دراسات في تفسير القران الكريم واثارها في العقيدة الإلهية والتوحيد
2 مشترك
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
دراسات في تفسير القران الكريم واثارها في العقيدة الإلهية والتوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، واشهد عليهم امة
وسطا قد جعلهم هداة وقمرا منيرا ، ومنارا لمن أراد أن يذكر او أراد شكورا ، وصلى الله
على محمد وعترته الحجج بما أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، المطعمين الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا انما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءا ولاشكورا ، قرن
طاعتهم بطاعته بابلغ بيان وأحسن تفسيرا .
مقال / بقلم السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر ( اعلى الله مقامه ) نشرت ما بين الاعوام 1961-1965
دراسات في تفسير القرآن الكريم
وآثارها في العقيدة الالهية والتوحيد
- 1 -
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) . صدق الله العلي العظيم
في هذه الاية الكريمة من الذكر الحكيم , ركيزة اساسية جعلها الاسلام دليلا على عقيدتيه الرئيسيتين , اللتين بنى عليهما سائر عقائده وتعاليمه , هما العقيدة الالهية والتوحيد ,أي الاعتراف بوجوده وتوحيده .
فالاسلام حين جاء بهاتين العقيدتين المقدستين , وحين كلف البشر جميعا بالنظر فيهما والتدبر في شأنهما لعلهم يهتدون , لم يطلب منهم شيئا فوق طاقتهم ولا كلفهم الخروج عن طبيعتهم ومن آفاق تفكيرهم , ولم يامرهم في سبيل البرهنة عليها اكثر من الرجوع الى صميم ضمائرهم وتلمس حقيقة فطرتهم ,ليجدوا هناك جذوة الايمان متقدة في الاعماق تنشر دف الايمان وحرارة اليقين في ربوع النفس . فالنفوس كلها مطبوعة على الحق ومفطورة على الاعتراف بوجود الله تعالى والخضوع له , وعلى الايمان بتوحيده
فالدين اذن فطره , اودعها الله عز وجل في نفس الانسان لترشده الى الحق ولتهديه الى الصراط المستقيم ومن ثم كان الحق وكان الدين امرا فطريا قد جبل عليه الفرد في اصل تكوينه وخلقته ومن ثم ايضا كانت النفس هي الهاديه والمرشده الى ذلك الحق لمن يصغي الى ندائها ويستجيب لامرها , ولم يكن لحد انكار هذا النداء او التمرد عليه . فضلا عن تغييره والتصرف بمحتواه فانه فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله . وان الانسان لاعجز من ان يغير من ذلك شيئا الا اذا استطاع ان يغير شيئا من واقعه التكويني.
ولا شك ان هذا النداء الصادر من اعماق النفس , هو الصق النداءات بالانسان وأبلغها أثرا في نفسه , وان الوصول الى الحق عن هذا الطريق لهو ايسر الطرق واسلهلها . لذا فقد كان الاعتراف بالاسلام وبعقائده سهلا يسيرا وموافقا للبداهة والفطرة , وللبرهان العقلي الصحيح هذه هي حكمة الاسلام . وهذا هو المغزى العميق الذي اشارت اليه الاية الكريمة .
ولكن ما هي الفطرة ؟ وما الذي عناه الاسلام ؟ وما الذي قصدته الاية منها على وجه التحديد ؟ وما هو محل الفطرة من الغرائز الانسانية والملكات النفسية ومن العقل البشري ؟ وما هو تاثير احدهما بالاخر ؟ هذا ما سنحاول الاجابة عليه في هذه الاسئلة ونحن بصدد الكلام حول هذه الاية الكريمة لنعرف في النهاية مدى الصواب بنظر الاسلام في اعتماده على الفطرة , ومدى عمق الحكمة التي نظرت اليها الاية حين تكلمت عن فطرة الله التي فطر الناس عليها , لابديل لخلق الله , ذلك الدين القيم , ولكن اكثر الناس لا يعلمون .
يمكن ان نقسم الفطرة بلحاظ ما تدركه من الامور الى ثلاثة اقسام , نصطلح عليها بهذه العناوين الثلاثة , فهناك فطرة ذاتية , وفطرة عقلية . وهي واحدة بالجنس وان تعددت بلحاظ ما تتعلق به لان هناك قضايا فطرت النفس على ادراكها تلقائيا من صميم ذاتها من دون ان تجد نفسها بحاجة الى البرهنة عليها بأي شكل من اشكال الاستدلال .
اما الفطرة الذاتية : فنشير الى ما ثبت في محله من الفلسفة الاسلامية , من ان النفس تدرك ذاتها وتدرك علتها وتدرك معلولاتها , وان هذا الادراك قائم في النفس ملازم لوجودها لايمكن ان ينفك عنها ما دامت النفس موجودة . فهي تشعر بذاتها , أي بالحصة الوجودية التي تتصف وتختص بها , من دون كل الموجودات وهي تشعر بعلتها بلحاظ هذه الحصة من الوجود التي تتصف بها , فهي تدرك علتها من خلال هذه الحصة وعلى مقدارها , ومن ثم فهي لا تدرك علتها على سعتها وشمولها , وانما تدركها بالقدر الذي يسمح لها وجودها ان تدركه وهي تدرك معلوماتها , وهي الافعال التي تقوم بها النفس بصورة مباشرة ,كالافكار والخيالات والصور الذهنية , وحركات الجسم ما دامت الحركة موجودة .
وليست معرفة النفس بهذه الامور الا معرفة بسيطة ساذجة وادراكا صرفا غير مشعور به(مثال ذلك هو شعور الانسان بنفسه سواء كان ملتفتا الى ذلك ام غافلا .)وهو ما يسمى بالعلم الحضوري , في مقابل العلم الحصولي وهو العلم المركب المشعور به , وذلك بان يشعر الانسان بانه يشعر ويعلم بانه يعلم . وهذا القسم الثاني من العلم هو الذي نفهمه عادة من لفظة العلم , لمدى وضوحه في النفس لانه علم مشعور به.
وأما الفطرة الكونية : فهي ما يجده الانسان في نفسه من الاندفاع الى التساؤل عن علة كل ما يقع عليه بصره وسمعه وسائر حواسه , وما يعتقده من ان لكل حادث سببا ولكل ممكن علة , وان من لغو القول ان نقول بان شيئا ما خرج من العدم الى الوجود هكذا وبدون أي سبب ولا فاعل , فالانسان عندما واجه هذا الكون ورأى غريب صنعته وبديع شكله ودقيق قوانينه ونظمه , أخذت هذه الامور بلبه وحيرت عقله , وخضع خضوعا تلقائيا فطريا و أمن أيمانا عميقا بان وراء هذه الحوادث الجارية ووراء هذه الاكوان العظيمة خالقا جبارا قادرا , وعقلا مدبرا حكيما , خلق هذا الكون وبسط عليه قدرته واعمل فيه حكمته فبدأ للناظرين بهذه الحلة القشيبة الناظرة .
ووجود الفطرة لدى الانسان أوضح من أن يحتاج الى برهان , فانه يكفي للاستدلال عليها رجوع الانسان الى نفسه ونظره الى باطن ضميره , فانه سوف يجد نفسه خاضعا لهذه الفطرة منقادا لندائها انقيادا تلقائيا , فان من فطرة الانسان مثلا أن يتساءل عن مصدر الصوت اذا سمعه , ولن يحتمل ان هذا الصوت قد ثار من تلقاء نفسه . وان هذه الفطرة لتبدو في الكون بصورة أوضح واظهر حيث التنظيم الرائع والجمال البديع والدقة المتناهية , تلك المناظر التي تثير في النفس روعة واعجابا وتوحي اليها بوجود تلك الحلة اللانهائية الحكيمة التي أوجدت هذا الكون وقامت بهذا التنظيم .
وأنا لنرد بالانسانية الى عصورها الاولى فنستعرضها عصراً ومجتمعاً مجتمعاً, فلا نجد الا اقواماً قد أدركوا ان للكون خالقاً , وان لهذا التنظيم مدبراً ومنظماً , كل حسب افق تفكيره وسعة مداركه وثقافته , وليس الالحاد الا نابعاً من جملة اشياء متراكمة من المصالح والغرائز والمسبقات الذهنية والثقافات المادية التي تخرج بالانسان عن طريق فطرته , وتسلك به طريقي الضلال والفساد ,وحتى أولئك المفكرين الذين تبجحوا بأنهم ملحدون وبأن قانون العلية لا يقوم على اساس , ومن ثم حاولوا أو يصوغوا من النظريات التي تبرر خلق هذا الكون من العدم , ما يعوض عن هذا القانون القتيل . ولكنهم في محاولاتهم هذه لايجاد مثل هذه النظريات , قد اصطدموا , لو كانوا يعلمون , بالقانون نفسه ,واضطروا الى الانصياع الى ندائه , والا فلماذا لم يفترضوا وجود هذا الكون , هكذا وبدون أي سبب وخالق يكون مبرراًلوجوده من دون أن يتجشموا صياغة مثل هذه النظريات المختلفة ؟
واما الفطرة العقلية : فهي ما نعنيه عندما نقول ان للعقل عدة قضايا معينة لا تحتاج في نظره الى برهان , بل انه بذاته مجبور على تصديقها والايمان بمحتواها ومن ثم فهو لا يحتاج الى التصديق بها الى اكثر من تصور طرفيها : المحمولوالموضوع وفهمهما فهماً صحيحا . لانه سوف يرجع تلقائيا الى فطرته فيجدها موافقة لمضمون القضية مذعنة لمدلولها . ولاجل ما تتصف به هذه القضايا من البداهة والوضوح يجعلها العقل القضايا الاولى التي يقيم عليها ادلته وبراهينه على سائر القضايا النظرية التي تحتاج الى برهنة واستدلال . ونحن نرى انه لابد من وجود مثل هذه القضايا البديهية في العقل والا لما امكن الوصول الى التصديق باي قضية على الاطلاق فانه اذا كانت كل القضايا مشكوكة الصدق فسوف لن نستطيع الوصول الى اليقين ابداً , لانه لابد للبرهان من ان يعتمد على قضايا يقينية أو مسلمة لكي ينتج نتيجة المقصودة , أما اذا كانت كل القضايا مشكوكة فمن اين تبدأ البرهنة والى اين تنتهي , وما الذي سوف يكون الحد الفاصل بصورة قاطعة بين الشك واليقين ؟ هذا الحد الفاصل في نظر العقل هو هذه القضايا البديهية الفطرية مثل : لابد لكل ممكن من علة , والنقيضان لايجتمعان , والكل اكبر من الجزء . والعقل بمجرد أن يدرك معنى الممكن ومعنى العلة فانه يحكم بضرورة العلة بالنسبة الى الممكن , وبمجرد أن يتصور معنى النقيضين فانه يحكم باستحالة اجتماعهما وبمجرد ان يتصور معنى الكل والجزء فانه يذعن بان الكل اكبر من الجزء , مستمداً اذعانه من فطرته الطبيعية .
بعد هذه المرحلة من البحث , وبعد ان عرفنا ما يجب ان نفهمه من الفطرة ينبغي ان ننظر في صحة تقسيمها الى هذه الاقسام الثلاثة ((اولاً)), ثم الى مدى تاثير الفطرة باقسامها في الايمان بالعقيدة الالهية وعقيدة التوحيد ((ثانيا)) ثم الى مدى تاثير هذه الاقسام بعضها ببعض ومدى تاثرها بالبرهان الصحيح وبما جاء به الاسلام ومن ناحية ((ثالثة)).
اما بالنسبة الى صحة تقسيم الفطرة الى هذه الاقسام الثلاثة .فمن الوضوح استقلال القسم الاول وقيامه بنفسه في مقابل القسمين الاخرين , ولكنه قد يثار الشك حول استقلال القسم الثاني , من حيث احتمال اندماجه في القسم الثالث لان الفطرة الكونية انما نشأت من ادراك الانسان بفطرته العقلية انه لا بد لكل معلول من علة , فهي اذن مندرجة في القسم الاخير وليست قسماً مستقلا في نفسه ولكن يمكن الجواب على ذلك بان نشأة الفطرة الكونية من قانون العلية العقلي وان كان صحيحا الا انه لا يعني اندماجه في القسم الثالث .فان مظاهر الكون ونهايته قد أثارت في الانسان الاعجاب والاحساس والضعف والضعة ومن ثم الاعتراف بوجود الخالق القدير , ومثل هذه العواطف ليست من خصائص العقل كما ان الفطرة الكونية ليست ادراكا عقليا جامدا بعد اتصافها بهذه العواطف ومن ثم كانت قسما مستقلا من الادراك الفطري .
واما بالنسبة الى ما يمكن ان تدرك بالضبط , هذه الاقسام الثلاثة للفطرة الانسانية , من العقيدة الالهية أي الاعتراف بوجود الله تعالى , من التوحيد فاننا يجب ان نعرف اولا ان الانسان مزيج غريب من العقل والعاطفة والغريزة والفطرة , وملكات اخرى كثيرة ,ولهذه الملكات من التاثير في بعضها البعض الشيء الكثير , بحيث ان ما يقوم به الانسان من الافعال سواء في دخيلة نفسه كالتفكير او في الخارج من سائر افعاله واقواله , انما هي منبثقة عن هذا المزيج الغريب لاعن عاطفة معينة بخصوصها , وانما قد تنسب فعلاً أو قولاً ما الى أحد هذه الملكات على سبيل التجوز من باب العاطفة الغالبة على مدة الفعل , ومن هنا كان الالتفات الى ما تدركه الفطرة فقط من دون جميع الملكات ومجرداً عن تاثيراتها , امراً في غاية الصعوبة , الا انه يمكن القول بان الفطرة هي اعمق الملكات النفسية واخفاها وأبسطها علماً وادراكاً , وان ادراكها ساذج بسيط غير ملتفت اليه أي انه ليست علما مركبا من ناحية , وغير معقد يعمد الى تسطير المقدمات واستنتاج النتائج , من ناحية ثانية , ولكنها رغم كل ما تتصف به من الخفاء والسذاجة الصق من جميع الملكات بتكوين النفس وادخلها بوجودها , ولن يضير الفطرة خفاءها ولا سذاجتها , لان الله عز وجل انما خلقها في النفس لكي توحي بمستلزماتها واوامرها الى العقل لكي يقوم العقل بدوره بما ينبغي ان يقوم به من ادراك الحق ورفض الباطل , وكأنه يقوم به من تلقاء نفسه بدون أي ايحاء او تاثير . وليس للعقل حاجة الى الالتفات الى الفطرة بعد ان يكون قد اطاع اوامرها وناوهيها . بل لعل خفاء الفطرة ابعث على ايمان العقل واطمئنانه , مما اذا كان ملتفتاً الى مصدر الصوت وعارفاً به , لانه يظن انه يدرك ذلك من تلقاء نفسه .
أما ما تدركه الفطرة الذاتية من العقيدة الالهية , فقد سبق أن أشرناالى المقدار الذي تدركه النفس من علتها الاولى , واوضحنا كيف ان ذلك مساوق لوجودها ولادراكها لنفسها , وهي انما تدرك علتها بالقدر الذي تسمح به الحصة الوجودية التي تتصف بها ,فالنفس اذن تدرك وجود الله عز وجل ادراكاً تلقائيا ذاتياً , كما تدرك نفسها وافعالها , لانها معلولة له عز وعلا ومن فيض وجوده وإحسانه .
أما بالنسبة الى ادراك الفطرة الذاتية لعقيدة التوحيد , فان لهذا الادراك مرتبة اعمق واكثر غموضا في باطن النفس , بل ان تسميتها ادراكا لا يخلو من مسامحة في التعبير , فان النفس , كما سبق , تدرك علتها من خلال حصتها من الوجود , وذلك يعني انها لا تدرك لها علتين . فالفطرة وان لم تكن تدرك بوضوح ان علتها واحدة , ولكنها في واقع امرها لاتدرك الا علة واحدة , وهذا هو نوع من الادراك لعقيدة التوحيد , وهذا يعني ان عقيدة التوحيد فطرية ذاتية في نفس الانسان .
واما ما تدركه الفطرة الكونية من هاتين العقيدتين الرئيسيتين في الاسلام , فقد سبق ان اشرنا الى وجه ادراكها للعقيدة الالهية , وان ما في الكون من كمال وجمال ودقة واحكام في الصنع والتدبير قد اثار عجب الانسان واستغرابه , من ناحية , والاحساس بضعفه وقلة خطره , لانه ليس الا جزء بسيطا من هذا الكون , وليس هو من اهم اجزائه , لان كثير من حوادثه يمكن ان تطيح بحياته , من ناحية اخرى . وعززت فهمه للجمال والكمال اللانهائي المطلق عن طريق انتقاله بقانون تداعي المعاني من هذا الكمال القاصر الى ذلك الكمال المطلق من ناحية ثالثة , وقد ساعدت هذه الادراكات الثلاث منظمة متعاضدة على ادراك الانسان لعظمة الله عز وجل ووجوب عبدته والخضوع له .
يتبع
الحمد لله الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، واشهد عليهم امة
وسطا قد جعلهم هداة وقمرا منيرا ، ومنارا لمن أراد أن يذكر او أراد شكورا ، وصلى الله
على محمد وعترته الحجج بما أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، المطعمين الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا انما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءا ولاشكورا ، قرن
طاعتهم بطاعته بابلغ بيان وأحسن تفسيرا .
مقال / بقلم السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر ( اعلى الله مقامه ) نشرت ما بين الاعوام 1961-1965
دراسات في تفسير القرآن الكريم
وآثارها في العقيدة الالهية والتوحيد
- 1 -
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) . صدق الله العلي العظيم
في هذه الاية الكريمة من الذكر الحكيم , ركيزة اساسية جعلها الاسلام دليلا على عقيدتيه الرئيسيتين , اللتين بنى عليهما سائر عقائده وتعاليمه , هما العقيدة الالهية والتوحيد ,أي الاعتراف بوجوده وتوحيده .
فالاسلام حين جاء بهاتين العقيدتين المقدستين , وحين كلف البشر جميعا بالنظر فيهما والتدبر في شأنهما لعلهم يهتدون , لم يطلب منهم شيئا فوق طاقتهم ولا كلفهم الخروج عن طبيعتهم ومن آفاق تفكيرهم , ولم يامرهم في سبيل البرهنة عليها اكثر من الرجوع الى صميم ضمائرهم وتلمس حقيقة فطرتهم ,ليجدوا هناك جذوة الايمان متقدة في الاعماق تنشر دف الايمان وحرارة اليقين في ربوع النفس . فالنفوس كلها مطبوعة على الحق ومفطورة على الاعتراف بوجود الله تعالى والخضوع له , وعلى الايمان بتوحيده
فالدين اذن فطره , اودعها الله عز وجل في نفس الانسان لترشده الى الحق ولتهديه الى الصراط المستقيم ومن ثم كان الحق وكان الدين امرا فطريا قد جبل عليه الفرد في اصل تكوينه وخلقته ومن ثم ايضا كانت النفس هي الهاديه والمرشده الى ذلك الحق لمن يصغي الى ندائها ويستجيب لامرها , ولم يكن لحد انكار هذا النداء او التمرد عليه . فضلا عن تغييره والتصرف بمحتواه فانه فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله . وان الانسان لاعجز من ان يغير من ذلك شيئا الا اذا استطاع ان يغير شيئا من واقعه التكويني.
ولا شك ان هذا النداء الصادر من اعماق النفس , هو الصق النداءات بالانسان وأبلغها أثرا في نفسه , وان الوصول الى الحق عن هذا الطريق لهو ايسر الطرق واسلهلها . لذا فقد كان الاعتراف بالاسلام وبعقائده سهلا يسيرا وموافقا للبداهة والفطرة , وللبرهان العقلي الصحيح هذه هي حكمة الاسلام . وهذا هو المغزى العميق الذي اشارت اليه الاية الكريمة .
ولكن ما هي الفطرة ؟ وما الذي عناه الاسلام ؟ وما الذي قصدته الاية منها على وجه التحديد ؟ وما هو محل الفطرة من الغرائز الانسانية والملكات النفسية ومن العقل البشري ؟ وما هو تاثير احدهما بالاخر ؟ هذا ما سنحاول الاجابة عليه في هذه الاسئلة ونحن بصدد الكلام حول هذه الاية الكريمة لنعرف في النهاية مدى الصواب بنظر الاسلام في اعتماده على الفطرة , ومدى عمق الحكمة التي نظرت اليها الاية حين تكلمت عن فطرة الله التي فطر الناس عليها , لابديل لخلق الله , ذلك الدين القيم , ولكن اكثر الناس لا يعلمون .
يمكن ان نقسم الفطرة بلحاظ ما تدركه من الامور الى ثلاثة اقسام , نصطلح عليها بهذه العناوين الثلاثة , فهناك فطرة ذاتية , وفطرة عقلية . وهي واحدة بالجنس وان تعددت بلحاظ ما تتعلق به لان هناك قضايا فطرت النفس على ادراكها تلقائيا من صميم ذاتها من دون ان تجد نفسها بحاجة الى البرهنة عليها بأي شكل من اشكال الاستدلال .
اما الفطرة الذاتية : فنشير الى ما ثبت في محله من الفلسفة الاسلامية , من ان النفس تدرك ذاتها وتدرك علتها وتدرك معلولاتها , وان هذا الادراك قائم في النفس ملازم لوجودها لايمكن ان ينفك عنها ما دامت النفس موجودة . فهي تشعر بذاتها , أي بالحصة الوجودية التي تتصف وتختص بها , من دون كل الموجودات وهي تشعر بعلتها بلحاظ هذه الحصة من الوجود التي تتصف بها , فهي تدرك علتها من خلال هذه الحصة وعلى مقدارها , ومن ثم فهي لا تدرك علتها على سعتها وشمولها , وانما تدركها بالقدر الذي يسمح لها وجودها ان تدركه وهي تدرك معلوماتها , وهي الافعال التي تقوم بها النفس بصورة مباشرة ,كالافكار والخيالات والصور الذهنية , وحركات الجسم ما دامت الحركة موجودة .
وليست معرفة النفس بهذه الامور الا معرفة بسيطة ساذجة وادراكا صرفا غير مشعور به(مثال ذلك هو شعور الانسان بنفسه سواء كان ملتفتا الى ذلك ام غافلا .)وهو ما يسمى بالعلم الحضوري , في مقابل العلم الحصولي وهو العلم المركب المشعور به , وذلك بان يشعر الانسان بانه يشعر ويعلم بانه يعلم . وهذا القسم الثاني من العلم هو الذي نفهمه عادة من لفظة العلم , لمدى وضوحه في النفس لانه علم مشعور به.
وأما الفطرة الكونية : فهي ما يجده الانسان في نفسه من الاندفاع الى التساؤل عن علة كل ما يقع عليه بصره وسمعه وسائر حواسه , وما يعتقده من ان لكل حادث سببا ولكل ممكن علة , وان من لغو القول ان نقول بان شيئا ما خرج من العدم الى الوجود هكذا وبدون أي سبب ولا فاعل , فالانسان عندما واجه هذا الكون ورأى غريب صنعته وبديع شكله ودقيق قوانينه ونظمه , أخذت هذه الامور بلبه وحيرت عقله , وخضع خضوعا تلقائيا فطريا و أمن أيمانا عميقا بان وراء هذه الحوادث الجارية ووراء هذه الاكوان العظيمة خالقا جبارا قادرا , وعقلا مدبرا حكيما , خلق هذا الكون وبسط عليه قدرته واعمل فيه حكمته فبدأ للناظرين بهذه الحلة القشيبة الناظرة .
ووجود الفطرة لدى الانسان أوضح من أن يحتاج الى برهان , فانه يكفي للاستدلال عليها رجوع الانسان الى نفسه ونظره الى باطن ضميره , فانه سوف يجد نفسه خاضعا لهذه الفطرة منقادا لندائها انقيادا تلقائيا , فان من فطرة الانسان مثلا أن يتساءل عن مصدر الصوت اذا سمعه , ولن يحتمل ان هذا الصوت قد ثار من تلقاء نفسه . وان هذه الفطرة لتبدو في الكون بصورة أوضح واظهر حيث التنظيم الرائع والجمال البديع والدقة المتناهية , تلك المناظر التي تثير في النفس روعة واعجابا وتوحي اليها بوجود تلك الحلة اللانهائية الحكيمة التي أوجدت هذا الكون وقامت بهذا التنظيم .
وأنا لنرد بالانسانية الى عصورها الاولى فنستعرضها عصراً ومجتمعاً مجتمعاً, فلا نجد الا اقواماً قد أدركوا ان للكون خالقاً , وان لهذا التنظيم مدبراً ومنظماً , كل حسب افق تفكيره وسعة مداركه وثقافته , وليس الالحاد الا نابعاً من جملة اشياء متراكمة من المصالح والغرائز والمسبقات الذهنية والثقافات المادية التي تخرج بالانسان عن طريق فطرته , وتسلك به طريقي الضلال والفساد ,وحتى أولئك المفكرين الذين تبجحوا بأنهم ملحدون وبأن قانون العلية لا يقوم على اساس , ومن ثم حاولوا أو يصوغوا من النظريات التي تبرر خلق هذا الكون من العدم , ما يعوض عن هذا القانون القتيل . ولكنهم في محاولاتهم هذه لايجاد مثل هذه النظريات , قد اصطدموا , لو كانوا يعلمون , بالقانون نفسه ,واضطروا الى الانصياع الى ندائه , والا فلماذا لم يفترضوا وجود هذا الكون , هكذا وبدون أي سبب وخالق يكون مبرراًلوجوده من دون أن يتجشموا صياغة مثل هذه النظريات المختلفة ؟
واما الفطرة العقلية : فهي ما نعنيه عندما نقول ان للعقل عدة قضايا معينة لا تحتاج في نظره الى برهان , بل انه بذاته مجبور على تصديقها والايمان بمحتواها ومن ثم فهو لا يحتاج الى التصديق بها الى اكثر من تصور طرفيها : المحمولوالموضوع وفهمهما فهماً صحيحا . لانه سوف يرجع تلقائيا الى فطرته فيجدها موافقة لمضمون القضية مذعنة لمدلولها . ولاجل ما تتصف به هذه القضايا من البداهة والوضوح يجعلها العقل القضايا الاولى التي يقيم عليها ادلته وبراهينه على سائر القضايا النظرية التي تحتاج الى برهنة واستدلال . ونحن نرى انه لابد من وجود مثل هذه القضايا البديهية في العقل والا لما امكن الوصول الى التصديق باي قضية على الاطلاق فانه اذا كانت كل القضايا مشكوكة الصدق فسوف لن نستطيع الوصول الى اليقين ابداً , لانه لابد للبرهان من ان يعتمد على قضايا يقينية أو مسلمة لكي ينتج نتيجة المقصودة , أما اذا كانت كل القضايا مشكوكة فمن اين تبدأ البرهنة والى اين تنتهي , وما الذي سوف يكون الحد الفاصل بصورة قاطعة بين الشك واليقين ؟ هذا الحد الفاصل في نظر العقل هو هذه القضايا البديهية الفطرية مثل : لابد لكل ممكن من علة , والنقيضان لايجتمعان , والكل اكبر من الجزء . والعقل بمجرد أن يدرك معنى الممكن ومعنى العلة فانه يحكم بضرورة العلة بالنسبة الى الممكن , وبمجرد أن يتصور معنى النقيضين فانه يحكم باستحالة اجتماعهما وبمجرد ان يتصور معنى الكل والجزء فانه يذعن بان الكل اكبر من الجزء , مستمداً اذعانه من فطرته الطبيعية .
بعد هذه المرحلة من البحث , وبعد ان عرفنا ما يجب ان نفهمه من الفطرة ينبغي ان ننظر في صحة تقسيمها الى هذه الاقسام الثلاثة ((اولاً)), ثم الى مدى تاثير الفطرة باقسامها في الايمان بالعقيدة الالهية وعقيدة التوحيد ((ثانيا)) ثم الى مدى تاثير هذه الاقسام بعضها ببعض ومدى تاثرها بالبرهان الصحيح وبما جاء به الاسلام ومن ناحية ((ثالثة)).
اما بالنسبة الى صحة تقسيم الفطرة الى هذه الاقسام الثلاثة .فمن الوضوح استقلال القسم الاول وقيامه بنفسه في مقابل القسمين الاخرين , ولكنه قد يثار الشك حول استقلال القسم الثاني , من حيث احتمال اندماجه في القسم الثالث لان الفطرة الكونية انما نشأت من ادراك الانسان بفطرته العقلية انه لا بد لكل معلول من علة , فهي اذن مندرجة في القسم الاخير وليست قسماً مستقلا في نفسه ولكن يمكن الجواب على ذلك بان نشأة الفطرة الكونية من قانون العلية العقلي وان كان صحيحا الا انه لا يعني اندماجه في القسم الثالث .فان مظاهر الكون ونهايته قد أثارت في الانسان الاعجاب والاحساس والضعف والضعة ومن ثم الاعتراف بوجود الخالق القدير , ومثل هذه العواطف ليست من خصائص العقل كما ان الفطرة الكونية ليست ادراكا عقليا جامدا بعد اتصافها بهذه العواطف ومن ثم كانت قسما مستقلا من الادراك الفطري .
واما بالنسبة الى ما يمكن ان تدرك بالضبط , هذه الاقسام الثلاثة للفطرة الانسانية , من العقيدة الالهية أي الاعتراف بوجود الله تعالى , من التوحيد فاننا يجب ان نعرف اولا ان الانسان مزيج غريب من العقل والعاطفة والغريزة والفطرة , وملكات اخرى كثيرة ,ولهذه الملكات من التاثير في بعضها البعض الشيء الكثير , بحيث ان ما يقوم به الانسان من الافعال سواء في دخيلة نفسه كالتفكير او في الخارج من سائر افعاله واقواله , انما هي منبثقة عن هذا المزيج الغريب لاعن عاطفة معينة بخصوصها , وانما قد تنسب فعلاً أو قولاً ما الى أحد هذه الملكات على سبيل التجوز من باب العاطفة الغالبة على مدة الفعل , ومن هنا كان الالتفات الى ما تدركه الفطرة فقط من دون جميع الملكات ومجرداً عن تاثيراتها , امراً في غاية الصعوبة , الا انه يمكن القول بان الفطرة هي اعمق الملكات النفسية واخفاها وأبسطها علماً وادراكاً , وان ادراكها ساذج بسيط غير ملتفت اليه أي انه ليست علما مركبا من ناحية , وغير معقد يعمد الى تسطير المقدمات واستنتاج النتائج , من ناحية ثانية , ولكنها رغم كل ما تتصف به من الخفاء والسذاجة الصق من جميع الملكات بتكوين النفس وادخلها بوجودها , ولن يضير الفطرة خفاءها ولا سذاجتها , لان الله عز وجل انما خلقها في النفس لكي توحي بمستلزماتها واوامرها الى العقل لكي يقوم العقل بدوره بما ينبغي ان يقوم به من ادراك الحق ورفض الباطل , وكأنه يقوم به من تلقاء نفسه بدون أي ايحاء او تاثير . وليس للعقل حاجة الى الالتفات الى الفطرة بعد ان يكون قد اطاع اوامرها وناوهيها . بل لعل خفاء الفطرة ابعث على ايمان العقل واطمئنانه , مما اذا كان ملتفتاً الى مصدر الصوت وعارفاً به , لانه يظن انه يدرك ذلك من تلقاء نفسه .
أما ما تدركه الفطرة الذاتية من العقيدة الالهية , فقد سبق أن أشرناالى المقدار الذي تدركه النفس من علتها الاولى , واوضحنا كيف ان ذلك مساوق لوجودها ولادراكها لنفسها , وهي انما تدرك علتها بالقدر الذي تسمح به الحصة الوجودية التي تتصف بها ,فالنفس اذن تدرك وجود الله عز وجل ادراكاً تلقائيا ذاتياً , كما تدرك نفسها وافعالها , لانها معلولة له عز وعلا ومن فيض وجوده وإحسانه .
أما بالنسبة الى ادراك الفطرة الذاتية لعقيدة التوحيد , فان لهذا الادراك مرتبة اعمق واكثر غموضا في باطن النفس , بل ان تسميتها ادراكا لا يخلو من مسامحة في التعبير , فان النفس , كما سبق , تدرك علتها من خلال حصتها من الوجود , وذلك يعني انها لا تدرك لها علتين . فالفطرة وان لم تكن تدرك بوضوح ان علتها واحدة , ولكنها في واقع امرها لاتدرك الا علة واحدة , وهذا هو نوع من الادراك لعقيدة التوحيد , وهذا يعني ان عقيدة التوحيد فطرية ذاتية في نفس الانسان .
واما ما تدركه الفطرة الكونية من هاتين العقيدتين الرئيسيتين في الاسلام , فقد سبق ان اشرنا الى وجه ادراكها للعقيدة الالهية , وان ما في الكون من كمال وجمال ودقة واحكام في الصنع والتدبير قد اثار عجب الانسان واستغرابه , من ناحية , والاحساس بضعفه وقلة خطره , لانه ليس الا جزء بسيطا من هذا الكون , وليس هو من اهم اجزائه , لان كثير من حوادثه يمكن ان تطيح بحياته , من ناحية اخرى . وعززت فهمه للجمال والكمال اللانهائي المطلق عن طريق انتقاله بقانون تداعي المعاني من هذا الكمال القاصر الى ذلك الكمال المطلق من ناحية ثالثة , وقد ساعدت هذه الادراكات الثلاث منظمة متعاضدة على ادراك الانسان لعظمة الله عز وجل ووجوب عبدته والخضوع له .
يتبع
اللهم صلِ على النبي المختار واله الاطهار
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
ابو الامير العراقي- فريق الإشراف
- الديانه : الاسلام
البلد : العراق
عدد المساهمات : 182
نقاط : 5345
السٌّمعَة : 9
رد: دراسات في تفسير القران الكريم واثارها في العقيدة الإلهية والتوحيد
تسجيل متابعة بارك الله فيكم
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: دراسات في تفسير القران الكريم واثارها في العقيدة الإلهية والتوحيد
التتمة
وقد استخدم القرآن هذه الفطرة الكونية للبرهنة على وجود الله عز وجلّ . فقد عمد الى جمال الكون وحسن متعته فوضحه وفضل القول فيه ليزيد من عجب الانسان واعجابه وليقر به من هذا الطريق الى دروان صانع هذا الكون الكبير , وهو بذلك ينقل تلك الفطرة الغامضة العميقة من مرحلة الشعور البسيط الغامض الى سطح الادراك الواضح والشعور الجلي . فمن ذلك قوله عز من قائل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(*)وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(*)وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(*)وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فكل هذه المظاهر الكونية , أو هي ما بين ما يعيشها الانسان بنفسه وتجري حوادثها بين سمعه وبصره , وبين ما تجري بعيدة عنه فيعجب بها ولا يعرف كنهها , كل هذه الامور , انما هي بالفطرة , آيات ودلائل على وجود مبدعها ومدبرها .
ومن هنا نرى الاسلام قد دعا الى التفكير في خلق الله تعالى , وامعان النظر فيما احتواه من جمال وكمال , لكي يستطيع الفرد ان يعيش فطرته خلال هذا التفكير , متى بدا له ان يعيشها , ولكي يميز قدرة الله تعالى التي ابدعت هذا الكون العظيم فقال عز من قائل: [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ] .
اما ادراك الفطرة الكونية للتوحيد , فهو كما سبق ان اشرنا في ادراك الفطرة الذاتية لهذه العقيدة , غامض وعميق , ولكنه في نفس الوقت ثابت راسخ . فان الانسان عندما واجه هذا الكون وهف قلبه وخلب لبه ما فيه من مناظر وحوادث , حكم ان لهذا الكون خالقا ومدبرا حكيما , ولم يحكم بان له اكثر من خالق , ولم يدر ذلك في خلده يوم من الايام . فكانه يدرك , ضمنا , بان مثل هذا النظام الكامل والقوانين الدقيقة لايمكن ان يتم الا في يدي اله واحد , لما سوف يحل به من التبعثر والخراب لو كان محكوماً لالهين , لانهما سوف يتعارضان بالارادة ويتنافيان في طريقة التنظيم وان بين يدي الانسان أمثلة كثيرة على ذلك , ومنه ما يضر به الناس من مثل قائلين : اذا كثر ملاحوا السفينة فانها سوف تغرق يقوم هذا المثل على افتراض تخالفارادة الملاحين , بان يجدف كل جماعة منهم الى جهة .
وقد حاول القرآن التاكيد على هذا المعنى, عن طريق نقل هذا الاحساس الفطري الغامض الى مرحلة الشعور الواضح . فقال عز من قائل : [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللَّهُ خَيْرٌ ممَّا يُشْرِكُونَ(*)أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(*)أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(*) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(*)أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(*)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] فليس من الممكن لكل هذه المخلوقات ولكل هذه النعم الالهية ولكل هذه النظم الدقيقة , أن تصدر , بالفطرة , الا من اله واحد , يدبر أمرها بحكمته ويدير شؤونها بقدرته . وأن من لغو القول ان ننسب خلق ذلك وتدبيره الى الهين او اكثر لانهما حتما سوف يتعارضان ويتخالفان ويحاول احدهما السيطرة على الاخر , قال الله تعالى :[ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ] واين يكون النظام في ظل هذا الصراع الرهيب العجيب ؟!
لايمكن الاعتراض على دلالة الفطرة الكونية على التوحيد , بما شاع بين بعض الجماعات من البشر من الاعتقاد بتعدد الالهة . فان هذا الاعتقاد غير ناشيء من الفطرة , كما انه ليس دليلا على بطلان دلالتها على التوحيد , فان هذا الاعتقاد انما ترعرع في الاوساط المتخلفة البدائية الضيقة التفكير المؤمنة بالخرافات والاساطير ولا زالت مثل هذه البيئات هي التي تعتنقه وتعتقد به . وانه لبعيد كل البعد عن الافكار الثاقبة والنظر البعيد والرأي السديد .
وان للاشتراك بالله تعالى صوراً متعددة , لكل منها دوافع واسباب مختلفة , وهي ترجع في الغالب , في اصولها العميقة واسبابها الاولى الى غريزة التوحيد نفسها . فاما عبادة الاصنام والشجر والحيوان , فان كل قبيلة , كانت تدرك بفطرتها اله الكون الواحد وتندفع الى عبادته اندفاعاً تلقائياً , ولكنها لما كانت لا تتصور , لقلة مدركاتها وضئالة تفكيرها وارتباط معقولاتها بمحسوساتها , أمكان عبدة المجرد , فقد جسمته صنما او تمثلته متجليا في بعض الحيوان او النبات او الحوادث الطبيعية , وعبدت ذلك الشيء رمزاً عن ذلك الاله العظيم . ومن ذلك قول قريش الذي نقله عنهم الله عز وجل في كتابه الكريم , فقال عز من قائل : [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] وبهذا كان لكل قبيلة اله معبود .ولما توالت الاجيال واعتاد الناس على الخضوع الى هذه الالهة المزعومة , نسي المعنى الفطري الذي انشأت بسببه هذه العبادات , واعتقد بتعدد الالهة .
وهل هناك اسباباً اخرى لنشي قسم من عبادة المجسمات , لا تمت في واقعها بسبب الى التالية , وانما هو ان تصنع القبيلة لرئيسها او جدها الاعلى تمثالا رمزاًلحبهم واخلاصهم له , وحين يموت هذا الشخص يبدأون بتعظيم تمثاله كرمز لتعظيم ذلك الجد . ثم ينتقل على مدى الاجيال هذا الاخلاص الرمزي الى الاخلاص الى هذا التمثال بالخصوص , وينسي انه كان في حين من الاحيان تمثالا لجدهم الاعلى ثم يبدأ هذا الاخلاص بالانتقال الى نوع من التقديس ثم الى نوع من العبادة والخضوع ,يبدأون بالاعتقاد بان هذا التمثال ليس الا تمثالاً لإله الكون الذي يدركونه ويخافونه بفطرتهم .
واما الاعتقاد بوجود الهة لكل ظاهرة كونية ولكل معنى من معاني الكمال , كما كان شائعاً في بلاد اليونان القديمة , فهناك , بزعمهم , اله للريح واله للمطرواله للارض واله للبحر , من ناحية , كما أن هناك اله للجمال واله للحب واله للخير , من ناحية اخرى . فلعله ناشيء من اعتقاد هؤلاء البشر , من قصر نظرهم وسوء تفكيرهم , بانه يناسب أن تكون ظاهرة كونية الهاً مستقلاً منفرداً بارادتها وتدبيرها , بزعم عدم امكان صدور هذه الظواهر المتعددة جميعا من اله واحد . وقد كان اعتقاد هؤلاء الناس بالارواح والعفاريت , واعتقادهم ان لها اعمالا لا تقوم بها لازعاج البشر ومضايقتهم , الاثر الكبير في تاكيد هذه العقيدة في نفوسهم , ومن ثم نرى ان هناك خلطاً كبيراً في اذهان هؤلاء بين تلك الارواح وهؤلاء الالهة , فليست الالهة في نظرهم الا نوعاً من تلك العفاريت والارواح .
أما بالنسبة الى الاعتقاد بوجود الهة لكل معنى من معاني الكمال , فقد يكون ذلك ناشئاًمن تداعي المعاني الذي سبق أن أشرنا اليه , من أن الذهن ينتقل في تصور الكمال من هذا الكمال الناقص الذي يراه الى تصور الكمال المطلق , ولكنهم انما تصوروا الكمال لكل معنى على حدة . وهذا مشابه لنظرية المثل الافلاطونية التي بزغت في ذلك المحيط نفسه , ولعلها تأثرت في هذه العقائد ,وفحواها ان لكل نوع من الانواع فرداً كاملا يتصف بجميع ما يمكن ان يتصف به ذلك النوع من الكمال , ويتجرد عن كل ما يمكن أن يلحق بنوعه من النواقص والاسواء يسميه أفلاطون بالمثال . ثم ان هناك فرداً أكمل لمجموع هذه المثل بصفتها نوعاً واحداً , هو المثال المطلق للخير والكمال , وهذا المثال لايمكن ان يكون الا واحداً لان الكمال المطلق لايمكن ان يكون الا واحداً . كما ان مثال كل نوع لايمكن ان يكون الا واحداً ايضا , لان الكمال لكل نوع لا يتعدد , بهذا نرى افلاطون يصل بنظريته الى الاعتراف بالله عز وجل وتوحيده , على طريقته الخاصة , في حين لم يصل أولئك الرعاع الى مثل هذا المترقى الدقيق .
واما الاعتقاد بوجود الهين , اله للخير واله للشر , فهو ناشيء من الاعتقاد بتناقض الخير مع الشر , وعدم أمكان صدور المتناقضين عن اله واحد . فاستنتجوا من ذلك ضرورة وجود الهين للكون يكون احدهما خالقاً للخير والاخر خالقاً للشر . ونحن , بهذا الصدد , نراهم قد حكموا بتناقض الخير والشر , وفي هذا اتباع للفطرة العقلية التي تحكم باستحالة اجتماع النقيضين , كما سبق أن أشرنا . وحكموا بأن للخير الهاً واحداً كما ان للشر الها واحداً ايضاً, وفي هذا اتباع لفطرة التوحيد على شكل مغلوط.
وقد تصدى الفلاسفة المسلمون لحل هذه الاغلوطة , فأوضحوا بأن الخير عبارة عن الكمال وهو عبارة عن الوجود , فالخير والكمال انما يمثلان القسم الوجودي في هذا الكون . وان الشر عبارة عن النقص والنقص عبارة عن العدم , عدم الكمال والعدم ليس امراً وجودياً لكي يخلق . فالله عز وجل خالق للوجود ,أي للامور الكمالية , وليست الشرور الا من اثر عدم خلقه للكمال المطلق . على تفصيل مذكورفي محله من الفلاسفة الاسلامية .
واما القول بالثالوث المسيحي , فهو ناشيء من اثر تحريف المسيحية عن واقعها النازل من الله عز وجل . ولعل اعتقاد المسيحيين بألوهية المسيح وأنه جاء من استغرابهم من طريقة حمل مريم لابنها , مع عدم امكانهم الاعتقاد بان ذلك ناشيء عن طريق غير شرعي لانه نبيهم ورئيس عقيدتهم . اذن فلابد ان يكون ذلك ناشئاً عن طريق الاعجاز , وكأنهم فكروا انه لايمكن لاحد القيام بالمعجزة الا اذا كان الهاً . غافلين عن امكان ذلك لاي بشر مع اقدار الله تعالى له وتوفيقه اياه . وليست هذه العقيدة صادرت من قبل المسيح نفسه , فإن عيسى بن مريم على نبينا واله وعليه السلام ,لاجل قدراً وابعد نظراً عمن ان يدعي الالوهية في قبال الله عز وجل وان يامر اتباعه بعبادة الله تعالى. وانما كان ذلك بدعة اختلقها المسيحيون ومسخوا بها دينهم بعد ان رفعه الله اليه .
وقد تصدى القرآن لمناقشة هؤلاء الناس في عقيدتهم تلك , مع اثبات كل معاني الشرف والفضيلة الى المسيح وامه , فقال عز من قائل : [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] فهو ليس الها بل رسولا من الله عز وجل , ارسله الله بشريعة معينة وبالاعتراف بوجود الله وتوحيده , ليهدي البشر ويخرجهم من ظلمات الجهل والضلالة الى نور العلم والايمان , وقد جعل اسلوب حمله وكلامه في المهد صبياً آيتان من الله عليه بهما , لتأييد صدق بعثته واتمام الحجة على قومه وقال ايضا تبارك وتعالى : [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ] فالمسيح اذن رسول كمن سبقه من الرسل , وامه صديقة لانها امرأة صالحة مقربة من الله عز وجل وعلا , وقد خصها الله بهذه الكرامة حيث جعلها أماً لنبي من انبيائه , واجرى عليها هذه المعجزة الفريدة وليس هو وليست امه الهين لانهما كانا يأكلان الطعام باعتراف المسيحيين أنفسهم , وليس من شأن الاله ان يحتاج الى الطعام فيأكله , وان يكون محلاً للحوادث والعوارض التي هي من صفات الممكنات ويتنزه عنها مقام الربوبية . أنظر كيف يخاطب القرآن الناس على مقدار مداركهم , وكيف خص الطعام بالذكر لانه اقرب الافعال الى الانسان وادلها على الضعف والحاجة , لما يلعمه الانسان بما سوف يصيبه لو امتنع عن تناوله .واننا لنرى علماء المسيحيين ومفكريهم قد حاوروا , بعد أن عرفوا استحالة وجود اكثر من اله واحد بالفطرة والدليل العقلي ,حاروا في اتباع أي من القولين أو في تأويل ثالوثهم المقدس بشكل يرضى الحكم العقلي الفطري . وقد انشعبوا في ذلك الى مذاهب متكثرة عديدة , ليس في المقام مجال لذكرها . كما اننا نرى من ناحية اخرى ان العلماء المحدثين المختصين باي فرع من فروع العلم , انما هم علماء موحدون رغم نشأتهم في بيئة مسيحية , فهم يرجعون الظواهر الكونية التي يدرسونها الى اله حكيم , وهو ايضا اله واحد , ولا يمكن ان يكون الا كذلك وفي كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) وكتاب (العلم يدعو الى الايمان) اكبر دليل على ذلك.ولا يبقى بعد ذلك الا حفنة ممن اعماهم الضلال ورانت على عقولهم الشبهات وأخذ بمجامع قلوبهم للتعصب الاعمى , فادعوا الالحاد وتبجحوا به . في حين لم نر ان مفكراواحدا أدعوا الثانوية او التثليث , او افتخر بهما على الاطلاق .
والان يجب ان ننظر الى القسم الثالث من الفطرة العقلية , والى ما يمكنها ان تدركه من العقيدة الالهية والتوحيد , وهي التي سبق ان اشرنا الى انها عبارة عن القضايا التي لا يحتاج العقل في تصديقها والايمان بمقتضياتها الا الى ادراك وفهم موضوعها ومحمولها . واشرنا ان العقل يجعل هذه القضايا , الركيزة الاولى لبراهينه واستدلالاته على سائر القضايا المحتاجة الى الاستدلال .واشرنا ايضا الى ان من جملة هذه القضايا الاوليات , وهي ادراك العقل بان لابد لكل ممكن من علة . ومن هذه القصية يستنتج العقل الايمان بوجود الخالق عز وعلا . لان هذا الكون ممكن لانه متجدد الحوادث وكل حادث منه مسبوق بعدم , وكل ما كان كذلك فهو ممكن أي متساوي طرفي الوجود والعدم , لا اقتضاء له بذاتهالى تحدهما وما دام هذا الكون ممكنافهو محتاج الى علة , طبقا للقاعدة التي يدركها بفطرته من احتياج كل ممن الى علة اذن فهناك علة خالقة لهذا الكون .
ومن هذا المنطلق يبدأ العقل بالبرهنة على صفات هذه العلة الخالقة للكون , فيثبت عنطريق البرهان , انها يجب ان تكون واجبة الوجود لذاتها, وانها يجب ان تكون كاملة من جميع جهات الكمال , وانهم يجبان تكون منزهة عن كل النواقص والصفات العدمية الامكانية التي تزري بذلك المقام الرفيع . على تفصيل مذكور في محله من الفلسفة الاسلامية . حتى يصل الاسلام بالخالق العظيم الى اوج التنويه والكمال .
اما التوحيد فاننا لا نحتاج في اثباته الى البرهنة والاستدلال .فانه ايضا من الامور الفطرية المرتكزة في كيان العقل , فان العقل انما حكم بوجوب وجود العلة بالنسبة الى الممكن توصلاً لايجاده , ولم يحكم بوجود وجود علتين , ولم يكن لهان يحكم بذلك للبرهان الفلسفي القائم على استحالة صدور الشيء الواحد من علتين تامتين . ومن ناحية اخرى , يدرك العقل , عطفا على ما تدركه الفطرة الكونية من عظمة الخالق وكماله , ان الكامل المطلق لايمكن ان يكون الا واحدا , لان الكمال المطلق الذي يتصور ليس الا واحدا ولا يمكن ان يتعدد .
ولئن كان ادراك الفطرة للتوحيد هو الدليل الرئيسي عليه ,وهو الذي اعتمد القران في الاستدلال عليه , كما سبق ان اشرنا اليه فان ذلك لايعني عدم وجود براهين مطولة فلسفية وكلامية على هذه العقيدة الرئيسية في الاسلام , فان للفلاسفة والمتكلمين المسلمين طرقا كثيرة الى اثبات ذلك ولكن اقرب تلك الادلة الى الوجدان ما كان منبثقا من فطرة النفس ونابعا من صميم الضمير .
بعد هذه الجولة المفصلة في البحث عن ماهية الفطرة ومدركاتها , يمكننا ان نتميز بوضوح تام , مدى صحة وجهة النظر الاسلامية , في ايكال عقائده الرئيسية الى الفطرة النفسية النابعة من باطن العقل . فان هذا الصوت الداخلي لهو اقرب الاصوات الى الانسان وادعاها بالطاعة والامتثال , كما ان الاستجابة اليه هي اقرب الطرق الى الوصول الى الحق , الى الاسلام , كما فالاسلام لم يدع في عقائده الرئيسية الا الى ما تدعو اليه الفطرة والجبلة الانسانية , كما انه لم يذهب الى تفاصيلها الا الى ما يدعو اليه البرهان العقلي الصحيح المعتمد على تلك المدركات الفطرية الاولية هدانا الله الى هداه ووفقنا الى رضاه , ويسر لنا الاصغاء الى نداء الحق المنبثق من داخل ضمائرنا انه ولي الهداية والتوفيق .
بقلم
الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
النجف الاشرف
بين الاعوام 1961- 1963
وقد استخدم القرآن هذه الفطرة الكونية للبرهنة على وجود الله عز وجلّ . فقد عمد الى جمال الكون وحسن متعته فوضحه وفضل القول فيه ليزيد من عجب الانسان واعجابه وليقر به من هذا الطريق الى دروان صانع هذا الكون الكبير , وهو بذلك ينقل تلك الفطرة الغامضة العميقة من مرحلة الشعور البسيط الغامض الى سطح الادراك الواضح والشعور الجلي . فمن ذلك قوله عز من قائل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(*)وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(*)وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(*)وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. فكل هذه المظاهر الكونية , أو هي ما بين ما يعيشها الانسان بنفسه وتجري حوادثها بين سمعه وبصره , وبين ما تجري بعيدة عنه فيعجب بها ولا يعرف كنهها , كل هذه الامور , انما هي بالفطرة , آيات ودلائل على وجود مبدعها ومدبرها .
ومن هنا نرى الاسلام قد دعا الى التفكير في خلق الله تعالى , وامعان النظر فيما احتواه من جمال وكمال , لكي يستطيع الفرد ان يعيش فطرته خلال هذا التفكير , متى بدا له ان يعيشها , ولكي يميز قدرة الله تعالى التي ابدعت هذا الكون العظيم فقال عز من قائل: [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ] .
اما ادراك الفطرة الكونية للتوحيد , فهو كما سبق ان اشرنا في ادراك الفطرة الذاتية لهذه العقيدة , غامض وعميق , ولكنه في نفس الوقت ثابت راسخ . فان الانسان عندما واجه هذا الكون وهف قلبه وخلب لبه ما فيه من مناظر وحوادث , حكم ان لهذا الكون خالقا ومدبرا حكيما , ولم يحكم بان له اكثر من خالق , ولم يدر ذلك في خلده يوم من الايام . فكانه يدرك , ضمنا , بان مثل هذا النظام الكامل والقوانين الدقيقة لايمكن ان يتم الا في يدي اله واحد , لما سوف يحل به من التبعثر والخراب لو كان محكوماً لالهين , لانهما سوف يتعارضان بالارادة ويتنافيان في طريقة التنظيم وان بين يدي الانسان أمثلة كثيرة على ذلك , ومنه ما يضر به الناس من مثل قائلين : اذا كثر ملاحوا السفينة فانها سوف تغرق يقوم هذا المثل على افتراض تخالفارادة الملاحين , بان يجدف كل جماعة منهم الى جهة .
وقد حاول القرآن التاكيد على هذا المعنى, عن طريق نقل هذا الاحساس الفطري الغامض الى مرحلة الشعور الواضح . فقال عز من قائل : [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللَّهُ خَيْرٌ ممَّا يُشْرِكُونَ(*)أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(*)أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(*) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(*)أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(*)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] فليس من الممكن لكل هذه المخلوقات ولكل هذه النعم الالهية ولكل هذه النظم الدقيقة , أن تصدر , بالفطرة , الا من اله واحد , يدبر أمرها بحكمته ويدير شؤونها بقدرته . وأن من لغو القول ان ننسب خلق ذلك وتدبيره الى الهين او اكثر لانهما حتما سوف يتعارضان ويتخالفان ويحاول احدهما السيطرة على الاخر , قال الله تعالى :[ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ] واين يكون النظام في ظل هذا الصراع الرهيب العجيب ؟!
لايمكن الاعتراض على دلالة الفطرة الكونية على التوحيد , بما شاع بين بعض الجماعات من البشر من الاعتقاد بتعدد الالهة . فان هذا الاعتقاد غير ناشيء من الفطرة , كما انه ليس دليلا على بطلان دلالتها على التوحيد , فان هذا الاعتقاد انما ترعرع في الاوساط المتخلفة البدائية الضيقة التفكير المؤمنة بالخرافات والاساطير ولا زالت مثل هذه البيئات هي التي تعتنقه وتعتقد به . وانه لبعيد كل البعد عن الافكار الثاقبة والنظر البعيد والرأي السديد .
وان للاشتراك بالله تعالى صوراً متعددة , لكل منها دوافع واسباب مختلفة , وهي ترجع في الغالب , في اصولها العميقة واسبابها الاولى الى غريزة التوحيد نفسها . فاما عبادة الاصنام والشجر والحيوان , فان كل قبيلة , كانت تدرك بفطرتها اله الكون الواحد وتندفع الى عبادته اندفاعاً تلقائياً , ولكنها لما كانت لا تتصور , لقلة مدركاتها وضئالة تفكيرها وارتباط معقولاتها بمحسوساتها , أمكان عبدة المجرد , فقد جسمته صنما او تمثلته متجليا في بعض الحيوان او النبات او الحوادث الطبيعية , وعبدت ذلك الشيء رمزاً عن ذلك الاله العظيم . ومن ذلك قول قريش الذي نقله عنهم الله عز وجل في كتابه الكريم , فقال عز من قائل : [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] وبهذا كان لكل قبيلة اله معبود .ولما توالت الاجيال واعتاد الناس على الخضوع الى هذه الالهة المزعومة , نسي المعنى الفطري الذي انشأت بسببه هذه العبادات , واعتقد بتعدد الالهة .
وهل هناك اسباباً اخرى لنشي قسم من عبادة المجسمات , لا تمت في واقعها بسبب الى التالية , وانما هو ان تصنع القبيلة لرئيسها او جدها الاعلى تمثالا رمزاًلحبهم واخلاصهم له , وحين يموت هذا الشخص يبدأون بتعظيم تمثاله كرمز لتعظيم ذلك الجد . ثم ينتقل على مدى الاجيال هذا الاخلاص الرمزي الى الاخلاص الى هذا التمثال بالخصوص , وينسي انه كان في حين من الاحيان تمثالا لجدهم الاعلى ثم يبدأ هذا الاخلاص بالانتقال الى نوع من التقديس ثم الى نوع من العبادة والخضوع ,يبدأون بالاعتقاد بان هذا التمثال ليس الا تمثالاً لإله الكون الذي يدركونه ويخافونه بفطرتهم .
واما الاعتقاد بوجود الهة لكل ظاهرة كونية ولكل معنى من معاني الكمال , كما كان شائعاً في بلاد اليونان القديمة , فهناك , بزعمهم , اله للريح واله للمطرواله للارض واله للبحر , من ناحية , كما أن هناك اله للجمال واله للحب واله للخير , من ناحية اخرى . فلعله ناشيء من اعتقاد هؤلاء البشر , من قصر نظرهم وسوء تفكيرهم , بانه يناسب أن تكون ظاهرة كونية الهاً مستقلاً منفرداً بارادتها وتدبيرها , بزعم عدم امكان صدور هذه الظواهر المتعددة جميعا من اله واحد . وقد كان اعتقاد هؤلاء الناس بالارواح والعفاريت , واعتقادهم ان لها اعمالا لا تقوم بها لازعاج البشر ومضايقتهم , الاثر الكبير في تاكيد هذه العقيدة في نفوسهم , ومن ثم نرى ان هناك خلطاً كبيراً في اذهان هؤلاء بين تلك الارواح وهؤلاء الالهة , فليست الالهة في نظرهم الا نوعاً من تلك العفاريت والارواح .
أما بالنسبة الى الاعتقاد بوجود الهة لكل معنى من معاني الكمال , فقد يكون ذلك ناشئاًمن تداعي المعاني الذي سبق أن أشرنا اليه , من أن الذهن ينتقل في تصور الكمال من هذا الكمال الناقص الذي يراه الى تصور الكمال المطلق , ولكنهم انما تصوروا الكمال لكل معنى على حدة . وهذا مشابه لنظرية المثل الافلاطونية التي بزغت في ذلك المحيط نفسه , ولعلها تأثرت في هذه العقائد ,وفحواها ان لكل نوع من الانواع فرداً كاملا يتصف بجميع ما يمكن ان يتصف به ذلك النوع من الكمال , ويتجرد عن كل ما يمكن أن يلحق بنوعه من النواقص والاسواء يسميه أفلاطون بالمثال . ثم ان هناك فرداً أكمل لمجموع هذه المثل بصفتها نوعاً واحداً , هو المثال المطلق للخير والكمال , وهذا المثال لايمكن ان يكون الا واحداً لان الكمال المطلق لايمكن ان يكون الا واحداً . كما ان مثال كل نوع لايمكن ان يكون الا واحداً ايضا , لان الكمال لكل نوع لا يتعدد , بهذا نرى افلاطون يصل بنظريته الى الاعتراف بالله عز وجل وتوحيده , على طريقته الخاصة , في حين لم يصل أولئك الرعاع الى مثل هذا المترقى الدقيق .
واما الاعتقاد بوجود الهين , اله للخير واله للشر , فهو ناشيء من الاعتقاد بتناقض الخير مع الشر , وعدم أمكان صدور المتناقضين عن اله واحد . فاستنتجوا من ذلك ضرورة وجود الهين للكون يكون احدهما خالقاً للخير والاخر خالقاً للشر . ونحن , بهذا الصدد , نراهم قد حكموا بتناقض الخير والشر , وفي هذا اتباع للفطرة العقلية التي تحكم باستحالة اجتماع النقيضين , كما سبق أن أشرنا . وحكموا بأن للخير الهاً واحداً كما ان للشر الها واحداً ايضاً, وفي هذا اتباع لفطرة التوحيد على شكل مغلوط.
وقد تصدى الفلاسفة المسلمون لحل هذه الاغلوطة , فأوضحوا بأن الخير عبارة عن الكمال وهو عبارة عن الوجود , فالخير والكمال انما يمثلان القسم الوجودي في هذا الكون . وان الشر عبارة عن النقص والنقص عبارة عن العدم , عدم الكمال والعدم ليس امراً وجودياً لكي يخلق . فالله عز وجل خالق للوجود ,أي للامور الكمالية , وليست الشرور الا من اثر عدم خلقه للكمال المطلق . على تفصيل مذكورفي محله من الفلاسفة الاسلامية .
واما القول بالثالوث المسيحي , فهو ناشيء من اثر تحريف المسيحية عن واقعها النازل من الله عز وجل . ولعل اعتقاد المسيحيين بألوهية المسيح وأنه جاء من استغرابهم من طريقة حمل مريم لابنها , مع عدم امكانهم الاعتقاد بان ذلك ناشيء عن طريق غير شرعي لانه نبيهم ورئيس عقيدتهم . اذن فلابد ان يكون ذلك ناشئاً عن طريق الاعجاز , وكأنهم فكروا انه لايمكن لاحد القيام بالمعجزة الا اذا كان الهاً . غافلين عن امكان ذلك لاي بشر مع اقدار الله تعالى له وتوفيقه اياه . وليست هذه العقيدة صادرت من قبل المسيح نفسه , فإن عيسى بن مريم على نبينا واله وعليه السلام ,لاجل قدراً وابعد نظراً عمن ان يدعي الالوهية في قبال الله عز وجل وان يامر اتباعه بعبادة الله تعالى. وانما كان ذلك بدعة اختلقها المسيحيون ومسخوا بها دينهم بعد ان رفعه الله اليه .
وقد تصدى القرآن لمناقشة هؤلاء الناس في عقيدتهم تلك , مع اثبات كل معاني الشرف والفضيلة الى المسيح وامه , فقال عز من قائل : [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] فهو ليس الها بل رسولا من الله عز وجل , ارسله الله بشريعة معينة وبالاعتراف بوجود الله وتوحيده , ليهدي البشر ويخرجهم من ظلمات الجهل والضلالة الى نور العلم والايمان , وقد جعل اسلوب حمله وكلامه في المهد صبياً آيتان من الله عليه بهما , لتأييد صدق بعثته واتمام الحجة على قومه وقال ايضا تبارك وتعالى : [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ] فالمسيح اذن رسول كمن سبقه من الرسل , وامه صديقة لانها امرأة صالحة مقربة من الله عز وجل وعلا , وقد خصها الله بهذه الكرامة حيث جعلها أماً لنبي من انبيائه , واجرى عليها هذه المعجزة الفريدة وليس هو وليست امه الهين لانهما كانا يأكلان الطعام باعتراف المسيحيين أنفسهم , وليس من شأن الاله ان يحتاج الى الطعام فيأكله , وان يكون محلاً للحوادث والعوارض التي هي من صفات الممكنات ويتنزه عنها مقام الربوبية . أنظر كيف يخاطب القرآن الناس على مقدار مداركهم , وكيف خص الطعام بالذكر لانه اقرب الافعال الى الانسان وادلها على الضعف والحاجة , لما يلعمه الانسان بما سوف يصيبه لو امتنع عن تناوله .واننا لنرى علماء المسيحيين ومفكريهم قد حاوروا , بعد أن عرفوا استحالة وجود اكثر من اله واحد بالفطرة والدليل العقلي ,حاروا في اتباع أي من القولين أو في تأويل ثالوثهم المقدس بشكل يرضى الحكم العقلي الفطري . وقد انشعبوا في ذلك الى مذاهب متكثرة عديدة , ليس في المقام مجال لذكرها . كما اننا نرى من ناحية اخرى ان العلماء المحدثين المختصين باي فرع من فروع العلم , انما هم علماء موحدون رغم نشأتهم في بيئة مسيحية , فهم يرجعون الظواهر الكونية التي يدرسونها الى اله حكيم , وهو ايضا اله واحد , ولا يمكن ان يكون الا كذلك وفي كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) وكتاب (العلم يدعو الى الايمان) اكبر دليل على ذلك.ولا يبقى بعد ذلك الا حفنة ممن اعماهم الضلال ورانت على عقولهم الشبهات وأخذ بمجامع قلوبهم للتعصب الاعمى , فادعوا الالحاد وتبجحوا به . في حين لم نر ان مفكراواحدا أدعوا الثانوية او التثليث , او افتخر بهما على الاطلاق .
والان يجب ان ننظر الى القسم الثالث من الفطرة العقلية , والى ما يمكنها ان تدركه من العقيدة الالهية والتوحيد , وهي التي سبق ان اشرنا الى انها عبارة عن القضايا التي لا يحتاج العقل في تصديقها والايمان بمقتضياتها الا الى ادراك وفهم موضوعها ومحمولها . واشرنا ان العقل يجعل هذه القضايا , الركيزة الاولى لبراهينه واستدلالاته على سائر القضايا المحتاجة الى الاستدلال .واشرنا ايضا الى ان من جملة هذه القضايا الاوليات , وهي ادراك العقل بان لابد لكل ممكن من علة . ومن هذه القصية يستنتج العقل الايمان بوجود الخالق عز وعلا . لان هذا الكون ممكن لانه متجدد الحوادث وكل حادث منه مسبوق بعدم , وكل ما كان كذلك فهو ممكن أي متساوي طرفي الوجود والعدم , لا اقتضاء له بذاتهالى تحدهما وما دام هذا الكون ممكنافهو محتاج الى علة , طبقا للقاعدة التي يدركها بفطرته من احتياج كل ممن الى علة اذن فهناك علة خالقة لهذا الكون .
ومن هذا المنطلق يبدأ العقل بالبرهنة على صفات هذه العلة الخالقة للكون , فيثبت عنطريق البرهان , انها يجب ان تكون واجبة الوجود لذاتها, وانها يجب ان تكون كاملة من جميع جهات الكمال , وانهم يجبان تكون منزهة عن كل النواقص والصفات العدمية الامكانية التي تزري بذلك المقام الرفيع . على تفصيل مذكور في محله من الفلسفة الاسلامية . حتى يصل الاسلام بالخالق العظيم الى اوج التنويه والكمال .
اما التوحيد فاننا لا نحتاج في اثباته الى البرهنة والاستدلال .فانه ايضا من الامور الفطرية المرتكزة في كيان العقل , فان العقل انما حكم بوجوب وجود العلة بالنسبة الى الممكن توصلاً لايجاده , ولم يحكم بوجود وجود علتين , ولم يكن لهان يحكم بذلك للبرهان الفلسفي القائم على استحالة صدور الشيء الواحد من علتين تامتين . ومن ناحية اخرى , يدرك العقل , عطفا على ما تدركه الفطرة الكونية من عظمة الخالق وكماله , ان الكامل المطلق لايمكن ان يكون الا واحدا , لان الكمال المطلق الذي يتصور ليس الا واحدا ولا يمكن ان يتعدد .
ولئن كان ادراك الفطرة للتوحيد هو الدليل الرئيسي عليه ,وهو الذي اعتمد القران في الاستدلال عليه , كما سبق ان اشرنا اليه فان ذلك لايعني عدم وجود براهين مطولة فلسفية وكلامية على هذه العقيدة الرئيسية في الاسلام , فان للفلاسفة والمتكلمين المسلمين طرقا كثيرة الى اثبات ذلك ولكن اقرب تلك الادلة الى الوجدان ما كان منبثقا من فطرة النفس ونابعا من صميم الضمير .
بعد هذه الجولة المفصلة في البحث عن ماهية الفطرة ومدركاتها , يمكننا ان نتميز بوضوح تام , مدى صحة وجهة النظر الاسلامية , في ايكال عقائده الرئيسية الى الفطرة النفسية النابعة من باطن العقل . فان هذا الصوت الداخلي لهو اقرب الاصوات الى الانسان وادعاها بالطاعة والامتثال , كما ان الاستجابة اليه هي اقرب الطرق الى الوصول الى الحق , الى الاسلام , كما فالاسلام لم يدع في عقائده الرئيسية الا الى ما تدعو اليه الفطرة والجبلة الانسانية , كما انه لم يذهب الى تفاصيلها الا الى ما يدعو اليه البرهان العقلي الصحيح المعتمد على تلك المدركات الفطرية الاولية هدانا الله الى هداه ووفقنا الى رضاه , ويسر لنا الاصغاء الى نداء الحق المنبثق من داخل ضمائرنا انه ولي الهداية والتوفيق .
بقلم
الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
النجف الاشرف
بين الاعوام 1961- 1963
اللهم صلِ على النبي المختار واله الاطهار
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
الحرية الحقيقية هي الحرية من النفس الامارة بالسوء
[center]
ابو الامير العراقي- فريق الإشراف
- الديانه : الاسلام
البلد : العراق
عدد المساهمات : 182
نقاط : 5345
السٌّمعَة : 9
مواضيع مماثلة
» قصص من القران الكريم
» قتل المرتد : عقيدة لا أصل لها في القران الكريم
» ترجمة القران الكريم والاحاديث إلي اللغات الأجنبية
» تفسير القرطبى والطبرى والجلالين للقران الكريم
» البراهين الإلهية على الوحدانية
» قتل المرتد : عقيدة لا أصل لها في القران الكريم
» ترجمة القران الكريم والاحاديث إلي اللغات الأجنبية
» تفسير القرطبى والطبرى والجلالين للقران الكريم
» البراهين الإلهية على الوحدانية
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى