فلسفة الحج / المصالح الخاصة لاعمال الحج
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
فلسفة الحج / المصالح الخاصة لاعمال الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
المصالح العامة في اعمال الحج
المصالح الخاصة لأفعال الحج !..
بعد أن عرفنا المصالح المتعلقة بالحج على وجه العموم لابد لنا أن نستعرض المصالح المتصورة لأفعاله الخاصة ، بما لها من رمزية أو صراحة ، وبما فيها من نفع فردي أو إجتماعي على ما سبق أن فصلنا القول فيه .. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه من الصعب أن تحدد المصالح المتوخاة للخطوط الدقيقة لأعماله ومشاعره ، وعرفنا سبب ذلك في المقدمة ، وإنما تتضح المصالح بشكل جلي في العناوين العامة والخطوط العريضة لأعمال الحج كالإحرام والتلبية والطواف وصلاة الطواف والسعي والموقفين والذبح والحلق ورمي الجمار والنية والوقت ، فلا بد من التعرض الى ما يتصور من المصالح لكل واحد من هذه الافعال ..
الإحرام :
والمقصود الرئيسي منه ، هو التجرد عن المادة وعلائق الدنيا في سبيل الله ، ولأجل تمحيض التوحيد بالله وتركيز الإخلاص له وتعميق التوجه اليه..
فإن الإحرام بما فيه من زواجر وروادع ونواه صارمة يَدَعُ الإنسان يشعر بعمق أنه باختياره وطيب نفسه ، أراد أن يعيش هذه التضحية وأن يخطو في هذا السبيل خطوات لايريد بها إلا مرضاة الله عز وجل والتوجه اليه ، وترك الامور الدنية واللاأخلاقية كالجدال والفسوق في سبيله . وهو
- بحق - يعطي رمزية واضحة عما يجب أن يكون عليه الفرد في سائر ايام حياته من الالتفات الى تقديم رضاء الله وقربه على مصالحه الخاصة وأطماعه الضيقة ، فليس ينبغي أن يقوم في هذا السبيل حائل أو أن يعوق عائق في جميع أعمال الفرد، خاصة وعامة ، دينية أو دنيوية . وإن في بعض شرائط الإحرام خصيصة زائدة وفائدة إضافية :
فمن ذلك المنع عن لبس المخيط للرجل المحرم والمنع من لبس الحلي للمرأة المحرمة ، فإنه مجتمعاً من المحرمين يتساوى فيه الرئيس والمرؤوس والغني والفقير والحقير والعزيز ، كلهم بزي واحد وعمل واحد وفي سبيل هدف واحد وعبادة واحدة ، جمعهم التشريع الإلهي على صعيد واحد ، واُلغي
بينهم الفوارق الدنيوية والزخارف الزائفة ولا تبقى إلا المميزات الشرعية المعترف بها اسلامياً . وهي العلم والتقوى والجهاد ، فإن المحرم يخرج من زيه وجماله وماله ولكنه لا يخرج من علمه وتقواه وجهاده وإنما يضيف بحجة إلى عمله عملاً وإلى تقواه خشوعاً وإلى جهاده تضحية .
على ان زي الإحرام يذكر بحال الموت وزيه وما يلبس فيه من الاكفان ، تلك الحال التي تعرب عن التساوي بين الناس بشكل أصرح ، ويكون انعدام الفوارق بين القبور أجلى و أوضح ، وفي ذكر الموت شحذ لاحساس المسلم وهمته إلى طاعة الله ورضوانه والعمل في سبيله ، وإعلاء تفكيره وتدقيقه ، ونحوها من الأحاسيس التي يتطلبها الإسلام من الفرد في خطه التربوي الطويل .
ومن شرائط الاحرام ذو الخصيصة الزائدة سياق الهدي للحاج القارن ، فان فيه الفوائد والحكم التي ستذكر في الهدي ان شاء الله تعالى ..
التلبية :
وهي ركن أساسي في الإحرام لا ينعقد إلا به ، وفي ذلك من المعنويات الكبيرة التي تقرن الإحرام ، وبالتالي كل الحج ، بالنداء المقدس الذي قاله إبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه السلام ناطقاً عن تشريع الله تعالى حين أمره ربه العلي العظيم قائلاً : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (1)
ولايخفى ما في هذا النداء الإلهي من دعوة رحيمة كبرى للبشر أجمعين تعطيهم الفرصة الكبرى ، بالتوجه إلى الله والحصول على رضاه وقربه ، وهو الهدف الأعلى لبشرية الذي يمثل كمالها المنشود ، ومن ثم يشعر المحرم الواعي أنه قصد الديار المقدسة وقام بهذه الفريضة الكبرى إجابة لنداء ربه وتلبية لدعوته .
وليس ينبغي للفرد المسلم أن يجيب نداء ربه في الحج وحده بل عليه ان يطبقه على سائر ايام حياته ، ويلبيه في كل تصرفاته ، ليكون الفرد الكامل البناء في المجتمع الكبير ، وهذه هي الرمزية التي تعطيها التلبية للسير والسلوك في كل أيام حياته ..
_______________
(1) سورة الحج:الاية 27
الطواف :
الكعبة تمثل الوجود المادي الرمزي للتوحيد الخالص الذي جاء به الاسلام وجاء به إبراهيم الذي وضع قواعد هذا البيت و (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) (1) وبالتالي يمثل - بنحو الرمز – الوجود الإلهي على الأرض ، ومن ثم انبثقت تسميته ببيت الله وأمر الإسلام بالتوجه إليه في كل صلاة رمزاً للتوجه إلى الله نفسه إيماناً وعبادة ، ومعه يكون من الطبيعي أن يكون قصد الكعبة من البلد البعيد والقريب ، قصداً مادياً وقصداً معنوياً للتوحيد ، ولدين الله العظيم ، ويكون إظهار الإخلاص لها إظهاراً لإخلاص التوحيد ، ويكون التقرب إليها بالذبح والنحر تقرباً إلى التوحيد الإلهي ، ويكون الدوران حول الكعبة بالطواف وجعلها مركز الاحساس المادي رمزاً حياً عن الدوران حول التوحيد ، حول دين الله القويم والحق الصريح ، وجعله مركز الاحساس المعنوي ، ومركز النشاط الانساني .
والإنسان إذا دار مدار التوحيد الخالص وشريعة الله عز وجل في سلوكه وإحساسه ، فإنه يكون حتماً الفرد الكامل العظيم الذي ينتهج المنهج العام للاسلام في تربية النفوس ..
يقول محمد أسد المستشرق النمسوي المسلم، معرباً عن مثل هذا المعنى : ان جزءاً من فريضة الحج ان تطوف بالكعبة سبع مرات ، لا احتراماً لقدس الاسلام المركزي فحسب ، بل لتذكير النفس بالمطلب الاساسي للحياة الاسلامية ان الكعبة هي رمز وحدانية الله وحركة الحاج الجسمانية من حولها هي التعبير الرمزي للنشاط الانساني ومضمونه ، إن أفكارنا ومشاعرنا وكل ما يشمله تعبير (( الحياة الباطنية )) ليست هي وحدها التي يجب ان يكون محورها الله ، بل كذلك حياتنا الخارجية الناشطة وافعالها ومساعينا العملية (1).
ويقول قبل ذلك عن بناء الكعبة :لقد عرف من بنى الكعبة انه ما من جمال في تناسق البناء وما من كمال في خطوطه مهما كان عظيماً يمكن أن يوفي الفكرة الإلهية حقها ، وهكذا قصر نفسه على أبسط شكل مثلث الأبعاد يمكن أن يتصوره العقل مكعباً من الحجر .
لقد سبق لي أن رأيت في بلدان إسلامية مختلفة مساجد أبدعت في بنائها أيدي الفنانين من المهندسين المعماريين العظام – ثم يعدد قسماً كبيراً
منها ثم يقول : كل هذه سبق أن رأيتها ولكن شعوري لم يكن قط قوياً كما كان الآن ، أمام الكعبة . بأن يد الباني كانت على مثل ذلك القرب من مفهومه الديني ،ففي بساطة المكعب المطلقة ، في الإنكار التام لكل جمال للخط والشكل ،نطقت هذه الفكرة تقول أيما جمال قد يستطيع الإنسان أن يخلقه بيديه يكون من الغرور إعتباره جديراً بالله ، وإذن فكلما كان ما يستطيع الإنسان أن يتصوره بسيطاً كان ما يستطيع فعله لتمجيد الخالق أعظم ما يكون (1).
إستلام الحجر :
هو من مميزات الطواف الرئيسية ، وتنبثق فكرته من فكرة الطواف نفسه ، فإذا كان الطواف الرمز المادي للدوران حول فكرة التوحيد وجعلها المركز الأساسي لنشاط الإنسان وسلوكه ، فأجر باستلام الحجر الأسود ، أن يكون الرمز المادي للاتصال بفكرة التوحيد وملامستها في عالم الفكر والمعنى ، لأنه ملامسة للرمز الذي يمثل الله في الأرض : الكعبة . وفي ذلك من المعنى الجليل في القرب الإلهي والتعمق في التوحيد ما لا يتوفر بأي عمل آخر ..
ويمكن أن تستفاد من الأثر الوارد كلمتان أخريان ..
أحدهما : أن الحجر يمين الله في أرضه ، وأن استلامه مبايعة لله تعالى فلئن كانت البيعة للخلفاء والعظماء مشروعة اجتماعياً أو إسلامياً ، مرة واحدة لكل شخص عظيم ، دلالة على الاقتداء به وبيع الولاء والطاعة المطلقة له ، والدلالة على أنه من شعبه ومواليه ، فهذا هو ما ينبغي أن يحدث بين الله وبين عباده إلا أن هذه المبايعة سوف لن تكون شكلية ولن تقتصر على المرة ، بل ينبغي الاستلام في كل شوط من أشواط الطواف وينبغي البقاء على المبايعة والولاء والايمان مدى الحياة ..
ولئن كانت بيعة الشجرة بيعة لله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) فإنها بوجودها العام غير خاصة بأولئك النفر المعينين ، وإنما هي فرصة مفتوحة لكل مسلم بأن يجدد بيعته وولاء لربه في كل عام ، وفي ذلك تعميق للاخلاص وشحذ للايمان وتجديد للاندفاع العقائدي في وجدان الفرد الواعي .
وإذا كان الفرد لا يمكنه أن يتصل بالله تعالى مباشرة فقد جعل الله تعالى له رمزاً عن ذلك في نفس الكيان المادي الرامز الى توحيده ووجوده ، لتسنح الفرصة الرحيمة الكافية لنيل شرف البيعة الإلهية مع سائر المسلمين ..
الحكمة الثانية : ان الحجر الأسود يشهد لأعمال الخلائق يوم القيامة . وليست هذه الشهادة ببدع جديد ، بعد أن نطق التنزيل الحكيم بشهادة أيدي المجرمين وأرجلهم يوم القيامة بما عملوا من أعمال وما قمن به من إجرام فكذلك الحجر يعتبر فرصة ثمينة لكل حاج بأن يشهد له يوم القيامة بأنه زار البيت وأستلم الحجر ، وبالتالي يشهد له على هذا العمل الصالح الذي قام به هذا المؤمن – وهو (( الحج )) .
صلاة الطواف :
وهي من شرائط صحة الطواف ، وبالتالي لا يتم الحج كله إلا بها ، وهي تحتوي على عدد من المعاني الكبيرة :
أولاً : أن الله تعالى – لم يرد أن يخلو الحج وهو أكبر عبادات الاسلام من الصلاة . وهي عمود الدين وعلامة إسلام المسلمين وأن الحج ليزداد شرفاً وعمقاً بانضمام الصلاة إليه .. بحيث تكون داخلة في تركيبه وتعبر من بعض أجزائه .
ثانياً : وهو مما يترتب على المعنى الأول وهو أن من لا يعرف كيف يصلي بالرغم من كونه يزعم اعتناق الاسلام فإنه يبطل حجه مضافاً إلى بطلان صلاته ، فالصلاة إذن محك صحة الحج وبطلانه ..
وأما المصلي فتنفتح أمامه فرصة جديدة للخشوع لله تعالى والتوجه إليه ومخاطبته وجهاً لوجه خلال هذه الفريضة الجليلة ، فإن الحج على عظمته لا يستطيع أن يكفل التوجه إلى الله ومخاطبته بالمقدار الذي تكفله الصلاة ، وبخاصة إذا جيء بها في مقام إبراهيم (ع) في بيت الله الحرام .
ثالثاً : إن هذه الصلاة تحية معطرة ، وفيض من الاحترام والاكبار يجب أن يبذله الحاج لإبراهيم (ع) في مقامه ، وهو
الذي رفع القواعد وأذن في الناس بالحج ، ففتح هذه الفرصة الإلهية الكبرى التي أستغلها الحاج ونال رضاء الله تعالى عن طريقها ، ولو لم يكن لولا عمل إبراهيم وندائه – بمتمكن أن ينال ذلك .. فإذا كانت المساجد تحيتها الصلاة ، والموتى يبعث إليهم الثواب عن طريق الصلاة ، وليس في تلك ولا هؤلاء تلك الأهمية التي أكتسبها عمل إبراهيم العظيم . إذن فما أجدره ( ع ) بركعتين من الصلاة تقام في مقامه شأنه في ذلك – بكل تواضع – شأن كل مسجد أو بيت !.
السعي :
وهو يمثل السعي في حدود الشريعة الاسلامية والأوامر الإلهية ، ويعطي رمزية واضحة عن التردد في داخل حدود تلك الأوامر والتعاليم . فإن لتلك الأوامر حدوداً هي حدود الله تعالى يجب على الفرد عدم تعديها بالزيادة عليها أو بالنقيصة منها ، وإلا كان منحرفاً هداماً ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)) (1) .
فالفرد المؤمن ملتزم بتعاليم الله مقتصر عليها متردد في سلوكه ضمن حدودها فإن حام حول الشبهة رجع إلى الشريعة وإن أرتكب مخالفة لجأ الى التوبة ، وأن شط به المزار تذكر الله فإذا هو مبصر ..
فالصفا والمروة : اللذين هما حدود السعي المادي في الحج ، يعطيان رمزية واضحة عن تلك الحدود المعنوية الكبرى التي يكون خلالها سعي الإنسان وسلوكه في الحياة لو أراده خالصاً مخلصاً مطابقاً لأوامر الله وتعاليم الاسلام على أن السعي هو أسوة حسنة وإقتداء جميل بما فعلته
( هاجر) أم إسمعيل الذبيح وزوجة إبراهيم الخليل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .
تلك المرأة الصابرة المجاهدة التي ذاقت من صنوف التضحية أقساها ومن مرارة الحياة أشدها وعاشت في وادي غير ذي زرع ، لأجل أن تكون كما شاء الله تعالى سواء علمت أو لم تعلم ، البذرة الأولى للبدء ببناء البيت الذي يمثل التوحيد الخالص على وجه البسيطة .. ومن المنطقي أن يؤمر الحاج بمواساة تلك المرأة الصابرة أثناء محنتها الكبرى ، حين كانت تبحث لأبنها الصادي عن
________________
(1) الطلاق : الآية 1.
الورد ، فصادف أن سعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط .
فعلى المسلمين أن يتذكروا ولادة البيت العتيق الممثل لعقيدة التوحيد ، بمواساة هاجر والسعي في مسعاها أثناء محنتها الكبرى .
الموقفين :
موقف الحجاج في عرفات وموقفهم في المشعر ، وهما يعطيان شعوراً موحداً, ورمزاً مشتركاً , وفي تكرار هذا الشعور مزيد من التأكيد على أهمية وترسيخ فكرته في نفوس المسلمين ... إن هذا الموقف هوالفرصة الأساسية لإطلاع كل فرد من الحجاج على إخوانه في الله والمساهمين معه في إجابة ندائه .. فإن الحاج في سائر أعماله – عدا الموقفين – لن يستطيع أن يحتك بهذا الجمع الغفير ويحس عن قرب بالعدد الضخم المتلاطم العامل في سبيل إطاعة ربه وإداء فريضة حجه . إن الحجاج يكونون عادة ، في العمرة ، وفي الطواف وفي السعي ، وفي رمي الجمرات ، وغيرها من الأعمال . متفرقين مشتتين ، لا يؤدون العمل في زمان واحد ولا يجتمعون على صعيد واحد ، إلا في أرض عرفات وأرض المشعر .. فما هو شعور المسلم عند مواجهة إخوانه , وما أعظم الإسلام وما أكبر ندائه الذي يستطيع أن يجمع هذه الآلاف في هذا العام وفي كل عام. وما أعظم الأخوة التي تشد بعضهم إلى بعض بالرغم من تباعد البلدان وتشتت اللغات . إنها أخوة الهدف والعمل . أخوة الإيمان والعقيدة وهي أقوى الأخوات وأرسخها في منطق البشرية والتأريخ ( أخوان لي عن اليمين ، وأخوان لي عن اليسار ، كلهم لا أعرفهم ، ولكن أحد منهم ليس غريباً عني . فنحن في فرحة سباقنا المضطربة جسمٌ واحد يسعى إلى هدف واحد إن العالم أمامنا فسيح ، وفي قلوبنا تتألق شرارة من النار التي اشتعلت في قلوب صحابة النبي ( ص ) إنهم يعرفون . إخواني عن يميني وإخواني عن يساري أنهم قد قصروا عما كان ينتظر منهم ، وأن قلوبهم قد تضاءلت عبر القرون ومع ذلك فإن وعد الله الحق لم ينتزع منهم .. منا )) (1)
___________
(1) محمد أسد :في الطريق الى مكة ص 402.
وما أثمن هذه الأرض المقدسة التي شهدت جهود النبي ( ص ) وأصحابه وإبتهالاتهم الصادقة الخالصة , وشهدت إبتهالات القرون المتوالية وجهودها المتواصلة. ولو كان الموقف واحداً لأعطى بنفسه هذا الرمز الكبير وهذا الإحساس الإسلامي العميق , ولكن المسلمين في هذا العام وفي كل عام ، لا يقتصرون على التجمهر في عرفات بل يدفعهم النداء الإلهي إلى الإسراع في خلال الليل البهيم ليلبوا الواجب المقدس في أرض المشعر , لكي يعطوا تأكيداً جديداً للإحساس الإسلامي العميق ولكي يجددوا بابتهالاتهم المتصاعدة الأمل الكبير في غفران الذنوب وستر العيوب وحل المشكلات .
منى :
ثم يأتي دور الأرض المقدسة الأخرى التي تؤدي فيها شعائر عيد الأضحى المبارك وينحل فيها القسم المتزمت من شرائط الاحرام : أرض منى .
والبقاء في منى . غير مراد بنفسه في الشريعة , على الأغلب ، وإنما يضطر الحاج إلى الوجود هناك لكي يقوم بأعمال حجه فيها ، فهناك الذبح ورمي جمرة العقبة والتقصير في عيد الأضحى . وتكرار رمي الجمرات في الأيام التالية له.. فمهم الفرض هو أن نحمل فكرة واضحة ، عما يتصوره من المصالح الاساسية والحكم المتوخاة من هذه الأعمال ، نبدأ ذلك بذكر الفكرة الاساسية التي قام على اساسها تشريع عيد الأضحى نفسه.
عيد الأضحى :
تقوم فكرة الأيام المتبركة إسلاميا على أحد أسس ثلاثة تنقسم الأيام باعتبارها إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
الأيام التي تكتسب أهميتها بإعتبار أن حادثة مهمة في الإسلام قد وقعت فيها ، كولادة النبي ( ص ) وولادة أمير المؤمنين عليه السلام ووقعة بدر ويوم المعراج ويوم الغدير ، ونحو ذلك . فهذه هي أيام المناسبات التي تعطي للمسلمين بتجدد ذكراها المعاني السامية لذلك الحدث الواقع في مثل
ذلك اليوم فيتجدد لهم إندفاع الإيمان وقوة الشعور بالمسؤولية والقيام بالواجب الإسلامي المقدس .
القسم الثاني :
الأيام التي تكتسب أهميتها بإعتبار كونها وقتاً لإداء عبادة كبيرة في نظر الإسلام ، وأهم أمثلة ذلك ليلة القدر في شهر رمضان ، بل أيام الشهر كلها , ويوم عرفة في الحج , فإنها واقعة في أوج إداء العبادة وقمة إندفاع المكلف في التوجه إلى ربه فيها .
القسم الثالث :
الأيام التي تكتسب أهميتها باعتبار كونها أول يوم لفراغ المكلف من عبادة مهمة في الإسلام ، فإنه من الوجداني المحسوس أن أداء أي واجب يقوم به الإنسان يعطي راحة محببة وإطمئناناً للضمير ، لو كان للضمير وجود وكذلك العبادات للمسلم بإعتبارها الواجب الإلهي المقدس ، يعطي الفراغ منها مقداراً مهماً من الراحة والإطمئنان والشعور بإداء الرسالة والقيام بالمسؤولية ..
وكلما كبرت العبادة وأزدادت أهميتها بالإسلام كلما أزدادت أهمية أدائها والفراغ منها . حتى إذا ما وصلت العبادة إلى قمة الأهمية بإعتبار قدسيتها وطولها وزيادة تضحية المكلف في سبيل إدائها ، وصلت أهمية الإنتهاء منها والشعور بالراحة والإطمئنان إلى حد يستحق أن يكون عيداً إسلامياً ينص عليه في الشريعة الإسلامية ويحتفل به المسلمون على طول العصور. وأهم مثال ذلك – عيد الفطر – الذي يأتي بعد الإنتهاء من فريضة الصوم خلال شهر كامل . وعيد الأضحى الذي يأتي بعد الإنتهاء من الأجزاء الأساسية في الحج ، وبالتالي كأنه فراغ من الحج بشكل من الأشكال .
وليس من الصدف أن يقع عيد الفطر بعد ليلة القدر أو أن يقع عيد الأضحى بعد يوم عرفة ، بعد أن عرفنا كيف إن ليلة القدر واقعة في قمة إداء العبادة وعيد الفطر واقع عند الإنتهاء منها . كما ان يوم عرفة واقع في موقف من أهم مواقف الحج في قمة أداء هذه العبادة وعيد الأضحى واقع عند الانتهاء منها عادة .
الذبح أو الهدي :
يمثل الذبح حلقة من سلسلة تشريعات في الاسلام – إلزامية وغير إلزامية – جعل فيها للفقير حق في أموال الأغنياء ، وشرع فيها الضمان الإجتماعي العام ..
فلئن كان الأغنياء مالكين لأموالهم ، فإن الله تعالى مالك لهم ولأموالهم وأولى بهم من أنفسهم , وهو برحمته التشريعية الكبرى يأبى عن أن يمتع الغني بما يحرم الفقير أو أن يبيت الغني مبطاناً وحوله بطون غرثى وأكباداً حرى – بل أن الفقير ليتناول حصته من أموال الغني بشرف وإستحقاق بإعتبار الأمر الإلهي الذي هو أكبر منهما وأهم بدون منة أو تفضل أو ترتب أي أثر سيء . وإن الغني ليشعر أنه يؤدي بذلك واجبه الإسلامي قبل شعوره بكونه شفقة على الفقير ورحمة به – فلا ينقدح في نفسه الشعور بالمن و الأذى ..
وهذا معنى يشترك فيه سائر الصدقات في الاسلام ، كالزكاة والخمس وغيرهما ، ويختص الذبح في عيد الأضحى بميزة مهمة تكسبه إرتفاعاً عن مستوى سائر الصدقات ، وما ذلك إلا وقوعه في عيد الأضحى ، وهو العيد الإسلامي الكبير الذي ينبغي لكل فرد مسلم أن يشعر فيه . بشيء من الغبطة والفرح والراحة . ولا ينبغي بأي حال أن يختص هذا الشعور ببعض الأفراد أو بقسم من الأمة لمجرد تميزهم بالمال أو بارتفاع الشأن ، بل يجب أن يسعد الفقراء – كما يسعد الأغنياء ، ويشتركوا مع الأمة الباسمة في عيدها الإسلامي ..
ولأجل اكتساب سرورهم يضاف إليهم في هذا العيد مضافاً إلى ما أخذوه من الحقوق المالية كمية من اللحم الوفير تعطى لهم من دون شعور بمنةٍ أو أذى ناتجة من أضاحي هذا العيد السعيد .
وليس هذا بدعاً في إسعاد الفقراء ، فعيد الفطر أيضاً مقرون بوجوب دفع ضريبة زكاة الفطرة على الأغنياء ، لكي تضاف إليهم أيضاً في هذا اليوم السعيد إلى دخلهم الإسلامي الأخر ..
*****
وتزداد أهمية هذا التشريع الكبير : الهدي ، لو لاحظنا المكان والزمان الذي شرعا فيه حيث كان الفقراء في شبه جزيرة العرب يعدون بالملايين بل يمثلون الشعب بأسره تقريباً ، ويعتبر الحج الموسم الاقتصادي المهم لحصول هذاالشعب البائس على الأموال التي يضعها الحجاج في تلك البلاد عن طريق التعامل أو التصدق أو التضحية ، فإن الحاج لا يرد إلى تلك الديار المقدسة إلا إذا كان مستطيعاً ، بمعنى أنه مالك للمال الكافي الذي يزجي به حاجاته الشخصية والشرعية . وبالتالي له المال الذي يلقيه بين يدي الشعب هناك .
وهذا الموسم الإقتصادي الكبير ، كان ولا يزال ، أمل الفقراء والأغنياء في كل عام في تلك الديار لما يدره عليهم من أرباح ، وما أسعد الفقير الذي يتذوق الخير ولم يشم رائحة القديد .
إذ يحصل على مثل هذا اللحم المجاني من الله تعالى وبإلزام منه ، من دون منة ولا أذى .. نعم بعد أن نبع النفط في شبه الجزيرة العربية وإزداد الدخل العام وقلة نسبة الفقراء قلة كبيرة ، قلت أيضاً أهمية الذبح وأصبحت اللحوم تزيد عن حاجة الأكلين بكثير حتى أن ثلثيها, وثلاثة أرباعها تتدفن تحت التراب تخلصاً من نتنها وجراثيمها ..
إلا أن ذلك في الواقع ليس تقصيراً في التشريع الإسلامي وإنما هو تقصير في المسلمين ، فكل تشريع يجب أن ينظم إليه عمل يشد أزره ويساعده على النمو والإنتاج وإيتاء أحسن الثمرات للمجتمع والأمة الإسلامية ..
وإن أهم عمل ينقذ هذه المشكلة المستجدة ، هو أن يقوم المسلمون ، لو كانوا واعين وشاعرين بالمسؤولية الإسلامية بجمع هذه اللحوم حين ذبحها وتعقيمها وتعليبها وتوزيعها في البلاد الإسلامية ولو كان ذلك من طريق شركة تتكفل هذه المهمة الكبرى ، وتجني من ورائها الربح الوفير وبخاصة وهي تحصل على هذه اللحوم مجاناً دون مقابل بعد ذبحها الحجاج وأستغنوا عنها ..
يضاف إلى كل ذلك أن الذبح هو سنة من سنن التقرب القديمة التي قام بها الناس منذ الأزمان السحيقة في القدم , تحية وتزلفاً لمعبوداتهم وهو الله تعالى إذا كان الفرد إلهياً أو الصنم إذا كان الفرد مادياً .. وقد أفتتح هذه
السنة في مبدأ البشرية ابنا آدم إذ قربا إلى الله قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، فحسده الآخر ولاحاه حتى أنتهى به الأمر إلى أن قتله ، كما هو مسطور في القرآن الكريم . وقبول القربان من أحدهما دلالة على مشروعيته في نظر الله تعالى وصحة التقرب به . كما أن الاعراب عن ذلك في القرآن يدل على إقراره في الإسلام وصحته في شريعته .
ومن هنا أراد الله تعالى أن لا تخلو فريضة الحج من هذه السنة القديمة المشروعة ، ليكون للحجاج أسوة بابني آدم عليه السلام يقبل الله من بعضهم ويرد من آخرين ، بحسب اختلاف نياتهم وعقائدهم وأعمالهم ، فيشارك الفرد مواكب الاجيال البشرية المتصاعدة منذ ذلك الحين إلى الآن ممن قربوا قرباناً إلى ربهم العلي العظيم ..
الحلق وحكمته :
وهو الواجب الآخر الذي يجب القيام به في عيد الأضحى المبارك وبه ينتهي القسط الأكبر المتزمت من محرمات الاحرام وتكاليفه ويوجب تحلل الفرد منه إلى حد كبير . ومن هذا المنطلق نستطيع أن نستوضح الحكم والمصالح المتوخاة من ورائه ..
حكمته الأولى :
وهي أن الحلق أول فعل يقوم به الحاج حينما يريد أن يتحلل من إحرامه ، فإن الإحرام بعد أن كان يحتوي على جملة من الممنوعات ، بما فيها أمور تكون حلالاً للفرد غير المحرم ، كان التحلل منه لا محالة بالاتيان بأحد الممنوعات المحللة في أصل الشريعة . للدلالة على عدم الالتزام بالاحرام من الآن فصاعداً ، وقد أختار الله تعالى لعباده الحجاج الحلق أو التقصير لكي يكون رمزاً عن ذلك .
حكمته الثانية:
النظافة التي هي من الإيمان ، ومن واضحات المطلوبات في الإسلام بل قد تكون من الواجبات وإعطاء الفرص الكبيرة والعديدة في التشريع الاسلامي
للمكلفين ، للتنظيف وإزالة الأدران ، أكثر من أن يعد .. يندرج في ذلك الأغسال الواجبة والمندوبة وإستحباب التجمل والتطيب ولبس النظيف من الثياب وأستحباب قص الأظفار ..
ونحو ذلك من الأحكام .. والإحرام قد يستغرق أياماً يعاني الحاج خلالها السفر والتعب والاختلاط بجماهير الحجاج ، وتطرأ عليه من موجبات أتساخ البدن وطول الشعر الشيء الكثير ، فمن هنا أمره الله تعالى بالرجوع إلى النظافة بمجرد الانتهاء من مهام حجه الرئيسية ، وأستعجل ذلك قبل الانتهاء من كل أفعال الحج وإعطاء – بهذا الصدد تشريعاً إلزامياً واحداً هو الحلق أو التقصير ، ليكون الباقي موكولاً إلى الحاج نفسه يطيع به الاستحباب العام للتنظيف والتجمل في الاسلام بحسب الامكان ..
رمي الجمرات :
إذا كانت الكعبة هي الرمز المادي لتوحيد الله تعالى وكان الطواف واستلام الحجر ، هو العمل الاساسي الذي يمثل الاخلاص لله ، وجعل توحيده المركز الحقيقي للاحساس والسلوك في تمام أيام الحياة . فما أحرى أن يكون هناك رمز آخر يضاد هذا الرمز ويناقضه ، ولئن كانت الكعبة مستقطبة لكل معاني الخير والعدل ، باعتبارهما المنتوجين الاساسيين لعقيدة التوحيد ، فإن الرمز الآخر لابد أن يستقطب كل معاني الشر والظلم باعتبارهما المنتوجين الاساسيين لما ترمز إليه الجمرة – وهي فكرة الشيطان .. ولئن كان الطواف يعتبر ولاء للخير والعدل ، وإظهاراً عملياً لتأييدهما فإن رمي الجمرة بالحصى هو العمل المهم في إظهار الشجب والاستنكار العملي للشر والظلم ، وبشجبهما يفهم الفرد بوضوح شجب كل فكرة ناتجة عنهما ، أو عمل مترتب عليهما ، من الكفر والضلال والعصيان والانحراف وتستتبعه هذه الأمور من ذنوب وموبقات ..
كما يفهم شجب المصدر الأساسي لهذه الأفكار والأعمال وهو الشيطان الذي آلى على نفسه غواية البشرية عندما لم يسجد لأبي البشر آدم عليه السلام ، فأصبح عدواً لله وللناس ، يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس . كما يفهم شجب النفس الأمارة بالسوء ذات الزوايا الحادة
والانحرافات العاطفية الخطيرة .. التي لا تؤدي إلا إلى عصيان الله والنزول عن المستوى الإنساني الذي يريده الله لعباده والوقوع تحت طائلة تبكيت الضمير .. ولا يخفى ما في الرموز المادية والتجسيدات الحسية الملموسة للأمور المعنوية العليا ، من تقريب مباشر لتلك الأمور إلى أذهان جمهور المسلمين . فإن الفرد بطبيعة معيشته التكوينية وإرتباطه بحدود الزمان والمكان يصعب عليه إلى حد كبير أن يتجرد منها ، ويصعد بنفسه وفكره إلى الأمور المثالية والعوالم الالهية وقواعد العدل العليا ونحو ذلك مما يكون مجرداً عن المادة وأوسع من الزما والمكان ويحتاج تصور مثل هذه الأمور إلى تدقيق وإتساع ذهن وصفاء خاطر ، لا يوجد إلا فيمن كان عالماً خبيراً أو مفكراً نحريراً ... أما الجمهور العام للمسلمين فسيبقى منعزلاً – إلى حد كبير – عن المعاني السامية والمثل العليا . ما لم تقرب له برمز حسي ملموس تستعمل فيه فكرة التجرد ( السرياليزم ) فلئن كانت فكرة التجريد ترمز عن المادة باللامادة وتخرج المادة من عالمها لتحولها إلى فكرة فإن رموزنا عكست الأمر فرمزت عن اللامادة بالمادة ، وأخرجت الأمور اللامادية – في عالم الاعتبار – عن عالمها المجرد لتحولها إلى مادة محسوسة لتقع تحت النفع المباشر لجمهور المسلمين ، فتهبهم ذكريات الأمور المعنوية لكي تقوم بدروها الثوري في الدفع الايماني والجهاد العقائدي المقدس ..
ومن ثم كان هناك رمزان مستقطبان لأمرين لا ماديين مستقطبين فالكعبة رمزاً لله والجمرة رمز للشيطان ، ولا يكفي أن يظهر الانسان ولاءه لله من دون أن يستنكر كيد الشيطان وإلا كان من الممكن أن يكون موالياً لكليهما مطيعاً لهما على اختلاف ساعات حياته .. فلا يكون متمحضاً لطاعة الله تعالى وتوحيده ،فلأجل التخلص من هذا المحذور جعل رمز الشيطان لكي يجدد المسلمون كل عام استنكاره وشجبه .
وكما يفهم الحاج الواعي أن الولاء لله وعمق الاخلاص له ، لا ينبغي أن يقتصر على الطواف الرامز عن ذلك ، بل يجب ان يبقى الولاء والاخلاص حياً في الذهن والشعور مدى الحياة ومطبقاً في تمام سلوك الانسان - فكذلك الحال في جزئه المتمم له وهو استنكار الشيطان وشجب ما يصدر من
انحراف وضلال – يجب أن لايقتصر على زمان رمي الحصيات السبع ، بل يجب ان يبقى حياً في الذهن والشعور مدى الحياة ومطبقاً في تمام سلوك الانسان ، ليصدر الفرد سلوكه وعقيدته عن التوحيد الخالص عن شرك الشيطان.
*******
على أننا يجب أن لانغفل فرقاً اساسياً بين هذين الرمزين المستقطبين . فالكعبة بما انها رمز عن الله تعالى وعن توحيده أذن فيجب أن يبقى الرمز واحداً لايتعدد .على حين ان الجمرة ، بما انها رمز عن الشيطان والشياطين متعددون بنص القرآن الكريم ،ناسب ان تتعدد بتعدد المرموز اليه .
فمن هنا نستطيع أن نعزو تعدد الجمرات الى الرمز عن تعدد الشياطين كما يمكن أن تعزي إلى تعدد وجهات الفساد والظلم الصادرة عن الشيطان فإن المثل الأخلاقية وقواعد العدل العامة مستمدة من مصادر ثلاثة مختلفة في الجبهة ومتفقة في النتيجة هي :
أولاً : أوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها.
ثانيا ً: القواعد العامة المستقاة من العقل العملي المجرد.
ثالثاً : القواعد العامة المستقاة من سيرة العقلاء بما هم عقلاء . ونتائج كل واحد من هذه المصادر حق وعدل يجب اتباعه على بحث وتحقيق ليس هذا مجال الاضافة فيه .
وعلى كل حال فمخالفة كل واحد من هذه الأسس الثلاثة الكبرى إنحراف وضلال في نظر الإسلام .. ومن ثم كانت الرموز إلى نتائج الشيطان ثلاثة هي الجمرات الثلاث ، تعدد بتعدد عصيان تلك الأسس الكبرى .. ولعلنا نستطيع أن نلاحظ في هذا الصدد أن القسط الواجب من إظهار الولاء لله عز وجل بالطواف يعادل في العدد تقريباً ، ما تناله كل جمرة من دفعات الاستذكار بالرمي .. فالطواف الواجب ثلاثة :
طواف العمرة وطواف الحج وطواف النساء.. وعدد دفعات الرمي لغير جمرة العقبة ثلاثة أيضاً .. مرة في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ومرة في الثاني عشر ومرة في الثالث عشر منه . والرمي في جمرة العقبة ثلاث
أيضاً لمن خرج من منى في النفر الأول وهو اليوم الثاني عشر .. وأربعٌ لمن بقي لليوم الذي يليه فتزيد على أختيها بمرة واحدة هي المرة الأولى التي ترمى يوم العيد . كما أننا إذا لاحظنا عدد أشواط الطواف وعدد الحصى المرمي في كل جمرة لرأيناه متحداً أيضا وهو سبعة في كلا الحالين .. فنفهم من ذلك معنى من المعاني الكبيرة .. وهو أن الوازع إلى الله تعالى والوازع عن الشيطان (1) يجب أن يكونا متعادلين في نفس الإنسان متعاونين في تربيته وتكميله . وهذه هي القاعدة في كل إيمان مخلص .. فإنه كلما أقترب الإنسان إلى الله أبتعد عن الشيطان ، وكلما أبتعد عن الشيطان أقترب إلى الله تعالى . وأما إذا أختل الميزان وأختلف المقدار فكان البعد عن الشيطان أقل من القرب إلى الله تعالى أو أكثر منه كان في ذلك احتمال الانزلاق والانحراف لأنه إن قل البعد عن الشيطان كان هناك مجال لاقتراف الظلم والعصيان وإن قل القرب عن الله عز وجل كانت القوة المانعة عن مكافحة الشيطان أضعف ، وعلى كلا الحالين ينتج احتمال الإنزلاق والإنحراف .. ولعل من الطريف أن نلاحظ تشريعاً بسيطا في الحج لا يكاد يكون ملفتاً للنظر في ذلك الخضم الهائل من الأعمال المتواصلة ، ونقصد به إستحباب جمع الحصيات من أرض المشعر الحرام لإستعمالها في رمي الجمرات ..
____________
(1)أي المقرب إلى الله والمبعد عن الشيطان.
إنه ليعطي رمزية كاملة وواضحة عن إن الفرد يجمع سلاحه ضد الشيطان من بقعة إلهية مقدسة من أرض الله تعالى ، وهذا مايجب أن يكون عليه العمل في جميع أنحاء السلوك ، فإن الإنسان دائماً يدفع بجنود الله قوى الشيطان يدفع بقوة الإخلاص والإيمان كل ما قد ينزلق إليه من عصيان أو ضلال ... ومن الملاحظ دائماً أنه كلما قويت ( جنود الله ) في النفس إزداد الإنسان نصراً على مزالقه وإنحرافاته ، وكلما ضعفت جنود الله تعالى في نفس الفرد أستطاعت جنود الشيطان وغواياته أن تقوى وأن تمتد حتى أنها قد تستفحل وتسيطر على حياة الإنسان ومشاعره وسلوكه ، حتى ليصبح عدو الله وإن لم يستشعر العداوة بعيدا ً عن ساحته وإن لم يستشعر البعد ، خاسراً للخير والعدل وإن لم يلتفت إلى الخسران .
*****
ولعله في المستطاع أن نستفيد رمزية الجمرة عن ( الشيطان ) من تسميتها بهذا الأسم نفسه ، بإعتبار كون خلقة الشيطان من النار ، كما نص عليه القرآن الكريم ، والنار هي الأساس في تكوين الجمر ، والعنصر الأكبر فيه .. وكذلك الحال في تسمية الجمرة الأولى التي يجب رميها يوم العيد بجمرة العقبة ، بإعتبار أن الشيطان ومخلفاته من الظلم والانحراف والفساد هو العقبة الكؤود ضد الإيمان والإخلاص ، وضد سيطرة
( جنود الله ) على الإنسان كما يريده الله تعالى أن يكون . ولا يخفى ما في تشريع رمي هذه الجمرة في يوم الأضحى وتجمهر المسلمين حولها طول النهار راجمين مستنكرين ، لا يخفى ما فيه من المعنى الكبير والاعلان الواضح على رؤوس الأشهاد في العيد الاسلامي الكبير ، عن هذا المعنى الجليل ، وهو إستنكار الشيطان وشجب أعماله ومغرياته ، وهو ما يوحي إلى النفس بهذا المعنى بشكل أكثر وأكد رسوخاً وعمقاً .
*****
وقالوا أن رمي الجمرات إستمرار إسلامي لرجم قبر أبي رغال الذي دل أبرهة الأشرم – الذي كان قاصداً هدم الكعبة – على مكة وإن باء ذلك التخطيط بالفشل إلا أن العرب رجمت قبر أبي رغال وأقر الإسلام ذلك الرجم
فأصبح بشكله الجديد رمياً للجمرات .. إلا أن هذا الرأي لايكاد يصح لعدة إعتراضات ترد عليه ..
أولاً :
أن التواريخ ذكرت أن العرب رجمت قبر إبي رغال ، وقد بعثته ثقيف ليدل أبرهة الأشرم على الطريق حتى أنزله في المغمس ، فلما نزله مات أبو رغال فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يرجم (1) والعرب تتمثل بذلك ، وفي ذلك يقول جرير بن الخطفي في الفرزدق.
إذا مات الفرزدق فأرجموه كما ترمون قبر أبي رغال (2)
وليس لهذه القصة أي إرتباط برمي الجمرات ولم يذكر المؤرخون ذلك ، مضافاً إلى أن أبا رغال مات في المغمس بين الطائف ومكة (3) لا في
( منى ) حتى يقال أن الرمي فيها إستمرار لذلك الرمي ..
ثانياً :
لو سلمنا – جدلاً – أنه دفن في (( منى )) وأنه رجم فيها فليس له إلا قبر واحد ومنطقة رجم واحدة ، على حين أن الجمرات ثلاث ، فما هو السبب في وجود الأثنين الآخرين ؟ !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الكامل لابن الأثير ج1 ص260 وما بعدها.
(2) مروج الذهب للمسعودي ج1 ص53 وانظر ص104 منه أيضاً.
(3)مروج الذهب للمسعودي ص53.
ثالثاً :
لو صحت هذه القصة بكل تفاصيلها, فهي مما تؤيد ما ذكرناه ، فإنها تنتج أن النصب الذي يرميه الحجاج هو رمز للخيانة ,والخيانة في واقعها أحد مسببات الشيطان وأحد الأفعال المنحرفة للنفس الأمارة بالسوء . ومعه يكون الأنسب للذهن الواعي أن يخرجها من هذه الدائرة الضيقة ويجعلها رمزاًً للشيطان بكل منتوجاته وللنفس الأمارة بالسوء بكل أفعالها وشهواتها ، ليكون رميها إستنكاراً لكل ذلك لا للخيانة وحدها .. وعلى أي حال فتطبيق رمي الجمرات على قصة أبي رغال مما لا يصح وإنما الوجه الصحيح والمشهور بين المسلمين هو ما ذكرناه من رمزيتها عن الشيطان ، ويكون هو الجواب التام عن الوجه في تعدد الجمرات وتعدد الرمي .
النية :
ولابد في الحج وفي كل عبادة من نية ، والنية هي روح العبادات لإحتوائها على قصد التقرب بالعبادة إلى الله تعالى ، وهي بدونها جسدٌ بلا روح .فإن المقصود الأساسي من العبادات هو إكتساب رضاء الله تعالى ونيل القرب المعنوي منه وإبداء غاية الإخلاص له والتزلف إليه ومثل هذا الفرض السامي لا معنى لوصوله بالإتيان إلا بهذا القصد نفسه .. وإما إذا تجردت عن ذلك ، فقد أنسلخت عن هذا الغرض السامي وخرجت عن كونها عبادة لله تعالى ..
والحج بصفته عبادة من أهم العبادات ، لابد أن يكون حاملاً لهذه الروح ومأتياً به بهذا القصد ، وليس هو – كما عرفناه - إلا مجموعة عبادات متصلة مترابطة يقصد بكل منها نحو من التقرب إلى الله وشكل من أشكال إبداء الإخلاص إليه ونحو من أنحاء الخشوع لقدسه . والعبادات وإن كانت أخص أنحاء التقرب إلى الله تعالى ولذا كانت مشترطة بأصل التشريع بقصد القربة بحيث تكون بدونه باطلة إلا أن سائر الأفعال المطلوبة إسلامياً مما يقصد به النفع العادل لشخص أو المجتمع أو للدين أو للبشرية ونحو ذلك من الأعمال إنما تكتسب شرفها وصيغتها الإلهية وتعبر عن إخلاص صاحبها ، فيما إذا أقترنت بقصد التقرب إلى الله تعالى وتجردت عن
قصد أي غرض آخر ضيق منحرف ، وبالتالي إذا اقترنت بنية العبادات بشكل عام .
الوقت :
ونريد به كون الحج موقتاً في وقت محدد هو عيد الأضحى وما يحيط به من أيام في ذي الحجة الحرام ، ولا يمكن أن يؤتى به في أي يوم من أيام السنة إلا في ذلك الحين من كل عام .
والمصلحة من ذلك واضحة كل الوضوح وهي اجتماع كل المسلمين الحجاج على صعيد واحد في وقت واحد لكي يستطيع كل فرد منهم الحصول على جملة من المصالح العامة التي ذكرناها في الحج ، مما لا يمكن أن يحصل بالانفراد أو بجمع قليل من الناس ، كالشعور بالأخوة تجاه المسلمين ومسائلتهم عن آمالهم التي يحسونها في بلادهم ، وحل القضايا والمشاكل الدينية والاجتماعية معهم وإستغلال إجتماعهم لتذكيرهم بأوامر الله وأيامه ودعوتهم إلى العمل الصالح . ومن المعلوم أن كل هذه المصالح مما لا يمكن أن تحصل مع قلة العدد وتفرق الجمع إذ لو كان مسموحاً بالحج في سائر أيام السنة لحج الناس في مختلف الأيام ، فلم يبق في الزمن الواحد مقدار مهم يمكن تطبيق هذه المصالح بالنسبة إليه ..
خاتمة
وبعد :
فهذه هي جملة من المصالح والحكم التي يتوصل إليها الذهن القاصر وهي بجملتها وتفاصيلها كافية للأمر بهذا التشريع العظيم والتضحية من أجل إمتثاله وتطبيقه ، مضافاً إلى أمكان أن يكون هناك أهم مما ذكرناه أو بمستواه مما يترتب على هذه العبادة الكبرى .. ومما ينبغي أن نلاحظه في هذا الصدد ، هو أن الوعي الإسلامي والحج يتناسبان تناسباً طردياً ، أحدهما صالح لتعميق الآخر والتسبب إلى صقله والإخلاص فيه .. أما تسبب الحج في تكوين الوعي ، فلما عرفناه مفصلاً من إلتفات الحج قهراً إلى بعض المصالح وبعد شيء من التفكير إلى بعض المصالح الأخرى مما
ينمي وعيه الإلهي والديني سواءاًً من الناحية الشخصية أو الإجتماعية . وأما تسبب الوعي إلى صقل الحج وتعميقه فلوضوح أن الفرد إذا كان واعياً سلفاً ، فإنه سوف يعيش الحج بذهن وفكرٍ غير الفكر الذي يعيش فيه الفرد العادي . وسيلتفت بدون عناء إلى جملة من المصالح والمعاني الكبرى التي قام عليها الحج وأسس من أجلها . وستزيده هذه الحكم بدورها وعياً وثقافة وإيماناً ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
النجف الأشرف
محمد الصدر
8/3/1389 هـ 25/4/1969م
المصالح العامة في اعمال الحج
المصالح الخاصة لأفعال الحج !..
بعد أن عرفنا المصالح المتعلقة بالحج على وجه العموم لابد لنا أن نستعرض المصالح المتصورة لأفعاله الخاصة ، بما لها من رمزية أو صراحة ، وبما فيها من نفع فردي أو إجتماعي على ما سبق أن فصلنا القول فيه .. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه من الصعب أن تحدد المصالح المتوخاة للخطوط الدقيقة لأعماله ومشاعره ، وعرفنا سبب ذلك في المقدمة ، وإنما تتضح المصالح بشكل جلي في العناوين العامة والخطوط العريضة لأعمال الحج كالإحرام والتلبية والطواف وصلاة الطواف والسعي والموقفين والذبح والحلق ورمي الجمار والنية والوقت ، فلا بد من التعرض الى ما يتصور من المصالح لكل واحد من هذه الافعال ..
الإحرام :
والمقصود الرئيسي منه ، هو التجرد عن المادة وعلائق الدنيا في سبيل الله ، ولأجل تمحيض التوحيد بالله وتركيز الإخلاص له وتعميق التوجه اليه..
فإن الإحرام بما فيه من زواجر وروادع ونواه صارمة يَدَعُ الإنسان يشعر بعمق أنه باختياره وطيب نفسه ، أراد أن يعيش هذه التضحية وأن يخطو في هذا السبيل خطوات لايريد بها إلا مرضاة الله عز وجل والتوجه اليه ، وترك الامور الدنية واللاأخلاقية كالجدال والفسوق في سبيله . وهو
- بحق - يعطي رمزية واضحة عما يجب أن يكون عليه الفرد في سائر ايام حياته من الالتفات الى تقديم رضاء الله وقربه على مصالحه الخاصة وأطماعه الضيقة ، فليس ينبغي أن يقوم في هذا السبيل حائل أو أن يعوق عائق في جميع أعمال الفرد، خاصة وعامة ، دينية أو دنيوية . وإن في بعض شرائط الإحرام خصيصة زائدة وفائدة إضافية :
فمن ذلك المنع عن لبس المخيط للرجل المحرم والمنع من لبس الحلي للمرأة المحرمة ، فإنه مجتمعاً من المحرمين يتساوى فيه الرئيس والمرؤوس والغني والفقير والحقير والعزيز ، كلهم بزي واحد وعمل واحد وفي سبيل هدف واحد وعبادة واحدة ، جمعهم التشريع الإلهي على صعيد واحد ، واُلغي
بينهم الفوارق الدنيوية والزخارف الزائفة ولا تبقى إلا المميزات الشرعية المعترف بها اسلامياً . وهي العلم والتقوى والجهاد ، فإن المحرم يخرج من زيه وجماله وماله ولكنه لا يخرج من علمه وتقواه وجهاده وإنما يضيف بحجة إلى عمله عملاً وإلى تقواه خشوعاً وإلى جهاده تضحية .
على ان زي الإحرام يذكر بحال الموت وزيه وما يلبس فيه من الاكفان ، تلك الحال التي تعرب عن التساوي بين الناس بشكل أصرح ، ويكون انعدام الفوارق بين القبور أجلى و أوضح ، وفي ذكر الموت شحذ لاحساس المسلم وهمته إلى طاعة الله ورضوانه والعمل في سبيله ، وإعلاء تفكيره وتدقيقه ، ونحوها من الأحاسيس التي يتطلبها الإسلام من الفرد في خطه التربوي الطويل .
ومن شرائط الاحرام ذو الخصيصة الزائدة سياق الهدي للحاج القارن ، فان فيه الفوائد والحكم التي ستذكر في الهدي ان شاء الله تعالى ..
التلبية :
وهي ركن أساسي في الإحرام لا ينعقد إلا به ، وفي ذلك من المعنويات الكبيرة التي تقرن الإحرام ، وبالتالي كل الحج ، بالنداء المقدس الذي قاله إبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه السلام ناطقاً عن تشريع الله تعالى حين أمره ربه العلي العظيم قائلاً : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (1)
ولايخفى ما في هذا النداء الإلهي من دعوة رحيمة كبرى للبشر أجمعين تعطيهم الفرصة الكبرى ، بالتوجه إلى الله والحصول على رضاه وقربه ، وهو الهدف الأعلى لبشرية الذي يمثل كمالها المنشود ، ومن ثم يشعر المحرم الواعي أنه قصد الديار المقدسة وقام بهذه الفريضة الكبرى إجابة لنداء ربه وتلبية لدعوته .
وليس ينبغي للفرد المسلم أن يجيب نداء ربه في الحج وحده بل عليه ان يطبقه على سائر ايام حياته ، ويلبيه في كل تصرفاته ، ليكون الفرد الكامل البناء في المجتمع الكبير ، وهذه هي الرمزية التي تعطيها التلبية للسير والسلوك في كل أيام حياته ..
_______________
(1) سورة الحج:الاية 27
الطواف :
الكعبة تمثل الوجود المادي الرمزي للتوحيد الخالص الذي جاء به الاسلام وجاء به إبراهيم الذي وضع قواعد هذا البيت و (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) (1) وبالتالي يمثل - بنحو الرمز – الوجود الإلهي على الأرض ، ومن ثم انبثقت تسميته ببيت الله وأمر الإسلام بالتوجه إليه في كل صلاة رمزاً للتوجه إلى الله نفسه إيماناً وعبادة ، ومعه يكون من الطبيعي أن يكون قصد الكعبة من البلد البعيد والقريب ، قصداً مادياً وقصداً معنوياً للتوحيد ، ولدين الله العظيم ، ويكون إظهار الإخلاص لها إظهاراً لإخلاص التوحيد ، ويكون التقرب إليها بالذبح والنحر تقرباً إلى التوحيد الإلهي ، ويكون الدوران حول الكعبة بالطواف وجعلها مركز الاحساس المادي رمزاً حياً عن الدوران حول التوحيد ، حول دين الله القويم والحق الصريح ، وجعله مركز الاحساس المعنوي ، ومركز النشاط الانساني .
والإنسان إذا دار مدار التوحيد الخالص وشريعة الله عز وجل في سلوكه وإحساسه ، فإنه يكون حتماً الفرد الكامل العظيم الذي ينتهج المنهج العام للاسلام في تربية النفوس ..
يقول محمد أسد المستشرق النمسوي المسلم، معرباً عن مثل هذا المعنى : ان جزءاً من فريضة الحج ان تطوف بالكعبة سبع مرات ، لا احتراماً لقدس الاسلام المركزي فحسب ، بل لتذكير النفس بالمطلب الاساسي للحياة الاسلامية ان الكعبة هي رمز وحدانية الله وحركة الحاج الجسمانية من حولها هي التعبير الرمزي للنشاط الانساني ومضمونه ، إن أفكارنا ومشاعرنا وكل ما يشمله تعبير (( الحياة الباطنية )) ليست هي وحدها التي يجب ان يكون محورها الله ، بل كذلك حياتنا الخارجية الناشطة وافعالها ومساعينا العملية (1).
ويقول قبل ذلك عن بناء الكعبة :لقد عرف من بنى الكعبة انه ما من جمال في تناسق البناء وما من كمال في خطوطه مهما كان عظيماً يمكن أن يوفي الفكرة الإلهية حقها ، وهكذا قصر نفسه على أبسط شكل مثلث الأبعاد يمكن أن يتصوره العقل مكعباً من الحجر .
لقد سبق لي أن رأيت في بلدان إسلامية مختلفة مساجد أبدعت في بنائها أيدي الفنانين من المهندسين المعماريين العظام – ثم يعدد قسماً كبيراً
منها ثم يقول : كل هذه سبق أن رأيتها ولكن شعوري لم يكن قط قوياً كما كان الآن ، أمام الكعبة . بأن يد الباني كانت على مثل ذلك القرب من مفهومه الديني ،ففي بساطة المكعب المطلقة ، في الإنكار التام لكل جمال للخط والشكل ،نطقت هذه الفكرة تقول أيما جمال قد يستطيع الإنسان أن يخلقه بيديه يكون من الغرور إعتباره جديراً بالله ، وإذن فكلما كان ما يستطيع الإنسان أن يتصوره بسيطاً كان ما يستطيع فعله لتمجيد الخالق أعظم ما يكون (1).
إستلام الحجر :
هو من مميزات الطواف الرئيسية ، وتنبثق فكرته من فكرة الطواف نفسه ، فإذا كان الطواف الرمز المادي للدوران حول فكرة التوحيد وجعلها المركز الأساسي لنشاط الإنسان وسلوكه ، فأجر باستلام الحجر الأسود ، أن يكون الرمز المادي للاتصال بفكرة التوحيد وملامستها في عالم الفكر والمعنى ، لأنه ملامسة للرمز الذي يمثل الله في الأرض : الكعبة . وفي ذلك من المعنى الجليل في القرب الإلهي والتعمق في التوحيد ما لا يتوفر بأي عمل آخر ..
ويمكن أن تستفاد من الأثر الوارد كلمتان أخريان ..
أحدهما : أن الحجر يمين الله في أرضه ، وأن استلامه مبايعة لله تعالى فلئن كانت البيعة للخلفاء والعظماء مشروعة اجتماعياً أو إسلامياً ، مرة واحدة لكل شخص عظيم ، دلالة على الاقتداء به وبيع الولاء والطاعة المطلقة له ، والدلالة على أنه من شعبه ومواليه ، فهذا هو ما ينبغي أن يحدث بين الله وبين عباده إلا أن هذه المبايعة سوف لن تكون شكلية ولن تقتصر على المرة ، بل ينبغي الاستلام في كل شوط من أشواط الطواف وينبغي البقاء على المبايعة والولاء والايمان مدى الحياة ..
ولئن كانت بيعة الشجرة بيعة لله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) فإنها بوجودها العام غير خاصة بأولئك النفر المعينين ، وإنما هي فرصة مفتوحة لكل مسلم بأن يجدد بيعته وولاء لربه في كل عام ، وفي ذلك تعميق للاخلاص وشحذ للايمان وتجديد للاندفاع العقائدي في وجدان الفرد الواعي .
وإذا كان الفرد لا يمكنه أن يتصل بالله تعالى مباشرة فقد جعل الله تعالى له رمزاً عن ذلك في نفس الكيان المادي الرامز الى توحيده ووجوده ، لتسنح الفرصة الرحيمة الكافية لنيل شرف البيعة الإلهية مع سائر المسلمين ..
الحكمة الثانية : ان الحجر الأسود يشهد لأعمال الخلائق يوم القيامة . وليست هذه الشهادة ببدع جديد ، بعد أن نطق التنزيل الحكيم بشهادة أيدي المجرمين وأرجلهم يوم القيامة بما عملوا من أعمال وما قمن به من إجرام فكذلك الحجر يعتبر فرصة ثمينة لكل حاج بأن يشهد له يوم القيامة بأنه زار البيت وأستلم الحجر ، وبالتالي يشهد له على هذا العمل الصالح الذي قام به هذا المؤمن – وهو (( الحج )) .
صلاة الطواف :
وهي من شرائط صحة الطواف ، وبالتالي لا يتم الحج كله إلا بها ، وهي تحتوي على عدد من المعاني الكبيرة :
أولاً : أن الله تعالى – لم يرد أن يخلو الحج وهو أكبر عبادات الاسلام من الصلاة . وهي عمود الدين وعلامة إسلام المسلمين وأن الحج ليزداد شرفاً وعمقاً بانضمام الصلاة إليه .. بحيث تكون داخلة في تركيبه وتعبر من بعض أجزائه .
ثانياً : وهو مما يترتب على المعنى الأول وهو أن من لا يعرف كيف يصلي بالرغم من كونه يزعم اعتناق الاسلام فإنه يبطل حجه مضافاً إلى بطلان صلاته ، فالصلاة إذن محك صحة الحج وبطلانه ..
وأما المصلي فتنفتح أمامه فرصة جديدة للخشوع لله تعالى والتوجه إليه ومخاطبته وجهاً لوجه خلال هذه الفريضة الجليلة ، فإن الحج على عظمته لا يستطيع أن يكفل التوجه إلى الله ومخاطبته بالمقدار الذي تكفله الصلاة ، وبخاصة إذا جيء بها في مقام إبراهيم (ع) في بيت الله الحرام .
ثالثاً : إن هذه الصلاة تحية معطرة ، وفيض من الاحترام والاكبار يجب أن يبذله الحاج لإبراهيم (ع) في مقامه ، وهو
الذي رفع القواعد وأذن في الناس بالحج ، ففتح هذه الفرصة الإلهية الكبرى التي أستغلها الحاج ونال رضاء الله تعالى عن طريقها ، ولو لم يكن لولا عمل إبراهيم وندائه – بمتمكن أن ينال ذلك .. فإذا كانت المساجد تحيتها الصلاة ، والموتى يبعث إليهم الثواب عن طريق الصلاة ، وليس في تلك ولا هؤلاء تلك الأهمية التي أكتسبها عمل إبراهيم العظيم . إذن فما أجدره ( ع ) بركعتين من الصلاة تقام في مقامه شأنه في ذلك – بكل تواضع – شأن كل مسجد أو بيت !.
السعي :
وهو يمثل السعي في حدود الشريعة الاسلامية والأوامر الإلهية ، ويعطي رمزية واضحة عن التردد في داخل حدود تلك الأوامر والتعاليم . فإن لتلك الأوامر حدوداً هي حدود الله تعالى يجب على الفرد عدم تعديها بالزيادة عليها أو بالنقيصة منها ، وإلا كان منحرفاً هداماً ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)) (1) .
فالفرد المؤمن ملتزم بتعاليم الله مقتصر عليها متردد في سلوكه ضمن حدودها فإن حام حول الشبهة رجع إلى الشريعة وإن أرتكب مخالفة لجأ الى التوبة ، وأن شط به المزار تذكر الله فإذا هو مبصر ..
فالصفا والمروة : اللذين هما حدود السعي المادي في الحج ، يعطيان رمزية واضحة عن تلك الحدود المعنوية الكبرى التي يكون خلالها سعي الإنسان وسلوكه في الحياة لو أراده خالصاً مخلصاً مطابقاً لأوامر الله وتعاليم الاسلام على أن السعي هو أسوة حسنة وإقتداء جميل بما فعلته
( هاجر) أم إسمعيل الذبيح وزوجة إبراهيم الخليل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .
تلك المرأة الصابرة المجاهدة التي ذاقت من صنوف التضحية أقساها ومن مرارة الحياة أشدها وعاشت في وادي غير ذي زرع ، لأجل أن تكون كما شاء الله تعالى سواء علمت أو لم تعلم ، البذرة الأولى للبدء ببناء البيت الذي يمثل التوحيد الخالص على وجه البسيطة .. ومن المنطقي أن يؤمر الحاج بمواساة تلك المرأة الصابرة أثناء محنتها الكبرى ، حين كانت تبحث لأبنها الصادي عن
________________
(1) الطلاق : الآية 1.
الورد ، فصادف أن سعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط .
فعلى المسلمين أن يتذكروا ولادة البيت العتيق الممثل لعقيدة التوحيد ، بمواساة هاجر والسعي في مسعاها أثناء محنتها الكبرى .
الموقفين :
موقف الحجاج في عرفات وموقفهم في المشعر ، وهما يعطيان شعوراً موحداً, ورمزاً مشتركاً , وفي تكرار هذا الشعور مزيد من التأكيد على أهمية وترسيخ فكرته في نفوس المسلمين ... إن هذا الموقف هوالفرصة الأساسية لإطلاع كل فرد من الحجاج على إخوانه في الله والمساهمين معه في إجابة ندائه .. فإن الحاج في سائر أعماله – عدا الموقفين – لن يستطيع أن يحتك بهذا الجمع الغفير ويحس عن قرب بالعدد الضخم المتلاطم العامل في سبيل إطاعة ربه وإداء فريضة حجه . إن الحجاج يكونون عادة ، في العمرة ، وفي الطواف وفي السعي ، وفي رمي الجمرات ، وغيرها من الأعمال . متفرقين مشتتين ، لا يؤدون العمل في زمان واحد ولا يجتمعون على صعيد واحد ، إلا في أرض عرفات وأرض المشعر .. فما هو شعور المسلم عند مواجهة إخوانه , وما أعظم الإسلام وما أكبر ندائه الذي يستطيع أن يجمع هذه الآلاف في هذا العام وفي كل عام. وما أعظم الأخوة التي تشد بعضهم إلى بعض بالرغم من تباعد البلدان وتشتت اللغات . إنها أخوة الهدف والعمل . أخوة الإيمان والعقيدة وهي أقوى الأخوات وأرسخها في منطق البشرية والتأريخ ( أخوان لي عن اليمين ، وأخوان لي عن اليسار ، كلهم لا أعرفهم ، ولكن أحد منهم ليس غريباً عني . فنحن في فرحة سباقنا المضطربة جسمٌ واحد يسعى إلى هدف واحد إن العالم أمامنا فسيح ، وفي قلوبنا تتألق شرارة من النار التي اشتعلت في قلوب صحابة النبي ( ص ) إنهم يعرفون . إخواني عن يميني وإخواني عن يساري أنهم قد قصروا عما كان ينتظر منهم ، وأن قلوبهم قد تضاءلت عبر القرون ومع ذلك فإن وعد الله الحق لم ينتزع منهم .. منا )) (1)
___________
(1) محمد أسد :في الطريق الى مكة ص 402.
وما أثمن هذه الأرض المقدسة التي شهدت جهود النبي ( ص ) وأصحابه وإبتهالاتهم الصادقة الخالصة , وشهدت إبتهالات القرون المتوالية وجهودها المتواصلة. ولو كان الموقف واحداً لأعطى بنفسه هذا الرمز الكبير وهذا الإحساس الإسلامي العميق , ولكن المسلمين في هذا العام وفي كل عام ، لا يقتصرون على التجمهر في عرفات بل يدفعهم النداء الإلهي إلى الإسراع في خلال الليل البهيم ليلبوا الواجب المقدس في أرض المشعر , لكي يعطوا تأكيداً جديداً للإحساس الإسلامي العميق ولكي يجددوا بابتهالاتهم المتصاعدة الأمل الكبير في غفران الذنوب وستر العيوب وحل المشكلات .
منى :
ثم يأتي دور الأرض المقدسة الأخرى التي تؤدي فيها شعائر عيد الأضحى المبارك وينحل فيها القسم المتزمت من شرائط الاحرام : أرض منى .
والبقاء في منى . غير مراد بنفسه في الشريعة , على الأغلب ، وإنما يضطر الحاج إلى الوجود هناك لكي يقوم بأعمال حجه فيها ، فهناك الذبح ورمي جمرة العقبة والتقصير في عيد الأضحى . وتكرار رمي الجمرات في الأيام التالية له.. فمهم الفرض هو أن نحمل فكرة واضحة ، عما يتصوره من المصالح الاساسية والحكم المتوخاة من هذه الأعمال ، نبدأ ذلك بذكر الفكرة الاساسية التي قام على اساسها تشريع عيد الأضحى نفسه.
عيد الأضحى :
تقوم فكرة الأيام المتبركة إسلاميا على أحد أسس ثلاثة تنقسم الأيام باعتبارها إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
الأيام التي تكتسب أهميتها بإعتبار أن حادثة مهمة في الإسلام قد وقعت فيها ، كولادة النبي ( ص ) وولادة أمير المؤمنين عليه السلام ووقعة بدر ويوم المعراج ويوم الغدير ، ونحو ذلك . فهذه هي أيام المناسبات التي تعطي للمسلمين بتجدد ذكراها المعاني السامية لذلك الحدث الواقع في مثل
ذلك اليوم فيتجدد لهم إندفاع الإيمان وقوة الشعور بالمسؤولية والقيام بالواجب الإسلامي المقدس .
القسم الثاني :
الأيام التي تكتسب أهميتها بإعتبار كونها وقتاً لإداء عبادة كبيرة في نظر الإسلام ، وأهم أمثلة ذلك ليلة القدر في شهر رمضان ، بل أيام الشهر كلها , ويوم عرفة في الحج , فإنها واقعة في أوج إداء العبادة وقمة إندفاع المكلف في التوجه إلى ربه فيها .
القسم الثالث :
الأيام التي تكتسب أهميتها باعتبار كونها أول يوم لفراغ المكلف من عبادة مهمة في الإسلام ، فإنه من الوجداني المحسوس أن أداء أي واجب يقوم به الإنسان يعطي راحة محببة وإطمئناناً للضمير ، لو كان للضمير وجود وكذلك العبادات للمسلم بإعتبارها الواجب الإلهي المقدس ، يعطي الفراغ منها مقداراً مهماً من الراحة والإطمئنان والشعور بإداء الرسالة والقيام بالمسؤولية ..
وكلما كبرت العبادة وأزدادت أهميتها بالإسلام كلما أزدادت أهمية أدائها والفراغ منها . حتى إذا ما وصلت العبادة إلى قمة الأهمية بإعتبار قدسيتها وطولها وزيادة تضحية المكلف في سبيل إدائها ، وصلت أهمية الإنتهاء منها والشعور بالراحة والإطمئنان إلى حد يستحق أن يكون عيداً إسلامياً ينص عليه في الشريعة الإسلامية ويحتفل به المسلمون على طول العصور. وأهم مثال ذلك – عيد الفطر – الذي يأتي بعد الإنتهاء من فريضة الصوم خلال شهر كامل . وعيد الأضحى الذي يأتي بعد الإنتهاء من الأجزاء الأساسية في الحج ، وبالتالي كأنه فراغ من الحج بشكل من الأشكال .
وليس من الصدف أن يقع عيد الفطر بعد ليلة القدر أو أن يقع عيد الأضحى بعد يوم عرفة ، بعد أن عرفنا كيف إن ليلة القدر واقعة في قمة إداء العبادة وعيد الفطر واقع عند الإنتهاء منها . كما ان يوم عرفة واقع في موقف من أهم مواقف الحج في قمة أداء هذه العبادة وعيد الأضحى واقع عند الانتهاء منها عادة .
الذبح أو الهدي :
يمثل الذبح حلقة من سلسلة تشريعات في الاسلام – إلزامية وغير إلزامية – جعل فيها للفقير حق في أموال الأغنياء ، وشرع فيها الضمان الإجتماعي العام ..
فلئن كان الأغنياء مالكين لأموالهم ، فإن الله تعالى مالك لهم ولأموالهم وأولى بهم من أنفسهم , وهو برحمته التشريعية الكبرى يأبى عن أن يمتع الغني بما يحرم الفقير أو أن يبيت الغني مبطاناً وحوله بطون غرثى وأكباداً حرى – بل أن الفقير ليتناول حصته من أموال الغني بشرف وإستحقاق بإعتبار الأمر الإلهي الذي هو أكبر منهما وأهم بدون منة أو تفضل أو ترتب أي أثر سيء . وإن الغني ليشعر أنه يؤدي بذلك واجبه الإسلامي قبل شعوره بكونه شفقة على الفقير ورحمة به – فلا ينقدح في نفسه الشعور بالمن و الأذى ..
وهذا معنى يشترك فيه سائر الصدقات في الاسلام ، كالزكاة والخمس وغيرهما ، ويختص الذبح في عيد الأضحى بميزة مهمة تكسبه إرتفاعاً عن مستوى سائر الصدقات ، وما ذلك إلا وقوعه في عيد الأضحى ، وهو العيد الإسلامي الكبير الذي ينبغي لكل فرد مسلم أن يشعر فيه . بشيء من الغبطة والفرح والراحة . ولا ينبغي بأي حال أن يختص هذا الشعور ببعض الأفراد أو بقسم من الأمة لمجرد تميزهم بالمال أو بارتفاع الشأن ، بل يجب أن يسعد الفقراء – كما يسعد الأغنياء ، ويشتركوا مع الأمة الباسمة في عيدها الإسلامي ..
ولأجل اكتساب سرورهم يضاف إليهم في هذا العيد مضافاً إلى ما أخذوه من الحقوق المالية كمية من اللحم الوفير تعطى لهم من دون شعور بمنةٍ أو أذى ناتجة من أضاحي هذا العيد السعيد .
وليس هذا بدعاً في إسعاد الفقراء ، فعيد الفطر أيضاً مقرون بوجوب دفع ضريبة زكاة الفطرة على الأغنياء ، لكي تضاف إليهم أيضاً في هذا اليوم السعيد إلى دخلهم الإسلامي الأخر ..
*****
وتزداد أهمية هذا التشريع الكبير : الهدي ، لو لاحظنا المكان والزمان الذي شرعا فيه حيث كان الفقراء في شبه جزيرة العرب يعدون بالملايين بل يمثلون الشعب بأسره تقريباً ، ويعتبر الحج الموسم الاقتصادي المهم لحصول هذاالشعب البائس على الأموال التي يضعها الحجاج في تلك البلاد عن طريق التعامل أو التصدق أو التضحية ، فإن الحاج لا يرد إلى تلك الديار المقدسة إلا إذا كان مستطيعاً ، بمعنى أنه مالك للمال الكافي الذي يزجي به حاجاته الشخصية والشرعية . وبالتالي له المال الذي يلقيه بين يدي الشعب هناك .
وهذا الموسم الإقتصادي الكبير ، كان ولا يزال ، أمل الفقراء والأغنياء في كل عام في تلك الديار لما يدره عليهم من أرباح ، وما أسعد الفقير الذي يتذوق الخير ولم يشم رائحة القديد .
إذ يحصل على مثل هذا اللحم المجاني من الله تعالى وبإلزام منه ، من دون منة ولا أذى .. نعم بعد أن نبع النفط في شبه الجزيرة العربية وإزداد الدخل العام وقلة نسبة الفقراء قلة كبيرة ، قلت أيضاً أهمية الذبح وأصبحت اللحوم تزيد عن حاجة الأكلين بكثير حتى أن ثلثيها, وثلاثة أرباعها تتدفن تحت التراب تخلصاً من نتنها وجراثيمها ..
إلا أن ذلك في الواقع ليس تقصيراً في التشريع الإسلامي وإنما هو تقصير في المسلمين ، فكل تشريع يجب أن ينظم إليه عمل يشد أزره ويساعده على النمو والإنتاج وإيتاء أحسن الثمرات للمجتمع والأمة الإسلامية ..
وإن أهم عمل ينقذ هذه المشكلة المستجدة ، هو أن يقوم المسلمون ، لو كانوا واعين وشاعرين بالمسؤولية الإسلامية بجمع هذه اللحوم حين ذبحها وتعقيمها وتعليبها وتوزيعها في البلاد الإسلامية ولو كان ذلك من طريق شركة تتكفل هذه المهمة الكبرى ، وتجني من ورائها الربح الوفير وبخاصة وهي تحصل على هذه اللحوم مجاناً دون مقابل بعد ذبحها الحجاج وأستغنوا عنها ..
يضاف إلى كل ذلك أن الذبح هو سنة من سنن التقرب القديمة التي قام بها الناس منذ الأزمان السحيقة في القدم , تحية وتزلفاً لمعبوداتهم وهو الله تعالى إذا كان الفرد إلهياً أو الصنم إذا كان الفرد مادياً .. وقد أفتتح هذه
السنة في مبدأ البشرية ابنا آدم إذ قربا إلى الله قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، فحسده الآخر ولاحاه حتى أنتهى به الأمر إلى أن قتله ، كما هو مسطور في القرآن الكريم . وقبول القربان من أحدهما دلالة على مشروعيته في نظر الله تعالى وصحة التقرب به . كما أن الاعراب عن ذلك في القرآن يدل على إقراره في الإسلام وصحته في شريعته .
ومن هنا أراد الله تعالى أن لا تخلو فريضة الحج من هذه السنة القديمة المشروعة ، ليكون للحجاج أسوة بابني آدم عليه السلام يقبل الله من بعضهم ويرد من آخرين ، بحسب اختلاف نياتهم وعقائدهم وأعمالهم ، فيشارك الفرد مواكب الاجيال البشرية المتصاعدة منذ ذلك الحين إلى الآن ممن قربوا قرباناً إلى ربهم العلي العظيم ..
الحلق وحكمته :
وهو الواجب الآخر الذي يجب القيام به في عيد الأضحى المبارك وبه ينتهي القسط الأكبر المتزمت من محرمات الاحرام وتكاليفه ويوجب تحلل الفرد منه إلى حد كبير . ومن هذا المنطلق نستطيع أن نستوضح الحكم والمصالح المتوخاة من ورائه ..
حكمته الأولى :
وهي أن الحلق أول فعل يقوم به الحاج حينما يريد أن يتحلل من إحرامه ، فإن الإحرام بعد أن كان يحتوي على جملة من الممنوعات ، بما فيها أمور تكون حلالاً للفرد غير المحرم ، كان التحلل منه لا محالة بالاتيان بأحد الممنوعات المحللة في أصل الشريعة . للدلالة على عدم الالتزام بالاحرام من الآن فصاعداً ، وقد أختار الله تعالى لعباده الحجاج الحلق أو التقصير لكي يكون رمزاً عن ذلك .
حكمته الثانية:
النظافة التي هي من الإيمان ، ومن واضحات المطلوبات في الإسلام بل قد تكون من الواجبات وإعطاء الفرص الكبيرة والعديدة في التشريع الاسلامي
للمكلفين ، للتنظيف وإزالة الأدران ، أكثر من أن يعد .. يندرج في ذلك الأغسال الواجبة والمندوبة وإستحباب التجمل والتطيب ولبس النظيف من الثياب وأستحباب قص الأظفار ..
ونحو ذلك من الأحكام .. والإحرام قد يستغرق أياماً يعاني الحاج خلالها السفر والتعب والاختلاط بجماهير الحجاج ، وتطرأ عليه من موجبات أتساخ البدن وطول الشعر الشيء الكثير ، فمن هنا أمره الله تعالى بالرجوع إلى النظافة بمجرد الانتهاء من مهام حجه الرئيسية ، وأستعجل ذلك قبل الانتهاء من كل أفعال الحج وإعطاء – بهذا الصدد تشريعاً إلزامياً واحداً هو الحلق أو التقصير ، ليكون الباقي موكولاً إلى الحاج نفسه يطيع به الاستحباب العام للتنظيف والتجمل في الاسلام بحسب الامكان ..
رمي الجمرات :
إذا كانت الكعبة هي الرمز المادي لتوحيد الله تعالى وكان الطواف واستلام الحجر ، هو العمل الاساسي الذي يمثل الاخلاص لله ، وجعل توحيده المركز الحقيقي للاحساس والسلوك في تمام أيام الحياة . فما أحرى أن يكون هناك رمز آخر يضاد هذا الرمز ويناقضه ، ولئن كانت الكعبة مستقطبة لكل معاني الخير والعدل ، باعتبارهما المنتوجين الاساسيين لعقيدة التوحيد ، فإن الرمز الآخر لابد أن يستقطب كل معاني الشر والظلم باعتبارهما المنتوجين الاساسيين لما ترمز إليه الجمرة – وهي فكرة الشيطان .. ولئن كان الطواف يعتبر ولاء للخير والعدل ، وإظهاراً عملياً لتأييدهما فإن رمي الجمرة بالحصى هو العمل المهم في إظهار الشجب والاستنكار العملي للشر والظلم ، وبشجبهما يفهم الفرد بوضوح شجب كل فكرة ناتجة عنهما ، أو عمل مترتب عليهما ، من الكفر والضلال والعصيان والانحراف وتستتبعه هذه الأمور من ذنوب وموبقات ..
كما يفهم شجب المصدر الأساسي لهذه الأفكار والأعمال وهو الشيطان الذي آلى على نفسه غواية البشرية عندما لم يسجد لأبي البشر آدم عليه السلام ، فأصبح عدواً لله وللناس ، يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس . كما يفهم شجب النفس الأمارة بالسوء ذات الزوايا الحادة
والانحرافات العاطفية الخطيرة .. التي لا تؤدي إلا إلى عصيان الله والنزول عن المستوى الإنساني الذي يريده الله لعباده والوقوع تحت طائلة تبكيت الضمير .. ولا يخفى ما في الرموز المادية والتجسيدات الحسية الملموسة للأمور المعنوية العليا ، من تقريب مباشر لتلك الأمور إلى أذهان جمهور المسلمين . فإن الفرد بطبيعة معيشته التكوينية وإرتباطه بحدود الزمان والمكان يصعب عليه إلى حد كبير أن يتجرد منها ، ويصعد بنفسه وفكره إلى الأمور المثالية والعوالم الالهية وقواعد العدل العليا ونحو ذلك مما يكون مجرداً عن المادة وأوسع من الزما والمكان ويحتاج تصور مثل هذه الأمور إلى تدقيق وإتساع ذهن وصفاء خاطر ، لا يوجد إلا فيمن كان عالماً خبيراً أو مفكراً نحريراً ... أما الجمهور العام للمسلمين فسيبقى منعزلاً – إلى حد كبير – عن المعاني السامية والمثل العليا . ما لم تقرب له برمز حسي ملموس تستعمل فيه فكرة التجرد ( السرياليزم ) فلئن كانت فكرة التجريد ترمز عن المادة باللامادة وتخرج المادة من عالمها لتحولها إلى فكرة فإن رموزنا عكست الأمر فرمزت عن اللامادة بالمادة ، وأخرجت الأمور اللامادية – في عالم الاعتبار – عن عالمها المجرد لتحولها إلى مادة محسوسة لتقع تحت النفع المباشر لجمهور المسلمين ، فتهبهم ذكريات الأمور المعنوية لكي تقوم بدروها الثوري في الدفع الايماني والجهاد العقائدي المقدس ..
ومن ثم كان هناك رمزان مستقطبان لأمرين لا ماديين مستقطبين فالكعبة رمزاً لله والجمرة رمز للشيطان ، ولا يكفي أن يظهر الانسان ولاءه لله من دون أن يستنكر كيد الشيطان وإلا كان من الممكن أن يكون موالياً لكليهما مطيعاً لهما على اختلاف ساعات حياته .. فلا يكون متمحضاً لطاعة الله تعالى وتوحيده ،فلأجل التخلص من هذا المحذور جعل رمز الشيطان لكي يجدد المسلمون كل عام استنكاره وشجبه .
وكما يفهم الحاج الواعي أن الولاء لله وعمق الاخلاص له ، لا ينبغي أن يقتصر على الطواف الرامز عن ذلك ، بل يجب ان يبقى الولاء والاخلاص حياً في الذهن والشعور مدى الحياة ومطبقاً في تمام سلوك الانسان - فكذلك الحال في جزئه المتمم له وهو استنكار الشيطان وشجب ما يصدر من
انحراف وضلال – يجب أن لايقتصر على زمان رمي الحصيات السبع ، بل يجب ان يبقى حياً في الذهن والشعور مدى الحياة ومطبقاً في تمام سلوك الانسان ، ليصدر الفرد سلوكه وعقيدته عن التوحيد الخالص عن شرك الشيطان.
*******
على أننا يجب أن لانغفل فرقاً اساسياً بين هذين الرمزين المستقطبين . فالكعبة بما انها رمز عن الله تعالى وعن توحيده أذن فيجب أن يبقى الرمز واحداً لايتعدد .على حين ان الجمرة ، بما انها رمز عن الشيطان والشياطين متعددون بنص القرآن الكريم ،ناسب ان تتعدد بتعدد المرموز اليه .
فمن هنا نستطيع أن نعزو تعدد الجمرات الى الرمز عن تعدد الشياطين كما يمكن أن تعزي إلى تعدد وجهات الفساد والظلم الصادرة عن الشيطان فإن المثل الأخلاقية وقواعد العدل العامة مستمدة من مصادر ثلاثة مختلفة في الجبهة ومتفقة في النتيجة هي :
أولاً : أوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها.
ثانيا ً: القواعد العامة المستقاة من العقل العملي المجرد.
ثالثاً : القواعد العامة المستقاة من سيرة العقلاء بما هم عقلاء . ونتائج كل واحد من هذه المصادر حق وعدل يجب اتباعه على بحث وتحقيق ليس هذا مجال الاضافة فيه .
وعلى كل حال فمخالفة كل واحد من هذه الأسس الثلاثة الكبرى إنحراف وضلال في نظر الإسلام .. ومن ثم كانت الرموز إلى نتائج الشيطان ثلاثة هي الجمرات الثلاث ، تعدد بتعدد عصيان تلك الأسس الكبرى .. ولعلنا نستطيع أن نلاحظ في هذا الصدد أن القسط الواجب من إظهار الولاء لله عز وجل بالطواف يعادل في العدد تقريباً ، ما تناله كل جمرة من دفعات الاستذكار بالرمي .. فالطواف الواجب ثلاثة :
طواف العمرة وطواف الحج وطواف النساء.. وعدد دفعات الرمي لغير جمرة العقبة ثلاثة أيضاً .. مرة في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ومرة في الثاني عشر ومرة في الثالث عشر منه . والرمي في جمرة العقبة ثلاث
أيضاً لمن خرج من منى في النفر الأول وهو اليوم الثاني عشر .. وأربعٌ لمن بقي لليوم الذي يليه فتزيد على أختيها بمرة واحدة هي المرة الأولى التي ترمى يوم العيد . كما أننا إذا لاحظنا عدد أشواط الطواف وعدد الحصى المرمي في كل جمرة لرأيناه متحداً أيضا وهو سبعة في كلا الحالين .. فنفهم من ذلك معنى من المعاني الكبيرة .. وهو أن الوازع إلى الله تعالى والوازع عن الشيطان (1) يجب أن يكونا متعادلين في نفس الإنسان متعاونين في تربيته وتكميله . وهذه هي القاعدة في كل إيمان مخلص .. فإنه كلما أقترب الإنسان إلى الله أبتعد عن الشيطان ، وكلما أبتعد عن الشيطان أقترب إلى الله تعالى . وأما إذا أختل الميزان وأختلف المقدار فكان البعد عن الشيطان أقل من القرب إلى الله تعالى أو أكثر منه كان في ذلك احتمال الانزلاق والانحراف لأنه إن قل البعد عن الشيطان كان هناك مجال لاقتراف الظلم والعصيان وإن قل القرب عن الله عز وجل كانت القوة المانعة عن مكافحة الشيطان أضعف ، وعلى كلا الحالين ينتج احتمال الإنزلاق والإنحراف .. ولعل من الطريف أن نلاحظ تشريعاً بسيطا في الحج لا يكاد يكون ملفتاً للنظر في ذلك الخضم الهائل من الأعمال المتواصلة ، ونقصد به إستحباب جمع الحصيات من أرض المشعر الحرام لإستعمالها في رمي الجمرات ..
____________
(1)أي المقرب إلى الله والمبعد عن الشيطان.
إنه ليعطي رمزية كاملة وواضحة عن إن الفرد يجمع سلاحه ضد الشيطان من بقعة إلهية مقدسة من أرض الله تعالى ، وهذا مايجب أن يكون عليه العمل في جميع أنحاء السلوك ، فإن الإنسان دائماً يدفع بجنود الله قوى الشيطان يدفع بقوة الإخلاص والإيمان كل ما قد ينزلق إليه من عصيان أو ضلال ... ومن الملاحظ دائماً أنه كلما قويت ( جنود الله ) في النفس إزداد الإنسان نصراً على مزالقه وإنحرافاته ، وكلما ضعفت جنود الله تعالى في نفس الفرد أستطاعت جنود الشيطان وغواياته أن تقوى وأن تمتد حتى أنها قد تستفحل وتسيطر على حياة الإنسان ومشاعره وسلوكه ، حتى ليصبح عدو الله وإن لم يستشعر العداوة بعيدا ً عن ساحته وإن لم يستشعر البعد ، خاسراً للخير والعدل وإن لم يلتفت إلى الخسران .
*****
ولعله في المستطاع أن نستفيد رمزية الجمرة عن ( الشيطان ) من تسميتها بهذا الأسم نفسه ، بإعتبار كون خلقة الشيطان من النار ، كما نص عليه القرآن الكريم ، والنار هي الأساس في تكوين الجمر ، والعنصر الأكبر فيه .. وكذلك الحال في تسمية الجمرة الأولى التي يجب رميها يوم العيد بجمرة العقبة ، بإعتبار أن الشيطان ومخلفاته من الظلم والانحراف والفساد هو العقبة الكؤود ضد الإيمان والإخلاص ، وضد سيطرة
( جنود الله ) على الإنسان كما يريده الله تعالى أن يكون . ولا يخفى ما في تشريع رمي هذه الجمرة في يوم الأضحى وتجمهر المسلمين حولها طول النهار راجمين مستنكرين ، لا يخفى ما فيه من المعنى الكبير والاعلان الواضح على رؤوس الأشهاد في العيد الاسلامي الكبير ، عن هذا المعنى الجليل ، وهو إستنكار الشيطان وشجب أعماله ومغرياته ، وهو ما يوحي إلى النفس بهذا المعنى بشكل أكثر وأكد رسوخاً وعمقاً .
*****
وقالوا أن رمي الجمرات إستمرار إسلامي لرجم قبر أبي رغال الذي دل أبرهة الأشرم – الذي كان قاصداً هدم الكعبة – على مكة وإن باء ذلك التخطيط بالفشل إلا أن العرب رجمت قبر أبي رغال وأقر الإسلام ذلك الرجم
فأصبح بشكله الجديد رمياً للجمرات .. إلا أن هذا الرأي لايكاد يصح لعدة إعتراضات ترد عليه ..
أولاً :
أن التواريخ ذكرت أن العرب رجمت قبر إبي رغال ، وقد بعثته ثقيف ليدل أبرهة الأشرم على الطريق حتى أنزله في المغمس ، فلما نزله مات أبو رغال فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يرجم (1) والعرب تتمثل بذلك ، وفي ذلك يقول جرير بن الخطفي في الفرزدق.
إذا مات الفرزدق فأرجموه كما ترمون قبر أبي رغال (2)
وليس لهذه القصة أي إرتباط برمي الجمرات ولم يذكر المؤرخون ذلك ، مضافاً إلى أن أبا رغال مات في المغمس بين الطائف ومكة (3) لا في
( منى ) حتى يقال أن الرمي فيها إستمرار لذلك الرمي ..
ثانياً :
لو سلمنا – جدلاً – أنه دفن في (( منى )) وأنه رجم فيها فليس له إلا قبر واحد ومنطقة رجم واحدة ، على حين أن الجمرات ثلاث ، فما هو السبب في وجود الأثنين الآخرين ؟ !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الكامل لابن الأثير ج1 ص260 وما بعدها.
(2) مروج الذهب للمسعودي ج1 ص53 وانظر ص104 منه أيضاً.
(3)مروج الذهب للمسعودي ص53.
ثالثاً :
لو صحت هذه القصة بكل تفاصيلها, فهي مما تؤيد ما ذكرناه ، فإنها تنتج أن النصب الذي يرميه الحجاج هو رمز للخيانة ,والخيانة في واقعها أحد مسببات الشيطان وأحد الأفعال المنحرفة للنفس الأمارة بالسوء . ومعه يكون الأنسب للذهن الواعي أن يخرجها من هذه الدائرة الضيقة ويجعلها رمزاًً للشيطان بكل منتوجاته وللنفس الأمارة بالسوء بكل أفعالها وشهواتها ، ليكون رميها إستنكاراً لكل ذلك لا للخيانة وحدها .. وعلى أي حال فتطبيق رمي الجمرات على قصة أبي رغال مما لا يصح وإنما الوجه الصحيح والمشهور بين المسلمين هو ما ذكرناه من رمزيتها عن الشيطان ، ويكون هو الجواب التام عن الوجه في تعدد الجمرات وتعدد الرمي .
النية :
ولابد في الحج وفي كل عبادة من نية ، والنية هي روح العبادات لإحتوائها على قصد التقرب بالعبادة إلى الله تعالى ، وهي بدونها جسدٌ بلا روح .فإن المقصود الأساسي من العبادات هو إكتساب رضاء الله تعالى ونيل القرب المعنوي منه وإبداء غاية الإخلاص له والتزلف إليه ومثل هذا الفرض السامي لا معنى لوصوله بالإتيان إلا بهذا القصد نفسه .. وإما إذا تجردت عن ذلك ، فقد أنسلخت عن هذا الغرض السامي وخرجت عن كونها عبادة لله تعالى ..
والحج بصفته عبادة من أهم العبادات ، لابد أن يكون حاملاً لهذه الروح ومأتياً به بهذا القصد ، وليس هو – كما عرفناه - إلا مجموعة عبادات متصلة مترابطة يقصد بكل منها نحو من التقرب إلى الله وشكل من أشكال إبداء الإخلاص إليه ونحو من أنحاء الخشوع لقدسه . والعبادات وإن كانت أخص أنحاء التقرب إلى الله تعالى ولذا كانت مشترطة بأصل التشريع بقصد القربة بحيث تكون بدونه باطلة إلا أن سائر الأفعال المطلوبة إسلامياً مما يقصد به النفع العادل لشخص أو المجتمع أو للدين أو للبشرية ونحو ذلك من الأعمال إنما تكتسب شرفها وصيغتها الإلهية وتعبر عن إخلاص صاحبها ، فيما إذا أقترنت بقصد التقرب إلى الله تعالى وتجردت عن
قصد أي غرض آخر ضيق منحرف ، وبالتالي إذا اقترنت بنية العبادات بشكل عام .
الوقت :
ونريد به كون الحج موقتاً في وقت محدد هو عيد الأضحى وما يحيط به من أيام في ذي الحجة الحرام ، ولا يمكن أن يؤتى به في أي يوم من أيام السنة إلا في ذلك الحين من كل عام .
والمصلحة من ذلك واضحة كل الوضوح وهي اجتماع كل المسلمين الحجاج على صعيد واحد في وقت واحد لكي يستطيع كل فرد منهم الحصول على جملة من المصالح العامة التي ذكرناها في الحج ، مما لا يمكن أن يحصل بالانفراد أو بجمع قليل من الناس ، كالشعور بالأخوة تجاه المسلمين ومسائلتهم عن آمالهم التي يحسونها في بلادهم ، وحل القضايا والمشاكل الدينية والاجتماعية معهم وإستغلال إجتماعهم لتذكيرهم بأوامر الله وأيامه ودعوتهم إلى العمل الصالح . ومن المعلوم أن كل هذه المصالح مما لا يمكن أن تحصل مع قلة العدد وتفرق الجمع إذ لو كان مسموحاً بالحج في سائر أيام السنة لحج الناس في مختلف الأيام ، فلم يبق في الزمن الواحد مقدار مهم يمكن تطبيق هذه المصالح بالنسبة إليه ..
خاتمة
وبعد :
فهذه هي جملة من المصالح والحكم التي يتوصل إليها الذهن القاصر وهي بجملتها وتفاصيلها كافية للأمر بهذا التشريع العظيم والتضحية من أجل إمتثاله وتطبيقه ، مضافاً إلى أمكان أن يكون هناك أهم مما ذكرناه أو بمستواه مما يترتب على هذه العبادة الكبرى .. ومما ينبغي أن نلاحظه في هذا الصدد ، هو أن الوعي الإسلامي والحج يتناسبان تناسباً طردياً ، أحدهما صالح لتعميق الآخر والتسبب إلى صقله والإخلاص فيه .. أما تسبب الحج في تكوين الوعي ، فلما عرفناه مفصلاً من إلتفات الحج قهراً إلى بعض المصالح وبعد شيء من التفكير إلى بعض المصالح الأخرى مما
ينمي وعيه الإلهي والديني سواءاًً من الناحية الشخصية أو الإجتماعية . وأما تسبب الوعي إلى صقل الحج وتعميقه فلوضوح أن الفرد إذا كان واعياً سلفاً ، فإنه سوف يعيش الحج بذهن وفكرٍ غير الفكر الذي يعيش فيه الفرد العادي . وسيلتفت بدون عناء إلى جملة من المصالح والمعاني الكبرى التي قام عليها الحج وأسس من أجلها . وستزيده هذه الحكم بدورها وعياً وثقافة وإيماناً ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
النجف الأشرف
محمد الصدر
8/3/1389 هـ 25/4/1969م
اللهم صلِ على النبي المختار واله الاطهار
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
ابو الامير العراقي- فريق الإشراف
- الديانه : الاسلام
البلد : العراق
عدد المساهمات : 182
نقاط : 5344
السٌّمعَة : 9
محمد عز- عضو مشارك
-
عدد المساهمات : 51
نقاط : 5217
السٌّمعَة : 1
مواضيع مماثلة
» فلسفة الحج / المصالح العامة للحج
» فلسفة الأخلاق
» حول فقه المصالح
» مقدمة في فلسفة الصورة
» جلب المصالح ودرء المفاسد
» فلسفة الأخلاق
» حول فقه المصالح
» مقدمة في فلسفة الصورة
» جلب المصالح ودرء المفاسد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى