دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
صفحة 1 من اصل 1
دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
بسم الله الرحمن الرحيم
مبادئ المنطق العشرة
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأحمد الله الذي أنطق كل شيء بالحق، وجعل العالم عليه برهاناً ساطعاً، أن بلغني للشروع بإنجاز ما وعدت في رسالة الترحيب، وأسأله جل وعلا أن يخرجنا من ظلمات الوهم، ويفتح علينا بمعرفة العلم، إنه سميع مجيب.
وهذا كلام في علم المنطق أنجمه تقريباً للفهم، وتيسيراً للمبتدي لكي تحسن متابعته، وتتمكن من نفسه معرفته. والله الموفق للسداد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مقدمة
بكسر الدال بمعنى مُتَقَدِّمَة على غيرها. والتقدير هذه مقدمة، فتكون خبراً مرفوعاً لمبتدأ محذوف.
وقد جرت العادة أن يأتي المصنفون ببعض كلام قبل أن يشرعوا في المقصود ويسمونه مقدمة.
وَحَذْوُنا حَذْوَهُم تزبب قبل التحصرم، وهو من علامات الساعة.
ونقول:
نظم أبو العرفان الصبان، مبادي العلوم قال:
إن مبادي كل فن عشرة = الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبة والواضع = الاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى = ومن درى الجميع حاز الشرفا
والمنطق فن -أي علم- كغيره من العلوم.
فنذكر في هذه المقدمة ما تيسر من مبادئه.
فأما اسمه: فهو المنطق.
وهذا الاسم لفظ مشترك بين ثلاثة معاني:
الأول مصدر ميمي بمعنى الإدراك الكلي من نطق بمعنى فهم المعاني الكلية.
الثاني اسم مكان وهو القوة العاقلة التي هي محل صدور تلك الإدراكات.
والثالث: مصدر ميمي بمعنى اللفظ الذي يبين ويظهر فهم المتكلم لهذه الإدراكات أي المدرَكات.
ولما كثر في هذا العلم أمثال هذه المدرَكات، ولما كان يحصل مع تعلمه زيادة وكمال في القوة العاقلة.
ولما لوحظ أن محصِّله عند مراسه تحدث فيه ملكة يُقتدر معها على إدراك معان كثيرة من دالات تبدو فجة وقليلة.
وعلى التعبير عن مراداته من المعاني، بألفاظ توافقها، وتحددها، بأخصر عبارة من دون إخلال، حُقَّ لهذا العلم عند اجتماع ذلك كله فيه أن يسمى بالمنطق.
ويسمى أيضاً معيار العلوم، وعلم الميزان، وسيتبين لك سبب تسميته بذلك، عما قريب إن شاء الله تعالى حين نتناول بالنقد بعض القضايا على أساس من قواعد المنطق.
أما ثمرته أي فائدته وبيان الحاجة إليه: فلما كان العقلاء يناقض بعضهم بعضاً في القضايا التي يحتاج فيها إلى النظر والاكتساب، حتى إن الإنسان الواحد ربما يقول ما يناقض مقالة سابقة له، برزت الحاجة إلى آلة قانونية تفيد في عصمة الأذهان عن الخطأ في الفكر، وتفيد في معرفة طرق تحصيل القضايا النظرية من القضايا الضرورية المسلّمة. ويحتكم إليها في معرفة صحة أو فساد نظر الناظرين.
وعليه فيعرّف المنطق تعريفاً رسمياً (لأنه تعريف بالغاية التي هي الفائدة، وسيأتي بيان الرسم عند الحديث عن المعرفات، وبيان السبب في عدم تعريف العلوم تعريفاً حدياً حقيقياً) بأنه: قانون تعصم مراعاته الذهن عن الوقوع في الغلط.
وسمي المنطق قانوناً لأن مسائله قوانين أي قواعد كلية تنطبق على جزئياتها. وهذه القوانين في الحقيقة هي عبارة عن الإدراكات الكلية للنفس، وهي ما سميناه نطقاً أو منطقاً عند الحديث عن اسم هذا العلم.
ويدل على هذا النطق النفساني أو الباطني النطق بالألفاظ الظاهرة أي الكلام بالحروف والأصوات والمقاطع المعروفة في كل لغة من اللغات.
ويلاحظ مع تعلم المنطق حدة في الأذهان وتفتقها عن دقائق المعاني، وقوة عارضة تتمكن شيئاً فشيئاً في النفس.
ومما يدل على اكتساب النفس لهذه الصفات، ما يظهر معها من اقتدار على اقتناص اللفظ الدال على متعلقه من المدرَكات الكلية، وحسن تفهم المقروء والمسموع، والبراعة في نقده، وطول التأمل وإدمان النظر، وكثرة استخدام القوة الفكرية، والحد من استخدام القوة المخيلة، فيكثر في الصمت الفكر، ويندر الاشتطاط في الخيال وأحلام اليقظة كما يسمونها. وكل ذلك وأضعافه يورثه علم الكلام، فمعه بدء الارتفاع من سفساف الأمور إلى معاليها في كل فعل يكتسب.
وأما نسبته: فإن نسبة المنطق للعقل تشبه نسبة علم النحو للسان المتكلم. فكما أن متعلم النحو كلما ازداد منه تمكناً قل خطؤه ولحنه في تحريك أواخر الكلمات التي يلفظها، حتى إذا رسخت قواعده في نفسه ندر بل ربما استحال عادة عليه أن يلحن.
فكذا المنطقي كلما رسخ في هذا العلم، ندر وقوعه في الخطأ في الفكر، فتعصم مراعاة قواعده الذهن عن الغلط في فكره.
وأما موضوعه: فاعلم أولاً أن موضوع كل علم هو الشيء الذي يُبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية (سيأتي بيان هذه المعاني بتفصيل إن شاء الله فلا تتعجل تحصيل معاني ما لم تألفه من المصطلحات).
فمثلاً:
الكلمة هي موضوع علم النحو، فإنه يبحث في علم النحو عما يعرض لها من إعراب وبناء.
والبدن هو موضوع علم الطب لأنه يبحث في علم الطب عما يعرض له من صحة واعتلال.
والعناصر موضوع علم الكيمياء فإنه يبحث في الكيمياء عما يعرض لهذه العناصر من تفاعلات وما ينتج عنها من تركب وانحلال، وما ينشأ عن ذلك من صفات للمواد الناتجة، وما يصاحب ذلك من تحولات في الطاقة إلى غير ذلك.
إذا توضح ذلك فنقول:
موضوع علم المنطق هو المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة إيصالها إلى المجهولات (وسيأتي تقسيم العلم إلى التصور والتصديق والتفريق بينهما، قريباً إن شاء الله تعالى). لأن المنطقي يبحث عن أحوال تلك المعلومات التي معها يتوصل إلى المجهولات أي إلى تصورات وتصديقات لم تكن معلومة لديه، فعلمت عند عروض أحوال معينة على المعلومات الأولى، كما يبحث فيما يتوقف عليه هذا الإيصال.
ولا ريب أن هذه الأحوال التي يبحث عنها في المنطق هي أمور عارضة على المعلومات التصورية والتصديقية.
فمثال البحث عن الأحوال العارضة على معلومين تصوريين للتوصل إلى مجهول تصوري: الحكم بأن الجنس كالحيوان والفصل كالناطق إذا ركبا على الوجه المخصوص توصل مع المجموع إلى مجهول تصوري وهو هنا الإنسان.
ومثال البحث عن الأحوال العارضة على معلومين تصديقيين للتوصل إلى مجهول تصديقي: الحكم بأن القضيتين كقول المتكلم: العالم متغير، وكل متغير حادث؛ إذا ركبا على الوجه المخصوص حصل قياس يتوصل معه إلى مجهول تصديقي وهو العلم بأن العالم حادث.
ومثال البحث فيما يتوقف عليه هذا الإيصال والذي هو أيضاً من الأحوال العارضة للمعلومات، فنتركه الآن لأن شرحه يتوقف على فهم مقدمات أكثر لم نأت على ذكرها بعد، وسنأتي على إعادة شرح ما وضعناه في هذه الفقرة.
والمثال الذي تركناه بتفصيل وشرح مطول إن شاء الله تعالى، حين تتوفر للقارئ مقدمات كافية لبحث هذا الأمر معه.
فلا تسأم أيها الأخ الكريم المبتدي، ولا تظنن أن هذا العلم أصعب من أن يفهم.
وما عليك في هذه المرحلة إلا أن تقرأ وتجتهد في فهم ما هو موجود، فإن أرتج عليك فهم شيء منه بعد عدة محاولات، فاتركه وامش، لأنا سنعود إلى الكلام في كل ما نقوله مراراً، ونعرضه بطرق مختلفة، ولك أن تسأل وتبحث في الكتب، ونحن بدورنا لن نسأم أو نكل بإذن الله من الكلام مع من يظهر اهتماماً وحرصاً على التعلم.
أما واضع هذا العلم فهو إرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير، بمعنى أنه أول من ألّف فيه كتباً.
ووقع في بعض الكتب أن اسمه إرسط بكسر الهمزة وفتحتين على الراء والسين، وهو مختصر من تمام اسمه إرسطاطاليس.
ولا يعيب هذا العلم أن أول من حرر فيه مؤلفاً فيلسوف يوناني؛ كما أننا لا نعيب على الرياضيات ما حرره فيها بعض نوابغ البشر من أمثال فيثاغورس ونيوتن وليبنز وديكارت، ولا على الفيزياء ما توصل إليه آينشتاين وغاليليو وشرودينغر وفارادي وغيرهم. فإن هؤلاء قوم عقلاء، يحترم ما أضافوه لمعارف الإنسان، ولا يلتفت إلى كونهم مسلمين أو لا؛ فإذا برهنوا على قضية ادعوها فاعلم أنها صارت علماً، وكل علم فهو محمود من حيث ما هو علم وهبة من الله سبحانه وتعالى، ولا يخلق بالعاقل أن ينتقص من أي علم من العلوم، وإنما شرف العلوم بشرف المتعلَّم فيها، أي بشرف متعلقاتها ومواضيعها والمبحوث عنه فيها.
واعلم أن كل علم فلا يمكن أن يتنافى مع الشرع، لأن الشرائع لا يمكن أن تأتي بما تحيله وتبطله العقول.
والعلوم كلها تلتقي مع بعضها، ويلتقي مجموعها مع الشرع في تناغم عجيب، يقف العقل أمامه مندهشاً، والجلد مقشعراً، والعين دامعة، واللسان حامداً لمدبر هذا الكون. فسبحان الذي علم الإنسان ما لم يعلم، ودله على نفسه بما لا يحصى من الدلائل التي تحيط بنا وتأسرنا وتملأ سمعنا وبصرنا وحواسنا وأنفسنا، ويمر عليها أكثر من ثلاثة أرباع البشر مصبحين وبالليل دون أن يلقوا لها بالاً، قتل الإنسان ما أكفره!
إذاً فهذا علم شريف، وفضله يعرف بمعرفة أنه من مبادئ علم الكلام الذي هو أشرف العلوم، وأنه من مبادئ علم أصول الفقه، وأن منفعته وفائدته عامة في كل علم من العلوم، فمن ذلك أنه مفيد في إثبات بعض العقائد الدينية بالبراهين العقلية، وتزييف العقائد الباطلة الفاسدة.
واستمداده من العقل كما لا يخفى على المتأمل، فإن النفس تذعن لمسائله، والعقل يوافق عليها ويجدها مغروسة فيه.
ومسائله هي القضايا النظرية الباحثة عن هيئة التعريف والقياس وما تعلق بهما. وسنأتي إلى بيان ذلك إن شاء الله بتفصيل حين نشرع في مسائله.
أما حكم الاشتغال به شرعاً، بعد أن انتهى إلينا منقحاً غير مشوب بكلام الفلاسفة الذي فيه الحق وفيه الباطل، فهذا المنطق المحرر المحمود الذي منه السلم وشروحه، ومختصر الإمام السنوسي، ورسالة إيساغوجي لأثير الدين الأبهري، والرسالة الشمسية للكاتبي، وكتاب تهذيب المنطق لسعد الملة والدين العلامة المحقق التفتازاني:
لا خلاف في جواز الاشتغال به، ولا يمنع من طلبه وتحصيله إلا البله ممن لا فهم لهم. بل هو فرض كفاية كما وقع في بعض الكتب.
وأما ذاك المخلوط بالفلسفة فحكي فيه الخلاف على ثلاثة أقوال:
الحرمة وهو قول الإمام النووي وابن الصلاح رحمهما الله تعالى.
والقول الثاني قول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى والذي فهم من كلامه إما فرض الكفاية أو الاستحباب، وعبر عن ذلك صاحب السلم بقوله: (وقال قوم ينبغي أن يعلما) يشير إلى ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى: (من لا معرفة له بالمنطق لا يوثق بعلمه) وسماه حجة الإسلام معيار العلوم.
والقول الثالث التفصيل: أي جوازه لذكي القلب المتمسك بالكتاب والسنة ومنع غيره.
والله أعلم بالصواب.
فاللهم يا ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن علمنا وأحسن إلينا، وأحسن ختامنا، وصل على سيدنا محمد حبيب الرحمن عدد ما يكون وما قد كان، وعلى آله وصحبه وسلم مثل ذلك. آمين
بلال النجار..يتبع
مبادئ المنطق العشرة
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأحمد الله الذي أنطق كل شيء بالحق، وجعل العالم عليه برهاناً ساطعاً، أن بلغني للشروع بإنجاز ما وعدت في رسالة الترحيب، وأسأله جل وعلا أن يخرجنا من ظلمات الوهم، ويفتح علينا بمعرفة العلم، إنه سميع مجيب.
وهذا كلام في علم المنطق أنجمه تقريباً للفهم، وتيسيراً للمبتدي لكي تحسن متابعته، وتتمكن من نفسه معرفته. والله الموفق للسداد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مقدمة
بكسر الدال بمعنى مُتَقَدِّمَة على غيرها. والتقدير هذه مقدمة، فتكون خبراً مرفوعاً لمبتدأ محذوف.
وقد جرت العادة أن يأتي المصنفون ببعض كلام قبل أن يشرعوا في المقصود ويسمونه مقدمة.
وَحَذْوُنا حَذْوَهُم تزبب قبل التحصرم، وهو من علامات الساعة.
ونقول:
نظم أبو العرفان الصبان، مبادي العلوم قال:
إن مبادي كل فن عشرة = الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبة والواضع = الاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى = ومن درى الجميع حاز الشرفا
والمنطق فن -أي علم- كغيره من العلوم.
فنذكر في هذه المقدمة ما تيسر من مبادئه.
فأما اسمه: فهو المنطق.
وهذا الاسم لفظ مشترك بين ثلاثة معاني:
الأول مصدر ميمي بمعنى الإدراك الكلي من نطق بمعنى فهم المعاني الكلية.
الثاني اسم مكان وهو القوة العاقلة التي هي محل صدور تلك الإدراكات.
والثالث: مصدر ميمي بمعنى اللفظ الذي يبين ويظهر فهم المتكلم لهذه الإدراكات أي المدرَكات.
ولما كثر في هذا العلم أمثال هذه المدرَكات، ولما كان يحصل مع تعلمه زيادة وكمال في القوة العاقلة.
ولما لوحظ أن محصِّله عند مراسه تحدث فيه ملكة يُقتدر معها على إدراك معان كثيرة من دالات تبدو فجة وقليلة.
وعلى التعبير عن مراداته من المعاني، بألفاظ توافقها، وتحددها، بأخصر عبارة من دون إخلال، حُقَّ لهذا العلم عند اجتماع ذلك كله فيه أن يسمى بالمنطق.
ويسمى أيضاً معيار العلوم، وعلم الميزان، وسيتبين لك سبب تسميته بذلك، عما قريب إن شاء الله تعالى حين نتناول بالنقد بعض القضايا على أساس من قواعد المنطق.
أما ثمرته أي فائدته وبيان الحاجة إليه: فلما كان العقلاء يناقض بعضهم بعضاً في القضايا التي يحتاج فيها إلى النظر والاكتساب، حتى إن الإنسان الواحد ربما يقول ما يناقض مقالة سابقة له، برزت الحاجة إلى آلة قانونية تفيد في عصمة الأذهان عن الخطأ في الفكر، وتفيد في معرفة طرق تحصيل القضايا النظرية من القضايا الضرورية المسلّمة. ويحتكم إليها في معرفة صحة أو فساد نظر الناظرين.
وعليه فيعرّف المنطق تعريفاً رسمياً (لأنه تعريف بالغاية التي هي الفائدة، وسيأتي بيان الرسم عند الحديث عن المعرفات، وبيان السبب في عدم تعريف العلوم تعريفاً حدياً حقيقياً) بأنه: قانون تعصم مراعاته الذهن عن الوقوع في الغلط.
وسمي المنطق قانوناً لأن مسائله قوانين أي قواعد كلية تنطبق على جزئياتها. وهذه القوانين في الحقيقة هي عبارة عن الإدراكات الكلية للنفس، وهي ما سميناه نطقاً أو منطقاً عند الحديث عن اسم هذا العلم.
ويدل على هذا النطق النفساني أو الباطني النطق بالألفاظ الظاهرة أي الكلام بالحروف والأصوات والمقاطع المعروفة في كل لغة من اللغات.
ويلاحظ مع تعلم المنطق حدة في الأذهان وتفتقها عن دقائق المعاني، وقوة عارضة تتمكن شيئاً فشيئاً في النفس.
ومما يدل على اكتساب النفس لهذه الصفات، ما يظهر معها من اقتدار على اقتناص اللفظ الدال على متعلقه من المدرَكات الكلية، وحسن تفهم المقروء والمسموع، والبراعة في نقده، وطول التأمل وإدمان النظر، وكثرة استخدام القوة الفكرية، والحد من استخدام القوة المخيلة، فيكثر في الصمت الفكر، ويندر الاشتطاط في الخيال وأحلام اليقظة كما يسمونها. وكل ذلك وأضعافه يورثه علم الكلام، فمعه بدء الارتفاع من سفساف الأمور إلى معاليها في كل فعل يكتسب.
وأما نسبته: فإن نسبة المنطق للعقل تشبه نسبة علم النحو للسان المتكلم. فكما أن متعلم النحو كلما ازداد منه تمكناً قل خطؤه ولحنه في تحريك أواخر الكلمات التي يلفظها، حتى إذا رسخت قواعده في نفسه ندر بل ربما استحال عادة عليه أن يلحن.
فكذا المنطقي كلما رسخ في هذا العلم، ندر وقوعه في الخطأ في الفكر، فتعصم مراعاة قواعده الذهن عن الغلط في فكره.
وأما موضوعه: فاعلم أولاً أن موضوع كل علم هو الشيء الذي يُبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية (سيأتي بيان هذه المعاني بتفصيل إن شاء الله فلا تتعجل تحصيل معاني ما لم تألفه من المصطلحات).
فمثلاً:
الكلمة هي موضوع علم النحو، فإنه يبحث في علم النحو عما يعرض لها من إعراب وبناء.
والبدن هو موضوع علم الطب لأنه يبحث في علم الطب عما يعرض له من صحة واعتلال.
والعناصر موضوع علم الكيمياء فإنه يبحث في الكيمياء عما يعرض لهذه العناصر من تفاعلات وما ينتج عنها من تركب وانحلال، وما ينشأ عن ذلك من صفات للمواد الناتجة، وما يصاحب ذلك من تحولات في الطاقة إلى غير ذلك.
إذا توضح ذلك فنقول:
موضوع علم المنطق هو المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة إيصالها إلى المجهولات (وسيأتي تقسيم العلم إلى التصور والتصديق والتفريق بينهما، قريباً إن شاء الله تعالى). لأن المنطقي يبحث عن أحوال تلك المعلومات التي معها يتوصل إلى المجهولات أي إلى تصورات وتصديقات لم تكن معلومة لديه، فعلمت عند عروض أحوال معينة على المعلومات الأولى، كما يبحث فيما يتوقف عليه هذا الإيصال.
ولا ريب أن هذه الأحوال التي يبحث عنها في المنطق هي أمور عارضة على المعلومات التصورية والتصديقية.
فمثال البحث عن الأحوال العارضة على معلومين تصوريين للتوصل إلى مجهول تصوري: الحكم بأن الجنس كالحيوان والفصل كالناطق إذا ركبا على الوجه المخصوص توصل مع المجموع إلى مجهول تصوري وهو هنا الإنسان.
ومثال البحث عن الأحوال العارضة على معلومين تصديقيين للتوصل إلى مجهول تصديقي: الحكم بأن القضيتين كقول المتكلم: العالم متغير، وكل متغير حادث؛ إذا ركبا على الوجه المخصوص حصل قياس يتوصل معه إلى مجهول تصديقي وهو العلم بأن العالم حادث.
ومثال البحث فيما يتوقف عليه هذا الإيصال والذي هو أيضاً من الأحوال العارضة للمعلومات، فنتركه الآن لأن شرحه يتوقف على فهم مقدمات أكثر لم نأت على ذكرها بعد، وسنأتي على إعادة شرح ما وضعناه في هذه الفقرة.
والمثال الذي تركناه بتفصيل وشرح مطول إن شاء الله تعالى، حين تتوفر للقارئ مقدمات كافية لبحث هذا الأمر معه.
فلا تسأم أيها الأخ الكريم المبتدي، ولا تظنن أن هذا العلم أصعب من أن يفهم.
وما عليك في هذه المرحلة إلا أن تقرأ وتجتهد في فهم ما هو موجود، فإن أرتج عليك فهم شيء منه بعد عدة محاولات، فاتركه وامش، لأنا سنعود إلى الكلام في كل ما نقوله مراراً، ونعرضه بطرق مختلفة، ولك أن تسأل وتبحث في الكتب، ونحن بدورنا لن نسأم أو نكل بإذن الله من الكلام مع من يظهر اهتماماً وحرصاً على التعلم.
أما واضع هذا العلم فهو إرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير، بمعنى أنه أول من ألّف فيه كتباً.
ووقع في بعض الكتب أن اسمه إرسط بكسر الهمزة وفتحتين على الراء والسين، وهو مختصر من تمام اسمه إرسطاطاليس.
ولا يعيب هذا العلم أن أول من حرر فيه مؤلفاً فيلسوف يوناني؛ كما أننا لا نعيب على الرياضيات ما حرره فيها بعض نوابغ البشر من أمثال فيثاغورس ونيوتن وليبنز وديكارت، ولا على الفيزياء ما توصل إليه آينشتاين وغاليليو وشرودينغر وفارادي وغيرهم. فإن هؤلاء قوم عقلاء، يحترم ما أضافوه لمعارف الإنسان، ولا يلتفت إلى كونهم مسلمين أو لا؛ فإذا برهنوا على قضية ادعوها فاعلم أنها صارت علماً، وكل علم فهو محمود من حيث ما هو علم وهبة من الله سبحانه وتعالى، ولا يخلق بالعاقل أن ينتقص من أي علم من العلوم، وإنما شرف العلوم بشرف المتعلَّم فيها، أي بشرف متعلقاتها ومواضيعها والمبحوث عنه فيها.
واعلم أن كل علم فلا يمكن أن يتنافى مع الشرع، لأن الشرائع لا يمكن أن تأتي بما تحيله وتبطله العقول.
والعلوم كلها تلتقي مع بعضها، ويلتقي مجموعها مع الشرع في تناغم عجيب، يقف العقل أمامه مندهشاً، والجلد مقشعراً، والعين دامعة، واللسان حامداً لمدبر هذا الكون. فسبحان الذي علم الإنسان ما لم يعلم، ودله على نفسه بما لا يحصى من الدلائل التي تحيط بنا وتأسرنا وتملأ سمعنا وبصرنا وحواسنا وأنفسنا، ويمر عليها أكثر من ثلاثة أرباع البشر مصبحين وبالليل دون أن يلقوا لها بالاً، قتل الإنسان ما أكفره!
إذاً فهذا علم شريف، وفضله يعرف بمعرفة أنه من مبادئ علم الكلام الذي هو أشرف العلوم، وأنه من مبادئ علم أصول الفقه، وأن منفعته وفائدته عامة في كل علم من العلوم، فمن ذلك أنه مفيد في إثبات بعض العقائد الدينية بالبراهين العقلية، وتزييف العقائد الباطلة الفاسدة.
واستمداده من العقل كما لا يخفى على المتأمل، فإن النفس تذعن لمسائله، والعقل يوافق عليها ويجدها مغروسة فيه.
ومسائله هي القضايا النظرية الباحثة عن هيئة التعريف والقياس وما تعلق بهما. وسنأتي إلى بيان ذلك إن شاء الله بتفصيل حين نشرع في مسائله.
أما حكم الاشتغال به شرعاً، بعد أن انتهى إلينا منقحاً غير مشوب بكلام الفلاسفة الذي فيه الحق وفيه الباطل، فهذا المنطق المحرر المحمود الذي منه السلم وشروحه، ومختصر الإمام السنوسي، ورسالة إيساغوجي لأثير الدين الأبهري، والرسالة الشمسية للكاتبي، وكتاب تهذيب المنطق لسعد الملة والدين العلامة المحقق التفتازاني:
لا خلاف في جواز الاشتغال به، ولا يمنع من طلبه وتحصيله إلا البله ممن لا فهم لهم. بل هو فرض كفاية كما وقع في بعض الكتب.
وأما ذاك المخلوط بالفلسفة فحكي فيه الخلاف على ثلاثة أقوال:
الحرمة وهو قول الإمام النووي وابن الصلاح رحمهما الله تعالى.
والقول الثاني قول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى والذي فهم من كلامه إما فرض الكفاية أو الاستحباب، وعبر عن ذلك صاحب السلم بقوله: (وقال قوم ينبغي أن يعلما) يشير إلى ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى: (من لا معرفة له بالمنطق لا يوثق بعلمه) وسماه حجة الإسلام معيار العلوم.
والقول الثالث التفصيل: أي جوازه لذكي القلب المتمسك بالكتاب والسنة ومنع غيره.
والله أعلم بالصواب.
فاللهم يا ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن علمنا وأحسن إلينا، وأحسن ختامنا، وصل على سيدنا محمد حبيب الرحمن عدد ما يكون وما قد كان، وعلى آله وصحبه وسلم مثل ذلك. آمين
بلال النجار..يتبع
عدل سابقا من قبل أبو عبدالرحمن في الإثنين نوفمبر 21, 2011 10:49 pm عدل 1 مرات
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثاني من دروس المنطق للمبتدئين.
آتي فيه بما تيسر من تعريف العلم وما تعلق بذلك من مباحث، تتمة للمقدمة وتمهيداً للدخول في مباحث المنطق.
والله سبحانه الموفق للسداد.
فصل في ما هو العلم الحادث
قيدنا العلم بالحادث لأن العلم القديم الذي هو صفة لله سبحانه وتعالى وحده، لا يمكن لنا إدراك كنهه، كباقي صفات الله سبحانه.
وهو ليس كالعلم الذي نعلمه، كما سيأتي بيانه في آخر هذا الفصل.
والعلم في اصطلاح الأصوليين هو: الإدراك الجازم المطابق للواقع.
أي أنه الفهم أو التعقل الصحيح الجازم الذي يشهد له الواقع.
ولا يوصف الإنسان بأنه عالم بأمر ما وإن قام في نفسه التصور الصحيح عن ذلك الأمر على ما هو به في الواقع إلا إذا كان إدراكه لذلك الأمر جازماً.
لأن من أهم خصائص العلم الجزم وعدم التردد.
والخصيصة الثانية هي المطابقة للواقع فإن كان المرء جازماً بأمر غير صحيح، فلا يسمى إدراكه علماً.
واختلف في أنه هل يحصل الجزم بدون دليل يوجبه، بحيث تقطع النفس بصحة إدراكها، أو لا يحصل إلا بدليل؟.
فقال البعض : إن الدليل شرط كمال للعلم.
وقال بعضهم غير ذلك.
وهذا الأمر مبحوث باستفاضة في كتب المنطق والأصول، وسأكتب إن شاء الله بحثاً صغيراً يتناول تعريفات العلم، وبيان ما نقل عن بعض كبار الأئمة من أنه لا يعرف لعسر ذلك، أو لبداهته، وغير ذلك مما له علاقة بتمييز العلم، وأطرحه للمناقشة في المنتدى قريباً.
وعلى أي حال، يكفينا أن نعرف الآن أن العلم إدراك مخصوص للمعلوم.
وأن الإدراك مطلقاً أعم من العلم الذي بيناه بالمعنى الأصولي.
لأن من الإدراكات أو التعقلات ما هو علمي تقطع النفس بثبوته.
ومنها ما هو ظني تغلّب النفس ثبوته ولكنها لا تقطع، بمعنى أنها تجوز صدقه تجويزاً راجحاً وتجوز عدم صدقه تجويزاً مرجوحاً، ومنها ما هو وهمي يغلب عند العقل أنه غير صحيح.
بمعنى أن العقل يرجح عدم صدقه مع تجويز صدقه تجويزاً مرجوحاً.
ومن الإدراكات ما هو كاذب مخالف قطعاً للواقع، ويسمى جهلاً مركباً.
وقد لا تدرك النفس أمراً معيناً يذكر لها، ويسمى عدم الإدراك هذا جهلاً بسيطاً بذلك الأمر.
أما الشك: فهو توقف النفس في أمر معين بحيث لا تستطيع أن تغلب صدقه أو كذبه.
وهل يسمى الشك إدراكاً أو لا، سنأتي إلى نقاشه في بحثنا الذي أشرنا إليه إن شاء الله تعالى، حيث سنتعمق هنالك بقدر الوسع.
فتحصّل عندنا حتى الآن أن:
العلم إدراك (أي معرفة، أو فهم، أو تعقل) مخصوص. ويلازم هذا العلم على الأقل الجزم (أي: القطع، أو اليقين...)، والمطابقة للواقع.
فإذا فقد أياً من هاتين الخصيصتين فلا يسمى ما قام في النفس علماً.
والظن أدنى منه، لفقده ميزة الجزم، وقد يكون مطابقاً للواقع أو غير مطابق.
ودونه الشك، حيث تتوقف النفس فيه فلا تدري ما تختار من المحتملات عندها.
وهو يختلف عن الجهل في أن توقف الجاهل في إدراك أمر ما سببه أن نفسه لا تعلق بينها وبين ذلك المذكور مطلقاً، فكأنها لم تسمع به مطلقاً، كما تقف مثلاً أمام كلمة مكتوبة بلغة صينية على ورقة بيضاء فاقداً لكل قرينة يمكن أن توحي لك بمعناها، فإنك عندها تتوقف فيها توقف الجاهل بمعناها لا توقف الشاك فيه.
والوهم دون الشك، وقد بيناه.
ودونه الجهل البسيط وهو عدم إدراك الشيء أي عدم العلم به، وقد بيناه. أما الجهل المركب فهو إدراك الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، كمن يعتقد أن الله تعالى له حد، أو أنه جسم، أو أن العالم قديم.
فهذا وإن جزم بهذه الأقوال فإنه لا يمكن أن ينقلب جهله هذا علماً، لأنه غير مطابق للواقع، لقيام الدليل العقلي القاطع على بطلان اعتقاده.
أما في اصطلاح أهل المنطق، فالعلم هو الإدراك مطلقاً، فيدخل فيه العلم بالمعنى الأصولي أي الجازم المطابق، ويدخل فيه الظنّ، والوهم، ويدخل فيه الجهل المركب. وقد يدخل غير ذلك. ويميز كلّ نوع من أنواع الإدراك هذه بالإضافة. أي بأن يقال علم يقيني أو قطعين وعلم ظنيّ، وعلم وهمي... إلخ، فتنبه لاصطلاحهم هذا فكثيراً ما يقع فيه الغلط من المبتدئين.
ويمكن أن يعرّف الإدراك بتقسيمه:
إلى تصور .
وإلى تصديق.
فأما التصور فهو إدراك الذوات.
وأما التصديق: فهو إدراك نسبة هذه الذوات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات.
مثال التصور: إدراكك لمعنى جسم، وحركة، وسكون، وزيد، وعالم، وحيوان، ونبات، وقديم، وحادث، إلى غير ذلك من الأسماء المفردة، التي وضعها واضع اللغة للدلالة على الذوات التي تعرف عليها عقل الإنسان. تأمل.
والتصديق: هو أن تعلم مثلاً معنى مفرداً كالذرة ثم تعلم معنى مفرداً آخر مثل الانقسام، ثم تنسب الانقسام إلى الذرة.
فتقول: الذرة منقسمة. بمعنى أن الذرة قابلة للانقسام.
ولاحظ أن التصديق أو التكذيب لا يمكن أن يتطرق إلى الألفاظ المفردة الدالة على معاني الذوات، ولكنه يتطرق إلى اللفظ المركب من مفردين، نسب أحدهما إلى الآخر، وهو ما يسمى خبراً أو قضية كما ستعرف لاحقاً.
فهذا القدر الذي يمكنك أن تحكم عليه بالصدق أو الكذب، يسمى إدراك النسبة الخبرية فيه تصديقاً، ويكون تصديقاً علمياً إذا كان مطابقاً للواقع وجزمت النفس به، بمعنى أنه انكشف للنفس انكشافاً تاماً وثبتت عليه واطمأنت إليه دون تردد.
وأما إدراكنا لمعنى كل واحد من اللفظين المفردين المنتسبين إلى بعضهما هنا، فيسمى تصوراً.
ويكون تصوراً علمياً إذا كان مطابقاً للواقع وجزمت النفس به، أي تحققت فيه خصيصتا العلم اللتين أشرنا إليهما سابقاً.
ودعونا نتقدم خطوة إلى الأمام، قلنا:
إن إدراك المفرد تصور.
وبعبارة أخرى:
التصور هو الإدراك غير المشتمل على نسبة حكمية.
فكم من التصورات لدينا في قضيتنا التالية:
الذرة منقسمة؟
لدينا أولاً: تصور الذرة وهي المحكوم عليه.
وثانياً: تصور الانقسام وهو المحكوم به.
وثالثاً: تصور النسبة بين المبتدأ والخبر، أي هذا التعلق الذرة والانقسام، أي تصور انقسام الذرة دون الحكم على هذه النسبة بأنها واقعة أو غير واقعة.
وزاد الإمام الرازي رضي الله عنه تصوراً رابعاً وهو: تصور هذه النسبة واقعة أو ليست بواقعة.
أي التصور الذي هو حكم الناظر بأن الذرة منقسمة، أو حكمه أنها ليست بمنقسمة.
وسمى الإمام مجموع هذه التصورات الأربعة تصديقاً.
فيكون التصديق عند الإمام مركباً وكل تصور من هذه التصورات هو جزء من التصديق.
أما عند الحكماء (الفلاسفة) فالتصورات الثلاثة الأولى أي تصور الطرفين والنسبة بينهما هي شروط غير داخلة في حقيقة التصديق، لأن التصديق عندهم هو الحكم الذي هو التصور الرابع عند الإمام.
فيكون التصديق بسيطاً عند الحكماء لا مركباً.
وقد نعرض لاحقاً إلى منشأ الخلاف بين الفريقين، وما ينبني على هذا الخلاف، كما سنحقق أكثر في مفهوم النسبة، وأنواعها، وما هي النسبة التي يسمى إدراكها تصوراً، وما هي النسبة التي يسمى إدراكها تصديقاً، وعلى أي وجه يتم ذلك.
ثم بعد أن عرفنا ما هو العلم، وقسمناه إلى تصور وتصديق، ووقفنا على الفرق بينهما على عجل:
فاعلم:
أن كلاً من التصور والتصديق إما أن يكون ضرورياً أي يحصل للنفس بالاضطرار ودون تأمل ونظر واكتساب، أو يحتاج في حصوله إلى ذلك ويسمى نظرياً أو كسبياً.
ومثال التصور الضروري تصورك لوجودك، ولمعنى أرض أو سماء أو زيد المعروف لديك، أو الواحد، أو الكثير، وأمثال ذلك من المفردات، فإنه بمجرد ذكرها ينكشف معناها للنفس ودون روية وفكر.
ومثال التصور النظري إدراكك لحقيقة الإنسان أو الذرة أو الحاسوب الذي تجلس أمامه، وأمثال ذلك من الحقائق التي تحتاج إلى إدراك أشياء قد تقل أو تكثر قبل أن تتمكن من إدراك حقيقتها.
وذلك يحتاج منك إلى نظر وكسب وبذل جهد فلذلك سميت أمثال هذه التصورات كسبية أو نظرية.
ومثال التصديق الضروري التصديق بأن الواحد نصف الإثنين، أو أن الكل أكبر من جزئه، أو أن زيت الخروع مسهل، وأن الشمس تطلع في النهار، وتظهر من الشرق، وأمثال ذلك من القضايا التي بمجرد أن تتصور طرفيها تصدق بها دون نظر أو فكر.
وقد يحتاج فيه إلى التنبيه إذا لم يكن شيء من التصورات اللازمة له مألوفة للعقل، ففي مثالنا على زيت الخروع قد يتوقف السامع في التصديق بهذه القضية لأنه لم يألف اسم زيت الخروع، فإنه قد يستخدم في بلده اسماً آخر له فيقال له زيت الخروع هو ما تسمونه كذا وكذا في بلادكم، فإذا تصوره وافق على ما نقول. وهكذا في باقي التصورات التي تتألف منها القضية.
وأما مثال التصديق النظري فهو كقولنا: العالم حادث، فإن كثيراً من الناس سوف ينازعوننا في ذلك.
وكقولنا: محمد رسول الله إلى العالمين.
أو قولنا: إن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقولنا: إن الإمام لا تشترط فيه العصمة.
وغير ذلك من القضايا التي يخالفك فيها البعض.
فهذه تحتاج منهم لكي يوافقوا عليها أن يطلعوا على مقدمات ترتب في صورة معينة، بحيث إذا سلموا تلك المقدمات سلموا هذه القضايا الناتجة عنها.
فمثلاً إذا سلم لك الخصم أن (العالم متغير) وسلم لك أن (كل متغير فهو حادث) لزمه أن يسلم بأن (العالم حادث).
ويسمى ما يتوصل به إلى التصديق بالحجة، وسنأتي إليها بتفصيل لاحقاً.
ويسمى ما يتوصل به إلى تصور بالقول الشارح أي التعريف أو المعرّف أو الحد.
وسنأتي عليه بتفصيل قريباً عند بحثنا للمعرفات.
واعلم أن بعض العلماء المتقدمين سموا إدراك المفردات معرفة، وسموا إدراك النسب الخبرية علماً.
استناداً إلى قول النحاة: المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد، والعلم يتعدى إلى مفعولين.
وهو نظر لطيف، ولا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا اختلاف بيننا وبينهم في مفهوم قسمي العلم، وما أثبتناه هو ما استقر وجرى عليه المتأخرون.
وبعد أن بان لك ما بان، فإنك تعرف الآن أن:
العلم الذي نعلمه إنما ينقسم إلى تصور وتصديق، وعلم الله سبحانه لا ينقسم، فكيف يتعدد علمه تعالى ويتنوع، وهو صفته الواحدة، وهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله.
وتعرف الآن أن هذا العلم منه ضروري ومنه كسبي، والله تعالى عالم بجميع المعلومات علماً قديماً لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس شيء من علمه ليس بحاصل ليحصل ببديهة أو بكسب تعالى الله وتنزه عن ذلك.
ثم إن العلم الذي بين أيدينا مفسر بالإدراك، وهو وصول النفس إلى تمام المعنى، وهذا الوصف للعلم يتنافى مع القدم الموصوف به علم الله تعالى.
وكذلك فإن هذا الوصف إنما يتصور في الأجسام والأنفس حيث تنطبع صور المعلومات.
وفي وصف علمه تعالى بأنه تصور أو تصديق وإن أريد به معنى صحيح، إيهام بأنه تعالى جسم، أو أن له نفساً تنطبع فيها الصور، كيف وهو الذي ليس كمثله شيء سبحانه.
ومن أراد الاستزادة فليراجع مبحث العلم في محله من كتب الكلام. فإنه يجاب بأكثر من ذلك عن هذه المسألة.
وأخيراً:
إذا لم تستطع أن تضبط المفرد، فلا تبتئس بما صنعنا، فسنعود إلى الكلام في المفرد والفرق بينه وبين المركب في الدرس القادم أو الذي يليه عند الشروع في إيساغوجي، أي مبحث الكليات الخمس.
وإنما نبذل جهدنا، والتوفيق من الله تعالى.
فإذا انتفعت يا أخي بشيء من هذا الكلام فاسأل الله لك ولي أن يغفر لنا ولوالدينا ولمن علمنا وأحسن إلينا.
وصلِّ اللهمَّ على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، قدر عظم ذاتك في كل وقت وحين.
آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثاني من دروس المنطق للمبتدئين.
آتي فيه بما تيسر من تعريف العلم وما تعلق بذلك من مباحث، تتمة للمقدمة وتمهيداً للدخول في مباحث المنطق.
والله سبحانه الموفق للسداد.
فصل في ما هو العلم الحادث
قيدنا العلم بالحادث لأن العلم القديم الذي هو صفة لله سبحانه وتعالى وحده، لا يمكن لنا إدراك كنهه، كباقي صفات الله سبحانه.
وهو ليس كالعلم الذي نعلمه، كما سيأتي بيانه في آخر هذا الفصل.
والعلم في اصطلاح الأصوليين هو: الإدراك الجازم المطابق للواقع.
أي أنه الفهم أو التعقل الصحيح الجازم الذي يشهد له الواقع.
ولا يوصف الإنسان بأنه عالم بأمر ما وإن قام في نفسه التصور الصحيح عن ذلك الأمر على ما هو به في الواقع إلا إذا كان إدراكه لذلك الأمر جازماً.
لأن من أهم خصائص العلم الجزم وعدم التردد.
والخصيصة الثانية هي المطابقة للواقع فإن كان المرء جازماً بأمر غير صحيح، فلا يسمى إدراكه علماً.
واختلف في أنه هل يحصل الجزم بدون دليل يوجبه، بحيث تقطع النفس بصحة إدراكها، أو لا يحصل إلا بدليل؟.
فقال البعض : إن الدليل شرط كمال للعلم.
وقال بعضهم غير ذلك.
وهذا الأمر مبحوث باستفاضة في كتب المنطق والأصول، وسأكتب إن شاء الله بحثاً صغيراً يتناول تعريفات العلم، وبيان ما نقل عن بعض كبار الأئمة من أنه لا يعرف لعسر ذلك، أو لبداهته، وغير ذلك مما له علاقة بتمييز العلم، وأطرحه للمناقشة في المنتدى قريباً.
وعلى أي حال، يكفينا أن نعرف الآن أن العلم إدراك مخصوص للمعلوم.
وأن الإدراك مطلقاً أعم من العلم الذي بيناه بالمعنى الأصولي.
لأن من الإدراكات أو التعقلات ما هو علمي تقطع النفس بثبوته.
ومنها ما هو ظني تغلّب النفس ثبوته ولكنها لا تقطع، بمعنى أنها تجوز صدقه تجويزاً راجحاً وتجوز عدم صدقه تجويزاً مرجوحاً، ومنها ما هو وهمي يغلب عند العقل أنه غير صحيح.
بمعنى أن العقل يرجح عدم صدقه مع تجويز صدقه تجويزاً مرجوحاً.
ومن الإدراكات ما هو كاذب مخالف قطعاً للواقع، ويسمى جهلاً مركباً.
وقد لا تدرك النفس أمراً معيناً يذكر لها، ويسمى عدم الإدراك هذا جهلاً بسيطاً بذلك الأمر.
أما الشك: فهو توقف النفس في أمر معين بحيث لا تستطيع أن تغلب صدقه أو كذبه.
وهل يسمى الشك إدراكاً أو لا، سنأتي إلى نقاشه في بحثنا الذي أشرنا إليه إن شاء الله تعالى، حيث سنتعمق هنالك بقدر الوسع.
فتحصّل عندنا حتى الآن أن:
العلم إدراك (أي معرفة، أو فهم، أو تعقل) مخصوص. ويلازم هذا العلم على الأقل الجزم (أي: القطع، أو اليقين...)، والمطابقة للواقع.
فإذا فقد أياً من هاتين الخصيصتين فلا يسمى ما قام في النفس علماً.
والظن أدنى منه، لفقده ميزة الجزم، وقد يكون مطابقاً للواقع أو غير مطابق.
ودونه الشك، حيث تتوقف النفس فيه فلا تدري ما تختار من المحتملات عندها.
وهو يختلف عن الجهل في أن توقف الجاهل في إدراك أمر ما سببه أن نفسه لا تعلق بينها وبين ذلك المذكور مطلقاً، فكأنها لم تسمع به مطلقاً، كما تقف مثلاً أمام كلمة مكتوبة بلغة صينية على ورقة بيضاء فاقداً لكل قرينة يمكن أن توحي لك بمعناها، فإنك عندها تتوقف فيها توقف الجاهل بمعناها لا توقف الشاك فيه.
والوهم دون الشك، وقد بيناه.
ودونه الجهل البسيط وهو عدم إدراك الشيء أي عدم العلم به، وقد بيناه. أما الجهل المركب فهو إدراك الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، كمن يعتقد أن الله تعالى له حد، أو أنه جسم، أو أن العالم قديم.
فهذا وإن جزم بهذه الأقوال فإنه لا يمكن أن ينقلب جهله هذا علماً، لأنه غير مطابق للواقع، لقيام الدليل العقلي القاطع على بطلان اعتقاده.
أما في اصطلاح أهل المنطق، فالعلم هو الإدراك مطلقاً، فيدخل فيه العلم بالمعنى الأصولي أي الجازم المطابق، ويدخل فيه الظنّ، والوهم، ويدخل فيه الجهل المركب. وقد يدخل غير ذلك. ويميز كلّ نوع من أنواع الإدراك هذه بالإضافة. أي بأن يقال علم يقيني أو قطعين وعلم ظنيّ، وعلم وهمي... إلخ، فتنبه لاصطلاحهم هذا فكثيراً ما يقع فيه الغلط من المبتدئين.
ويمكن أن يعرّف الإدراك بتقسيمه:
إلى تصور .
وإلى تصديق.
فأما التصور فهو إدراك الذوات.
وأما التصديق: فهو إدراك نسبة هذه الذوات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات.
مثال التصور: إدراكك لمعنى جسم، وحركة، وسكون، وزيد، وعالم، وحيوان، ونبات، وقديم، وحادث، إلى غير ذلك من الأسماء المفردة، التي وضعها واضع اللغة للدلالة على الذوات التي تعرف عليها عقل الإنسان. تأمل.
والتصديق: هو أن تعلم مثلاً معنى مفرداً كالذرة ثم تعلم معنى مفرداً آخر مثل الانقسام، ثم تنسب الانقسام إلى الذرة.
فتقول: الذرة منقسمة. بمعنى أن الذرة قابلة للانقسام.
ولاحظ أن التصديق أو التكذيب لا يمكن أن يتطرق إلى الألفاظ المفردة الدالة على معاني الذوات، ولكنه يتطرق إلى اللفظ المركب من مفردين، نسب أحدهما إلى الآخر، وهو ما يسمى خبراً أو قضية كما ستعرف لاحقاً.
فهذا القدر الذي يمكنك أن تحكم عليه بالصدق أو الكذب، يسمى إدراك النسبة الخبرية فيه تصديقاً، ويكون تصديقاً علمياً إذا كان مطابقاً للواقع وجزمت النفس به، بمعنى أنه انكشف للنفس انكشافاً تاماً وثبتت عليه واطمأنت إليه دون تردد.
وأما إدراكنا لمعنى كل واحد من اللفظين المفردين المنتسبين إلى بعضهما هنا، فيسمى تصوراً.
ويكون تصوراً علمياً إذا كان مطابقاً للواقع وجزمت النفس به، أي تحققت فيه خصيصتا العلم اللتين أشرنا إليهما سابقاً.
ودعونا نتقدم خطوة إلى الأمام، قلنا:
إن إدراك المفرد تصور.
وبعبارة أخرى:
التصور هو الإدراك غير المشتمل على نسبة حكمية.
فكم من التصورات لدينا في قضيتنا التالية:
الذرة منقسمة؟
لدينا أولاً: تصور الذرة وهي المحكوم عليه.
وثانياً: تصور الانقسام وهو المحكوم به.
وثالثاً: تصور النسبة بين المبتدأ والخبر، أي هذا التعلق الذرة والانقسام، أي تصور انقسام الذرة دون الحكم على هذه النسبة بأنها واقعة أو غير واقعة.
وزاد الإمام الرازي رضي الله عنه تصوراً رابعاً وهو: تصور هذه النسبة واقعة أو ليست بواقعة.
أي التصور الذي هو حكم الناظر بأن الذرة منقسمة، أو حكمه أنها ليست بمنقسمة.
وسمى الإمام مجموع هذه التصورات الأربعة تصديقاً.
فيكون التصديق عند الإمام مركباً وكل تصور من هذه التصورات هو جزء من التصديق.
أما عند الحكماء (الفلاسفة) فالتصورات الثلاثة الأولى أي تصور الطرفين والنسبة بينهما هي شروط غير داخلة في حقيقة التصديق، لأن التصديق عندهم هو الحكم الذي هو التصور الرابع عند الإمام.
فيكون التصديق بسيطاً عند الحكماء لا مركباً.
وقد نعرض لاحقاً إلى منشأ الخلاف بين الفريقين، وما ينبني على هذا الخلاف، كما سنحقق أكثر في مفهوم النسبة، وأنواعها، وما هي النسبة التي يسمى إدراكها تصوراً، وما هي النسبة التي يسمى إدراكها تصديقاً، وعلى أي وجه يتم ذلك.
ثم بعد أن عرفنا ما هو العلم، وقسمناه إلى تصور وتصديق، ووقفنا على الفرق بينهما على عجل:
فاعلم:
أن كلاً من التصور والتصديق إما أن يكون ضرورياً أي يحصل للنفس بالاضطرار ودون تأمل ونظر واكتساب، أو يحتاج في حصوله إلى ذلك ويسمى نظرياً أو كسبياً.
ومثال التصور الضروري تصورك لوجودك، ولمعنى أرض أو سماء أو زيد المعروف لديك، أو الواحد، أو الكثير، وأمثال ذلك من المفردات، فإنه بمجرد ذكرها ينكشف معناها للنفس ودون روية وفكر.
ومثال التصور النظري إدراكك لحقيقة الإنسان أو الذرة أو الحاسوب الذي تجلس أمامه، وأمثال ذلك من الحقائق التي تحتاج إلى إدراك أشياء قد تقل أو تكثر قبل أن تتمكن من إدراك حقيقتها.
وذلك يحتاج منك إلى نظر وكسب وبذل جهد فلذلك سميت أمثال هذه التصورات كسبية أو نظرية.
ومثال التصديق الضروري التصديق بأن الواحد نصف الإثنين، أو أن الكل أكبر من جزئه، أو أن زيت الخروع مسهل، وأن الشمس تطلع في النهار، وتظهر من الشرق، وأمثال ذلك من القضايا التي بمجرد أن تتصور طرفيها تصدق بها دون نظر أو فكر.
وقد يحتاج فيه إلى التنبيه إذا لم يكن شيء من التصورات اللازمة له مألوفة للعقل، ففي مثالنا على زيت الخروع قد يتوقف السامع في التصديق بهذه القضية لأنه لم يألف اسم زيت الخروع، فإنه قد يستخدم في بلده اسماً آخر له فيقال له زيت الخروع هو ما تسمونه كذا وكذا في بلادكم، فإذا تصوره وافق على ما نقول. وهكذا في باقي التصورات التي تتألف منها القضية.
وأما مثال التصديق النظري فهو كقولنا: العالم حادث، فإن كثيراً من الناس سوف ينازعوننا في ذلك.
وكقولنا: محمد رسول الله إلى العالمين.
أو قولنا: إن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقولنا: إن الإمام لا تشترط فيه العصمة.
وغير ذلك من القضايا التي يخالفك فيها البعض.
فهذه تحتاج منهم لكي يوافقوا عليها أن يطلعوا على مقدمات ترتب في صورة معينة، بحيث إذا سلموا تلك المقدمات سلموا هذه القضايا الناتجة عنها.
فمثلاً إذا سلم لك الخصم أن (العالم متغير) وسلم لك أن (كل متغير فهو حادث) لزمه أن يسلم بأن (العالم حادث).
ويسمى ما يتوصل به إلى التصديق بالحجة، وسنأتي إليها بتفصيل لاحقاً.
ويسمى ما يتوصل به إلى تصور بالقول الشارح أي التعريف أو المعرّف أو الحد.
وسنأتي عليه بتفصيل قريباً عند بحثنا للمعرفات.
واعلم أن بعض العلماء المتقدمين سموا إدراك المفردات معرفة، وسموا إدراك النسب الخبرية علماً.
استناداً إلى قول النحاة: المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد، والعلم يتعدى إلى مفعولين.
وهو نظر لطيف، ولا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا اختلاف بيننا وبينهم في مفهوم قسمي العلم، وما أثبتناه هو ما استقر وجرى عليه المتأخرون.
وبعد أن بان لك ما بان، فإنك تعرف الآن أن:
العلم الذي نعلمه إنما ينقسم إلى تصور وتصديق، وعلم الله سبحانه لا ينقسم، فكيف يتعدد علمه تعالى ويتنوع، وهو صفته الواحدة، وهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله.
وتعرف الآن أن هذا العلم منه ضروري ومنه كسبي، والله تعالى عالم بجميع المعلومات علماً قديماً لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس شيء من علمه ليس بحاصل ليحصل ببديهة أو بكسب تعالى الله وتنزه عن ذلك.
ثم إن العلم الذي بين أيدينا مفسر بالإدراك، وهو وصول النفس إلى تمام المعنى، وهذا الوصف للعلم يتنافى مع القدم الموصوف به علم الله تعالى.
وكذلك فإن هذا الوصف إنما يتصور في الأجسام والأنفس حيث تنطبع صور المعلومات.
وفي وصف علمه تعالى بأنه تصور أو تصديق وإن أريد به معنى صحيح، إيهام بأنه تعالى جسم، أو أن له نفساً تنطبع فيها الصور، كيف وهو الذي ليس كمثله شيء سبحانه.
ومن أراد الاستزادة فليراجع مبحث العلم في محله من كتب الكلام. فإنه يجاب بأكثر من ذلك عن هذه المسألة.
وأخيراً:
إذا لم تستطع أن تضبط المفرد، فلا تبتئس بما صنعنا، فسنعود إلى الكلام في المفرد والفرق بينه وبين المركب في الدرس القادم أو الذي يليه عند الشروع في إيساغوجي، أي مبحث الكليات الخمس.
وإنما نبذل جهدنا، والتوفيق من الله تعالى.
فإذا انتفعت يا أخي بشيء من هذا الكلام فاسأل الله لك ولي أن يغفر لنا ولوالدينا ولمن علمنا وأحسن إلينا.
وصلِّ اللهمَّ على عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، قدر عظم ذاتك في كل وقت وحين.
آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
بسم الله الرحمن الرحيم
(فصل في الدلالة)
الدلالة -بتثليث الدال- قيل: فهم أمر من أمر.
واعترض: بأن الدلالة وصف للدال، والفهم وصف للفاهم.
فيلزم على هذا التعريف تفسير ما هو وصف لشيء بما هو وصف لغيره.
وأجيب عنه بجواب حسن، فابحث عنه.
وقالوا: الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. هرباً من الاعتراض.
فأقول: إذا استوقفك ضوء إشارة المرور الأحمر، وأنت تقود سيارتك. فمعنى ذلك أنك فهمت من ضوئها الأحمر هذا أن عليك أن تقف.
فعلى التعريف الأول للدلالة، فتكون قد فهمت أمراً وهو الوقوف من أمر آخر وهو حمرة الإشارة الضوئية.
والتطبيق على التعريف الثاني أن يقال هذه دلالة، لأن ضوء الإشارة في حالة معينة بحيث لزم من العلم به على تلك الحال وهي هنا حمرته، العلم بشيء آخر غيره وهو هنا وجوب الوقوف قانوناً.
ويسمى الأمر الأول المفهوم منه: دالاً.
والأمر الثاني المفهوم من الأول: مدلولاً، والدلالة قد عرفتها.
واعلم أن هذه الدلالة المذكورة في مثالنا، دلالة وضعية، لأن الناس قد تواضعوا أي تعارفوا واصطلحوا وتواطأوا واتفقوا على جعل اللون الأحمر بإزاء الوقوف، والأخضر بإزاء المسير. ولو تواضعوا على غير ذلك لجاز. فإن الوضع معناه جعل الشيء بإزاء شيء آخر بحيث إذا فهم الأول فهم الثاني.
وأريدك أن تلاحظ أنه ما من لفظ صدر عن إشارة المرور ليفيد المعنى الذي فهمه السائق.
وتأمل هذا المثال: حين تعاتب شخصاً على فعله منكراً فيحمر وجهه، فإنك ستفهم من تلك الحمرة التي علت وجهه خجله من فعله. ولكن هذه الحمرة لم يتواضع الناس على جعلها بإزاء الخجل، بل إن الإنسان السوي ذا الفطرة السليمة، بطبعه وأصل خلقته التي فطره الله تعالى عليها إذا خجل احمر وجهه. فلذلك يقال إن الحمرة دلت بالطبع أو الطبيعة أو بالعادة على الخجل. فهي إذاً دلالة طبيعية أو طبعية لا وضعية، ويقال لها أيضاً عادية. ولاحظ أيضاً أنه لم يصدر عن الإنسان الخجل أي لفظ يفيد المعنى الذي فهمه المؤنب، فالحمرة العارضة هذه ليست لفظاً يسمع، بل لوناً يرى.
وإذا سمعت صراخ الجارة وندبها ونواحها وعويلها، فإن هذه الألفاظ الصادرة منها ستدلك على مصيبة ألمت بها، وخطب جلل أحدق بأهلها، ولكن هل فهمت ذلك من نفس لفظها وأصالة وضعه أو من شيء آخر؟
إذا تأملت الألفاظ الصادرة عنها فستجد أنها ما قالت شيئاً يفهم منه ذلك، فلم تقل مثلاً زوجي قد مات. ولكن ما فهمته أنت من ألفاظها فقد فهمته بعقلك، فإن هذه الألفاظ لم توضع من واضع للدلالة على وقوع البلايا، بل قد يكون منها ما هو غير مستعمل أصلاً في اللغة من تلحينات غريبة، وأصوات عجيبة. وأيضاً فإنك لم تفهم ذلك أصالة من الطبع، فإن الإنسان حين تنزل به الرزايا لا يجب عادة أن يصدر تلك الأصوات بعينها بطبيعته، بدليل أن بعض من ألمت به أجل الخطوب وانفعل بها لم يلزم أن يصدر عنه نفس الألفاظ، كما أن كل من انفعل بمخيف علته صفرة عادة، أو انفعل بمخجل علته حمرة عادة. ولعلك تلاحظ أن مثالنا هذا تناول الدلالة اللفظية العقلية.
ولا بد أنك شهدت يوماً شخصاً يغمز آخر بحركة جديدة مبتكرة، غير موضوعة لمعنى معين معروف بين الناس كرفع اليد للسلام أو حركة الرأس لنعم، بل هي حركة جديدة يدرك العقل دلالتها بحسب الحال. أو أنه استعمل حركة ما للدلالة على غير ما وضعت لها تلك الحركة، وأمثلة ذلك لو تأملت في واقعنا كثيرة، فهذه الأمثلة من قبيل الدلالة العقلية غير اللفظية.
فتحصل عندنا من المناقشة:
أن الدلالة ما هي.
وأن الوضع ما هو.
وأن الطبع ما هو.
وتحصل عندنا:
أن الدلالة إما إن تكون لفظية أو غير لفظية.
وعليه فتكون الدلالة بحسب الدال (لا بحسب المدلول. تنبه) ستة أقسام: لأن كلاً من الدلالة اللفظية وغير اللفظية إما أن تكون دلالة على المدلول أصالة بالوضع، أو أصالة بالطبع أو أصالة بالعقل. وهي:
- دلالة لفظية وضعية:
ومثالها: دلالة لفظ الشمس على النجم المعهود، ولفظ إنسان، وفرس، وعنب على الحقايق الموضوعة بإزاء كل واحدة منها. ومن نفس الباب تدل جميع الألفاظ على معانيها التي وضعت أصلاً لها.
- دلالة لفظية طبيعية.
ومثالها: دلالة لفظ الأنين المخصوص على المرض.
- دلالة لفظية عقلية.
ومثالها: دلالة الكلام على حياة المتكلم. والقرآن الكريم كألفاظ عربية على صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربه. فإن الحكم بإعجازه ودلالة ذلك الإعجاز على الصدق من العقل لا من نفس الألفاظ الدالة على معان وضعية معينة.
- دلالة وضعية غير لفظية.
ومثالها: دلالة الرسوم على الألفاظ في جميع اللغات.
- دلالة طبيعية غير لفظية.
ومثالها: الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل، والتثاؤب على الكسل، والشحوب المخصوص على المرض، وحركة عيني النائم تحت الجفن على حلم يراه، وتداعي الجسد بالحمى والسهر على اشتكاء عضو منه من مرض، واجتماع بدن كثير من أنواع الوحش على التأهب للانقضاض، وتغير ألوان الأطياف الضوئية الصادرة عن العناصر على تغير طاقتها، كما يحدث أن يتغير لون الحديد من الأسود في الحالة الصلبة، إلى الأحمر حال شدة مطاوعته وليونته، حتى يصير أبيض اللون في حالة السيولة ... إلخ من طبائع الحيوان والنبات والأشياء.
فكما ترى أنه وإن كانت ملاحظة العقل لتكرار حصول هذه الأشياء هو الكاشف عن كونها قانونية وطبيعية وعادية، إلا أننا نسمي هذه الدلالات طبيعية لكون تلك الأمور دالة بطبعها.
فالطبع والعادة والقانون المودع في نفس ذلك الأمر هو الدال وهو منشأ الإطلاق ومصححه، وقسمتنا هي بحسب الدال لا بحسب الكاشف عن الدلالة كما نبهنا عليه؛ وإلا فإن العقل هو الكاشف عن كل دلالة. فتدبر.
- دلالة عقلية غير لفظية.
ومثالها: تحول العصا إلى حية حقيقية دلالة على صدق موسى عليه السلام فيما يخبر عن ربه. ومثل ذلك جميع معجزات الأنبياء إلا القرآن الكريم الذي بين أيدينا كما ذكرنا فإنه دلالة لفظية عقلية على المعجزة.
والمعتبر من كل ذلك في بحوثنا القادمة هو قسم واحد من هذه الأقسام ألا وهو الدلالة اللفظية الوضعية. لأن المعتمد المنضبط في المباحثات هو اللفظ المفيد بالوضع.
إذ يقل الاختلاف فيه كلغة تفاهم بين العقلاء، وهو أتم الدلالات وأيسرها وأنسبها، وإلا فلا يمنع أن يلجأ للغات أخرى غير لفظية للتعبير عن المعاني القائمة في النفس لأن اشتغال المناطقة وتعويلهم إنما هو على تلك المعاني لا الألفاظ، لذلك تراهم يتجاوزن عن الخلافات اللفظية إذا اتفقوا على المعاني.
فكما أن من الغباء أن يتكلم غير البكم بالإشارة لا عن حاجة، فهكذا ههنا.
والمتأمل سيرى فضل اللفظية الوضعية وانضباطها، بحيث تصلح أكثر من غيرها في هذا الباب.
ولعل بعضكم يستقري الدلالات ويناقشها من جهات صلوحها وعدمه، ويبين لنا لم اعتبر المناطقة هذه الدلالة دون غيرها، مع ذكرهم للأقسام الأخرى وتنبههم لها واعتدادهم بها كدلالات لها مجالاتها وفوائدها.
إذا توضح لك ما مضى:
سهل علينا أن نقول:
إن اللفظ الدال بالوضع على معنى معين إما:
أن يدل على تمام ذلك المعنى، أي يدل على ذلك المعنى بعينه وتمامه بحيث لا يخرج شيء من المعاني التي اعتبرها الواضع ولاحظها في مقابلة اللفظ.
أو لا يدل على تمام ذلك المعنى.
فإذا دل اللفظ على تمام المعنى الموضوع له، سميت الدلالة (وكلامنا من الآن فصاعداً عن الدلالة اللفظية الوضعية كما نبهنا) دلالة مطابقة. وذلك لتطابق أي توافق اللفظ والمعنى.
ومثاله :
دلالة الإنسان على الحيوان الناطق. والفرس على الحيوان الصهال، إلى غير ذلك.
وأرجو أن تلاحظ أيها القارئ الكريم أن دلالة المطابقة قد تكون :
في المعنى المركب كما في دلالة الإنسان على الحيوان الناطق فإنه معنى مركب من الحيوانية والناطقية، وقد تكون في المعنى الذي لا يتصور فيه التركب والتجزي، كما نقول لفظ الجوهر الفرد يدل على الجزء الذي لا يتجزأ وهو معنى بسيط غير مركب، وكما نقول النقطة تدل على طرف الخط، والنقطة ذات ماهيتها بسيطة لا تركب فيها. وكذلك حين نطلق أسماء الله سبحانه الحسنى عليه، فإنها دالة على الذات الأقدس واجب الوجوب الغني المنزه المتعالي عن سمات النقص والحدث من التركب والتبعض ونحوهما مما لا يعقل في القديم.
واعلم أيضاً: أن المطابقة :
واقعة بين اللفظ المفرد والمعنى البسيط.
وواقعة بين اللفظ المفرد والمعنى المركب.
وواقعة بين اللفظ المركب والمعنى البسيط.
وواقعة بين اللفظ المركب والمعنى المركب.
مثال الأول لفظ الله على واجب الوجود، ومثال الثاني الإنسان على الحيوان الناطق، ومثال الثالث واجب الوجود على الإله، ومثال الرابع لفظ أصول الفقه على طرق الفقه المجملة.
وأما إذا لم يكن اللفظ دالاً على تمام المعنى الذي وضع له :
فإما أن يدل على جزء المعنى الموضوع له، أي بأن يكون المعنى الذي وضع له اللفظ معنى مركباً له جزآن فصاعداً فيدل اللفظ على جزء من أجزاء ذلك المعنى المركب.
أو لا يدل حتى على جزء المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه.
فإذا كان اللفظ دالاً على جزء المعنى الذي وضع هذا اللفظ له سميت الدلالة دلالة تضمنية، لكون الجزء في ضمن كل المعنى الموضوع له.
وأريدك أن تلاحظ أن الدلالة التضمنية لا يمكن تصورها إلا في المعاني المركبة أي ذات الأجزاء، بخلاف المطابقية كما بينته لك.
وبقي عندنا من القسمة هذا اللفظ الغريب العجيب:!
الذي لا يدل لا على تمام المعنى الموضوع له، ولا على جزئه، فيلزم من ذلك أن يدل على شيء آخر خارج عن حقيقة المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه.
وهذا القسم من الدلالة هو ما يسمونه دلالة الالتزام. ولا بد فيها من علاقة تلازمية بين المعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً وبين المعنى الآخر المراد من اللفظ، وإلا لكان استعمالاً خاطئاً للفظ في ذلك المعنى، ولا اعتبار به.
فلا يجوز مثلاً :
أن يطلق أحد الأغبياء لفظ الإله ويريد به معنى الجسم، لأن لفظ الإله لا يدل على معنى الجسم بالمطابقة قطعاً حيث لم يوضع لفظ الإله لمعنى الجسم.
وكذا لا يدل عليه بالتضمن قطعاً لأن الجسمية ليست جزء معنى الإله، لأن معنى الإله هو المستغني عن كل ما سواه والمحتاج إليه كل ما عداه، ومن كانت هذه حقيقته سبحانه لا يتصور فيه التجزي، لأنه ليس بكلٍ مفتقرٍ إلى أجزائه، لأنه لا يفتقر إلى شيء مطلقاً.
وكذا لا يدل عليه بالالتزام لأن الجسمية نعم هي خارجة عن حقيقة الإله ولكنها أيضاً ليست لازمة من لوازم معناه. وعليه بطل الإطلاق. فتدبر.
وزيادة في بيان دلالة الالتزام نقول:
هي دلالة اللفظ الموضوع لمعنى معين على معنى آخر خارج عن المعنى الذي وضع اللفظ له أصلاً، ولكن هذا المعنى الخارج عن معنى اللفظ لازم لمعنى اللفظ بحسب الوضع.
ففي دلالة الالتزام ترى لفظاً دالاً على معنى غير المعنى الذي وضع له اللفظ، ولكنه لازم لذلك المعنى الوضعي الأصلي.
وأود منك أن تلاحظ أنه لا بد من اللزوم بين المعنى الوضعي للفظ والمعنى المراد من إطلاقه:
- إما عقلاً، أي في العقل بحيث إذا أطلق اللفظ دل على لازمه دلالة بينة ولم يصح في العقل تخلف المعنى المراد اللازم للمعنى الوضعي، ولا انفكاكه عنه، فيصير كأنه معنى مطابقي للفظ، لقرب ذكره عند ذكر اللفظ الذي لزم هو عن معناه. كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله.
- أو عرفاً، بأن يندر تصور الملزوم دون تصور اللازم، كدلالة حاتم على الجود، فإن الذهن ينتقل إلى ذكر جوده كلما ذكر. وكدلالة المطر على النبات فإنه إذا ذكر المطر عند أهل البوادي انتقلت أذهانهم إلى وجود النبات في محل هطوله. وهذا الانتقال وإن كان بالعقل فإن منشأه العرف لا العقل، لجواز تخلفه وبخاصة عن اختلاف العرف، فإن من الناس من تنتقل أذهانهم إلى السيول والكوارث كلما ذكر المطر لشدة ابتلائهم به، كما لا يخفى على أمثالكم.
واعلم أيها الأخ الكريم:
أن بعض المناطقة :
لم يعتبروا من الدلالة اللزومية الدلالة العرفية.
وبعضهم:
لم يعتبر في المنطق إلا دلالة الالتزام البين بالمعنى الأخص واستثنى زيادة على العرفية دلالة الالتزام البين بالمعنى الأعم ودلالة الالتزام غير البين.
أما دلالة الالتزام البين بالمعنى الأخص فهي التي يكفي فيها تصور الملزوم ليحصل تصور اللازم.
وضابطها:
أن يلزم من مجرد تصور الملزوم تصور لازمه، سواء كان هذا اللازم في الذهن فقط كالبصر للعمى، أو في الذهن والخارج معاً كالزوجية للأربعة.
وأما دلالة الالتزام البين بالمعنى الأعم
التي لم يعتبرها البعض فهي التي يحتاج فيها إلى تصور الملزوم واللازم ليحكم الذهن بالتلازم بينهما.
وضابطها:
أن يلزم من فهم الملزوم واللازم الجزم باللزوم بينهما، سواء كان يلزم من تصور الملزوم فقط تصور اللازم كما في دلالة العدد أربعة على الزوجية، أم لم يلزم كما في دلالة الإنسان على مغايرته للفرس، فإنه لا يلزم كلما تصور الإنسان أن تتصور تلك المغايرة بينه وبين الفرس، ولكنك إذا فهمت الإنسان وفهمت المغايرة المذكورة، جزم عقلك بالتلازم بينهما.
وأما دلالة الالتزام غير البين التي لم تعتبر:
فهي أن لا يلزم من فهم الملزوم واللازم فحسب الجزم باللزوم بينهما، بل يتوقف فيه على إقامة الدليل بياناً للملازمة.
ومثالها:
الملازمة بين العالم والحدوث، فإنها لا تذعن الملازمة إلا بتوسط دليل يبينها، كقولنا العالم متغير وكل متغير حادث، فيقطع العقل إذا سلم بذلك أن العالم حادث، ويثبت هذه الملازمة.
وكل ذلك من تشددهم في إطلاق الألفاظ على المعاني، فإن بود المنطقي أن لا يستخدم كلمة إلا في معناها المطابقي، أي في المعنى الذي وضعت أصلاً له، ليقلل احتمال وقوع اللبس والخطأ من جهة اللفظ قدر الإمكان، ولو وَجد المناطقة طريقاً لنقل ما يدور في أذهانهم إلى بعضهم البعض مباشرة بالمعنى دون وساطة اللفظ وغيره كضرب من التيلي باثي الذي يزعمونه مثلاً، للجأوا إليه.
وإني أريد منك أيها القارئ الكريم أن تتأمل طويلاً في هذه المباحث.
وتناقشني وتناقش أصحابك فيها.
فكما ترى فهي بحوث دقيقة ولطيفة.
وهي ليست صعبة بحيث لا يمكن فهمها،.
ولكنها تحتاج منك إلى أن تركز ذهنك.
وتعوده على النظر بحدة، وأن تصبر على تفهم المعاني وإن احتاج ذلك منك وقتاً طويلاً نسبياً في البداية.
فإن ذلك لأنك ربما لم تألف مثل هذه الطريقة في الكتابة ولم تألف هذه المباحث.
ولكنك ستجد نفسك كلما قرأت الموضوع فهمت شيئاً جديداً، وهكذا حتى لا يبقى عندك شيء مبهم، ومتى ألفت هذه المباحث صار بوسعك أن تقرأ في كتبها بيسر. وأنا لا يمكنني أن أقول كل ما يخطر ببالي حين أكتب.
وكذا لا يمكن لأي مدرس أو كاتب أن يقول كل ما يريد قوله في كتاب واحد أو درس واحد.
ألا ترى أن الرسام يرسم ألف لوحة، ولو استطاع أن يرسم لوحة واحدة يقول فيها كل ما لديه لعله ما رسم غيرها. وهذه المباحث إنما تعلم وتتعلم وترسخ بالكلام فيها.
فتكلم فيها إذا أردت إتقانها.
وبعد أن ندعو جميع الإخوة للسؤال والقراءة والبحث دون خجل.
فإذا كنت تريد أن تعلم هذه المباحث فإلى متى تؤجل فهمها.
إنك في نعمة من الله تعالى حين تجد من يعلمك. فلعل هذه الفرصة إن فاتك افتراصها لم تكرر.
واذكر علو همم العلماء،
فوالله إن من يقرأ في سيرهم ما عانوه في طلب العلم ليبكي ويعجب، ويتحسر على ما ضيع من وقته وقوته وماله بما لو أنفقه في طلب العلم لحاز خيراً كثيراً.
اذكر قول أبي الفتح عثمان بن جني:
فإن أصبح بلا نسب = فعلمي في الورى نسبي
واغتنم منها خمساً قبل خمس، إني لك يا أخي من الناصحين.
وبقي لي أن أقف على بيان بعض ما مثلنا به في هذا الدرس، وما يذكر في كتب المنطق من أمثله قد يعسر على المبتدي فهمها.
وهي التمثيل بلزوم الزوجية للأربعة، ولزوم البصر للعمى، ولزوم السواد للغراب هذا ما خطر ببالي الآن، وإن كان لدى أحدكم مشكلة في فهم مثال رآه فليسأل عنه.
فأما الزوجية للأربعة: فاعلم أن الزوجية هي قبول القسمة على اثنين دون باق. وهذا الأمر كما ترى لازماً للأرعة ذهنا وخارجاً.
ويقال في البصر للعمى: إنه عدم البصر عما من شأنه أن يبصر، فتلاحظ أن مجرد تصور الملزوم وهو العمى يقع به تصور البصر وهو اللازم البين بالمعنى الأخص في الذهن فقط لا في الخارج، لأنه في الشاهد لا يجتمع العمى والبصر في القابل لهما لتنافيهما.
وأما مثال سواد الغراب: فيمثلون به على دلالة الالتزام في الخارج فقط دون الذهن، وهي غير معتبرة عند المناطقة وإن اعتبرها الأصوليون. فإن شرط الالتزام ليعتد به عند المناطقة، أن يكون اللزوم ذهنياً أولاً، سواء كان مع ذلك خارجياً أم لا.
ولهم في ذلك قسمة لطيفة لا تتنافى مع قسمتنا الأولى لدلالة الالتزام أي بالبين وغير البين. وهي قولهم:
اللازم إما أن يكون لازماً في الذهن فقط أو لا.
الأول معتبر وهو كلزوم البصر للعمى.
والثاني إما أن يكون لازماً في الخارج فقط أو لا.
الأول غير معتبر وهو كلزوم السواد للغراب.
والثاني هو ما كان لازماً في الذهن والخارج معاً وهو معتبر ومثاله لزوم الزوجية للأربعة.
هذا ما أحببت أن أذكره في هذا الفصل.
وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
(فصل في الدلالة)
الدلالة -بتثليث الدال- قيل: فهم أمر من أمر.
واعترض: بأن الدلالة وصف للدال، والفهم وصف للفاهم.
فيلزم على هذا التعريف تفسير ما هو وصف لشيء بما هو وصف لغيره.
وأجيب عنه بجواب حسن، فابحث عنه.
وقالوا: الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. هرباً من الاعتراض.
فأقول: إذا استوقفك ضوء إشارة المرور الأحمر، وأنت تقود سيارتك. فمعنى ذلك أنك فهمت من ضوئها الأحمر هذا أن عليك أن تقف.
فعلى التعريف الأول للدلالة، فتكون قد فهمت أمراً وهو الوقوف من أمر آخر وهو حمرة الإشارة الضوئية.
والتطبيق على التعريف الثاني أن يقال هذه دلالة، لأن ضوء الإشارة في حالة معينة بحيث لزم من العلم به على تلك الحال وهي هنا حمرته، العلم بشيء آخر غيره وهو هنا وجوب الوقوف قانوناً.
ويسمى الأمر الأول المفهوم منه: دالاً.
والأمر الثاني المفهوم من الأول: مدلولاً، والدلالة قد عرفتها.
واعلم أن هذه الدلالة المذكورة في مثالنا، دلالة وضعية، لأن الناس قد تواضعوا أي تعارفوا واصطلحوا وتواطأوا واتفقوا على جعل اللون الأحمر بإزاء الوقوف، والأخضر بإزاء المسير. ولو تواضعوا على غير ذلك لجاز. فإن الوضع معناه جعل الشيء بإزاء شيء آخر بحيث إذا فهم الأول فهم الثاني.
وأريدك أن تلاحظ أنه ما من لفظ صدر عن إشارة المرور ليفيد المعنى الذي فهمه السائق.
وتأمل هذا المثال: حين تعاتب شخصاً على فعله منكراً فيحمر وجهه، فإنك ستفهم من تلك الحمرة التي علت وجهه خجله من فعله. ولكن هذه الحمرة لم يتواضع الناس على جعلها بإزاء الخجل، بل إن الإنسان السوي ذا الفطرة السليمة، بطبعه وأصل خلقته التي فطره الله تعالى عليها إذا خجل احمر وجهه. فلذلك يقال إن الحمرة دلت بالطبع أو الطبيعة أو بالعادة على الخجل. فهي إذاً دلالة طبيعية أو طبعية لا وضعية، ويقال لها أيضاً عادية. ولاحظ أيضاً أنه لم يصدر عن الإنسان الخجل أي لفظ يفيد المعنى الذي فهمه المؤنب، فالحمرة العارضة هذه ليست لفظاً يسمع، بل لوناً يرى.
وإذا سمعت صراخ الجارة وندبها ونواحها وعويلها، فإن هذه الألفاظ الصادرة منها ستدلك على مصيبة ألمت بها، وخطب جلل أحدق بأهلها، ولكن هل فهمت ذلك من نفس لفظها وأصالة وضعه أو من شيء آخر؟
إذا تأملت الألفاظ الصادرة عنها فستجد أنها ما قالت شيئاً يفهم منه ذلك، فلم تقل مثلاً زوجي قد مات. ولكن ما فهمته أنت من ألفاظها فقد فهمته بعقلك، فإن هذه الألفاظ لم توضع من واضع للدلالة على وقوع البلايا، بل قد يكون منها ما هو غير مستعمل أصلاً في اللغة من تلحينات غريبة، وأصوات عجيبة. وأيضاً فإنك لم تفهم ذلك أصالة من الطبع، فإن الإنسان حين تنزل به الرزايا لا يجب عادة أن يصدر تلك الأصوات بعينها بطبيعته، بدليل أن بعض من ألمت به أجل الخطوب وانفعل بها لم يلزم أن يصدر عنه نفس الألفاظ، كما أن كل من انفعل بمخيف علته صفرة عادة، أو انفعل بمخجل علته حمرة عادة. ولعلك تلاحظ أن مثالنا هذا تناول الدلالة اللفظية العقلية.
ولا بد أنك شهدت يوماً شخصاً يغمز آخر بحركة جديدة مبتكرة، غير موضوعة لمعنى معين معروف بين الناس كرفع اليد للسلام أو حركة الرأس لنعم، بل هي حركة جديدة يدرك العقل دلالتها بحسب الحال. أو أنه استعمل حركة ما للدلالة على غير ما وضعت لها تلك الحركة، وأمثلة ذلك لو تأملت في واقعنا كثيرة، فهذه الأمثلة من قبيل الدلالة العقلية غير اللفظية.
فتحصل عندنا من المناقشة:
أن الدلالة ما هي.
وأن الوضع ما هو.
وأن الطبع ما هو.
وتحصل عندنا:
أن الدلالة إما إن تكون لفظية أو غير لفظية.
وعليه فتكون الدلالة بحسب الدال (لا بحسب المدلول. تنبه) ستة أقسام: لأن كلاً من الدلالة اللفظية وغير اللفظية إما أن تكون دلالة على المدلول أصالة بالوضع، أو أصالة بالطبع أو أصالة بالعقل. وهي:
- دلالة لفظية وضعية:
ومثالها: دلالة لفظ الشمس على النجم المعهود، ولفظ إنسان، وفرس، وعنب على الحقايق الموضوعة بإزاء كل واحدة منها. ومن نفس الباب تدل جميع الألفاظ على معانيها التي وضعت أصلاً لها.
- دلالة لفظية طبيعية.
ومثالها: دلالة لفظ الأنين المخصوص على المرض.
- دلالة لفظية عقلية.
ومثالها: دلالة الكلام على حياة المتكلم. والقرآن الكريم كألفاظ عربية على صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربه. فإن الحكم بإعجازه ودلالة ذلك الإعجاز على الصدق من العقل لا من نفس الألفاظ الدالة على معان وضعية معينة.
- دلالة وضعية غير لفظية.
ومثالها: دلالة الرسوم على الألفاظ في جميع اللغات.
- دلالة طبيعية غير لفظية.
ومثالها: الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل، والتثاؤب على الكسل، والشحوب المخصوص على المرض، وحركة عيني النائم تحت الجفن على حلم يراه، وتداعي الجسد بالحمى والسهر على اشتكاء عضو منه من مرض، واجتماع بدن كثير من أنواع الوحش على التأهب للانقضاض، وتغير ألوان الأطياف الضوئية الصادرة عن العناصر على تغير طاقتها، كما يحدث أن يتغير لون الحديد من الأسود في الحالة الصلبة، إلى الأحمر حال شدة مطاوعته وليونته، حتى يصير أبيض اللون في حالة السيولة ... إلخ من طبائع الحيوان والنبات والأشياء.
فكما ترى أنه وإن كانت ملاحظة العقل لتكرار حصول هذه الأشياء هو الكاشف عن كونها قانونية وطبيعية وعادية، إلا أننا نسمي هذه الدلالات طبيعية لكون تلك الأمور دالة بطبعها.
فالطبع والعادة والقانون المودع في نفس ذلك الأمر هو الدال وهو منشأ الإطلاق ومصححه، وقسمتنا هي بحسب الدال لا بحسب الكاشف عن الدلالة كما نبهنا عليه؛ وإلا فإن العقل هو الكاشف عن كل دلالة. فتدبر.
- دلالة عقلية غير لفظية.
ومثالها: تحول العصا إلى حية حقيقية دلالة على صدق موسى عليه السلام فيما يخبر عن ربه. ومثل ذلك جميع معجزات الأنبياء إلا القرآن الكريم الذي بين أيدينا كما ذكرنا فإنه دلالة لفظية عقلية على المعجزة.
والمعتبر من كل ذلك في بحوثنا القادمة هو قسم واحد من هذه الأقسام ألا وهو الدلالة اللفظية الوضعية. لأن المعتمد المنضبط في المباحثات هو اللفظ المفيد بالوضع.
إذ يقل الاختلاف فيه كلغة تفاهم بين العقلاء، وهو أتم الدلالات وأيسرها وأنسبها، وإلا فلا يمنع أن يلجأ للغات أخرى غير لفظية للتعبير عن المعاني القائمة في النفس لأن اشتغال المناطقة وتعويلهم إنما هو على تلك المعاني لا الألفاظ، لذلك تراهم يتجاوزن عن الخلافات اللفظية إذا اتفقوا على المعاني.
فكما أن من الغباء أن يتكلم غير البكم بالإشارة لا عن حاجة، فهكذا ههنا.
والمتأمل سيرى فضل اللفظية الوضعية وانضباطها، بحيث تصلح أكثر من غيرها في هذا الباب.
ولعل بعضكم يستقري الدلالات ويناقشها من جهات صلوحها وعدمه، ويبين لنا لم اعتبر المناطقة هذه الدلالة دون غيرها، مع ذكرهم للأقسام الأخرى وتنبههم لها واعتدادهم بها كدلالات لها مجالاتها وفوائدها.
إذا توضح لك ما مضى:
سهل علينا أن نقول:
إن اللفظ الدال بالوضع على معنى معين إما:
أن يدل على تمام ذلك المعنى، أي يدل على ذلك المعنى بعينه وتمامه بحيث لا يخرج شيء من المعاني التي اعتبرها الواضع ولاحظها في مقابلة اللفظ.
أو لا يدل على تمام ذلك المعنى.
فإذا دل اللفظ على تمام المعنى الموضوع له، سميت الدلالة (وكلامنا من الآن فصاعداً عن الدلالة اللفظية الوضعية كما نبهنا) دلالة مطابقة. وذلك لتطابق أي توافق اللفظ والمعنى.
ومثاله :
دلالة الإنسان على الحيوان الناطق. والفرس على الحيوان الصهال، إلى غير ذلك.
وأرجو أن تلاحظ أيها القارئ الكريم أن دلالة المطابقة قد تكون :
في المعنى المركب كما في دلالة الإنسان على الحيوان الناطق فإنه معنى مركب من الحيوانية والناطقية، وقد تكون في المعنى الذي لا يتصور فيه التركب والتجزي، كما نقول لفظ الجوهر الفرد يدل على الجزء الذي لا يتجزأ وهو معنى بسيط غير مركب، وكما نقول النقطة تدل على طرف الخط، والنقطة ذات ماهيتها بسيطة لا تركب فيها. وكذلك حين نطلق أسماء الله سبحانه الحسنى عليه، فإنها دالة على الذات الأقدس واجب الوجوب الغني المنزه المتعالي عن سمات النقص والحدث من التركب والتبعض ونحوهما مما لا يعقل في القديم.
واعلم أيضاً: أن المطابقة :
واقعة بين اللفظ المفرد والمعنى البسيط.
وواقعة بين اللفظ المفرد والمعنى المركب.
وواقعة بين اللفظ المركب والمعنى البسيط.
وواقعة بين اللفظ المركب والمعنى المركب.
مثال الأول لفظ الله على واجب الوجود، ومثال الثاني الإنسان على الحيوان الناطق، ومثال الثالث واجب الوجود على الإله، ومثال الرابع لفظ أصول الفقه على طرق الفقه المجملة.
وأما إذا لم يكن اللفظ دالاً على تمام المعنى الذي وضع له :
فإما أن يدل على جزء المعنى الموضوع له، أي بأن يكون المعنى الذي وضع له اللفظ معنى مركباً له جزآن فصاعداً فيدل اللفظ على جزء من أجزاء ذلك المعنى المركب.
أو لا يدل حتى على جزء المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه.
فإذا كان اللفظ دالاً على جزء المعنى الذي وضع هذا اللفظ له سميت الدلالة دلالة تضمنية، لكون الجزء في ضمن كل المعنى الموضوع له.
وأريدك أن تلاحظ أن الدلالة التضمنية لا يمكن تصورها إلا في المعاني المركبة أي ذات الأجزاء، بخلاف المطابقية كما بينته لك.
وبقي عندنا من القسمة هذا اللفظ الغريب العجيب:!
الذي لا يدل لا على تمام المعنى الموضوع له، ولا على جزئه، فيلزم من ذلك أن يدل على شيء آخر خارج عن حقيقة المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه.
وهذا القسم من الدلالة هو ما يسمونه دلالة الالتزام. ولا بد فيها من علاقة تلازمية بين المعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً وبين المعنى الآخر المراد من اللفظ، وإلا لكان استعمالاً خاطئاً للفظ في ذلك المعنى، ولا اعتبار به.
فلا يجوز مثلاً :
أن يطلق أحد الأغبياء لفظ الإله ويريد به معنى الجسم، لأن لفظ الإله لا يدل على معنى الجسم بالمطابقة قطعاً حيث لم يوضع لفظ الإله لمعنى الجسم.
وكذا لا يدل عليه بالتضمن قطعاً لأن الجسمية ليست جزء معنى الإله، لأن معنى الإله هو المستغني عن كل ما سواه والمحتاج إليه كل ما عداه، ومن كانت هذه حقيقته سبحانه لا يتصور فيه التجزي، لأنه ليس بكلٍ مفتقرٍ إلى أجزائه، لأنه لا يفتقر إلى شيء مطلقاً.
وكذا لا يدل عليه بالالتزام لأن الجسمية نعم هي خارجة عن حقيقة الإله ولكنها أيضاً ليست لازمة من لوازم معناه. وعليه بطل الإطلاق. فتدبر.
وزيادة في بيان دلالة الالتزام نقول:
هي دلالة اللفظ الموضوع لمعنى معين على معنى آخر خارج عن المعنى الذي وضع اللفظ له أصلاً، ولكن هذا المعنى الخارج عن معنى اللفظ لازم لمعنى اللفظ بحسب الوضع.
ففي دلالة الالتزام ترى لفظاً دالاً على معنى غير المعنى الذي وضع له اللفظ، ولكنه لازم لذلك المعنى الوضعي الأصلي.
وأود منك أن تلاحظ أنه لا بد من اللزوم بين المعنى الوضعي للفظ والمعنى المراد من إطلاقه:
- إما عقلاً، أي في العقل بحيث إذا أطلق اللفظ دل على لازمه دلالة بينة ولم يصح في العقل تخلف المعنى المراد اللازم للمعنى الوضعي، ولا انفكاكه عنه، فيصير كأنه معنى مطابقي للفظ، لقرب ذكره عند ذكر اللفظ الذي لزم هو عن معناه. كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله.
- أو عرفاً، بأن يندر تصور الملزوم دون تصور اللازم، كدلالة حاتم على الجود، فإن الذهن ينتقل إلى ذكر جوده كلما ذكر. وكدلالة المطر على النبات فإنه إذا ذكر المطر عند أهل البوادي انتقلت أذهانهم إلى وجود النبات في محل هطوله. وهذا الانتقال وإن كان بالعقل فإن منشأه العرف لا العقل، لجواز تخلفه وبخاصة عن اختلاف العرف، فإن من الناس من تنتقل أذهانهم إلى السيول والكوارث كلما ذكر المطر لشدة ابتلائهم به، كما لا يخفى على أمثالكم.
واعلم أيها الأخ الكريم:
أن بعض المناطقة :
لم يعتبروا من الدلالة اللزومية الدلالة العرفية.
وبعضهم:
لم يعتبر في المنطق إلا دلالة الالتزام البين بالمعنى الأخص واستثنى زيادة على العرفية دلالة الالتزام البين بالمعنى الأعم ودلالة الالتزام غير البين.
أما دلالة الالتزام البين بالمعنى الأخص فهي التي يكفي فيها تصور الملزوم ليحصل تصور اللازم.
وضابطها:
أن يلزم من مجرد تصور الملزوم تصور لازمه، سواء كان هذا اللازم في الذهن فقط كالبصر للعمى، أو في الذهن والخارج معاً كالزوجية للأربعة.
وأما دلالة الالتزام البين بالمعنى الأعم
التي لم يعتبرها البعض فهي التي يحتاج فيها إلى تصور الملزوم واللازم ليحكم الذهن بالتلازم بينهما.
وضابطها:
أن يلزم من فهم الملزوم واللازم الجزم باللزوم بينهما، سواء كان يلزم من تصور الملزوم فقط تصور اللازم كما في دلالة العدد أربعة على الزوجية، أم لم يلزم كما في دلالة الإنسان على مغايرته للفرس، فإنه لا يلزم كلما تصور الإنسان أن تتصور تلك المغايرة بينه وبين الفرس، ولكنك إذا فهمت الإنسان وفهمت المغايرة المذكورة، جزم عقلك بالتلازم بينهما.
وأما دلالة الالتزام غير البين التي لم تعتبر:
فهي أن لا يلزم من فهم الملزوم واللازم فحسب الجزم باللزوم بينهما، بل يتوقف فيه على إقامة الدليل بياناً للملازمة.
ومثالها:
الملازمة بين العالم والحدوث، فإنها لا تذعن الملازمة إلا بتوسط دليل يبينها، كقولنا العالم متغير وكل متغير حادث، فيقطع العقل إذا سلم بذلك أن العالم حادث، ويثبت هذه الملازمة.
وكل ذلك من تشددهم في إطلاق الألفاظ على المعاني، فإن بود المنطقي أن لا يستخدم كلمة إلا في معناها المطابقي، أي في المعنى الذي وضعت أصلاً له، ليقلل احتمال وقوع اللبس والخطأ من جهة اللفظ قدر الإمكان، ولو وَجد المناطقة طريقاً لنقل ما يدور في أذهانهم إلى بعضهم البعض مباشرة بالمعنى دون وساطة اللفظ وغيره كضرب من التيلي باثي الذي يزعمونه مثلاً، للجأوا إليه.
وإني أريد منك أيها القارئ الكريم أن تتأمل طويلاً في هذه المباحث.
وتناقشني وتناقش أصحابك فيها.
فكما ترى فهي بحوث دقيقة ولطيفة.
وهي ليست صعبة بحيث لا يمكن فهمها،.
ولكنها تحتاج منك إلى أن تركز ذهنك.
وتعوده على النظر بحدة، وأن تصبر على تفهم المعاني وإن احتاج ذلك منك وقتاً طويلاً نسبياً في البداية.
فإن ذلك لأنك ربما لم تألف مثل هذه الطريقة في الكتابة ولم تألف هذه المباحث.
ولكنك ستجد نفسك كلما قرأت الموضوع فهمت شيئاً جديداً، وهكذا حتى لا يبقى عندك شيء مبهم، ومتى ألفت هذه المباحث صار بوسعك أن تقرأ في كتبها بيسر. وأنا لا يمكنني أن أقول كل ما يخطر ببالي حين أكتب.
وكذا لا يمكن لأي مدرس أو كاتب أن يقول كل ما يريد قوله في كتاب واحد أو درس واحد.
ألا ترى أن الرسام يرسم ألف لوحة، ولو استطاع أن يرسم لوحة واحدة يقول فيها كل ما لديه لعله ما رسم غيرها. وهذه المباحث إنما تعلم وتتعلم وترسخ بالكلام فيها.
فتكلم فيها إذا أردت إتقانها.
وبعد أن ندعو جميع الإخوة للسؤال والقراءة والبحث دون خجل.
فإذا كنت تريد أن تعلم هذه المباحث فإلى متى تؤجل فهمها.
إنك في نعمة من الله تعالى حين تجد من يعلمك. فلعل هذه الفرصة إن فاتك افتراصها لم تكرر.
واذكر علو همم العلماء،
فوالله إن من يقرأ في سيرهم ما عانوه في طلب العلم ليبكي ويعجب، ويتحسر على ما ضيع من وقته وقوته وماله بما لو أنفقه في طلب العلم لحاز خيراً كثيراً.
اذكر قول أبي الفتح عثمان بن جني:
فإن أصبح بلا نسب = فعلمي في الورى نسبي
واغتنم منها خمساً قبل خمس، إني لك يا أخي من الناصحين.
وبقي لي أن أقف على بيان بعض ما مثلنا به في هذا الدرس، وما يذكر في كتب المنطق من أمثله قد يعسر على المبتدي فهمها.
وهي التمثيل بلزوم الزوجية للأربعة، ولزوم البصر للعمى، ولزوم السواد للغراب هذا ما خطر ببالي الآن، وإن كان لدى أحدكم مشكلة في فهم مثال رآه فليسأل عنه.
فأما الزوجية للأربعة: فاعلم أن الزوجية هي قبول القسمة على اثنين دون باق. وهذا الأمر كما ترى لازماً للأرعة ذهنا وخارجاً.
ويقال في البصر للعمى: إنه عدم البصر عما من شأنه أن يبصر، فتلاحظ أن مجرد تصور الملزوم وهو العمى يقع به تصور البصر وهو اللازم البين بالمعنى الأخص في الذهن فقط لا في الخارج، لأنه في الشاهد لا يجتمع العمى والبصر في القابل لهما لتنافيهما.
وأما مثال سواد الغراب: فيمثلون به على دلالة الالتزام في الخارج فقط دون الذهن، وهي غير معتبرة عند المناطقة وإن اعتبرها الأصوليون. فإن شرط الالتزام ليعتد به عند المناطقة، أن يكون اللزوم ذهنياً أولاً، سواء كان مع ذلك خارجياً أم لا.
ولهم في ذلك قسمة لطيفة لا تتنافى مع قسمتنا الأولى لدلالة الالتزام أي بالبين وغير البين. وهي قولهم:
اللازم إما أن يكون لازماً في الذهن فقط أو لا.
الأول معتبر وهو كلزوم البصر للعمى.
والثاني إما أن يكون لازماً في الخارج فقط أو لا.
الأول غير معتبر وهو كلزوم السواد للغراب.
والثاني هو ما كان لازماً في الذهن والخارج معاً وهو معتبر ومثاله لزوم الزوجية للأربعة.
هذا ما أحببت أن أذكره في هذا الفصل.
وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو الدرس الرابع من دروس المنطق للمبتدئين. أتناول فيه:
الكليات الخمس
مروراً بالنظر في:
الألفاظ لما أن بحثها متوقف على بحثها.
فأقول وبالله التوفيق:
اللفظ إما أن يكون مستعملاً أوْ لا.
الثاني لا عبرة به، لأنا قدّمنا أن اعتناءنا بالألفاظ لا لذاتها بل من حيث دلالتها بالوضع على المعاني، والذي لم يستعمل مطلقاً لم يوضع قط، فلا التفات إليه طريقاً للتفهم والتفهيم. بخلاف قليل الاستعمال ونادره فإنه معتبر، بصرف النظر عن حسن استعماله وقبحه.
ثم المستعمل إما مركب أو مفرد.
فالمركب: ما دل جزؤه على جزء معناه.
والمفرد بخلافه، أي ما لم يدل جزؤه على جزء معناه.
وقد سأل الطلاب عن المركب والمفرد في هذا المنتدى وغيره كثيراً، مع أن مفهومهما ليس بالمعقد، وإني أبينهما هنا تماماً إن شاء الله كما وعدت سابقاً، فافتح لي ذهنك.
يؤخذ من تعريف المركب، أنه لا بد لكي نسمي اللفظ مركباً أن نلاحظ فيه تكونه من أكثر من جزء.
ثم نلاحظ دلالة ذلك الجزء على شيء من معنى اللفظ ككل.
والمراد بالجزء ذلك القريب، لا البعيد.
فأنت حين تقول: محمد عالم.
فإن (محمد) وكذا (عالم) هما الجزآن القريبان لهذا اللفظ. أما حرف (م) أو (ح) أو (د) أو (مح) إلخ مما يمكنك أن تركبه من نفس حروف اللفظ فإنها أجزاء بعيدة له، فلا تعتبر، وهي مع كونها أجزاءً للفظ فليست مقصودة هنا، لأنا اشترطنا في الجزء أمراً آخر، وهو أن يدل على بعض معنى اللفظ ككل.
وأنت ترى أن أياً من هذه الأجزاء البعيدة ليس بدال على شيء من معنى هذا اللفظ المركب ككل.
ولا يشترط في المركب أن يكون جزآه أو أجزاؤه القريبة منفصلة عن بعضها.
فتأمل مثلاً: (سألتك). فإن سأل جزء هذا اللفظ الدال على جزء معناه، وكذلك (ت) المتحركة ضمير السائل. و(ك) ضمير المخاطب وهما جزآن قريبان للفظ مع كونهما متصلين به، وهما دالان على جزء المعنى.
ولا حد لتركيب اللفظ، فركبنه كما تريد.
وهذا الدرس بكامله أمامك لفظ مركب، من فقرات، وجمل، كل جملة فيه مركبة من كلمات تدل على جزء معنى الجملة. وهذا القدر واضح لا إشكال فيه.
وانتبه إلى أن المركب ليس بالضرورة أن يحسن الوقوف عليه.
فسواء حسن الوقوف عليه بإفادته معنى تاماً أوْ لا، خبرياً أو إنشائياً، سمي قضية أوْ لا، احتوى نسبة حكمية بحيث يصبح مورداً للتصديق أوْ لا، كل ذلك يسمى مركباً. لأنا ذكرنا خصيصتين إذا توفرتا في اللفظ كان اللفظ مركباً. الأولى تكونه من أكثر من جزء قريب. والثانية دلالة كل جزء منه على جزء المعنى، بحيث يدل المجموع على كل المعنى.
واعلم أن التركيب والتأليف، والترتيب، والضم، والجمع، التصنيف، وأشباهها ألفاظ بينها عموم وخصوص وفروق لطيفة فهل لك إلى أن تبحث عنها.
وأما المفرد، فهو مقابل المركب. فإذا عرفت المركب سهل عليك أن تعرف المفرد. ونزيده بياناً فنقول: اللفظ المفرد أي الذي لا يدل جزؤه على جزء معناه، إما بأن لا يكون له جزء أصلاً
(تأمل!) كأن تضع حرف (هـ) للدلالة على شخص اسمه هيثم مثلاً اختصاراً. فكما ترى ليس لهذا اللفظ أجزاء. وإن ادعي أن له جزءاً سواء من جهة الرسم أو جهة اللفظ فلا يضيرنا لأن أياً من هذه الأجزاء ليس له معنى، وإن سلم أن له معنى فإن هذا المعنى ليس جزء المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه، وهو (الذات المعلومة المتشخصة هيثم).
وإما أن جزأه ليس له معنى، مثل لفظ (يد) فإن الياء لم توضع لمعنى ولا وضعت الدال لمعنى. فإن الحروف الهجائية من حيث هي كذلك لم توضع في اللغة لمعنى. وإن ادعي خلافه فالجواب كسابقه.
وإما أن يكون المفرد له جزء دال على معنى، ولكن هذا المعنى لا يدل عليه. مثل (نجم السماء) إذا استعمل علماً على إنسان. فإن النجم والسماء جزآن للفظ وكل منهما دال على معنى، ولكن أياً منهما لا يدل على ذات ذلك الإنسان المتشخص الموسوم بهذا الاسم. وأمثال ذلك كثير في الألقاب والأسامي، كماء السماء، وهالة القمر إذا أخذت أعلاماً على ذوات الأناسي مثلاً.
وأخيراً أن يكون المفرد له جزء دال على معنى، وذلك المعنى يدل عليه.
ولكن هذا المعنى لا يجوز اعتباره، سواء قصده من أطلق اللفظ أو لم يقصده، وسواء لاحظ السامع هذا المعنى أو لم يلاحظه، لأن اعتباره يكون مخالفاً للوضع الذي هو معيارنا ومرجعنا وحكمنا في التفاهم.
ومثاله (عبد الله) إذا أخذت علماً على إنسان، فإن اللفظ كله دال على عبودية ذلك الإنسان لله، وهو معنى صحيح دال على ذلك الشخص من وجه من الوجوه، ولكنه لا يجوز أن يعتبر هنا عند أخذ اللفظ علماً، لأن الوضع قضى هنا بجعل اللفظ المركب ككل (عبد الله) بإزاء ذات إنسي معين هو ابن فلان وفلانة ذو الصفات المعينة.
وكذلك يقال في جزء هذا اللفظ وهو (عبد) فمع أن له معنى، ومعناه يصدق على ذلك الشخص إلا أن الوضع لم يلاحظه. تأمل.
وكذلك (تأبط شراً) علماً.
وكذلك إذا سئلت: من كسر زجاج النافذة؟ فقلت (رامي الحجارة) فإنه مع كونه رامياً للحجارة على الحقيقة إلا أن إشارتك إليه مع إطلاقك اللفظ دلت على ذات إنسان معين هو الفاعل المسؤول عنه، فلا يلاحظ في لفظك هذا دلالته على الحجارة ولا الرمي، بل إن مرادنا من السؤال ومستفادنا من الجواب تحقق لو أشرت بأصبعك عليه، ولكنك جدت باللفظ فقام لفظك مقام الإشارة في إفادته الجواب.
نعم لا ننكر زيادة معنى تقع لنا من اللفظ فوق تعيين الرامي، ولكن المعتبر هنا هو ذلك القدر. فتأمل.
وأريد من هذا التفصيل أن ألفت النظر إلى أشياء:
أولها : أن العلماء تنبهوا إلى تفاصيل كثيرة جداً، والمحققون كانوا يقتلون أبسط الأشياء بحثاً لإتمام المباحث التي يتناولونها.
والأمر الثاني: أني أتيت ببعض الأمثلة من عندي كما هي عادتي، واستخدمت مثالاً في غير ما استعمله بعض المناطقة، وهو مثال عبد الله علماً فهم يمثلون به على المفرد الذي له جزء معنى ولكنه لا يدل عليه. وأنا استخدمته في ما له جزء، له معنى يدل عليه. فجهات النظر قد تختلف.
فها أنت قد حصلت المفرد والمركب.
فنقول لك:
إن ما حملنا على ارتكاب هذا الصعب جبل أشم، وأكثر من مهم. وهو أن نبلغ بعد صعوده ذروته، وهي:
الكليات الخمس.
لأن الكليات الخمس من المفردات، فلم يمكننا أن نبلغكها إلا بعد التمييز بين المركب والمفرد، واجتياز جسر المفرد إليها.
واعلم أن الكلي أعم من أن يدل عليه لفظ مفرد أو مركب. لأن الكلي معنى، والمعنى يحصل بهما وبغيرهما. ووصف اللفظ بالكلية والجزئية مجاز، كما أن وصف المعنى بالتركيب والإفراد مجاز. فانظر.
وكلامنا ههنا في الكليات الخمس، وهي من المفردات.
فعلى أي معنى هي مفردات؟
لعلك تنظر.
ثم إذا تركب اللفظ مما يدل على كلي وجزئي فهل يكون المعنى كلياً أم جزئياً؟
انظر.
وعلى أي حال.
فالمفرد بالنظر إلى معناه، إما أن يمنع نفس تصوره من حيث إنه متصور من وقوع الشركة فيه أوْ لا.
الأول الجزئي كزيد، وأنا، والأردن.
وكل ما دل على شيء بعينه بحيث لا يمكن أن يصدق على غيره.
والثاني الكلي مثل إنسان، وفرس، وأسد، وحيوان، وجوهر، وناطق، وصهال، وكاتب، وماشي، ومتحرك، وساكن، وعالم...إلخ مما يدل على كثيرين على البدلية.
بمعنى أنه يصدق على كل واحد منهم أنه كذلك. كما أن إنسان، تصدق علي وعليك وعلى كل واحد واحد من البشر.
وكلامنا الآن في الكلي وهو الذي يهمنا لبلوغ مقصدنا التصوري بالقول الشارح أي لأنه مادة الحدود، كما أنه مادة البراهين والمطالب بخلاف الجزئي.
لذلك كانت دراستنا للكليات مبدأ لها ومدخلاً إليها.
ويجعلونه ثلاثة أقسام
منطقي
وطبيعي
وعقلي.
كما قالوا في عدد أفراده إنها إما كثيرة أوْ لا.
فإن كانت كثيرة فإما أن تكون متناهية مثل أفراد الإنسان، أوْ لا متناهية كنعمة الله. فتأمل.
وإن كانت غير كثيرة فإما أنه وجد من أفراد الكلي فرد واحد فقط أوْ لا.
والأول أي الكلي الذي وجد من أفراده فرد واحد فقط، فوجود غيره من مصاديقه إما ممكن كقمر ثان وشمس ثانية للأرض، أو ليس بممكن كالإله المعبود بحق.
فتأمل.
وبقي الكلي الذي لم يوجد من أفراده حتى فرد واحد، فذلك أيضاً إما مع الجواز كجبل من ياقوت وإنسان مجنح وغول وعنقاء، أو مع الاستحالة كشريك الباري واجتماع الضدين.
ثم إن الكلي
إما ذاتي أي يدخل في حقيقة جزئيات هذا الكلي أي مصاديقه وأفراده، كالحيوان للإنسان.
أو ليس بذاتي أي أنه لا يدخل في حقيقة جزئياته، كالماشي للإنسان فهو خارج عن ماهيته وحقيقته ولا يحتاج إليه في تصوره، لأن الإنسان يتركب من (الحيوان والناطق)، فالماشي والضاحك، وغير ذلك من أمثالهما خارجة عن تصور ماهيته ويسمى غير الذاتي بالعرضي.
وضابط معرفة العرضي إمكان تصور ماهية الشيء دون الحاجة إلى تصوره، استحضاراً وفهماً.
وضابط الذاتي امتناع تصورها بدونه.
ثم إن الذاتي :
إما أن يشترك بين الماهية وغيرها.
أو يختص بها.
والعرضي مثل الذاتي في ذلك.
فالأقسام أربعة :
جنس
وفصل
وعرض عام
وعرض خاص (أو خاصة) على الترتيب.
وخامس الأقسام هو أن يكون الذاتي تمام الماهية لا جزءاً منها. وهو النوع. وسمي ذاتياً بناءً على أن الذاتي ما ليس بعرضي. فتمت الكليات خمسة أقسام.
فيقال في تعريف الجنس على المسامحة: هو الكلي الذاتي المجاب به عن سؤال ما هو، والمشترك بين كثيرين مختلفين في الحقيقة.
كالحيوان بالنسبة للإنسان والفرس مثلاً، فإنك لو سئلت عن كل منهما ما هو من حيث اشتراكه مع غيره من الحقائق كان جوابك (هذا حيوان) صحيحاً.
ويخرج بذلك الفصل لكونه غير مشترك بين كثيرين مختلفين بالحقيقة بل متفقون في الحقيقة.
ومن نفس الباب يخرج النوع.
ويخرج بذلك العرضان العام والعرض الخاص أو الخاصة لكونهما ليسا بذاتيين.
وكذلك يخرج الفصل والخاصة لكونهما يقالان في جواب أي شيء هو لتمييز الماهية عن غيرها ولا يقالان في جواب ما هو.
وخرج العرض العام أيضاً لكونه لا يقال في الجواب أصلاً. فتأمله.
فيبقى الجنس، وهو المطلوب تصوره بهذا التعريف.
ويقال في تعريف الفصل: هو الكلي الذاتي المجاب به عن سؤال أي شيء هو، والمشترك بين متفقين في الحقيقة.
وتأمل كيف خرج به الجنس والنوع والعرضان. ومثاله الناطق للإنسان، والصهال للفرس، والنهاق للحمار.
ويقال في تعريف النوع: هو الكلي الذاتي المجاب به عن سؤال ما هو، المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة.
وانظر كيف تخرج بقية الكليات. ومثاله تمام كل ماهية.
ويقال في تعريف العرض العام: كلي عرضي يقال على ما هو تحت حقائق مختلفة. كالمتنفس للإنسان وكل حيوان ونبات.
وقد خرج به بقية الكليات لو تأملت.
وأخيراً فالخاصة: كلي عرضي يقال على ما تحت حقيقة واحدة
كالضاحك للإنسان.
واعلم أن الجنس إما :
عالٍ إذا وقع تحته جنس ولم يكن فوقه جنس كالجوهر للإنسان.
ومتوسط إذا كان فوقه جنس وتحته آخر، كالجسم والنامي للإنسان.
وسافل إذا كان فوقه جنس ولم يكن تحته جنس، كالحيوان للإنسان.
ومنفرد وهو ما ليس تحته ولا فوقه أي جنس. ولا مثال عليه. وافترضه من قال به تماماً للقسمة. فتأمله.
وهذا القدر كافٍ إذا فهمته،
لننتقل إلى الكلام في المباحث التي سآتي إليها بعد ذلك.
وكما هي العادة، سأنتظر استفساراتكم، ومناقشاتكم ليتعمق فهمنا لهذه المصطلحات التي أوردناها في هذا الدرس، قبل أن ننتقل إلى بحث جديد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
هذا هو الدرس الرابع من دروس المنطق للمبتدئين. أتناول فيه:
الكليات الخمس
مروراً بالنظر في:
الألفاظ لما أن بحثها متوقف على بحثها.
فأقول وبالله التوفيق:
اللفظ إما أن يكون مستعملاً أوْ لا.
الثاني لا عبرة به، لأنا قدّمنا أن اعتناءنا بالألفاظ لا لذاتها بل من حيث دلالتها بالوضع على المعاني، والذي لم يستعمل مطلقاً لم يوضع قط، فلا التفات إليه طريقاً للتفهم والتفهيم. بخلاف قليل الاستعمال ونادره فإنه معتبر، بصرف النظر عن حسن استعماله وقبحه.
ثم المستعمل إما مركب أو مفرد.
فالمركب: ما دل جزؤه على جزء معناه.
والمفرد بخلافه، أي ما لم يدل جزؤه على جزء معناه.
وقد سأل الطلاب عن المركب والمفرد في هذا المنتدى وغيره كثيراً، مع أن مفهومهما ليس بالمعقد، وإني أبينهما هنا تماماً إن شاء الله كما وعدت سابقاً، فافتح لي ذهنك.
يؤخذ من تعريف المركب، أنه لا بد لكي نسمي اللفظ مركباً أن نلاحظ فيه تكونه من أكثر من جزء.
ثم نلاحظ دلالة ذلك الجزء على شيء من معنى اللفظ ككل.
والمراد بالجزء ذلك القريب، لا البعيد.
فأنت حين تقول: محمد عالم.
فإن (محمد) وكذا (عالم) هما الجزآن القريبان لهذا اللفظ. أما حرف (م) أو (ح) أو (د) أو (مح) إلخ مما يمكنك أن تركبه من نفس حروف اللفظ فإنها أجزاء بعيدة له، فلا تعتبر، وهي مع كونها أجزاءً للفظ فليست مقصودة هنا، لأنا اشترطنا في الجزء أمراً آخر، وهو أن يدل على بعض معنى اللفظ ككل.
وأنت ترى أن أياً من هذه الأجزاء البعيدة ليس بدال على شيء من معنى هذا اللفظ المركب ككل.
ولا يشترط في المركب أن يكون جزآه أو أجزاؤه القريبة منفصلة عن بعضها.
فتأمل مثلاً: (سألتك). فإن سأل جزء هذا اللفظ الدال على جزء معناه، وكذلك (ت) المتحركة ضمير السائل. و(ك) ضمير المخاطب وهما جزآن قريبان للفظ مع كونهما متصلين به، وهما دالان على جزء المعنى.
ولا حد لتركيب اللفظ، فركبنه كما تريد.
وهذا الدرس بكامله أمامك لفظ مركب، من فقرات، وجمل، كل جملة فيه مركبة من كلمات تدل على جزء معنى الجملة. وهذا القدر واضح لا إشكال فيه.
وانتبه إلى أن المركب ليس بالضرورة أن يحسن الوقوف عليه.
فسواء حسن الوقوف عليه بإفادته معنى تاماً أوْ لا، خبرياً أو إنشائياً، سمي قضية أوْ لا، احتوى نسبة حكمية بحيث يصبح مورداً للتصديق أوْ لا، كل ذلك يسمى مركباً. لأنا ذكرنا خصيصتين إذا توفرتا في اللفظ كان اللفظ مركباً. الأولى تكونه من أكثر من جزء قريب. والثانية دلالة كل جزء منه على جزء المعنى، بحيث يدل المجموع على كل المعنى.
واعلم أن التركيب والتأليف، والترتيب، والضم، والجمع، التصنيف، وأشباهها ألفاظ بينها عموم وخصوص وفروق لطيفة فهل لك إلى أن تبحث عنها.
وأما المفرد، فهو مقابل المركب. فإذا عرفت المركب سهل عليك أن تعرف المفرد. ونزيده بياناً فنقول: اللفظ المفرد أي الذي لا يدل جزؤه على جزء معناه، إما بأن لا يكون له جزء أصلاً
(تأمل!) كأن تضع حرف (هـ) للدلالة على شخص اسمه هيثم مثلاً اختصاراً. فكما ترى ليس لهذا اللفظ أجزاء. وإن ادعي أن له جزءاً سواء من جهة الرسم أو جهة اللفظ فلا يضيرنا لأن أياً من هذه الأجزاء ليس له معنى، وإن سلم أن له معنى فإن هذا المعنى ليس جزء المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه، وهو (الذات المعلومة المتشخصة هيثم).
وإما أن جزأه ليس له معنى، مثل لفظ (يد) فإن الياء لم توضع لمعنى ولا وضعت الدال لمعنى. فإن الحروف الهجائية من حيث هي كذلك لم توضع في اللغة لمعنى. وإن ادعي خلافه فالجواب كسابقه.
وإما أن يكون المفرد له جزء دال على معنى، ولكن هذا المعنى لا يدل عليه. مثل (نجم السماء) إذا استعمل علماً على إنسان. فإن النجم والسماء جزآن للفظ وكل منهما دال على معنى، ولكن أياً منهما لا يدل على ذات ذلك الإنسان المتشخص الموسوم بهذا الاسم. وأمثال ذلك كثير في الألقاب والأسامي، كماء السماء، وهالة القمر إذا أخذت أعلاماً على ذوات الأناسي مثلاً.
وأخيراً أن يكون المفرد له جزء دال على معنى، وذلك المعنى يدل عليه.
ولكن هذا المعنى لا يجوز اعتباره، سواء قصده من أطلق اللفظ أو لم يقصده، وسواء لاحظ السامع هذا المعنى أو لم يلاحظه، لأن اعتباره يكون مخالفاً للوضع الذي هو معيارنا ومرجعنا وحكمنا في التفاهم.
ومثاله (عبد الله) إذا أخذت علماً على إنسان، فإن اللفظ كله دال على عبودية ذلك الإنسان لله، وهو معنى صحيح دال على ذلك الشخص من وجه من الوجوه، ولكنه لا يجوز أن يعتبر هنا عند أخذ اللفظ علماً، لأن الوضع قضى هنا بجعل اللفظ المركب ككل (عبد الله) بإزاء ذات إنسي معين هو ابن فلان وفلانة ذو الصفات المعينة.
وكذلك يقال في جزء هذا اللفظ وهو (عبد) فمع أن له معنى، ومعناه يصدق على ذلك الشخص إلا أن الوضع لم يلاحظه. تأمل.
وكذلك (تأبط شراً) علماً.
وكذلك إذا سئلت: من كسر زجاج النافذة؟ فقلت (رامي الحجارة) فإنه مع كونه رامياً للحجارة على الحقيقة إلا أن إشارتك إليه مع إطلاقك اللفظ دلت على ذات إنسان معين هو الفاعل المسؤول عنه، فلا يلاحظ في لفظك هذا دلالته على الحجارة ولا الرمي، بل إن مرادنا من السؤال ومستفادنا من الجواب تحقق لو أشرت بأصبعك عليه، ولكنك جدت باللفظ فقام لفظك مقام الإشارة في إفادته الجواب.
نعم لا ننكر زيادة معنى تقع لنا من اللفظ فوق تعيين الرامي، ولكن المعتبر هنا هو ذلك القدر. فتأمل.
وأريد من هذا التفصيل أن ألفت النظر إلى أشياء:
أولها : أن العلماء تنبهوا إلى تفاصيل كثيرة جداً، والمحققون كانوا يقتلون أبسط الأشياء بحثاً لإتمام المباحث التي يتناولونها.
والأمر الثاني: أني أتيت ببعض الأمثلة من عندي كما هي عادتي، واستخدمت مثالاً في غير ما استعمله بعض المناطقة، وهو مثال عبد الله علماً فهم يمثلون به على المفرد الذي له جزء معنى ولكنه لا يدل عليه. وأنا استخدمته في ما له جزء، له معنى يدل عليه. فجهات النظر قد تختلف.
فها أنت قد حصلت المفرد والمركب.
فنقول لك:
إن ما حملنا على ارتكاب هذا الصعب جبل أشم، وأكثر من مهم. وهو أن نبلغ بعد صعوده ذروته، وهي:
الكليات الخمس.
لأن الكليات الخمس من المفردات، فلم يمكننا أن نبلغكها إلا بعد التمييز بين المركب والمفرد، واجتياز جسر المفرد إليها.
واعلم أن الكلي أعم من أن يدل عليه لفظ مفرد أو مركب. لأن الكلي معنى، والمعنى يحصل بهما وبغيرهما. ووصف اللفظ بالكلية والجزئية مجاز، كما أن وصف المعنى بالتركيب والإفراد مجاز. فانظر.
وكلامنا ههنا في الكليات الخمس، وهي من المفردات.
فعلى أي معنى هي مفردات؟
لعلك تنظر.
ثم إذا تركب اللفظ مما يدل على كلي وجزئي فهل يكون المعنى كلياً أم جزئياً؟
انظر.
وعلى أي حال.
فالمفرد بالنظر إلى معناه، إما أن يمنع نفس تصوره من حيث إنه متصور من وقوع الشركة فيه أوْ لا.
الأول الجزئي كزيد، وأنا، والأردن.
وكل ما دل على شيء بعينه بحيث لا يمكن أن يصدق على غيره.
والثاني الكلي مثل إنسان، وفرس، وأسد، وحيوان، وجوهر، وناطق، وصهال، وكاتب، وماشي، ومتحرك، وساكن، وعالم...إلخ مما يدل على كثيرين على البدلية.
بمعنى أنه يصدق على كل واحد منهم أنه كذلك. كما أن إنسان، تصدق علي وعليك وعلى كل واحد واحد من البشر.
وكلامنا الآن في الكلي وهو الذي يهمنا لبلوغ مقصدنا التصوري بالقول الشارح أي لأنه مادة الحدود، كما أنه مادة البراهين والمطالب بخلاف الجزئي.
لذلك كانت دراستنا للكليات مبدأ لها ومدخلاً إليها.
ويجعلونه ثلاثة أقسام
منطقي
وطبيعي
وعقلي.
كما قالوا في عدد أفراده إنها إما كثيرة أوْ لا.
فإن كانت كثيرة فإما أن تكون متناهية مثل أفراد الإنسان، أوْ لا متناهية كنعمة الله. فتأمل.
وإن كانت غير كثيرة فإما أنه وجد من أفراد الكلي فرد واحد فقط أوْ لا.
والأول أي الكلي الذي وجد من أفراده فرد واحد فقط، فوجود غيره من مصاديقه إما ممكن كقمر ثان وشمس ثانية للأرض، أو ليس بممكن كالإله المعبود بحق.
فتأمل.
وبقي الكلي الذي لم يوجد من أفراده حتى فرد واحد، فذلك أيضاً إما مع الجواز كجبل من ياقوت وإنسان مجنح وغول وعنقاء، أو مع الاستحالة كشريك الباري واجتماع الضدين.
ثم إن الكلي
إما ذاتي أي يدخل في حقيقة جزئيات هذا الكلي أي مصاديقه وأفراده، كالحيوان للإنسان.
أو ليس بذاتي أي أنه لا يدخل في حقيقة جزئياته، كالماشي للإنسان فهو خارج عن ماهيته وحقيقته ولا يحتاج إليه في تصوره، لأن الإنسان يتركب من (الحيوان والناطق)، فالماشي والضاحك، وغير ذلك من أمثالهما خارجة عن تصور ماهيته ويسمى غير الذاتي بالعرضي.
وضابط معرفة العرضي إمكان تصور ماهية الشيء دون الحاجة إلى تصوره، استحضاراً وفهماً.
وضابط الذاتي امتناع تصورها بدونه.
ثم إن الذاتي :
إما أن يشترك بين الماهية وغيرها.
أو يختص بها.
والعرضي مثل الذاتي في ذلك.
فالأقسام أربعة :
جنس
وفصل
وعرض عام
وعرض خاص (أو خاصة) على الترتيب.
وخامس الأقسام هو أن يكون الذاتي تمام الماهية لا جزءاً منها. وهو النوع. وسمي ذاتياً بناءً على أن الذاتي ما ليس بعرضي. فتمت الكليات خمسة أقسام.
فيقال في تعريف الجنس على المسامحة: هو الكلي الذاتي المجاب به عن سؤال ما هو، والمشترك بين كثيرين مختلفين في الحقيقة.
كالحيوان بالنسبة للإنسان والفرس مثلاً، فإنك لو سئلت عن كل منهما ما هو من حيث اشتراكه مع غيره من الحقائق كان جوابك (هذا حيوان) صحيحاً.
ويخرج بذلك الفصل لكونه غير مشترك بين كثيرين مختلفين بالحقيقة بل متفقون في الحقيقة.
ومن نفس الباب يخرج النوع.
ويخرج بذلك العرضان العام والعرض الخاص أو الخاصة لكونهما ليسا بذاتيين.
وكذلك يخرج الفصل والخاصة لكونهما يقالان في جواب أي شيء هو لتمييز الماهية عن غيرها ولا يقالان في جواب ما هو.
وخرج العرض العام أيضاً لكونه لا يقال في الجواب أصلاً. فتأمله.
فيبقى الجنس، وهو المطلوب تصوره بهذا التعريف.
ويقال في تعريف الفصل: هو الكلي الذاتي المجاب به عن سؤال أي شيء هو، والمشترك بين متفقين في الحقيقة.
وتأمل كيف خرج به الجنس والنوع والعرضان. ومثاله الناطق للإنسان، والصهال للفرس، والنهاق للحمار.
ويقال في تعريف النوع: هو الكلي الذاتي المجاب به عن سؤال ما هو، المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة.
وانظر كيف تخرج بقية الكليات. ومثاله تمام كل ماهية.
ويقال في تعريف العرض العام: كلي عرضي يقال على ما هو تحت حقائق مختلفة. كالمتنفس للإنسان وكل حيوان ونبات.
وقد خرج به بقية الكليات لو تأملت.
وأخيراً فالخاصة: كلي عرضي يقال على ما تحت حقيقة واحدة
كالضاحك للإنسان.
واعلم أن الجنس إما :
عالٍ إذا وقع تحته جنس ولم يكن فوقه جنس كالجوهر للإنسان.
ومتوسط إذا كان فوقه جنس وتحته آخر، كالجسم والنامي للإنسان.
وسافل إذا كان فوقه جنس ولم يكن تحته جنس، كالحيوان للإنسان.
ومنفرد وهو ما ليس تحته ولا فوقه أي جنس. ولا مثال عليه. وافترضه من قال به تماماً للقسمة. فتأمله.
وهذا القدر كافٍ إذا فهمته،
لننتقل إلى الكلام في المباحث التي سآتي إليها بعد ذلك.
وكما هي العادة، سأنتظر استفساراتكم، ومناقشاتكم ليتعمق فهمنا لهذه المصطلحات التي أوردناها في هذا الدرس، قبل أن ننتقل إلى بحث جديد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
بسم الله الرحمن الرحيم
(فصل) نسبة الألفاظ للمعاني
اللفظ إما واحد أوْ أكثر. وعلى كل فالمعنى إما واحد أو أكثر. فالأقسام أربعة:
الأول اللفظ الواحد الدال على معنى واحد،.
أي أن جميع مصاديقه متفقة الحقيقة.
ويسمى كلياً متواطئاً.
والثاني اللفظ الواحد الدال على أكثر من معنى.
أي أن له مصاديق متعددة مختلفة في الحقيقة.
ويدعى كلياً مشتركاً بصيغة اسم الفاعل جرياً مع باقي الصيغ في هذا الباب. كما نبه عليه شيخنا السعيد، أسعد الله بمحياه الخلائق.
وإن تكثر اللفظ ودل الجميع على معنى واحد (تأمل) سمي اللفظ مترادفاً وكذا إخوته، أي أن مصاديق الأول هي عينها مصاديق الثاني، وهكذا.
وإن تكثر اللفظ والمعنى فهذان كليان متباينان أو متخالفان. لأن لكل منهما لفظاً خاصاً به ومعنى خاصاً به. فلكل من المتباينات مصاديق تختلف عن مصاديق الآخر.
ومثال المتواطئ إنسان في دلالته بالتواطي أي الاتفاق على كل فرد من أفراده.
ثم المتواطئ إن اختلف معناه في أفراده بالشدة والضعف كالسواد والبياض وسائر الألوان -إذ هي درجات متفاوتة في الشدة- سمي كلياً مشككاً أي زيادة على كونه كلياً متواطئاً يسمى مشككاً.
ومثال المشترك (عين) فإنها تطلق إطلاقاً حقيقياً لتدل على عدة معانٍ مختلفة في الحقيقة، ويتعين المعنى المراد منها بحسب سياق الكلام، مثل العين الباصرة أي التي في رأس بعض الحيوان، والجارية أي عين الماء، والعين المضيئة أي عين الشمس، وغيرها. فابحث عن معانيها الحقيقية فإن من الأعيان نفائس أفنيت في كنزها الأعمار وأشعلت من أجلها الحروب الدوارس، وكذا من العيون خسائس، وغيرها لن تمسها النار من فضل الله لما أنها على الدين حارس.
وتقييدي المشترك بالإطلاق الحقيقي لأتحرز عن الإطلاق المجازي. لكون المشترك من الأول لا الثاني.
وإن وقع اللفظ وساغ تقديره مشتركاً ومجازاً فالمجاز أولى من الاشتراك. وعلامة الحقيقة التبادر عند أهل اللغة وعلمائها وإن كانوا أعاجم الأصل، لا عند أمثالنا. فافهم.
فصل (في تحقيق الفرق بين الكلي والكل)
اعلم أن الكلي مفهوم لا يمتنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه كحيوان، سواء استحال وجود شيء من أفراده في الخارج كاجتماع الضدين في محل واحد، أو جاز ولم يوجد كجبل من ذهب، أو وجد منه فرد واحد مع إمكان غيره كشمس مجموعتنا الشمسية، أو وجد منه فرد واحد مع استحالة غيره كواجب الوجود سبحانه، أو كان كثيراً متناهياً كالإنسان، أو كثيراً غير متناهٍ كالعدد.
والكل يمتنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، بمعنى أنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً على كثيرين، وسواء وجد في الخارج أو في الذهن فإنه لا بد أن يكون متناهي الأجزاء.
والكل يتقوم بأجزائه ولا يحمل عليها كطاولتي تتقوم بسطحها وأرجلها ولا يجوز أن يقول عن رجلها طاولة، بخلاف الكلي فإنه يحمل على جزئياته ولا يتقوم بها كالإنسان يقال زيد إنسان وعمرو إنسان ولا يقال يتقوم الإنسان بعمرو وبكر وزيد و... إلخ، والكل قابل للوجود في الخارج، ولا شيء من الكلي بموجود في الخارج من حيث هو كليّ.
وأجزاء الكل متناهية وجوباً لما أن مجموع المحدود والمعدود والمتناهي محدود ومعدود ومتناهٍ.
وجزئيات الكلي غير متناهية لا ذهناً ولا خارجاً لا دفعةً. فإن الذهن لا يتصور غير المتناهي على التفصيل دفعة، ولا يوجد غير المتناهي في الوجود دفعة، بل على التعاقب. فتدبر مثال نعيم أهل الجنة في الدرس الرابع.
ونبه الإمام الرازي رضي الله عنه في المباحث المشرقية في الفصل الخامس عشر في الفرق بين الكل والكلي، وذلك من أوجه:
الأول: أن الكل من حيث هو يكون موجوداً في الخارج.
وأما الكلي فلا وجود له إلا في الذهن.
الثاني: الكل يعد بأجزائه.
والكلي يعد بجزئياته
الثالث: الكلي يكون مقوماً للجزئي.
والكل يكون متقوماً بالجزء
الرابع: أن طبيعة الكل لا تصير هي الجزء،
أما طبيعة الكلي فإنها تصير جزئية.
مثلاً: الإنسان إذا صار هذا الإنسان.
الخامس: أن الكل لا يكون كلاً في كل جزء وحده،
والكلي يكون كلياً لكل جزء وحده لأن الإنسان يصدق على الشخص الواحد. (تنبه إلى أن قوله لكل جزء أي لكل فرد من أفراد الكلي أي لكل جزئي من جزئياته)
السادس: أن الكل أجزاؤه متناهية،
والكلي جزئياته غير متناهية
السابع: أن الكل لا بد من حضور أجزائه معه،
والكلي لا يحتاج إلى حضور جزئياته جميعاً. )
اهـ كلام الحبر العلامة إمام المسلمين فخر الدين الرازي رضي الله عنه.
وكنت قد توصلت إلى معظم هذه الفروق من تفكري في معنى الكلي والكل، وقبل أن أقف على شيء من كلام العلماء في ذلك. فلا تستهن بفكرك، وما أجمله من شعور حين تتوصل بنظرك لشيء فتراه موافقاً لأنظار العلماء، فإن ذلك مما يزيد ثقتك بنفسك، ويدلك على صحة نظرك، وبدء تمكنك من مبحثك، وأنك على منهج العلماء ماض.
وتنبه إلى أني عبرت بأعم من عبارة الإمام في الفرق بين الكل والكلي من حيث الوجود، فلم أجعل الكل من حيث هو موجوداً بل قابلاً للوجود. وأرى الكل أعم من أن يوجد أو لا يوجد. وهذا موضع دقيق فتأمله. قوله (السابع أن الكل لا بد من حضور أجزائه..) أقول: لا يشترط حضورها في الذهن عند الحكم عليه دائماً. فتأمل. قوله في السادس: (والكلي جزئياته غير متناهية) أي لا يجب تناهيها بل ولا وجود شيء من المصاديق كما بيناه.
وبهذا الكلام، وبما أجبت به الأخ سعد في ملحق الدرس الرابع نكون قد حققنا لك الفرق بين الكل والكلي، فطالعهما وتأمل قدر ما شئت، فإن وقع لك غموض في معنى شيء من هذا الكلام فاسأل، أقدرنا الله على إجابتك.
واعلم أخيراً أني سأنبه في باب القضايا على الفرق بين الحكم في قضية الكل والقضية الكلية. فإن المحكوم عليه قد يفيد المجموع من حيث هو مجموع، كقولنا (بنو تميم أقوياء) و(المقدسيون كرماء) و(أهل الأزهر علماء) فيكون الحكم واقعاً على الكل أي المجموع من حيث ما هو مجموع. وستعرف هنالك أن الحكم على المجموع لا يستلزم ثبوت الحكم لكل فرد فرد من أفراده. بل القدر المقطوع به من هذه القضية هو ثبوت الحكم للبعض وإن جاز كونه ثابتاً للكل، أي أن بعض المذكورين أقوياء، وكرماء، وعلماء. بخلاف إثبات الحكم للمحكوم عليه بواسطة السور الكلي، كقولنا: (كل مقدسي كريم) فهذه القضية تسمى كلية، وهي تثبت الحكم لكل فرد من المقادسة، ويثبت خطؤها بالتمثيل بواحد بخيل منهم. فتنبه.
وسنزيد المقام بياناً عند الكلام في القضايا إن شاء الله تعالى، ونتناول فوائد لغوية ومنطقية عزيزة هنالك. فانتظره.
وإذا حققت الفرق بين الكل والكلي لم يبق الكثير ليقال في الفرق بين الجزء والجزئي. لأن الجزئي هو واحد من مصاديق الكلي أي فرد من أفراده وإذا كان في ذاته مركباً صار كلاً لأجزائه كزيد فهي مصداق أو جزئي إنسان، وهو كلٌ باعتبار أنه مركب من أجزاء، ولا يكون معنى الجزئي صادقاً على كثيرين، ولذلك لا يكون الكل كلياً بل يجب أن يكون جزئياً دائماً.
والجزء هو ما تقوم منه ومن غيره بالهيئة الاجتماعية كل. والكل قد ينظر إليه فقط من حيث إنه مجموع الأجزاء، وقد ينظر إليه من حيث ما هو مجموعة من الأجزاء بينها نسب معينة، وقد ينظر إليه نظرة أخص من ذلك وهو كونه مجموعة من الأجزاء ذات نسب معينة بينها، تقتضي له تلك النسب كيفية معينة. والأحكام على الكل تبعاً لذلك قد تكون باعتبار واحد من هذه الاعتبارات. فتنبه.
وأريدك أن تتأمل هل يجوز أن يطلق لفظ الكل أو الكلي أو الجزء أو الجزئي على الله سبحانه وتعالى أم لا؟ وإن جاز إطلاق أي من هذه المصطلحات عليه تعالى، فعلى أي معنى يصح هذا الإطلاق، وعلى أي معنى لا يصح؟ وهل هنالك ضوابط أخرى غير صحة المعنى تقيدنا في إطلاق هذه الألفاظ وغيرها على الإله سبحانه؟
وأريد من الإخوة المتابعين للدرس من المبتدئين أن يراجعوا كل ما فات حتى الآن ويتأكدوا من أنهم فهموه جيداً، وإذا بقي لهم أي سؤال فليسألوه. وسيكون الدرس القادم في مقاصد التصورات (المعرفات) طويلاً ومفصلاً، وسنحتاج لفهمه كثيراً مما مضى. وسيأتيكم قريباً جداً.
والحمد لله رب العالمين.
(فصل) نسبة الألفاظ للمعاني
اللفظ إما واحد أوْ أكثر. وعلى كل فالمعنى إما واحد أو أكثر. فالأقسام أربعة:
الأول اللفظ الواحد الدال على معنى واحد،.
أي أن جميع مصاديقه متفقة الحقيقة.
ويسمى كلياً متواطئاً.
والثاني اللفظ الواحد الدال على أكثر من معنى.
أي أن له مصاديق متعددة مختلفة في الحقيقة.
ويدعى كلياً مشتركاً بصيغة اسم الفاعل جرياً مع باقي الصيغ في هذا الباب. كما نبه عليه شيخنا السعيد، أسعد الله بمحياه الخلائق.
وإن تكثر اللفظ ودل الجميع على معنى واحد (تأمل) سمي اللفظ مترادفاً وكذا إخوته، أي أن مصاديق الأول هي عينها مصاديق الثاني، وهكذا.
وإن تكثر اللفظ والمعنى فهذان كليان متباينان أو متخالفان. لأن لكل منهما لفظاً خاصاً به ومعنى خاصاً به. فلكل من المتباينات مصاديق تختلف عن مصاديق الآخر.
ومثال المتواطئ إنسان في دلالته بالتواطي أي الاتفاق على كل فرد من أفراده.
ثم المتواطئ إن اختلف معناه في أفراده بالشدة والضعف كالسواد والبياض وسائر الألوان -إذ هي درجات متفاوتة في الشدة- سمي كلياً مشككاً أي زيادة على كونه كلياً متواطئاً يسمى مشككاً.
ومثال المشترك (عين) فإنها تطلق إطلاقاً حقيقياً لتدل على عدة معانٍ مختلفة في الحقيقة، ويتعين المعنى المراد منها بحسب سياق الكلام، مثل العين الباصرة أي التي في رأس بعض الحيوان، والجارية أي عين الماء، والعين المضيئة أي عين الشمس، وغيرها. فابحث عن معانيها الحقيقية فإن من الأعيان نفائس أفنيت في كنزها الأعمار وأشعلت من أجلها الحروب الدوارس، وكذا من العيون خسائس، وغيرها لن تمسها النار من فضل الله لما أنها على الدين حارس.
وتقييدي المشترك بالإطلاق الحقيقي لأتحرز عن الإطلاق المجازي. لكون المشترك من الأول لا الثاني.
وإن وقع اللفظ وساغ تقديره مشتركاً ومجازاً فالمجاز أولى من الاشتراك. وعلامة الحقيقة التبادر عند أهل اللغة وعلمائها وإن كانوا أعاجم الأصل، لا عند أمثالنا. فافهم.
فصل (في تحقيق الفرق بين الكلي والكل)
اعلم أن الكلي مفهوم لا يمتنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه كحيوان، سواء استحال وجود شيء من أفراده في الخارج كاجتماع الضدين في محل واحد، أو جاز ولم يوجد كجبل من ذهب، أو وجد منه فرد واحد مع إمكان غيره كشمس مجموعتنا الشمسية، أو وجد منه فرد واحد مع استحالة غيره كواجب الوجود سبحانه، أو كان كثيراً متناهياً كالإنسان، أو كثيراً غير متناهٍ كالعدد.
والكل يمتنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، بمعنى أنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً على كثيرين، وسواء وجد في الخارج أو في الذهن فإنه لا بد أن يكون متناهي الأجزاء.
والكل يتقوم بأجزائه ولا يحمل عليها كطاولتي تتقوم بسطحها وأرجلها ولا يجوز أن يقول عن رجلها طاولة، بخلاف الكلي فإنه يحمل على جزئياته ولا يتقوم بها كالإنسان يقال زيد إنسان وعمرو إنسان ولا يقال يتقوم الإنسان بعمرو وبكر وزيد و... إلخ، والكل قابل للوجود في الخارج، ولا شيء من الكلي بموجود في الخارج من حيث هو كليّ.
وأجزاء الكل متناهية وجوباً لما أن مجموع المحدود والمعدود والمتناهي محدود ومعدود ومتناهٍ.
وجزئيات الكلي غير متناهية لا ذهناً ولا خارجاً لا دفعةً. فإن الذهن لا يتصور غير المتناهي على التفصيل دفعة، ولا يوجد غير المتناهي في الوجود دفعة، بل على التعاقب. فتدبر مثال نعيم أهل الجنة في الدرس الرابع.
ونبه الإمام الرازي رضي الله عنه في المباحث المشرقية في الفصل الخامس عشر في الفرق بين الكل والكلي، وذلك من أوجه:
الأول: أن الكل من حيث هو يكون موجوداً في الخارج.
وأما الكلي فلا وجود له إلا في الذهن.
الثاني: الكل يعد بأجزائه.
والكلي يعد بجزئياته
الثالث: الكلي يكون مقوماً للجزئي.
والكل يكون متقوماً بالجزء
الرابع: أن طبيعة الكل لا تصير هي الجزء،
أما طبيعة الكلي فإنها تصير جزئية.
مثلاً: الإنسان إذا صار هذا الإنسان.
الخامس: أن الكل لا يكون كلاً في كل جزء وحده،
والكلي يكون كلياً لكل جزء وحده لأن الإنسان يصدق على الشخص الواحد. (تنبه إلى أن قوله لكل جزء أي لكل فرد من أفراد الكلي أي لكل جزئي من جزئياته)
السادس: أن الكل أجزاؤه متناهية،
والكلي جزئياته غير متناهية
السابع: أن الكل لا بد من حضور أجزائه معه،
والكلي لا يحتاج إلى حضور جزئياته جميعاً. )
اهـ كلام الحبر العلامة إمام المسلمين فخر الدين الرازي رضي الله عنه.
وكنت قد توصلت إلى معظم هذه الفروق من تفكري في معنى الكلي والكل، وقبل أن أقف على شيء من كلام العلماء في ذلك. فلا تستهن بفكرك، وما أجمله من شعور حين تتوصل بنظرك لشيء فتراه موافقاً لأنظار العلماء، فإن ذلك مما يزيد ثقتك بنفسك، ويدلك على صحة نظرك، وبدء تمكنك من مبحثك، وأنك على منهج العلماء ماض.
وتنبه إلى أني عبرت بأعم من عبارة الإمام في الفرق بين الكل والكلي من حيث الوجود، فلم أجعل الكل من حيث هو موجوداً بل قابلاً للوجود. وأرى الكل أعم من أن يوجد أو لا يوجد. وهذا موضع دقيق فتأمله. قوله (السابع أن الكل لا بد من حضور أجزائه..) أقول: لا يشترط حضورها في الذهن عند الحكم عليه دائماً. فتأمل. قوله في السادس: (والكلي جزئياته غير متناهية) أي لا يجب تناهيها بل ولا وجود شيء من المصاديق كما بيناه.
وبهذا الكلام، وبما أجبت به الأخ سعد في ملحق الدرس الرابع نكون قد حققنا لك الفرق بين الكل والكلي، فطالعهما وتأمل قدر ما شئت، فإن وقع لك غموض في معنى شيء من هذا الكلام فاسأل، أقدرنا الله على إجابتك.
واعلم أخيراً أني سأنبه في باب القضايا على الفرق بين الحكم في قضية الكل والقضية الكلية. فإن المحكوم عليه قد يفيد المجموع من حيث هو مجموع، كقولنا (بنو تميم أقوياء) و(المقدسيون كرماء) و(أهل الأزهر علماء) فيكون الحكم واقعاً على الكل أي المجموع من حيث ما هو مجموع. وستعرف هنالك أن الحكم على المجموع لا يستلزم ثبوت الحكم لكل فرد فرد من أفراده. بل القدر المقطوع به من هذه القضية هو ثبوت الحكم للبعض وإن جاز كونه ثابتاً للكل، أي أن بعض المذكورين أقوياء، وكرماء، وعلماء. بخلاف إثبات الحكم للمحكوم عليه بواسطة السور الكلي، كقولنا: (كل مقدسي كريم) فهذه القضية تسمى كلية، وهي تثبت الحكم لكل فرد من المقادسة، ويثبت خطؤها بالتمثيل بواحد بخيل منهم. فتنبه.
وسنزيد المقام بياناً عند الكلام في القضايا إن شاء الله تعالى، ونتناول فوائد لغوية ومنطقية عزيزة هنالك. فانتظره.
وإذا حققت الفرق بين الكل والكلي لم يبق الكثير ليقال في الفرق بين الجزء والجزئي. لأن الجزئي هو واحد من مصاديق الكلي أي فرد من أفراده وإذا كان في ذاته مركباً صار كلاً لأجزائه كزيد فهي مصداق أو جزئي إنسان، وهو كلٌ باعتبار أنه مركب من أجزاء، ولا يكون معنى الجزئي صادقاً على كثيرين، ولذلك لا يكون الكل كلياً بل يجب أن يكون جزئياً دائماً.
والجزء هو ما تقوم منه ومن غيره بالهيئة الاجتماعية كل. والكل قد ينظر إليه فقط من حيث إنه مجموع الأجزاء، وقد ينظر إليه من حيث ما هو مجموعة من الأجزاء بينها نسب معينة، وقد ينظر إليه نظرة أخص من ذلك وهو كونه مجموعة من الأجزاء ذات نسب معينة بينها، تقتضي له تلك النسب كيفية معينة. والأحكام على الكل تبعاً لذلك قد تكون باعتبار واحد من هذه الاعتبارات. فتنبه.
وأريدك أن تتأمل هل يجوز أن يطلق لفظ الكل أو الكلي أو الجزء أو الجزئي على الله سبحانه وتعالى أم لا؟ وإن جاز إطلاق أي من هذه المصطلحات عليه تعالى، فعلى أي معنى يصح هذا الإطلاق، وعلى أي معنى لا يصح؟ وهل هنالك ضوابط أخرى غير صحة المعنى تقيدنا في إطلاق هذه الألفاظ وغيرها على الإله سبحانه؟
وأريد من الإخوة المتابعين للدرس من المبتدئين أن يراجعوا كل ما فات حتى الآن ويتأكدوا من أنهم فهموه جيداً، وإذا بقي لهم أي سؤال فليسألوه. وسيكون الدرس القادم في مقاصد التصورات (المعرفات) طويلاً ومفصلاً، وسنحتاج لفهمه كثيراً مما مضى. وسيأتيكم قريباً جداً.
والحمد لله رب العالمين.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: دروس المنطق للمبتدئين..التصورات
بسم الله الرحمن الرحيم
[المعرِّفات]
إن تعريف الأشياء مهم جداً في كل علم من العلوم، لأنه يفيدنا تصورها، المحتاج إليه في الحكم عليها، وتصحيح أو تخطئة الأحكام الواردة عليها وبالتالي قبولها أو ردها.
ولذلك تجد كثيراً من الكتب تبدأ بتعريف الأمر المراد بحثه، قبل الدخول في أحكامه وأي تفاصيل تتعلق به. لأنه ما لم يكن ذلك الأمر واضحاً ومتصوراً ولو من بعض جهاته.
فلا يمكن أن تكون القضايا الوارد فيها ذكره مفهومة، ولا يمكن التصديق بتلك القضايا أو تكذيبها.
كما لا يمكن للقارئ أن يفكر في حيثيات ذلك الأمر أو أن يحكم عليه بأي حكم نفياً كان إثباتاً.
وإذا وقع منه الحكم عليه فلا يأمن أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، لأنه يكون بذلك مجرد مجازف غير متحقق ولا مقتنع بما يقول. كالطالب في امتحان اللغة الإنكليزية يأتيه سؤال عليه أن يختار له جواباً واحداً من عدة إجابات، وحين يقرأ السؤال لا يفهم منه شيئاً فيحتار، لا لتساوي المحتملات عنده، بل لعدم تصوره أي معنى للسؤال، فيختار واحدة من الإجابات بالحادي بادي، أو بالاختيار العشوائي دون ترجيح للجواب عن علم أو ظن. فهذا لا يعرف نفسه أأخطأ أم أصاب.
وقد قلنا:
إن العلم ينقسم إلى: تصور وإلى تصديق. ولكل منهما مباد ومقاصد. فمبادي التصورات هي الكليات الخمس التي درستها. وها نحن الآن شارعون في بحث مقاصد التصورات وهي الأقوال الشارحة او المعرّفات.
فإحدى الطرق التي تفيدنا التصور هو التعريف، وهي الطريق المعتبرة في الكتابة والقراءة والمباحثات فيما لا قبل للضرورة بإفادته.
فعلى طالب العلم أن يتمكن منها، ليعلم إذا عرض عليه تعريف هل هو صحيح أم لا.
وإذا كان في التعريف شيء فكيف يصححه، أي أنه عند التمكن من قواعد التعريف، وشروط صحته، وما يجوز في التعريف وما لا يجوز ذكره،
فإنه يكون قادراً على نقد الحدود وتصحيحها، وكذا يكون قادراً على تعريف الأشياء التي يتكلم عليها.
وأما ما يفيدنا التصديق النظري فسنأتي إليه في أبواب القياس.
والمعرِّف يفيدنا تصور المعرَّف بذكر صفاته الذاتية أو خواصه أو لوازمه، بحيث يقربنا من المطلوب تصوره شيئاً فشيئاً حتى نقتنصه ونتصوره، ويدخل فيه كل فرد من أفراد المعرَّف إذا كان له أفراد، ويخرج عنه كل ما سواه. وبحيث يؤدي إلى استحضار صورة ما للمعرَّف أو تمام ماهيته إلى الذهن بواسطة ذكر الصفات الذاتية له، أو بذكر لوازمه وخصائصه.
فأنت إذا أردت أن تعرف الإنسان، فقلت إنه حيوان فقط. فإن هذا القدر لا يكفي، نعم هو يقربك من الإنسان بإخراجه ما ليس بحيوان من الجمادات وغيرها من الحقائق، ولكنك تلاحظ أنه يستدعي مع الإنسان حقايق كثيرة أخرى كالفرس والأسد وباقي أنواع الحيوان. ولكنك إذا أضفت قيداً آخر كالناطق، فإنك تمنع بهذا القيد غير الإنسان من الدخول في تعريفك.
فلفظ الحيوان جمعت به كل إنسان مع غيره من أنواع الحيوان، ولفظ ناطق أخرجت به كل ما عدا الإنسان من الحيوان. فأفادك الحيوان الذي هو الجنس القريب للإنسان جمع أفراده، وأفادك الناطق الذي هو فصل الإنسان منع أفراد غير الإنسان من الدخول فيه.
واعلم أن الأمرين إذا اشتركا في جنس فلا بد أن ينفصل كل منهما عن الآخر بفصل إذا لم يكونا من نوع واحد، وإذا كانا من نفس النوع فقد اشتركا في الماهية أي في أمرين ذاتيين هما الجنس والفصل، وهنا لا يتميزان إلا بالعوارض، فافهم.
وهذا التعريف الذي بالجنس القريب والفصل القريب، يسمى الحد التام. وهو أكمل المعرِّفات. لكونه يقتنص كل فرد من أفراد المعرَّف فيجمعها دفعة ويستكنه الحقيقة الواحدة في الجميع بأقرب عبارة، وأدل لفظ، لكونه يتناول صفتين ذاتيين للمعرّف الأولى تجمع أفراده ولو مع أفراد غيره، والثانية تميزهم عن غيرهم تمييزاً لا يقع معه اختلاط بغيرهم أبداً، فيحصل في الذهن تصور تام لماهية المعرّف لأن الحد التام ذكر تمام ما تركبت منه تلك الماهية.
واعلم أن الحد في اللغة المنع.
وفي الشرع :عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى على من يأتي بمنهي عنه معين.
وفي الاصطلاح: قول يشتمل على ما به الاشتراك وعلى ما به الامتياز وهما الجنس والفصل على ما بيناه.
ثم التعريف بالجنس البعيد والفصل القريب، أو بالفصل القريب وحده يسمى حداً ناقصاً. كتعريف الإنسان بالجسم الناطق. فهو لم يأت بأقرب الأجناس من الإنسان، واختار منها ما يتميز بالناطقية، أي اختار الناطقين مما هو أعم من الحيوان كالجسم، فلا يؤمن أن يوجد جسم ناطق ليس بحيوان.
فلا يكون المنع ههنا بالفصل القريب قد أحكم، لأن المانع حمل على ما هو أعم من الحيوان، وهو الجسم المتناول للإنسان والحيوان عموماً ولغيره مما ليس بحيوان.
والكلام نفسه يجري في الحد الناقص بالفصل القريب وحده. كتعريف الإنسان بالناطق فقط. وهو أخص خصائص الإنسان، أي أهم مميزاته.
ولكن هذا التعريف وإن كان قد جمع أفراد بني الإنسان، إلا أنه لم يمنع الناطقين من غير الإنسان من الدخول فيهم، كالجانّ مثلاً فإنه ناطق قطعاً.
ويحسن استخدامه في سياقات لا يتبادر عند إطلاقه غيره. كأن يكون كلامنا في الإنسان فيعرّف بالناطق فلا يلتبس بغيره.
واعلم أنه إذا أطلق الحد دون تقييد بالناقص فالمقصود هو الحد التام.
ثم الرسم التام هو التعريف بالجنس القريب والخاصة: كتعريف الإنسان بالحيوان الكاتب، أو الحيوان الضاحك.
وهو تعريف جيد كما ترى، ولكنه لما لم يذكر فيه جزء الماهية وأخص صفاتها الكلية الذاتية، وهو الناطق، فإنه لم يكن في كماله كالحد.
والرسم الناقص هو التعريف بالجنس البعيد والخاصة: كتعريف الإنسان بالجسم الضاحك، أو بالخاصة فقط كتعريفه بالضاحك.
ثم التعريف الخامس وهو تقريب معنى اللفظ بذكر رديف له يكون أشهر من المعرَّف. كقولك: الغضنفر أسد.
واعلم أنه كما يكون التعريف للكليات فإنه يقع كذلك للجزئيات. ولكن كما نبهنا عليه، فإنك تحتاج في تعريف الجزئي من حيث هو كذلك إلى أكثر من ذكر أجزاء ماهيته، بل قد لا تحتاج إلى التعرض لحقيقته إن كانت معلومة. أي أنك تحتاج في تحديده إلى ذكر بعض أهم مشخصاته التي يتميز بها عن غيره من أفراد نوعه.
كما إذا أردت التعريف بالإمام الغزالي مثلاً، فإنه لا يكفي أن تقول إنه حيوان ناطق، بل كونه كذلك من المعلوم بالضرورة، ولا تجد السائل يسأل عنه بما هو الغزالي لتجيب بذكر نوعه، بل تجد يسأل عنه بمن هو؟
إذ لا يفيد هذا القدر مع صدقه عليه تعريفاً به. وكذا لو قلت إنه عالم فقط، فإنه وإن يكن قد قرب إلى الذهن صورة إنسان ذكَرٍ عالم إلا أنه لا يكفي لتمييزه عن غيره إذ في تاريخنا منهم الكثير، فإذا زدت قائلاً إنه عاش بين 450 هـ و505 هـ، وولد بخراسان، وأبوه محمد بن محمد بن أحمد الطوسي. ولازم إمام الحرمين الجويني حتى مات الإمام رحمه الله، ودرّس في النظامية، ومات بطوس في الخامسة والخمسين من عمره، بعد أن طبق بشهرته الآفاق، كمتكلم وأصولي، وفقيه، ومتصوف متجرد زاهد، وأورث كتباً جليلة في علوم كثيرة. وحارب الحشو والتجسيم والفلاسفة. وانتصر للدين وبقي منقطعاً للعبادة والتدريس في آخر عمره حتى أتاه اليقين، ولقب بحجة الإسلام.
فإنك تلاحظ أنه كلما زدت في توصيفه وذكر العوارض المشخصة له ازداد العلم به أي صار تصوره أتم عند السامع.
وههنا إذا أردت الاختصار يمكنك أن تقتصر على القدر الذي تتأكد معه أنه لن يشترك فيه مع غيره كتمام اسمه ولقبه ومولده ووفاته وبلده.
فإن هذه يبعد أن تتطابق مع آخرين غيره. فإذا تميز عن غيره كان كل ما تزيده فضلة، ولكنها كما ترى تزيد العلم به بما يوسع نطاق الحكم عليه، ونقد الأحكام المتواردة عليه كشخص أو كعالم بكل ما يميزه ويمثله.
فلا يمكن مع هذه القدر اليسير المذكور هنا عنه رحمه الله أن نصحح أو نخطئ مثلاً أنه هل يقول بالكشف مصدراً للمعارف اليقينية عوضاً عن العقل والحس لأنهما لا ينضبطان دائماً، كما ينسبه له بعض الجهال، أو أنه هل يعتقد بوحدة الوجود أوْ لا. فإن قبول أو رد هذه الأحكام يحتاج إلى مزيد تصور لأقواله، بدراسة كتبه وتحقيقها وتتبع سيرته وآثاره. فإذا وجد في كتبه وحياته من الوقائع ما يفيد القطع بصحة هذه الأحكام قلنا إن ما نسب إليه صحيح، وإلا فليرد.
وقد علمت حتى اللحظة أن الشيء إن لم يكن تصوره حاصلاً بالاضطرار، فلا بد للحكم عليه من تعريفه ليحصل لنا تصوره.
وعليه فالمعرِّف هو ما يستلزم تصوره اكتساب تصور الشيء بتمام حقيقته أو بعضها، أو بامتيازه عن كل ما عداه.
وأن ما يفيد تصور حقيقة الشيء هو الحد التام دون ما عداه من المعرِّفات. وغيره لا يستلزم تصوره تصور حقيقة الشيء، بل يستلزم امتيازه عن غيره، بما يتضمنه التعريف من الخصائص أو اللواحق المشخصة.
وشروط كل واحد من هذه المعرِّفات الخمسة المذكورة هو:
أن يكون جامعاً أي يدخل فيه جميع أفراد المعرَّف.
ومانعاً أي يمنع أفراد غير المعرف من الدخول فيه، والجمع والمنع يسميان أيضاً بالاطراد والانعكاس أو الطرد والعكس.
وكثيراً ما يورد على المعرفات من هاتين الجهتين، فترى في بعض الكتب قولهم وعرفوا كذا بكذا وكذا، ويرد على طرده كذا، أو يرد على عكسه كذا، أو يعترض عليه بقولهم ولا يطرد، أو لا ينعكس، فتنبه لهذه المعاني.
ثم يشترط في المعرِّف أن يكون أظهر من المعرَّف. فلا يجوز إذا سألك الصغير ما الأسد أن تقول له الهزبر أو الغضنفر أو الليث فإن تصورها كما ترى أبعد من تصور الأسد. ويقدح في التعريفات أيضاً من هذه الجهة إذا تضمن التعريف ما يزيد المعرَّف بعداً. ومما يقال في ذلك هذا تعريف بالأخفى. فافهم العبارة.
وكما لا يجوز أن يكون التعريف أخفى من المعرَّف فلا يصح أن يكون مساوياً له في الظهور والخفاء، لأنه عندها يبقيه في نفس المكان، أي نفس الدرجة من الخفاء، فلا يفيد تقريبه، ولا يتحقق المقصود من التعريف. فهل لأحدكم أن يمثل لنا على التعريف بالمساوي؟
ثم اعلم أن من شروط التعريف أيضاً عدم جواز استخدام الألفاظ المجازية فيه أو الألفاظ المشتركة بلا قرينة تحدد المقصود منها.
وكذا لا يجوز أن يتضمن التعريف ما يتوقف معرفته على معرفة المعرّف.
ولا يجوز أن تدخل الأحكام في الحدود خاصة دون الرسوم.
وكذلك أو التي للتشكيك والترديد دون التي لبيان انقسام المعرَّف إلى قسمين أو أقسام.
فهذا تمام باب التصورات في علم المنطق على سبيل الاختصار والاقتصار والتسهيل والمسامحة في العبارات. وسيكون الدرس القادم إن شاء الله في تطبيقات مفيدة على ما مضى دراسته، وسنورد مجموعة من التعريفات ونناقشها وننقدها، ونحاول أن نصحح ما احتوته من أخطاء، تدريباً لأنفسنا وأنفسكم على اكتساب هذه الملكة.
والحمد لله رب العالمين.
[المعرِّفات]
إن تعريف الأشياء مهم جداً في كل علم من العلوم، لأنه يفيدنا تصورها، المحتاج إليه في الحكم عليها، وتصحيح أو تخطئة الأحكام الواردة عليها وبالتالي قبولها أو ردها.
ولذلك تجد كثيراً من الكتب تبدأ بتعريف الأمر المراد بحثه، قبل الدخول في أحكامه وأي تفاصيل تتعلق به. لأنه ما لم يكن ذلك الأمر واضحاً ومتصوراً ولو من بعض جهاته.
فلا يمكن أن تكون القضايا الوارد فيها ذكره مفهومة، ولا يمكن التصديق بتلك القضايا أو تكذيبها.
كما لا يمكن للقارئ أن يفكر في حيثيات ذلك الأمر أو أن يحكم عليه بأي حكم نفياً كان إثباتاً.
وإذا وقع منه الحكم عليه فلا يأمن أن يكون صحيحاً أو خاطئاً، لأنه يكون بذلك مجرد مجازف غير متحقق ولا مقتنع بما يقول. كالطالب في امتحان اللغة الإنكليزية يأتيه سؤال عليه أن يختار له جواباً واحداً من عدة إجابات، وحين يقرأ السؤال لا يفهم منه شيئاً فيحتار، لا لتساوي المحتملات عنده، بل لعدم تصوره أي معنى للسؤال، فيختار واحدة من الإجابات بالحادي بادي، أو بالاختيار العشوائي دون ترجيح للجواب عن علم أو ظن. فهذا لا يعرف نفسه أأخطأ أم أصاب.
وقد قلنا:
إن العلم ينقسم إلى: تصور وإلى تصديق. ولكل منهما مباد ومقاصد. فمبادي التصورات هي الكليات الخمس التي درستها. وها نحن الآن شارعون في بحث مقاصد التصورات وهي الأقوال الشارحة او المعرّفات.
فإحدى الطرق التي تفيدنا التصور هو التعريف، وهي الطريق المعتبرة في الكتابة والقراءة والمباحثات فيما لا قبل للضرورة بإفادته.
فعلى طالب العلم أن يتمكن منها، ليعلم إذا عرض عليه تعريف هل هو صحيح أم لا.
وإذا كان في التعريف شيء فكيف يصححه، أي أنه عند التمكن من قواعد التعريف، وشروط صحته، وما يجوز في التعريف وما لا يجوز ذكره،
فإنه يكون قادراً على نقد الحدود وتصحيحها، وكذا يكون قادراً على تعريف الأشياء التي يتكلم عليها.
وأما ما يفيدنا التصديق النظري فسنأتي إليه في أبواب القياس.
والمعرِّف يفيدنا تصور المعرَّف بذكر صفاته الذاتية أو خواصه أو لوازمه، بحيث يقربنا من المطلوب تصوره شيئاً فشيئاً حتى نقتنصه ونتصوره، ويدخل فيه كل فرد من أفراد المعرَّف إذا كان له أفراد، ويخرج عنه كل ما سواه. وبحيث يؤدي إلى استحضار صورة ما للمعرَّف أو تمام ماهيته إلى الذهن بواسطة ذكر الصفات الذاتية له، أو بذكر لوازمه وخصائصه.
فأنت إذا أردت أن تعرف الإنسان، فقلت إنه حيوان فقط. فإن هذا القدر لا يكفي، نعم هو يقربك من الإنسان بإخراجه ما ليس بحيوان من الجمادات وغيرها من الحقائق، ولكنك تلاحظ أنه يستدعي مع الإنسان حقايق كثيرة أخرى كالفرس والأسد وباقي أنواع الحيوان. ولكنك إذا أضفت قيداً آخر كالناطق، فإنك تمنع بهذا القيد غير الإنسان من الدخول في تعريفك.
فلفظ الحيوان جمعت به كل إنسان مع غيره من أنواع الحيوان، ولفظ ناطق أخرجت به كل ما عدا الإنسان من الحيوان. فأفادك الحيوان الذي هو الجنس القريب للإنسان جمع أفراده، وأفادك الناطق الذي هو فصل الإنسان منع أفراد غير الإنسان من الدخول فيه.
واعلم أن الأمرين إذا اشتركا في جنس فلا بد أن ينفصل كل منهما عن الآخر بفصل إذا لم يكونا من نوع واحد، وإذا كانا من نفس النوع فقد اشتركا في الماهية أي في أمرين ذاتيين هما الجنس والفصل، وهنا لا يتميزان إلا بالعوارض، فافهم.
وهذا التعريف الذي بالجنس القريب والفصل القريب، يسمى الحد التام. وهو أكمل المعرِّفات. لكونه يقتنص كل فرد من أفراد المعرَّف فيجمعها دفعة ويستكنه الحقيقة الواحدة في الجميع بأقرب عبارة، وأدل لفظ، لكونه يتناول صفتين ذاتيين للمعرّف الأولى تجمع أفراده ولو مع أفراد غيره، والثانية تميزهم عن غيرهم تمييزاً لا يقع معه اختلاط بغيرهم أبداً، فيحصل في الذهن تصور تام لماهية المعرّف لأن الحد التام ذكر تمام ما تركبت منه تلك الماهية.
واعلم أن الحد في اللغة المنع.
وفي الشرع :عقوبة مقدرة وجبت حقاً لله تعالى على من يأتي بمنهي عنه معين.
وفي الاصطلاح: قول يشتمل على ما به الاشتراك وعلى ما به الامتياز وهما الجنس والفصل على ما بيناه.
ثم التعريف بالجنس البعيد والفصل القريب، أو بالفصل القريب وحده يسمى حداً ناقصاً. كتعريف الإنسان بالجسم الناطق. فهو لم يأت بأقرب الأجناس من الإنسان، واختار منها ما يتميز بالناطقية، أي اختار الناطقين مما هو أعم من الحيوان كالجسم، فلا يؤمن أن يوجد جسم ناطق ليس بحيوان.
فلا يكون المنع ههنا بالفصل القريب قد أحكم، لأن المانع حمل على ما هو أعم من الحيوان، وهو الجسم المتناول للإنسان والحيوان عموماً ولغيره مما ليس بحيوان.
والكلام نفسه يجري في الحد الناقص بالفصل القريب وحده. كتعريف الإنسان بالناطق فقط. وهو أخص خصائص الإنسان، أي أهم مميزاته.
ولكن هذا التعريف وإن كان قد جمع أفراد بني الإنسان، إلا أنه لم يمنع الناطقين من غير الإنسان من الدخول فيهم، كالجانّ مثلاً فإنه ناطق قطعاً.
ويحسن استخدامه في سياقات لا يتبادر عند إطلاقه غيره. كأن يكون كلامنا في الإنسان فيعرّف بالناطق فلا يلتبس بغيره.
واعلم أنه إذا أطلق الحد دون تقييد بالناقص فالمقصود هو الحد التام.
ثم الرسم التام هو التعريف بالجنس القريب والخاصة: كتعريف الإنسان بالحيوان الكاتب، أو الحيوان الضاحك.
وهو تعريف جيد كما ترى، ولكنه لما لم يذكر فيه جزء الماهية وأخص صفاتها الكلية الذاتية، وهو الناطق، فإنه لم يكن في كماله كالحد.
والرسم الناقص هو التعريف بالجنس البعيد والخاصة: كتعريف الإنسان بالجسم الضاحك، أو بالخاصة فقط كتعريفه بالضاحك.
ثم التعريف الخامس وهو تقريب معنى اللفظ بذكر رديف له يكون أشهر من المعرَّف. كقولك: الغضنفر أسد.
واعلم أنه كما يكون التعريف للكليات فإنه يقع كذلك للجزئيات. ولكن كما نبهنا عليه، فإنك تحتاج في تعريف الجزئي من حيث هو كذلك إلى أكثر من ذكر أجزاء ماهيته، بل قد لا تحتاج إلى التعرض لحقيقته إن كانت معلومة. أي أنك تحتاج في تحديده إلى ذكر بعض أهم مشخصاته التي يتميز بها عن غيره من أفراد نوعه.
كما إذا أردت التعريف بالإمام الغزالي مثلاً، فإنه لا يكفي أن تقول إنه حيوان ناطق، بل كونه كذلك من المعلوم بالضرورة، ولا تجد السائل يسأل عنه بما هو الغزالي لتجيب بذكر نوعه، بل تجد يسأل عنه بمن هو؟
إذ لا يفيد هذا القدر مع صدقه عليه تعريفاً به. وكذا لو قلت إنه عالم فقط، فإنه وإن يكن قد قرب إلى الذهن صورة إنسان ذكَرٍ عالم إلا أنه لا يكفي لتمييزه عن غيره إذ في تاريخنا منهم الكثير، فإذا زدت قائلاً إنه عاش بين 450 هـ و505 هـ، وولد بخراسان، وأبوه محمد بن محمد بن أحمد الطوسي. ولازم إمام الحرمين الجويني حتى مات الإمام رحمه الله، ودرّس في النظامية، ومات بطوس في الخامسة والخمسين من عمره، بعد أن طبق بشهرته الآفاق، كمتكلم وأصولي، وفقيه، ومتصوف متجرد زاهد، وأورث كتباً جليلة في علوم كثيرة. وحارب الحشو والتجسيم والفلاسفة. وانتصر للدين وبقي منقطعاً للعبادة والتدريس في آخر عمره حتى أتاه اليقين، ولقب بحجة الإسلام.
فإنك تلاحظ أنه كلما زدت في توصيفه وذكر العوارض المشخصة له ازداد العلم به أي صار تصوره أتم عند السامع.
وههنا إذا أردت الاختصار يمكنك أن تقتصر على القدر الذي تتأكد معه أنه لن يشترك فيه مع غيره كتمام اسمه ولقبه ومولده ووفاته وبلده.
فإن هذه يبعد أن تتطابق مع آخرين غيره. فإذا تميز عن غيره كان كل ما تزيده فضلة، ولكنها كما ترى تزيد العلم به بما يوسع نطاق الحكم عليه، ونقد الأحكام المتواردة عليه كشخص أو كعالم بكل ما يميزه ويمثله.
فلا يمكن مع هذه القدر اليسير المذكور هنا عنه رحمه الله أن نصحح أو نخطئ مثلاً أنه هل يقول بالكشف مصدراً للمعارف اليقينية عوضاً عن العقل والحس لأنهما لا ينضبطان دائماً، كما ينسبه له بعض الجهال، أو أنه هل يعتقد بوحدة الوجود أوْ لا. فإن قبول أو رد هذه الأحكام يحتاج إلى مزيد تصور لأقواله، بدراسة كتبه وتحقيقها وتتبع سيرته وآثاره. فإذا وجد في كتبه وحياته من الوقائع ما يفيد القطع بصحة هذه الأحكام قلنا إن ما نسب إليه صحيح، وإلا فليرد.
وقد علمت حتى اللحظة أن الشيء إن لم يكن تصوره حاصلاً بالاضطرار، فلا بد للحكم عليه من تعريفه ليحصل لنا تصوره.
وعليه فالمعرِّف هو ما يستلزم تصوره اكتساب تصور الشيء بتمام حقيقته أو بعضها، أو بامتيازه عن كل ما عداه.
وأن ما يفيد تصور حقيقة الشيء هو الحد التام دون ما عداه من المعرِّفات. وغيره لا يستلزم تصوره تصور حقيقة الشيء، بل يستلزم امتيازه عن غيره، بما يتضمنه التعريف من الخصائص أو اللواحق المشخصة.
وشروط كل واحد من هذه المعرِّفات الخمسة المذكورة هو:
أن يكون جامعاً أي يدخل فيه جميع أفراد المعرَّف.
ومانعاً أي يمنع أفراد غير المعرف من الدخول فيه، والجمع والمنع يسميان أيضاً بالاطراد والانعكاس أو الطرد والعكس.
وكثيراً ما يورد على المعرفات من هاتين الجهتين، فترى في بعض الكتب قولهم وعرفوا كذا بكذا وكذا، ويرد على طرده كذا، أو يرد على عكسه كذا، أو يعترض عليه بقولهم ولا يطرد، أو لا ينعكس، فتنبه لهذه المعاني.
ثم يشترط في المعرِّف أن يكون أظهر من المعرَّف. فلا يجوز إذا سألك الصغير ما الأسد أن تقول له الهزبر أو الغضنفر أو الليث فإن تصورها كما ترى أبعد من تصور الأسد. ويقدح في التعريفات أيضاً من هذه الجهة إذا تضمن التعريف ما يزيد المعرَّف بعداً. ومما يقال في ذلك هذا تعريف بالأخفى. فافهم العبارة.
وكما لا يجوز أن يكون التعريف أخفى من المعرَّف فلا يصح أن يكون مساوياً له في الظهور والخفاء، لأنه عندها يبقيه في نفس المكان، أي نفس الدرجة من الخفاء، فلا يفيد تقريبه، ولا يتحقق المقصود من التعريف. فهل لأحدكم أن يمثل لنا على التعريف بالمساوي؟
ثم اعلم أن من شروط التعريف أيضاً عدم جواز استخدام الألفاظ المجازية فيه أو الألفاظ المشتركة بلا قرينة تحدد المقصود منها.
وكذا لا يجوز أن يتضمن التعريف ما يتوقف معرفته على معرفة المعرّف.
ولا يجوز أن تدخل الأحكام في الحدود خاصة دون الرسوم.
وكذلك أو التي للتشكيك والترديد دون التي لبيان انقسام المعرَّف إلى قسمين أو أقسام.
فهذا تمام باب التصورات في علم المنطق على سبيل الاختصار والاقتصار والتسهيل والمسامحة في العبارات. وسيكون الدرس القادم إن شاء الله في تطبيقات مفيدة على ما مضى دراسته، وسنورد مجموعة من التعريفات ونناقشها وننقدها، ونحاول أن نصحح ما احتوته من أخطاء، تدريباً لأنفسنا وأنفسكم على اكتساب هذه الملكة.
والحمد لله رب العالمين.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» دروس المنطق للمبتدئين... التصديقات
» حمل كتاب المنطق و تاريخه من أرسطو الى راسل / روبير بلانشي
» المنطق الصوري "القضية المنطقية "
» أسئلة وأجوبة في خلاصة المنطق
» دورة للمبتدئين في الفلسفة .. للدكتور عدنان إبراهيم
» حمل كتاب المنطق و تاريخه من أرسطو الى راسل / روبير بلانشي
» المنطق الصوري "القضية المنطقية "
» أسئلة وأجوبة في خلاصة المنطق
» دورة للمبتدئين في الفلسفة .. للدكتور عدنان إبراهيم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى