الدين ما طلعت عليه الشمس حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله الإسلام (الوبر هو البيت المصنوع من صوف الغنم أو الإبل والمدر هو البيت المبني بالطين أو اللبن أو الطوب) بعز عزيز أو بذل ذليل».
وحديثه الثاني الذي يقول فيه لأعرابي جاء يسأله ما نهاية هذا الأمر؟ (الإسلام الذي أتيت به وتقاتل الناس عليه، ما نهاية هذا الأمر) فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أو تبسم وقال له:«ليبلغن هذا الأمر أن يمشي الراعي بغنمه من صنعاء إلى مكة لا يخشى إلا الله والذئب على هذه الغنم».
طبعاً لا يرعى أحد الآن غنمه من صنعاء إلى مكة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له أنت بدوي وعملك الرعي، تعرف أنك إذا ضربت في الأرض بعيدًا عن حرم قومك بقليل، تخاف أن تأتي قبيلة وتغزوك وتأخذ مالك. وإلى الآن يسمون السطو على أغنام الآخرين أخذ حلالهم(!)
فالنبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بأخلاق هؤلاء البدو الرعاة، قال إن الراعي سيمشي من صنعاء إلى مكة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. وهل هناك رعاة يرعون أغنامهم من صنعاء إلى مكة؟!لكن هذا يقع على سبيل التمثيل، وعلى سبيل التقريب.
إذا نظرناإلى هذا الحديث والحديث الآخر، كمافي غزوة الخندق عندما كان يضرب الحجر ويخرج منه بعض الشرر. هذا الشرر شرر عادي، لكنناسمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في الشرر الأول:«أضاءت لي قصور كسرى»وفي الشرر الثاني:«أضاءت لي قصور قيصر»والرجل كان واقفًا(وهو سُراقة بن مالك الذي كان قد جرى وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يوم الهجرة حتى يقتفي آثارهما ثم غرزت قوائم فرسه في الأرض فقال له: ادعُ لي. فدعا له وأسلم) فسراقة هذا قال له: يا رسول الله،أتُفْتَحُلك قصور كسرى؟ قال: "نعم". قال: "يا رسول الله أليس قلت لي كيف بك وقد لبست سواريَ كسرى؟".قال: "نعم". قال: "أفأنا لابسهما؟".قال: "نعم". فلما جاءت الغنائم في زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انتظر سراقة القسمة، وظلوا يُخرجونأشياءًوأشياءَإلى أن أخرجوا سوارين من الذهب فقال سراقة إنهما له. فسيدنا عمر قال: "كيف؟"قال: "وعدني بهماالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة". فقال: "من كان معك؟"قال: "أبو بكر، من أين آتي بشاهد؟"فإذا عدد من الصحابة الجالسين قالوا: "وعده بها النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى يوم الخندق، عندماقال: أضاءت لي قصور كسرى".
ستضيء له قصور كسرى، ثم في ذلك اليوم أو في يوم بعده في أيام غزوة الخندق سأله رجل: "يارسولالله أي المدينتين تُفتح أولاً:رومية أم القسطنطينية؟".فقال ردًا عجيبًا: "بل القسطنطينية تُفتح أولاً". يعني روما ستُفتح ثانية. وهذا كان في وقت الجوع حتى إنالرجل قال للرسول صلى الله عليه وسلم:"تعالوا كلوا عندي كتف شاة". فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجيش كله. فقالت له زوجته:"فضحتنا، جئت بالجيش كله على كتف شاة فقط". فرد عليها إنه لم يقل لأحد، وإنما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في السر. فقال النبي لهم: إن جابرًاقد صنع لكم طعامًا. فجاءوا كلهم يأكلون، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة على الطعام.قال:"لا تكشفوا الطعام حتى آتيه"فجعلوه مغطىً، فلما جاء وضع يده في داخله ودعا عليه بالبركة، فأكلوا وشبعوا ونزعوا والطعام كما هو. الله تبارك وتعالى بارك فيه، وهذه قدرة الله، وهي ليست بعيدة عنه.
وفي هذه الظروف الصعبة يأتي رجل ويسأله أي المدينتين تُفتح أولاً رومية أم القسطنطينية؟ فيقول له: "بل القسطنطينية تُفتح أولاً". متى فُتِحتالقسطنطينية؟ بعد أكثر من ثمانمائة سنة. من الذي يستطيع أن يتنبأ بأمر يحدث بعد ثمانمائة سنة؟ ستظن به الظنون. لكن إذا كان نبيًا يتحقق ما قاله مهما طال الزمن لأنه يأتيه النبأ من السماء.
إذا جمعناهذه الأحاديث كلها، ونظرنافي ضوئها إلى قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الإيمان ليأرِزإلى المدينة كما تأرِزالحية إلى جحرها».ثم نظرنا إلىكلام إخواننا وأساتذتنا ومشايخنا وعلمائنا الكرام رحمهم الله؛ إنهميقولونإن هذا معناه عود الأمر على بدئه كما كان سابقًا: بدأ الإسلام قليلاًومستضعفًافي المدينة وحدها، ويعود في النهاية قليلاً ومستضعفًا.
فلو صح هذا التفسير يكون هناك تناقض. فما معنى هذا الحديث؟
معنى الحديث أن قلوب المؤمنين وأفئدة المؤمنين تهوي إلى المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، كما كانت تهوي قلوب المؤمنين وأفئدتهم إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم فيها. ألسنا نعرف أن عدداً من الناس لا يقل عن عشرة، فيما جمعت، جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة يقولون: يا رسول الله جئناك مهاجرين. يقول لهم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. الذي يريد أن يُقيم في المدينة يُقيم، أنتم لستم مهاجرين، أنتم الآن تأتون بنية الجهاد وبنية الإسلام وبنية نصرة الدين.
وكل واحد فينا يذهب ليعتمر أو يحج، وهو في أثناء الحج،ألا يكون متشوقًا للمدينة؟ أنا لا أعرف مسلمًا لا يُحب المدينة المنورة، ولا يتمنى أن يذهب إليها.
هذا الشعور من أين جاء؟ جاء من حب الأفئدة لمثوى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى أن الإيمان يأرزإلى المدينة كما تأرزالحية إلى جحرها. ينضم فيها كل قلب مؤمن، يحبها كل رجل وكل امرأة مؤمنة، يتمنى أن يعيش فيها كل من استطاع أن يعيش فيها.
هل تعرفون المجاورين، هم ناس كانوا يذهبونإلى الحج ثم لا يعودون. بعضهم كان يجاور لطلب العلم، وأغلب الذين كان يأخذهم الحب النبوي كانوا يجاورون في المدينة. يسمعونعلمًا، ودروسًاووعظًا، إنما هم ذاهبون ليجاوروا النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصون،إذاماتواأنيدفنوا هناك.
فأنا أفهم هذا الحديث على فهم آخر غير أن الإيمان سيضعف. الإيمان لن يضعف. نحن الذي نراه في أيامنا هذه أن الإيمان يقوى ويزداد وينتشر. وقوته وزيادته وانتشاره هي سبب حرب الآخرين له. ومعنى عودته إلى المدينة أو أنه يأرزإليها كما تأرز الحية إلى جحرها، هو معنى حب الناس لهذه المنطقة التي آوت النبي صلى الله عليه وسلم، ونصرته وأيدته وبقي فيها بعد أن ترك مكة، إلى أن لقي ربه سبحانه وتعالى.
مِثْلُ هذا الحديث حديثُ «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء»هذا الحديث أيضًا يفسره العلماء أن الإسلام كان ضعيفًا، وكان المسلمونيُضْرَبون ويُعَذَّبون، وفي الآخر سوف يُضرب المسلمين ويؤذونويُعَذبون. وقد سمعت كثيراً من إخواننا عندماحدثتالفتن مع الحكومات، واعتقلوا ثلاثين ألفًاأو عشرين ألفًا، وأدخلوهم السجن وعذبوهم، سمعتهميقولون: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا.
المعنى ليس كذلك، المعنى أن الإسلام بدأ غريبًا إذ تكالبت الدنيا كلها على حربه. قريش قوم النبي صلى الله عليه وسلم هم أول من حاربه، ثم ألبوا عليه قبائل العرب، وعملوا أحلافًاومعاهدات لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب الرسول صلي الله عليه وسلم إلى المدينة،ووقعتبدر وأُحد، ولم يجتثوا الإسلام. عملوا هذا التحالف الضخم وهو تحالف الأحزاب، وحدثت غزوة الأحزاب. ثم تآمروا عليه لقتله عدة مرات. هذه الحرب التي واجهها محمد صلى الله عليه وسلم.وهو رجل فرد في نفر قليل لا يزيدون عن ثلاثين أو أربعين حسب الروايات في دار الأرقم، إلى أن أسلم عمر. ثم الحروب الحقيقية التي كان فيها القتل والتمثيل بجثث القتلى، وإهانة جثمان حمزة رضي الله عنه وغيره من الصحابة. هذهالحرب البشعة كانت ضد كم إنسان؟ قلت قبل قليلإنهم ظلواست سنوات في المدينة وقبلها اثني عشر سنة ونصف في مكة لم يزد عددهم عن ألف وخمسمائة. والعرب كلهم متكالبين عليهم،وكذلك الروم.
إذنحال الإسلام في آخره من حيث الغربة هو حاله في أوله من حيث الغربة: أن يحاربه الناس جميعاً، وأن تتكالب عليه القوى جميعًا، ويحاول كل من ليس على ملة الإسلام من أمم الأرض أن يستأصل شأفة المسلمين، ثم يؤول مآله إلى ما آل إليه الإسلام الأول الأمر مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:«ليبلغن هذا الدين ما طلعت عليه الشمس حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل».
فلا تقرؤوا هذه الأحاديث متصورين أن الإسلام مقبلعلى حالة ضعف وهزيمة، ولا تتصوروا أن احتلال بغداد وأفغانستان، أو ضرب السودان أو ضرب الصومال، أو غدًا إذا حدث وضربت إيران أومصر أو السعودية، أو تغيرتالمناهج الدراسية. لا تتصوروا أن هذه هزيمة، هذا تكالب الأمم علينا كما تكالبت على محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم مسلمي الأزمنة المتأخرة:«يأتي زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر».وقال لهم في حديث آخر:«يأتي زمان يكون عمل الرجل فيهم بعمل خمسين»، وفي رواية بعمل مئة. فقالوا له: «منهم يا رسول الله؟ (يعني من أهل ذلك الزمان) قال لهم: لا بل منكم، فإنكم تجدون على الخير أعوانًا ولن يجدوا عليه أحد».
فنحن لا ندري أي زمن هو زمننا، هل عملنا بعمل واحد، أم بعمل ربع؟، نرجو أن يكون بعمل ربع أو نصف منهم. لكن ستأتي أزمان يكون عمل الرجل في الإسلام، في نصرة الدين، وفي الدفاع عنه أمام مخالفيه بعمل مئة من الصحابة. وهذه الأزمان هي أزمان حرب الإسلام، والتي نرى منها فصلاً الآن.
فليس ما جاء في هذه الأحاديث، وما جرى مجراها، تنبؤًا أو خبرًا صحيحًا من النبي صلى الله عليه وسلم بضعف يُصيب الإسلام، بل هو خبر بقوته وانتصاره وانتشاره، كما انتشر وقوي وانتصر في أول أمره.
* * * * *
الحديث الذي يلي هذا عنون له المنذري بباب الإيمان يمانٌ(يمان يعني من ناحية اليمن) والحكمة يمانية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:جاء أهل اليمن،هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا. الإيمان يمان والحكمة يمانية. السكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر قِبَلَ مطلع الشمس».
جاء أهل اليمن وهم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا. قالوا رقة الأفئدة وضعفها هو سرعة استجابتهم للتذكر والتذكير والوعظ. والذين يعرفون أهل اليمن يقولون حتى اليوم إنهم إذا وعظهم واعظ بكوا. والبكاء هذا فطرة فيهم من رقة في قلوبهم جعلها الله تبارك وتعالى خصيصة لهم. فرقة القلب وضعفه ليس معناها الجبن أو الخور أو عدم العزيمة، إنما معناها قوة الإيمان وسرعة الاستجابة لداعي الخير، وسرعة الاستجابة للذي ينهى عن الشر.
الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية.قال العلماء في شرحهم لهذا الحديث إن الذي جاء فيه من أوصاف أهل اليمن هو وصف للجماعة الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الزيارة، هم قوم أبي موسى الأشعري. كان أبو موسى قد سبقهم ثم جاء الأشعريون. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب هؤلاء الأشعريين حتى مدحهم في حديث فقال:«الأشعريون مني وأنا منهم، كانوا إذا قَلَّتْأزوادهم في السفر جمعوها في سماط واحد أو ثوب واحد فأكلوا منها جميعاً، فهم مني وأنا منهم».
فالنبي صلى الله عليه وسلم مدح الأشعريين في مواطن كثيرة، ومن بين مواطن مدحهم موطن وصولهم إليه ليبايعوه علىالإسلام. فلما جاءوا مدحهم كما تحيي ضيفك. فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول لهذا الوفد من أهل اليمن، من الأشعريين الفضلاء، إنهم قوم طيبون صالحون، وإنه يعرف إيمانهم ويعرف صدق قبولهم لدعوته، ومجيئهم إليه مخلصين.
ثم ذكر شيئاًيفهمه أهل الحجاز وما حولها؛أهل مكة والمدينة والطائف وغيرها:"السكينة في أهل الغنم".كل هؤلاء أهل غنم، كل هذه المنطقة يرعون الغنم، أغلب رعيهم للغنم وأقل رعيهم للإبل، ويستعملون الإبل عادة في السفر. والإبل هي سيارات النقل عندنا الآن، أما ثروتهم الحقيقية فهي الأغنام.
"السكينة في أهل الغنم" السكينة هي الطمأنينة والسكون وعدم الضجة، تجد راعي الغنم يمشي ويدندن بهدوء، أو يقول قصيدة أو أبياتًامن الشعر النبطي. راعي الغنم تجده ساكنًالأنه لو صاح تفزع الغنم، ولو عَلاصوته في الرعي تنزعج الغنموتجري بعيدًا. فطبيعة الغنم تقتضي من راعيها أن يكون ساكنًا. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من نبي بعثه الله إلا رعى الغنم.قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟.قال: حتى أنا،كنت أرعى على قراريط من أهل مكة"(يعني على نصيب من إنتاجها الذي تلده)».فلماذا دُرِّب الأنبياء برعي الغنم؟ لأن رعي الغنم ينبت السكينة في النفوس. أليست كل مهنة تطبع صاحبها بطابعها؟ الصياد مثلاً يسمعك ساعتين ثم يقول لك نصف كلمة، قول فصل، كأنه اصطاد السمكة ويجب أن يضعها في السلة لئلا تفلت منه.
فكذلك كل مهنة لها خُلق، فمن أخلاق الرعاة السكينة والطمأنينة والصبر لأنه بذلك يُسمن غنمه. ولو كان مستعجلاً مثل هبنقّة الذي ذهب ليرعى غنمًاسمينة في أحسن مرعى وغنمًاضعيفة وهزيلة في مرعى سيء، فمرت به امرأة ترعى الغنم فقالت له: "يا هبنقّة أترعى الإبل السمينة في الأرض الخصبة وترعى الإبل الهزيلة في الأرض المجدبة؟!".قال: "يا حمقاء أتريدين أن أسمن ما هزل الله وأهزل ما سمَّن الله؟!".
لكن الراعي العاقل يكون فيه سكينة وطمأنينة ويرتاد بغنمه المكان المناسب والماء المناسب والمرعى المناسب حتى تكبر.
فالنبي كما مدح أهل اليمن مدح من حولهم ممن كانوا تعودوا الرعي، وهو لم يمدح الذين جاءوا فقط، كأنالقاعدين لا يستحقونشيئاً؟،إنهم ينصرونهمنذعشر سنين واثنتيعشرة سنة، ومنهم من قُتِل أبوه أو أخوه، فمدحهم هم أيضًا،وقال السكينة في أهل الغنم.
ثم قال «الفخر والخيلاء في الفدَّادين». الفدَّادين جمع فدَّاء وهم الذين يرفعون أصواتهم في رعي الإبل أو رعي الخيل. وهؤلاء لم يكن أحد منهم جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم أهل المشرق، أهل اليمامة، أهل نجد والعراق، ولم يكن أحد منهم قد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، بالعكس، في الأحاديث الصحيحة الشيطان لما كان يتمثل لقريش حتى يغريهم بفعل السوء بمحمد صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم في صورة شيخ نجدي ثائر الرأس. فكانوا مصدر عدم طمأنينة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومصدر قلق. ونحننعرف أنه لما وقعت حروب الردة،كان أقصى وأقسى ما حدث فيها من حروب هي الحروب التي كانت من مسيلمة في اليمامة، وقتلوا أكبر عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى خشي عمر، أو خشي حذيفة على القرآن أن يضيع وجاء مسرعًايقوللعمر: "أدرك القرآن قبل أن يضيع كما ضاعت الكتب السابقة". وقال له إن سبعين من القراء (يعني حفظة القرآن كاملاً) قُتِلوا يوم اليمامة، في يوم واحد. ومن هنا جاء جمع القرآن فكان في هذا الشر خير كثير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:"السكينة في أهل الغنموالفخر والخيلاء في الفدَّادين أهل الوبر(الذين يرعون الإبل وما شابهها من الأنعام) قِبل مطلع الشمس" عندما يكونالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة،فهذه المنطقة تكون شرقه واليمن جنوبه. فالذين جاءوا من الجنوب والذين معه في الوسط قال عنهم أهل سكينة وحكمة وروية. والذين هم هناك،قِبل المشرق، لم يأتوا، وكان الشيطان يتمثل في صورتهم. وارتدّوا بعد أنمات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء كلامًالطيفًاجدًّا، قالوا: "هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ستأتي أزمان يُسلِم فيها هؤلاء الناس، ويدافعون عن الدين، وينصرون الملة، ويُصبحون أهل التوحيد. وقد رأينا بعد محمد بن عبد الوهاب أنه قُضِيَ على فكرة عبادة القبور والأشجار والأحجار، وهم الآن يعتبرون أنفسهم الموحدين فقط.ونحنكلنا عندنا شركيات أو بدعيات(!) فالوضع الذي حكاه الرسولصلى الله عليه وسلم عن أهل تلك المناطق كان متعلقاً بزمنه صلى الله عليه وسلم.
وهناكرأي آخر وهو رأي صحيح: أنهذا سيكون في آخر الزمان حيث ستحدث الفتن والهرج والمرج في هذه المنطقة من العالم، وسيحمي الله بيته، وحرم نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تصيبهما الفتن والمصائب وما إليها.
والقاضي عياض قال أجمل من هذا، قال لماذا نخوض في هذا؟ أمِرُّوه كما جاء فلعله من المتشابه. أنتم لاتعرفون حقيقة المقاصد؟ اتركوه كما جاء. النبي صلى الله عليه وسلم قال هكذا،فأمِرُّوه كما جاء، مثل أحاديث الصفات وأحاديث الذات، وكلام الله تبارك وتعالى، واليد والرجل والوجه.. إلخ قال أمِرُّوه كما جاء فلعله من المتشابه فاسكتوا عنه.
فمن أراد أن يفهم الحديث على نحو ما فهمه الشُرَّاح، ومن أراد أن يعتبر الحديث مما سيحدث في آخر الزمان فهو علم لا نعرفه. ومن أراد أن يقول إنه من المتشابه فيتوقف فيه فهو على صراط صحيح من أقوال العلماء السابقين، وكفى بعياض سلفًا.
* * *
الحديث الذي يليه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (هو وأبوه صحابيان) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:غِلَظُ القلوب والجفاء في المشرق والإيمان في أهل الحجاز».
ولا تنافي بين الحديثين لأن كلمة الحجازإذا أُطْلِقَتجغرافيًا،تشمل اليمن. فكيف قال الإيمان في الحجاز وهو في الحديث السابق قال الإيمان يمان؟ قالوا:لا تنافي بين الأمرين لأن الحجاز إذا أُطلقت تشمل الجنوب إلى اليمن.
أو لا تنافي بين الأمرين لأنه وصف في حديث اليمن الذين جاءوا إليه وليسكل أهل اليمن إلى يوم القيامة. ووصف في حديث الحجاز من أسلموا ونصروه، وإلا فقد كان في الحجاز أبو لهب وأبو جهل، فكيف يكون هؤلاء هم أهل الإيمان؟ إنما يصف في هذا الحديث أهل الإيمان من أهل الحجاز كما وصف في حديث اليمن أهل الإيمان من أهل اليمن.
لذلك قلتمن قبل، ولا أملُّأن أقول: لابد أن نفهم الأحاديث على وجهها الصحيح، لأننالو أخذناها على إطلاقها كما هي نعتبرأنأهل نجد هم أهل الشياطين، أو أنهم أهل الكفر. والرواية الأخرى أنهم أهل الخيلاء وأهل الفساد، بينما في أهل نجد كثيرون من الصالحين الطيبين، والتاريخ رأى منهم نُصرة للإسلام، وحماسة له وحمية.
لو أخذناه على إطلاقه يكون كل أهل اليمن هم أهل الإيمان، وهناكأناس والعياذ بالله ليسوا كذلك. هناكأهل حكمة وهناكحمقى، كما في كل الدنيا هناكأهل حكمة وأهل حماقة.
إنما هذه الأحاديث كانت خاصة إما بالقوم الذين وردوا على النبي صلى الله عليه وسلم من أهل اليمن الأشعريين، وإما بمن كان في زمنه. وإما بقوم مخصوصين نصروه وأيدوه ودافعوا عن الإسلام معه.
* * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري في قوله: من لم يؤمن لم ينفعه عمله الصالح.
رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله ابن جدعان (وهو عبد الله بن جدعان)كان في الجاهلية يصل الرحم ويُطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يومًا اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
ابن جدعان كان من أقرباء أبيبكر، كان تيميًا من بني تميم بن مرة، وبني تميم بن مرة كانوا قبيلة أبيبكر، فكان قريبًا لعائشة، من أقرباء أبيها ولهذا اهتمت بأمره. لأنهكان هناكأناس كثيرونفي الجاهلية يعملونالخير. لماذا لم تسأل السيدة عائشة إلا عن عبد الله بن جدعان، لأنه من بني تميم بن مرة من أقارب أبي بكر، يتصل بأبي بكر بالعمومة،وكان طيبًا، يصل الرحم، ويُطعم المسكين، وهو الذي كان يأتي بالقفيز الذي به قمح ويضعه على البعير ويوجه البعير ناحية بني هاشم، عندمارأى بني هاشموقدحُصِر فيهم النبي صلى الله عليه وسلم. كان يجيءبالبعير ويحمِّلُه قفيزًامن القمح، ويضربه على ظهره وهو موجهه ناحية الشِعب حتى ينطلق إلى هناك فيأخذه المحاصرون ليأكلوه.
فقالت له:"إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويُطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟"هل ينفعه ما كان يفعله من خير في الجاهلية؟،قال: "لا ينفعه،لأنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ما معنى هذهالحكاية؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إنه لم يكن مُصدقًا بالبعث."رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"لا يقولها إلا مصدق بأن بعد الموت بعثًا وحسابًا ونشورًا. وبعد البعث والحساب والنشور إما الجنة إما النار. هو لم يكن مصدقًا بالبعث لأنه كان من أهل الجاهلية ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أجمع العلماء بسبب هذا الحديث وغيره من الأحاديث والآيات التي في معناه، على أن الأعمال الصالحة لا تنفع الكفار.
أقوى دليل على هذا هو ما جاء في القرآن الكريم، في سورة النور في بقول الله تبارك وتعالى:«والذين كفروا أعمالهم كسراب بقِيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب».ضرب هذا المثل لأهل البوادي، أهل الصحراء. وضرب مثلاً لأهل السواحل،قال:«أو كظلمات في بحر لُجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور».
فهذه الآية وهذا الحديث، وأمثاله، دليل على أن أعمال الكفار لا تنفعهم. الذي كان كافرًا وأسلم، أو الذي كان عاصيًاوتاب، أو كان مجرمًاواستغفر،هلتنفعه الخيرات التي عملها في حال الكفر أو في عصيانه أو في حال إجرامه أم لا تنفعه؟ نعم تنفعه؛لأن الرجل الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله،عملت في الجاهلية، وعملت في الجاهلية فهل لي من ذلك شيء؟"قال له:«أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير»كل الذي عملته في أيام جاهليتك منقول إلى حسابك بعد أن تدخل في الإسلام، لأن الله لا يُنقص الناس أشياءهم فكيف يُنقص الذين آمنوا أشياءهم. أما الكافر الذي بقي كافرًاومات كافراً،فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى.
انتبهوا،لقدقلتُإن الأعمال الصالحة لا تنفع الكفار، لكنيلم أقل إنه سيدخل الجنة أم سيدخل النار،لأننا لا نعرف. إنما الذين عملوا الصالحات فلم تنفعهم هل ينفعهم شيء آخر أم لا ينفعهم؟ هل تنفعهم رحمة الله؟هل تنفعهم سعة عفو الله؟هل ينفعهم أن الله اطَّلع منهم على شيء لم نطَّلِع نحن عليه؟ هذا أمره مفوض لله، نحن لا نتكلم فيه. نحن لا نتكلم عن الجزاء الأخروي. النبي صلى الله عليه وسلم عندماقال لها تنفعه أو لا تنفعه كان يتكلم عن الأعمال: يصل الرحم ويُطعم المسكين،فهذه أعمال مادية. أما ما لا نطَّلع عليه من أعمال أخرى فأمره إلى الله تعالى، لا نحكم عليه لا بجنة ولا بنار، إنما نحكم على من يفعل كذا فهو كافر، ومن يفعل كذا فهو مؤمن. وحساب هذا المؤمن وحساب هذا الكافر عند ربنا تبارك وتعالى وليس عندنا.
* * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري بباب لا تتدخلون الجنة حتى تؤمنوا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
هذا حديث من أعظم الأحاديث التي ينبغي أن نتعلمها ونتأدب بأدبها، ونراعيها في أنفسنا. ولازلتأذكر واحدًامن أساتذتنا رحمه الله ،الأستاذ صلاح شادي، كان يعيشفي مدينة نصر في آخر أيامه. فلما توفيوذهبنا لجنازته وجدنا معظم بوابين الشارع واقفين على باب البيت، عدد كبير على غير المعتاد. عادة تجد واحدًاأو اثنين، لكن هؤلاء كانوا عشرين أو ثلاثين واحدًا. فسلموا علينا. فأخونا العزيز المهندس مراد الزيات، وهو زوج ابنة صلاح شادي لفته المنظر، وهو شديد الذكاء، ولا يترك شيئًا إلا ويسأل عنه. فقال لواحد منهم: كتر خيركم تعبتم أنفسكم. فقال له: "لا أحد يقول لنا السلام عليكم أثناء ذهابه ومجيئه إلا هو."فجاء هؤلاء يُعزون فيه وهم لا يعرفونه شخصيًا لأنه كان لا يمر عليهم غاديًا أو رائحًا إلا ويقرأ عليهم السلام. فهذا هو إفشاء السلام في هذا الحديث.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا»
ها نحن قدعرفنا الإيمان، أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. هنا جاء لنا شرط جديد في الإيـمان «ولا تؤمنوا حتى تحابوا».إذن، ليس مجرد أن أؤمن بالأركان الستة للإيمان والخمسة للإسلام وأؤديها، ولكن فوق ذلك أن أُحب أخي المؤمن، وأُحب أختي المؤمنة، وأُحب الرجل المؤمن الذي لا أعرفه، يكونُ في أقصى الأرض وأُحبه،ولا أعرف أنه موجود أصلاًوأحبه. يعني أحب معنى الإيمان، أُحب هذا الرمز الذي إذا وجِد في أي مكان كان بيني وبينه قربة وصلة ووشيجة ولُحمة.
نحن نقول العلم نسب أو رحم بين أهله، والإيمان نسب ورحم وأُخوة لأن ربنا سبحانه وتعالى يقول:«إنما المؤمنون إخوة»ففوق النسب وفوق المصاهرة تأتي الأُخوة. فلا تؤمنوا حتى تحابوا.
ثم ما هو طريق الحب؟:«أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم. أفشوا السلام بينكم».
قال العلماء إن هذا الحديث أيضًا على ظاهره وإطلاقه. يعني لا يدخل الجنة إلا المؤمن، هذا فيما نعلمه في أهل الدنيا. فالمؤمنون الذين نعلمهم، ونعرف إيمانهم في الدنيا نحكم لهم بأنهم أهل الجنة، فهذا شرط دخول الجنة. ولا يكمل الإيمان إلا بالتحاب، يعني الشرط الذي جاء به هذا الحديث، شرط كمال وليس شرط وجود. هل تعرفونالفرق بين الوجود والكمال؟ الإنسان العاري من كل ملبس هو إنسان، والإنسان المستور بملابس رثة وممزقة هو إنسان. والإنسان المستور بلباس متوسط هو إنسان، والإنسان المستور بلباس أنيق نظيف مغسول هو إنسان مكتمل. فالتحاب شرط كمال في الإيمان وليس شرطًا في الوجود. يوجد الإيمان بدون تحاب، قد يكون مؤمنًا لكنهفظ، مؤمناً،أويأكل أموال الناس، مؤمنًاوكلما رأيتهتقول أعوذ بالله،ليتني لم أُقابله، يصلي ويصوم ويحج ومع ذلك يكون فظًاغليظ القلب، وخشن الحاشية لا تحبه. لكن الذي يكون رقيق الحاشية وطيب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أُنبئكم بأقربكم مني مجالس يوم القيامة. أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا(فهذا كناية عن المبالغة في التواضع للناس) الذين يألفون ويؤلفون»(يعني الذين يُحِبُّون الناس فقط؟.. لا، وإنما الذين يحبهمالناس أيضًا).
ومعنى لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا قالوا: خذوا بالكم، ليس معناه أن غير المتحابين لن يدخلوا الجنة. الذين هم غير متحابين بغِلَظِحاشيتهم وجفاء أخلاقهم، هؤلاء يدخلون لكن ليس في الأول، ليس مع الناس الأولين والأفاضل، ليس مع الطيبين الصالحين. هؤلاء سيتأخرونقليلاً. قلنا من قبل إن هذا التأخير شيء فظيع جداً، حين تدنو الشمس من رؤوس العباد. فنسأل الله ألا يؤخرنا. حتى أصحاب الحقوق عندما يأمر ربنا بتأخير المسلمَيْنِالصالِحَيْنِاللذَيْنِبينهما خصومة في الدنيا، فيقول أخرواهذَيْنِحتى يصطلحا، ينادي كل منهما: حقي لصاحبي ولا تؤخرنا. كل واحد يتنازل عن حقه لأن الوقوف في هذه الشمس شيء فظيع.
قالوا:أما غير المتحابين من السخفاء البخلاء، فهؤلاء سيدخلون الجنة ولكن في الآخر. إذن، فلا تدخلون يعني لا تدخلون في أول الأمر إذا لم تكونوا من المتحابين.
الحديث أَمَرَببذل السلام للجميع:«أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموهتحاببتم. أفشوا السلام بينكم».
يقول القاضي عياض: هو أمر بإفشاء السلام للجميع لأنه أول أسباب التآلف وأعظم أسباب التواضع والتعود عليه.
لا يتواضع إلا المحب، الذي لا يعرف كيف يحب لا يعرف كيف يتواضع.
قال القاضي عياض: "به (بالسلام) تنفتح المودة ويظهر الشعار المميز للمسلمين دون سواهم" ليس هناك أحد من الملل الأخرى أُمِر بإفشاء السلام، لا يقول السلام عليكم أثناء سيرهم إلا المسلمون. مجرد هذا السلام هو إظهار لشعار المسلمين.
قال إن هذا الموضوع ليس فقط جلبَمنفعةٍ، ولا يقتصر أمر السلام على جلب هذه المنافع وإنما يمتد إلى دفع المضار فإنه يقطع دابر الشحناء.
قال: إنه يدفع التقاطع والشحناء، ويقطع دابر التدابر ويمنع فساد ذات البين (التي هي الحالقة) والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«...ألا وفساد ذات البين، ألا وفساد ذات البين، إنها الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين»فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى فساد ذات البين الحالقة، والسلام يُضَيِّعُفساد ذات البين.
وقال القاضي عياض: وليعلم الأخ المؤمن أن السلام لله فلا يتبعن أحد فيه هواه.وهذا كلام صحيح فقد أخرج البخاري عن عمار بن ياسر ـ ورفعه غير البخاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار»
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(8)
ذكرنا في المحاضرة السابقة حديثين: حديث أبيسعيد الخدري الذي فيه تقديم مروان بن الحكم الخطبة قبل صلاة العيد. والحديث الثاني حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».وذكرنا أن الترتيب الوارد في هذا الحديث من حيث البدء باليد ليس مرادًا، وإنما المُراد أن اليد هي آخر ما ينتهي به التغيير، عندما يكون التغيير بالقلب، ثم باللسان، غير مجد. إذا كانالتغيير بالقلب في ذاته والتغيير باللسان غير منتج؛لأن القائم على المنكر أو الواقع فيه لا يُحب أن يقبل النصيحة، أو يرفضها، أو لا يستجيب لها. ويكون المُغير باليد قادرًاعلى إزالة هذا المنكر دون أن يُحدث منكرأ أكبر منه. ويكون هذا في الغالب لمن كان عنده سلطان، يعني قوة قانونية أو شرعية يستطيع أن يُزيل بها هذا المنكر؛ فعندئذ يجب التغيير باليد. وبغير استيفاء هذه الشروط لا يجوز استعمال القوة لتغيير المنكر. وهذا موضع اتفاق بين الفقهاء فليتنبه له طلاب العلم ودارسو الحديث.
* * *
الحديث الأول في قراءتنا اليوم هو حديث زَّر بن حُُبيش رضي الله عنه أنه قال: «قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمَة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ (يعني إلى عليّ)أنه لا يُحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق».
هذا الحديث يرويه عليّ عنرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له هو شخصيًا إنه لا يُحبك، يعني لا يُحِب عليًا إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق.
في هذا الحديث كلمات: أولها قول علي رضي الله عنه والذي فلق الحبة: فلق الحبة يعني شقها بالإنبات،فلق الحبة: أن تكون صماء متحجرة لا يمكن أن تمضغها بأسنانك أو تكسرها بأسنانك من شدتها، فإذا وضعت عليها قليلاً من الماء في تربة صالحة، تجد قدرة الله سبحانه وتعالى فلقتها وأخرجت منها خضرًا طريًالينًاتستطيع أن تقطعه بإصبعك، وهو على خلاف حالها الأول. فيُقسم علي رضي الله عنه بالذي فلق الحبة، وهو ربنا سبحانه وتعالى، أنه سمع هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبرأ النَّسَمَة: النسمة هي النفس الإنسانية، وبرأ يعني خلق. والذي برأ أي شيء يعني خلقه من عدم. ولا يوجد أحد يبدأ شيئًامن عدم إلا ربنا سبحانه وتعالى، كل الموجودات خلقها الله، وكل الأشياء التي في الدنيا برأها ربنا سبحانه وتعالى من العدم، يعني أَوْجَدَها بعد أن لم تكن.
يقول عليٌّ: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة".كأنه يُقسم قسماً مغلظًا بصدق ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الكلمة الثانية: هل كان عليّ رضي الله عنه محتاجًا للقسم لكي يؤكد صدق ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هناكأحد يُكذِّب عليًا فيما يقول إنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، لكن هناكخصوصية في هذا الحديث: إنه يروي عن أمر يخص نفسه، يروي عن شأن يرجع إليه هو، يروي أن حُبَّهُمن الإيمان وبُغْضَه من النفاق، وأنه لا يُحِبُّه إلا من كان مؤمنًا ولا يُبْغِضُه إلا من كان منافقًا. لأنهقد تخطر ببال بعض الذين يسمعون هذه الرواية أنه أمر شخصي.لذلك يؤكد علي أنه سمع ما يقول من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلاستبعاد الشبهة التي قد تقع، لا في ذهن سامعه من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فهؤلاء ما كان يخطر ببالهم أصلاً أن يستحلفوا عليًا على شيء لكرامته عندهم ولجلالة قدره. وإنما لدفع الشبهة التي قد ترد عندما يُسمع هذا الحديث في أجيال تالية.
فدفعاً لمثل هذه الشبهة، وهذا من النظر بنور الله الذي كان خاصة هؤلاء الصحاب الكبار، فدفعًا لهذه الشبهة التي قد تنشأ في هذه الأجيال اللاحقة،أقسم عليّ رضي الله عنه بمن فلق الحبة وبرأ النسمة أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل قال لي، ولم يقل أخبرني، ولم يقل حدثني وإنما قال ـ إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
الفرق بين العهد والخبر والتحديث أن الخبر والتحديث أنا أُخبرك بأمر وأنت تصدقني فستعتبره صدقًا. لكن قد يأتي بعدك من لا يُصدقني فلا يعتبره صدقًا. أنا أُخبرك بحديث أرويه لك عن شخص آخر، أُخبر أنه قد قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا. ليس عندك سبب أن تقول إنني ابتدعته،لكن قد يأتي بعدك من يقول إن العوَّا قد اخترع هذا الحديث.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في ذلك الوقت قد كُذِب عليه، لأن الكذب عليه لم يبدأ إلا بعد الفتنة بين عليّ ومعاوية. أما قبل الفتنة فلم يقع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فمن نظر عليّ رضي الله عنه بنور الله أقسم هذا القسم المُغلَّظ واستعمل هذه الكلمة: إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم. والعهد هو العقد والميثاق. كأن النبي صلى الله عليه وسلم واثقه، عقد معه عقدًا يَعْرِفُعليّ به الناس، من عرفه مُحِبًاله عرف فيه الإيمان، ومن عرفه مُبغضًاله عرف فيه النفاق.
الكلمة الثالثة عن تعبير: "لا يُحب" و"لا يُبغض" ماحكاية الحب والبغض هذه؟ لماذاأُحب عليّ الذي بيني وبينه أربعة عشر قرنًا!لماذا؟.ولماذا يحبه الذين سيأتون من بعدنا من المسلمين إلى يوم القيامة؟.ثم من يبغضه فينا وفيمن بعدنا يكونمنافقًا!لماذا؟.إنه لم يره ولم يسمعه، ولم يعمل فيه معروفًا،فلماذا يحبه؟
إننانحبه لله، سبب الحب هنا وسبب البغض هنا مرجعه إلى الدين. الذين يعرفون لعليّ فضله على هذا الدين، وفضله في مناصرة محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله في الوقوف معه وقت أن كذَّبه كل الناس، وفضله في المبيت في فراشه ليلة الهجرة معرضًا نفسه للموت، وفضله في الثبات معه في المواقف كلها. ما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدًا منذ بُعِث إلى أن لقي ربه إلا كان عليّ بين يديه.
الذي يعرف فضل عليّ في نصرة الإسلام،ونصرة محمد صلى الله عليه وسلم،ورفع كلمة هذا الدين، يعرف أن هذا الشخص يستحق الحب، يستحق الحب لأنهبهؤلاء وصل إلينا الإسلام:«الله أعلم حيث يجعل رسالته»أليس كذلك؟.«الله يصطفي من الملائكة رسلاًومن الناس».والحديث السابق:«ما من نبي قبلي إلا كان له حواريون...»،هؤلاء هم حواريو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الصحابة الذين اصطفاهم الله تعالى ليحملوا عنه الرسالة ويُبلغوها للناس. ولذلك قال:«بلِّغوا عني ولو آية»،وأمرهم بأوامر كثيرة تدل على أنهم هم نقلة الإسلام إلينا.
فنحن مأمورون بحبهم كلهم لنقلهم الإسلام، ومأمورون بحب الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلمفي وقت الأزمة، ونصروه في وقت الشدة، ووقفوا معه في خروجه لأعدائه. الذي يبغُض علياً إذن؟!.لماذا سيبغضه؟ هلقتل أباه؟ هلأخذ ماله؟ هو لم يفعل به شيئًا؛لا يبغضه إلا لأنه يبغض انتصار هذا الدين، لا يبغضه إلا لأنه يبغض نجاة محمد صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لا يبغضه إلا لأنه يؤلمه أن هذا الإسلام انتشر في الأرض، وكاد يبلغ من مشرقها إلى مغربها، أو بلغها بالفعل. فهو يؤلمه أن الإسلام وصل إلى هذه المكانة،ويبغض الذين ساهموا في إيصاله إلينا: وعليٌ رضي الله عنه من أئمتهم. لذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يُحبك إلا مؤمن ولا يبغُضك إلا منافق».
ونتأمل كلمات الحديث مرة أخرى: «عن عليّ رضي الله عنه قال:والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليّ أنه لا يُحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق».
* * * * *
الحديث الذي يليه فيه أيضًا حب وبغض، والحب والبغض فيه لنفس السبب، المنذري جعل له عنوانًا:
باب آية الإيمان حب الأنصار وبغضهم آية النفاق.
والإمام النووي جعل الحديثين في باب واحد عنونه بقوله:«باب الدليل أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان». وفي صحيح مسلم حديث حب الأنصار قبل حديث حب علي. بدأ مسلم بما يعم الأنصار جميعًا ثم ثنَّى بما يخص عليًا رضي الله عنه. الإمام المنذري عكس بدأ بالخاص ثم أتى بالعام. ولكل وجهة.
حديث الباب: «عن عديّ بن ثابت سمعت البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار:لا يُحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله».
هذا الحديث نظير بالضبط لحديث عليّ رضي الله عنه. عليّ نصر النبي صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى أن لقي ربه، والأنصار نصروا النبي صلى الله عليه وسلم من لحظة بيعتهم إياه في العقبة إلى أن لقي ربه. فالذي يُحب الأنصار يُحبهم لخدمتهم الإسلام، ولنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يبغضهم يبغضهم لما نال هذا الدين من رِفعة وانتشار وقوة ومنعة بمؤازرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيوائهم إياه في المدينة.
ثم هناكإضافة: من أحبهم أحبه الله غيرموجودة في حديث عليّ، من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله. ما هذا إلا تحصيل حاصل، ألا يحب ربناالمؤمن ويبغض المنافق؟.الحقيقة أنه ليستحصيل حاصل، إنماهو ترتيب النتيجة على المقدمة. إذا كان الإنسان مؤمنًا يُحب من نصر الدين وآزره، فإن ثمرة هذه المقدمة أن يُحب الله هذا المؤمن. وإذا كان منافقًا يبغض ويكره ويستوحش من ذكر الذين نصروا هذا الدين وآزروه، فإن النتيجة المترتبة على هذه المقدمة أن الله يبغضه. في حديث عليّ لا نعرف النتيجة نعرف فقط المقدمة «لا يُحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»في حديث الأنصار «من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله»فالذي يحب من نصر دينه يحبه الله تبارك وتعالى، ومن يبغض من نصر دينه يبغضه الله تعالى.
* * *
الحديث الذي يليه عنوانه:إن الإيمان ليأرِزُإلى المدينة.
وفيه حديث «أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:إن الإيمان لَيَأْرِزُإلى المدينة كما تَأْرِزُالحيةُإلى جحرها».
يأرز يعني ينضم بعضه إلى بعض، ويلتف بعضه حول بعض.
علماؤنا فهموا هذا الحديث على أنه ظاهره العموم، لأن ظاهر لفظه العموم. وأن معناه أن حال الإسلام في نهاية أمره سيكون كحاله في بداية أمره.أنه سيكون قليلاًومنحصرًافي المدينة المنورة، وليس له وجود إلا فيها كما كان الإسلام في أول أمره بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة.فلم يكن الإسلام إلا في المدينة ثم بدأت الحروب.والحروب أدخلت عددًا قليلاً جدًّا،بعد ست سنوات لم يزد عن ألف وخمسمائة مسلم، وهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية. ثم جاءت هدنة الحديبية فانتشر الإسلام، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عشرة آلاف مقاتل.
فقالوا سيتكرر الحال، كما أن الإسلام في أول الهجرةانحصر في المدينة، ولم يكن إلا فيها؛سوف يعود حال الإسلام في النهاية إلى مثل هذا الحال. هذا ما قاله العلماء في الكتب القديمة.
لكن التأمل في هذا الحديث وفي مجموع الأحاديث النبوية يقود إلى رأي آخر قد يكون صوابًاوقد يكون خطأً. إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطئًا فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه برئيان. عندماتأملت في هذا الحديث، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح:«والذي نفسي بيده ليبلغنَّ هذا الدين ما طلعت عليه الشمس حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله الإسلام (الوبر هو البيت المصنوع من صوف الغنم أو الإبل والمدر هو البيت المبني بالطين أو اللبن أو الطوب) بعز عزيز أو بذل ذليل».
وحديثه الثاني الذي يقول فيه لأعرابي جاء يسأله ما نهاية هذا الأمر؟ (الإسلام الذي أتيت به وتقاتل الناس عليه، ما نهاية هذا الأمر) فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أو تبسم وقال له:«ليبلغن هذا الأمر أن يمشي الراعي بغنمه من صنعاء إلى مكة لا يخشى إلا الله والذئب على هذه الغنم».
طبعاً لا يرعى أحد الآن غنمه من صنعاء إلى مكة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له أنت بدوي وعملك الرعي، تعرف أنك إذا ضربت في الأرض بعيدًا عن حرم قومك بقليل، تخاف أن تأتي قبيلة وتغزوك وتأخذ مالك. وإلى الآن يسمون السطو على أغنام الآخرين أخذ حلالهم(!)
فالنبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بأخلاق هؤلاء البدو الرعاة، قال إن الراعي سيمشي من صنعاء إلى مكة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. وهل هناك رعاة يرعون أغنامهم من صنعاء إلى مكة؟!لكن هذا يقع على سبيل التمثيل، وعلى سبيل التقريب.
إذا نظرناإلى هذا الحديث والحديث الآخر، كمافي غزوة الخندق عندما كان يضرب الحجر ويخرج منه بعض الشرر. هذا الشرر شرر عادي، لكنناسمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في الشرر الأول:«أضاءت لي قصور كسرى»وفي الشرر الثاني:«أضاءت لي قصور قيصر»والرجل كان واقفًا(وهو سُراقة بن مالك الذي كان قد جرى وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يوم الهجرة حتى يقتفي آثارهما ثم غرزت قوائم فرسه في الأرض فقال له: ادعُ لي. فدعا له وأسلم) فسراقة هذا قال له: يا رسول الله،أتُفْتَحُلك قصور كسرى؟ قال: "نعم". قال: "يا رسول الله أليس قلت لي كيف بك وقد لبست سواريَ كسرى؟".قال: "نعم". قال: "أفأنا لابسهما؟".قال: "نعم". فلما جاءت الغنائم في زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انتظر سراقة القسمة، وظلوا يُخرجونأشياءًوأشياءَإلى أن أخرجوا سوارين من الذهب فقال سراقة إنهما له. فسيدنا عمر قال: "كيف؟"قال: "وعدني بهماالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة". فقال: "من كان معك؟"قال: "أبو بكر، من أين آتي بشاهد؟"فإذا عدد من الصحابة الجالسين قالوا: "وعده بها النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى يوم الخندق، عندماقال: أضاءت لي قصور كسرى".
ستضيء له قصور كسرى، ثم في ذلك اليوم أو في يوم بعده في أيام غزوة الخندق سأله رجل: "يارسولالله أي المدينتين تُفتح أولاً:رومية أم القسطنطينية؟".فقال ردًا عجيبًا: "بل القسطنطينية تُفتح أولاً". يعني روما ستُفتح ثانية. وهذا كان في وقت الجوع حتى إنالرجل قال للرسول صلى الله عليه وسلم:"تعالوا كلوا عندي كتف شاة". فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجيش كله. فقالت له زوجته:"فضحتنا، جئت بالجيش كله على كتف شاة فقط". فرد عليها إنه لم يقل لأحد، وإنما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في السر. فقال النبي لهم: إن جابرًاقد صنع لكم طعامًا. فجاءوا كلهم يأكلون، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة على الطعام.قال:"لا تكشفوا الطعام حتى آتيه"فجعلوه مغطىً، فلما جاء وضع يده في داخله ودعا عليه بالبركة، فأكلوا وشبعوا ونزعوا والطعام كما هو. الله تبارك وتعالى بارك فيه، وهذه قدرة الله، وهي ليست بعيدة عنه.
وفي هذه الظروف الصعبة يأتي رجل ويسأله أي المدينتين تُفتح أولاً رومية أم القسطنطينية؟ فيقول له: "بل القسطنطينية تُفتح أولاً". متى فُتِحتالقسطنطينية؟ بعد أكثر من ثمانمائة سنة. من الذي يستطيع أن يتنبأ بأمر يحدث بعد ثمانمائة سنة؟ ستظن به الظنون. لكن إذا كان نبيًا يتحقق ما قاله مهما طال الزمن لأنه يأتيه النبأ من السماء.
إذا جمعناهذه الأحاديث كلها، ونظرنافي ضوئها إلى قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الإيمان ليأرِزإلى المدينة كما تأرِزالحية إلى جحرها».ثم نظرنا إلىكلام إخواننا وأساتذتنا ومشايخنا وعلمائنا الكرام رحمهم الله؛ إنهميقولونإن هذا معناه عود الأمر على بدئه كما كان سابقًا: بدأ الإسلام قليلاًومستضعفًافي المدينة وحدها، ويعود في النهاية قليلاً ومستضعفًا.
فلو صح هذا التفسير يكون هناك تناقض. فما معنى هذا الحديث؟
معنى الحديث أن قلوب المؤمنين وأفئدة المؤمنين تهوي إلى المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، كما كانت تهوي قلوب المؤمنين وأفئدتهم إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم فيها. ألسنا نعرف أن عدداً من الناس لا يقل عن عشرة، فيما جمعت، جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة يقولون: يا رسول الله جئناك مهاجرين. يقول لهم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. الذي يريد أن يُقيم في المدينة يُقيم، أنتم لستم مهاجرين، أنتم الآن تأتون بنية الجهاد وبنية الإسلام وبنية نصرة الدين.
وكل واحد فينا يذهب ليعتمر أو يحج، وهو في أثناء الحج،ألا يكون متشوقًا للمدينة؟ أنا لا أعرف مسلمًا لا يُحب المدينة المنورة، ولا يتمنى أن يذهب إليها.
هذا الشعور من أين جاء؟ جاء من حب الأفئدة لمثوى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى أن الإيمان يأرزإلى المدينة كما تأرزالحية إلى جحرها. ينضم فيها كل قلب مؤمن، يحبها كل رجل وكل امرأة مؤمنة، يتمنى أن يعيش فيها كل من استطاع أن يعيش فيها.
هل تعرفون المجاورين، هم ناس كانوا يذهبونإلى الحج ثم لا يعودون. بعضهم كان يجاور لطلب العلم، وأغلب الذين كان يأخذهم الحب النبوي كانوا يجاورون في المدينة. يسمعونعلمًا، ودروسًاووعظًا، إنما هم ذاهبون ليجاوروا النبي صلى الله عليه وسلم، ويوصون،إذاماتواأنيدفنوا هناك.
فأنا أفهم هذا الحديث على فهم آخر غير أن الإيمان سيضعف. الإيمان لن يضعف. نحن الذي نراه في أيامنا هذه أن الإيمان يقوى ويزداد وينتشر. وقوته وزيادته وانتشاره هي سبب حرب الآخرين له. ومعنى عودته إلى المدينة أو أنه يأرزإليها كما تأرز الحية إلى جحرها، هو معنى حب الناس لهذه المنطقة التي آوت النبي صلى الله عليه وسلم، ونصرته وأيدته وبقي فيها بعد أن ترك مكة، إلى أن لقي ربه سبحانه وتعالى.
مِثْلُ هذا الحديث حديثُ «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء»هذا الحديث أيضًا يفسره العلماء أن الإسلام كان ضعيفًا، وكان المسلمونيُضْرَبون ويُعَذَّبون، وفي الآخر سوف يُضرب المسلمين ويؤذونويُعَذبون. وقد سمعت كثيراً من إخواننا عندماحدثتالفتن مع الحكومات، واعتقلوا ثلاثين ألفًاأو عشرين ألفًا، وأدخلوهم السجن وعذبوهم، سمعتهميقولون: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا.
المعنى ليس كذلك، المعنى أن الإسلام بدأ غريبًا إذ تكالبت الدنيا كلها على حربه. قريش قوم النبي صلى الله عليه وسلم هم أول من حاربه، ثم ألبوا عليه قبائل العرب، وعملوا أحلافًاومعاهدات لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب الرسول صلي الله عليه وسلم إلى المدينة،ووقعتبدر وأُحد، ولم يجتثوا الإسلام. عملوا هذا التحالف الضخم وهو تحالف الأحزاب، وحدثت غزوة الأحزاب. ثم تآمروا عليه لقتله عدة مرات. هذه الحرب التي واجهها محمد صلى الله عليه وسلم.وهو رجل فرد في نفر قليل لا يزيدون عن ثلاثين أو أربعين حسب الروايات في دار الأرقم، إلى أن أسلم عمر. ثم الحروب الحقيقية التي كان فيها القتل والتمثيل بجثث القتلى، وإهانة جثمان حمزة رضي الله عنه وغيره من الصحابة. هذهالحرب البشعة كانت ضد كم إنسان؟ قلت قبل قليلإنهم ظلواست سنوات في المدينة وقبلها اثني عشر سنة ونصف في مكة لم يزد عددهم عن ألف وخمسمائة. والعرب كلهم متكالبين عليهم،وكذلك الروم.
إذنحال الإسلام في آخره من حيث الغربة هو حاله في أوله من حيث الغربة: أن يحاربه الناس جميعاً، وأن تتكالب عليه القوى جميعًا، ويحاول كل من ليس على ملة الإسلام من أمم الأرض أن يستأصل شأفة المسلمين، ثم يؤول مآله إلى ما آل إليه الإسلام الأول الأمر مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:«ليبلغن هذا الدين ما طلعت عليه الشمس حتى لا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا دخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل».
فلا تقرؤوا هذه الأحاديث متصورين أن الإسلام مقبلعلى حالة ضعف وهزيمة، ولا تتصوروا أن احتلال بغداد وأفغانستان، أو ضرب السودان أو ضرب الصومال، أو غدًا إذا حدث وضربت إيران أومصر أو السعودية، أو تغيرتالمناهج الدراسية. لا تتصوروا أن هذه هزيمة، هذا تكالب الأمم علينا كما تكالبت على محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم مسلمي الأزمنة المتأخرة:«يأتي زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر».وقال لهم في حديث آخر:«يأتي زمان يكون عمل الرجل فيهم بعمل خمسين»، وفي رواية بعمل مئة. فقالوا له: «منهم يا رسول الله؟ (يعني من أهل ذلك الزمان) قال لهم: لا بل منكم، فإنكم تجدون على الخير أعوانًا ولن يجدوا عليه أحد».
فنحن لا ندري أي زمن هو زمننا، هل عملنا بعمل واحد، أم بعمل ربع؟، نرجو أن يكون بعمل ربع أو نصف منهم. لكن ستأتي أزمان يكون عمل الرجل في الإسلام، في نصرة الدين، وفي الدفاع عنه أمام مخالفيه بعمل مئة من الصحابة. وهذه الأزمان هي أزمان حرب الإسلام، والتي نرى منها فصلاً الآن.
فليس ما جاء في هذه الأحاديث، وما جرى مجراها، تنبؤًا أو خبرًا صحيحًا من النبي صلى الله عليه وسلم بضعف يُصيب الإسلام، بل هو خبر بقوته وانتصاره وانتشاره، كما انتشر وقوي وانتصر في أول أمره.
* * * * *
الحديث الذي يلي هذا عنون له المنذري بباب الإيمان يمانٌ(يمان يعني من ناحية اليمن) والحكمة يمانية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:جاء أهل اليمن،هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا. الإيمان يمان والحكمة يمانية. السكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر قِبَلَ مطلع الشمس».
جاء أهل اليمن وهم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا. قالوا رقة الأفئدة وضعفها هو سرعة استجابتهم للتذكر والتذكير والوعظ. والذين يعرفون أهل اليمن يقولون حتى اليوم إنهم إذا وعظهم واعظ بكوا. والبكاء هذا فطرة فيهم من رقة في قلوبهم جعلها الله تبارك وتعالى خصيصة لهم. فرقة القلب وضعفه ليس معناها الجبن أو الخور أو عدم العزيمة، إنما معناها قوة الإيمان وسرعة الاستجابة لداعي الخير، وسرعة الاستجابة للذي ينهى عن الشر.
الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية.قال العلماء في شرحهم لهذا الحديث إن الذي جاء فيه من أوصاف أهل اليمن هو وصف للجماعة الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الزيارة، هم قوم أبي موسى الأشعري. كان أبو موسى قد سبقهم ثم جاء الأشعريون. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب هؤلاء الأشعريين حتى مدحهم في حديث فقال:«الأشعريون مني وأنا منهم، كانوا إذا قَلَّتْأزوادهم في السفر جمعوها في سماط واحد أو ثوب واحد فأكلوا منها جميعاً، فهم مني وأنا منهم».
فالنبي صلى الله عليه وسلم مدح الأشعريين في مواطن كثيرة، ومن بين مواطن مدحهم موطن وصولهم إليه ليبايعوه علىالإسلام. فلما جاءوا مدحهم كما تحيي ضيفك. فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول لهذا الوفد من أهل اليمن، من الأشعريين الفضلاء، إنهم قوم طيبون صالحون، وإنه يعرف إيمانهم ويعرف صدق قبولهم لدعوته، ومجيئهم إليه مخلصين.
ثم ذكر شيئاًيفهمه أهل الحجاز وما حولها؛أهل مكة والمدينة والطائف وغيرها:"السكينة في أهل الغنم".كل هؤلاء أهل غنم، كل هذه المنطقة يرعون الغنم، أغلب رعيهم للغنم وأقل رعيهم للإبل، ويستعملون الإبل عادة في السفر. والإبل هي سيارات النقل عندنا الآن، أما ثروتهم الحقيقية فهي الأغنام.
"السكينة في أهل الغنم" السكينة هي الطمأنينة والسكون وعدم الضجة، تجد راعي الغنم يمشي ويدندن بهدوء، أو يقول قصيدة أو أبياتًامن الشعر النبطي. راعي الغنم تجده ساكنًالأنه لو صاح تفزع الغنم، ولو عَلاصوته في الرعي تنزعج الغنموتجري بعيدًا. فطبيعة الغنم تقتضي من راعيها أن يكون ساكنًا. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من نبي بعثه الله إلا رعى الغنم.قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟.قال: حتى أنا،كنت أرعى على قراريط من أهل مكة"(يعني على نصيب من إنتاجها الذي تلده)».فلماذا دُرِّب الأنبياء برعي الغنم؟ لأن رعي الغنم ينبت السكينة في النفوس. أليست كل مهنة تطبع صاحبها بطابعها؟ الصياد مثلاً يسمعك ساعتين ثم يقول لك نصف كلمة، قول فصل، كأنه اصطاد السمكة ويجب أن يضعها في السلة لئلا تفلت منه.
فكذلك كل مهنة لها خُلق، فمن أخلاق الرعاة السكينة والطمأنينة والصبر لأنه بذلك يُسمن غنمه. ولو كان مستعجلاً مثل هبنقّة الذي ذهب ليرعى غنمًاسمينة في أحسن مرعى وغنمًاضعيفة وهزيلة في مرعى سيء، فمرت به امرأة ترعى الغنم فقالت له: "يا هبنقّة أترعى الإبل السمينة في الأرض الخصبة وترعى الإبل الهزيلة في الأرض المجدبة؟!".قال: "يا حمقاء أتريدين أن أسمن ما هزل الله وأهزل ما سمَّن الله؟!".
لكن الراعي العاقل يكون فيه سكينة وطمأنينة ويرتاد بغنمه المكان المناسب والماء المناسب والمرعى المناسب حتى تكبر.
فالنبي كما مدح أهل اليمن مدح من حولهم ممن كانوا تعودوا الرعي، وهو لم يمدح الذين جاءوا فقط، كأنالقاعدين لا يستحقونشيئاً؟،إنهم ينصرونهمنذعشر سنين واثنتيعشرة سنة، ومنهم من قُتِل أبوه أو أخوه، فمدحهم هم أيضًا،وقال السكينة في أهل الغنم.
ثم قال «الفخر والخيلاء في الفدَّادين». الفدَّادين جمع فدَّاء وهم الذين يرفعون أصواتهم في رعي الإبل أو رعي الخيل. وهؤلاء لم يكن أحد منهم جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم أهل المشرق، أهل اليمامة، أهل نجد والعراق، ولم يكن أحد منهم قد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، بالعكس، في الأحاديث الصحيحة الشيطان لما كان يتمثل لقريش حتى يغريهم بفعل السوء بمحمد صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم في صورة شيخ نجدي ثائر الرأس. فكانوا مصدر عدم طمأنينة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومصدر قلق. ونحننعرف أنه لما وقعت حروب الردة،كان أقصى وأقسى ما حدث فيها من حروب هي الحروب التي كانت من مسيلمة في اليمامة، وقتلوا أكبر عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى خشي عمر، أو خشي حذيفة على القرآن أن يضيع وجاء مسرعًايقوللعمر: "أدرك القرآن قبل أن يضيع كما ضاعت الكتب السابقة". وقال له إن سبعين من القراء (يعني حفظة القرآن كاملاً) قُتِلوا يوم اليمامة، في يوم واحد. ومن هنا جاء جمع القرآن فكان في هذا الشر خير كثير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:"السكينة في أهل الغنموالفخر والخيلاء في الفدَّادين أهل الوبر(الذين يرعون الإبل وما شابهها من الأنعام) قِبل مطلع الشمس" عندما يكونالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة،فهذه المنطقة تكون شرقه واليمن جنوبه. فالذين جاءوا من الجنوب والذين معه في الوسط قال عنهم أهل سكينة وحكمة وروية. والذين هم هناك،قِبل المشرق، لم يأتوا، وكان الشيطان يتمثل في صورتهم. وارتدّوا بعد أنمات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء كلامًالطيفًاجدًّا، قالوا: "هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ستأتي أزمان يُسلِم فيها هؤلاء الناس، ويدافعون عن الدين، وينصرون الملة، ويُصبحون أهل التوحيد. وقد رأينا بعد محمد بن عبد الوهاب أنه قُضِيَ على فكرة عبادة القبور والأشجار والأحجار، وهم الآن يعتبرون أنفسهم الموحدين فقط.ونحنكلنا عندنا شركيات أو بدعيات(!) فالوضع الذي حكاه الرسولصلى الله عليه وسلم عن أهل تلك المناطق كان متعلقاً بزمنه صلى الله عليه وسلم.
وهناكرأي آخر وهو رأي صحيح: أنهذا سيكون في آخر الزمان حيث ستحدث الفتن والهرج والمرج في هذه المنطقة من العالم، وسيحمي الله بيته، وحرم نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تصيبهما الفتن والمصائب وما إليها.
والقاضي عياض قال أجمل من هذا، قال لماذا نخوض في هذا؟ أمِرُّوه كما جاء فلعله من المتشابه. أنتم لاتعرفون حقيقة المقاصد؟ اتركوه كما جاء. النبي صلى الله عليه وسلم قال هكذا،فأمِرُّوه كما جاء، مثل أحاديث الصفات وأحاديث الذات، وكلام الله تبارك وتعالى، واليد والرجل والوجه.. إلخ قال أمِرُّوه كما جاء فلعله من المتشابه فاسكتوا عنه.
فمن أراد أن يفهم الحديث على نحو ما فهمه الشُرَّاح، ومن أراد أن يعتبر الحديث مما سيحدث في آخر الزمان فهو علم لا نعرفه. ومن أراد أن يقول إنه من المتشابه فيتوقف فيه فهو على صراط صحيح من أقوال العلماء السابقين، وكفى بعياض سلفًا.
* * *
الحديث الذي يليه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (هو وأبوه صحابيان) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:غِلَظُ القلوب والجفاء في المشرق والإيمان في أهل الحجاز».
ولا تنافي بين الحديثين لأن كلمة الحجازإذا أُطْلِقَتجغرافيًا،تشمل اليمن. فكيف قال الإيمان في الحجاز وهو في الحديث السابق قال الإيمان يمان؟ قالوا:لا تنافي بين الأمرين لأن الحجاز إذا أُطلقت تشمل الجنوب إلى اليمن.
أو لا تنافي بين الأمرين لأنه وصف في حديث اليمن الذين جاءوا إليه وليسكل أهل اليمن إلى يوم القيامة. ووصف في حديث الحجاز من أسلموا ونصروه، وإلا فقد كان في الحجاز أبو لهب وأبو جهل، فكيف يكون هؤلاء هم أهل الإيمان؟ إنما يصف في هذا الحديث أهل الإيمان من أهل الحجاز كما وصف في حديث اليمن أهل الإيمان من أهل اليمن.
لذلك قلتمن قبل، ولا أملُّأن أقول: لابد أن نفهم الأحاديث على وجهها الصحيح، لأننالو أخذناها على إطلاقها كما هي نعتبرأنأهل نجد هم أهل الشياطين، أو أنهم أهل الكفر. والرواية الأخرى أنهم أهل الخيلاء وأهل الفساد، بينما في أهل نجد كثيرون من الصالحين الطيبين، والتاريخ رأى منهم نُصرة للإسلام، وحماسة له وحمية.
لو أخذناه على إطلاقه يكون كل أهل اليمن هم أهل الإيمان، وهناكأناس والعياذ بالله ليسوا كذلك. هناكأهل حكمة وهناكحمقى، كما في كل الدنيا هناكأهل حكمة وأهل حماقة.
إنما هذه الأحاديث كانت خاصة إما بالقوم الذين وردوا على النبي صلى الله عليه وسلم من أهل اليمن الأشعريين، وإما بمن كان في زمنه. وإما بقوم مخصوصين نصروه وأيدوه ودافعوا عن الإسلام معه.
* * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري في قوله: من لم يؤمن لم ينفعه عمله الصالح.
رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله ابن جدعان (وهو عبد الله بن جدعان)كان في الجاهلية يصل الرحم ويُطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يومًا اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
ابن جدعان كان من أقرباء أبيبكر، كان تيميًا من بني تميم بن مرة، وبني تميم بن مرة كانوا قبيلة أبيبكر، فكان قريبًا لعائشة، من أقرباء أبيها ولهذا اهتمت بأمره. لأنهكان هناكأناس كثيرونفي الجاهلية يعملونالخير. لماذا لم تسأل السيدة عائشة إلا عن عبد الله بن جدعان، لأنه من بني تميم بن مرة من أقارب أبي بكر، يتصل بأبي بكر بالعمومة،وكان طيبًا، يصل الرحم، ويُطعم المسكين، وهو الذي كان يأتي بالقفيز الذي به قمح ويضعه على البعير ويوجه البعير ناحية بني هاشم، عندمارأى بني هاشموقدحُصِر فيهم النبي صلى الله عليه وسلم. كان يجيءبالبعير ويحمِّلُه قفيزًامن القمح، ويضربه على ظهره وهو موجهه ناحية الشِعب حتى ينطلق إلى هناك فيأخذه المحاصرون ليأكلوه.
فقالت له:"إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويُطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟"هل ينفعه ما كان يفعله من خير في الجاهلية؟،قال: "لا ينفعه،لأنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ما معنى هذهالحكاية؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إنه لم يكن مُصدقًا بالبعث."رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"لا يقولها إلا مصدق بأن بعد الموت بعثًا وحسابًا ونشورًا. وبعد البعث والحساب والنشور إما الجنة إما النار. هو لم يكن مصدقًا بالبعث لأنه كان من أهل الجاهلية ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أجمع العلماء بسبب هذا الحديث وغيره من الأحاديث والآيات التي في معناه، على أن الأعمال الصالحة لا تنفع الكفار.
أقوى دليل على هذا هو ما جاء في القرآن الكريم، في سورة النور في بقول الله تبارك وتعالى:«والذين كفروا أعمالهم كسراب بقِيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب».ضرب هذا المثل لأهل البوادي، أهل الصحراء. وضرب مثلاً لأهل السواحل،قال:«أو كظلمات في بحر لُجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور».
فهذه الآية وهذا الحديث، وأمثاله، دليل على أن أعمال الكفار لا تنفعهم. الذي كان كافرًا وأسلم، أو الذي كان عاصيًاوتاب، أو كان مجرمًاواستغفر،هلتنفعه الخيرات التي عملها في حال الكفر أو في عصيانه أو في حال إجرامه أم لا تنفعه؟ نعم تنفعه؛لأن الرجل الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: "يا رسول الله،عملت في الجاهلية، وعملت في الجاهلية فهل لي من ذلك شيء؟"قال له:«أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير»كل الذي عملته في أيام جاهليتك منقول إلى حسابك بعد أن تدخل في الإسلام، لأن الله لا يُنقص الناس أشياءهم فكيف يُنقص الذين آمنوا أشياءهم. أما الكافر الذي بقي كافرًاومات كافراً،فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى.
انتبهوا،لقدقلتُإن الأعمال الصالحة لا تنفع الكفار، لكنيلم أقل إنه سيدخل الجنة أم سيدخل النار،لأننا لا نعرف. إنما الذين عملوا الصالحات فلم تنفعهم هل ينفعهم شيء آخر أم لا ينفعهم؟ هل تنفعهم رحمة الله؟هل تنفعهم سعة عفو الله؟هل ينفعهم أن الله اطَّلع منهم على شيء لم نطَّلِع نحن عليه؟ هذا أمره مفوض لله، نحن لا نتكلم فيه. نحن لا نتكلم عن الجزاء الأخروي. النبي صلى الله عليه وسلم عندماقال لها تنفعه أو لا تنفعه كان يتكلم عن الأعمال: يصل الرحم ويُطعم المسكين،فهذه أعمال مادية. أما ما لا نطَّلع عليه من أعمال أخرى فأمره إلى الله تعالى، لا نحكم عليه لا بجنة ولا بنار، إنما نحكم على من يفعل كذا فهو كافر، ومن يفعل كذا فهو مؤمن. وحساب هذا المؤمن وحساب هذا الكافر عند ربنا تبارك وتعالى وليس عندنا.
* * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري بباب لا تتدخلون الجنة حتى تؤمنوا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
هذا حديث من أعظم الأحاديث التي ينبغي أن نتعلمها ونتأدب بأدبها، ونراعيها في أنفسنا. ولازلتأذكر واحدًامن أساتذتنا رحمه الله ،الأستاذ صلاح شادي، كان يعيشفي مدينة نصر في آخر أيامه. فلما توفيوذهبنا لجنازته وجدنا معظم بوابين الشارع واقفين على باب البيت، عدد كبير على غير المعتاد. عادة تجد واحدًاأو اثنين، لكن هؤلاء كانوا عشرين أو ثلاثين واحدًا. فسلموا علينا. فأخونا العزيز المهندس مراد الزيات، وهو زوج ابنة صلاح شادي لفته المنظر، وهو شديد الذكاء، ولا يترك شيئًا إلا ويسأل عنه. فقال لواحد منهم: كتر خيركم تعبتم أنفسكم. فقال له: "لا أحد يقول لنا السلام عليكم أثناء ذهابه ومجيئه إلا هو."فجاء هؤلاء يُعزون فيه وهم لا يعرفونه شخصيًا لأنه كان لا يمر عليهم غاديًا أو رائحًا إلا ويقرأ عليهم السلام. فهذا هو إفشاء السلام في هذا الحديث.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا»
ها نحن قدعرفنا الإيمان، أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. هنا جاء لنا شرط جديد في الإيـمان «ولا تؤمنوا حتى تحابوا».إذن، ليس مجرد أن أؤمن بالأركان الستة للإيمان والخمسة للإسلام وأؤديها، ولكن فوق ذلك أن أُحب أخي المؤمن، وأُحب أختي المؤمنة، وأُحب الرجل المؤمن الذي لا أعرفه، يكونُ في أقصى الأرض وأُحبه،ولا أعرف أنه موجود أصلاًوأحبه. يعني أحب معنى الإيمان، أُحب هذا الرمز الذي إذا وجِد في أي مكان كان بيني وبينه قربة وصلة ووشيجة ولُحمة.
نحن نقول العلم نسب أو رحم بين أهله، والإيمان نسب ورحم وأُخوة لأن ربنا سبحانه وتعالى يقول:«إنما المؤمنون إخوة»ففوق النسب وفوق المصاهرة تأتي الأُخوة. فلا تؤمنوا حتى تحابوا.
ثم ما هو طريق الحب؟:«أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم. أفشوا السلام بينكم».
قال العلماء إن هذا الحديث أيضًا على ظاهره وإطلاقه. يعني لا يدخل الجنة إلا المؤمن، هذا فيما نعلمه في أهل الدنيا. فالمؤمنون الذين نعلمهم، ونعرف إيمانهم في الدنيا نحكم لهم بأنهم أهل الجنة، فهذا شرط دخول الجنة. ولا يكمل الإيمان إلا بالتحاب، يعني الشرط الذي جاء به هذا الحديث، شرط كمال وليس شرط وجود. هل تعرفونالفرق بين الوجود والكمال؟ الإنسان العاري من كل ملبس هو إنسان، والإنسان المستور بملابس رثة وممزقة هو إنسان. والإنسان المستور بلباس متوسط هو إنسان، والإنسان المستور بلباس أنيق نظيف مغسول هو إنسان مكتمل. فالتحاب شرط كمال في الإيمان وليس شرطًا في الوجود. يوجد الإيمان بدون تحاب، قد يكون مؤمنًا لكنهفظ، مؤمناً،أويأكل أموال الناس، مؤمنًاوكلما رأيتهتقول أعوذ بالله،ليتني لم أُقابله، يصلي ويصوم ويحج ومع ذلك يكون فظًاغليظ القلب، وخشن الحاشية لا تحبه. لكن الذي يكون رقيق الحاشية وطيب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أُنبئكم بأقربكم مني مجالس يوم القيامة. أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا(فهذا كناية عن المبالغة في التواضع للناس) الذين يألفون ويؤلفون»(يعني الذين يُحِبُّون الناس فقط؟.. لا، وإنما الذين يحبهمالناس أيضًا).
ومعنى لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا قالوا: خذوا بالكم، ليس معناه أن غير المتحابين لن يدخلوا الجنة. الذين هم غير متحابين بغِلَظِحاشيتهم وجفاء أخلاقهم، هؤلاء يدخلون لكن ليس في الأول، ليس مع الناس الأولين والأفاضل، ليس مع الطيبين الصالحين. هؤلاء سيتأخرونقليلاً. قلنا من قبل إن هذا التأخير شيء فظيع جداً، حين تدنو الشمس من رؤوس العباد. فنسأل الله ألا يؤخرنا. حتى أصحاب الحقوق عندما يأمر ربنا بتأخير المسلمَيْنِالصالِحَيْنِاللذَيْنِبينهما خصومة في الدنيا، فيقول أخرواهذَيْنِحتى يصطلحا، ينادي كل منهما: حقي لصاحبي ولا تؤخرنا. كل واحد يتنازل عن حقه لأن الوقوف في هذه الشمس شيء فظيع.
قالوا:أما غير المتحابين من السخفاء البخلاء، فهؤلاء سيدخلون الجنة ولكن في الآخر. إذن، فلا تدخلون يعني لا تدخلون في أول الأمر إذا لم تكونوا من المتحابين.
الحديث أَمَرَببذل السلام للجميع:«أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموهتحاببتم. أفشوا السلام بينكم».
يقول القاضي عياض: هو أمر بإفشاء السلام للجميع لأنه أول أسباب التآلف وأعظم أسباب التواضع والتعود عليه.
لا يتواضع إلا المحب، الذي لا يعرف كيف يحب لا يعرف كيف يتواضع.
قال القاضي عياض: "به (بالسلام) تنفتح المودة ويظهر الشعار المميز للمسلمين دون سواهم" ليس هناك أحد من الملل الأخرى أُمِر بإفشاء السلام، لا يقول السلام عليكم أثناء سيرهم إلا المسلمون. مجرد هذا السلام هو إظهار لشعار المسلمين.
قال إن هذا الموضوع ليس فقط جلبَمنفعةٍ، ولا يقتصر أمر السلام على جلب هذه المنافع وإنما يمتد إلى دفع المضار فإنه يقطع دابر الشحناء.
قال: إنه يدفع التقاطع والشحناء، ويقطع دابر التدابر ويمنع فساد ذات البين (التي هي الحالقة) والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«...ألا وفساد ذات البين، ألا وفساد ذات البين، إنها الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين»فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى فساد ذات البين الحالقة، والسلام يُضَيِّعُفساد ذات البين.
وقال القاضي عياض: وليعلم الأخ المؤمن أن السلام لله فلا يتبعن أحد فيه هواه.وهذا كلام صحيح فقد أخرج البخاري عن عمار بن ياسر ـ ورفعه غير البخاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار»
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(9)
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(9)
الحديث الأول لقراءة الليلة هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لا يزني الزاني حينيزني وهو مؤمن،ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».وكان أبو هريرة يلحق معهن «ولا ينتهب نُهْبَةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»وفي رواية صحيحة أخرى في مسلم «ولا ينتهب نُهْبَةً يرفع المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن»وزاد همام (وهو راوي الرواية الثانية الصحيحة) «ولا يغُل أحدكم حين يغُل وهو مؤمن».
وقد عنون له المنذري بعنوان: باب "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
الحديث فيه مجموعة من المعاصي هي الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب. والانتهاب غير السرقة، الانتهاب هو المجاهرة بأخذ ما لا يحل للإنسان أن يأخذه. مثل الذين تسمعون عنهم في الصحف؛الذين يستولون على أموال الدولة، ويستولون على قروض البنوك، ويستولون على أموال القطاع العام ويستولون على التأمينات وعلى الأراضي الزراعية المؤممة والمُصادرة فيما سُمي بالإصلاح الزراعي الذي تحول إلى أشياء أخرى كثيرة. فهذا هو الانتهاب، الانتهاب أن يكون الشخص له نفوذ وسلطان. إنهميأخذونالآن حتى الطرق، يقفلونها ويُدخلونها في بيوتهم، أو يعملونها مواقف لسياراتهم. الانتهاب هو الأخذ مغالبة بسطوة النفوذ والسلطان.وهذا لا يعمله إلا الحكام وأتباعهم وأشياعهم، أو البلطجية في البلاد التي ليس فيها حكومات. حين يقولالنبي صلى الله عليه وسلم:"يرفع الناس إليه أبصارهم".وفي الرواية الثانية "يرفع المؤمنون أعينهم فيها وهو ينتهبها".هذا معناه أن المسألة ليست خفية. لا يأخذ شيئًافي السر، بل يأخذه كل الناس يرونه بأعينهم، ويعرفونأنه حرام، ويعلمون أنه يأخذه بغير حق، وهو يعلم أنهم ينظرون إليه ولا يقيم لهم وزنًا. ولذلك قال العلماء فيتفسير كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم "يرفع الناس إليه فيها أبصارهم" أيهم ينظرون إليه حين يأخذها، قالوا لأن ذلك دل على الاستهانة بحقوق الخلائق، والاحتقار لهم، وعدم إقامة وزن لمشاعرهم. هم يشعرون أنهم لا يستطيعون أن يأخذوا حقهم وهو يأخذ ما ليس حقه وينتهبه.
المعنى الذي يدور حوله الحديث أنه لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهومؤمن..." له عدة معانٍ عند العلماء.
أولها أنه لا يفعل واحدة من هذه الأشياء وهو كامل الإيمان، وقت الفعل يكون إيمانه ناقصًا. وقت مقارفة هذه الجريمة يستحيل أن يجتمع في قلبه كمال الإيمان والقدرة على مقارفة هذه المعصية. فعندما يقع في هذه المعصية يكون إيمانه غير كامل، إيمانه ناقص، حسب نوع المعصية التي يعملها، وحسب وقوعها من قلبه. لأن هناك إنسان تراه يعمل المعصية وهو نادم عليها حال فعلها. هذا إيمانه موجود، وشاعر أن الشيطان غلبه، يقول يا رب أخلص من هذه المعصية بسرعة حتى أرجع وأتوب وأستغفر. وآخر يعمل المعصية وهو غير مدرك أنه يعصي، قد يدرك لاحقًا ويفيق ويتوب، وقد يكون في لحظة المقارفة للفعل المُحرم غير منتبه إلى أن هذا فعل مُحرم، فهذا ران على قلبه، إيمانه ضعف جدًّا وناقص جدًّا. ولذلك قالوا إنه "لا يفعل كذا وهو مؤمن". قال العلماء إن هذامن طريقة العرب في إطلاق لفظ النفي، ويُراد به نفي الكمال وليس نفي أصل الشيء. المراد به نفي كمال الإيمان، يعني الذي يفعل ذلك ليس كامل الإيمان ولا يُراد به أنه كافر، لا يُراد به أنه يخرج من الملة.
أمس بعد صلاة الجمعة سألني شخص عن رجل وقع في معصية الزنا، وبعد سنين طويلة جدًّا أكثر من خمسة عشر سنة علمت زوجته بأنه وقع في هذه المعصية. فشكته للشيخ، فقال لها إنه كافر وينبغي عليك أن تُطَلَّقي منه فورًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".فالسيدة لجأت لصديق للعائلة وسألته فقال لها: "لا أستطيع أن أُفتيك لكن سوف أسأل. فسألني فشرحت له هذا الحديث، فكأنما أُنقذ وتنفس الصُعداء. وقال: "هل تستطيع أن تكلم زوجة هذا الرجل. فكلمتها وشرحت لها،فبكت. فالشيخ ظل يُضللها شهورا عديدة. وهذا من عدم العلم بمعاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويقع مثله عدم العلم بمعاني كلام الله تبارك وتعالى.
زمان قلت للشباب إن قول الله:«ولا تواعدوهن سرًا إلا أن تقولوا قولاً معروفًا»في المرأة المعتدة التي لا يجوز أن يُصَرَّح بخطبتها وبالرغبة في الزواج منها إلا إذا انقضت عدتها بعد وفاة زوجها.
فهؤلاء الأولاد فسروها على أنه من حقأحدهمأن يخرج مع صاحبته ويجلس معها في أي مكان، ويذهب بها للنادي والكازينو والسينما، طالما أنه لا يقول لها شيئاًغلطًاأو حرامًا.مع أن هذا الخروج نفسه غلط وحرام، وما يجري فيه كله، حتى لو قرأفيه قرآناًيكون غلطًاوحرامًا، لأنه يقرأ قرآن معها في وقت لا يجوز أن يختلي فيه بها ولا أن يجلس معها...الخ
فالخطأ في تفسير كلام الله تبارك وتعالى، والخطأ في تفسير كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يوقعنا في هذه الموبقات المهلكات ونحن لا نعلم.
فأول معنى قاله العلماء أن المرتكب لواحدة من هذه المعاصي يَنْقُصُ إيمانه، لكنه لا يُنفى عنه.
المعنى الثاني الذي قاله العلماء في مسألة نفي الإيمان هنا،أنه ينطبق على المُستحِلِلفعل هذه الأشياء: المُستحِل للسرقة،والمُستحِل للزنا، والمُستحِل للانتهاب. المُستحِل لهذه الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى الثالث الذي قالوه، قالوا معنى "لا يفعل كذا وهو مؤمن" أن نور الإيمان يُنزع من قلبه، فإذا تاب رده الله تبارك وتعالى إليه، وإذا بقي مُصِرًا على معصيته لا يعود نور الإيمان إلى قلبه، ويُظْلِمُقلبه. وهذا مثل الحديث الآخر:الذي وصف القلوب بأن بعضها يصبح «مربادًّا «كالكوز» مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا»هذا هو الذي وصفه الله تعالى «بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون»فقالوا هذا (أي نفي الإيمان يعني) نزعُ البصيرة ونور الإيمان من قلبه حال المعصية. فإذا أصر (أصر يعني أبى أن يتوب) فالذي يتوب من نفسهأو عندما يخبره أحدغير مصر. إنما المُصِر هو المصمم الذي يستمسك بفعل هذه المعاصي والموبقات دون أن يتوب عنها. أما الذي يتوب أيما كان سبب توبته فليس بمصر.
ولذلك رُوِيَ عن عبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قالا:"ما أصر من استغفر".وعبد الله بن عباس قال:"وإن عاد في اليوم والليلة مئة مرة".فالناس استشكلوا هذه المسألة: كيف يستغفر ويعود؟ قالوا: نعم إذا استغفر استغفارًا صحيحًا ثم غلبه الشيطان فعاد إلى معصية، سواء معصية سابقة أم أخرى فهذا ليس مصرًا. إنما المُصِر هو من يأبى الاستغفار أصلاً. ألا ترىإنسانًاإذا قلتله: اتق الله. تأخذه العِزة بالإثم،كما قال الله تعالى:«وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم».والعياذ بالله. فهذا إذا قلت له اتق الله يرجع، فإذا رجع فليس بمُصِر.
كيف دلَّ العلماء على هذه المعاني؟دلّهم عليها أولاً قول الله تبارك وتعالى:«إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء»فهذه المعاصي،بنص القرآن الكريم،تُغفر بالتوبة، وتُغفر بالإنابة، وتُغفر بالاستغفار، وتُغفر بفضل الله ورحمته، وتُغفر بالعمل الصالح تعمله وأنت غير ملق له بالاً. وتُغفر بالكلمة الطيبة تقولها في مجلس فيُصلح بها الله بين خصمين، أو بين زوجين، أو بين شقيقين كانا متخاصمين وأنت غير منتبه، ثم يأتي واحد يذكرك بعد عشرين سنة:"أنت قلت كذا". فتقول: "لا أذكر والله، متى كان هذا؟".فتكون قد قلت كلمة بقيت نافعة زمنًا، ويمكن تبقى نافعة إلى يوم القيامة، فيُغفر للإنسان بها ما قدَّم من هذه الذنوب. فهذا أول دليل.
الدليل الثاني: حديثان معنا في مسلم، حديث أبي ذر:«من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. قال أبو ذر:"وإن سرق وإن زنا يا رسول الله؟"قال: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: "وإن رغم"أو "على رغم أنف أبي ذر».فقام أبو ذر يقول: "وإن رغم أنف أبي ذر، وإن رغم أنف أبي ذر" يعني سلمتُبحكم الله ورسوله وإن رغم أنفي، يعني تمرغ في التراب. وهي كلمة تقولها العرب كنايةً عن أن قولك لا يلقى إليه بال، لا يهتم به أحد(!)
الحديث الثاني حديث عبادة بن الصامت أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقوا وألا يزنوا ولا كذا وكذا ولا يشربوا الخمر ولا يتركوا الجهاد (على مجموعة الأشياء التي كانت تَرِدُفي البيعة) فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من وفى وفى الله له بعهده، ومن أصاب من هذه الأشياء شيئا،فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
إذن، الأمر في الآخر إلى المشيئة، ليس حتمًا أن يُعذب العاصي بمعصيته إنما قد يغفرها الله له لسبب من الأسباب التي ذكرناها أو لغيرها مما هو في علم الله سبحانه ولا نحيط به.
وكذلكدلَّ العلماء على هذا المعنى لهذا الحديث، وأمثاله من الأحاديث، أن هناك ما يُسمى بالإجماع،يعني الاتفاق، اتفاق كل العلماء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي. فعلماء المسلمين كلهم من أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن أهل القِبلة لا يُكفَّرون بالذنوب (أهل القِبلة هم الذين يُصلون صلاتنا، الذين يتوجهون إلى هذا البيت الحرام خمس مرات في اليوم) هؤلاء لا يُكفَّرون بالذنوب.المسلمأيًا كان ذنبه وأيًا كانت معصيته فلا يُكَّفر بها. يستحق الجزاء عليها،وإن شاء الله عاقَبه بها وإن شاء عفا عنه. لكن لا يقول أحد إنه يَخْرُجُمن المِلة بها. وصاغ الفقهاء قاعدة، قالوا: "لا يكفر أحد من أهل القِبلة بذنب".
طبعاً عندنا الفرقتان الأخريتان، المعتزلة والمُرجئة،قالوا كلامًاطويلاًعريضًا، لكننانتكلم عن مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو مذهب جمهور المسلمين الذين يُسَمون بأهل السُنة.
عندماقالوا نفي الشيء ويُراد به نفي الكمال،كان الأئمة شُرَّاح مسلم يريدوندليلاًعلى ذلك. فقالوا هذا موجود في كلام العرب، العرب تقول: "لا مال إلا الإبل".فماذا عنالملابس والبيوت والغنم والزروع، كل ذلك أموال. لكن لا مال إلا الإبل يعني الإبل هي أنفس الأموال وأعظمها. العرب تقول: "أنتم الناس أيها الشعراء". فهل قصدالعربنفي المالية عن غير هذا المال، أو نفي الإنسانية غير هذه الفرقة من الناس؟ لا طبعاً،لا أحد يقول أن غير الشاعر ليس إنسانًا. إنما يُريدون أن صفة الكمال تحققت في الإبل أو تحققت في الشعراء أوالفقهاء أو القضاة أو المتصوفة أو غيرهم.
وعندما دعاالنبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات:«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»فماذا عنالعيش الذي نعيشه في الدنيا؟والأكل والشرب والزواج والإنجاب والتعليم؟. هذا كله عيش لكنهليس عيشًا حقيقيًا لأنه عيش ينقضي بالخروج من الدنيا. لكن العيش الذي هو خلود الأبد،إن شاء الله،في الجنة للمسلمين جميعًا، هذا هو عيش الآخرة الذي يبقى ولا ينقطع.
وضربوا أمثلة حتى يؤكدوا أن معنى هذا الحديث ليس نفي الإيمان من أصله وإنما هو نفي صفة من صفاته وهي أنه إيمان كامل.
القاضي عياض قال: لأن هذا نزع اسم المدح. عندماأقول:"فلان هذا مؤمن"فهذهكلمة مدح. عندماتسمعونكلمة مؤمن تحبونه، أو فلانة مؤمنة،تسمع كلمة مؤمنة فتحبها. لكن لو قالواحد:"فلان هذافاجر"، ستخاف الناس منه، لو قال:"هذازانٍ"تخاف الناس أن تكلمه. فنُزِع منه اسم الإيمان الذي هو المدح. وأصابه اسم الذنب، وهو اسم واحدة من هذه المعاصي أو أكثر. وهذا طبعاً نقص فظيع ليس في إنسانيته إنما في مكانته الاجتماعية. المكانة الاجتماعية في المجتمع المتدين تتحقق لمن أصاب هذا التدين على وجهه، وتنقص كلما نقص تدينه. فإذا أصاب اسمًا من أسماء الذم مع نقص التدين:اسمًا قبيحًا، اسمًا مكروهًا مثل هذه الأسماء: السارق، الزاني، المنتهب، اللصوالغال...الخ،تضعُف مكانته الاجتماعية ضعفًا شديدًا.
قال الإمام النووي إن كلاً من هؤلاء مؤمن ناقص الإيمان (أصحاب المعاصي هؤلاء) مؤمنون ناقصو الإيمان. فمن تاب منهم فإن الله تعالى يغفر له، ومن لم يتب فهو في مشيئة الله تبارك وتعالى. إن شاء أخذه بذنبه وإن شاء غفر له. وهذا مذهب المحققين من العلماء.
هناك كلمة قلناها في الحديث،قد يقف عندها بعضنا:"كان أبو هريرة يلحق معهن" بعض الناس استشكل عليهمهذا اللفظ، وقالوا: "إنهكان يلحق بها من عند نفسه". لا، لأن في مسلم نفسه روايات صحيحة أخرى أن أبيهريرة كان يلحق معهن. معنى ذلك أنهسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهناك روايات عن غير أبي هريرة فيها "ولا ينتهب نهبة ذات شرف..." فكان يلحق معهن يعني كان يقولهن في سياق واحد. كان بعض الصحابة يقولونها في سياقين مختلفين، إنما هو كله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها "ولا يَغُلّ أحدكم" يَغُلَّ يعني يأخذ من الغنيمة قبل توزيعها. الغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها. وفي القرآن الكريم «ومن يَغْلُلْ يأتِ بما غل يوم القيامة»الذي يأخذ شيء من الغنيمة قبل توزيعها سيأتي يوم القيامة حاملاًعلى رأسه الذي أخذه من الغنيمة. سرق أحدهم شملةًوهي البردة وفسرها النووي نقلا عن أبي عبيدة بأنها كساء أسود فيه صور، كانت العرب ولا تزال،تلبسها في الشتاء للتدفئة) في عزوة خيبر. فلما قالقومٌللنبي صلى الله عليه وسلم: "فلان شهيد". قال: "هو في النار". قالوا: يا رسول الله قُتِل في القتال معك". قال: "هو في النار" ثلاث مرات.ثم ذهبوا وفحصوا متاعه،فوجدوا فيهشملة أخذها من الغنيمة. فقال: «إن الشملة تلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم»فالغال هذا يفعل ذنبًاعظيمًاجدًّا، لماذا؟ لأنه يحرم كل المسلمين من نتيجة هذا الغُنْم. فالأصل أن الغنائم تُجمع ثم تُخَمَّس، خُمسها لله ورسوله والأربعة أخماس للمؤمنين. فإذا أخذ أحدهم، وأخذ الثاني، والثالث والرابع، تضيع الغنيمة كلها. فحرَّم النبي صلى الله عليه وسلم القليل الذي يؤدي إلى الكثير،الذي يُذهب بمالية الدولة الإسلامية في وقت الحروب، التي كانت قائمة على الغنائم.
في رواية للإمام مسلم مهمة جدًّا وصحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه بعد ما ذكر كل هذا الحديث،قاليعني رسول الله صلى الله عليه وسلم)«والتوبة معروضةبعد».كل هذه المعاصي التي تعملها،لكن التوبة معروضة بصفة دائمة، «تُقبل ما لم يُغرغر»(يعني يحتضر الاحتضار الأخير الذي لا أمل معه في الحياة) وهذا أيضًا وارد في الحديث.
والتوبة ثلاثة أشياء: أن يُقلع الإنسان عن الذنب. وأن يشعر بالوجع، والذي نُسميه تأنيب الضمير أو الندم. وأن يعزم على ألا يرجع.
فإذا تاب عن ذنب ثم عاد إليه، توبته الأولى مقبولة وعليه أن يتوب توبة جديدة. إن تاب عن ذنب وهو مُتلبس بذنب آخر فلا تأثير لذنبه الثاني على توبته من الذنب الأول. لماذا؟
لأن رحمة الله تبارك وتعالى أوسع من أن تحدها أقوال العلماء والمشايخ. رحمة الله سبحانه وتعالى تشمل كل شيء، وهي باب مفتوح لا ينغلق أبدًا. فإذا أنت دخلت من جزء منه فلن يُقفل عليك الثاني. وإذا قفلت على نفسك مكانًا،يترك لك مكان آخر مفتوحًا.
الكلام الذي قاله العلماء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم "والتوبة معروضة بعد" كلام نفيس جدًًّّّا. اختتمه الإمام النووي بقوله: "وهذا مذهب أهل الحق كلهم". قال:مذهب أهل الحق كلهم أن باب التوبة مفتوح، وأنه من تاب عن ذنب وهو على ذنب آخر لا يؤثر عليه. وأنه إن تاب ورجع كل المطلوب منه أن يتوب توبة جديدة. فلا تقل له:"أنت لا أمل لك في النجاة، لأنكطول النهار تعد وتخلف، لن تفلحأبداً". وإلا كنامثل الرجل الذي قال لأخيه: متى ستتوب؟ قال: إن شاء الله. فقال له: لن تتوب أبدًّا. فاطلع الله عليهما فقال:«من هذا المتألي عليَّ؟ أُشهدكم يا ملائكتيأنني قد غفرت له (للعاصي) وأبطلت أو أحبطت عملك»(العابد الذي ظل تسعين أو مئة عام يعبد الله سبحانه وتعالى).
لماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء دون غيرها؟ هناك من العلماء، مثل القاضي عياض، من يقول: "إنها تنبه على جميع المعاصي. فالزنا ينبه على الشهوات كلها، والسرقة تنبه على الرغبة في الدنيا والمال الحرام من وجوهه كلها، والخمر تجمع كل ما يصد عن ذكر الله ويوجب الغفلة عن حقوقه، والانتهاب يجمع كل ما يفيد الاستخفاف بعباد الله وانعدام الحياء منهم وجمع الدنيا من غير وجهها".
وقال فريق آخر إن هذه الأمور الثلاثة من أعظم المفاسد؛لأنها استحلال المال الحرام والأعراض الحرام، واستباحة ما يخِل بالعقول. وضدها هو المصالح: أنك لا تأخذ إلا من حلال، وأنك لا تنال من الأعراض إلا ما أحله الله لك بعقد الزواج الصحيح الشرعي، وأنك لا تتناول ما يُخِل بعقلك لأنك لو أُخِل بعقلك ضاعت بقية أركان الإسلام كلها.
فهذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار العلم الإسلامي في الحلال والحرام، والذي ينبغي على كل مسلم أن يتَنَّبه إليها، وأنه إذا جاءه الشيطان يغريه بمعصية فليتذكر أنه حال هذه المعصية غير كامل الإيمان. فحتى لو وقع فيها يكون الإقلاع عنها،وتكون توبته سريعة، ويكون ندمه عليها ملابسًاله حال وقوعه في المعصية. لأن المعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى، وليس منا أحد إلا وقد ظلم نفسه. فالذي يظلم نفسه لأنه إنسان ولأن للشيطان عليه سلطانًا، ولأن شهواته تغلبه، ولأن طمعه يغلبه..إلى آخر ذلك.عليه أن يكون في أدنى الحالات، أيحالة التلبس بهذه الأشياء،مدركًا بأنه يأتي شيئًا محرمًا، ولا يستهين به ويقول: "هذاحلال". لا هذا ليس حلالاً. من أتى الحرام فهو آت بالحرام،وعليه أن يتوب منه. وهو عندما يتذكر، تكون توبته أقرب، وقبول الله سبحانه وتعالى لهذه التوبة يكون أيسر إن شاء الله. أما إن كان إنسان مستهينًا،فهو والعياذ بالله واقع في مشكلة.
* * * * *
الحديث الذي يليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والمنذري عمل له باب سماه باب "لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرتين" وهو نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا يُلدغ مؤمن من جُحر واحد مرتين»
لا يُلدغ المؤمن يعني المؤمن إذا كان مكتمل وصف الإيمان، عنده عقل وعنده حزم وعنده كياسة وعنده فطنة، فرأى شرًا أو ضررًا أو خطرًا في مكان لا يعود إلى هذا المكان مرة أخرى. أو رأى شرًا أو خطرًا أو ضررًا في فعل أو في قول لا يعود لهذا الفعل أو هذا القول مرة أخرى؛لأنه يكفيهلدغة واحدة تنبهه طول العمر. هذا معنى لا يُلدغ مؤمن من جحر واحد مرتين.
الحديث له سبب جميل:في غزوة بدر، أُسِر من أُسِر من المشركين،وكان فيهم رجل شاعر يمشي شعره في العرب مشي النار في الهشيم اسمه أبو عزة الجُمحي. كان كثير الهجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدين الإسلام، ولمن آمن ودخل في الإسلام من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فلما أسره الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر أتاه فقال له:"يا محمد لأن أطلقتني فإن بيني وبينك عهدًا ألا أذمك وألا أهجوك بعد اليوم".
الشعر عند العرب مثل التلفزيونوالجرائدالآن. الشعر عند العرب هو أداة الإعلام الأولى، الشعر يُقال اليوم في مكة، غدًا يكون في المدينة، بعد غد يكون في الطائف. ويظل خالدًا، كما نحفظ من الشعر الجاهلي وما بعد الجاهلي إلى اليوم. فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع لسان هذا الشاعر بالمن عليه بالإطلاق والفداء؛فأطلقه بغير مال، بالاتفاق بينهما على ألا يعود إلى هجائه. وما إن وصل إلى مكة حتى انطلق لسانه في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهجاء الإسلام والمسلمين. وجاء يوم أُحد مُحرِضًا بشعر عنيف ضد النبي صلى الله عليه وسلم وضد أصحابه. فأُسِر يوم أُحد. بالرغم من الذي حدث في أُحد،ولكن كان هناك بعض الأسرى، وكان منهم أبو عزة الجُمحي. فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم يقول له:"اقلني واطلقني، والله لو أطلقتني لا أعود لذمك ولا إلى هجوك أبدًا" قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يُلدغ مؤمن من جحر واحد مرتين»وقتله في منطقة اسمها حمراء الأسد؛قتله صبرًا.
ما معنىقتله صبرًا؟ يعني قتله وهو مقبوض عليه، مثل الذي يُنَفَّذُفيه حكم الإعدام اليوم. كل الذين يُنَفذ فيهم حكم الإعدام الآن يُسمون قُتِلوا صبرًا؛لماذا؟ لأنه قُتِل وهو مقبوض عليه، لا يقدر على المقاومة.
هناك ناس يعتقدونأن القتل صبرًا يعني قتل غيلة. لا، الغيلة شيء آخر. الغيلة أنه "واحد لا يأخذخوانة"، واحدسائرفي الشارع، قاعد في بيته، في مكتبه، فيدخل عليه آخرويقتله. هذا اغتيال، هذا هو القتل غيلة. القتل صبرًا أن يكون أسيرًا بين يديك لا يملك عن نفسه دفعًا. ولذلك ليس القتل صبرًا بالذنب، سترون في بعض الرواياتأن فلاناًقُتِل صبرًا، وبعض الناس يظن لا يستعمل إلا إذا كان القاتل مجرمًا قتل رجلاً ظلمًا لا يقدر على الدفع. هذا الفهم غير صحيح،المقتول صبرًا قد يكون مقتولاً بحق مثل أبو عزة الجُمحي، وقد يكون مقتولاً بغير حق. فالذم والمدح يتوقف على حال المقتول والقاتل، وليس مجرد أنه قُتل وهو مأسور، فيكون قتله ظلمًا أو حرامًا.
فنتعلم من هذا الحديث، كما قال القاضي عياض، أن فيه تنبيهًا عظيمًا للغافل. الغافل هذا هو غير المنتبه، الذي يقولون عنههنا في مصر: "يا غافل لك الله". يعني يحميك ربنا من المصائب التي تُحاك لك والألاعيب التي تُعمل لك، والحفر التي تكون في طريقك أثناء سيرك.
تنبيه عظيم للغافل، وتأديب حسن للعاقل،إذا جرب الأذى في موضع أو من وجه من الوجوه تنبه حتى لا يعود إليه ثانية أبدًا. قال: ويشمل ذلك المؤمن وغير المؤمن إذا بلغه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛لأنك لو حذفت كلمة المؤمن ووضعت كلمة العاقل تصلح أيضًا. لو قلت: لا يُلدغ العاقل من جحر واحد مرتين. الحديث صالح لأنه أيضًا لن يُلدغ مرتين. فقال إن الحديث وإن كان ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم كلمة مؤمن إلا أنه يشمل المؤمن وغير المؤمن إذا كان عاقلاً. العاقل لا يُلدغ مرتين من جحر واحد.
* * * * *
الباب الذي يليه: الوسوسة من الإيمان.
عن أبي هريرة قال: «جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه،قالوا: إننا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أنيتكلم به (يتعاظم يعني يخاف) قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان».
هذا الحديث فيه روايات كثيرة في مسلم وفي غيره.في رواية صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الوسوسة فقال:«لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال هذا خَلْقُالله (هذا الذي في الدنيا كلها خَلْقُالله، البشر والشجر والبحار....الخ) فمن خَلَقَالله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله».وفي روايات صحيحة أخرى:«إن الشيطان ليأتي أحدكم فيقول هذا خَلْقُالله، هذا خَلْقُالله، هذا خَلْقُالله،فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم».
هذه الروايات كلها تعني في مجموعها أن الإنسان يحدث له خاطر، معنى غير مستقر في قلبه. وهذا غير الملحدين وغير الشاكِّين، وغير الكفار والعياذ بالله، الذين لا يؤمنون بهذا الخالق الموجود،إنما يقولون «إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر»الذين يسميهم العلماء المسلمون: الدهريين. وهو كذلك غير الطبيعيين الذين يقولون إن الطبيعة خلقتنا.
هذا خاطر يمر بقلب الرجل المؤمن، فإذامر بقلب المؤمن،ماذا يفعل؟ يخاف أن ينطق، يخاف أن يتكلم، يخاف أن يُحدِّثَ أخاه المؤمن، أو أن يُحدث العالِم الذي يستشيره أو يستفتيه بهذا الخاطر الذي في قلبه، لأنه أكبر من أن ينطق به لسانه. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك صريح الإيمان. أراد السكوت عن الكلام بهذا المعنى. أراد أن صريح الإيمان ليس الخوض في هذه الخواطر والتكلم بها طول النهار وطول الليل.ولا أن نجتمعو"نعمل مَكْلَمَةً"كما يفعل بعض الشبان الذين يعتقدون أنهم مثقفون، فيتكلمونعن هذه الأمور وهم لا يعرفون عنها شيئًا ويقولونعن ذلك فلسفة.
فإذا مر هذا الخاطر بقلب الرجل المؤمن أو المرأة المؤمنة يمسك عنه ولا يتكلم. وهذا الصمت وهذا السكوت، هذا الإقلاع عن الخوض فيه سماه الرسول صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان. أو في الرواية الأخرى "محض الإيمان" وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم، لرجل سأله:«قل آمنت بالله»أو «آمنت بالله ورسله».ومرة قال:«فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم».
العلماء قالوا كلمة جميلة جدًّا. قالوا: آمنت بالله. آمنت بالله ورسله. وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هذهكلهاأدوية للقلوب، تنفع القلوب الصحيحة السليمة لكنها لا تنفع القلوب المريضة. القلب الذي ليس به إيمان، وليس فيه معرفة بالرسل، وليس به معرفة بالكتب، وليس به تسليم لله رب العالمين، هذا لا تنفعه أدوية. الذي تنفعه هذه الأدوية من كان في قلبه سلامة وصحة ثم عرض له هذا الخاطر. لماذا؟ لأنه يكون عندئذ من وسوسة الشيطان.
لماذا يوسوس الشيطان لنا نحن معشر المؤمنين. قالوا لأنه فرغ من أهل الكفر والبطالة. الذين كفروا انتهوا خلاص. فهو لا يريد منهم شيئًا أكثر من ذلك، لن يذهب إليهم ثانية، إنهيعمل بهم ما يريد. إنه يتلاعب بهم كيف يشاء صباحًا ومساءً. لكن أهل الإيمان الذين يستيقظون الفجر ويصلون، والظهر يصلونوالعصر والمغرب والعشاء. فليس أشد على الشيطان من رفع الأذان. والذي هو أشد من رفع الأذان قيام المسلمين للصلاة. ولذلك في الحديث الصحيح أنه:إذا أُقيم الأذان، أو إذا رُفِع التكبير أدبر الشيطان،فإذا قُضي الأذان أو قّضي التكبير رجع لك حتى يوسوس لك في صلاتك ويشتتها:القلم الذي في جيبك، الفلوس التي لم تدفعها... وهكذا يأتيك وقت الصلاة. فقالوا إن هذا الشيطان يأتي للمؤمن لكنه لا يأتي للكافر الذي فرغ منه.
ولذلك أنا أمتدح سلوك الأستاذ حسن البنا، رحمة الله عليه، فقد كان يذهب في أول دعوته إلى المقاهي. والمقاهي زمان كانتكلها اسمها مقهى وبار، أو قهوة وبار. وهناك بعضها موجود في الإسكندرية مكتوب عليها إلى الآن مقهى وبار فلان. ومن محاسن الاستقلال النسبي الذي أخذناه بعد صدور تصريح 28 فبراير أن الحكومة المصرية استطاعت أن تفرق بين الخمَّارات والمقاهي. فمنعت المقاهي من بيع الخمور، وكان كل مقهى ينتهي تصريح الخمور فيها لا يجددوه ويجددوه كمقهى فقط. والذي يريد الخمر يفتح بارًا. فهم لم يمنعوا الخمور تمامًاولكن منعوا شيوعها. وبعض الشر أهون من بعض.
حسن البنا عندمابدأ دعوته، كان يذهب إلى هذه المقاهي التي بها شرب الخمر ويكلم الناس. فسأله أحدأصدقائه أو تلامذته: "إنك تأخذناكل يوم إلىخمارة". قال: "وهل آخذكم إلىجامع؟!الناس الموجودون في الجامع عرفواالسكة خلاص، أنا أريد أن يعرف من فيالخمارة سكة الجامع".
فكذلك الشيطان، فرغ من أهل البطالة، هؤلاء الذين هم في البارات، إنما هو مشغول بكم أنتم يامن تصلون وتصومون. فيشغلكم بهذا الوسواس الذي يصل بالإنسان أن يفكر: طيب هذا خَلْقالله،فمن خَلَق الله؟.فالنبي صلى الله عليه وسلم دلنا على الدواء، قال:«قل آمنت بالله»، «قل آمنت بالله ورسله»، «واستعذ من الشيطان».أو في الرواية الرابعة «يسكت»لأن الصمت هو دواء هذا الداء.
قالالقرطبي: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتذكر الإيمان الشرعي"(هو الإمام القرطبي، شيخ المفسر المعروف، الذي شرح مسلم، وسمى كتابه "المفهم في شرح صحيح مسلم" وهو كتاب من أعظم الكتب لكن الذين قاموا بتحقيقهلم يتقنوا، للأسف، عملهم.فالجزء الأول فيه سبع عشرةصفحة أخطاء مطبعية. وهذادليل على الاستهانة بالعمل) الكتاب العظيم الذي اسمه "المفهم" صاحبه يقول فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بتذكر الإيمان الشرعي والاشتغال به لتنمحي من القلوب تلك الشبهات الباطلة ولا تبقى في القلب السليم المستقيم. لأن الأدوية إذا استًعملت على وجهها بقيت القلوب على سلامتها. إذا استُعملت الأدوية على وجهها. يعني إذا استعملت الدواء مع بقية الوصفة تأتي بنتيجة، لكن إذا استُعملت وكنتَمنهمكًا في المعاصي وسرقة الأموال والانتهاب والمحرمات، ستقول:"آمنت بالله" فيأتي لك الشيطان ويقول لك:"لا آمنت ولا حاجة".وتقول:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".فيقول لك:"لماذا؟!..ما أنا قاعد معك ونائم معك".وهكذا.
أما الإمام المازري الذي عمل "المُعْلِم في شرح صحيح مسلم" وحاول كثير من العلماء أن يكملوه، قال: "إنه أمر بدفع الخواطر الطارئة التي تمر هكذا، التي تأتي من الشيطان ثم تجري. أما الخواطر المستقرة فلابد فيها من الاستدلال والمناقشة". لأنك إذا كانفي نفسك شبهة: يا ترى هذه السماء حقيقة فعلاً؟يا ترى الجنة موجودة؟يا ترى عذاب القبر مضبوط، يا ترى هناك حساب ويوم القيامة، يا ترى هناك صراط، يا ترى هناك جسر، يا ترى الذي وصفه القرآن من التاريخ صحيح أم كذب؟ يا ترى هل ما قاله القرآن عن الأماكن والمواضع كما قاله القرآن أم كما قاله الآخرون من الذين يهرفون بما لا يعرفون؟ فالذي تأتيه هذه الشبهة لابد أن يناقشها بالدليل، ولابد أن يسأل فيها العلماء. أما الذي يمر على ذهنه الخاطر مرورًا عارضًا فهذا هو الذي يستعيذ بالله، ويقول آمنت بالله وهكذا. كأن الإمام المازري يقول هناك علاج للأمراض المتوطنة، وعلاج للأمراض العارضة.
النبي صلى الله عليه وسلم سمى السكوت والصمت عن هذا الكلام صريح الإيمان. لأن استعظام النطق به دليل على تعظيم قدر الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن..من الذي سيستعظم النطق؟ من الذي يخاف أن يتكلم بهذا الخاطر؟ من الذي يخاف أن يسأل نفسه من خلق الله؟ هذا هو الذي عظَّم قدر الله في نفسه. فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاستعظام وهذا الإجلال بأنه صريح الإيمان.
* * * * *
الحديث الذي يليه جعل المنذري عنوانه:باب أكبر الكبائر الشرك بالله.
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر. ثلاثًا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، أو قول الزور» وكان رسول الله rمتكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.(ثلاثًا يعني قال ثلاث مرات. النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يفعل ذلك: يسأل السؤال أو يقول الكلمة ثلاث مرات ليلفت انتباه المستمع والصحابة الجالسين. مسألة مهمة، فالذي فاته أول مرة لا يفوته ثاني أو ثالث مرة. والذي سمع ثلاث مرات تتشوق نفسه إلى هذا الكلام الذي سيقوله) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يشرك بالله.طبعاً الشرك بالله كفر وليس بعد الكفر ذنب. فأكبر عمل من المعاصي يقع فيه الإنسان أن يكون مشركًا بالله سبحانه وتعالى. مشركًا بالله يعني معتقدًاأن هناك إلهًا مع الله، أو مشركًا بإله من دون الله. يرى أن الله لا يأمر ولا ينهى ولا يفعل ولا يمنع، ولا يعطي ولا يحرم، وإنما الذي يفعل ذلك إله آخر من أصحاب القبور، أو من الأصنام التي يعبدها الناس. أو من يعتقد النفع والضر بأيدي الملوك والحكام والرؤساء والوزراء وغيرهم. فإذا اعتقد الإنسان أن بيد واحد من هؤلاء نفعًا أو ضرًا، أو منحًا أو منعًا فقد أشرك من دون الله إلهًاآخر. فأكبر جريمة يرتكبها الإنسان، أكبر ذنب، أكبر مصيبة هو أن يشرك بالله سبحانه وتعالى. سواء أشرك به إلهًا معه أم إلهًا من دونه اعتقد فيه النفع والضر وما إليه. وعقوق الوالدين ـ كلنا عارفين العقوق كاسم عام. ويعرفه الناس: عقوق الوالدين يعني قطع رحمهما. لكن العلماء قالوا: العقوق هو كل ما يتأذى الوالد به، الوالد يعني الوالد والوالدة، أذى شديدًا ولو كان في نفسه صغيرًا. يعني واحد يدخل ينام دون أن يقول تصبحوا على خير. أو يدخل من باب البيت ويقول سلام عليكم مغمغمًاويدخل على حجرته ويقفل على نفسه طول الليل إلى الصباح ويذهب في الصباح إلى عمله أو مدرسته. الآباء والأمهات قلوبهم مرهفة رقيقة والأبناء لا يشعرونبهذا الموضوع، يتصور أحدهمأنه شديد،فإذا رأىأباه أشد منه وأقوى منه، يقرر أن يكونهوأقوى منه. فيغضب ويأتي البيت غضبان، وهو لا يدري أن هذا الغضب يؤذي الآباء أذىًشديدًاويدخل فيباب العقوق. ليس العقوق قطعهما، يعني لا تذهب إليهما أو تزورهماأو تُعَيِّد عليهماأو تساعدهماماليًا إذا كانوا محتاجين. إنما من العقوق ألا تأخذ منهم إذا أعطوك، وألا تسمع لهم إذا دعوك، وألا تنتهي عن ما نهوك عنه طالما ليس حرامًا، وألا تفعل ما أمروك به طالما ليس حرامًا. لأن الطاعة لا تكون في المعصية، فإذا نهوك عن فعل يجب أن تفعله، إذا قالا لك مثلاً:"لا تصلِّ اليوم".لا تستجب، بل تصلي«وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما»ومع عدم الطاعة «وصاحبهما في الدنيا معروفاً»وقال سعد بن أبي وقاص لأمه: لو أن لك سبعين نفسًا فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت دين محمد». هذا ليس به عقوق هذا به طاعة لله سبحانه وتعالى وهي مُقَدَّمَةٌعلى طاعة الوالدين. لكن الفرض الذي نتكلم فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه عقوق الوالدين، ليس فرض المحرمات والممنوعات وترك الإسلام، لا،هذا غير وارد.لكن هذا فرض الحياة اليومية. فقال العلماء: كل ما يتأذى به الأبوان أو أحدهما أذى شديدًايدخل في العقوق. وأكبر العقوق قطع الرحم بصورته المعروفة. وشهادة الزور. شهادة الزور يعني تغيير الباطل بحيث يبدو في صورة الحق. ليس كل كلام كذب هو شهادة زور، قديكذب أحدهم، لكنه لا يكونشاهد زور. أماالذي يذهب أمام القاضي ويشهد أنه رأى فلانًايعطي فلانًاخمسين جنيهًا، أو أنه رأى فلانًايضرب فلانًاأو سمع فلانًايسب فلانًاوهو كاذب؛هذا شاهد زور. كانوا زمان يطلونوجهه بالهباب ويُرْكِبوه على الحمار مقلوبًا، ويدوروا به في المدينة.
فشهادة الزور ترِد على الشهود في المحاكم، وترِد على العلماء الكذَّابين الذين يكذبون للحكام وهم كثيرون في كل زمان ومكان وهم الذين سماهم الخميني «علماء السلطان»!
كانالرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً عندما قال هذا الحديث، ثم جلس فجعل يقول ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألاوقول الزور وشهادة الزور. قال الراوي: فمازال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا ليته سكت.
ليته سكت إشفاقًا عليه، وخوفًا أن يأخذه الغضب من شدة ما يذكِّرهم بهذا الذنب العظيم. وهم لا يريدونه أن يغضب، يريدونه دائمًا راضيًا. فإذا وجدتم في الأحاديث، وهي موجودة كثيرًا: "فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت". اعرفوا أنه ليته سكت ليسلكراهة كلامه، وإنما كراهة أن يصيبه الغضب أو يتضايق أو يتأذى، من إشفاق الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم وخوفهم من أن يؤذوه.
إذنالحديث الذي شرحناه الآن عن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا. أن الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت».
* * *
الحديث الذي يليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يارسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
هذه سبع خصال سماها النبي صلى الله عليه وسلم السبع الموبقات. عندما سئلالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، أو قال من عند نفسه اجتنبوا السبع الموبقات. وعندنا في أحاديث في الصحيح وفي غيره أنه سُئل عن أكبر الكبائر، أو سُئل عن أي الذنب أعظم، أو سُئل عن أي ذنب أكبر، أجاب إجابات مختلفة.
العلماء قالوا: هذه الإجابة المختلفة لها سبب من اثنين: إما أنها اختلفت بحسب اختلاف حال السائل، كما اختلفت إجابته صلى الله عليه وسلم في الأوامر والواجبات بحسب اختلاف حال السائل. أحدهميقول له أي العمل أفضل؟يقول له: الصلاة لوقتها. وآخريقول له: أي العمل أفضل؟ يقول له: بر الوالدين. وثالث يقول له: أي عمل أفضل؟ يقول له: الجهاد في سبيل الله. ورابع يقول له: أي العمل أفضل؟ فيقول له: الصدقة عن ظهر غِنى. لماذا؟ مع أنهم كلهم سألوا السؤالنفسه.
اختلفت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم باختلاف حال السائل: الذي يحتاج أن يُنفق يقول له النفقة، الذي يحتاج صيامًايقول له الصوم، الذي يحتاج للصلاة يقول له الصلاة. حسب احتياج كل واحد.
قالوا فعل الشيء نفسه في ذكر الذنوب والكبائر، اختلفت إجاباته أو اختلف كلامه بحسب حال الحاضرين عنده أو السائلين له، وظنه أن هذه تنفعه أكثر، أو فيهم من يقدُم على ذلك، أو هناك واحد لا يعرف حقيقة هذا الحكم. فاختلف كلامه حسب اختلاف حال السائل.
أو السبب الثاني،لاختلاف كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن كل المذكور في الأحاديث المختلفة من أكبر الكبائر. وأنها ليست محصورة فيما ذُكِر حديث منها. ولذلك لما سُئل ابن عباس عن الكبائر السبع قال: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية هي إلى السبعمائة أقرب. لأن الكبائر لا يمكن حصرها في هذه الأوصاف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعلماء اختلفوا في ما هو معنى الكبيرة، وقالوا كلامًاكثيرًا. قالوا: ما عُوقِب عليه في الدنيا بحد أو تُوعِد عليه في الآخرة بعذاب النار فهو من الكبائر. وقالوا: ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن الكريم من الكبائر فهو من الكبائر، وما ليس كذلك فهو من الصغائر. قالوا كلامًاكثيرًا.
لكن الإمام أبو عمرو بن الصلاح وضع ضابطًاجميلاً، قال:"ما يجد الإنسان في نفسه استحلاله فهو كبيرة" لو استحل الإنسان أصغر الصغائر، ورأى أنها ليست حرامًافهي كبيرة، لأن ذلك معناه أنه استهان بحكم الله تعالى. ولو كان نادمًا وهو يأتي واحدة من هذه السبع الموبيقات ففي الآخر لن تكون كبيرة لأنهاستكفرها التوبة، وسيكفرها الاستغفار، ويُكفرها العودة عنها. فهذا ضابط جميل، وهناك ضوابط أخرى لغيره من العلماء تستحق النظر فيها والعمل بها.
قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه معنى مهم هنا. قالوا: فالواجب ترك الذنوب كلها، والكبائر أولاً ثم الصغائر. ومن استطاع أن يترك ذنبًا مهما صغر فليفعل لا يقعده عن ذلك وقوعه في غيره.
هذه العبارة مهمة جدًا لأن الواجب على الإنسان المسلم أن يترك جميع الذنوب صغيرها وكبيرها.فإذاأنا وقعت في خطأ، ثم هناك أجر إماطة الأذى عن الطريق مثلاً، فوجدت أذى في الطريق فأقول:"لماذاأبعد هذا الأذى عن الطريق وأنا لسه عامل ذنب آخر؟"فأتركه. لا، إذا وجدت الأذى في الطريق أُبعده،لأن هذه حسنة تُكتب لي. وقعت في ذنب ثم سمعت الأذان أثناء ذهابيللبيت، أدخل وأصليلعل الله يغفر ليبهذه الصلاة. فلا تقعدك عن الطاعة معصية، لأن الله تبارك وتعالى يقول «إن الحسنات يذهبن السيئات»لم يقل السيئات يذهبن الحسنات، إنماالحسنات هي التي تُذهب السيئات. فعلى الإنسان أن يفعل كل ما يستطيع من الطاعات، ويجتنب كل ما يستطيع من المعاصي، فإن وقع في واحدة منها فليبادر إلى طاعة بعدها لعلها تمحوها.
قالوا الموبقات يعني المهلكات، السبع الموبقات يعني السبع المهلكات التي تُضيّع صاحبها وتهلكه. وقلنا الزور تحسين الشيء ووضعه في خلاف صفته حتى يُخيل للسامع أنه صحيح، فكأنه يصور الباطل على أنه حق. والمحصنات هنالعفائف، والغافلات هن اللاتي ليس في بالهن أن يرتكبن شيئًامما رُمين به. غافلات عن هذه الفواحش، فتُرمى وهي غافلة. هي لم تفعل، ولم يخطر في بالها أن تفعل، هؤلاء هن المحصنات الغافلات كما وصفهن القرآن الكريم. ثم هن لسن فقط غافلات عن الفواحش بل هن غافلات على أنهن رُمين بها، لأنه كيف تعرف وهي ليست في بالها ذلك. فإذا تكلم عنها الناس من خلف ظهرها فهي لا يمكن أن يخطر ببالها. لذلك وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ووصفها القرآن أنها منالمحصنات الغافلات ومن المؤمنات. وليس معنى ذلك إباحة رمي غير المسلمات، أناس كثيرونيفعلونذلك. هذا ليس معناه أن جارتي المسيحية أرميها أو جارتي اليهودية، أو زميلتي في العمل إذا لم تكن مسلمة. لا،معنى المؤمنات هنا لتغليظ التخويف بتشديد الرعب من أن ترمي امرأة غافلة محصنة وكمان مؤمنة. فستحاججك يوم القيامة، بإيمانها أولاً لأن للإيمان حُرمة، وبغفلتها عن هذه الفواحش وعدم وقوعها فيها ثانية،وبأنها كانت محصنة عفيفة، طاهرة شريفة ساذجة، فكيف ترميها بهذه المصيبة.
فهذا للتغليظ وليس لإباحة رمي غير المسلمات كما فهمها بعض الناس. فلا يجوز لأحد رمي المسيحية أو اليهودية أو غير ذات الدين أصلا. فهذه الحرمة المتصلة بالشرف يكفلها الإسلام ـ كما يكفل حرمة الحياة ـ للكافة، لا للمسلمين وحدهم.
كلمة الإحصان في الإسلام لها خمسةمعاني: معناها العفة، ومعناها الإسلام، ومعناها النكاح يعني المرأة المتزوجة أو الرجل المتزوج، ومعناها التزويج نفسه، التزويج إحصان، يعني عقد قران امرأة على رجل أو رجل على امرأة هذا إحصان لهما، ومعناه الحرية.
والإمام النووي له كلام طويل في كتاب من كتبه الجميلة اسمه "تهذيب الأسماء واللغات"،مسك الألفاظ والأسماء، وأسماء الأشياء، والأفعال والمباحات والممنوعات، والمأمورات والمنهيات. كل لفظ ذكر له تعريفًاشرعيًا،وسمى الكتاب اسمًامتواضعًاجدًّا "تهذيب الأسماء واللغات " قال حتى إذا فتح أحدهمكتابًافقهيًاأو حديثيًاأو كتابًامن كتب التفسير أو كتب التاريخ الإسلامي،يعرف معنى اللفظ. فإذاقابله لفظ الإحصان،يعرف أن هنا معناه العفة. وإذاقابله إحصان ويجد فيه زواجاًيعرف أن معناه زواج. وإحصان في آية فيها رق أو حديث فيه رق يعرف أن معناه الحرية.
وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"أكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور" وفي هذا الحديث يقول:"ألا وقول الزور" ثلاثًا ويكررها حتى يقولوا ليته سكت. قال العلماء إن ذلك ليس معناه أنه هذا هو أكبر الكبائر على الإطلاق. إنما معناه أنه أكبر الكبائر الضارة للناس. لأن الذي يترتب على شهادة الزور أن الحق يضيع، أو أن المظلوم يُسجن أو يُقتل أو يصاب ماله أو عرضه أو دمه. فالذي يترتب على شهادة الزور من ضرر للناس شيء فظيع جدًّا.
قالوا إنما الشرك أكبر منه، قتل النفس التي حرًّم الله إلا بالحق أكبر منه. وإنما المراد به أن شهادة الزور تحملك على الخروج من المِلة، شهادة الزور في حق الناس تحملك على شهادة الزور في حق الله تبارك وتعالى. شهادة الزور في حق الإنسان تحملك على شهادة الزور في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن شهِد على الرسول صلى الله عليه وسلم زورًا، أو شهِد على الله زورًا فإنما يشهد بما لا يعلم، وهذا نعرف جزاءه. ولذلكأكدالنبي صلى الله عليه وسلم على مسألة شهادة الزور وكان متكئًافجلس، وظل يقول لهم ألا وقول الزور. وقالوا جلوسه هذا لاهتمامه. وقالوا أخطر ما في شهادة الزور أنه يترتب عليه أكل حقوق الناس بالباطل وتضليل العدل.
تضليل العدل، العدل يكون ماشياًفي السكة هكذا،فتقول له السكة من هنا،فيمشي في السكة الغلط ويصل لمن لا يستحقه. ويكون الذي يستحق العدل محرومًامنه والسبب هو شاهد الزور الذي فعل ذلك.
طبعاًهناكأحاديث كبائر أخرى كثيرة. الضابط الذي ذكرته عن أبي عمرو بن الصلاح وهو وارد عن الإمام الغزالي صاحب "إحياء علوم الدين"، الذيله كتاب جميل في فقه الشافعي اسمه "البسيط" هو الاستحلال وعدم استشعار الندم. فكل ما استحللته ولم تشعر خوفًا وندمًا وأنت تفعله ولو كان صغيرة فأنت تأتي به كبيرة. ولو كان من الكبائر وأنت نادم ومستشعر الخوف، ثم تبت فإن شاء الله ربنا سبحانه وتعالى يغفر لك.
ولذلك قال عبد الله بن عمر، وقال ابن عباس، وقال عمر نفسه:"لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" والإصرار هو الذي ذكرناه أنه مصمم ألا يتوب. إذا صممتألا تتوب تكون حولت الصغيرة إلى كبيرة برفضك التوبة عنها.
وقالوا الإصرار هو قلة المبالاة بالدين لا محض التكرار. قلة المبالاة بأمر الله ونهيه، ليس مجرد أنك وقعت في الفعل مرة أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة تكون مصِّرًا.لا،المصِّر هو الذي لا يبالي، هو الذي لا يعنيه، هو الذي لا يهمه، هو الذي لا يكترث بالوعد بالجنة للطائعين، وبالوعيد بالنار للعاصين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
* * *
الحديث الذي يليه هو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجةالوداع:«ويحكم(أو قال:ويلكم)لا ترجعوا بعد
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(10)
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(10)
قراءة اليوم تبدأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من ادَّعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»الحديث كما أخرجه الإمام المنذري،عنون له بباب من رغِب عن أبيه فهو كفر. من رغِب يعني لم يُحِب أن يُنسب إلى أبيه. يعني أبَى واستكبر، أو استهان بأمر عائلته وقبيلته وأهله، فترك اسمهم واختار اسمًا آخر. وهذا كثير حتى في أيامنا، على نوعين: ناس ينتسبون إلى من ليس لهم بنسبٍ.وهذا من أخطر الأشياء،وهو الذي فيه هذا الوعيد. وناس يحذفون من أنسابهم كلمة أو كلمتين، أو اسمًا أو اسمين فلا يَظهر من هو. فإذا جاءت مناسبة رسمية كاستخراج جواز سفر أو أوراق قضية أو إبرام عقد بيع أو عقد زواج يُكتشف أنه من العائلة الفلانية، أو العشيرة الفلانية أو القبيلة الفلانية.
وكلا الأمرين محرَّم. الحديث كما أخرجه الإمام المنذري عن أبي عثمان، قال لما ادُّعيَ زياد، وزياد هذا كان مسمى في الجاهلية وفي أول الإسلام زياد بن أبيه. ويُقال له ابن أبيه لأنه مولود بغير زواج صحيح. الإنسان الذي كان يولد بغير زواج صحيح، إما في علاقة غير مشروعة يُعرف أطرافها، وإما في علاقة غير مشروعة ولا يُعرف أطرافها، الذين نُسميهم اليوم اللقطاء. كان المولود بهذه الطريقة يُسمى ابن أبيه، لأنه لابد أنلكل إنسان أبًاوليس هناك من لا أب له. فالعرب اختصرت المسألة وقالت له أبن أبيه.
فيمصر يقولونابن أبيككلمة مدح، عندمايكون الرجل محترمًافيقولون:"فلان هذا ابن أبيه"، يعني يتصرف كما يتصرف آباؤه الذين لهم مهابة واحترام وقوة. لكن العرب كانت تقصد بها هذا الوصف المذموم، أنه غير معروف أبيه، يعني وُلِدَ لأب غير معروف.
فزياد كان يُسمى زياد ابن أبيه، وكان من نوابغ العرب وأذكيائهم وعقلائهم. وكان شائعًا في الجاهلية أن أبا سفيان هو أحد الذين اتُّهِموا بزياد، فاستلحقه معاوية رضي الله عنه، استلحقه يعني أقر بنسبه. والإقرار بالنسب نظام معروف في الإسلام، والإسلام يُشجع عليه لأنه يجعل من ارتكب أمرًا خاطئًا يُصلحه ولو بطريقة غير مباشرة، ويُقلل صورة الفساد في المجتمع. لأنك لو وجدت مجتمعًا به عشرة أشخاص منهمثلاثة أو أربعة اسمهم ابن أبيه،يكون هذا المجتمع هذا فاسدًا، ولو أن مجتمعًامن ألف به مئة يكون أيضًا مجتمعًا فاسدًا. فكلما قل الذين لا تُعرف أنسابهم، أو قل الذين لا تُعرف آباؤهم، كلما كان البناء الاجتماعي أكثر سلامة وأمنًا.
فمعاوية لأسباب سياسية ولاستعماله زياد ابن أبيه في حروبه وفي ولاياته؛استلحقه،يعني أقر بنسبه إلى أبيه وهو أبو سفيان بن حرب. الشاعر اليمني لما حدث ذلك، وكان العربشديدي الاعتزاز بالقبيلة وبالأنساب، فتغنى الركبان بين الشام والحجاز بقول شاعر يمني:
ألا أبلغ معاويـة بن حرب مغلغلـة من الركب اليماني
أتغضب أن يقال أبوك حرٌ وترضى أنيُقال أبوك زانِ
مغلغلة يعني مثل الكرة عليها غلالة من النار، كلمة محرقة، مرسلة إليه من المسافرين من أهل اليمن. أنت غضبت أن يُقال أبوك حر واستعمل الحرية بمعنى الشرف، وبمعنى البعد عن المعاصي واكتمال الطاعات. فهذا استفهام استنكاري به تعريض شديد بمعاوية، وسخرية منه. وكان من يذكر أنه روى هذا الشعر، أو الذي يقوله عند معاوية، أو عند أولاده من بعده، يُضرب ويُحبس لشدة ما ساءهم كلام ذلك الشاعر اليمني!
يقول أبو عثمان النهدي راوي الحديث: «فلما ادُعي زياد»، يعني لما حدثت هذه الواقعة التاريخية لقيت أبابكرة (أبو عثمان من التابعين لقي أبا بكرةوهو من الصحابة) فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقَّاص يقول (هذا هو التابعي أبو عثمان النهدي سمع سعد بن أبي وقَّاص يقول) سمع أُذُناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».قال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانضم أبو بكرة الصحابي إلى أبي عثمان التابعي في إنكار فعلة معاوية رضي الله عنه. وقال له أنا أيضًا أعرف هذا الحديث الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. وادعاء المرء إلى غير أبيه غير جائز في الإسلام، ومن يفعله فالجنة عليه حرامبالقيد الذي ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم "وهو يعلم"،لأن الذي لا يعلم لا إثم عليه ولا تثريب. واحد نشأ ووجد اسمه فلانًاابن فلان، هو لا شأن له بهذه التسمية إذا لم يكن قد ارتكب هذا الخطأ بنفسه.
نأتي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "فالجنة عليه حرام". فيها ما قلناه في الأحاديث المماثلة، إنه لا يدخلها مع السابقين الأولين، ولا يدخلها أول الدخول، لا يدخلها إلا من بعد حساب إن شاء الله خففه وإن شاء شدده، إنما إذا كان مؤمنًا فلا يُخلَّد من المؤمنين في النار أحد.
قال العلماء هذا الحكم خاص بالمُستحِل أن ينتسب إلى غير أبيه، كالمَثَلَيْنِاللذَيْنِضربتهما: الذي لا يعجبه أهله فينتمي لناس آخرين، أو الذي يُسقط اسمًا من أسمائه حتى لا يُعرف من هو. وقالوا هذا من كفر النعمة والإحسان، إحسان أبيه إليه لأنه ولد بزواج شرعي صحيح ثم يذهب وينفي هذا النسب عن نفسه ويختار نسبًا آخر غير نسب أبيه. قال العلماء هذه جريمة في حق الله وفي حق الأب. في حق الله لأن الله هو الذي شرع الزواج، وهو الذي زوَّج الناس، وهو الذي قدَّر أن هذا يولد: ما من نسمة قدر الله خلقها إلا هي كائنة إلى يوم القيامة. فليس من حقنا أن نختار آباءنا، نحن لا نختار آباءنا ولا أمهاتنا، فهذا كفر بحق الأب وكفر بنعمة الله سبحانه وتعالى الذي أنسل المنتفي من نسبه لهذا الأب.
وهو كفر لا يُخرج من الملة.وقُيِّدَبالعلم. وهناك فئة قليلة من العلماء قالوا إن هذا الحديث ليس على القاعدة، قالوا الكفر في هذا الحديث كفرٌمُخرج من الملة. لأن هذا ليس كفرًابنعمة الله سبحانه وتعالى عليه في الأنساب، ولا على نعمة أبيه عليه، إنما هو خلط لأنساب المسلمين بعضها ببعض، وهذا إثم كبير جدًّا، من أجله حُرمت فواحش كثيرة. من أجله حُرِّم الاقتراب من الزنا، وحُرِّمت مقدماته لأنه من أخطر الأشياء في نظر الإسلام أن تختلط الأنساب فلا يُعرف مَنْ ابنُ مَنْ؟ ثم تختلط الزيجات فيتزوج الإنسان المرأة التي لا تحل له، وتتزوج المرأة الرجل الذي لا يحل لها؛والدنيا تختلط. فلكي يَقيَ الإسلام من هذا الخلط،مَنَعَكل ما يؤدي إليه. فقال بعض العلماء، تشددًا في هذا الباب، إنه كفر مُخرج من الملة. ولكن هذا رأي ضعيف لا يُعوَّل عليه، ذكرته حتى نعرف أن بعض العلماء في طول التاريخ يشددون وبعض العلماء يُخففون. فلم تمر مسألة إلا هي بين مشدد ومخفف. والعلماء الكبار كما قلت عن فتوى عبد الله بن عباس في القتل اختلفت من شخص لشخص، فكانوا يختارون الإفتاء حسب حال السائل، حسب الوقت والظرف الذي هم فيه. فإن كانوا في زمن فتنة أفتوا بطريقة معينة، وإن كانوا في زمن هدوء ورخاء أفتوا بطريقة أخرى. سيأتي معنا حديث الآن،الذي رواه أقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وأن الذي حدثَّه به من الصحابة رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هو لم يرض أن ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد التي كان بها لأنها بلد فتن.
* * *
الحديث الذي يليه "من قال لأخيه يا كافر" عن أبي ذر رضي الله عنه «أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس من رجل ادُّعي لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر (ثلاثة صحابة:سعد بن أبي وقَّاص، أبو بكرة وأبو ذر)ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعارجلاً بالكفر أو قال: عدوَّ الله، وليس كذلك إلا حار عليه»حار يعني رجع.
هذه أربع جمل: الجملة الأولى مثل الحديث السابق: منادُّعيلغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام أو فقد كفر. وقلنا هذا كفر نعمة.
الجملة الثانية وهي "من ادَّعى ما ليس له فليس منا" واحد يقول هذا ملكي وهو ليس كذلك، هذه الأرض ملكي وهي ليست كذلك، هذا الكتاب ملكي وهو ليس كذلك. ويحدث الآن كثيرًاجدًّا في أماكن العمل والجامعات والمساجد وكل أماكن تجمعات البشر؛شيء يُترك،ثم بعد قليليأخذها شخص مدَّعيًا أنه له، أو يأخذه أمام الناس إذا كان عنده جرأة ويمشي به. "فمن ادعى ما ليس له فليس منا"ليس منا يعني ليس على هدينا ولا طريقتنا، ولا سنة المسلمين في تصرفاتهم، لأن المسلم يتنازل عن بعض ما هو له خشية أن يأخذ ما ليس له، ولا يدعي ما ليس له وهو يعلم أنه ليس له. المسلم يترك بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، ولا يأخذ الحرام وهو موقن أنه حرام،ويكابر.
وهذا له عقوبة خطيرة جدًّا "يتبوأ مقعده من النار" هذا الوعيد والتهديد سببه أن حرمة الأموال في الإسلام من أعظم الحرمات:«إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذافي بلدكم هذا»هذا الكلام في حجة الوداع يوم عرفة.
فالأموال محرمة تحريمًا شديدًا، فلتغليظ التحريم قال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس منا» «وليتبوأمقعده من النار»يعني يُحذِرهأنه سيجد لنفسه مقعدًا في النار لو استمر على هذا الفعل. العلماء قالوا هذا التهديد لمن استمر عليه واستمرأه واستباحه واستحله، فيدخل النار أو يدخل النار عقابًا على هذا الفعل ثم يخرج منها على قاعدتهم أنه لا يخلد من أهل الإيمان أحد في النار.
«ومن دعىرجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»حار عليه يعني رجع عليه. قال له عدو الله أو قال له يا كافر: الكلمتان بمعنى واحد، لأن الكافر عدو لله، وعدو الله لابد أنهكافر، هل هناك عدو لله ويكون مسلمًا في الوقت نفسه؟ مستحيل. فإذا قال له عدو الله يعني قال له يا كافر، وإذا قال يا كافر يعني قال عدو الله. ومن هنا تلاحظونأنه لا يجوز في انتقاد بعض من يكتبون كلامًا في الصحف يحتمل الخطأ والصواب، يُحتمل أن يُؤخذ منه ويُرد عليه، أن يقال عنهم كفرة، ولا أعداء الله ومشركين، ولا حطبجهنم...إلخإنهم ليسوا كذلك، وإنما هم قوم مسلمون مخطئون، والخطأ يرد على صاحبه لكنه لا يكفر بمجرد الوقوع فيه. ومن منا معصوم؟ المعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بعده أحد معصوم عصمة كاملة إلا هو. فالجرأة على أن يُقال للناس أنهم أعداء الله، أو أنهم كفار أو أنهم خرجوا من الملة. الكفر هذا شيء كبير جدًّا، لابد أن نتيقن منه تيقننا بوجودنا مع بعضنا وأن هذا رجل وهذه سيدة، وأن هذا رجل اسمه كذا. إذا لم نتقين إلى هذا الحد فلا نقول إنه كافر.
التساهل في إطلاق هذه الأوصاف على المخطئين وعلى المجتهدين، وإن خالف اجتهادهم اجتهادنا إن كانوا أهلا للاجتهاد، وعلى المفكرين الذين تقودهم أفكارهم إلى بعض الشبهات، دون أن يقصدوا كفرًاأوخروجًامن الملة، وعلى المختلفين معنا في المنهج والمذهب. قد يختلف معنا في المذهب من يوسعنا ذمًا وشتمًا وقدحًا لكنه لا يكفر بذلك. ونحن إذا عاملناه بمثل ما عاملنا به لا نكفر بذلك، إنما نظل مختلفين خرجناعن الفطرة السوية. ولكن هذا لا يؤدي أن يُكفر بعضنا بعضًا. ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال:«من دعارجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»هذا الوصف، والعياذ بالله، أو إثمه أو رجعت عليه تبعته ومسؤوليته.
والإمام النووي قال: إنه يؤول به إلى الكفر، أو يرجع عليه تكفيره لأخيه، يعني يرجع عليه ذنب التكفير. يعني لايكون كافراً،وإلا يَصبح كل اثنين يكفران بعضهمابعضًا كافرين فعلا(!)
* * * * *
الحديث الذي يليه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:أن تدعو لله ندًا (ندًا يعني نظيرًا أو شريكًا أومساويًا وقرينًا...)وهو خلقك («إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب»التعقيب إيه؟ «ما قدروا الله حق قدره»فهل يساوي أحدٌبين ربنا وبين المخلوقات؟ فأكبر الذنب عند الله أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)ثم أي؟ (ما الذنب الذي بعده) قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ( أليس في القرآن قوله تعالى: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق»المرتب ثلاثمائة جنيه، فتجهض الزوجةقبل الشهر الثالث لأنهميقولونإنه لم يُخلق بعد. نحننعرف أن الكائن موجود حتى في الحيوان وحده والبييضة وحدها والروح وما إليه. هل يعرف أحدما هي الروح حتى يقولوا إنها وجدت أو لم توجد؟ .كان العرب يئدون البنات ليس فقط مخافة أن يطعمن معهم وإنما مخافة ما يظنون والعياذ بالله من العار. طيب إذا وأدنا البنات من أين سنأتي بالأمهات؟ وإذا ضاعت الأمهات تضيع الأمة كلها. ولذلك بعض إخواننا في فلسطين كانوا قد أفتوا خطأبألا تخرج البنات للاستشهاد في العمليات الاستشهادية، لنحفظهنلكي يزدنالنسل الفلسطيني، وتقوى الأمة وتزيد. وهذا مردود عليه بأن عملها في الاستشهاد أبلغ ألف مرة من عملها كأم، والأمهات والحمد لله كثيرات فإذا خرجتواحدة من كل مليون لتستشهد فهذا فضل كبير لهؤلاء الفتيات نحمدهن عليه. قال: «مخافة أن يطعم معك». فماذا لو قتله لشيء آخر؟ لو قتله لأنهلا يعجبه أو مشوهًا أو متخلفًايكون أيضًا ذنبًا. لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ما يجرى مجرى الغالب وهو أن يقع المرء في خوف الفقر فيتخلص من أولاده.قال الرجل: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك (حليلة يعني الزوجة لأنها تحل له أو لأنها تنزل معه يعني تحل معه في نفس المنزل. وكلمة تزاني هنا فيها لطيفة مهمة جدًّا ينبغي أن ندركها: المزاناة مفاعلة يعني هو يزني بها وهي تزني به، معناها أنه أفسدها حتى أصبحت قابلة لهذا الفعل الشائن، وليس معناه أنه أساء إليها بالنظر أو بالكلام أو اغتصبها، أو أكرهها أو ضغط عليها. لا،معناه أنه أفسد نفسها حتى رضيت بهذا العار أن يقع عليها أو منها وأن يقع منه عليها. فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الكلمة ليدلنا على فساد المقدمات التي تؤدي إلى الإفساد. وطبعًا في الأحاديث الأخرى ما معناه أنه من خبب امرأة على زوجها لا يرى رائحة الجنة، يعني لا يشم ريحها، ومن خببها يعني أفسدها، امرأة صالحة طيبة في أمان الله، تلميذة أو موظفة أو مديرة أو سكرتيرة فيفسدها، فإذا أفسدها فيكون قد خببها يعني أفسد طبيعتها، خببها على زوجها، فهذا لا يشم رائحة الجنة. ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثالث الذنوب الكبرى عند الله تبارك وتعالى أن تزاني حليلة جارك. قال عبد الله بن مسعود: فأنزل الله عز وجل تصديقها، تصديق هذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذين لا يدعون مع الله إله آخر (وهو قد ذكر:أن تجعل له ندًّا في الحديث) ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق (هنا لا لم يردقيد أنه ولدك ولا قيد أنه مخافة أن يطعم معك، ولكن عمم الله تبارك وتعالى في النفس، ولا حتى قيد الإيمان، لأن قتل النفس كلها محرم، مؤمنة كانت أم غير مؤمنة، إلا في الحرب مثل التي بيننا وبين الصهاينة الآن) ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثامًا. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا».
* * * * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري بعنوان:من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:«أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل(يرد كثيرًا جدًّا في الأحاديث النبوية الصحيحة أن يقول صحابي من كبار الصحابة:أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل. ولا يذكر اسم هذا الرجل لأنهم كانوا يهابون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا وارد في حديث صحيح في البخاري ومسلم:"كنا نهاب أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحب أو يعجبنا أن يأتيه الرجل العاقل من الأعراب(العاقل من الأعراب من البادية الذي لا يعرف مهابة النبي صلى الله عليه وسلم ولا مكانته ولا احترام أصحابه له) فيسأله فنتعلم ما يسأل عنه يسأل أسئلة فيسمعوا، لا يفكرونمن هو ولا اسمه ولا من أي قبيلة جاء. في بعض الأحاديث استطعنا أن نعرف اسم الرجل وإن كان بالتقريب، لأننانجد في اسمه اختلافًاكبيرًا، واحد يقول فلان وواحد يقول فلان. والبعضيحبون أنيسهلوا المسألة فيقولون:لأن الأسئلة تكررت. كيف تكررت؟!إنهسؤال واحد وجواب واحد، والذي رواه هو صحابي واحد، فكيف يكون كل مرة باسم؟! رجلواحد الذي سأل،لكننالا نعرف اسمه، لذلكاختلط الأمر علينا.واسمه لا يعنينا،ولكن يعنينا جواب النبي صلى الله عليه وسلم. بعض الذين يسمعون دروسًافي المساجد أو في غير المساجد قد يقولون إنهذا الحديث عن رجل ولا نعرف اسم الرجل فيكون بذلك الحديث عن مجهول. لا، الحديث هنا عن جابر، والحديث الثاني عن سعد، والثالث عن عبد الله بن مسعود. الحديث عن صحابي نعرف اسمه ووصفه وصحبته وعدالته، إنما الذي سأل وأخذ الجواب هو الذي لا نعرفه، وهذا لا يضرنا جهالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال ذلك من عند نفسه ما الذي يحدث؟ لو قاله دون سؤال ماذا سيحدث؟ لا شيء. ستكون له نفس القيمة الشرعية والتأديبية والأخلاقية. فلا يهمنا من الرجل ولكن يهمنا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ الموجبة هي ما يجب بعدها شيء ما أو أمر ما. فالبيعيجب بعده تسليم المبيع وقبض الثمن، والقبول بالمدرسة يجب به حق التلميذ في دخول المدرسة، والتعيين في الوظيفة تنشأ به سلطة الموظف في أداء واجباته وأخذ حقوقه. ما الموجبتان هنا؟ هذهكلمة مجملة جدًّا. ومع هذا الإجمال فقد أدرك معناها رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجرد السؤال، لماذا؟ لأنه رسول من الله، ومهمته أن يُبلغ الناس ما يؤدي بهم إلى رضاء الله وطاعته وما يبعدهم عن معصية الله وغضبه. فأجابه بلا تردد قال: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار».
الموجبتان، الأولى: ما يوجب أو ما هي الخصلة،أو ما هو المسلك،أو ما هي الصفة التي توجب دخول الجنة؟وما هي الصفة،أو الخصلة،أو المسلك،الذي يوجب دخول النار؟فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تردد «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا يدخل النار».
الآنعندنا:الذي لن يدخل الجنة،والذي ليس منا،والكافر،والذي ليس على هدينا.كل هؤلاء،كما قلنا وكما سنقول إنهم سيتأخرون فقط، إنما من مات وليس في قلبه شرك بالله تبارك وتعالى، من أتى الله بقلب سليم فمصيره في النهاية إلى الجنة.
ولذلك كلام أهل السنة والجماعة خلافًا لكلام الخوارج والمعتزلة "أن المؤمن لا يخلد في النار" هو الكلام الصحيح الذي تدل عليه الآيات والأحاديث الكثيرة التي هي في الواقع متواترة المعنى، وإن كانت ألفاظها مختلفة.
قال العلماء في «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»: الشرك كله ملة واحدة، سواء أن كان شركًابعبادة الأوثان،أو بعبادة الطغيان،أو بالخضوع للحكام الظلمة خضوعًا يجعلهم آلهة من دون الله، مع وقوع هذا في القلب طبعًا. أو بتحريف الكتب السماوية السابقة والادعاء أن لله ولد مثل عُزير والمسيح الذين ادعى بعض الناس أن كلا منهما ابن لله، فالشرك كله ملة واحدة لا نفرق بين أهله وبعضهم وبعض، والله تبارك وتعالى أعلم بهم.
عندنا نحن حكمنا الدنيوي الظاهر أن الشرك كله ملة واحدة، أما المؤمنون فَيُفَرَّقُفيهم بين من مات مصرًّا على كبيرة،وبين من مات غير مصر على كبيرة أو غير مرتكب كبيرة أصلاً.
فأما من مات مصرًّا على كبيرة فأمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء عذبه عذابًا بقدر ما يراه الله له، وإن شاء غفر الله له، والمغفرة ليست بعيدة عن الله تبارك وتعالى بل هي إليه أقرب «كتب ربكم على نفسه الرحمة».
وأما من مات غير مصر على كبيرة،أو غير واقع فيها أصلاً فهذا هو الذي يدخل الجنة، يدخل في الصابرين «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»؛ لأنهيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًابغير حساب، يدخل في الذين ينادَوْنَمن الأبواب كلها، لكل طاعة باب ينادى منه أصحابه،فالصائمون ينادون من باب الريان. وللصدقة باب... وهكذا. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أينادى أحد من هذه الأبواب كلها؟ فقال: نعم وأرجو أن تكون منهم».فإن شاء الله أبو بكر منهم. كلنا نعرف القصة المشهورة لأبي بكر أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومًا: هل أصبح منكم اليوم صائما فسكتوا فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله ثم قال هل عاد أحد منكم اليوم مريضا فسكتوا فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله ثم قال هل تصدق أحد منكم اليوم صدقة فسكتوا فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استعلى به الضحك ثم قال والذي نفسي بيده ما جمعهن في يوم واحد إلا مؤمن وإلا دخل بهن الجنة.
لذلك كان سيدنا سعيد بن العاص يقول: "لم نكن نوازي (وفي رواية نوازن) بأبي بكر أحدًامن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم كنا لا نوازن (أو لا نوازي) بعمر. ثم كنا لا نوازن (أو لا نوازي) بعثمان، ثم كنا نختلف فيما وراء ذلك":بعد ذلك واحد يقول طلحة، واحد يقول علي، واحد يقول عبد الرحمن، يختلفون فيما وراء ذلك. أما هؤلاء الثلاثة فربنا يسر لكل واحد منهم مكانته، ولهذه المكانة أسباب؛ أبو بكر ذكرنا بعض سببه، عمر بلاؤه العظيم في الإسلام وحضه النبي على الجهر بدينه في مكة ووقوفه معه في المواقف كلها، عثمان تجهيز جيش العسرة وبئر رومه،وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم بنتيه وقوله لو كان عندنا الثالثة لزوجنكاها.
فالمؤمن الذي مات غير مرتكب لكبيرة أو غير مصر عليها قد يدخل من كل الأبواب، وقد يدخل من الباب الذي كان يحب فعله أكثر من غيره، وقد يُعفى عنه ويدخل من حيث يريد الله له أن يدخل ولو كان مرتكبًا لكبيرة أو مصرًا عليها.
أما المشرك فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار»وأنا أُحِب هذا الحديث جدًّا للإجمال الذي فيه والتفصيل الذي فيه، الإجمال من السائل بحيث يبدو السؤال مبهمًا، ما الموجبتان؟ ممكن أن يكون السؤال عن أي مسألة، ثم الرد النبوي السريع المباشر الفوري «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار».
* * *
الحديث الذي يليه في الباب نفسهعن أبي الأسود الدِّيلي أن أبا ذر حدَّثه أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم (يعني أبو ذر جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أبو الأسود الديلي تابعي وأبو ذر هو الصحابي المشهور)عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم (رجع له مرة ثانية فوجده نائمًا) ثم أتيته (يعني الثالثة)وقد استيقظ فجلست إليه فقال (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم)ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة (فتعجب أبو ذر)قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق. فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثًا. ثم قال في الرابعة (يعني أبو ذر لم يسأل ثلاث مرات فقط، لكن سأل للمرة الرابعة)على رغِم أنف أبي ذر. فخرج أبو ذر (أبو ذر يحكي عن نفسه)يقول: وإن رَغِمَأنف أبي ذر، وإن رَغِمَأنف أبي ذر».
لماذا كان أبو ذر غاضبًا؟ الحديث فيه لطيفة عظيمة وهي أن أبا ذر كان شديد الغيرة على محارم الله عز وجل، وكان شديد الكره للمعاصي ولمن يرتكبونها، وكان شديد الخوف أن يُشرك الله أهل المعاصي مع أهل الطاعات في مكان واحد. والعلماء عندما شرحوا الحديث قالوا إن أبا ذر كان يُمثِل بالسرقة للأمور المالية ويُمثل بالزنا للأمور الخُلقية والمتعلقة بالأعراض وما إلى ذلك.
ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كل مرة يقول له وإن سرق وإن زنى. إلى أن قال له في الآخر: رغم أنف أبي ذر، وفي رواية وإن رغم أنف أبي ذر. فخرج أبو ذر يقول: وإن رغم أنف أبي ذر. خلاص أمرنا إلى الله. الرسول صلى الله عليه وسلم أفاده أن هذا واقع لا محالة. واقع لأن هؤلاء يلقون الله تبارك وتعالى وليس في قلوبهم مثقال حبة من خردل من شرك كما قلنا في الحديث السابق. ومن مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة. وقصة رغم أنف أبي ذر تعلمنا نحن درسًاآخر، تعلمنا ألا نحتقر العصاة، وألا ننظر إليهم باستعلاء، وألا نظن أن طاعتنا موصلتنا إلى الجنة، وأن معصيتهم موصلتهم إلى النار. لأنه رُبَّمعصية أورثت ذلاً وندماً فقربت العبد إلى الله تبارك وتعالى أكثر من طاعة أورثت كبرًا وافتخارًا واستطالة على خلق الله. لا يجوز لأهل الطاعات أن يستطيلوا بطاعاتهم،يعني يستكبروا ويستعلوابطاعاتهم على أهل المعاصي، لأننا لا نعرف كيف يكون الحكم في الآخرة. إنما أهل الطاعة يستزيدونمنها، ويقولونيا رب ثبتنا، ويقولونكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«اللهم يامُقلِب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك»وأهل المعصية يستغفرون، رُبَّمايرتفعون بهذا الاستغفار إلى مرتبة أعلى.
فهذا من الفوائد العظيمة التي ذكرها العلماء في حديث أبي ذر للنبي صلى الله عليه وسلم، والتي كرر له أربع مرات: وإن سرق وإن زنى ثم في الأخيرة قال له: على رغم أنف أبي ذر.
كلمة "على رغم أنف أبي ذر" فيها ثلاث تصريفات: على رَغم، على رُغم، على رِغم. ولكن على رَغم أسهل وأيسر وواردة في الرواية الصحيحة فلا نتركها إلى غيرها، وإن صحت عند أهل اللغة.
* * * * *
الحديث الذي يليه عنَّون له المنذري باب لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر
وهو مروي عن عبد الله بن مسعود «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر قال رجل:إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله جميل يحب الجمال. الكِبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس».
أول شيء:لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر. قلنا إنهلا يدخل معناه لا يدخل مع الأولين، أو مع السابقين، أو لا يدخل دون مجازاة، وليس معناه أنه محروم من الجنة مطلقًا. ثم من كان في قلبه ذرة من كِبر: يستوي صغير الكِبر وكبيره في ماذا؟ يستوي في استحقاق الجزاء، أو في أصل استحقاق الجزاء. لأن الذي عنده قدر من كِبر وإن كان قليلاً، ولو كان مثقال ذرة فهو إذنيعاني منمشكلة، ويجد نفسه في موقف الحساب يوم القيامة "ومن نوقش الحساب هلك" كما يقول السادة الصوفية. فعلى كل منا أن يراجع نفسه في الصباح وفي المساء ليرى كم بقي عنده من الكِبر فيتخلص منه إلى أن يِنقي قلبه تمامًا من الكِبر، لأن مثقال ذرة من الكِبر مجلبة للحساب والعياذ بالله.
ثم "قال رجل" هذا من الناس الذين قلت لكم إنهم اختلفوا في أسمائهم لأني وجدت له سبعة أسماء. المحققون من الشُرَّاح ذكروا لهذا الرجل سبعة أسماء أقربها إلى الصحة (وأنا لا يهمني الاسم كما قلت في الحديث السابق) اسمه مالك بن مُرارة الرهاوي، واختلفوا هل هو الرُهاوي أم الرَهوي. الرُهاوي إذا كان منسوبًالقبيلته والرَهوي إذا كان منسوبًاإلى مكان، حي من أحياء العرب. والحيّ قد يُراد به موضع هذا الحي يعني المكان الذي نزلته القبيلة، أو يُراد به القبيلة. فلا فرق،لكن يهمنا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم.
قال:«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر قال رجل:إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًاونعله حسنة»فمعنى كلام الرجل هل هذا من الكِبر؟ وفي رواية أخرى صحيحة هل هذا من الكِبر؟ لكن هذه الرواية مختصرة. قال (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يُحب الجمال" وصف الجميل لربنا تعالى في هذا الحديث ليس بالمعنى الذي نعرفه نحن بالجمال، جمال الصورة، جمال الشكل. إنما وصف الجميل هنا يعنيأن الله تبارك وتعالى جليل يأمركم بأعمال بسيطة جدًّا، وتكاليف تافهة لا تأخذ من وقتكم دقائق معدودة كل يوم ثم يُثيبكم عليها ثوابًا جزيلاً، هذا معنى الجمال في أحد القولين. والقول الثاني أن كل أمر الله جميل، فهو يُجازي بالحَسنة عشرة أمثالها، ولا يُجازي السيئة إلا بمثلها وقد يعفو. وهو يتصدق على عبده الذي يهم بحسنة ويكتبها له حسنة، وقد يُضاعف لمن يشاء. وهو يتفضل على عبده الذي همَّ بسيئة فتركها من جرَّاء مخافة الله تبارك وتعالى. وأمر الله كله جميل، لا تظنوا به أنه سينظر إلى لبسكم ونعالكم.كلا،الله أجلَّ من ذلك وأجمل من ذلك وأعظم من ذلك. وهو ينظر إلى أعمالكم لكي يجازيكم بها،مهما كانت حقيرة،ثوابًا عظيمًا، فهذا معنى أن الله جميل.
"يُحِب الجمال"يعني يُحِب الجمال بخلقه، يُحِب جمال السلوك كما يُحِب جمال المظهر أيضًا.
ثم بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال:«الكِبر بطر الحق»الكِبر أن تدفع الحق لأنك متكبر فلا تخضع له. و«غمط الناس»غمط الناس يعني احتقارهم، احتقار الحكام للمحكومين، احتقار الأغنياء للفقراء، احتقار العلماء لطلاب العلم، احتقار ذوي المناصب لمن لا منصب له. هذا كله من الكبر المحرم، أعاذنا الله منه.
* * *
الحديث الذي يليه:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اثنتان في الناس (يعني خصلتان)هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت»يعني خصلتان في الناس، في الناس عادتان، في الناس مسلكان تؤديان بهم إلى الكفر، أو هما من سلوك الكفار ومن صنع أهل الجاهلية، ومن أخلاق ما قبل الإسلام. فلا يجوز لكم يا معشر المسلمين أن تفعلوهما، أو كفر النعمة وكفر الإحسان كما قلنا قبل ذلك.
الأولى هي الطعن في النسب، الإمام الشافعي قال عبارة عظيمة جدًّا،قال:"الناس أمناء على أنسابهم" فمن انتسب لرجل أو إلى قوم أو إلى قبيلة أو إلى شعب فلا يجوز أن يُطعن في نسبه، ويُقال له أنت كذاب. نحن ليس لنا شأن، هو يتولى إثم نفسه يوم القيامة إذا كان في الموضوع إثم. فالطعن في النسب غير جائز. وبهذا الحديث أراد النبي صلى الله عليه وسلم بتغليظ هذه المعصية: معصية أن يطعن إنسان في نسب إنسان آخر، وأنتم تقرءون في الجرائد قضايا إنكار النسب.
والنياحة على الميت، النياحة لها صور كثيرة جدًّا: أسوأها ما تعرفونه من صنع بعض النساء أن تنوح على الرجل، أو من استئجار من يسمونها (المعددة) واحدة تأتي وحافظة مآثر وأغلبها مكذوبة والعياذ بالله، وتقولها فتجيش صدور الناس بالبكاء، فيبكون من المآثر التي يصنعونها.
النياحة على الميت هذه أصعب صورها، ولكن من صورها أيضًا الاجتماع على العزاء الذي هو مقصود به ذكر المآثر والبكاء كما يحدث في الخمسان والسنويات والذكرى الأربعين، لماذا؟..لأن سعيد بن العاص رضي الله عنه قال:"كنا نعُد الاجتماع على العزاء زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النياحة " قالوا:"فكيف كنتم تعزون؟" قال:"كان الرجل يُعزي الرجل واقفاً ثم ينصرف".
في نجد والأماكن القريبة من نجد، رأينا هذه العادة حتى اليوم. للأسف،بدأ يدخل فيهم الجلوس للعزاء، أخشى بعد عشرين سنة تصبحبلاد الخليج مثل مصر، يقعدونثلاثةأيام ثم الخميس والسنوية. فهذه صورة من صور النياحة المحرَّمة. أيضًامما كرهه الصحابة والتابعون النعي الفظيع الذي تَرَوْنَهُفي الصحف: حاصل على كذا، وجائزة كذا، ووسام كذا، وشَغل وظائف كذا... مات الله يرحمه، أفضى إلى ما قدَّم:إن خيرًا فخير، وإن شرًا فربنا يعفو عنه ويغفر له. لا نحتاج إلى كل هذا، وهو إفساد لمال الميت لأنه يُدفع من تركته في الغالب لأنك لا تجد وارثًا يتبرع بماله إنما يدفعونه من مال الميت، وإن دفعوا من جيوبهم فهم يدفعونه مراءة للآخرين.
فالاقتصاد في هذا واجب، أنت تُعلن، لماذا؟ لمن كان له حق يتقدم لطلب حقه، ومن كان عليه حق ينبغي عليه أن يؤديه. زمان كانت المجتمعات صغيرة فكان يكفي المنادي الذي يمشي في الشارع ويقول:تُوفي فلان والجنازة الساعة كذا. ليس المقصود من هذا حضور الجنازة، لكن المقصود من هذا أن من له حق يتقدم ويؤديه. وقد رأيت هذا، جاء من كان مدينًا له بعد أن مات بسنين فدفع ما عليه من حقوق، أو جاء بعد سنين يطالب بحق فأداه أولاده إليه.
فالمقصود بالنعي الصغير المختصر أن فلانًامات، فمن له حق فليتقدم ليأخذه، ومن عليه حق إن كان ضميره حيًا فيؤديه وإن كان غير ذلك فأمره إلى الله.
كلمة "بهم" في الحديث لا هي غلط من الراوي ولا هي غلط من الإمام مسلم، ولا غلط من الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما معناها بفعلهم، معناها بفعل الناس، وليس المقصود به هنا بهما.
* * * * *
الحديث الذي يليه عنّوَن له المنذري باب:من قال: مُطِرنا بالأنواء فهو كافر.
هذا حديث جميل وله روايات كثيرة. عن زيد بن خالد الجهنيِّ رضي الله عنه وهذه رواية من أحلاها، واحد سألني فقلت له نعم. قال لي: كيف؟ قلت له: أُحب سورة معينة، أُحب آيات معينة، وأُحب قارئًامعينًالما يقرأ آيات بعينها، وقارئًاآخر لما يقرأ آيات أخرى، ما المانع؟ فقال لي:هلهذا جائز؟ قلت له: طبعًا جائز، كله حلو لكن بعضه أحلى من بعض. وهذا الحديث له روايات كثيرة جدًّا، هذه الرواية من أحلاها.
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية (الفجر)في إثر سماء كانت من الليل (سماء يعني المطر،أيبعد المطر. وفي رواية صحيحة هذا الماء لم يُبَل منه أسفل نعالنا. ومع ذلك نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلّوا في رحالكم. فلم يأمرهم بالخروج في صلاة الجماعة شفقة عليهم ورحمة بهم. الصبح لما جفت بعض الشيء،صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح) فلما انصرف (يعني انتهى من الصلاة)أقبل على الناس بوجههفقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مُطِرنا بنوّء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
كأن يقال: هذانوء الشعرىمعتقداً أو ناسباً التأثير إلى هذا النوء.
أولاً كلمة نوء تُطلق على معنيين متناقضين، تُطلق على سقوط النجم من السماء، يعني اختفائه، يعني هروبه. وعلى نهوضه يعني طلوعه وبقائه في السماء. والأنواء هي ثمانية وعشرون نوءًأو ثمانية وعشرون نجمًاهي منازل القمر على مدار السنة،تتكرر، ومدة بقاء كل واحد في السماء ثلاثةعشر يومًا. المشارقة يقولون النوء هو سقوط النجم، والمغاربة يقولون النوء هو نهوض النجم أو طلوعه.
ورأيت في بعض شروح مسلم المغربية منيستنكر استنكارًا شديدًا ويقول: هؤلاء المشارقة لا يفهمون ويقولونالنوء هو سقوط النجم، النوء هو طلوعه، لأنه ناء يعني برز وكذا وكذا... فواحد ثاني رد عليه وقال: بل الخطأ عندكم يا معشر المغاربة، فإنَّناء يعني بَعُدَ. على كل حال معنى ناء إما أنه طلع وإما أنه سقط. والحقيقة المعنى قريب جدًّا لأنه واحد يطلع وواحد يسقط، لا تخلو السماء من نجم من هذه النجوم الثمانية وعشرون كل أيام السنة، فكل ثلاثة عشر يومًا واحد يطلع وواحد يسقط، والذي سمى الطلوع قصد الذي يطلع،و الذي سمى النزول قصد النازل.فالاثنان متساويان. إنما المُشكل في الحديث أن بعض الناس نسبوا تأثير هذه النجوم في مسارات السُحب وإنزال المطر إلى أنفسها، إلى النجوم أنفسها. فقالوا مُطِرنا بنوء كذا وكذا، يعني نفوا القدرة على إنزال المطرعنالله رب العالمين وجعلوها لبعض خلقه وهي هذه النجوم.
فهذا الذي آمن بالكوكب وكفر بالله رب العالمين.
والآخرون قالوا مُطِرنا بفضل الله ورحمته فنسبوا التأثير والفعل في إنزال المطر إلى الله سبحانه وتعالى «هو الذي يُنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام»فكانوا مؤمنين بالله.
العلماء قالوا لابد أن ننتبهإلى أن هناكأناس يقولونهذا الكلام معتقدين أن التأثير للكوكب، مثل هذا الرجل المنافق الذي قال هذا نوء الشعرى. وهناك أناس يقولونذلك لأن النوء علامة، مثل نوء رأس السنة في الإسكندرية(!) التأثير لله، وإنزال المطر برحمة الله وفضله، إنما الأنواء عند أهل العلم هي علامات، والبحارة في السفن والصيادون في المدن والقرى على السواحل كلهم يحفظون هذه الأنواء، وكلهم يعرفالمكنسة الكبرى والمكنسة الصغرى، والغطاس...وهكذا.هو يسمعها من أهله وهو صغير. لكن هؤلاء لا عقيدة فاسدة عندهم، هؤلاء لا ينسبون التأثير إلى هذه الأنواء، ينسبون التأثير إلى الله. إذا نسبوه إلى الأنواء دخلوا في الحديث. إطلاق الاسم ليس فيه شيء، إنما المُشكل فيما يعتقده القلب. 4
هذا الكفر هو كفر نعمة بإجماع العلماء.هذا بالذات،لماذا؟ لأن الحديث الصحيح الذي ذكرناه له رواية أخرى صحيحة متفق عليها،فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال ربكم: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين». فقالوا له كذا. فقال لهم: «من قال مُطِرنا بنوءكذا وكذا. ومن قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته».
فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى المطر نعمة، لم يسمِهِمن عنده، سماه في الحديث القدسي نعمة. والكفر هنا كفر بالنعمة. فهذا الحديث مستثنى من الحالات الأربعة التي قلناها قبل ذلك، لأنه هنا فيه نص آخر يُكمله وهو أن الكفر هنا كفر نعمة:«ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين».
نص الحديث: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال مُطِرنا بنوّء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(10)
قراءة اليوم تبدأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من ادَّعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»الحديث كما أخرجه الإمام المنذري،عنون له بباب من رغِب عن أبيه فهو كفر. من رغِب يعني لم يُحِب أن يُنسب إلى أبيه. يعني أبَى واستكبر، أو استهان بأمر عائلته وقبيلته وأهله، فترك اسمهم واختار اسمًا آخر. وهذا كثير حتى في أيامنا، على نوعين: ناس ينتسبون إلى من ليس لهم بنسبٍ.وهذا من أخطر الأشياء،وهو الذي فيه هذا الوعيد. وناس يحذفون من أنسابهم كلمة أو كلمتين، أو اسمًا أو اسمين فلا يَظهر من هو. فإذا جاءت مناسبة رسمية كاستخراج جواز سفر أو أوراق قضية أو إبرام عقد بيع أو عقد زواج يُكتشف أنه من العائلة الفلانية، أو العشيرة الفلانية أو القبيلة الفلانية.
وكلا الأمرين محرَّم. الحديث كما أخرجه الإمام المنذري عن أبي عثمان، قال لما ادُّعيَ زياد، وزياد هذا كان مسمى في الجاهلية وفي أول الإسلام زياد بن أبيه. ويُقال له ابن أبيه لأنه مولود بغير زواج صحيح. الإنسان الذي كان يولد بغير زواج صحيح، إما في علاقة غير مشروعة يُعرف أطرافها، وإما في علاقة غير مشروعة ولا يُعرف أطرافها، الذين نُسميهم اليوم اللقطاء. كان المولود بهذه الطريقة يُسمى ابن أبيه، لأنه لابد أنلكل إنسان أبًاوليس هناك من لا أب له. فالعرب اختصرت المسألة وقالت له أبن أبيه.
فيمصر يقولونابن أبيككلمة مدح، عندمايكون الرجل محترمًافيقولون:"فلان هذا ابن أبيه"، يعني يتصرف كما يتصرف آباؤه الذين لهم مهابة واحترام وقوة. لكن العرب كانت تقصد بها هذا الوصف المذموم، أنه غير معروف أبيه، يعني وُلِدَ لأب غير معروف.
فزياد كان يُسمى زياد ابن أبيه، وكان من نوابغ العرب وأذكيائهم وعقلائهم. وكان شائعًا في الجاهلية أن أبا سفيان هو أحد الذين اتُّهِموا بزياد، فاستلحقه معاوية رضي الله عنه، استلحقه يعني أقر بنسبه. والإقرار بالنسب نظام معروف في الإسلام، والإسلام يُشجع عليه لأنه يجعل من ارتكب أمرًا خاطئًا يُصلحه ولو بطريقة غير مباشرة، ويُقلل صورة الفساد في المجتمع. لأنك لو وجدت مجتمعًا به عشرة أشخاص منهمثلاثة أو أربعة اسمهم ابن أبيه،يكون هذا المجتمع هذا فاسدًا، ولو أن مجتمعًامن ألف به مئة يكون أيضًا مجتمعًا فاسدًا. فكلما قل الذين لا تُعرف أنسابهم، أو قل الذين لا تُعرف آباؤهم، كلما كان البناء الاجتماعي أكثر سلامة وأمنًا.
فمعاوية لأسباب سياسية ولاستعماله زياد ابن أبيه في حروبه وفي ولاياته؛استلحقه،يعني أقر بنسبه إلى أبيه وهو أبو سفيان بن حرب. الشاعر اليمني لما حدث ذلك، وكان العربشديدي الاعتزاز بالقبيلة وبالأنساب، فتغنى الركبان بين الشام والحجاز بقول شاعر يمني:
ألا أبلغ معاويـة بن حرب مغلغلـة من الركب اليماني
أتغضب أن يقال أبوك حرٌ وترضى أنيُقال أبوك زانِ
مغلغلة يعني مثل الكرة عليها غلالة من النار، كلمة محرقة، مرسلة إليه من المسافرين من أهل اليمن. أنت غضبت أن يُقال أبوك حر واستعمل الحرية بمعنى الشرف، وبمعنى البعد عن المعاصي واكتمال الطاعات. فهذا استفهام استنكاري به تعريض شديد بمعاوية، وسخرية منه. وكان من يذكر أنه روى هذا الشعر، أو الذي يقوله عند معاوية، أو عند أولاده من بعده، يُضرب ويُحبس لشدة ما ساءهم كلام ذلك الشاعر اليمني!
يقول أبو عثمان النهدي راوي الحديث: «فلما ادُعي زياد»، يعني لما حدثت هذه الواقعة التاريخية لقيت أبابكرة (أبو عثمان من التابعين لقي أبا بكرةوهو من الصحابة) فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقَّاص يقول (هذا هو التابعي أبو عثمان النهدي سمع سعد بن أبي وقَّاص يقول) سمع أُذُناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».قال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانضم أبو بكرة الصحابي إلى أبي عثمان التابعي في إنكار فعلة معاوية رضي الله عنه. وقال له أنا أيضًا أعرف هذا الحديث الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. وادعاء المرء إلى غير أبيه غير جائز في الإسلام، ومن يفعله فالجنة عليه حرامبالقيد الذي ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم "وهو يعلم"،لأن الذي لا يعلم لا إثم عليه ولا تثريب. واحد نشأ ووجد اسمه فلانًاابن فلان، هو لا شأن له بهذه التسمية إذا لم يكن قد ارتكب هذا الخطأ بنفسه.
نأتي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "فالجنة عليه حرام". فيها ما قلناه في الأحاديث المماثلة، إنه لا يدخلها مع السابقين الأولين، ولا يدخلها أول الدخول، لا يدخلها إلا من بعد حساب إن شاء الله خففه وإن شاء شدده، إنما إذا كان مؤمنًا فلا يُخلَّد من المؤمنين في النار أحد.
قال العلماء هذا الحكم خاص بالمُستحِل أن ينتسب إلى غير أبيه، كالمَثَلَيْنِاللذَيْنِضربتهما: الذي لا يعجبه أهله فينتمي لناس آخرين، أو الذي يُسقط اسمًا من أسمائه حتى لا يُعرف من هو. وقالوا هذا من كفر النعمة والإحسان، إحسان أبيه إليه لأنه ولد بزواج شرعي صحيح ثم يذهب وينفي هذا النسب عن نفسه ويختار نسبًا آخر غير نسب أبيه. قال العلماء هذه جريمة في حق الله وفي حق الأب. في حق الله لأن الله هو الذي شرع الزواج، وهو الذي زوَّج الناس، وهو الذي قدَّر أن هذا يولد: ما من نسمة قدر الله خلقها إلا هي كائنة إلى يوم القيامة. فليس من حقنا أن نختار آباءنا، نحن لا نختار آباءنا ولا أمهاتنا، فهذا كفر بحق الأب وكفر بنعمة الله سبحانه وتعالى الذي أنسل المنتفي من نسبه لهذا الأب.
وهو كفر لا يُخرج من الملة.وقُيِّدَبالعلم. وهناك فئة قليلة من العلماء قالوا إن هذا الحديث ليس على القاعدة، قالوا الكفر في هذا الحديث كفرٌمُخرج من الملة. لأن هذا ليس كفرًابنعمة الله سبحانه وتعالى عليه في الأنساب، ولا على نعمة أبيه عليه، إنما هو خلط لأنساب المسلمين بعضها ببعض، وهذا إثم كبير جدًّا، من أجله حُرمت فواحش كثيرة. من أجله حُرِّم الاقتراب من الزنا، وحُرِّمت مقدماته لأنه من أخطر الأشياء في نظر الإسلام أن تختلط الأنساب فلا يُعرف مَنْ ابنُ مَنْ؟ ثم تختلط الزيجات فيتزوج الإنسان المرأة التي لا تحل له، وتتزوج المرأة الرجل الذي لا يحل لها؛والدنيا تختلط. فلكي يَقيَ الإسلام من هذا الخلط،مَنَعَكل ما يؤدي إليه. فقال بعض العلماء، تشددًا في هذا الباب، إنه كفر مُخرج من الملة. ولكن هذا رأي ضعيف لا يُعوَّل عليه، ذكرته حتى نعرف أن بعض العلماء في طول التاريخ يشددون وبعض العلماء يُخففون. فلم تمر مسألة إلا هي بين مشدد ومخفف. والعلماء الكبار كما قلت عن فتوى عبد الله بن عباس في القتل اختلفت من شخص لشخص، فكانوا يختارون الإفتاء حسب حال السائل، حسب الوقت والظرف الذي هم فيه. فإن كانوا في زمن فتنة أفتوا بطريقة معينة، وإن كانوا في زمن هدوء ورخاء أفتوا بطريقة أخرى. سيأتي معنا حديث الآن،الذي رواه أقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وأن الذي حدثَّه به من الصحابة رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هو لم يرض أن ينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في البلد التي كان بها لأنها بلد فتن.
* * *
الحديث الذي يليه "من قال لأخيه يا كافر" عن أبي ذر رضي الله عنه «أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس من رجل ادُّعي لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر (ثلاثة صحابة:سعد بن أبي وقَّاص، أبو بكرة وأبو ذر)ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعارجلاً بالكفر أو قال: عدوَّ الله، وليس كذلك إلا حار عليه»حار يعني رجع.
هذه أربع جمل: الجملة الأولى مثل الحديث السابق: منادُّعيلغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام أو فقد كفر. وقلنا هذا كفر نعمة.
الجملة الثانية وهي "من ادَّعى ما ليس له فليس منا" واحد يقول هذا ملكي وهو ليس كذلك، هذه الأرض ملكي وهي ليست كذلك، هذا الكتاب ملكي وهو ليس كذلك. ويحدث الآن كثيرًاجدًّا في أماكن العمل والجامعات والمساجد وكل أماكن تجمعات البشر؛شيء يُترك،ثم بعد قليليأخذها شخص مدَّعيًا أنه له، أو يأخذه أمام الناس إذا كان عنده جرأة ويمشي به. "فمن ادعى ما ليس له فليس منا"ليس منا يعني ليس على هدينا ولا طريقتنا، ولا سنة المسلمين في تصرفاتهم، لأن المسلم يتنازل عن بعض ما هو له خشية أن يأخذ ما ليس له، ولا يدعي ما ليس له وهو يعلم أنه ليس له. المسلم يترك بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، ولا يأخذ الحرام وهو موقن أنه حرام،ويكابر.
وهذا له عقوبة خطيرة جدًّا "يتبوأ مقعده من النار" هذا الوعيد والتهديد سببه أن حرمة الأموال في الإسلام من أعظم الحرمات:«إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذافي بلدكم هذا»هذا الكلام في حجة الوداع يوم عرفة.
فالأموال محرمة تحريمًا شديدًا، فلتغليظ التحريم قال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس منا» «وليتبوأمقعده من النار»يعني يُحذِرهأنه سيجد لنفسه مقعدًا في النار لو استمر على هذا الفعل. العلماء قالوا هذا التهديد لمن استمر عليه واستمرأه واستباحه واستحله، فيدخل النار أو يدخل النار عقابًا على هذا الفعل ثم يخرج منها على قاعدتهم أنه لا يخلد من أهل الإيمان أحد في النار.
«ومن دعىرجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»حار عليه يعني رجع عليه. قال له عدو الله أو قال له يا كافر: الكلمتان بمعنى واحد، لأن الكافر عدو لله، وعدو الله لابد أنهكافر، هل هناك عدو لله ويكون مسلمًا في الوقت نفسه؟ مستحيل. فإذا قال له عدو الله يعني قال له يا كافر، وإذا قال يا كافر يعني قال عدو الله. ومن هنا تلاحظونأنه لا يجوز في انتقاد بعض من يكتبون كلامًا في الصحف يحتمل الخطأ والصواب، يُحتمل أن يُؤخذ منه ويُرد عليه، أن يقال عنهم كفرة، ولا أعداء الله ومشركين، ولا حطبجهنم...إلخإنهم ليسوا كذلك، وإنما هم قوم مسلمون مخطئون، والخطأ يرد على صاحبه لكنه لا يكفر بمجرد الوقوع فيه. ومن منا معصوم؟ المعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بعده أحد معصوم عصمة كاملة إلا هو. فالجرأة على أن يُقال للناس أنهم أعداء الله، أو أنهم كفار أو أنهم خرجوا من الملة. الكفر هذا شيء كبير جدًّا، لابد أن نتيقن منه تيقننا بوجودنا مع بعضنا وأن هذا رجل وهذه سيدة، وأن هذا رجل اسمه كذا. إذا لم نتقين إلى هذا الحد فلا نقول إنه كافر.
التساهل في إطلاق هذه الأوصاف على المخطئين وعلى المجتهدين، وإن خالف اجتهادهم اجتهادنا إن كانوا أهلا للاجتهاد، وعلى المفكرين الذين تقودهم أفكارهم إلى بعض الشبهات، دون أن يقصدوا كفرًاأوخروجًامن الملة، وعلى المختلفين معنا في المنهج والمذهب. قد يختلف معنا في المذهب من يوسعنا ذمًا وشتمًا وقدحًا لكنه لا يكفر بذلك. ونحن إذا عاملناه بمثل ما عاملنا به لا نكفر بذلك، إنما نظل مختلفين خرجناعن الفطرة السوية. ولكن هذا لا يؤدي أن يُكفر بعضنا بعضًا. ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال:«من دعارجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»هذا الوصف، والعياذ بالله، أو إثمه أو رجعت عليه تبعته ومسؤوليته.
والإمام النووي قال: إنه يؤول به إلى الكفر، أو يرجع عليه تكفيره لأخيه، يعني يرجع عليه ذنب التكفير. يعني لايكون كافراً،وإلا يَصبح كل اثنين يكفران بعضهمابعضًا كافرين فعلا(!)
* * * * *
الحديث الذي يليه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:أن تدعو لله ندًا (ندًا يعني نظيرًا أو شريكًا أومساويًا وقرينًا...)وهو خلقك («إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب»التعقيب إيه؟ «ما قدروا الله حق قدره»فهل يساوي أحدٌبين ربنا وبين المخلوقات؟ فأكبر الذنب عند الله أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)ثم أي؟ (ما الذنب الذي بعده) قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ( أليس في القرآن قوله تعالى: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق»المرتب ثلاثمائة جنيه، فتجهض الزوجةقبل الشهر الثالث لأنهميقولونإنه لم يُخلق بعد. نحننعرف أن الكائن موجود حتى في الحيوان وحده والبييضة وحدها والروح وما إليه. هل يعرف أحدما هي الروح حتى يقولوا إنها وجدت أو لم توجد؟ .كان العرب يئدون البنات ليس فقط مخافة أن يطعمن معهم وإنما مخافة ما يظنون والعياذ بالله من العار. طيب إذا وأدنا البنات من أين سنأتي بالأمهات؟ وإذا ضاعت الأمهات تضيع الأمة كلها. ولذلك بعض إخواننا في فلسطين كانوا قد أفتوا خطأبألا تخرج البنات للاستشهاد في العمليات الاستشهادية، لنحفظهنلكي يزدنالنسل الفلسطيني، وتقوى الأمة وتزيد. وهذا مردود عليه بأن عملها في الاستشهاد أبلغ ألف مرة من عملها كأم، والأمهات والحمد لله كثيرات فإذا خرجتواحدة من كل مليون لتستشهد فهذا فضل كبير لهؤلاء الفتيات نحمدهن عليه. قال: «مخافة أن يطعم معك». فماذا لو قتله لشيء آخر؟ لو قتله لأنهلا يعجبه أو مشوهًا أو متخلفًايكون أيضًا ذنبًا. لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ما يجرى مجرى الغالب وهو أن يقع المرء في خوف الفقر فيتخلص من أولاده.قال الرجل: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك (حليلة يعني الزوجة لأنها تحل له أو لأنها تنزل معه يعني تحل معه في نفس المنزل. وكلمة تزاني هنا فيها لطيفة مهمة جدًّا ينبغي أن ندركها: المزاناة مفاعلة يعني هو يزني بها وهي تزني به، معناها أنه أفسدها حتى أصبحت قابلة لهذا الفعل الشائن، وليس معناه أنه أساء إليها بالنظر أو بالكلام أو اغتصبها، أو أكرهها أو ضغط عليها. لا،معناه أنه أفسد نفسها حتى رضيت بهذا العار أن يقع عليها أو منها وأن يقع منه عليها. فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الكلمة ليدلنا على فساد المقدمات التي تؤدي إلى الإفساد. وطبعًا في الأحاديث الأخرى ما معناه أنه من خبب امرأة على زوجها لا يرى رائحة الجنة، يعني لا يشم ريحها، ومن خببها يعني أفسدها، امرأة صالحة طيبة في أمان الله، تلميذة أو موظفة أو مديرة أو سكرتيرة فيفسدها، فإذا أفسدها فيكون قد خببها يعني أفسد طبيعتها، خببها على زوجها، فهذا لا يشم رائحة الجنة. ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثالث الذنوب الكبرى عند الله تبارك وتعالى أن تزاني حليلة جارك. قال عبد الله بن مسعود: فأنزل الله عز وجل تصديقها، تصديق هذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذين لا يدعون مع الله إله آخر (وهو قد ذكر:أن تجعل له ندًّا في الحديث) ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق (هنا لا لم يردقيد أنه ولدك ولا قيد أنه مخافة أن يطعم معك، ولكن عمم الله تبارك وتعالى في النفس، ولا حتى قيد الإيمان، لأن قتل النفس كلها محرم، مؤمنة كانت أم غير مؤمنة، إلا في الحرب مثل التي بيننا وبين الصهاينة الآن) ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثامًا. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا».
* * * * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري بعنوان:من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:«أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل(يرد كثيرًا جدًّا في الأحاديث النبوية الصحيحة أن يقول صحابي من كبار الصحابة:أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل. ولا يذكر اسم هذا الرجل لأنهم كانوا يهابون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا وارد في حديث صحيح في البخاري ومسلم:"كنا نهاب أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحب أو يعجبنا أن يأتيه الرجل العاقل من الأعراب(العاقل من الأعراب من البادية الذي لا يعرف مهابة النبي صلى الله عليه وسلم ولا مكانته ولا احترام أصحابه له) فيسأله فنتعلم ما يسأل عنه يسأل أسئلة فيسمعوا، لا يفكرونمن هو ولا اسمه ولا من أي قبيلة جاء. في بعض الأحاديث استطعنا أن نعرف اسم الرجل وإن كان بالتقريب، لأننانجد في اسمه اختلافًاكبيرًا، واحد يقول فلان وواحد يقول فلان. والبعضيحبون أنيسهلوا المسألة فيقولون:لأن الأسئلة تكررت. كيف تكررت؟!إنهسؤال واحد وجواب واحد، والذي رواه هو صحابي واحد، فكيف يكون كل مرة باسم؟! رجلواحد الذي سأل،لكننالا نعرف اسمه، لذلكاختلط الأمر علينا.واسمه لا يعنينا،ولكن يعنينا جواب النبي صلى الله عليه وسلم. بعض الذين يسمعون دروسًافي المساجد أو في غير المساجد قد يقولون إنهذا الحديث عن رجل ولا نعرف اسم الرجل فيكون بذلك الحديث عن مجهول. لا، الحديث هنا عن جابر، والحديث الثاني عن سعد، والثالث عن عبد الله بن مسعود. الحديث عن صحابي نعرف اسمه ووصفه وصحبته وعدالته، إنما الذي سأل وأخذ الجواب هو الذي لا نعرفه، وهذا لا يضرنا جهالته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال ذلك من عند نفسه ما الذي يحدث؟ لو قاله دون سؤال ماذا سيحدث؟ لا شيء. ستكون له نفس القيمة الشرعية والتأديبية والأخلاقية. فلا يهمنا من الرجل ولكن يهمنا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ الموجبة هي ما يجب بعدها شيء ما أو أمر ما. فالبيعيجب بعده تسليم المبيع وقبض الثمن، والقبول بالمدرسة يجب به حق التلميذ في دخول المدرسة، والتعيين في الوظيفة تنشأ به سلطة الموظف في أداء واجباته وأخذ حقوقه. ما الموجبتان هنا؟ هذهكلمة مجملة جدًّا. ومع هذا الإجمال فقد أدرك معناها رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجرد السؤال، لماذا؟ لأنه رسول من الله، ومهمته أن يُبلغ الناس ما يؤدي بهم إلى رضاء الله وطاعته وما يبعدهم عن معصية الله وغضبه. فأجابه بلا تردد قال: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار».
الموجبتان، الأولى: ما يوجب أو ما هي الخصلة،أو ما هو المسلك،أو ما هي الصفة التي توجب دخول الجنة؟وما هي الصفة،أو الخصلة،أو المسلك،الذي يوجب دخول النار؟فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تردد «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا يدخل النار».
الآنعندنا:الذي لن يدخل الجنة،والذي ليس منا،والكافر،والذي ليس على هدينا.كل هؤلاء،كما قلنا وكما سنقول إنهم سيتأخرون فقط، إنما من مات وليس في قلبه شرك بالله تبارك وتعالى، من أتى الله بقلب سليم فمصيره في النهاية إلى الجنة.
ولذلك كلام أهل السنة والجماعة خلافًا لكلام الخوارج والمعتزلة "أن المؤمن لا يخلد في النار" هو الكلام الصحيح الذي تدل عليه الآيات والأحاديث الكثيرة التي هي في الواقع متواترة المعنى، وإن كانت ألفاظها مختلفة.
قال العلماء في «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»: الشرك كله ملة واحدة، سواء أن كان شركًابعبادة الأوثان،أو بعبادة الطغيان،أو بالخضوع للحكام الظلمة خضوعًا يجعلهم آلهة من دون الله، مع وقوع هذا في القلب طبعًا. أو بتحريف الكتب السماوية السابقة والادعاء أن لله ولد مثل عُزير والمسيح الذين ادعى بعض الناس أن كلا منهما ابن لله، فالشرك كله ملة واحدة لا نفرق بين أهله وبعضهم وبعض، والله تبارك وتعالى أعلم بهم.
عندنا نحن حكمنا الدنيوي الظاهر أن الشرك كله ملة واحدة، أما المؤمنون فَيُفَرَّقُفيهم بين من مات مصرًّا على كبيرة،وبين من مات غير مصر على كبيرة أو غير مرتكب كبيرة أصلاً.
فأما من مات مصرًّا على كبيرة فأمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء عذبه عذابًا بقدر ما يراه الله له، وإن شاء غفر الله له، والمغفرة ليست بعيدة عن الله تبارك وتعالى بل هي إليه أقرب «كتب ربكم على نفسه الرحمة».
وأما من مات غير مصر على كبيرة،أو غير واقع فيها أصلاً فهذا هو الذي يدخل الجنة، يدخل في الصابرين «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»؛ لأنهيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًابغير حساب، يدخل في الذين ينادَوْنَمن الأبواب كلها، لكل طاعة باب ينادى منه أصحابه،فالصائمون ينادون من باب الريان. وللصدقة باب... وهكذا. فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أينادى أحد من هذه الأبواب كلها؟ فقال: نعم وأرجو أن تكون منهم».فإن شاء الله أبو بكر منهم. كلنا نعرف القصة المشهورة لأبي بكر أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومًا: هل أصبح منكم اليوم صائما فسكتوا فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله ثم قال هل عاد أحد منكم اليوم مريضا فسكتوا فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله ثم قال هل تصدق أحد منكم اليوم صدقة فسكتوا فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استعلى به الضحك ثم قال والذي نفسي بيده ما جمعهن في يوم واحد إلا مؤمن وإلا دخل بهن الجنة.
لذلك كان سيدنا سعيد بن العاص يقول: "لم نكن نوازي (وفي رواية نوازن) بأبي بكر أحدًامن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم كنا لا نوازن (أو لا نوازي) بعمر. ثم كنا لا نوازن (أو لا نوازي) بعثمان، ثم كنا نختلف فيما وراء ذلك":بعد ذلك واحد يقول طلحة، واحد يقول علي، واحد يقول عبد الرحمن، يختلفون فيما وراء ذلك. أما هؤلاء الثلاثة فربنا يسر لكل واحد منهم مكانته، ولهذه المكانة أسباب؛ أبو بكر ذكرنا بعض سببه، عمر بلاؤه العظيم في الإسلام وحضه النبي على الجهر بدينه في مكة ووقوفه معه في المواقف كلها، عثمان تجهيز جيش العسرة وبئر رومه،وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم بنتيه وقوله لو كان عندنا الثالثة لزوجنكاها.
فالمؤمن الذي مات غير مرتكب لكبيرة أو غير مصر عليها قد يدخل من كل الأبواب، وقد يدخل من الباب الذي كان يحب فعله أكثر من غيره، وقد يُعفى عنه ويدخل من حيث يريد الله له أن يدخل ولو كان مرتكبًا لكبيرة أو مصرًا عليها.
أما المشرك فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار»وأنا أُحِب هذا الحديث جدًّا للإجمال الذي فيه والتفصيل الذي فيه، الإجمال من السائل بحيث يبدو السؤال مبهمًا، ما الموجبتان؟ ممكن أن يكون السؤال عن أي مسألة، ثم الرد النبوي السريع المباشر الفوري «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار».
* * *
الحديث الذي يليه في الباب نفسهعن أبي الأسود الدِّيلي أن أبا ذر حدَّثه أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم (يعني أبو ذر جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أبو الأسود الديلي تابعي وأبو ذر هو الصحابي المشهور)عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم (رجع له مرة ثانية فوجده نائمًا) ثم أتيته (يعني الثالثة)وقد استيقظ فجلست إليه فقال (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم)ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة (فتعجب أبو ذر)قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق. فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثًا. ثم قال في الرابعة (يعني أبو ذر لم يسأل ثلاث مرات فقط، لكن سأل للمرة الرابعة)على رغِم أنف أبي ذر. فخرج أبو ذر (أبو ذر يحكي عن نفسه)يقول: وإن رَغِمَأنف أبي ذر، وإن رَغِمَأنف أبي ذر».
لماذا كان أبو ذر غاضبًا؟ الحديث فيه لطيفة عظيمة وهي أن أبا ذر كان شديد الغيرة على محارم الله عز وجل، وكان شديد الكره للمعاصي ولمن يرتكبونها، وكان شديد الخوف أن يُشرك الله أهل المعاصي مع أهل الطاعات في مكان واحد. والعلماء عندما شرحوا الحديث قالوا إن أبا ذر كان يُمثِل بالسرقة للأمور المالية ويُمثل بالزنا للأمور الخُلقية والمتعلقة بالأعراض وما إلى ذلك.
ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كل مرة يقول له وإن سرق وإن زنى. إلى أن قال له في الآخر: رغم أنف أبي ذر، وفي رواية وإن رغم أنف أبي ذر. فخرج أبو ذر يقول: وإن رغم أنف أبي ذر. خلاص أمرنا إلى الله. الرسول صلى الله عليه وسلم أفاده أن هذا واقع لا محالة. واقع لأن هؤلاء يلقون الله تبارك وتعالى وليس في قلوبهم مثقال حبة من خردل من شرك كما قلنا في الحديث السابق. ومن مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة. وقصة رغم أنف أبي ذر تعلمنا نحن درسًاآخر، تعلمنا ألا نحتقر العصاة، وألا ننظر إليهم باستعلاء، وألا نظن أن طاعتنا موصلتنا إلى الجنة، وأن معصيتهم موصلتهم إلى النار. لأنه رُبَّمعصية أورثت ذلاً وندماً فقربت العبد إلى الله تبارك وتعالى أكثر من طاعة أورثت كبرًا وافتخارًا واستطالة على خلق الله. لا يجوز لأهل الطاعات أن يستطيلوا بطاعاتهم،يعني يستكبروا ويستعلوابطاعاتهم على أهل المعاصي، لأننا لا نعرف كيف يكون الحكم في الآخرة. إنما أهل الطاعة يستزيدونمنها، ويقولونيا رب ثبتنا، ويقولونكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«اللهم يامُقلِب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك»وأهل المعصية يستغفرون، رُبَّمايرتفعون بهذا الاستغفار إلى مرتبة أعلى.
فهذا من الفوائد العظيمة التي ذكرها العلماء في حديث أبي ذر للنبي صلى الله عليه وسلم، والتي كرر له أربع مرات: وإن سرق وإن زنى ثم في الأخيرة قال له: على رغم أنف أبي ذر.
كلمة "على رغم أنف أبي ذر" فيها ثلاث تصريفات: على رَغم، على رُغم، على رِغم. ولكن على رَغم أسهل وأيسر وواردة في الرواية الصحيحة فلا نتركها إلى غيرها، وإن صحت عند أهل اللغة.
* * * * *
الحديث الذي يليه عنَّون له المنذري باب لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر
وهو مروي عن عبد الله بن مسعود «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر قال رجل:إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله جميل يحب الجمال. الكِبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس».
أول شيء:لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر. قلنا إنهلا يدخل معناه لا يدخل مع الأولين، أو مع السابقين، أو لا يدخل دون مجازاة، وليس معناه أنه محروم من الجنة مطلقًا. ثم من كان في قلبه ذرة من كِبر: يستوي صغير الكِبر وكبيره في ماذا؟ يستوي في استحقاق الجزاء، أو في أصل استحقاق الجزاء. لأن الذي عنده قدر من كِبر وإن كان قليلاً، ولو كان مثقال ذرة فهو إذنيعاني منمشكلة، ويجد نفسه في موقف الحساب يوم القيامة "ومن نوقش الحساب هلك" كما يقول السادة الصوفية. فعلى كل منا أن يراجع نفسه في الصباح وفي المساء ليرى كم بقي عنده من الكِبر فيتخلص منه إلى أن يِنقي قلبه تمامًا من الكِبر، لأن مثقال ذرة من الكِبر مجلبة للحساب والعياذ بالله.
ثم "قال رجل" هذا من الناس الذين قلت لكم إنهم اختلفوا في أسمائهم لأني وجدت له سبعة أسماء. المحققون من الشُرَّاح ذكروا لهذا الرجل سبعة أسماء أقربها إلى الصحة (وأنا لا يهمني الاسم كما قلت في الحديث السابق) اسمه مالك بن مُرارة الرهاوي، واختلفوا هل هو الرُهاوي أم الرَهوي. الرُهاوي إذا كان منسوبًالقبيلته والرَهوي إذا كان منسوبًاإلى مكان، حي من أحياء العرب. والحيّ قد يُراد به موضع هذا الحي يعني المكان الذي نزلته القبيلة، أو يُراد به القبيلة. فلا فرق،لكن يهمنا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم.
قال:«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر قال رجل:إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًاونعله حسنة»فمعنى كلام الرجل هل هذا من الكِبر؟ وفي رواية أخرى صحيحة هل هذا من الكِبر؟ لكن هذه الرواية مختصرة. قال (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يُحب الجمال" وصف الجميل لربنا تعالى في هذا الحديث ليس بالمعنى الذي نعرفه نحن بالجمال، جمال الصورة، جمال الشكل. إنما وصف الجميل هنا يعنيأن الله تبارك وتعالى جليل يأمركم بأعمال بسيطة جدًّا، وتكاليف تافهة لا تأخذ من وقتكم دقائق معدودة كل يوم ثم يُثيبكم عليها ثوابًا جزيلاً، هذا معنى الجمال في أحد القولين. والقول الثاني أن كل أمر الله جميل، فهو يُجازي بالحَسنة عشرة أمثالها، ولا يُجازي السيئة إلا بمثلها وقد يعفو. وهو يتصدق على عبده الذي يهم بحسنة ويكتبها له حسنة، وقد يُضاعف لمن يشاء. وهو يتفضل على عبده الذي همَّ بسيئة فتركها من جرَّاء مخافة الله تبارك وتعالى. وأمر الله كله جميل، لا تظنوا به أنه سينظر إلى لبسكم ونعالكم.كلا،الله أجلَّ من ذلك وأجمل من ذلك وأعظم من ذلك. وهو ينظر إلى أعمالكم لكي يجازيكم بها،مهما كانت حقيرة،ثوابًا عظيمًا، فهذا معنى أن الله جميل.
"يُحِب الجمال"يعني يُحِب الجمال بخلقه، يُحِب جمال السلوك كما يُحِب جمال المظهر أيضًا.
ثم بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال:«الكِبر بطر الحق»الكِبر أن تدفع الحق لأنك متكبر فلا تخضع له. و«غمط الناس»غمط الناس يعني احتقارهم، احتقار الحكام للمحكومين، احتقار الأغنياء للفقراء، احتقار العلماء لطلاب العلم، احتقار ذوي المناصب لمن لا منصب له. هذا كله من الكبر المحرم، أعاذنا الله منه.
* * *
الحديث الذي يليه:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اثنتان في الناس (يعني خصلتان)هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت»يعني خصلتان في الناس، في الناس عادتان، في الناس مسلكان تؤديان بهم إلى الكفر، أو هما من سلوك الكفار ومن صنع أهل الجاهلية، ومن أخلاق ما قبل الإسلام. فلا يجوز لكم يا معشر المسلمين أن تفعلوهما، أو كفر النعمة وكفر الإحسان كما قلنا قبل ذلك.
الأولى هي الطعن في النسب، الإمام الشافعي قال عبارة عظيمة جدًّا،قال:"الناس أمناء على أنسابهم" فمن انتسب لرجل أو إلى قوم أو إلى قبيلة أو إلى شعب فلا يجوز أن يُطعن في نسبه، ويُقال له أنت كذاب. نحن ليس لنا شأن، هو يتولى إثم نفسه يوم القيامة إذا كان في الموضوع إثم. فالطعن في النسب غير جائز. وبهذا الحديث أراد النبي صلى الله عليه وسلم بتغليظ هذه المعصية: معصية أن يطعن إنسان في نسب إنسان آخر، وأنتم تقرءون في الجرائد قضايا إنكار النسب.
والنياحة على الميت، النياحة لها صور كثيرة جدًّا: أسوأها ما تعرفونه من صنع بعض النساء أن تنوح على الرجل، أو من استئجار من يسمونها (المعددة) واحدة تأتي وحافظة مآثر وأغلبها مكذوبة والعياذ بالله، وتقولها فتجيش صدور الناس بالبكاء، فيبكون من المآثر التي يصنعونها.
النياحة على الميت هذه أصعب صورها، ولكن من صورها أيضًا الاجتماع على العزاء الذي هو مقصود به ذكر المآثر والبكاء كما يحدث في الخمسان والسنويات والذكرى الأربعين، لماذا؟..لأن سعيد بن العاص رضي الله عنه قال:"كنا نعُد الاجتماع على العزاء زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النياحة " قالوا:"فكيف كنتم تعزون؟" قال:"كان الرجل يُعزي الرجل واقفاً ثم ينصرف".
في نجد والأماكن القريبة من نجد، رأينا هذه العادة حتى اليوم. للأسف،بدأ يدخل فيهم الجلوس للعزاء، أخشى بعد عشرين سنة تصبحبلاد الخليج مثل مصر، يقعدونثلاثةأيام ثم الخميس والسنوية. فهذه صورة من صور النياحة المحرَّمة. أيضًامما كرهه الصحابة والتابعون النعي الفظيع الذي تَرَوْنَهُفي الصحف: حاصل على كذا، وجائزة كذا، ووسام كذا، وشَغل وظائف كذا... مات الله يرحمه، أفضى إلى ما قدَّم:إن خيرًا فخير، وإن شرًا فربنا يعفو عنه ويغفر له. لا نحتاج إلى كل هذا، وهو إفساد لمال الميت لأنه يُدفع من تركته في الغالب لأنك لا تجد وارثًا يتبرع بماله إنما يدفعونه من مال الميت، وإن دفعوا من جيوبهم فهم يدفعونه مراءة للآخرين.
فالاقتصاد في هذا واجب، أنت تُعلن، لماذا؟ لمن كان له حق يتقدم لطلب حقه، ومن كان عليه حق ينبغي عليه أن يؤديه. زمان كانت المجتمعات صغيرة فكان يكفي المنادي الذي يمشي في الشارع ويقول:تُوفي فلان والجنازة الساعة كذا. ليس المقصود من هذا حضور الجنازة، لكن المقصود من هذا أن من له حق يتقدم ويؤديه. وقد رأيت هذا، جاء من كان مدينًا له بعد أن مات بسنين فدفع ما عليه من حقوق، أو جاء بعد سنين يطالب بحق فأداه أولاده إليه.
فالمقصود بالنعي الصغير المختصر أن فلانًامات، فمن له حق فليتقدم ليأخذه، ومن عليه حق إن كان ضميره حيًا فيؤديه وإن كان غير ذلك فأمره إلى الله.
كلمة "بهم" في الحديث لا هي غلط من الراوي ولا هي غلط من الإمام مسلم، ولا غلط من الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما معناها بفعلهم، معناها بفعل الناس، وليس المقصود به هنا بهما.
* * * * *
الحديث الذي يليه عنّوَن له المنذري باب:من قال: مُطِرنا بالأنواء فهو كافر.
هذا حديث جميل وله روايات كثيرة. عن زيد بن خالد الجهنيِّ رضي الله عنه وهذه رواية من أحلاها، واحد سألني فقلت له نعم. قال لي: كيف؟ قلت له: أُحب سورة معينة، أُحب آيات معينة، وأُحب قارئًامعينًالما يقرأ آيات بعينها، وقارئًاآخر لما يقرأ آيات أخرى، ما المانع؟ فقال لي:هلهذا جائز؟ قلت له: طبعًا جائز، كله حلو لكن بعضه أحلى من بعض. وهذا الحديث له روايات كثيرة جدًّا، هذه الرواية من أحلاها.
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية (الفجر)في إثر سماء كانت من الليل (سماء يعني المطر،أيبعد المطر. وفي رواية صحيحة هذا الماء لم يُبَل منه أسفل نعالنا. ومع ذلك نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلّوا في رحالكم. فلم يأمرهم بالخروج في صلاة الجماعة شفقة عليهم ورحمة بهم. الصبح لما جفت بعض الشيء،صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح) فلما انصرف (يعني انتهى من الصلاة)أقبل على الناس بوجههفقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مُطِرنا بنوّء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
كأن يقال: هذانوء الشعرىمعتقداً أو ناسباً التأثير إلى هذا النوء.
أولاً كلمة نوء تُطلق على معنيين متناقضين، تُطلق على سقوط النجم من السماء، يعني اختفائه، يعني هروبه. وعلى نهوضه يعني طلوعه وبقائه في السماء. والأنواء هي ثمانية وعشرون نوءًأو ثمانية وعشرون نجمًاهي منازل القمر على مدار السنة،تتكرر، ومدة بقاء كل واحد في السماء ثلاثةعشر يومًا. المشارقة يقولون النوء هو سقوط النجم، والمغاربة يقولون النوء هو نهوض النجم أو طلوعه.
ورأيت في بعض شروح مسلم المغربية منيستنكر استنكارًا شديدًا ويقول: هؤلاء المشارقة لا يفهمون ويقولونالنوء هو سقوط النجم، النوء هو طلوعه، لأنه ناء يعني برز وكذا وكذا... فواحد ثاني رد عليه وقال: بل الخطأ عندكم يا معشر المغاربة، فإنَّناء يعني بَعُدَ. على كل حال معنى ناء إما أنه طلع وإما أنه سقط. والحقيقة المعنى قريب جدًّا لأنه واحد يطلع وواحد يسقط، لا تخلو السماء من نجم من هذه النجوم الثمانية وعشرون كل أيام السنة، فكل ثلاثة عشر يومًا واحد يطلع وواحد يسقط، والذي سمى الطلوع قصد الذي يطلع،و الذي سمى النزول قصد النازل.فالاثنان متساويان. إنما المُشكل في الحديث أن بعض الناس نسبوا تأثير هذه النجوم في مسارات السُحب وإنزال المطر إلى أنفسها، إلى النجوم أنفسها. فقالوا مُطِرنا بنوء كذا وكذا، يعني نفوا القدرة على إنزال المطرعنالله رب العالمين وجعلوها لبعض خلقه وهي هذه النجوم.
فهذا الذي آمن بالكوكب وكفر بالله رب العالمين.
والآخرون قالوا مُطِرنا بفضل الله ورحمته فنسبوا التأثير والفعل في إنزال المطر إلى الله سبحانه وتعالى «هو الذي يُنزل الغيث ويعلم ما في الأرحام»فكانوا مؤمنين بالله.
العلماء قالوا لابد أن ننتبهإلى أن هناكأناس يقولونهذا الكلام معتقدين أن التأثير للكوكب، مثل هذا الرجل المنافق الذي قال هذا نوء الشعرى. وهناك أناس يقولونذلك لأن النوء علامة، مثل نوء رأس السنة في الإسكندرية(!) التأثير لله، وإنزال المطر برحمة الله وفضله، إنما الأنواء عند أهل العلم هي علامات، والبحارة في السفن والصيادون في المدن والقرى على السواحل كلهم يحفظون هذه الأنواء، وكلهم يعرفالمكنسة الكبرى والمكنسة الصغرى، والغطاس...وهكذا.هو يسمعها من أهله وهو صغير. لكن هؤلاء لا عقيدة فاسدة عندهم، هؤلاء لا ينسبون التأثير إلى هذه الأنواء، ينسبون التأثير إلى الله. إذا نسبوه إلى الأنواء دخلوا في الحديث. إطلاق الاسم ليس فيه شيء، إنما المُشكل فيما يعتقده القلب. 4
هذا الكفر هو كفر نعمة بإجماع العلماء.هذا بالذات،لماذا؟ لأن الحديث الصحيح الذي ذكرناه له رواية أخرى صحيحة متفق عليها،فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال ربكم: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين». فقالوا له كذا. فقال لهم: «من قال مُطِرنا بنوءكذا وكذا. ومن قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته».
فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى المطر نعمة، لم يسمِهِمن عنده، سماه في الحديث القدسي نعمة. والكفر هنا كفر بالنعمة. فهذا الحديث مستثنى من الحالات الأربعة التي قلناها قبل ذلك، لأنه هنا فيه نص آخر يُكمله وهو أن الكفر هنا كفر نعمة:«ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين».
نص الحديث: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال مُطِرنا بنوّء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: شرح أحاديث مختارة من صحيح مسلم للدكتور محمد سليم العوا
أحاديث مختارة من مختصر صحيح مسلم(11)
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(11)
الحديث الأول في قراءة اليوم هو حديث جرير بن عبد اللهالذي رواه عنه الشَّعبي:«أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم».وقد عنون له المنذري وللحديث الذي بعده بعنوان:إذا أبق العبد فهو كفر.
قالمنصور بن عبد الرحمن الذي روى هذا الحديث عن الشعبي:"قد والله (قد هنا للتحقيق والتأكيد) رواه (يعني جرير بن عبد الله الصحابي) عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أكره أن يُرْوَى عني هاهنا بالبصرة (يعني قال لطلابه وتلامذته والله لقد روىجرير بن عبد الله هذا الحديث مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا تحدثوا به عني ـ أي عن منصور بن عبد الرحمن ـ هنا في البصرة).
لماذا؟ البصرة في هذا الزمان هي موطن الفِرَق، موطن المعتزلة والخوارج والمرجئة وموطن المجادلين، إنما موطن الفِرَق التي ظهرت في أول الإسلام بعد خروج الخوارج على عليٍّرضي الله عنه،وعلى بقية الأمة، وظهرت الفِرَق ترد عليهم وتناقشهم وتجادلهم، وكل حينتطلع فِرْقَةٌجديدة. المسلمون المؤرخون لعلم الكلام سمّوا هؤلاء، سمّوا أهل هذه الفِرق،أهل الأهواء حتىلا يقولوا هؤلاء كفّار أو خرجوا من المِلة أو ما إلى ذلك.إنما عندهم هوى.الأهواء هي الرغباتوالانحرافات الفكرية. فقالوا هؤلاء هم أهل الأهواء.
إذا قلنا لهؤلاء الناس «أيماعبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم»سيحملون كلمة الكفر هنا على الكفر الحقيقي، على الخروج من الإسلام، على كفر المِلة. لكننا سنظل نقولإن كل الأحاديثفي هذا المعنى (معنى الكفر) أو جُلَّهاليست محمولة عليه. فإذا حملوه على كفر المِلة استباحوا الدماء والأموال والفتن، فكأننا نكون أعطينا لأهل الفتن سلاحًا. والإمام البخاري في صحيحه عنده عنوان جميل جدًّا قال:"باب من خصَّ بالعلم قومًا دون آخرين"،وقال في بعض المواضع: مخافة ألا يفهموا.وفي ثنايا الأحاديث ذكر أن من ضمن الأسباب التي يخص بها بعض العلماء قومًادون قوم خوف الفتنة.
فعندنا مخافة ألا يفهموا، وعندنا مخافة الفتنة، وعندنا كل مضرة يمكن أن تقع بالمسلمين ينبغي درؤها. فإذا كان ذكر بعض العلم لبعض الناس يأتي بمضرة فينبغي أن نمنع هذه المضرة بمنع العلم عنهم.
المعتزلة والخوارج كان عندهم خلاف مهم جدًّا في التاريخ حولصاحب الكبيرة، أو مرتكب الكبيرة،أيخلد في النار أم يدخل قليلاًثم يخرج؟ جمهور أهل السنة والجماعة كانوا يقولون إن مرتكب الكبيرة إذا تاب ومات تائبًا فالله تبارك وتعالى يغفر له، وليس عليه من الذنوب إلا ما قد يكون مات مصرًّا عليها. أما إذا لم يتب فأمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه. وقالوا هذا لأسباب كثيرة منهامثال المرأة والهر والمرأة والكلب.امرأة سقت كلبًاكان عطشانًا فغفر الله لها وهي بغيّ من بغايا بني إسرائيل، وامرأة حبست هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فأدخلها الله تبارك وتعالى النار في هذه الهرة، وهي كانت امرأة مؤمنة بالدين الذي كان في وقتها.
الخوارج والمعتزلة كان عندهم خلاف كبير في مسألة أصحاب الكبيرة، المعتزلة كانوا يرون أن أصحاب الكبائر حالهم لا صلاح له سواء تابوا أم لم يتوبوا. الخوارج كانوا يرون أن مرتكب أي صغيرة مصممًاعليها، ومرتكب أي ذنب مصممًاعليه،حتى الكذاب، فهم يرون أن الذي يكذب كذبة يكفر بها، وعليه أن يُجدد إيمانه، وأول ما يرجع يكذب يرجع تاني يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.ويعتبر نفسه دخل في الإسلام من جديد. فالخوارج يُخرجون الناس من المِلة بأي ذنب، والمعتزلة عندهم مشكلة مرتكب الكبيرة، هل هو في منزلة بين المنزلتين، أم هو في منزلة من منازل أهل النار، أم هو في منزلة أهل الجنة إن تاب؟
فدرءًالهذه الفِتن قال منصور بن عبد الله الراوي عن جرير إنه والله قد سمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا تحدثوا به عنه في البصرة فيتلقفه أهل الأهواء هؤلاء ويمشون به في أهوائهم.
موضوع الكفر في هذا الحديث تأويله كالأحاديث السابقة أي أنه عمل عملاً من أعمال الكفار، أو أنه عمل ما يؤدي إلى الكفر، أو أن المراد كفر النعمة والإحسان، أو أن ذلك في المستحل لما ورد ذمه في الحديث.
عن جرير رضي الله عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أبق العبد لم تُقبل له صلاة».
فعندنا حديثان: عندنا حديث «أيماعبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم»، وحديث أنه لا تقبل صلاته.
مسألة لا تقبل صلاته للعلماء فيها كلام طويل، خلاصته أنه عدم قبول الصلاةمعناهأن الصلاة لا يُثاب المرء عليها، أي لا يُكتب له ثوابها. لأن الصلاة: تُسقط الفريضة؛لأن الله فرض علينا هذه الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فالذي يُصلي يُسقِط الفريضة عن نفسه، فيكون أدى الفريضة التي عليه. ثم تفضل الله علينا بثوابه. فإذا أديتمالفرائض التي فرضتُها عليكم أعطيكم ثوابًا، مع أننالو أدينا الفرائض نكونأدينا الواجب فقط، لكن المسلم يعمل الفريضة فَيُثِيبُهُالله عليها، يسقط عنه فرضها ويثيبه على عملها.
فقوله"لمتقبل له صلاة"يعني صلاته صحيحة لكنه لا يُثاب عليها، ليس عليه أنيعيد الصلاة. مثل مَنْ؟
مثل الذي يصلي في ثوب مغصوب، واحد وجد ثوبًاسرقه فصلى فيه. الصلاة في ثوب مغصوب قالوا عنها صلاة غير مقبولة.
الصلاة في الأرض المغصوبة، أو في الدار المغصوبة صلاة غير مقبولة. هذه الصلوات لا يُثاب عليها صاحبها لكن لا يُؤمر بقضائها ولا يُعاقب عليها بعقوبة تارك الصلاة.
لماذا كانت حكاية الإباقهذه مهمة في ذلك الزمن؟ نحن الآن انتهينا تمامًاالحمد لله من الرق كله، ولا يهمنا من أبق ومن قعد.
موضوع ترك العبد المكان الذي يعيش فيه، مكان مالكيه،كان موضوعًامهمًاجدًّا وله قيمة في ذلك الوقت. لماذا؟
لأمرين،الأمر الأول: أن هذا العبد المسلم قوة لصاحبه، أو قوة لعشيرته أو لقومه أو للأمة الإسلامية. فإذا أبق ذهبت هذه القوة وضعفت، وكثير من هؤلاء كانوا من الأشداء الأقوياء المحاربين، فنحن هكذا نخسر هذه القوة.
الأمر الثاني: أن الرقيق كانت له قيمة مالية، فكأن هذا الآبق قد سرق صاحبه. يعني هو نفسه قيمة مالية يباع ويُشترى، هذا أمر انتهى والحمد لله، لكن هذا البيع والشراء معناه أن العبد الذي يساوى مئة ألف لو أبِق يكون ضيّع على صاحبه هذا المال وكأنه أخذ ماله. ولو أبِق يكون أيضًا ضيع على صاحبه فرصة إعتاقهالتي يحصل بها المعتٍق على ثواب عظيم، أو فرصة المكاتبة. المكاتبة أنه يتفق معه، يقول له لو بعتكفي السوق سأبيعكبمئة ألف، أنا دائنلك بستين على أقساط وبعد ما تكمل هذه الأقساط تتحرر. هذا المكاتَب له مزية عظيمة جدًّا أنه إذا مات مكاتِبه، أي مالكه تحرر العبد. ويبقى عليه أن يسدد للورثة باقي الفلوس، ولا يستطيع أحد أن يلغي عقد الكتابة بين العبد ومالكه.ولا حتىالمالك نفسه،فالعقد ملزم له لا يستطيع أن يتحلل منه، لأن الإسلام سار دائمًا مع تحرير الرقيق، الإسلام جاء فوجد الرق فشرع له العتق كما قال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه، كان دائمًا يقول جاء الإسلام فوجد الرق فشرع له العتق، الرق كان موجودًافي الإسلام وبقي بعد الإسلام قرونًاطويلة.
فكرة البيع والشراء للإنسان أصلاً غير مقبولة إسلاميًا بأدلة كثيرة جدًّا، لكن التنظيم الذي كان موجودًا كان أمرًاواقعًا، كانهناكفي الواقع رقيقيُباع ويُشترى فنظمه الفقه. لكن هذا الفقه غير ملزِمٍ.فإذا انقضى الرق والحمد لله،فتح الله باب العتق إلى يوم القيامة.ولو فرضنا أن البشرية انتكست وعادت إلى تنظيم الرق مرة أخرى فإن الأقوال الفقهية التي تحقق مصلحة الرقيق وتؤدي إلى تحريره بأيسر السبل هي المقبولة دون سواها.
* * *
الحديث الذي يليه عنوَّن له المنذري إنما وليي الله وصالح المؤمنين.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلمجهارًا غير سريقول:ألا إن آل أبي(يعني فلانًا) ليسوا لي بأولياء، إنما ولييَالله وصالح المؤمنين»، وذكر قومًا أبَى الراوي أن يذكر اسمهمولم يستطع علماء الحديث أن يتعرفوا عليهم.لماذا أبى الراوي أن يذكر اسمهم؟ كي يسترهم. كانوا في هذا الوقت قد عملوا عملاً سيئًا، أتوا بجريمة أو بذنب أو بمعصية أو كبيرة. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعلن بغضه وكراهته وعدم رضاه عن هذه المعصية، فذكرهم باسمهم فقال:"ألا إن آل أبي فلان"ثم جاء الراوي الصحابي لم يقل اسمهم، والمحدثون بحثوا عنأسمائهم، ليعرفوامن الذي عمل المعاصي، ومن هم الأقوام، ولم يستطيعوا معرفتهمأبدًا. ولذلك في أحاديث البخاري ومسلم وفي أحمد كلهم جاءبرواية آل فلان.عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سر، أي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن ما أراد أن يسمعه الناس، لم يخفه، ولم يسر به إلى أحد من أصحابه دون أحد، لأن المقصود كان التبرؤ من فعل المعصية، ومن الواقعين فيها، وهذا من باب النهي عن المنكر الذي يجب أن يحدث أثره في الأمة كلها، والإسرار به يؤدي إلى عكس المقصود، ولذلك حرص عمرو بن العاص على ذكر جهر النبي بهذا الكلام. وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.
"وليي الله وصالح المؤمنين" يعني أنا أتولى الله والله يتولاني، إذا العبد تولى الله تولاه الله. فإذا عصاه فكيف يكون حاله؟ باب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، وكلما تاب كلما تقرب إلى الله تبارك وتعالى. وفي الحديث الصحيح «لو لم تُذْنِبوا لأذهبكم الله وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم».أقول ذلك من أجلالشباب الذين يتصورونأنهم لو عملوا غلطة تكونالدنيا اتهدت، الدنيا لم تنهد، باب التوبة مفتوح وممكن يرجع فورا. والله سبحانه وتعالى يغفر له، بل «أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات»فالسيئة التي عملها الإنسان إذا تاب توبة صحيحة تتحول إلى حسنة، في الآية «ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا».
قال عمرو بن العاص: "سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سر" يعني أن النبي لم يُخفِهذا التبرؤ من الذين فعلوا الفعلة السيئة أو المعصية أو الذنب الذيأغضب الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإمام النووي قال إن هذا اللفظ الذي رواه عمرو يقول جهارًا،فيه تعليم المسلمين أن يتبرؤوا من أهل المعاصي والذنوب ولا يخافوا. فلايقولون: لا هذا يمكنه أنيدخلنا السجن، هذاممكن يؤذينا، هذاممكن يرفدنا. لا،على المسلمين أن يتبرؤوا من أهل المعاصي تبرؤًاحقيقياً. فإذا خاف المسلم على نفسه من هذا التبرؤ يتبرأ بقلبه مثل الأحاديث التي قلناها:«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»قلنا إن أول التغيير بالقلب، لأن أول ما يرىالإنسان المنكر،يقع في نفسه الاشمئزاز منه. فالتبرؤ ممن ينبغي التبرؤ منهم يجب أن يكون جهارًا إذا كان المرء قادرًاعلى الجهر، ويجب أن يكون خفية إذا كان المرء يخشى من الجهر على نفسه أو على أولاده أو على ماله...الخ.
قال الإمام النووي: "ما لم يخف فتنة أعظم من مصلحة التبرؤ". ما هي مصلحة التبرؤ؟ مصلحة التبرؤ أن الناس تعرف أننيغير موالٍلهؤلاء الناس، لست مع الكذابين، لست مع الغشاشين، لست مع الذين يزورونالانتخابات، لست مع الذين يعتقلونالناس ويعذبونهم، لست مع الذين يحكمونبالظلم في القضايا، لست مع الذين يرتشون. هذا التبرؤ مهم لأنه يشجع المتردد أن يتبرأ مثلك، ويُقوّي الخائف فلا يكون عنده رعب من هذا الظالم الذي يظلم الناس. ويُشيع في الناس فيشيع في الأمة ويشيع في البلد روح الكشف عن الفساد،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي روح ضرورية لبقاء المجتمع. فالتبرؤ الجهري ضروري جدًّا، لكن الذي كُلِف به هو الذي يستطيعه، ليس كل الناس يقدر عليه، وهذه مسالة بين العبد وبين ربه، لا يعرف أحد ما الذي تقدر عليه وما الذي لا تقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. فإذا قلت والله أنا غيرقادر وأنت في الواقع قادر فأنت المسؤول. إذا أقدمت على مجازفة وضيعت نفسك، فإن شاء الله يكتب لك الأجر، لكن ليس مطلوبًا منك أن تجازف.
فهذه المسألة لها ميزان حساس ودقيق، ينبغي على كل إنسان أن يراه في نفسه ويطلع عليه من ذاته. فيقول أنا أستطيع إلى هذا الحد،ولا يقدم على ما فوقه مما لا يستطيع أو مما يهلكه، أو مما يُحدث فتنة في المجتمع.
وهناك معنى جميل أنالصحابي الراوي لم يرض أن يذكر اسم القوم الذين تبرأ من ولايتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا المسلكينبغي أن ننتبه إليه؛لأن الصحابة تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا أساء بعض أصحابه قال:"ما بال أقواميفعلون كذا وكذا"وكثيرًا ما كان يقول ما بال أقوام والناس يعرفونهم أغلب الأوقات. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصرح بأسمائهم حتى لا تكونفيذلك مذمة لهم، ولا لمن يأتي من بعدهم من أحفادهم وأحفاد أحفادهم،وتظل قاعدة إلى يوم القيامة، خصوصًا عند العرب أهلالشعرالذي هو ذم هجاء يخلد السيئات، أومديح وثناء يبقي ذكر الحسنات.
* * * * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذريبعنوان:جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.
العنوان يشرح نفسه.والحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يظلِم مؤمنًا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة (ليس هناك حسنة من الحسنات، أي قربة إلى الله تعالى، أي طاعة تعملها إلا وتُثاب بها في الدنيا وفي الآخرة)وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها».
عندنا أربع حالات: حالة الجزاء الدنيوي للمؤمن والكافر،وحالة الجزاء الأخروي للمؤمن والكافر.
الجزاء الدنيوي والأخروي مضمونان للمؤمن إذا عمل الحسنات بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، مهما صغرت أو كبرت، فإن الله تبارك وتعالى يجزيه في الدنيا ويجزيه في الآخرة.
وماذا عنالآخر، الذي ليس مؤمنًا ولكنه يعمل حسنات، سيأتي علينا سؤال مهم: كيف يعمل الحسنات وهو ليس بمؤمن؟ العلماء علمونا أنه ليس بعد الكفر ذنب.نعم، هذاصحيح،ليس بعد الكفر ذنب. لكن خدمة الإنسانية حسنة، الذين اكتشفوا البنسلين والذين اكتشفوا المضاد الحيوي والأدوية التي نُعالَج بها، هذهكلها حسنات، الذين اخترعوا الطائرات النفاثة، والذين اخترعوا الطائرات الأسرع من الصوت، والذين اخترعوا السيارات، كل هؤلاء عملوا خدمات جبارة للإنسانية. والذين عملوا الأنفاق تحت الأرض لتسير فيها القطارات، ويعبر فيها المشاة في مكة، وبين مِنى ومكة والتي حلت مشكلة المرور. وهؤلاء كلهم ليسوا مسلمين. طيب هل هؤلاء لهم حسنات على هذه الأشياء أم ليس لهم حسنات؟ هذا هو الذي يُعطَون به في الدنيا.
الحسنة هنا لها معنيان: حسنة في ظن الفاعل، مثلاً السيدةالإنجليزية التي كان زوجها معتمداًسامياًفي مصر، وعملت مستشفى لعلاج الفقراء في حي من الأحياء، هي تظن أنها تصنع حسنة. الراهبات والمبشرات اللاتي جئن لبلادنا ليبشرن بالمسيحية، وفتحنمستوصفات وعالجنأُناسًا لم يكن ممكن أن يُعالجوا في بلادهم أصلاً. هنيظنن أن هذا العلاج وهذا الدواء، أو هذا التعليم الذي يقدمنه للناس حسنات يتقربن بها إلى الله في ظنهن. هل تضيع عليهن؟
من عدل الله ورحمته ألا تضيع عليهم، إنما يُعطَون بها في الدنيا. كل الأشياء الحسنة التي صنعوها، التي مكنت لنا ويسرت لنا أنواع حياتنا وسُبل علاجنا ووسائل تعليمنا، يأخذونحسناتهم عنها في الدنيا، لأن ربنا أرحم وأعدل من أن يحرمهم أجر ما فعلوا. أماالآخرة، أما الجنة فهي لله وحده،يتصرف فيها لمن آمن به ويحرمها من كفر.
والحديث واضح الدلالة في هذا: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة، أما الكافر فيُطعم بحسنات من عمل بها لله، يعني في ظنه أو في الواقع، في ظنهم يعني إذا كان هو مبتغي وجه الله كما ذكرت عن الراهبات وغيرهن، أو في الواقع مثل الذين اخترعوا الاختراعات واكتشفوا الاكتشافات. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها.
يعني يقف بين يدي الله أمره متروك إلى الله سبحانه وتعالى، ليس عنده حسنات، يقول يا رب أنا عملت بنسلين، يقول له: أعطيتك فلوس، وأخذت جائزة نوبل، وأخذت قصرًا، وسكنت على بحيرة جنيف. فاكرين صاحبنا النجدي الذي ذهب ذات مرة إلى بلد من بلاد أوروبا في الصيف، فجلس في الحدائق الغناء والقصور الفارهة والشوارع النظيفة. ثم لما انتهت أجازته وقرب يرجع سأله صاحبله: "كيف كانت عطلتك؟"قال له: "لقيت الحل كله، الله سيأتي بنا في الآخرة إلى هنا،ويأخذ الكفار إلى نجد". وهذا نوع من العطاء ينبغي أن نراقبه في أنفسنا ونراقبه في غيرنا.
* * *
الحديث الذي يليه عنوانه:الإسلام ما هو وبيان خصاله.
وهذا من الأحاديث المشهورة جدًّا،وتعب فيها العلماء المسلمون.عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال:«جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد (نجد هي في وسط الجزيرة وعاصمتها الآن الرياض، وفيها القصيم والدهناء... هي وسط المملكة العربية السعودية)ثائر الرأس (شعره منكوش)نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، (لا يفهم منه أحد، هو بدوي من أهل نجد يتكلم برطانة بدوية لا يفهمها أهل مكة والمدينة والحجاز الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرشيين ذوي البلاغة والفصاحة وحسن مخارج الألفاظ)حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام (لم يفهموا ما يريدهإلا لما اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام)فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع"(إلا إذا أردت أنتتطوع تَطَوَّعْ)قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:وصيام شهر رمضان. فقال الرجل: "هل عليَّ غيره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إلا إن تطوع. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة. فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول (أدبر يعني أعطى ظهره للرسول صلى الله عليه وسلم، انتهتأسئلتهفانصرف)والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أفلح إن صدق». (وفي رواية صحيحة في مسلم أيضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلح وأبيه إن صدق»أو «دخل الجنة وأبيه إن صدق»وأبيه هذا قسم)
الحديث ملئ بمعانٍجميلة، أول ما أرغب في قولهإن رواية البخاري فيها عموم أكثر منرواية مسلم، لأن في رواية البخاري في هذا الحديث عن طلحة بن عبيد الله بعدما قال الصلاة والزكاة والصوم قال:"وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام".فكأن هذه الرواية مختصرة، والثانية قال إنه أخبره ببقية شرائع الإسلام، لماذا بدأتُبذلك؟ لأن كثيرًامن الناس عندمايسمعونهذا الحديث يقولون: لم يكن غير الصلاة والصوم والزكاة، فأين الحج وأين الشهادتان (الشهادتان؟!لقدجاء الرجل ليسأله ما هو الإسلام فلابد أنأنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إذاً الإيمان متضمن في السؤال وإلا ما كان سأل).بقية الأركان عندمانقرأ رواية البخاري نجد:«وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام». يبقى رواية الإمام مسلم مختصرة تدلنا على فحوى الحديث، ولا تفصِّل كل ما جاء فيه. حتى رواية البخاري لم يأت بالتفاصيل، قالفيها: أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام.
ثانيًا: مسألة القسم، أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق. كيف يحلف الرسول صلى الله عليه وسلم بغير الله سبحانه وتعالى وهويقولفي الأحاديث الصحيحة «من كان حالفاً فليحلف بالله»و«لا تحلف إلا إذا حُبست على اليمين»يعني كنت أمام القاضي وقال لك: قل والله العظيم أقول الحق. وإخواننا الذين تعرفونهم يقولون:الذي حلف يدخلالنار، والذي حلف عليه إثم فظيع. وإذا قلتلأحدهم: "والنبي اعطني ماءً"، يقول لك:"تحلف بالنبي ليه؟ الحلف بالنبي كفر". لكنالنبي صلى الله عليه وسلم حلف بأبي الرجل، ونحن لا نعرف من هو الرجل ولا أبوه. ومع ذلك حلفالنبيبأبيه، لماذا؟
لأن هذا القسم جرت به عادة العرب. كان النبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه في حديث آخر قال: «كقول الرجل في بيته لا والله بلى والله».ولما سألوه عن اللغو «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم»قال:«هو قول الرجل في بيته لا والله وبلى والله»لا والله لن آكل"رجل غاضبمن زوجتهفتقول له: "كل". يقول: "لا والله لن آكل". وتأتي له بالأكل فيأكل لأنهجائع. أو هي تقول له: "والله لن أخرج معك غدًا". ثم يأتي غدًا ويصعب عليها فتذهب معه.
فقول الرجل أو قول المرأة يعني قول الإنسان. قول المرء في بيته لا والله، بلى والله هذا ليس مما عقَّدتم الأيمان «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان»الذي هو اليمين المُغلظ الموثق الذي تقصد به أن تمتنع عن فعل شيء أو أن تُقبل على فعله. فإذا لم يكن هذا الأمر كذلك فهذا اليمين لا شيء فيه. من هذا اليمين الذي جرى على لسان العرب: أفلح وأبيه، دخل الجنة وأبيه.
طيب أفلح ودخل الجنة الاثنين مثلبعضهما، لأن الله سبحانه وتعالى لما أرادأن يمن علينا قال «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون»وفي الآية الثانية «فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز».الفوز والفلاح كلمتان متقاربتان ومعناهماواحد. ففاز وأفلح ونجا كلها في لسان الشرع تعني دخول الجنة. فلماقالالنبي صلى الله عليه وسلم:«أفلح وأبيه»وقال في رواية ثانية:«دخل الجنة وأبيه»الإثنان مثل بعضهماأو قريبان من بعضهما.
وأبيه قلنا ليست قسمًا عقد عليه العزم، إنما هو قسم مما جرى به لسان العرب وعاداتهم. فلا يقول أحد إن هذا تجاوز أو إن الحديث غير صحيح، والإمام مسلم مخطئفي الرواية أو الصحابي مخطئ. كلا!الحديث صحيح والرواية صحيحة.
بعض الروايات التي وردت في مسلم وفي غيره فيها خصال مثل الحج، مثل الشهادتين في بعض الروايات الأخرى. العلماء قالوا إن نقص ذكر بعض الخصال جاء من قِبل الرواة لأن الواقعة واحدة: الرجل الذي هو من نجد ثائر الرأس ونسمع دوي صوته هو واحد،وليست لديناخمس أو ست حوادث،كلها حدث فيها نفس الحكاية: هل يعقل إن كل أهلنجد يأتون ثائري الرأس؟. فالواقعة واحدة، ونقص بعض الخصال، خصال الإسلام مثل الشهادتين والحج إنما جاء من قِبل بعض الرواة؛لأنهم أرادوا أن يدلونا على القصة. المهم في هذا الحديث هوما قاله الرجل في النهاية:"والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه" والنبي صلى الله عليه وسلم رتب على إتيان الضرورات، أي إتيان الحد الأدنى، إتيان الفرائض فقط. إذا أتاها ولم يزد عليها ولم يُنقص منها،دخل الجنة.أو أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق.
فقال العلماء:انتبهوا، هلمعنى ذلك أن نتوقف فقط عند الفرائض ولا نفعل النوافل؟ طبعًا لا، فالمداوم على ترك النوافل تسقط عدالتهلأنه لم يكترث بما ترتبه له النوافل من ثواب الله تعالى. يعني مثلاً واحد يصلي الفرائض فقط ولا يصلي نافلة، لا ركعتين بعد الظهر ولا ركعتين بعد المغرب مرة، ولا الشفع بعد العشاء مرة ولا الوتر، على قول أن الوتر سنة مؤكدة. لأن هناكناس قالت إن الوتر واجب ولابدنسمع كلامهم ونصلي الوتر. فالذي يترك النوافل كلها، لم يصم مثلاً ولا يوم غير رمضان، لم يتصدق إلا بالزكاة اثنان ونصف في المئة ويحسبها بالمليم. قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول لنا إن هذا الحد الأدنى هو معيار القبول، ده درجة مقبول. لكن من فينا يضمن أن يبقى على هذا الحد الأدنى بلا خطأ وبلا معصية وبلا ارتكاب ذنب، وبلا تقصير في أداء واجب؟ إذن،كيف نجبر المعاصي والذنوب والتقصير في أداء الواجب؟ نجبرهابالنوافل، نجبرهابأن نصلي أكثر من الفرائض قليلاً، نجبرهابأن نصوم أكثر من رمضان قليلاً، نجبرهابأن نجعل في أموالنا حقاً سوى الزكاة، مثل الحديث الصحيح عندماسألوا النبي صلى الله عليه وسلم:«أفي المال حق سوى الزكاة؟ قال: "نعم».
فإذا جبر التقصير في هذه الفرائض يكون قد التزم. فماذا قال؟ قال: "والله لا أزيد عن هذا ولا أنقص". فلا يزيد ولا ينقص، يعني عمل على نفسه عهدًا. ماذالو نقص؟كيف يُصلح الوضع؟..لا أحد فينا يضمن ألا ينقص. فلأننا لا نضمن عدم النقص،ينبغي لنا أن نستعد له بالنوافل والتطوع والزيادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إلا أن تطوع".إذ،كل واحد فينا عليه أن يتطوع بقدر ما يستطيع جبرًا لما سيدخل حتمًا على هذا الحد الأدنى من نقص نتيجة الطبيعة البشرية، والمشاغل الحياتية وغيرها.
قال الإمام النووي كلامًاجميلاًجدًّا. قال: إن القاضي عياض قال إن هذا الحديث دل على أن الصلوات الخمس هي الركن، فعندمانقول أركان الإسلام،"بُني الإسلام على خمس".أما النوافل فليست ركنًا، والوتر ليس أيضًا من الواجبات. لأنه لو كان الوتر من الواجبات كما يقول بعض إخواننا لقال له أن يصلي الوتر أيضًا. ولو كانت سُنة الصبح كما يقول بعض إخواننا من الواجبات، التي هي ركعتان قبل الفجر، لقال له يجب أن تصليها. إنما هو قال له خمس صلوات في اليوم والليلة، فعليه أن يصلي الخمس وهيالركن.
قال أيضًا إن هذا الحديث يدل على أن قيام الليل منسوخ «ومن الليل فتهجد به نافلة لك»منسوخ في حق الأمة؛لأنه لو كان واجباًعليه أن يصلي الليل، لقال لهالنبي صلى الله عليه وسلم:خمس صلوات في اليوم والليلة وبعضصلوات في الليل. لكنهلم يقل له شيئًاعن الليل. إذن،صلاة الليل منسوخة في حق الأمة ، أما هل هي باقية أم منسوخة في حق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فهناكخلاف بين الفقهاءفي ذلك.
أستعمل كلمة منسوخة متعمدًا،لأنني أعرف أنكم سمعتم من بعض إخواننا أنه ليس هناك نسخ في الإسلام. إخواننا يتكلمون عن القرآن، أنه ليس هناك نسخ في القرآن. أما النسخ في أحكام السُنة والأحكام التشريعية التي جاءت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فواقع قطعًا. الكلام هل في القرآن آيات منسوخة وآيات ناسخة أم لا، كلام طويل ليس هذا مجاله.
قال النووي تعقيبًا على كلام القاضي عياض قال:"وليُتَنَّبه (يعني يتنبه الذي يقرأ ويسمع) أنه لا عاشوراء ولا غيره واجب الصيام". لأنه يظهر أنه في زمنه كانت الناس توجب صيام عاشوراء. فقال لو كان هناكواجب غير رمضان،كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره وأخبرنا به. وأن الحق الذي في المال هو الزكاةفقط، وما زاد على ذلك فهو نافلة. ويبقى حديث:"نعم في المال حق سوى الزكاة"يقصد به التطوع والنوافل.
الصحابة هنا لهم كلام جميل: "كنا نهاب أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من البادية حسن السؤال أو حسن المنطق (في رواية) فيسأله فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتعلم من سؤاله ومن جواب النبي عليه الصلاة والسلام"
لذلك،فكثير من الأحاديثتبدأ بقصة أنه جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم،والصحابة هم الذين يروونها، الصحابة الكبارمثل عمر وعثمان... ما معني هذه الحكاية؟ ألمتكونوا تعرفونهذا الموضوع؟ كلا،لم يكونوا يعرفونه، كانوا يهابون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانته.
وسنرى صورة من صور المهابة الآن عظيمة جدًّا. كلنا نعرف حديث جبريل عندماجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم،«شديد بياض الثياب وشديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد. فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخديه (يعني على فخذي نفسه، إنهاجلسة التلميذ؛جلسة طالب العلم) ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء:ما الإيمان؟،وكذا.. فلما ذهب قال: اطلبوا صاحبكم. فطلبوه فلم يجدوه. فقال لهم:هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم».شرح الشُراح هذا الحديث فقالوا إن أحدًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،إلى أن وقعت هذه الحادثة في المدينة،لم يسألوا عن هذه الأشياء. آمنوا به وصدقوه، وهاجروا معه وتركوا الولد والمال والأهل في مكة وفي غيرها دون أن يسألوهما الإيمان وما الإسلام وما الإحسان؟.سمعوا القرآن فصدقوا أن هذا من عند الله، وأن الذي يتلوه مبعوث،فصدقوا هذا المبعوث واتبعوا النور الذي أنزل معه. ولما جاء الوقت الذي ينبغي أن يعرفوا فيه هذا،أرسل الله جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الأسئلة، فسأله فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم فعرفناالإجابة.
كان هذا شأنًا مكررًافي الأحاديث: إما أن يصنعه عاقل من الأعراب وإما أن يصنعه رسول من الملائكة كما جاء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا لطيفة في الفرق بين صورة جبريل (شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)، وصورة الرجل النجدي (ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، ثم هو ينصرف موليًا مقسمًا بالله ألا يزيد ولا ينقص على ما ذكره النبي من الفرائض).فعلى المسلم أن يختار في أي الصورتين يكون وأي المسلكين يتبع(!)
* * * * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري بباب بُني الإسلام على خمس.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:بُنِيَالإسلام على خمس؛على أن يُوحَّد الله (وهناك روايات أخرى صحيحة شهادة لا إله إلا الله وأني رسول الله. والروايات هذه تكمل بعضها)وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج. قال رجل (من الجالسين مع عبد الله بن عمر)الحج وصيام رمضان. فقال عبد الله بن عمر: لا،صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
يثير هذا الحديث سؤال:لماذا قُدِّمَالصيام على الحج؟ وهل أُخِّرَالحج لأنه ليس كل الناس تستطيعه، لكن الصيام يندر من لا يستطيعه. وهذه المسألة في الحقيقة لا أثر لها.إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأركان الخمسة، قدم واحدًاعلى واحد، أخَّر واحدًاعلى الثاني. يهمنا أن التوحيد لم يتأخر في أي رواية من الروايات. التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن رسول الله، أو أن يُوحد الله كان دائمًا في أول الروايات وأول المذكورات في كل الروايات وتلته دائمًا الصلاة، ثم بعد ذلك تقديم وتأخير الصيام والحج لا يهمنا. لكن هذه الأركان: التوحيد والصلاة قرينة أحدهما للآخر بترتيب لا يمكن أن يختلالترتيبفيها؛لأن الذي لا يوحد كيف يصلي؟ إنما إذا وحد فصلى يستطيع أن يفعل بقية الأشياء كل واحدة على حسب مقدرته، الزكاة إذا كان عنده مال، صيام إذا كان عنده صحة، الحج إذا استطاع إليه سبيلاً وهكذا.
بُني الإسلام على خمس أن يُوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج... إلى آخر الحديث
فيأتي بعض إخواننا ويقولون:خلاص،بُني الإسلام على ذلك وليس عليك شيء آخر، لا المرأةتتحجب ولا الرجل يحتشم في ملبسه ولا الناس تتكلم بكلام نظيف، ولا أحد يسرق مال أحد،خلاص. هذا هوبناء الإسلام،وكملنا الأركان. فكان للعلماء كلام طويلفي هذا، ولك أن تقول: أرأيت أنك لو بنيت بيتًا على أعمدته ثم تركته على هذه الأعمدة،أيُسكن؟ هو فيه بيت بعمدان، هيكل فقط؟، لا طبعًا،لا يُسكن.فماذا يلزم البيت؟ يلزمه حوائط وشبابيك وأبواب ودهان. ولما يتكسَّر تصونه وترممه، وهكذا الإسلام فيه هذه الأركان يقوم عليها ولا يصح إلا بها، ولكن هناك آلاف الأشياء الأخرى التي ينبغي على كل مسلم ومسلمة أن يلتزم بها ويعملها وأن يُجَوِّدَها ويُحَسِّنَها حتى يُجَمِّلَبيته. وبقدر ما جمَّلت بيتك بقدر ما أحببت أن تعيش فيه. وبقدر ما أهملته بقدر ما أحببت أن تتخلص منه. فكذلك الإسلام،هو هذا البناء الذي لا يقوم إلا بالأركان، لكن لا يكون كاملاً بمجرد الأركان، يكون قائمًافقط ولا يكون كاملاً، يكمل ببقية الأشياء التي هي سائر الواجبات والمندوبات وما إليه.
* * * * *
الباب الذي يليه باب أي الإسلام خير.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».
الأئمة الشُراح عندما تكلموا عن هذا الحديث قالوا إن خصال الخير تتفاضل وخصال الشر تتفاضل. ليست كل خصال الشر في مرتبة واحدة،ولا كل خصال الخير في مرتبة واحدة. والصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة كثيرة عن أي العمل أفضل أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بإجابات مختلفة. مرة قال لواحد الجهاد في سبيل الله، ومرة قال لواحد بر الوالدين، ومرة قال لواحد الصلاة على وقتها (يعني في أول وقتها) ومرة قال لواحد النفقة على ظهر غِنى، أو الصدقة عن ظهر غِنى. وهذه المرة قال للرجل تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. قالوا تنوعت إجابات رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب حال السائل، السائل الذي صلاته غير منتظمةقال له الصلاة لوقتها، السائل البخيل الشحيح قال له الصدقة عن ظهر غِنى، الله أعطاك فتصدق. السائل الذي لا يبر والديه كما يجبولا يزورهم إلا مرة في السنة أو كل ستة أشهر فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له بر الوالدين. الذي يريد أن يذهب للجهاد لكنهجبان قال له الجهاد في سبيل الله. قال لكل سائل جوابًا يصلح به شأن هذا السائل. طيب،أشأن هذا السائل وحده؟ أم شأن كل من كان على شاكلتهإلى يوم القيامة؟ لأن النفوس البشرية فيها هذه النوازع، فيها الخوف وفيها الإقدام، وفيها الشجاعة وفيها الجبن، فيها البخل وفيها العطاء. فيها كل الأشياء. فيها حب العبادة وفيها استثقالها، مش فيه أليس هناك من لا يقوم إلى الصلاة إلا كارهًا، هو يصلي فروضهالخمسة،لكن مع الاستثقال. وهناك من يسمع الأذان فيقوم بسرعة يتوضأ ويصلي، وهناكلا يلحق بالجماعة إلا في آخر ركعة ودائمًا مشغول. فالمشغول لازم يتذكرأنه لا يجوز أنيكون مشغولاًطول الوقت،ويأتي الجماعة في أولها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب هؤلاء الناس إجابات تتنوع على حسب تنوع أحوال السائلين،حتى ينبه كل سائل إلى ما ينقصه من الخير فيفعله، ولعل هذا السائل كان محتاجًا إلى أكثر من خصلة؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».إطعام الطعام يعني تعطي من يحتاج إلى الطعام، لا تكن بخيلاً في طعامك. وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف،أليس النبي هو القائل:«ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: افشوا السلام بينكم».كلما لقيتَ أحدًا تقول السلام عليكم، تقولهالمن تعرف ولمن لم تعرف.
واحد قال لي: "في مصر لا ينفع أن نقول السلام عليكم طول النهار لأنك ستجد نصارى ومسيحيين ويمكن تلاقي يهود". فسألته: "ما الضرر؟"قال: "هؤلاء لا يجوز السلام عليهم."فقلت له: "لا بل السلام عليهم واجب. ألم يكنالنبي صلى الله عليه وسلم يعيش في المدينة المنورة مع أصحابه،ألم يكنفيها يهود ومشركين؟ وقال للرجل تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. وعندماقال لهم أفشوا السلام بينكم.وكان يعرف أنهم لم يكونوامسلمين فقط،لكنه يقصدالأمة التي تعيش مع بعضها. فأنت إذا قلت له السلام عليكم ورحمة الله فلم يجبك أو أجابك إجابة سخيفة، أنت أخذت الثواب وهو أخذ الذنب والإثم والوزر وليس عليك شيء. ولو كان غير مسلم أنت غير مسئول أن تسأله أولاً أنت اسمك إيه؟ إنما تقرأ السلام على من لقيت من الناس مسلمين أو غير مسلمين. إن كانوا مسلمين ردوا عليك وأنت وهم أخذتم الثواب. وإن كانوا من غير المسلمين فمنهم من يرد عليك،منهم من يرد السلام كما نرده نحن،فجزاهم الله خيراً. ومنهم من لا يرد أو يرد بطريقة أخرى فهذا ذنبه هو،ليس لك شأن فيه. أنت غير مكلف إلا أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
الحديث الأخير في هذه القراءة هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عنون له المنذري بقوله باب الإسلام يهدم ما قبله،والحج والهجرةيعني الإسلام يهدم ما قبله من المعاصي، والحج والهجرة يهدمان ما كان قبلهما من المعاصي.
عن الأول عن أبي شُمَاسَة المَهْري قال:«حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه عبد اللهيقول له: يا أبتاه أما بشَّرَك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ (يذكر الخصال والبشريات التي بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص)قال ابن شُمَاسة المَهري: فأقبل عمروبوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِد (لهذه اللحظة لحظة الموت، للقاء الله سبحانه وتعالى)شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ثم قال: إني قد كنت على أطباق ثلاث (أطباق يعني أحوال)لقد رأيتني وما من أحد أشد بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني (لا أحد في الدنيا يكره النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه في ذلك الوقت)ولا أحب إليَّ (يعني لا يوجد شيء أحب إليّّ، الشيء محذوفة)أن أكون قد استمكنت منه فقتلته (في ذلك الوقت وقت ما كان مبغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لمن حضره: فلو مِتُّعلى تلك الحال لكنت من أهل النار ( طبعًا الذي يموت وهو مبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر واحد في الدنيا يبغضه ويتمنى لو تمكن منه ويقتله، فلو مات في هذه الحال يدخل النار)قال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. (نحن نعرفأن عمرو وخالداٌأسلمابعد الحديبية. ووقت الحديبية كان خالد يقود مائتين من المشركين يقفون في قبالة المعتمرين الذين جاؤوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليمنعوهم من دخول مكة. أما عمرو فصعد إلى جبل من الجبال التي تحيط مكة وقال: لم أستطع أن أرى محمدًا وأصحابه يدخلون علينا مكة. فصعد للجبل لأنه لا يستطيع أن يرى هذا المنظر كمدًا. فلما قضى الله ما شاء في الحديبية، فكر في الإسلام في نفس الوقت الذي فكر فيه خالد، والتقيا في الطريقليلا. وقالعمرو: "رأيت شبحاً فأخرجت سيفي لأخلص منه". وقال خالد: "أنا رأيت شبحاً (لشخص قديفتنُعليّ)فأخلص منه"فلما التقيا إذا هم عمرو وخالد، وعمرو كان داهية،قال لخالد: "ما أخرجك يا خالد؟"قال: "أنت ما أخرجك؟"قال: "أنا سألتك". فخالد قال: "والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك."قال: "صبأت إذن؟"قال خالد: "بل أنت صبأت"قال: "بل أسلمت."قال خالد: "وأنا أسلمت."...)فقلت: "ابسط يمينك فلأبايعك.(هو قادممن مكة ليسلم للنبيصلى الله عليه وسلم، فيقول له ابسط يمينك، ألا ينتظر إلى أن يرضى هو أن يبايعه؟).قال:فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، فقبضت يدي، قال:مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط. قال:تشترط بماذا؟ قلت:أن يُغفر لي.قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ في رواية الإمام أحمد وهي رواية صحيحة أن الإسلام يَجُبُّما كان قبله وأن الهجرة تَجُبُّما كان قبلها وأن الحج يَجُبُّما كان قبله. يَجُبُّويَهْدِمُبمعنى يلغي ويمحو، ولا يجعل له أثرًا كأنه لم يحدث..،عرف وبايع النبي صلى الله عليه وسلم.قال:وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له (لم يكن يستطيع أن ينظر في وجهه)ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة (صحيح الذي يموت وهو في هذه الحال من حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتقديره يدخل الجنة قطعًا)قال:ثم ولينا أشياء (جاءت علينا الدنيا ودخلنا حروبًاوخرجنا من حروب، وانتصرنا وانهزمنا، وأخذنا ولايات وكنا مستشارين للحكام)ما أدري ما حالي فيها(لا أعرفالذي حدث هذا خير أم شر، سأكون في الطبقة الأولى أم الثانية أم الثالثة). فلماقال إني كنت على أطباق ثلاث: الطبقة الأولى حال البغض والطبقة الثانية حال الحب والإجلال، والطبقة الثالثة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها، قال: "فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار(كان من عادة العرب ولا يزال من عادة كثير من المصريين أنهم يؤجرون النواحات، لذلك قالوا في المثل:"ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة". وكانوا إذا مات الرجل العظيم أوقدوا نيرانًا في المشاعليمشونبها وراءه حتى يُظهروا عظمته. طبعًا الإسلام نهى عن هذا لكن عمرو يؤكد هذا. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النوح والنواح، وتوعد النائحات. لكن من شدة خوف عمرو أن تحدث في جنازته بدعة نهى عن هذين الأمرين.)فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنًّا (ارموا علي التراب كما يفعل إخواننا في الجزيرة العربية إلى الآن وفي العراق)ثم اقيموا حول قبري قدر ما تُنْحَرُجزور ويُقسَم لحمها (الجزور هي الناقة الصغيرة المتوسطة الحجم، لا صغيرة ولا كبيرة)حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أُراجع به رسل ربي. (ماذا يعنيبحتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أُراجع به رسل ربي؟ هذا يفسره لنا النبي صلى الله عليه وسلم «إذا دفنتم أخاكم فاسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يُسأل»فوقف على قبر بعض الصحابة ودعا لهم «اللهم ثبتهم بالقول الثابت واللهم ثبتهم بلا إله إلا الله»هذا هو الاستئناس، ليس كما نفعل نحن،نقعدونتحدث،ليس هذا الاستئناس. الاستئناس أن يقف عند القبر فيدعو للميت بالدعاء المشروع بالتثبيت والمغفرة وبأن يُدخله الله الجنة، وأن يبدله أهلاًخير من أهله، ودارًا خير من داره، وأن يجعل قبره روضة من الرياض.. إلى آخر ما ورد. هذا هو الاستئناس. "ثم أنظر ماذا أراجع به رسل ربي" هذه قصة عمرو، هو يفكر ويرىكيف سيتصرفمع الملائكة، كيف سيجاوبهم؟ كيف سيقول ذلك للناس؟ فهم لن يعرفوا ماذا فعل،لكن هذهطبيعته وفطرته،غلبته حتى في الاحتضار: "اجلسوا حتى أرى ماذا سأقول لهم"، وهم لن يستطيعوا أن يعرفوا ماذا قال.
إذن،هذه العبارة تدل على شخصية عمرو بن العاص رضي الله عنه، وليس لهادلالة فقهية ولا دينية. لكن الذي له دلالة فقهية هو:"أقيموا حول قبري مقدار ما تنحرالجزور ويُقسَّم لحمها حتى أستأنس بكم" ومعنى الاستئناس هو أن دعاءهم يخفف عنه ويهون عليه ضمة القبر التي وصِفت في أحاديث كثيرة بأنها أمر صعب.
محاضرات جمعية مصر للثقافة والحوار
(11)
الحديث الأول في قراءة اليوم هو حديث جرير بن عبد اللهالذي رواه عنه الشَّعبي:«أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم».وقد عنون له المنذري وللحديث الذي بعده بعنوان:إذا أبق العبد فهو كفر.
قالمنصور بن عبد الرحمن الذي روى هذا الحديث عن الشعبي:"قد والله (قد هنا للتحقيق والتأكيد) رواه (يعني جرير بن عبد الله الصحابي) عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أكره أن يُرْوَى عني هاهنا بالبصرة (يعني قال لطلابه وتلامذته والله لقد روىجرير بن عبد الله هذا الحديث مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا تحدثوا به عني ـ أي عن منصور بن عبد الرحمن ـ هنا في البصرة).
لماذا؟ البصرة في هذا الزمان هي موطن الفِرَق، موطن المعتزلة والخوارج والمرجئة وموطن المجادلين، إنما موطن الفِرَق التي ظهرت في أول الإسلام بعد خروج الخوارج على عليٍّرضي الله عنه،وعلى بقية الأمة، وظهرت الفِرَق ترد عليهم وتناقشهم وتجادلهم، وكل حينتطلع فِرْقَةٌجديدة. المسلمون المؤرخون لعلم الكلام سمّوا هؤلاء، سمّوا أهل هذه الفِرق،أهل الأهواء حتىلا يقولوا هؤلاء كفّار أو خرجوا من المِلة أو ما إلى ذلك.إنما عندهم هوى.الأهواء هي الرغباتوالانحرافات الفكرية. فقالوا هؤلاء هم أهل الأهواء.
إذا قلنا لهؤلاء الناس «أيماعبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم»سيحملون كلمة الكفر هنا على الكفر الحقيقي، على الخروج من الإسلام، على كفر المِلة. لكننا سنظل نقولإن كل الأحاديثفي هذا المعنى (معنى الكفر) أو جُلَّهاليست محمولة عليه. فإذا حملوه على كفر المِلة استباحوا الدماء والأموال والفتن، فكأننا نكون أعطينا لأهل الفتن سلاحًا. والإمام البخاري في صحيحه عنده عنوان جميل جدًّا قال:"باب من خصَّ بالعلم قومًا دون آخرين"،وقال في بعض المواضع: مخافة ألا يفهموا.وفي ثنايا الأحاديث ذكر أن من ضمن الأسباب التي يخص بها بعض العلماء قومًادون قوم خوف الفتنة.
فعندنا مخافة ألا يفهموا، وعندنا مخافة الفتنة، وعندنا كل مضرة يمكن أن تقع بالمسلمين ينبغي درؤها. فإذا كان ذكر بعض العلم لبعض الناس يأتي بمضرة فينبغي أن نمنع هذه المضرة بمنع العلم عنهم.
المعتزلة والخوارج كان عندهم خلاف مهم جدًّا في التاريخ حولصاحب الكبيرة، أو مرتكب الكبيرة،أيخلد في النار أم يدخل قليلاًثم يخرج؟ جمهور أهل السنة والجماعة كانوا يقولون إن مرتكب الكبيرة إذا تاب ومات تائبًا فالله تبارك وتعالى يغفر له، وليس عليه من الذنوب إلا ما قد يكون مات مصرًّا عليها. أما إذا لم يتب فأمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه. وقالوا هذا لأسباب كثيرة منهامثال المرأة والهر والمرأة والكلب.امرأة سقت كلبًاكان عطشانًا فغفر الله لها وهي بغيّ من بغايا بني إسرائيل، وامرأة حبست هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فأدخلها الله تبارك وتعالى النار في هذه الهرة، وهي كانت امرأة مؤمنة بالدين الذي كان في وقتها.
الخوارج والمعتزلة كان عندهم خلاف كبير في مسألة أصحاب الكبيرة، المعتزلة كانوا يرون أن أصحاب الكبائر حالهم لا صلاح له سواء تابوا أم لم يتوبوا. الخوارج كانوا يرون أن مرتكب أي صغيرة مصممًاعليها، ومرتكب أي ذنب مصممًاعليه،حتى الكذاب، فهم يرون أن الذي يكذب كذبة يكفر بها، وعليه أن يُجدد إيمانه، وأول ما يرجع يكذب يرجع تاني يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.ويعتبر نفسه دخل في الإسلام من جديد. فالخوارج يُخرجون الناس من المِلة بأي ذنب، والمعتزلة عندهم مشكلة مرتكب الكبيرة، هل هو في منزلة بين المنزلتين، أم هو في منزلة من منازل أهل النار، أم هو في منزلة أهل الجنة إن تاب؟
فدرءًالهذه الفِتن قال منصور بن عبد الله الراوي عن جرير إنه والله قد سمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا تحدثوا به عنه في البصرة فيتلقفه أهل الأهواء هؤلاء ويمشون به في أهوائهم.
موضوع الكفر في هذا الحديث تأويله كالأحاديث السابقة أي أنه عمل عملاً من أعمال الكفار، أو أنه عمل ما يؤدي إلى الكفر، أو أن المراد كفر النعمة والإحسان، أو أن ذلك في المستحل لما ورد ذمه في الحديث.
عن جرير رضي الله عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أبق العبد لم تُقبل له صلاة».
فعندنا حديثان: عندنا حديث «أيماعبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم»، وحديث أنه لا تقبل صلاته.
مسألة لا تقبل صلاته للعلماء فيها كلام طويل، خلاصته أنه عدم قبول الصلاةمعناهأن الصلاة لا يُثاب المرء عليها، أي لا يُكتب له ثوابها. لأن الصلاة: تُسقط الفريضة؛لأن الله فرض علينا هذه الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فالذي يُصلي يُسقِط الفريضة عن نفسه، فيكون أدى الفريضة التي عليه. ثم تفضل الله علينا بثوابه. فإذا أديتمالفرائض التي فرضتُها عليكم أعطيكم ثوابًا، مع أننالو أدينا الفرائض نكونأدينا الواجب فقط، لكن المسلم يعمل الفريضة فَيُثِيبُهُالله عليها، يسقط عنه فرضها ويثيبه على عملها.
فقوله"لمتقبل له صلاة"يعني صلاته صحيحة لكنه لا يُثاب عليها، ليس عليه أنيعيد الصلاة. مثل مَنْ؟
مثل الذي يصلي في ثوب مغصوب، واحد وجد ثوبًاسرقه فصلى فيه. الصلاة في ثوب مغصوب قالوا عنها صلاة غير مقبولة.
الصلاة في الأرض المغصوبة، أو في الدار المغصوبة صلاة غير مقبولة. هذه الصلوات لا يُثاب عليها صاحبها لكن لا يُؤمر بقضائها ولا يُعاقب عليها بعقوبة تارك الصلاة.
لماذا كانت حكاية الإباقهذه مهمة في ذلك الزمن؟ نحن الآن انتهينا تمامًاالحمد لله من الرق كله، ولا يهمنا من أبق ومن قعد.
موضوع ترك العبد المكان الذي يعيش فيه، مكان مالكيه،كان موضوعًامهمًاجدًّا وله قيمة في ذلك الوقت. لماذا؟
لأمرين،الأمر الأول: أن هذا العبد المسلم قوة لصاحبه، أو قوة لعشيرته أو لقومه أو للأمة الإسلامية. فإذا أبق ذهبت هذه القوة وضعفت، وكثير من هؤلاء كانوا من الأشداء الأقوياء المحاربين، فنحن هكذا نخسر هذه القوة.
الأمر الثاني: أن الرقيق كانت له قيمة مالية، فكأن هذا الآبق قد سرق صاحبه. يعني هو نفسه قيمة مالية يباع ويُشترى، هذا أمر انتهى والحمد لله، لكن هذا البيع والشراء معناه أن العبد الذي يساوى مئة ألف لو أبِق يكون ضيّع على صاحبه هذا المال وكأنه أخذ ماله. ولو أبِق يكون أيضًا ضيع على صاحبه فرصة إعتاقهالتي يحصل بها المعتٍق على ثواب عظيم، أو فرصة المكاتبة. المكاتبة أنه يتفق معه، يقول له لو بعتكفي السوق سأبيعكبمئة ألف، أنا دائنلك بستين على أقساط وبعد ما تكمل هذه الأقساط تتحرر. هذا المكاتَب له مزية عظيمة جدًّا أنه إذا مات مكاتِبه، أي مالكه تحرر العبد. ويبقى عليه أن يسدد للورثة باقي الفلوس، ولا يستطيع أحد أن يلغي عقد الكتابة بين العبد ومالكه.ولا حتىالمالك نفسه،فالعقد ملزم له لا يستطيع أن يتحلل منه، لأن الإسلام سار دائمًا مع تحرير الرقيق، الإسلام جاء فوجد الرق فشرع له العتق كما قال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه، كان دائمًا يقول جاء الإسلام فوجد الرق فشرع له العتق، الرق كان موجودًافي الإسلام وبقي بعد الإسلام قرونًاطويلة.
فكرة البيع والشراء للإنسان أصلاً غير مقبولة إسلاميًا بأدلة كثيرة جدًّا، لكن التنظيم الذي كان موجودًا كان أمرًاواقعًا، كانهناكفي الواقع رقيقيُباع ويُشترى فنظمه الفقه. لكن هذا الفقه غير ملزِمٍ.فإذا انقضى الرق والحمد لله،فتح الله باب العتق إلى يوم القيامة.ولو فرضنا أن البشرية انتكست وعادت إلى تنظيم الرق مرة أخرى فإن الأقوال الفقهية التي تحقق مصلحة الرقيق وتؤدي إلى تحريره بأيسر السبل هي المقبولة دون سواها.
* * *
الحديث الذي يليه عنوَّن له المنذري إنما وليي الله وصالح المؤمنين.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليهوسلمجهارًا غير سريقول:ألا إن آل أبي(يعني فلانًا) ليسوا لي بأولياء، إنما ولييَالله وصالح المؤمنين»، وذكر قومًا أبَى الراوي أن يذكر اسمهمولم يستطع علماء الحديث أن يتعرفوا عليهم.لماذا أبى الراوي أن يذكر اسمهم؟ كي يسترهم. كانوا في هذا الوقت قد عملوا عملاً سيئًا، أتوا بجريمة أو بذنب أو بمعصية أو كبيرة. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعلن بغضه وكراهته وعدم رضاه عن هذه المعصية، فذكرهم باسمهم فقال:"ألا إن آل أبي فلان"ثم جاء الراوي الصحابي لم يقل اسمهم، والمحدثون بحثوا عنأسمائهم، ليعرفوامن الذي عمل المعاصي، ومن هم الأقوام، ولم يستطيعوا معرفتهمأبدًا. ولذلك في أحاديث البخاري ومسلم وفي أحمد كلهم جاءبرواية آل فلان.عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سر، أي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن ما أراد أن يسمعه الناس، لم يخفه، ولم يسر به إلى أحد من أصحابه دون أحد، لأن المقصود كان التبرؤ من فعل المعصية، ومن الواقعين فيها، وهذا من باب النهي عن المنكر الذي يجب أن يحدث أثره في الأمة كلها، والإسرار به يؤدي إلى عكس المقصود، ولذلك حرص عمرو بن العاص على ذكر جهر النبي بهذا الكلام. وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.
"وليي الله وصالح المؤمنين" يعني أنا أتولى الله والله يتولاني، إذا العبد تولى الله تولاه الله. فإذا عصاه فكيف يكون حاله؟ باب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، وكلما تاب كلما تقرب إلى الله تبارك وتعالى. وفي الحديث الصحيح «لو لم تُذْنِبوا لأذهبكم الله وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم».أقول ذلك من أجلالشباب الذين يتصورونأنهم لو عملوا غلطة تكونالدنيا اتهدت، الدنيا لم تنهد، باب التوبة مفتوح وممكن يرجع فورا. والله سبحانه وتعالى يغفر له، بل «أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات»فالسيئة التي عملها الإنسان إذا تاب توبة صحيحة تتحول إلى حسنة، في الآية «ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا».
قال عمرو بن العاص: "سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سر" يعني أن النبي لم يُخفِهذا التبرؤ من الذين فعلوا الفعلة السيئة أو المعصية أو الذنب الذيأغضب الرسول صلى الله عليه وسلم.
الإمام النووي قال إن هذا اللفظ الذي رواه عمرو يقول جهارًا،فيه تعليم المسلمين أن يتبرؤوا من أهل المعاصي والذنوب ولا يخافوا. فلايقولون: لا هذا يمكنه أنيدخلنا السجن، هذاممكن يؤذينا، هذاممكن يرفدنا. لا،على المسلمين أن يتبرؤوا من أهل المعاصي تبرؤًاحقيقياً. فإذا خاف المسلم على نفسه من هذا التبرؤ يتبرأ بقلبه مثل الأحاديث التي قلناها:«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»قلنا إن أول التغيير بالقلب، لأن أول ما يرىالإنسان المنكر،يقع في نفسه الاشمئزاز منه. فالتبرؤ ممن ينبغي التبرؤ منهم يجب أن يكون جهارًا إذا كان المرء قادرًاعلى الجهر، ويجب أن يكون خفية إذا كان المرء يخشى من الجهر على نفسه أو على أولاده أو على ماله...الخ.
قال الإمام النووي: "ما لم يخف فتنة أعظم من مصلحة التبرؤ". ما هي مصلحة التبرؤ؟ مصلحة التبرؤ أن الناس تعرف أننيغير موالٍلهؤلاء الناس، لست مع الكذابين، لست مع الغشاشين، لست مع الذين يزورونالانتخابات، لست مع الذين يعتقلونالناس ويعذبونهم، لست مع الذين يحكمونبالظلم في القضايا، لست مع الذين يرتشون. هذا التبرؤ مهم لأنه يشجع المتردد أن يتبرأ مثلك، ويُقوّي الخائف فلا يكون عنده رعب من هذا الظالم الذي يظلم الناس. ويُشيع في الناس فيشيع في الأمة ويشيع في البلد روح الكشف عن الفساد،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي روح ضرورية لبقاء المجتمع. فالتبرؤ الجهري ضروري جدًّا، لكن الذي كُلِف به هو الذي يستطيعه، ليس كل الناس يقدر عليه، وهذه مسالة بين العبد وبين ربه، لا يعرف أحد ما الذي تقدر عليه وما الذي لا تقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. فإذا قلت والله أنا غيرقادر وأنت في الواقع قادر فأنت المسؤول. إذا أقدمت على مجازفة وضيعت نفسك، فإن شاء الله يكتب لك الأجر، لكن ليس مطلوبًا منك أن تجازف.
فهذه المسألة لها ميزان حساس ودقيق، ينبغي على كل إنسان أن يراه في نفسه ويطلع عليه من ذاته. فيقول أنا أستطيع إلى هذا الحد،ولا يقدم على ما فوقه مما لا يستطيع أو مما يهلكه، أو مما يُحدث فتنة في المجتمع.
وهناك معنى جميل أنالصحابي الراوي لم يرض أن يذكر اسم القوم الذين تبرأ من ولايتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا المسلكينبغي أن ننتبه إليه؛لأن الصحابة تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا أساء بعض أصحابه قال:"ما بال أقواميفعلون كذا وكذا"وكثيرًا ما كان يقول ما بال أقوام والناس يعرفونهم أغلب الأوقات. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصرح بأسمائهم حتى لا تكونفيذلك مذمة لهم، ولا لمن يأتي من بعدهم من أحفادهم وأحفاد أحفادهم،وتظل قاعدة إلى يوم القيامة، خصوصًا عند العرب أهلالشعرالذي هو ذم هجاء يخلد السيئات، أومديح وثناء يبقي ذكر الحسنات.
* * * * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذريبعنوان:جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.
العنوان يشرح نفسه.والحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يظلِم مؤمنًا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة (ليس هناك حسنة من الحسنات، أي قربة إلى الله تعالى، أي طاعة تعملها إلا وتُثاب بها في الدنيا وفي الآخرة)وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها».
عندنا أربع حالات: حالة الجزاء الدنيوي للمؤمن والكافر،وحالة الجزاء الأخروي للمؤمن والكافر.
الجزاء الدنيوي والأخروي مضمونان للمؤمن إذا عمل الحسنات بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، مهما صغرت أو كبرت، فإن الله تبارك وتعالى يجزيه في الدنيا ويجزيه في الآخرة.
وماذا عنالآخر، الذي ليس مؤمنًا ولكنه يعمل حسنات، سيأتي علينا سؤال مهم: كيف يعمل الحسنات وهو ليس بمؤمن؟ العلماء علمونا أنه ليس بعد الكفر ذنب.نعم، هذاصحيح،ليس بعد الكفر ذنب. لكن خدمة الإنسانية حسنة، الذين اكتشفوا البنسلين والذين اكتشفوا المضاد الحيوي والأدوية التي نُعالَج بها، هذهكلها حسنات، الذين اخترعوا الطائرات النفاثة، والذين اخترعوا الطائرات الأسرع من الصوت، والذين اخترعوا السيارات، كل هؤلاء عملوا خدمات جبارة للإنسانية. والذين عملوا الأنفاق تحت الأرض لتسير فيها القطارات، ويعبر فيها المشاة في مكة، وبين مِنى ومكة والتي حلت مشكلة المرور. وهؤلاء كلهم ليسوا مسلمين. طيب هل هؤلاء لهم حسنات على هذه الأشياء أم ليس لهم حسنات؟ هذا هو الذي يُعطَون به في الدنيا.
الحسنة هنا لها معنيان: حسنة في ظن الفاعل، مثلاً السيدةالإنجليزية التي كان زوجها معتمداًسامياًفي مصر، وعملت مستشفى لعلاج الفقراء في حي من الأحياء، هي تظن أنها تصنع حسنة. الراهبات والمبشرات اللاتي جئن لبلادنا ليبشرن بالمسيحية، وفتحنمستوصفات وعالجنأُناسًا لم يكن ممكن أن يُعالجوا في بلادهم أصلاً. هنيظنن أن هذا العلاج وهذا الدواء، أو هذا التعليم الذي يقدمنه للناس حسنات يتقربن بها إلى الله في ظنهن. هل تضيع عليهن؟
من عدل الله ورحمته ألا تضيع عليهم، إنما يُعطَون بها في الدنيا. كل الأشياء الحسنة التي صنعوها، التي مكنت لنا ويسرت لنا أنواع حياتنا وسُبل علاجنا ووسائل تعليمنا، يأخذونحسناتهم عنها في الدنيا، لأن ربنا أرحم وأعدل من أن يحرمهم أجر ما فعلوا. أماالآخرة، أما الجنة فهي لله وحده،يتصرف فيها لمن آمن به ويحرمها من كفر.
والحديث واضح الدلالة في هذا: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة، أما الكافر فيُطعم بحسنات من عمل بها لله، يعني في ظنه أو في الواقع، في ظنهم يعني إذا كان هو مبتغي وجه الله كما ذكرت عن الراهبات وغيرهن، أو في الواقع مثل الذين اخترعوا الاختراعات واكتشفوا الاكتشافات. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها.
يعني يقف بين يدي الله أمره متروك إلى الله سبحانه وتعالى، ليس عنده حسنات، يقول يا رب أنا عملت بنسلين، يقول له: أعطيتك فلوس، وأخذت جائزة نوبل، وأخذت قصرًا، وسكنت على بحيرة جنيف. فاكرين صاحبنا النجدي الذي ذهب ذات مرة إلى بلد من بلاد أوروبا في الصيف، فجلس في الحدائق الغناء والقصور الفارهة والشوارع النظيفة. ثم لما انتهت أجازته وقرب يرجع سأله صاحبله: "كيف كانت عطلتك؟"قال له: "لقيت الحل كله، الله سيأتي بنا في الآخرة إلى هنا،ويأخذ الكفار إلى نجد". وهذا نوع من العطاء ينبغي أن نراقبه في أنفسنا ونراقبه في غيرنا.
* * *
الحديث الذي يليه عنوانه:الإسلام ما هو وبيان خصاله.
وهذا من الأحاديث المشهورة جدًّا،وتعب فيها العلماء المسلمون.عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال:«جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد (نجد هي في وسط الجزيرة وعاصمتها الآن الرياض، وفيها القصيم والدهناء... هي وسط المملكة العربية السعودية)ثائر الرأس (شعره منكوش)نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، (لا يفهم منه أحد، هو بدوي من أهل نجد يتكلم برطانة بدوية لا يفهمها أهل مكة والمدينة والحجاز الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرشيين ذوي البلاغة والفصاحة وحسن مخارج الألفاظ)حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام (لم يفهموا ما يريدهإلا لما اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام)فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع"(إلا إذا أردت أنتتطوع تَطَوَّعْ)قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:وصيام شهر رمضان. فقال الرجل: "هل عليَّ غيره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إلا إن تطوع. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة. فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول (أدبر يعني أعطى ظهره للرسول صلى الله عليه وسلم، انتهتأسئلتهفانصرف)والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أفلح إن صدق». (وفي رواية صحيحة في مسلم أيضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلح وأبيه إن صدق»أو «دخل الجنة وأبيه إن صدق»وأبيه هذا قسم)
الحديث ملئ بمعانٍجميلة، أول ما أرغب في قولهإن رواية البخاري فيها عموم أكثر منرواية مسلم، لأن في رواية البخاري في هذا الحديث عن طلحة بن عبيد الله بعدما قال الصلاة والزكاة والصوم قال:"وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام".فكأن هذه الرواية مختصرة، والثانية قال إنه أخبره ببقية شرائع الإسلام، لماذا بدأتُبذلك؟ لأن كثيرًامن الناس عندمايسمعونهذا الحديث يقولون: لم يكن غير الصلاة والصوم والزكاة، فأين الحج وأين الشهادتان (الشهادتان؟!لقدجاء الرجل ليسأله ما هو الإسلام فلابد أنأنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إذاً الإيمان متضمن في السؤال وإلا ما كان سأل).بقية الأركان عندمانقرأ رواية البخاري نجد:«وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام». يبقى رواية الإمام مسلم مختصرة تدلنا على فحوى الحديث، ولا تفصِّل كل ما جاء فيه. حتى رواية البخاري لم يأت بالتفاصيل، قالفيها: أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام.
ثانيًا: مسألة القسم، أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق. كيف يحلف الرسول صلى الله عليه وسلم بغير الله سبحانه وتعالى وهويقولفي الأحاديث الصحيحة «من كان حالفاً فليحلف بالله»و«لا تحلف إلا إذا حُبست على اليمين»يعني كنت أمام القاضي وقال لك: قل والله العظيم أقول الحق. وإخواننا الذين تعرفونهم يقولون:الذي حلف يدخلالنار، والذي حلف عليه إثم فظيع. وإذا قلتلأحدهم: "والنبي اعطني ماءً"، يقول لك:"تحلف بالنبي ليه؟ الحلف بالنبي كفر". لكنالنبي صلى الله عليه وسلم حلف بأبي الرجل، ونحن لا نعرف من هو الرجل ولا أبوه. ومع ذلك حلفالنبيبأبيه، لماذا؟
لأن هذا القسم جرت به عادة العرب. كان النبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه في حديث آخر قال: «كقول الرجل في بيته لا والله بلى والله».ولما سألوه عن اللغو «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم»قال:«هو قول الرجل في بيته لا والله وبلى والله»لا والله لن آكل"رجل غاضبمن زوجتهفتقول له: "كل". يقول: "لا والله لن آكل". وتأتي له بالأكل فيأكل لأنهجائع. أو هي تقول له: "والله لن أخرج معك غدًا". ثم يأتي غدًا ويصعب عليها فتذهب معه.
فقول الرجل أو قول المرأة يعني قول الإنسان. قول المرء في بيته لا والله، بلى والله هذا ليس مما عقَّدتم الأيمان «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان»الذي هو اليمين المُغلظ الموثق الذي تقصد به أن تمتنع عن فعل شيء أو أن تُقبل على فعله. فإذا لم يكن هذا الأمر كذلك فهذا اليمين لا شيء فيه. من هذا اليمين الذي جرى على لسان العرب: أفلح وأبيه، دخل الجنة وأبيه.
طيب أفلح ودخل الجنة الاثنين مثلبعضهما، لأن الله سبحانه وتعالى لما أرادأن يمن علينا قال «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون»وفي الآية الثانية «فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز».الفوز والفلاح كلمتان متقاربتان ومعناهماواحد. ففاز وأفلح ونجا كلها في لسان الشرع تعني دخول الجنة. فلماقالالنبي صلى الله عليه وسلم:«أفلح وأبيه»وقال في رواية ثانية:«دخل الجنة وأبيه»الإثنان مثل بعضهماأو قريبان من بعضهما.
وأبيه قلنا ليست قسمًا عقد عليه العزم، إنما هو قسم مما جرى به لسان العرب وعاداتهم. فلا يقول أحد إن هذا تجاوز أو إن الحديث غير صحيح، والإمام مسلم مخطئفي الرواية أو الصحابي مخطئ. كلا!الحديث صحيح والرواية صحيحة.
بعض الروايات التي وردت في مسلم وفي غيره فيها خصال مثل الحج، مثل الشهادتين في بعض الروايات الأخرى. العلماء قالوا إن نقص ذكر بعض الخصال جاء من قِبل الرواة لأن الواقعة واحدة: الرجل الذي هو من نجد ثائر الرأس ونسمع دوي صوته هو واحد،وليست لديناخمس أو ست حوادث،كلها حدث فيها نفس الحكاية: هل يعقل إن كل أهلنجد يأتون ثائري الرأس؟. فالواقعة واحدة، ونقص بعض الخصال، خصال الإسلام مثل الشهادتين والحج إنما جاء من قِبل بعض الرواة؛لأنهم أرادوا أن يدلونا على القصة. المهم في هذا الحديث هوما قاله الرجل في النهاية:"والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه" والنبي صلى الله عليه وسلم رتب على إتيان الضرورات، أي إتيان الحد الأدنى، إتيان الفرائض فقط. إذا أتاها ولم يزد عليها ولم يُنقص منها،دخل الجنة.أو أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق.
فقال العلماء:انتبهوا، هلمعنى ذلك أن نتوقف فقط عند الفرائض ولا نفعل النوافل؟ طبعًا لا، فالمداوم على ترك النوافل تسقط عدالتهلأنه لم يكترث بما ترتبه له النوافل من ثواب الله تعالى. يعني مثلاً واحد يصلي الفرائض فقط ولا يصلي نافلة، لا ركعتين بعد الظهر ولا ركعتين بعد المغرب مرة، ولا الشفع بعد العشاء مرة ولا الوتر، على قول أن الوتر سنة مؤكدة. لأن هناكناس قالت إن الوتر واجب ولابدنسمع كلامهم ونصلي الوتر. فالذي يترك النوافل كلها، لم يصم مثلاً ولا يوم غير رمضان، لم يتصدق إلا بالزكاة اثنان ونصف في المئة ويحسبها بالمليم. قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول لنا إن هذا الحد الأدنى هو معيار القبول، ده درجة مقبول. لكن من فينا يضمن أن يبقى على هذا الحد الأدنى بلا خطأ وبلا معصية وبلا ارتكاب ذنب، وبلا تقصير في أداء واجب؟ إذن،كيف نجبر المعاصي والذنوب والتقصير في أداء الواجب؟ نجبرهابالنوافل، نجبرهابأن نصلي أكثر من الفرائض قليلاً، نجبرهابأن نصوم أكثر من رمضان قليلاً، نجبرهابأن نجعل في أموالنا حقاً سوى الزكاة، مثل الحديث الصحيح عندماسألوا النبي صلى الله عليه وسلم:«أفي المال حق سوى الزكاة؟ قال: "نعم».
فإذا جبر التقصير في هذه الفرائض يكون قد التزم. فماذا قال؟ قال: "والله لا أزيد عن هذا ولا أنقص". فلا يزيد ولا ينقص، يعني عمل على نفسه عهدًا. ماذالو نقص؟كيف يُصلح الوضع؟..لا أحد فينا يضمن ألا ينقص. فلأننا لا نضمن عدم النقص،ينبغي لنا أن نستعد له بالنوافل والتطوع والزيادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إلا أن تطوع".إذ،كل واحد فينا عليه أن يتطوع بقدر ما يستطيع جبرًا لما سيدخل حتمًا على هذا الحد الأدنى من نقص نتيجة الطبيعة البشرية، والمشاغل الحياتية وغيرها.
قال الإمام النووي كلامًاجميلاًجدًّا. قال: إن القاضي عياض قال إن هذا الحديث دل على أن الصلوات الخمس هي الركن، فعندمانقول أركان الإسلام،"بُني الإسلام على خمس".أما النوافل فليست ركنًا، والوتر ليس أيضًا من الواجبات. لأنه لو كان الوتر من الواجبات كما يقول بعض إخواننا لقال له أن يصلي الوتر أيضًا. ولو كانت سُنة الصبح كما يقول بعض إخواننا من الواجبات، التي هي ركعتان قبل الفجر، لقال له يجب أن تصليها. إنما هو قال له خمس صلوات في اليوم والليلة، فعليه أن يصلي الخمس وهيالركن.
قال أيضًا إن هذا الحديث يدل على أن قيام الليل منسوخ «ومن الليل فتهجد به نافلة لك»منسوخ في حق الأمة؛لأنه لو كان واجباًعليه أن يصلي الليل، لقال لهالنبي صلى الله عليه وسلم:خمس صلوات في اليوم والليلة وبعضصلوات في الليل. لكنهلم يقل له شيئًاعن الليل. إذن،صلاة الليل منسوخة في حق الأمة ، أما هل هي باقية أم منسوخة في حق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فهناكخلاف بين الفقهاءفي ذلك.
أستعمل كلمة منسوخة متعمدًا،لأنني أعرف أنكم سمعتم من بعض إخواننا أنه ليس هناك نسخ في الإسلام. إخواننا يتكلمون عن القرآن، أنه ليس هناك نسخ في القرآن. أما النسخ في أحكام السُنة والأحكام التشريعية التي جاءت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فواقع قطعًا. الكلام هل في القرآن آيات منسوخة وآيات ناسخة أم لا، كلام طويل ليس هذا مجاله.
قال النووي تعقيبًا على كلام القاضي عياض قال:"وليُتَنَّبه (يعني يتنبه الذي يقرأ ويسمع) أنه لا عاشوراء ولا غيره واجب الصيام". لأنه يظهر أنه في زمنه كانت الناس توجب صيام عاشوراء. فقال لو كان هناكواجب غير رمضان،كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره وأخبرنا به. وأن الحق الذي في المال هو الزكاةفقط، وما زاد على ذلك فهو نافلة. ويبقى حديث:"نعم في المال حق سوى الزكاة"يقصد به التطوع والنوافل.
الصحابة هنا لهم كلام جميل: "كنا نهاب أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من البادية حسن السؤال أو حسن المنطق (في رواية) فيسأله فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتعلم من سؤاله ومن جواب النبي عليه الصلاة والسلام"
لذلك،فكثير من الأحاديثتبدأ بقصة أنه جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم،والصحابة هم الذين يروونها، الصحابة الكبارمثل عمر وعثمان... ما معني هذه الحكاية؟ ألمتكونوا تعرفونهذا الموضوع؟ كلا،لم يكونوا يعرفونه، كانوا يهابون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانته.
وسنرى صورة من صور المهابة الآن عظيمة جدًّا. كلنا نعرف حديث جبريل عندماجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم،«شديد بياض الثياب وشديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد. فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخديه (يعني على فخذي نفسه، إنهاجلسة التلميذ؛جلسة طالب العلم) ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء:ما الإيمان؟،وكذا.. فلما ذهب قال: اطلبوا صاحبكم. فطلبوه فلم يجدوه. فقال لهم:هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم».شرح الشُراح هذا الحديث فقالوا إن أحدًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،إلى أن وقعت هذه الحادثة في المدينة،لم يسألوا عن هذه الأشياء. آمنوا به وصدقوه، وهاجروا معه وتركوا الولد والمال والأهل في مكة وفي غيرها دون أن يسألوهما الإيمان وما الإسلام وما الإحسان؟.سمعوا القرآن فصدقوا أن هذا من عند الله، وأن الذي يتلوه مبعوث،فصدقوا هذا المبعوث واتبعوا النور الذي أنزل معه. ولما جاء الوقت الذي ينبغي أن يعرفوا فيه هذا،أرسل الله جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الأسئلة، فسأله فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم فعرفناالإجابة.
كان هذا شأنًا مكررًافي الأحاديث: إما أن يصنعه عاقل من الأعراب وإما أن يصنعه رسول من الملائكة كما جاء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا لطيفة في الفرق بين صورة جبريل (شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)، وصورة الرجل النجدي (ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، ثم هو ينصرف موليًا مقسمًا بالله ألا يزيد ولا ينقص على ما ذكره النبي من الفرائض).فعلى المسلم أن يختار في أي الصورتين يكون وأي المسلكين يتبع(!)
* * * * *
الحديث الذي يليه عنون له المنذري بباب بُني الإسلام على خمس.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:بُنِيَالإسلام على خمس؛على أن يُوحَّد الله (وهناك روايات أخرى صحيحة شهادة لا إله إلا الله وأني رسول الله. والروايات هذه تكمل بعضها)وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج. قال رجل (من الجالسين مع عبد الله بن عمر)الحج وصيام رمضان. فقال عبد الله بن عمر: لا،صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
يثير هذا الحديث سؤال:لماذا قُدِّمَالصيام على الحج؟ وهل أُخِّرَالحج لأنه ليس كل الناس تستطيعه، لكن الصيام يندر من لا يستطيعه. وهذه المسألة في الحقيقة لا أثر لها.إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأركان الخمسة، قدم واحدًاعلى واحد، أخَّر واحدًاعلى الثاني. يهمنا أن التوحيد لم يتأخر في أي رواية من الروايات. التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن رسول الله، أو أن يُوحد الله كان دائمًا في أول الروايات وأول المذكورات في كل الروايات وتلته دائمًا الصلاة، ثم بعد ذلك تقديم وتأخير الصيام والحج لا يهمنا. لكن هذه الأركان: التوحيد والصلاة قرينة أحدهما للآخر بترتيب لا يمكن أن يختلالترتيبفيها؛لأن الذي لا يوحد كيف يصلي؟ إنما إذا وحد فصلى يستطيع أن يفعل بقية الأشياء كل واحدة على حسب مقدرته، الزكاة إذا كان عنده مال، صيام إذا كان عنده صحة، الحج إذا استطاع إليه سبيلاً وهكذا.
بُني الإسلام على خمس أن يُوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج... إلى آخر الحديث
فيأتي بعض إخواننا ويقولون:خلاص،بُني الإسلام على ذلك وليس عليك شيء آخر، لا المرأةتتحجب ولا الرجل يحتشم في ملبسه ولا الناس تتكلم بكلام نظيف، ولا أحد يسرق مال أحد،خلاص. هذا هوبناء الإسلام،وكملنا الأركان. فكان للعلماء كلام طويلفي هذا، ولك أن تقول: أرأيت أنك لو بنيت بيتًا على أعمدته ثم تركته على هذه الأعمدة،أيُسكن؟ هو فيه بيت بعمدان، هيكل فقط؟، لا طبعًا،لا يُسكن.فماذا يلزم البيت؟ يلزمه حوائط وشبابيك وأبواب ودهان. ولما يتكسَّر تصونه وترممه، وهكذا الإسلام فيه هذه الأركان يقوم عليها ولا يصح إلا بها، ولكن هناك آلاف الأشياء الأخرى التي ينبغي على كل مسلم ومسلمة أن يلتزم بها ويعملها وأن يُجَوِّدَها ويُحَسِّنَها حتى يُجَمِّلَبيته. وبقدر ما جمَّلت بيتك بقدر ما أحببت أن تعيش فيه. وبقدر ما أهملته بقدر ما أحببت أن تتخلص منه. فكذلك الإسلام،هو هذا البناء الذي لا يقوم إلا بالأركان، لكن لا يكون كاملاً بمجرد الأركان، يكون قائمًافقط ولا يكون كاملاً، يكمل ببقية الأشياء التي هي سائر الواجبات والمندوبات وما إليه.
* * * * *
الباب الذي يليه باب أي الإسلام خير.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».
الأئمة الشُراح عندما تكلموا عن هذا الحديث قالوا إن خصال الخير تتفاضل وخصال الشر تتفاضل. ليست كل خصال الشر في مرتبة واحدة،ولا كل خصال الخير في مرتبة واحدة. والصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة كثيرة عن أي العمل أفضل أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بإجابات مختلفة. مرة قال لواحد الجهاد في سبيل الله، ومرة قال لواحد بر الوالدين، ومرة قال لواحد الصلاة على وقتها (يعني في أول وقتها) ومرة قال لواحد النفقة على ظهر غِنى، أو الصدقة عن ظهر غِنى. وهذه المرة قال للرجل تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. قالوا تنوعت إجابات رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب حال السائل، السائل الذي صلاته غير منتظمةقال له الصلاة لوقتها، السائل البخيل الشحيح قال له الصدقة عن ظهر غِنى، الله أعطاك فتصدق. السائل الذي لا يبر والديه كما يجبولا يزورهم إلا مرة في السنة أو كل ستة أشهر فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له بر الوالدين. الذي يريد أن يذهب للجهاد لكنهجبان قال له الجهاد في سبيل الله. قال لكل سائل جوابًا يصلح به شأن هذا السائل. طيب،أشأن هذا السائل وحده؟ أم شأن كل من كان على شاكلتهإلى يوم القيامة؟ لأن النفوس البشرية فيها هذه النوازع، فيها الخوف وفيها الإقدام، وفيها الشجاعة وفيها الجبن، فيها البخل وفيها العطاء. فيها كل الأشياء. فيها حب العبادة وفيها استثقالها، مش فيه أليس هناك من لا يقوم إلى الصلاة إلا كارهًا، هو يصلي فروضهالخمسة،لكن مع الاستثقال. وهناك من يسمع الأذان فيقوم بسرعة يتوضأ ويصلي، وهناكلا يلحق بالجماعة إلا في آخر ركعة ودائمًا مشغول. فالمشغول لازم يتذكرأنه لا يجوز أنيكون مشغولاًطول الوقت،ويأتي الجماعة في أولها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب هؤلاء الناس إجابات تتنوع على حسب تنوع أحوال السائلين،حتى ينبه كل سائل إلى ما ينقصه من الخير فيفعله، ولعل هذا السائل كان محتاجًا إلى أكثر من خصلة؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».إطعام الطعام يعني تعطي من يحتاج إلى الطعام، لا تكن بخيلاً في طعامك. وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف،أليس النبي هو القائل:«ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: افشوا السلام بينكم».كلما لقيتَ أحدًا تقول السلام عليكم، تقولهالمن تعرف ولمن لم تعرف.
واحد قال لي: "في مصر لا ينفع أن نقول السلام عليكم طول النهار لأنك ستجد نصارى ومسيحيين ويمكن تلاقي يهود". فسألته: "ما الضرر؟"قال: "هؤلاء لا يجوز السلام عليهم."فقلت له: "لا بل السلام عليهم واجب. ألم يكنالنبي صلى الله عليه وسلم يعيش في المدينة المنورة مع أصحابه،ألم يكنفيها يهود ومشركين؟ وقال للرجل تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف. وعندماقال لهم أفشوا السلام بينكم.وكان يعرف أنهم لم يكونوامسلمين فقط،لكنه يقصدالأمة التي تعيش مع بعضها. فأنت إذا قلت له السلام عليكم ورحمة الله فلم يجبك أو أجابك إجابة سخيفة، أنت أخذت الثواب وهو أخذ الذنب والإثم والوزر وليس عليك شيء. ولو كان غير مسلم أنت غير مسئول أن تسأله أولاً أنت اسمك إيه؟ إنما تقرأ السلام على من لقيت من الناس مسلمين أو غير مسلمين. إن كانوا مسلمين ردوا عليك وأنت وهم أخذتم الثواب. وإن كانوا من غير المسلمين فمنهم من يرد عليك،منهم من يرد السلام كما نرده نحن،فجزاهم الله خيراً. ومنهم من لا يرد أو يرد بطريقة أخرى فهذا ذنبه هو،ليس لك شأن فيه. أنت غير مكلف إلا أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
الحديث الأخير في هذه القراءة هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عنون له المنذري بقوله باب الإسلام يهدم ما قبله،والحج والهجرةيعني الإسلام يهدم ما قبله من المعاصي، والحج والهجرة يهدمان ما كان قبلهما من المعاصي.
عن الأول عن أبي شُمَاسَة المَهْري قال:«حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه عبد اللهيقول له: يا أبتاه أما بشَّرَك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ (يذكر الخصال والبشريات التي بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص)قال ابن شُمَاسة المَهري: فأقبل عمروبوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِد (لهذه اللحظة لحظة الموت، للقاء الله سبحانه وتعالى)شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ثم قال: إني قد كنت على أطباق ثلاث (أطباق يعني أحوال)لقد رأيتني وما من أحد أشد بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني (لا أحد في الدنيا يكره النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه في ذلك الوقت)ولا أحب إليَّ (يعني لا يوجد شيء أحب إليّّ، الشيء محذوفة)أن أكون قد استمكنت منه فقتلته (في ذلك الوقت وقت ما كان مبغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) قال لمن حضره: فلو مِتُّعلى تلك الحال لكنت من أهل النار ( طبعًا الذي يموت وهو مبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر واحد في الدنيا يبغضه ويتمنى لو تمكن منه ويقتله، فلو مات في هذه الحال يدخل النار)قال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. (نحن نعرفأن عمرو وخالداٌأسلمابعد الحديبية. ووقت الحديبية كان خالد يقود مائتين من المشركين يقفون في قبالة المعتمرين الذين جاؤوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليمنعوهم من دخول مكة. أما عمرو فصعد إلى جبل من الجبال التي تحيط مكة وقال: لم أستطع أن أرى محمدًا وأصحابه يدخلون علينا مكة. فصعد للجبل لأنه لا يستطيع أن يرى هذا المنظر كمدًا. فلما قضى الله ما شاء في الحديبية، فكر في الإسلام في نفس الوقت الذي فكر فيه خالد، والتقيا في الطريقليلا. وقالعمرو: "رأيت شبحاً فأخرجت سيفي لأخلص منه". وقال خالد: "أنا رأيت شبحاً (لشخص قديفتنُعليّ)فأخلص منه"فلما التقيا إذا هم عمرو وخالد، وعمرو كان داهية،قال لخالد: "ما أخرجك يا خالد؟"قال: "أنت ما أخرجك؟"قال: "أنا سألتك". فخالد قال: "والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك."قال: "صبأت إذن؟"قال خالد: "بل أنت صبأت"قال: "بل أسلمت."قال خالد: "وأنا أسلمت."...)فقلت: "ابسط يمينك فلأبايعك.(هو قادممن مكة ليسلم للنبيصلى الله عليه وسلم، فيقول له ابسط يمينك، ألا ينتظر إلى أن يرضى هو أن يبايعه؟).قال:فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، فقبضت يدي، قال:مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط. قال:تشترط بماذا؟ قلت:أن يُغفر لي.قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ في رواية الإمام أحمد وهي رواية صحيحة أن الإسلام يَجُبُّما كان قبله وأن الهجرة تَجُبُّما كان قبلها وأن الحج يَجُبُّما كان قبله. يَجُبُّويَهْدِمُبمعنى يلغي ويمحو، ولا يجعل له أثرًا كأنه لم يحدث..،عرف وبايع النبي صلى الله عليه وسلم.قال:وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له (لم يكن يستطيع أن ينظر في وجهه)ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة (صحيح الذي يموت وهو في هذه الحال من حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتقديره يدخل الجنة قطعًا)قال:ثم ولينا أشياء (جاءت علينا الدنيا ودخلنا حروبًاوخرجنا من حروب، وانتصرنا وانهزمنا، وأخذنا ولايات وكنا مستشارين للحكام)ما أدري ما حالي فيها(لا أعرفالذي حدث هذا خير أم شر، سأكون في الطبقة الأولى أم الثانية أم الثالثة). فلماقال إني كنت على أطباق ثلاث: الطبقة الأولى حال البغض والطبقة الثانية حال الحب والإجلال، والطبقة الثالثة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها، قال: "فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار(كان من عادة العرب ولا يزال من عادة كثير من المصريين أنهم يؤجرون النواحات، لذلك قالوا في المثل:"ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة". وكانوا إذا مات الرجل العظيم أوقدوا نيرانًا في المشاعليمشونبها وراءه حتى يُظهروا عظمته. طبعًا الإسلام نهى عن هذا لكن عمرو يؤكد هذا. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النوح والنواح، وتوعد النائحات. لكن من شدة خوف عمرو أن تحدث في جنازته بدعة نهى عن هذين الأمرين.)فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنًّا (ارموا علي التراب كما يفعل إخواننا في الجزيرة العربية إلى الآن وفي العراق)ثم اقيموا حول قبري قدر ما تُنْحَرُجزور ويُقسَم لحمها (الجزور هي الناقة الصغيرة المتوسطة الحجم، لا صغيرة ولا كبيرة)حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أُراجع به رسل ربي. (ماذا يعنيبحتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أُراجع به رسل ربي؟ هذا يفسره لنا النبي صلى الله عليه وسلم «إذا دفنتم أخاكم فاسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يُسأل»فوقف على قبر بعض الصحابة ودعا لهم «اللهم ثبتهم بالقول الثابت واللهم ثبتهم بلا إله إلا الله»هذا هو الاستئناس، ليس كما نفعل نحن،نقعدونتحدث،ليس هذا الاستئناس. الاستئناس أن يقف عند القبر فيدعو للميت بالدعاء المشروع بالتثبيت والمغفرة وبأن يُدخله الله الجنة، وأن يبدله أهلاًخير من أهله، ودارًا خير من داره، وأن يجعل قبره روضة من الرياض.. إلى آخر ما ورد. هذا هو الاستئناس. "ثم أنظر ماذا أراجع به رسل ربي" هذه قصة عمرو، هو يفكر ويرىكيف سيتصرفمع الملائكة، كيف سيجاوبهم؟ كيف سيقول ذلك للناس؟ فهم لن يعرفوا ماذا فعل،لكن هذهطبيعته وفطرته،غلبته حتى في الاحتضار: "اجلسوا حتى أرى ماذا سأقول لهم"، وهم لن يستطيعوا أن يعرفوا ماذا قال.
إذن،هذه العبارة تدل على شخصية عمرو بن العاص رضي الله عنه، وليس لهادلالة فقهية ولا دينية. لكن الذي له دلالة فقهية هو:"أقيموا حول قبري مقدار ما تنحرالجزور ويُقسَّم لحمها حتى أستأنس بكم" ومعنى الاستئناس هو أن دعاءهم يخفف عنه ويهون عليه ضمة القبر التي وصِفت في أحاديث كثيرة بأنها أمر صعب.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» محاضرات أصول الفقه للدكتور محمد سليم العوا كاملة للتحميل
» دور المقاصد في التشريعات المعاصرة/ د محمد سليم العوا
» ترجمة الإمام مسلم صاحب كتاب صحيح مسلم
» سلسلة أحاديث صحيح البخارى وشرحها بايجاز
» مسلم وصناعة الدواعش
» دور المقاصد في التشريعات المعاصرة/ د محمد سليم العوا
» ترجمة الإمام مسلم صاحب كتاب صحيح مسلم
» سلسلة أحاديث صحيح البخارى وشرحها بايجاز
» مسلم وصناعة الدواعش
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى