أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة، تأليف: طه عبد الرحمن
قراءات ومراجعات :مسعود بودوخة
مقدمة:
يكتسب كتاب (روح الحداثة) لطه عبد الرحمن أهميته من كونه أول محاولة جادة في نقد الحداثة الغربية، وفق رؤية فكرية فلسفية، تستند إلى الغايات التي سعى إليها منظّرو هذه الحداثة، والحلم الجميل الذي كان يحدوهم، فتبدّت سرابيَّتُه في كثير من الجوانب وفي بدائل الحداثة الإسلامية التي قدّمها، مما يجعلها السبيل الذي يمكّن من درء الآفات الخلقية التي لصقت بالحداثة الغربية، من حيث إنَّ الحداثة الإسلامية تقوم على جعل الاعتبارات الأخلاقية في صلب العلاقات التي تؤسسها، وتربط الأشياء والإمكانات التقنية بالقيم الخلقية التي تنطوي عليها، والمقاصد والمآلات التي تنتهي إليها وتوجّهها.
وينطلق طه عبد الرحمن من التفريق بين واقع الحداثة الغربية، وروح الحداثة، التي يفترض أنَّ هذا الواقع الحداثي يسعى إلى تجسيد قيمها ومبادئها التي يجملها في: النقد والرشد والشمول. ولكن هذه القيم والمبادئ أسيء تمثّلها وتجسيدها في سياق الواقع الحداثي الغربي، فأتت بنتائج تضاد مقصود أصحابها المتفائل، وهذا هو سبب الأزمات المتلاحقة التي يعانيها البشر، وتهدد مستقبلهم.
وظاهرٌ أنَّ منشأ هذه الأزمات والآفات التي برزت في واقع الحداثة الغربية هو القصور والفقر الروحي والمعنوي، الذي طبع النسخة الغربية للحداثة، والنـزعة المادية الآلية التي طغت عليها، فضيَّقت أفقها، وأفقدت الإنسان الإحساس بالأمان والاطمئنان والمعنى، وولَّدت لديه الشعور بالخوف واليأس والتشرد واللاجدوى.
ومن أبرز مواضع القصور التي طبعت الحداثة في نسختها الغربية، وفي مظهرها العولمي بالذات، تغليب الجانب الاقتصادي والمنفعة المادية على كل اعتبار، وجعلهما مقياساً وحيداً لكل تنمية وتطور، فكان أن طغت التقنية والتجريب، وغابت الحكمة والمقصد عن كل نشاط علمي أو عملي، وغلبت الآلية والتراكمية والإعلانية على عمليات الاتصال التي جاءت بها هذه العولمة.
أما واقع المجتمعات الإسلامية فإنَّه -مع الأسف- يشهد بأنَّها أقرب إلى الحداثة المقلِّدة منها إلى الحداثة المبدعة. وكأنها اقتنعت بأنَّ التطبيق الغربي للحداثة واقع حتمي لا فكاك منه، وانطلت على كثير من مثقفيها -بله عامتها- تلك المسلَّمات والمغالطات التي صاحبت تطبيق الغرب لروح الحداثة.
والخلاصة التي ينتهي إليها طه عبد الرحمن هي أنه لا بديل عن التطبيق الإسلامي لقيم الحداثة، التي تشكل روحها. فهذا التطبيق هو القادر على تجنيب البشرية نكسة التطبيق الغربي للحداثة؛ لأنَّ زمن الحداثة الغربية هو الزمن الأخلاقي للإسلام، الغني بأبعاده الأخلاقية المعنوية على مستوى الفعل، وأبعاده الروحية على مستوى العقائد والتصورات، وأبعاده الإحسانية على مستوى المقاصد والنيَّات، وهو عين ما افتقدته وتفتقده حداثة الغرب.
قراءات ومراجعات :مسعود بودوخة
مقدمة:
يكتسب كتاب (روح الحداثة) لطه عبد الرحمن أهميته من كونه أول محاولة جادة في نقد الحداثة الغربية، وفق رؤية فكرية فلسفية، تستند إلى الغايات التي سعى إليها منظّرو هذه الحداثة، والحلم الجميل الذي كان يحدوهم، فتبدّت سرابيَّتُه في كثير من الجوانب وفي بدائل الحداثة الإسلامية التي قدّمها، مما يجعلها السبيل الذي يمكّن من درء الآفات الخلقية التي لصقت بالحداثة الغربية، من حيث إنَّ الحداثة الإسلامية تقوم على جعل الاعتبارات الأخلاقية في صلب العلاقات التي تؤسسها، وتربط الأشياء والإمكانات التقنية بالقيم الخلقية التي تنطوي عليها، والمقاصد والمآلات التي تنتهي إليها وتوجّهها.
وينطلق طه عبد الرحمن من التفريق بين واقع الحداثة الغربية، وروح الحداثة، التي يفترض أنَّ هذا الواقع الحداثي يسعى إلى تجسيد قيمها ومبادئها التي يجملها في: النقد والرشد والشمول. ولكن هذه القيم والمبادئ أسيء تمثّلها وتجسيدها في سياق الواقع الحداثي الغربي، فأتت بنتائج تضاد مقصود أصحابها المتفائل، وهذا هو سبب الأزمات المتلاحقة التي يعانيها البشر، وتهدد مستقبلهم.
وظاهرٌ أنَّ منشأ هذه الأزمات والآفات التي برزت في واقع الحداثة الغربية هو القصور والفقر الروحي والمعنوي، الذي طبع النسخة الغربية للحداثة، والنـزعة المادية الآلية التي طغت عليها، فضيَّقت أفقها، وأفقدت الإنسان الإحساس بالأمان والاطمئنان والمعنى، وولَّدت لديه الشعور بالخوف واليأس والتشرد واللاجدوى.
ومن أبرز مواضع القصور التي طبعت الحداثة في نسختها الغربية، وفي مظهرها العولمي بالذات، تغليب الجانب الاقتصادي والمنفعة المادية على كل اعتبار، وجعلهما مقياساً وحيداً لكل تنمية وتطور، فكان أن طغت التقنية والتجريب، وغابت الحكمة والمقصد عن كل نشاط علمي أو عملي، وغلبت الآلية والتراكمية والإعلانية على عمليات الاتصال التي جاءت بها هذه العولمة.
أما واقع المجتمعات الإسلامية فإنَّه -مع الأسف- يشهد بأنَّها أقرب إلى الحداثة المقلِّدة منها إلى الحداثة المبدعة. وكأنها اقتنعت بأنَّ التطبيق الغربي للحداثة واقع حتمي لا فكاك منه، وانطلت على كثير من مثقفيها -بله عامتها- تلك المسلَّمات والمغالطات التي صاحبت تطبيق الغرب لروح الحداثة.
والخلاصة التي ينتهي إليها طه عبد الرحمن هي أنه لا بديل عن التطبيق الإسلامي لقيم الحداثة، التي تشكل روحها. فهذا التطبيق هو القادر على تجنيب البشرية نكسة التطبيق الغربي للحداثة؛ لأنَّ زمن الحداثة الغربية هو الزمن الأخلاقي للإسلام، الغني بأبعاده الأخلاقية المعنوية على مستوى الفعل، وأبعاده الروحية على مستوى العقائد والتصورات، وأبعاده الإحسانية على مستوى المقاصد والنيَّات، وهو عين ما افتقدته وتفتقده حداثة الغرب.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
أولا: الحداثة... شروطها وتجاذباتها
توزَّع كتاب طه عبد الرحمن (روح الحداثة) على مقدمة ومدخل وثلاثة أبواب. ففي المقدمة تحدث عن التيه الفكري الذي يواجهه المجتمع المسلم إزاء المفاهيم المتوارِدة عليه من المجتمعات الأخرى، التي جعلت طائفة من أبنائه يسلكون سبيل التقليد، ظناً منهم أنَّه المخرج من هذا التيه، فكان منهم مقلَّدة للمتقدمين، ومنهم مقلِّدة للمتأخرين.
وقد انطلق طه عبد الرحمن من قاعدتين منهجيتين تتمثلان في أنَّ كلَّ أمر منقول معترَض عليه، حتى تثبت بالدليل صحَّته، وكلُّ أمرٍ مأصول مسلَّم به حتى يثبت بالدليل فساده. فهذان المبدآن هما القاعدتان اللتان بنى عليهما طه عبد الرحمن نقده للحداثة الغربية، ذات التوجه المادي. ويعني هذا أنَّ الحداثة إمكانات متعددة وليست إمكاناً واحداً، بما يجعل الحديث عن حداثات كثيرة ممكناً. وهذا يقودنا إلى نتيجة مهمة؛ وهي أنَّ السياق الإسلامي ينبغي أن يكون له أثره الخاص في تحديد مسلك المجتمع المسلم في التحديث. فكما أنَّ هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية، وهو ما أراد المؤلف بسطه في كتابه، وما أراد التدليل عليه من أنَّ الفعل الحداثي يجد رقيه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها. وفي هذه المقدمة بسط المؤلف منهجه في مُساءلة الحداثة، وأصّل قواعد نقده للحداثة الغربيّة، وأشكالها، وأطرّ اجتهاداته في صياغة نموذج حداثي إسلاميّ في كل مجالاته التداولية.
وفي المدخل التنظيري العام، (روح الحداثة وحق الإبداع) عرض المؤلف المبادئ العامة لروح الحداثة، فذكر تعدُّد التعريفات التي وضعت لمفهوم الحداثة؛ فثمّة من يعدّها حقبة تاريخية معينة، وثمّة من يركز على توجهات بعينها ميزت هذه الحقبة كالعقلانية والتقدمية والتحرر والعلمانية والديمقراطية، وثمّة من يجعلها قطيعة مع الدين والتراث والمقدس. ولكن علينا -كما يقول طه عبد الرحمن- أن نفرق بين جانبين اثنين يتصلان بالحداثة هما: "روح الحداثة" و"واقع الحداثة"، فإذا كانت روح الحداثة هي جملة القيم المبادئ النظرية العامة التي يفترض أنَّ الواقع الحداثي يطبقها، فإنَّ واقع الحداثة هو ما آل إليه هذا التطبيق في واقع الحداثة الغربية بالتحديد.
توزَّع كتاب طه عبد الرحمن (روح الحداثة) على مقدمة ومدخل وثلاثة أبواب. ففي المقدمة تحدث عن التيه الفكري الذي يواجهه المجتمع المسلم إزاء المفاهيم المتوارِدة عليه من المجتمعات الأخرى، التي جعلت طائفة من أبنائه يسلكون سبيل التقليد، ظناً منهم أنَّه المخرج من هذا التيه، فكان منهم مقلَّدة للمتقدمين، ومنهم مقلِّدة للمتأخرين.
وقد انطلق طه عبد الرحمن من قاعدتين منهجيتين تتمثلان في أنَّ كلَّ أمر منقول معترَض عليه، حتى تثبت بالدليل صحَّته، وكلُّ أمرٍ مأصول مسلَّم به حتى يثبت بالدليل فساده. فهذان المبدآن هما القاعدتان اللتان بنى عليهما طه عبد الرحمن نقده للحداثة الغربية، ذات التوجه المادي. ويعني هذا أنَّ الحداثة إمكانات متعددة وليست إمكاناً واحداً، بما يجعل الحديث عن حداثات كثيرة ممكناً. وهذا يقودنا إلى نتيجة مهمة؛ وهي أنَّ السياق الإسلامي ينبغي أن يكون له أثره الخاص في تحديد مسلك المجتمع المسلم في التحديث. فكما أنَّ هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية، وهو ما أراد المؤلف بسطه في كتابه، وما أراد التدليل عليه من أنَّ الفعل الحداثي يجد رقيه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها. وفي هذه المقدمة بسط المؤلف منهجه في مُساءلة الحداثة، وأصّل قواعد نقده للحداثة الغربيّة، وأشكالها، وأطرّ اجتهاداته في صياغة نموذج حداثي إسلاميّ في كل مجالاته التداولية.
وفي المدخل التنظيري العام، (روح الحداثة وحق الإبداع) عرض المؤلف المبادئ العامة لروح الحداثة، فذكر تعدُّد التعريفات التي وضعت لمفهوم الحداثة؛ فثمّة من يعدّها حقبة تاريخية معينة، وثمّة من يركز على توجهات بعينها ميزت هذه الحقبة كالعقلانية والتقدمية والتحرر والعلمانية والديمقراطية، وثمّة من يجعلها قطيعة مع الدين والتراث والمقدس. ولكن علينا -كما يقول طه عبد الرحمن- أن نفرق بين جانبين اثنين يتصلان بالحداثة هما: "روح الحداثة" و"واقع الحداثة"، فإذا كانت روح الحداثة هي جملة القيم المبادئ النظرية العامة التي يفترض أنَّ الواقع الحداثي يطبقها، فإنَّ واقع الحداثة هو ما آل إليه هذا التطبيق في واقع الحداثة الغربية بالتحديد.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
ويجمل طه عبد الرحمن مبادئ روح الحداثة في ثلاثة مبادئ هي: الرشد، والنقد، والشمول.
فمبدأ الرشد يعني الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد، ويتكون من ركنين هما: "الاستقلال" و"الإبداع". ويقتضي الاستقلال استغناء الإنسان الراشد عن كل وصاية أو سلطة تحول بينه وبين ما يريد أن ينظر فيه، والتطلع إلى أن يشرّع لنفسه مطلِقاً بذلك حركتَه وذاتَه. وأما الإبداع فهو أن يسعى الإنسان الراشد إلى إبداع أفكاره وأقواله وأفعاله، وتأسيسها على قيم يبدعها أو يعيد إبداعها باستمرار.
أمّا مبدأ النقد فيعني به: الانتقال من مرحلة الاعتقاد إلى مرحلة الانتقاد، ويتكون أيضاً من ركنين هما: "التعقيل" و" التفصيل"؛ فالتعقيل؛ إخضاع الظواهر والمؤسسات والسلوكات والموروثات لمبادئ العقلانية؛ بغية الإحاطة بها (أي بالظواهر). وتُعدُّ العلوم الطبيعية والبيروقراطية والرأسمالية أبرز صور التعقيل الحداثي. أما التفصيل فيقصد به: تحويل العناصر المتشابهة إلى عناصر متباينة. وقد ظهرت أشكال هذا التفصيل في ميادين شتى: المعرفة، والقانون، والفنون، والاقتصاد وغيرها، ويمكن أن يُضمَّ إلى هذا أشكال أخرى من الفصل اقترنت بالحداثة، مثل: الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الدين والأخلاق، والفصل بين الدين والعقل، والفصل بين الأخلاق والسياسة.
ويرى طه عبد الرحمن أن "مبدأ الشمول" يقوم على الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول، سواء أكانت تلك الخصوصية خصوصية مجال أم خصوصية مجتمع. وبهذا فإنَّ الشمول يتكون أيضاً من ركنين هما: "التوسع" و"التعميم"؛ فالتوسع يعني امتداد أفعال الحداثة إلى كل مجالات الحياة والسلوك؛ الفكر، والعلم، والدين، والأخلاق، والقانون، والسياسة، والاقتصاد. وأما التعميم فالقصد به ارتحال منتجات الحداثة وقيمها إلى عامة المجتمعات، وعملها على محو الفروق بينها. وقد تجلى هذا بوضوح في مبدأ العولمة.
وتترتب على تعريف روح الحداثة على هذا النحو نتائج أساسية، تتلخص في أنَّ روح الحداثة تختلف عن واقع الحداثة؛ لأنَّ روح الحداثة مبدأ لا يستنفده تطبيق واحد، فلا بدّ أن يكون له تطبيقات مختلفة مرتبطة بسياقات وافتراضات خاصة. وبناء عليه؛ فإنَّ واقع الحداثة الغربية هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة. وإذا كانت روح الحداثة متأصلة إنسانياً وتاريخياً، فإنَّ هذه الروح ليست من صنع المجتمع الغربي، وإنَّما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، وقابلة للتحقق في مجتمعات أخرى غير المجتمع الغربي الحاضر.
وهكذا فإنَّ الأمم الحضارية كلها تستوي في الانتساب إلى روح الحداثة. ولا يدل تراكم المعارف وتجدد القيم، ولا حتى تأخر التطبيق –بالضرورة- على الأفضلية ومزيد التحقق بروح الحداثة، فها هو التطبيق الغربي دخلت عليه آفات مختلفة جعلت نتائجه في كثير من الحالات مضادة لمقصود أصحاب الحداثة وتوقعاتهم ومراهناتهم، ولا أدلّ على هذا من الأدواء غير المسبوقة، والإشعاع النووي، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وتلوث البيئة، والاحتباس الحراري، والأزمات المالية والاقتصادية المختلفة.
ويذهب طه عبد الرحمن إلى أنَّ واقع المجتمعات الإسلامية يشهد أنَّه أقرب إلى الحداثة المقلَّدة منه إلى الحداثة المبدِعة، فلا حداثة مع وجود التقليد؛ إذ إنّ الحداثة لا تنقل من الخارج، وإنَّما تبتكر من الداخل، ولا تُنال إلا بطريق الإبداع. ومن هنا صار ابتكار الحداثة الإسلامية الداخلية يستلزم إبطال المسلمات التي صاحبت تطبيق الغرب لروح الحداثة، وأدخلت عليه آفات تختلف باختلاف أركان هذه الروح.
فمبدأ الرشد يعني الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد، ويتكون من ركنين هما: "الاستقلال" و"الإبداع". ويقتضي الاستقلال استغناء الإنسان الراشد عن كل وصاية أو سلطة تحول بينه وبين ما يريد أن ينظر فيه، والتطلع إلى أن يشرّع لنفسه مطلِقاً بذلك حركتَه وذاتَه. وأما الإبداع فهو أن يسعى الإنسان الراشد إلى إبداع أفكاره وأقواله وأفعاله، وتأسيسها على قيم يبدعها أو يعيد إبداعها باستمرار.
أمّا مبدأ النقد فيعني به: الانتقال من مرحلة الاعتقاد إلى مرحلة الانتقاد، ويتكون أيضاً من ركنين هما: "التعقيل" و" التفصيل"؛ فالتعقيل؛ إخضاع الظواهر والمؤسسات والسلوكات والموروثات لمبادئ العقلانية؛ بغية الإحاطة بها (أي بالظواهر). وتُعدُّ العلوم الطبيعية والبيروقراطية والرأسمالية أبرز صور التعقيل الحداثي. أما التفصيل فيقصد به: تحويل العناصر المتشابهة إلى عناصر متباينة. وقد ظهرت أشكال هذا التفصيل في ميادين شتى: المعرفة، والقانون، والفنون، والاقتصاد وغيرها، ويمكن أن يُضمَّ إلى هذا أشكال أخرى من الفصل اقترنت بالحداثة، مثل: الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الدين والأخلاق، والفصل بين الدين والعقل، والفصل بين الأخلاق والسياسة.
ويرى طه عبد الرحمن أن "مبدأ الشمول" يقوم على الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول، سواء أكانت تلك الخصوصية خصوصية مجال أم خصوصية مجتمع. وبهذا فإنَّ الشمول يتكون أيضاً من ركنين هما: "التوسع" و"التعميم"؛ فالتوسع يعني امتداد أفعال الحداثة إلى كل مجالات الحياة والسلوك؛ الفكر، والعلم، والدين، والأخلاق، والقانون، والسياسة، والاقتصاد. وأما التعميم فالقصد به ارتحال منتجات الحداثة وقيمها إلى عامة المجتمعات، وعملها على محو الفروق بينها. وقد تجلى هذا بوضوح في مبدأ العولمة.
وتترتب على تعريف روح الحداثة على هذا النحو نتائج أساسية، تتلخص في أنَّ روح الحداثة تختلف عن واقع الحداثة؛ لأنَّ روح الحداثة مبدأ لا يستنفده تطبيق واحد، فلا بدّ أن يكون له تطبيقات مختلفة مرتبطة بسياقات وافتراضات خاصة. وبناء عليه؛ فإنَّ واقع الحداثة الغربية هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة. وإذا كانت روح الحداثة متأصلة إنسانياً وتاريخياً، فإنَّ هذه الروح ليست من صنع المجتمع الغربي، وإنَّما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، وقابلة للتحقق في مجتمعات أخرى غير المجتمع الغربي الحاضر.
وهكذا فإنَّ الأمم الحضارية كلها تستوي في الانتساب إلى روح الحداثة. ولا يدل تراكم المعارف وتجدد القيم، ولا حتى تأخر التطبيق –بالضرورة- على الأفضلية ومزيد التحقق بروح الحداثة، فها هو التطبيق الغربي دخلت عليه آفات مختلفة جعلت نتائجه في كثير من الحالات مضادة لمقصود أصحاب الحداثة وتوقعاتهم ومراهناتهم، ولا أدلّ على هذا من الأدواء غير المسبوقة، والإشعاع النووي، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وتلوث البيئة، والاحتباس الحراري، والأزمات المالية والاقتصادية المختلفة.
ويذهب طه عبد الرحمن إلى أنَّ واقع المجتمعات الإسلامية يشهد أنَّه أقرب إلى الحداثة المقلَّدة منه إلى الحداثة المبدِعة، فلا حداثة مع وجود التقليد؛ إذ إنّ الحداثة لا تنقل من الخارج، وإنَّما تبتكر من الداخل، ولا تُنال إلا بطريق الإبداع. ومن هنا صار ابتكار الحداثة الإسلامية الداخلية يستلزم إبطال المسلمات التي صاحبت تطبيق الغرب لروح الحداثة، وأدخلت عليه آفات تختلف باختلاف أركان هذه الروح.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
وأهم هذه المسلمات هي: الاستقلال، والإبداع، والتعقيل، والتفصيل، والتوسع، والتعميم.
1. الاستقلال: فالاستقلال يتطلب إزالة وصاية الأقوى الخارجي؛ لأنَّها وصاية مستعمر. فالوصاية الفكرية المهيمنة للاستعمار خاصة والغرب عامة على المسلمين، هي التي يجب التخلص منها، لا وصاية الفقهاء أو رجال الدين كما يعتقد بعض المقلّدين، لأنَّ هؤلاء الفقهاء لم يكونوا يوماً مصادرين أو محتكرين للسلطة السياسية. والوصاية الداخلية التي يُخشى منها ليست وصاية رجال الدين، وإنَّما وصاية رجال الاستعمار، فالاستقلال لا يُطلب منه أن يكون استقلالاً عن الوصاية الدينية، وإنما استقلالاً عن الوصاية الأجنبية.
2. الإبداع: والإبداع لا يقتضي الانقطاع المطلق، لأنَّ الحداثة الحقة هي حداثة قيم لا حداثة زمن. فقد شاع بين المسلمين تقليد سلبي عاد عليهم بالضرر، وحال بينهم وبين الإبداع، وجعلهم يتلقون ما أبدعه الغرب تلقِّي العاجز المنبهر، مع أنّ ما أبدعه الغرب نفسه بحاجة إلى ما يمكن أن نسمّيّه إعادة الإبداع. فهو إبداع لا يقطع صلته بإبداع السّابقين، وإنّما يحافظ على ما لم يستنفد مكامن الإبداع فيه، كما أنّ الإبداع لا يقتضي الاختراع المطلق للحاجات؛ لأنّ الحاجات الحقيقيّة هي الحاجات الرّوحية، ولا هو أخيراً يقتضي ازدهار الذّات المطلق، لأنّ الازدهار الحقيقي هو ما تعدى نفعه إلى الغير. وهذا هو منطق الإبداع الإسلامي؛ إذ لا يقتصر همُّه على اختراع الحاجات المادية وازدهار الذات، بل يسعى إلى إشباع الحاجات الروحية والمعنوية، وتعدية النفع والازدهار للآخر أيضاً.
3. التعقيل: مارس المسلمون تعقيلاً نقدوا فيه تراثهم وتاريخهم ومؤسساتهم نقداً نقلوه عن غيرهم دون تمحيص، فوقعوا في مغالطات ومتاهات كثيرة، في حين أنَّ التعقيل -وفق المنظور الإسلامي- لا يكتفي بالاستخدام التقني من أجل مزيد التحويج إلى الآلات والملذات، بل يبتغي تحقيق قيم ترقى بالإنسان، فهو تعقيل يطلب المعارف ويصنع الآلات على مقتضى القيم المتغلغلة في الوجدان الإنساني. كما أن التعقيل الإسلامي تعقيل ينبني على ميثاق كوني شامل، يشمل العوالم كلها المرئي منها وغير المرئي، ولذلك لا يصارع الطبيعة ولا يتسلط عليها، وإنما يخاطبها ويوادها ويراحمها، وعلاقته بها علاقة الأم بولدها، فالعقل لا يمكن أن يعقل كل شيء، ولا ينقد كل شيء، و لا يسود الطبيعة؛ لأنها أمّ الإنسان وليست أمَّةً له.
4. التفصيل: استهوت فكرة التفصيل والانفصال كثيراً من الدارسين الحداثويين -كما يقول طه عبد الرحمن- من أبناء المسلمين، فراحوا يبحثون ويحثون على الانفصال والانقطاع عن تاريخهم وتراثهم، وتحمسوا إلى فكرة فصل الحداثة عن التراث، وفصل السياسة عن الدين، مع أن إبداعات المسلمين في الفكر والعلم هي التي أسهمت في بث روح الحداثة في أهل الغرب، كما أن دائرة الدين لا تنحصر في اللامعقول بل تتسع لمعقولات ومدركات كثيرة، ويمكن أن تؤسس لفكر عقلاني جديد يسد ثغرة عقلانية الحداثة الغربية.
كما أن علاقة الإنسان بالعالم وفق الرؤية الإسلامية لا تقوم على إزالة طلاسمه لتسخيره، وإنما على كشف أسراره لتعميره، يعامل الظواهر على أنها طريق إلى بواطن العالم وآياته، وهذا ما يضفي على العالم معناه، ويكسب الثقة بمآله، ويهِّون الموت في أحضانه.
ومن هنا لا يمكن الحديث عن فصل مطلق بين الحداثة والدين؛ لأن أهل الحداثة توسلوا بمفاهيم دينية، فضلاً عن أن رجال الدين أسهموا في بناء الحداثة.كما أنه لا إطلاق في الفصل بين العقل والدين، لأن العقلانية مراتب، ينـزل الدين إحداها. وأخيراً لا محو للقدسية من أفق الإنسان، لأن الإنسان كائن متصل، ولأن العالم جملة من الآيات، فضلاً عن كونه جملة من الظاهرات.
5. التوسع: لم تستوعب الحداثة في المجتمعات الإسلامية كل مجالات الحياة، ولكنها مسّت بعض الجوانب العلمية والاقتصادية بطريقة سطحية، فكان أن اتخذ مسار الحداثة في المجتمعات الإسلامية اتجاهاً معاكساً لمسار الحداثة الصحيح، الذي ينطلق من تحديث الأخلاق إلى تحديث الأفكار، ثم تحديث المؤسسات فتحديث الآلات.
والتطبيق الغربي لروح الحداثة ليس واقعاً حتمياً -كما يقول طه عبد الرحمن- فهذا الواقع الحداثي لم يفرض عليه فرضاً، وإنما وضع قواعد بنائه بمحض إرادته، ولذلك فبإمكانه أن يصلح هذا الواقع ويغيَّر مساره الحالي، مقاوماً العوائق التي تعترضه، كما قاوم العوائق التي اعترضت نشأة واقعه الحداثي؛ لأن الإنسان أقوى من هذا التطبيق.
كما أنه لا يورث القوة الشاملة؛ لأن جسمانية الإنسان بقيت منقطعة عن روحانيته، فحداثة الغرب ورَّثت أهلها ضعفاً روحياً فاحشاً على قدر هذه القوة المادية الساحقة. وأخيراً، ليست ماهية الحداثة ماهية اقتصادية؛ لأن ماهية الإنسان الحقيقية هي ماهية أخلاقية، ولذلك فإن التنمية الاقتصادية ينبغي أن لا تكون هي الغاية.
6. التعميم: الأصل في روح الحداثة أنها لا توجب التفكير الفرداني، ولكنها توجب التفكير المتعدي المناسب للمجتمع العالمي. ومع ذلك، خرجت الحداثة الغربية من رتبة الإنسان إلى رتبة الفرد، خروجاً استبدل مكان صفات الكمال صفات الأثَرة والأنانية. أما المنظور الإسلامي فيوجب على المسلمين أن يفكروا على أساس أن فكرهم يتعلق بغيرهم بقدر ما يتعلق بهم؛ إذ المجتمع العالمي -الذي بدأت معالمه تتشكل- لا ينفع معه إلا التفكير المتعدي، حتى يستحق أن يكون تطبيقاً سليماً لروح الحداثة لا يقع فيما وقع فيه تطبيقها الغربي.
كما أن الحداثة العلمانية لا تحفظ حرمة الأديان؛ لأنها تنفي عنها عقلانية الآلات، وتنكر عليها عقلانية الآيات، أما التطبيق الحداثي الإسلامي فإنه يستفيد من الإمكانات العقلية التي يولِّدها التفكير المتعدي، من أجل إنشاء عقلانية موسعة بديلة لعقلانية الآلات. وشتان بين عقل يرى في الآلة ذاتها آية ذات غاية ومقصد، وعقل لا يرى فيها إلا آلة صماء.
وليست كونية قيم الحداثة الغربية كونيةً إطلاقية، وإنما كونية سياقية؛ لأن التطبيق الحداثي الغربي الذي نشهده ونحياه غير كوني، وإنما هو تطبيق محلي تولّى أصحابه إلزام الشعوب به، وفرضه على واقعها، فهو محلي رُفع عنوة إلى رتبة الكوني.
1. الاستقلال: فالاستقلال يتطلب إزالة وصاية الأقوى الخارجي؛ لأنَّها وصاية مستعمر. فالوصاية الفكرية المهيمنة للاستعمار خاصة والغرب عامة على المسلمين، هي التي يجب التخلص منها، لا وصاية الفقهاء أو رجال الدين كما يعتقد بعض المقلّدين، لأنَّ هؤلاء الفقهاء لم يكونوا يوماً مصادرين أو محتكرين للسلطة السياسية. والوصاية الداخلية التي يُخشى منها ليست وصاية رجال الدين، وإنَّما وصاية رجال الاستعمار، فالاستقلال لا يُطلب منه أن يكون استقلالاً عن الوصاية الدينية، وإنما استقلالاً عن الوصاية الأجنبية.
2. الإبداع: والإبداع لا يقتضي الانقطاع المطلق، لأنَّ الحداثة الحقة هي حداثة قيم لا حداثة زمن. فقد شاع بين المسلمين تقليد سلبي عاد عليهم بالضرر، وحال بينهم وبين الإبداع، وجعلهم يتلقون ما أبدعه الغرب تلقِّي العاجز المنبهر، مع أنّ ما أبدعه الغرب نفسه بحاجة إلى ما يمكن أن نسمّيّه إعادة الإبداع. فهو إبداع لا يقطع صلته بإبداع السّابقين، وإنّما يحافظ على ما لم يستنفد مكامن الإبداع فيه، كما أنّ الإبداع لا يقتضي الاختراع المطلق للحاجات؛ لأنّ الحاجات الحقيقيّة هي الحاجات الرّوحية، ولا هو أخيراً يقتضي ازدهار الذّات المطلق، لأنّ الازدهار الحقيقي هو ما تعدى نفعه إلى الغير. وهذا هو منطق الإبداع الإسلامي؛ إذ لا يقتصر همُّه على اختراع الحاجات المادية وازدهار الذات، بل يسعى إلى إشباع الحاجات الروحية والمعنوية، وتعدية النفع والازدهار للآخر أيضاً.
3. التعقيل: مارس المسلمون تعقيلاً نقدوا فيه تراثهم وتاريخهم ومؤسساتهم نقداً نقلوه عن غيرهم دون تمحيص، فوقعوا في مغالطات ومتاهات كثيرة، في حين أنَّ التعقيل -وفق المنظور الإسلامي- لا يكتفي بالاستخدام التقني من أجل مزيد التحويج إلى الآلات والملذات، بل يبتغي تحقيق قيم ترقى بالإنسان، فهو تعقيل يطلب المعارف ويصنع الآلات على مقتضى القيم المتغلغلة في الوجدان الإنساني. كما أن التعقيل الإسلامي تعقيل ينبني على ميثاق كوني شامل، يشمل العوالم كلها المرئي منها وغير المرئي، ولذلك لا يصارع الطبيعة ولا يتسلط عليها، وإنما يخاطبها ويوادها ويراحمها، وعلاقته بها علاقة الأم بولدها، فالعقل لا يمكن أن يعقل كل شيء، ولا ينقد كل شيء، و لا يسود الطبيعة؛ لأنها أمّ الإنسان وليست أمَّةً له.
4. التفصيل: استهوت فكرة التفصيل والانفصال كثيراً من الدارسين الحداثويين -كما يقول طه عبد الرحمن- من أبناء المسلمين، فراحوا يبحثون ويحثون على الانفصال والانقطاع عن تاريخهم وتراثهم، وتحمسوا إلى فكرة فصل الحداثة عن التراث، وفصل السياسة عن الدين، مع أن إبداعات المسلمين في الفكر والعلم هي التي أسهمت في بث روح الحداثة في أهل الغرب، كما أن دائرة الدين لا تنحصر في اللامعقول بل تتسع لمعقولات ومدركات كثيرة، ويمكن أن تؤسس لفكر عقلاني جديد يسد ثغرة عقلانية الحداثة الغربية.
كما أن علاقة الإنسان بالعالم وفق الرؤية الإسلامية لا تقوم على إزالة طلاسمه لتسخيره، وإنما على كشف أسراره لتعميره، يعامل الظواهر على أنها طريق إلى بواطن العالم وآياته، وهذا ما يضفي على العالم معناه، ويكسب الثقة بمآله، ويهِّون الموت في أحضانه.
ومن هنا لا يمكن الحديث عن فصل مطلق بين الحداثة والدين؛ لأن أهل الحداثة توسلوا بمفاهيم دينية، فضلاً عن أن رجال الدين أسهموا في بناء الحداثة.كما أنه لا إطلاق في الفصل بين العقل والدين، لأن العقلانية مراتب، ينـزل الدين إحداها. وأخيراً لا محو للقدسية من أفق الإنسان، لأن الإنسان كائن متصل، ولأن العالم جملة من الآيات، فضلاً عن كونه جملة من الظاهرات.
5. التوسع: لم تستوعب الحداثة في المجتمعات الإسلامية كل مجالات الحياة، ولكنها مسّت بعض الجوانب العلمية والاقتصادية بطريقة سطحية، فكان أن اتخذ مسار الحداثة في المجتمعات الإسلامية اتجاهاً معاكساً لمسار الحداثة الصحيح، الذي ينطلق من تحديث الأخلاق إلى تحديث الأفكار، ثم تحديث المؤسسات فتحديث الآلات.
والتطبيق الغربي لروح الحداثة ليس واقعاً حتمياً -كما يقول طه عبد الرحمن- فهذا الواقع الحداثي لم يفرض عليه فرضاً، وإنما وضع قواعد بنائه بمحض إرادته، ولذلك فبإمكانه أن يصلح هذا الواقع ويغيَّر مساره الحالي، مقاوماً العوائق التي تعترضه، كما قاوم العوائق التي اعترضت نشأة واقعه الحداثي؛ لأن الإنسان أقوى من هذا التطبيق.
كما أنه لا يورث القوة الشاملة؛ لأن جسمانية الإنسان بقيت منقطعة عن روحانيته، فحداثة الغرب ورَّثت أهلها ضعفاً روحياً فاحشاً على قدر هذه القوة المادية الساحقة. وأخيراً، ليست ماهية الحداثة ماهية اقتصادية؛ لأن ماهية الإنسان الحقيقية هي ماهية أخلاقية، ولذلك فإن التنمية الاقتصادية ينبغي أن لا تكون هي الغاية.
6. التعميم: الأصل في روح الحداثة أنها لا توجب التفكير الفرداني، ولكنها توجب التفكير المتعدي المناسب للمجتمع العالمي. ومع ذلك، خرجت الحداثة الغربية من رتبة الإنسان إلى رتبة الفرد، خروجاً استبدل مكان صفات الكمال صفات الأثَرة والأنانية. أما المنظور الإسلامي فيوجب على المسلمين أن يفكروا على أساس أن فكرهم يتعلق بغيرهم بقدر ما يتعلق بهم؛ إذ المجتمع العالمي -الذي بدأت معالمه تتشكل- لا ينفع معه إلا التفكير المتعدي، حتى يستحق أن يكون تطبيقاً سليماً لروح الحداثة لا يقع فيما وقع فيه تطبيقها الغربي.
كما أن الحداثة العلمانية لا تحفظ حرمة الأديان؛ لأنها تنفي عنها عقلانية الآلات، وتنكر عليها عقلانية الآيات، أما التطبيق الحداثي الإسلامي فإنه يستفيد من الإمكانات العقلية التي يولِّدها التفكير المتعدي، من أجل إنشاء عقلانية موسعة بديلة لعقلانية الآلات. وشتان بين عقل يرى في الآلة ذاتها آية ذات غاية ومقصد، وعقل لا يرى فيها إلا آلة صماء.
وليست كونية قيم الحداثة الغربية كونيةً إطلاقية، وإنما كونية سياقية؛ لأن التطبيق الحداثي الغربي الذي نشهده ونحياه غير كوني، وإنما هو تطبيق محلي تولّى أصحابه إلزام الشعوب به، وفرضه على واقعها، فهو محلي رُفع عنوة إلى رتبة الكوني.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
ثانياً: عولمة الحداثة ودرء آفاتها
وفي الباب الأول (التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الحداثي) تناول طه عبد الرحمن نظام العولمة والتعقيل الموسع، فبين الآفات الخُلُقية للعولمة؛ بوصفها (العولمة) فعلاً حضارياً متواصلاً يتجه إلى إقامة رابطة واحدة بين سكان المعمورة عبر تعقيل مخصوص، يخُضع التنمية لسلطان الاقتصاد، ويخُضع العلم لسلطان التقنية، ويخضع الاتصال لسلطان الشبكة، وقعت في آفات خلقية ثلاث تختلف باختلاف هذه الوجوه من الإخضاع التي مارسها التعقيل العولمي، وتتلخص هذه الآفات في الإخلال بمبادئ التزكية والعمل والتواصل.
فآفة الإخلال بمبدأ التزكية تقوم على تقديم المنفعة المادية على المصلحة المعنوية؛ ذلك أنَّ الاقتصاد في الغرب غدا مقياس كل تنمية، وحصل اقتناع بإمكان أن يحل النمو الاقتصادي كل المشكلات، ويجلب كل تقدُّم، ويقرب الفقراء من الأغنياء. وأنتج هذا التوجه شركات وهيئات مالية لا تعترف إلا بقانون المصلحة المادية والربح، بلا حدّ ولا قيد غير مادي (معنوي)، وبهذا يتأكد تعارض هذا التوجه مع مبدأ "التزكية"، التي تقوم على الصلاح والأخلاق، لا على المنفعة المادية فحسب، ولا تطلب عموم المنافع بل تطلب الصالح منها.
وآفة الإخلال بمبدأ العمل تستند إلى تقديم الإجراء الآلي على العمل المقصدي؛ وذلك حين انعكست العلاقة بين العلم والتقنية، فأصبح العلم النظري تابعاً لها بعد أن كانت تابعة له، وصار وسيلة في يدها، توجهه بحسب الحاجيات الاستهلاكية المتزايدة. وهنا حدث طغيان التجريب والإجراء على المقاصد والأعمال التي تقوم على الجمع بين مقتضى التحكّم ومقتضى الحكمة.
أما آفة الإخلال بمبدأ التواصل فتستند إلى تقديم المعلومة البعيدة على المعرفة القريبة، فالشبكة الدولية "الإنترنت" التي سهّلت عمليات الاتصال بين البشر، ووفّرت كمّاً هائلاً من المعلومات جعلت فعل الاتصال يتم بين آلتين أكثر مما يتم بين آدميِّين، كما أن هذا الاتصال طغى فيه الطابع "الإعلاني" على الطابع "الإعلامي"، والنتيجة أن هذا النمط من تناقل المعلومات فشل في تحقيق تجاوب البشر من حيث هم ذوات.
ولا قدرة لنظام العولمة على دفع هذه الآفات بنفسه ومن داخله؛ لأنه لا يفرز إلا قيماً أخلاقية من جنسه، في حين يحتاج هذا الدفع إلى قيم أخلاقية من غير جنسه؛ ولا وجود لها إلا في الدين الإلهي. وأحق الأديان بهذه المهمة التقويمية وأقدرها عليها هو الدين الإسلامي، نظراً لثبوت توسُّع تعقيله ودخول العولمة في زمنه الأخلاقي. فكل مسلم معاصر مسؤول (مسؤولية غير مباشرة) عن العولمة ولو لم يكن صانعها التاريخي؛ إذ الزمن الأخلاقي زمنه هو دون سواه؛ لأنه زمن القيم التي تجددت تجددها الآخر مع دينه. وإبراء ذمته من هذه المسؤولية يحتم عليه تعقب مظاهر العولمة، وتفحص مواضع القصور الخلقي فيها، ليدفعها ويحذر منها ويغيَّرها ما استطاع.
ثم فصَّل طه عبد الرحمن المبادئ الإسلامية لدرء الآفات الخلقية للعولمة، فأكّد أن واجب الدين الخاتم -كما قال- هو أن يرتقي بالاتجاه المادي المضيّق الذي أخذ به أرباب العولمة إلى مجال موسَّع يعيد الاعتبار للأخلاق في العلاقات التي تقيمها العولمة بين أفراد البشرية، عاملة على توحيد نمطهم في الحياة. وأهم المبادئ التي تسعف في هذا المجال ثلاثة: ابتغاء الفضل، والاعتبار، والتعارف.
فمبدأ ابتغاء الفضل يقضي بإعادة النظر في المفهومين الاقتصاديين؛ مفهوم "التنمية الاقتصادية" ومفهوم "المنفعة"، فليست كل تنمية اقتصادية ضرورية، ولا كل منفعة مادية صالحة؛ إذ إنّ التنمية الصالحة لا تكون إلا بتكامل المقوم الاقتصادي مع المقومات الأخرى للتنمية، مع دوام اتصاله بالأفق الروحي. وإذا كان اقتصاد السوق يقوم على مطلق "التجارة" التي تتلخص في أفعال البيع والشراء مجردة من الاعتبار الخلقي، فإن "ابتغاء الفضل" كائن تحت مظلة الأخلاق. والفضل لا يعني الخير المادي الصرف، وإنما هو الخير الذي تتحقق به الفضيلة، مادياً كان أو معنوياً، وينتج عن هذا أن التنمية وفق المنظور الإسلامي تنمية مزدوجة، "تزكية للمال" و"تزكية للحال"، تتكامل مع ضروب التنمية الأخرى التي ترتقي بالإنسان وتخلق بيئة عالمية سليمة.
ومبدأ ابتغاء الفضل -وفق هذا المفهوم- يقتضي تبعية الاقتصاد لمقومات التنمية الأخرى، وتبعية المنفعة للأفق الروحي للإنسان. ومتى تقررت هذه التبعية للمقومات الأخرى وللأفق الروحي، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق التنمية الضيق إلى رحاب التزكية الواسعة، التي تردّ كل فضل إلى المتفضل الأسمى سبحانه، وتذكّر الإنسان بأن الله هو المالك الحقيقي الذي يتكرم على الإنسان بما شاء من فضله حتى يتقرب به إليه، كما أن هذا الإحساس هو الذي يخفف من غلواء المادية الكامنة في السلع، ويبرز معناها الروحي. وهكذا يجعل طه عبد الرحمن مبدأ ابتغاء الفضل القيم الأخلاقية والروحية في صلب عملية التنمية الاقتصادية، وهو ما افتقده واقع الحداثة الغربية.
أما مبدأ الاعتبار فيوجب إعادة النظر في المفهومين العلميين: مفهوم "التطبيق التقني للعلم" ومفهوم "البحث العلمي"؛ فليس كل تطبيق نافعاً ولا كل بحث مشروعاً، فالمعرفة وفي سياق "النظر الاعتباري" -وفق الرؤية الإسلامية- تربط أسباب الأشياء بالقيم الخلقية التي تنطوي عليها، وترفع المعرفة عن أن تكون جملة من الإمكانات التقنية قد تنفع أو تضر لكي تصبح إمكانات عملية تنفع ولا تضر.
ومن مقتضيات الاعتبار تقرير تبعية الأسباب في الأشياء للحكم التي من ورائها، وتبعية أحوالها للمآلات التي تنتهي إليها؛ ومتى تقررت هذه التبعية للحكم والمآلات، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق الإجراء الآلي إلى رحاب العمل المقصدي؛ فالمعيار الذي تأخذ به المعرفة في سياق النظر الاعتباري هو المآل لا مجرد الحال. وتكون هذه المعرفة مقبولة إذا ظهر أن مآلها يعود بمزيد من التخلق، ومردودة إذا ظهر أنها تعود بنقصانه، بينما يصر التطبيق الإجرائي على تطبيق المعارف والتقنيات مهما كانت مآلاتها. وبهذا يتبين أن مبدأ "الاعتبار" الإسلامي من شأنه أن يحد من التطبيقات غير المنضبطة للتقنية، ويعدل مفهوم البحث العلمي حتى يبقيه خادماً للحاجات لا خالقاً لها، وخاضعاً للمقاصد والمآلات لا للأسباب والأحوال.
وأما مبدأ التعارف فيقضي بإعادة النظر في المفهومين الاتصاليين: مفهوم "الاستزادة غير المحدودة من المعلومات" ومفهوم "المعلومة المجردة"؛ فليست كل زيادة في المعلومات مطلوبة، ولا كل معلومة محايدة. فإذا كان التواصل المعلوماتي تواصلاً خبرياً –فقط- لا اعتبار فيه للقيمة الخلقية، فإن التعارف (الإسلامي) تواصل خبري لا ينفك عن القيمة الخلقية المحمودة. ففي سياق التعارف لا ينفك الخبر عن الخير والنفع، وهذا يتطلب قيوداً وآداباً لا تتوفر في المعلومات المجردة، وهذا المبدأ يهوّن من شأن التجميع المتسارع للمعلومات دون إعمال النظر في جدواها ونفعها.
كما أن عملية التواصل -وفق منظور التعارف- يقضي بتبعية نقل الخبر لفعل المعروف، وتقرير تبعية العلاقة بين المخبر والمتلقي لاعتراف أحدهما بالآخر؛ ومتى تقررت هذه التبعية للمعروف والاعتراف، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق الاتصال المعلوماتي إلى رحاب التواصل الحقيقي. ذلك أن العلاقة بين الملقي والمتلقي يفترض أن تكون علاقة أخلاقية تقوم على المعاملة بالحسنى والاحترام، والانفتاح والتسامح، والتعاون والتقارب والتوادد، مع اعتراف المتلقي بفضل الملقي واختلافه عنه. وفي هذا إقرار بالتميز الثقافي والخصوصية الحضارية للملقي، وهذا ما يحقق مشروعية عملية التواصل والتعاون.
وفي الباب الأول (التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الحداثي) تناول طه عبد الرحمن نظام العولمة والتعقيل الموسع، فبين الآفات الخُلُقية للعولمة؛ بوصفها (العولمة) فعلاً حضارياً متواصلاً يتجه إلى إقامة رابطة واحدة بين سكان المعمورة عبر تعقيل مخصوص، يخُضع التنمية لسلطان الاقتصاد، ويخُضع العلم لسلطان التقنية، ويخضع الاتصال لسلطان الشبكة، وقعت في آفات خلقية ثلاث تختلف باختلاف هذه الوجوه من الإخضاع التي مارسها التعقيل العولمي، وتتلخص هذه الآفات في الإخلال بمبادئ التزكية والعمل والتواصل.
فآفة الإخلال بمبدأ التزكية تقوم على تقديم المنفعة المادية على المصلحة المعنوية؛ ذلك أنَّ الاقتصاد في الغرب غدا مقياس كل تنمية، وحصل اقتناع بإمكان أن يحل النمو الاقتصادي كل المشكلات، ويجلب كل تقدُّم، ويقرب الفقراء من الأغنياء. وأنتج هذا التوجه شركات وهيئات مالية لا تعترف إلا بقانون المصلحة المادية والربح، بلا حدّ ولا قيد غير مادي (معنوي)، وبهذا يتأكد تعارض هذا التوجه مع مبدأ "التزكية"، التي تقوم على الصلاح والأخلاق، لا على المنفعة المادية فحسب، ولا تطلب عموم المنافع بل تطلب الصالح منها.
وآفة الإخلال بمبدأ العمل تستند إلى تقديم الإجراء الآلي على العمل المقصدي؛ وذلك حين انعكست العلاقة بين العلم والتقنية، فأصبح العلم النظري تابعاً لها بعد أن كانت تابعة له، وصار وسيلة في يدها، توجهه بحسب الحاجيات الاستهلاكية المتزايدة. وهنا حدث طغيان التجريب والإجراء على المقاصد والأعمال التي تقوم على الجمع بين مقتضى التحكّم ومقتضى الحكمة.
أما آفة الإخلال بمبدأ التواصل فتستند إلى تقديم المعلومة البعيدة على المعرفة القريبة، فالشبكة الدولية "الإنترنت" التي سهّلت عمليات الاتصال بين البشر، ووفّرت كمّاً هائلاً من المعلومات جعلت فعل الاتصال يتم بين آلتين أكثر مما يتم بين آدميِّين، كما أن هذا الاتصال طغى فيه الطابع "الإعلاني" على الطابع "الإعلامي"، والنتيجة أن هذا النمط من تناقل المعلومات فشل في تحقيق تجاوب البشر من حيث هم ذوات.
ولا قدرة لنظام العولمة على دفع هذه الآفات بنفسه ومن داخله؛ لأنه لا يفرز إلا قيماً أخلاقية من جنسه، في حين يحتاج هذا الدفع إلى قيم أخلاقية من غير جنسه؛ ولا وجود لها إلا في الدين الإلهي. وأحق الأديان بهذه المهمة التقويمية وأقدرها عليها هو الدين الإسلامي، نظراً لثبوت توسُّع تعقيله ودخول العولمة في زمنه الأخلاقي. فكل مسلم معاصر مسؤول (مسؤولية غير مباشرة) عن العولمة ولو لم يكن صانعها التاريخي؛ إذ الزمن الأخلاقي زمنه هو دون سواه؛ لأنه زمن القيم التي تجددت تجددها الآخر مع دينه. وإبراء ذمته من هذه المسؤولية يحتم عليه تعقب مظاهر العولمة، وتفحص مواضع القصور الخلقي فيها، ليدفعها ويحذر منها ويغيَّرها ما استطاع.
ثم فصَّل طه عبد الرحمن المبادئ الإسلامية لدرء الآفات الخلقية للعولمة، فأكّد أن واجب الدين الخاتم -كما قال- هو أن يرتقي بالاتجاه المادي المضيّق الذي أخذ به أرباب العولمة إلى مجال موسَّع يعيد الاعتبار للأخلاق في العلاقات التي تقيمها العولمة بين أفراد البشرية، عاملة على توحيد نمطهم في الحياة. وأهم المبادئ التي تسعف في هذا المجال ثلاثة: ابتغاء الفضل، والاعتبار، والتعارف.
فمبدأ ابتغاء الفضل يقضي بإعادة النظر في المفهومين الاقتصاديين؛ مفهوم "التنمية الاقتصادية" ومفهوم "المنفعة"، فليست كل تنمية اقتصادية ضرورية، ولا كل منفعة مادية صالحة؛ إذ إنّ التنمية الصالحة لا تكون إلا بتكامل المقوم الاقتصادي مع المقومات الأخرى للتنمية، مع دوام اتصاله بالأفق الروحي. وإذا كان اقتصاد السوق يقوم على مطلق "التجارة" التي تتلخص في أفعال البيع والشراء مجردة من الاعتبار الخلقي، فإن "ابتغاء الفضل" كائن تحت مظلة الأخلاق. والفضل لا يعني الخير المادي الصرف، وإنما هو الخير الذي تتحقق به الفضيلة، مادياً كان أو معنوياً، وينتج عن هذا أن التنمية وفق المنظور الإسلامي تنمية مزدوجة، "تزكية للمال" و"تزكية للحال"، تتكامل مع ضروب التنمية الأخرى التي ترتقي بالإنسان وتخلق بيئة عالمية سليمة.
ومبدأ ابتغاء الفضل -وفق هذا المفهوم- يقتضي تبعية الاقتصاد لمقومات التنمية الأخرى، وتبعية المنفعة للأفق الروحي للإنسان. ومتى تقررت هذه التبعية للمقومات الأخرى وللأفق الروحي، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق التنمية الضيق إلى رحاب التزكية الواسعة، التي تردّ كل فضل إلى المتفضل الأسمى سبحانه، وتذكّر الإنسان بأن الله هو المالك الحقيقي الذي يتكرم على الإنسان بما شاء من فضله حتى يتقرب به إليه، كما أن هذا الإحساس هو الذي يخفف من غلواء المادية الكامنة في السلع، ويبرز معناها الروحي. وهكذا يجعل طه عبد الرحمن مبدأ ابتغاء الفضل القيم الأخلاقية والروحية في صلب عملية التنمية الاقتصادية، وهو ما افتقده واقع الحداثة الغربية.
أما مبدأ الاعتبار فيوجب إعادة النظر في المفهومين العلميين: مفهوم "التطبيق التقني للعلم" ومفهوم "البحث العلمي"؛ فليس كل تطبيق نافعاً ولا كل بحث مشروعاً، فالمعرفة وفي سياق "النظر الاعتباري" -وفق الرؤية الإسلامية- تربط أسباب الأشياء بالقيم الخلقية التي تنطوي عليها، وترفع المعرفة عن أن تكون جملة من الإمكانات التقنية قد تنفع أو تضر لكي تصبح إمكانات عملية تنفع ولا تضر.
ومن مقتضيات الاعتبار تقرير تبعية الأسباب في الأشياء للحكم التي من ورائها، وتبعية أحوالها للمآلات التي تنتهي إليها؛ ومتى تقررت هذه التبعية للحكم والمآلات، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق الإجراء الآلي إلى رحاب العمل المقصدي؛ فالمعيار الذي تأخذ به المعرفة في سياق النظر الاعتباري هو المآل لا مجرد الحال. وتكون هذه المعرفة مقبولة إذا ظهر أن مآلها يعود بمزيد من التخلق، ومردودة إذا ظهر أنها تعود بنقصانه، بينما يصر التطبيق الإجرائي على تطبيق المعارف والتقنيات مهما كانت مآلاتها. وبهذا يتبين أن مبدأ "الاعتبار" الإسلامي من شأنه أن يحد من التطبيقات غير المنضبطة للتقنية، ويعدل مفهوم البحث العلمي حتى يبقيه خادماً للحاجات لا خالقاً لها، وخاضعاً للمقاصد والمآلات لا للأسباب والأحوال.
وأما مبدأ التعارف فيقضي بإعادة النظر في المفهومين الاتصاليين: مفهوم "الاستزادة غير المحدودة من المعلومات" ومفهوم "المعلومة المجردة"؛ فليست كل زيادة في المعلومات مطلوبة، ولا كل معلومة محايدة. فإذا كان التواصل المعلوماتي تواصلاً خبرياً –فقط- لا اعتبار فيه للقيمة الخلقية، فإن التعارف (الإسلامي) تواصل خبري لا ينفك عن القيمة الخلقية المحمودة. ففي سياق التعارف لا ينفك الخبر عن الخير والنفع، وهذا يتطلب قيوداً وآداباً لا تتوفر في المعلومات المجردة، وهذا المبدأ يهوّن من شأن التجميع المتسارع للمعلومات دون إعمال النظر في جدواها ونفعها.
كما أن عملية التواصل -وفق منظور التعارف- يقضي بتبعية نقل الخبر لفعل المعروف، وتقرير تبعية العلاقة بين المخبر والمتلقي لاعتراف أحدهما بالآخر؛ ومتى تقررت هذه التبعية للمعروف والاعتراف، صار بالإمكان الارتقاء من نطاق الاتصال المعلوماتي إلى رحاب التواصل الحقيقي. ذلك أن العلاقة بين الملقي والمتلقي يفترض أن تكون علاقة أخلاقية تقوم على المعاملة بالحسنى والاحترام، والانفتاح والتسامح، والتعاون والتقارب والتوادد، مع اعتراف المتلقي بفضل الملقي واختلافه عنه. وفي هذا إقرار بالتميز الثقافي والخصوصية الحضارية للملقي، وهذا ما يحقق مشروعية عملية التواصل والتعاون.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
ثالثاً: الأسرة والحداثة؛ الانقلاب على الذات
وفي الفصل الثاني عرض طه عبد الرحمن مبدأ التفصيل وتطبيقاته على نظام الأسرة الغربية، ليخلص إلى ما يشبه المفارقة بخصوص نظام هذه الأسرة؛ فأسرة ما بعد الحداثة هي مثل الأسرة الحداثية وضدها في ذات الوقت، (وليدتُها وضرَّتُها معاً)، فهي انبنت على ما انبنت عليه الأسرة الحداثية من مبادئ فصل الأخلاق عن الدين؛ أي مبدأ التوجه إلى الإنسان، ومبدأ التوسل بالعقل، ومبدأ التعلق بالدنيا، ولكنها في الوقت ذاته أخذت بأخلاق الإمّعية؛ إذ أخذت الأسرة الحداثية بأخلاق المروءة، وأخذت بأخلاق الحظ، حيث أخذت هذه بأخلاق الإلزام، وأخذت بأخلاق اللعب، حيث أخذت هذه بأخلاق السعادة.
وعلّة هذا الانقلاب -في رأي طه عبد الرحمن- هي أن الأسرة الحداثية رغبت في الحمل بما لا طاقة لها بحمله؛ فقد رغبت في أن تحمل رُوح مُثُلٍ أخلاقية عليا، ولكنها لم تقدر على حمل سرّ هذا الروح فهي رغبت في حمل روح المعية الرافعة، ولم تطق حمل سرّ التعالي، ورغبت في حمل روح الالتزام القيم، ولم تطق حمل سر الفطرة، ورغبت في حمل روح الحياة الطيبة المتصلة، ولم تطق حمل سر الخلود، وحمل الروح بغير سر هو بمنـزلة حمل جسم بلا روح. والأسرة الما بعد حداثية هي هذا الجسم بلا روح، فقد نشأت على المعية الخافضة، وهي معية لا روح فيها، وعلى الالتزام الهين، وهو التزام لا روح فيه، وعلى الحياة المنفصلة، وهي حياة لا روح فيها. والعبرة في كل هذا أن الأسرة الحداثية قد خرجت عن مقصودها، وكل خروج عن المقصود هو تنبيه على وجوب الدخول في التصحيح، ولا تصحيح للأسرة بغير عودة الروح إليها، وهذه الروح لا تنفخها فيها إلا قيم التعالي والفطرة والخلود.
والحاصل أنه لا يمكن للأسرة الحداثية أن تحفظ نفسها من انقلاب مقصودها إلى ضده إلا إذا تخلت عن التفصيل المطلق، وسلكت طريق التفصيل الموجه الذي تأخذ به الحداثة الإسلامية، فهو الذي بمقدوره أن يجعل معية الأفراد داخل هذه الأسرة تتشبه على أجمل وجه بمعية المتعالي مع خلقه، فيكون كل فرد مع غيره بكل غيريته مع تمام حفظه لخصوصيته الأخلاقية، كما أنه بمقدوره أن يجعل التزامات كل واحد من أفراد الأسرة تحفظ على أفضل وجه القيم الحسنى التي تتكون منها الفطرة الإنسانية، فيقوم كل منهم بأفعاله على اعتبار أنه لا تزيد في أخلاقيته وإنسانيته داخل أسرته هو فحسب، بل إنها تزيد في أخلاقية وإنسانية الخلق جميعاً داخل العالم كله، وهو الذي بمقدوره أن يجعل حياة كل واحد من أفراد هذه الأسرة تتشبه بحياة الخلود، عندما يعي أن أفعاله تتعدى حياته إلى مستقبل يمتد إلى الأبد.
وفي الفصل الثاني عرض طه عبد الرحمن مبدأ التفصيل وتطبيقاته على نظام الأسرة الغربية، ليخلص إلى ما يشبه المفارقة بخصوص نظام هذه الأسرة؛ فأسرة ما بعد الحداثة هي مثل الأسرة الحداثية وضدها في ذات الوقت، (وليدتُها وضرَّتُها معاً)، فهي انبنت على ما انبنت عليه الأسرة الحداثية من مبادئ فصل الأخلاق عن الدين؛ أي مبدأ التوجه إلى الإنسان، ومبدأ التوسل بالعقل، ومبدأ التعلق بالدنيا، ولكنها في الوقت ذاته أخذت بأخلاق الإمّعية؛ إذ أخذت الأسرة الحداثية بأخلاق المروءة، وأخذت بأخلاق الحظ، حيث أخذت هذه بأخلاق الإلزام، وأخذت بأخلاق اللعب، حيث أخذت هذه بأخلاق السعادة.
وعلّة هذا الانقلاب -في رأي طه عبد الرحمن- هي أن الأسرة الحداثية رغبت في الحمل بما لا طاقة لها بحمله؛ فقد رغبت في أن تحمل رُوح مُثُلٍ أخلاقية عليا، ولكنها لم تقدر على حمل سرّ هذا الروح فهي رغبت في حمل روح المعية الرافعة، ولم تطق حمل سرّ التعالي، ورغبت في حمل روح الالتزام القيم، ولم تطق حمل سر الفطرة، ورغبت في حمل روح الحياة الطيبة المتصلة، ولم تطق حمل سر الخلود، وحمل الروح بغير سر هو بمنـزلة حمل جسم بلا روح. والأسرة الما بعد حداثية هي هذا الجسم بلا روح، فقد نشأت على المعية الخافضة، وهي معية لا روح فيها، وعلى الالتزام الهين، وهو التزام لا روح فيه، وعلى الحياة المنفصلة، وهي حياة لا روح فيها. والعبرة في كل هذا أن الأسرة الحداثية قد خرجت عن مقصودها، وكل خروج عن المقصود هو تنبيه على وجوب الدخول في التصحيح، ولا تصحيح للأسرة بغير عودة الروح إليها، وهذه الروح لا تنفخها فيها إلا قيم التعالي والفطرة والخلود.
والحاصل أنه لا يمكن للأسرة الحداثية أن تحفظ نفسها من انقلاب مقصودها إلى ضده إلا إذا تخلت عن التفصيل المطلق، وسلكت طريق التفصيل الموجه الذي تأخذ به الحداثة الإسلامية، فهو الذي بمقدوره أن يجعل معية الأفراد داخل هذه الأسرة تتشبه على أجمل وجه بمعية المتعالي مع خلقه، فيكون كل فرد مع غيره بكل غيريته مع تمام حفظه لخصوصيته الأخلاقية، كما أنه بمقدوره أن يجعل التزامات كل واحد من أفراد الأسرة تحفظ على أفضل وجه القيم الحسنى التي تتكون منها الفطرة الإنسانية، فيقوم كل منهم بأفعاله على اعتبار أنه لا تزيد في أخلاقيته وإنسانيته داخل أسرته هو فحسب، بل إنها تزيد في أخلاقية وإنسانية الخلق جميعاً داخل العالم كله، وهو الذي بمقدوره أن يجعل حياة كل واحد من أفراد هذه الأسرة تتشبه بحياة الخلود، عندما يعي أن أفعاله تتعدى حياته إلى مستقبل يمتد إلى الأبد.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
رابعاً: الترجمة؛ التكافؤ وذوبان الهوية
وفي الباب الثاني (التطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد الحداثي) ركز طه عبد الرحمن حديثه على الترجمة الحداثية والقراءة الحداثية للقرآن؛ إذ خص كل قضية منهما بفصل من فصلي الباب.
فالترجمة -كما رأى طه عبد الرحمن- هي أحد البابين اللذين يدخل منهما العربي اللسان إلى كنف الحداثة وتجديد اتصاله بالآخر، على شرط أن لا تكون ممارسة الترجمة دخولاً في التبعية للأصول المنقولة، وإنما تكون على العكس من ذلك، تحملاً لمسؤولية الاستقلال عنها بما يضمن للمترجم وللمتلقي لترجمته تحصيل أسباب الإبداع.
من هنا يظهر أن بعض مسلّمات التجربة الثانية من الترجمة العربية، التي اقترنت بالنهضة الحديثة، باطلة، فلا يصح قياس هذه التجربة على التجربة الأولى التي شهدها العصر العباسي الأول، كما لا يصح حصر الترجمة في واحدة، سواء تعدد المترجمون أو كان المترجم واحداً، كما يظهر أن التحديث بمعنى "الاقتباس الخارجي" تدخل عليه شبهات كثيرة، كالخلط بين ما ينبغي اقتباسه وما لا ينبغي، وضعف الاستدلال على مشروعية الاقتباس، وإحلال التراث المقتبس مكان التراث الأصلي، والبقاء على حال الاقتباس وتمييع الهوية. وهكذا فإن الترجمة التي تعد نموذج الاقتباس الخارجي ما انفكت تتبع طريق الاستنساخ الذي يحول دون تحديث حقيقي للفكر الإسلامي العربي.
لذا وجب أن تسلك الترجمة طريقاً آخر للوصول إلى هذا التحديث، وهو ما أسماه طه عبد الرحمن بـ"الطريق الاستكشافي"، إذ من شأنه أن يرشد المتلقي المسلم ذا اللسان العربي إلى السبل التي توصله إلى إبداع نظائر للنص الأصلي، ومن ثم يفتح له باب تحديث الفكر الإسلامي العربي من الداخل. ويقضي هذا الطريق الجديد بأن يضع المترجم للنص الواحد ترجمات ثلاث، تختلف فيها درجة التصرف فيه، متحملاً مسؤولية الاستقلال عنه؛ وهي على الترتيب: "الترجمة المنطقية" وتبرز بناه العقلية، و"الترجمة الدلالية" وتبرز بناه المعنوية، و"الترجمة التركيبية" وتبرز بناه النحوية.
ويلزم من هذا أن التصور الاستكشافي للترجمة -كما يراه طه عبد الرحمن- يقلب التصور الاستنساخي لها رأساً على عقب. فإذا كانت الترجمة الاستنساخية تجعل الرتبة الأولى لتراكيب النص الأصلي، والرتبة الثانية لمعانيه، والرتبة الثالثة لأدلته، ليكون التركيب مؤثراً في المعنى، ويكون المعنى مؤثراً في الدليل، فإن الترجمة الاستكشافية على العكس من ذلك، تقدم اعتبار الدليل على اعتبار المعنى، وتقدم اعتبار المعنى على اعتبار التركيب، فيصير الدليل مؤثراً في المعنى، والمعنى مؤثراً في التركيب. ولا يبدأ الإبداع الفكري الحق إلا مع البدء بتحصيل الأدلة في النصوص المترجمة، ولا تحديث للفكر الإسلامي العربي إلا بوجود هذا الإبداع ودوامه.
وفي الباب الثاني (التطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد الحداثي) ركز طه عبد الرحمن حديثه على الترجمة الحداثية والقراءة الحداثية للقرآن؛ إذ خص كل قضية منهما بفصل من فصلي الباب.
فالترجمة -كما رأى طه عبد الرحمن- هي أحد البابين اللذين يدخل منهما العربي اللسان إلى كنف الحداثة وتجديد اتصاله بالآخر، على شرط أن لا تكون ممارسة الترجمة دخولاً في التبعية للأصول المنقولة، وإنما تكون على العكس من ذلك، تحملاً لمسؤولية الاستقلال عنها بما يضمن للمترجم وللمتلقي لترجمته تحصيل أسباب الإبداع.
من هنا يظهر أن بعض مسلّمات التجربة الثانية من الترجمة العربية، التي اقترنت بالنهضة الحديثة، باطلة، فلا يصح قياس هذه التجربة على التجربة الأولى التي شهدها العصر العباسي الأول، كما لا يصح حصر الترجمة في واحدة، سواء تعدد المترجمون أو كان المترجم واحداً، كما يظهر أن التحديث بمعنى "الاقتباس الخارجي" تدخل عليه شبهات كثيرة، كالخلط بين ما ينبغي اقتباسه وما لا ينبغي، وضعف الاستدلال على مشروعية الاقتباس، وإحلال التراث المقتبس مكان التراث الأصلي، والبقاء على حال الاقتباس وتمييع الهوية. وهكذا فإن الترجمة التي تعد نموذج الاقتباس الخارجي ما انفكت تتبع طريق الاستنساخ الذي يحول دون تحديث حقيقي للفكر الإسلامي العربي.
لذا وجب أن تسلك الترجمة طريقاً آخر للوصول إلى هذا التحديث، وهو ما أسماه طه عبد الرحمن بـ"الطريق الاستكشافي"، إذ من شأنه أن يرشد المتلقي المسلم ذا اللسان العربي إلى السبل التي توصله إلى إبداع نظائر للنص الأصلي، ومن ثم يفتح له باب تحديث الفكر الإسلامي العربي من الداخل. ويقضي هذا الطريق الجديد بأن يضع المترجم للنص الواحد ترجمات ثلاث، تختلف فيها درجة التصرف فيه، متحملاً مسؤولية الاستقلال عنه؛ وهي على الترتيب: "الترجمة المنطقية" وتبرز بناه العقلية، و"الترجمة الدلالية" وتبرز بناه المعنوية، و"الترجمة التركيبية" وتبرز بناه النحوية.
ويلزم من هذا أن التصور الاستكشافي للترجمة -كما يراه طه عبد الرحمن- يقلب التصور الاستنساخي لها رأساً على عقب. فإذا كانت الترجمة الاستنساخية تجعل الرتبة الأولى لتراكيب النص الأصلي، والرتبة الثانية لمعانيه، والرتبة الثالثة لأدلته، ليكون التركيب مؤثراً في المعنى، ويكون المعنى مؤثراً في الدليل، فإن الترجمة الاستكشافية على العكس من ذلك، تقدم اعتبار الدليل على اعتبار المعنى، وتقدم اعتبار المعنى على اعتبار التركيب، فيصير الدليل مؤثراً في المعنى، والمعنى مؤثراً في التركيب. ولا يبدأ الإبداع الفكري الحق إلا مع البدء بتحصيل الأدلة في النصوص المترجمة، ولا تحديث للفكر الإسلامي العربي إلا بوجود هذا الإبداع ودوامه.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
خامساً: الحداثة والمدارسة القرآنية:
وفي الفصل الرابع تناول طه عبد الرحمن المدخل الثاني الذي يمكن أن يلج منه المسلمون كنفَ الحداثة، وهو تجديد تفسير القرآن، أو بالاصطلاح الحديث: أن يجددوا قراءته، سالكين فيها طريق الإبداع الموصول الذي يميز التطبيق الإسلامي لروح الحداثة، لا طريق الإبداع المفصول الذي سلكته بعض القراءات الحداثية للآيات القرآنية.
فهذه القراءات الحداثية تبتغي أساساً ممارسة النقد على هذه الآيات، واتبعت في هذا النقد خططاً ثلاث، هي: "خطة التأنيس" و"خطة التعقيل" و"خطة التأريخ"؛ واختصت خطة التأنيس منها بنقل الآيات من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، قاصدة إلغاء القدسية منها، فصارت إلى تقرير المماثلة اللغوية بين القرآن وسواه من النصوص البشرية. واختصت خطة التعقيل بالتعامل مع الآيات القرآنية بجميع المنهجيات والنظريات الحديثة، قاصدة إلغاء الغيبية منها، فانتهت إلى تقرير المماثلة الدينية بين القرآن وسواه من النصوص الدينية. وأخيراً اختصت خطة التأريخ بوصل الآيات القرآنية بظروفها وسياقاتها المختلفة، قاصدة إلغاء الحكمية فيها، فتأدت إلى تقرير المماثلة التاريخية بين القرآن وما عداه من النصوص.
ومن هنا فإن هذه القراءات الحداثية إنما هي تفسيرات مقلِّدة، اقتبست كل مكونات خططها من الواقع الحداثي الغربي في صراعه مع الدين؛ هذا الصراع الذي آل إلى ترك العمل بقيم "الألوهية" و"الوحيانية" و"الأخروية" والأخذ بقيم "الإنسانية" و"العقلانية" و"الدنيوية".
فلزم عندئذ -كما يرى طه عبد الرحمن- طلب قراءة حداثية للآيات القرآنية تكون قراءة مبدعة حقاً، ولا يمكن أن يتحقق هذا الإبداع إلا إذا كان إبداعاً موصولاً؛ أي آخذاً بأسباب تراثنا التفسيري والثقافي. وخطط هذه القراءة المبدعة وإن اتفقت مع خطط القراءة المقلدة في بعض الأركان، فإنها تختلف عنها في أخرى. والركن الذي تتفق معها فيه هو "الآليات التنسيقية"؛ إذ بواسطتها يحصل ترشيد التفاعل الديني مع النص القرآني.
أما الركن الذي تختلف معها فيه فهو "الأهداف النقدية"؛ إذ تقصد "تكريم الإنسان" بدل "نـزع القدسية" و"توسيع العقل" بدل "نـزع الغيبية" و"ترسيخ الأخلاق" بدل "نـزع الحكمية"؛ وبفضل هذه الأهداف يحصل تجديد الفعل الحداثي، ويتجلى هذا التجديد في رفع الكرامة الإنسانية إلى رتبة التمثيل الإلهي، تحققاً بـ"مبدأ الاستخلاف"، كما يتجلى في رفع إدراك الوقائع إلى رتبة إدراك القيم، تحققاً بـ"مبدأ التدبر"، ويتجلى أخيراً في رفع مفهوم الحكم إلى رتبة الخلق، تحققا بـ"مبدأ الاعتبار."
وفي الفصل الرابع تناول طه عبد الرحمن المدخل الثاني الذي يمكن أن يلج منه المسلمون كنفَ الحداثة، وهو تجديد تفسير القرآن، أو بالاصطلاح الحديث: أن يجددوا قراءته، سالكين فيها طريق الإبداع الموصول الذي يميز التطبيق الإسلامي لروح الحداثة، لا طريق الإبداع المفصول الذي سلكته بعض القراءات الحداثية للآيات القرآنية.
فهذه القراءات الحداثية تبتغي أساساً ممارسة النقد على هذه الآيات، واتبعت في هذا النقد خططاً ثلاث، هي: "خطة التأنيس" و"خطة التعقيل" و"خطة التأريخ"؛ واختصت خطة التأنيس منها بنقل الآيات من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، قاصدة إلغاء القدسية منها، فصارت إلى تقرير المماثلة اللغوية بين القرآن وسواه من النصوص البشرية. واختصت خطة التعقيل بالتعامل مع الآيات القرآنية بجميع المنهجيات والنظريات الحديثة، قاصدة إلغاء الغيبية منها، فانتهت إلى تقرير المماثلة الدينية بين القرآن وسواه من النصوص الدينية. وأخيراً اختصت خطة التأريخ بوصل الآيات القرآنية بظروفها وسياقاتها المختلفة، قاصدة إلغاء الحكمية فيها، فتأدت إلى تقرير المماثلة التاريخية بين القرآن وما عداه من النصوص.
ومن هنا فإن هذه القراءات الحداثية إنما هي تفسيرات مقلِّدة، اقتبست كل مكونات خططها من الواقع الحداثي الغربي في صراعه مع الدين؛ هذا الصراع الذي آل إلى ترك العمل بقيم "الألوهية" و"الوحيانية" و"الأخروية" والأخذ بقيم "الإنسانية" و"العقلانية" و"الدنيوية".
فلزم عندئذ -كما يرى طه عبد الرحمن- طلب قراءة حداثية للآيات القرآنية تكون قراءة مبدعة حقاً، ولا يمكن أن يتحقق هذا الإبداع إلا إذا كان إبداعاً موصولاً؛ أي آخذاً بأسباب تراثنا التفسيري والثقافي. وخطط هذه القراءة المبدعة وإن اتفقت مع خطط القراءة المقلدة في بعض الأركان، فإنها تختلف عنها في أخرى. والركن الذي تتفق معها فيه هو "الآليات التنسيقية"؛ إذ بواسطتها يحصل ترشيد التفاعل الديني مع النص القرآني.
أما الركن الذي تختلف معها فيه فهو "الأهداف النقدية"؛ إذ تقصد "تكريم الإنسان" بدل "نـزع القدسية" و"توسيع العقل" بدل "نـزع الغيبية" و"ترسيخ الأخلاق" بدل "نـزع الحكمية"؛ وبفضل هذه الأهداف يحصل تجديد الفعل الحداثي، ويتجلى هذا التجديد في رفع الكرامة الإنسانية إلى رتبة التمثيل الإلهي، تحققاً بـ"مبدأ الاستخلاف"، كما يتجلى في رفع إدراك الوقائع إلى رتبة إدراك القيم، تحققاً بـ"مبدأ التدبر"، ويتجلى أخيراً في رفع مفهوم الحكم إلى رتبة الخلق، تحققا بـ"مبدأ الاعتبار."
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
سادساً: الحداثة وقيم المواطنة
أما الباب الثالث (التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي) فتناول فيه الحديث عن مفهومين اشتهرا في الفكر السياسي الحداثي، هما مفهوما المواطنة والتضامن. فالمواطنة تشكل -كما يقول طه عبد الرحمن- المجال الذي تجلَّى فيه على وجه أفضل تطبيق ركن التوسع من أركان الحداثة، وقد جعل التطبيق الغربي لهذا الركن من المواطنة سلوكاً مبْنِيَّاً على مبدأ إقامة العدل في المجتمع؛ إذ كانت محل تصورين حداثيين أساسيين هما: التصور "الليبرالي" والتصور"الجماعاني". وقد ظهر أن التصور "الليبرالي" يفضي إلى إيقاع المواطنة في انفصال مثلث هو: "انفصال الذات عن الواقع" حين يطلب منه أن تكون مشاركته السياسية والاجتماعية فعلية، على حين لا يطلب منه الدخول في ممارسة سلوكية حية؛ و"انفصالها عن الآخر" حين يُجعل المواطنون ذواتاً فردية داخل المجتمع لا يعنيها غير تحصيل الحقوق المادية وتوسيع دائرتها؛ و"انفصالها عن نفسها" بفقدانها المقاصد والرؤى الأخلاقية التي يتولد عنها اختلاف الرؤى الأخلاقية باختلاف المواطنين، بل باختلاف أحوال المواطن الواحد.
كما ظهر أنَّ التصور "الجماعاني" يفضي إلى إيقاع المواطنة في انغلاق مثلث هو: "انغلاقها في الجماعة"، بالولاء للجماعة والتعصب الأعمى لها، و"انغلاقها في الخصوصية"، بالتركيز على الفوارق بين الجماعة وبين غيرها، و"انغلاقها في العادات" بالانغماس في التقليد والجمود حرصاً على التميز المزعوم.
أما المواطنة الصالحة فلا تكون إلا مواطنة متصلة ومنفتحة؛ أي عبارة عن مؤاخاة؛ ذلك أن هذه المواطنة (الصالحة) تقوم على مفهومين أساسيين هما: الإخلاص والتجرد. فأما الإخلاص فهو الذي يؤدي إلى التخلص من الأسباب التي تبعث على الظلم؛ ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لغيره.كما أن إخلاص المواطنة في مفهومها الإسلامي ممارسة لا تنتهي؛ لأن العدل فيها ليس رتبة واحدة وإنما هو رتبٌ متعددة.
والحال أن المواطنة الموصولة والمفتوحة؛ أو المؤاخاة، لا تتحقق إلا مع التطبيق الإسلامي لركن التوسع، ذلك أن المبدأ الذي يقوم عليه هذا التوسع الخاص؛ أي "مبدأ الإخلاص"، يحقق للمواطن الاتصال، فيجد نفسه موصولاً بالعدل، لا فعلاً أو صفة فحسب، بل ذاتاً علية قائماً بحقوقها، وأيضاً موصولاً بالآخر متولياً دفع الظلم عنه، وأخيراً موصولاً بنفسه، مشتغلاً بدفع ظلمها.
كما أن مبدأ الإخلاص الذي تقوم عليه يجعل المواطن مطمئناً إلى واقعية مشاركته وأصالتها، متيقناً من سلامة أصلها الروحي (الإلهي) وخيريته، ويجعل المواطن ينظر إلى حقوقه على أنها حظوظ، وإلى حقوق غيره على أنها واجبات، وهذا يدعوه إلى أن يقدم اعتبار واجباته على اعتبار حقوقه، لعلمه أن الحق لا يضيع والواجب لا ينتظر. فالمواطنة الإسلامية القائمة على مبدأ "الإخلاص"، مواطنة متصلة ترتقي إلى مرتبة المؤاخاة.
أما المبدأ الثاني الذي يقوم عليه هذا التوسع هو "مبدأ الأمة"؛ إذ يحقق للمواطن الانفتاح، فيجد نفسه منفتحاً على الإنسانية، خارجاً عن نطاق الفروق والحدود، ومنفتحاً كذلك على الأخلاقية، واعياً بأصالتها واتساعها، ومنفتحاً أخيراً على أفق الإبداع، مجدداً ترتيب القيم. وكل ذلك يمد المواطنة بروحانية عالية، جاعلاً منها مؤاخاة حقيقية، قادرة على أن تتحمل وتتجاوز الأزمات التي يتعثر في تطبيقها التطبيق الغربي لروح الحداثة، لا سيّما في طوره العولمي، الذي أخذ يُلبِس كل العلائق بين بني البشر -أقارب كانوا أو أباعد- لباس الأغراض المادية.
فالوجود الجماعي للأمة وفق الرؤية الإسلامية هو تجمع غايته القيام بمزيد من الواجبات، لا تحصيل المزيد من الحقوق، وبهذا تغدو الأمة فضاء للتحقق بالماهية الأخلاقية، والقيام بشرط الآدمية ذاتها، بالتمرس على أسمى القيم الأخلاقية.
وبهذا يمكن للقيم السلوكية أن تثمر قيماً معرفية تنير العقل، وتنهض بالحقيقة الإنسانية على أكمل وجه، صارفة عنها كل ما يقيد انطلاق طاقات الخير فيها، مرتقية بالأخلاق عن إسار التقليد والجمود بذلك القبس الروحي الذي تشعه أخلاق الإحسان.
وهكذا فإنَّ المواطنة القائمة على مبدأيْ "الإخلاص" و"الأمة" ترتقي إلى رتبة المؤاخاة، مما يؤهلها لدفع التحديات التي يتعرض لها عالم اليوم، التي عجزت الحداثة الغربية عن دفعها؛ فدوام التوجه إلى المتجلي بالعدل يسهم في دفع التحديات الروحية، وتوفير الطمأنينة للنفوس، وسد فراغات القلوب. ودوام التجرد من أسباب الظلم يسهم في دفع التحديات المادية المتمثلة في آفات الفقر والتهميش والاستغلال، التي تفتك بثلاثة أرباع سكان العالم. والتحقق بالماهية الأخلاقية يساعد على رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ما دام كل تقدم مادي يتطلب تقدماً روحياً يفوقه قوة أو يساويه حتى يحصل الانتفاع به.
وكل تنمية اقتصادية ينبغي أن تصاحبها تزكية للنفس على قدرها. والقدرة على إبداع القيم يساعد على رفع التحديات العلمية التي تتسبب فيها التجارب الجينية، والنشاطات الإشعاعية، والتحولات البيئية؛ وما أحوج العالم اليوم إلى أن يحيي قيماً طواها النسيان، وأن يبدع قيماً جديدة تكون بمنـزلة المقاصد الإنسانية التي ينبغي أن يسترشد بها العلماء.
أما الباب الثالث (التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي) فتناول فيه الحديث عن مفهومين اشتهرا في الفكر السياسي الحداثي، هما مفهوما المواطنة والتضامن. فالمواطنة تشكل -كما يقول طه عبد الرحمن- المجال الذي تجلَّى فيه على وجه أفضل تطبيق ركن التوسع من أركان الحداثة، وقد جعل التطبيق الغربي لهذا الركن من المواطنة سلوكاً مبْنِيَّاً على مبدأ إقامة العدل في المجتمع؛ إذ كانت محل تصورين حداثيين أساسيين هما: التصور "الليبرالي" والتصور"الجماعاني". وقد ظهر أن التصور "الليبرالي" يفضي إلى إيقاع المواطنة في انفصال مثلث هو: "انفصال الذات عن الواقع" حين يطلب منه أن تكون مشاركته السياسية والاجتماعية فعلية، على حين لا يطلب منه الدخول في ممارسة سلوكية حية؛ و"انفصالها عن الآخر" حين يُجعل المواطنون ذواتاً فردية داخل المجتمع لا يعنيها غير تحصيل الحقوق المادية وتوسيع دائرتها؛ و"انفصالها عن نفسها" بفقدانها المقاصد والرؤى الأخلاقية التي يتولد عنها اختلاف الرؤى الأخلاقية باختلاف المواطنين، بل باختلاف أحوال المواطن الواحد.
كما ظهر أنَّ التصور "الجماعاني" يفضي إلى إيقاع المواطنة في انغلاق مثلث هو: "انغلاقها في الجماعة"، بالولاء للجماعة والتعصب الأعمى لها، و"انغلاقها في الخصوصية"، بالتركيز على الفوارق بين الجماعة وبين غيرها، و"انغلاقها في العادات" بالانغماس في التقليد والجمود حرصاً على التميز المزعوم.
أما المواطنة الصالحة فلا تكون إلا مواطنة متصلة ومنفتحة؛ أي عبارة عن مؤاخاة؛ ذلك أن هذه المواطنة (الصالحة) تقوم على مفهومين أساسيين هما: الإخلاص والتجرد. فأما الإخلاص فهو الذي يؤدي إلى التخلص من الأسباب التي تبعث على الظلم؛ ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لغيره.كما أن إخلاص المواطنة في مفهومها الإسلامي ممارسة لا تنتهي؛ لأن العدل فيها ليس رتبة واحدة وإنما هو رتبٌ متعددة.
والحال أن المواطنة الموصولة والمفتوحة؛ أو المؤاخاة، لا تتحقق إلا مع التطبيق الإسلامي لركن التوسع، ذلك أن المبدأ الذي يقوم عليه هذا التوسع الخاص؛ أي "مبدأ الإخلاص"، يحقق للمواطن الاتصال، فيجد نفسه موصولاً بالعدل، لا فعلاً أو صفة فحسب، بل ذاتاً علية قائماً بحقوقها، وأيضاً موصولاً بالآخر متولياً دفع الظلم عنه، وأخيراً موصولاً بنفسه، مشتغلاً بدفع ظلمها.
كما أن مبدأ الإخلاص الذي تقوم عليه يجعل المواطن مطمئناً إلى واقعية مشاركته وأصالتها، متيقناً من سلامة أصلها الروحي (الإلهي) وخيريته، ويجعل المواطن ينظر إلى حقوقه على أنها حظوظ، وإلى حقوق غيره على أنها واجبات، وهذا يدعوه إلى أن يقدم اعتبار واجباته على اعتبار حقوقه، لعلمه أن الحق لا يضيع والواجب لا ينتظر. فالمواطنة الإسلامية القائمة على مبدأ "الإخلاص"، مواطنة متصلة ترتقي إلى مرتبة المؤاخاة.
أما المبدأ الثاني الذي يقوم عليه هذا التوسع هو "مبدأ الأمة"؛ إذ يحقق للمواطن الانفتاح، فيجد نفسه منفتحاً على الإنسانية، خارجاً عن نطاق الفروق والحدود، ومنفتحاً كذلك على الأخلاقية، واعياً بأصالتها واتساعها، ومنفتحاً أخيراً على أفق الإبداع، مجدداً ترتيب القيم. وكل ذلك يمد المواطنة بروحانية عالية، جاعلاً منها مؤاخاة حقيقية، قادرة على أن تتحمل وتتجاوز الأزمات التي يتعثر في تطبيقها التطبيق الغربي لروح الحداثة، لا سيّما في طوره العولمي، الذي أخذ يُلبِس كل العلائق بين بني البشر -أقارب كانوا أو أباعد- لباس الأغراض المادية.
فالوجود الجماعي للأمة وفق الرؤية الإسلامية هو تجمع غايته القيام بمزيد من الواجبات، لا تحصيل المزيد من الحقوق، وبهذا تغدو الأمة فضاء للتحقق بالماهية الأخلاقية، والقيام بشرط الآدمية ذاتها، بالتمرس على أسمى القيم الأخلاقية.
وبهذا يمكن للقيم السلوكية أن تثمر قيماً معرفية تنير العقل، وتنهض بالحقيقة الإنسانية على أكمل وجه، صارفة عنها كل ما يقيد انطلاق طاقات الخير فيها، مرتقية بالأخلاق عن إسار التقليد والجمود بذلك القبس الروحي الذي تشعه أخلاق الإحسان.
وهكذا فإنَّ المواطنة القائمة على مبدأيْ "الإخلاص" و"الأمة" ترتقي إلى رتبة المؤاخاة، مما يؤهلها لدفع التحديات التي يتعرض لها عالم اليوم، التي عجزت الحداثة الغربية عن دفعها؛ فدوام التوجه إلى المتجلي بالعدل يسهم في دفع التحديات الروحية، وتوفير الطمأنينة للنفوس، وسد فراغات القلوب. ودوام التجرد من أسباب الظلم يسهم في دفع التحديات المادية المتمثلة في آفات الفقر والتهميش والاستغلال، التي تفتك بثلاثة أرباع سكان العالم. والتحقق بالماهية الأخلاقية يساعد على رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ما دام كل تقدم مادي يتطلب تقدماً روحياً يفوقه قوة أو يساويه حتى يحصل الانتفاع به.
وكل تنمية اقتصادية ينبغي أن تصاحبها تزكية للنفس على قدرها. والقدرة على إبداع القيم يساعد على رفع التحديات العلمية التي تتسبب فيها التجارب الجينية، والنشاطات الإشعاعية، والتحولات البيئية؛ وما أحوج العالم اليوم إلى أن يحيي قيماً طواها النسيان، وأن يبدع قيماً جديدة تكون بمنـزلة المقاصد الإنسانية التي ينبغي أن يسترشد بها العلماء.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: أزمة الحداثة الغربية وإبداع الحداثة الإسلامية مراجعة لكتاب: روح الحداثة
سابعاً: التضامن الحداثي والرؤية الإسلامية
أما مبدأ التضامن الحداثي فقد وقع -كما يرى طه عبد الرحمن- في أزمة انفصال خطيرة، نتجت من أنَّ التطبيق الغربي لروح التعميم، من أركان روح الحداثة، يقصره على الآدميين، ولا يتعدى به إلى غيرهم من الكائنات، بل إنه يقطعهم عنها محدثاً انفصالات جوهرية ثلاثة، وهي: "الانفصال عن التراث" حين ألغيت حرمة التراث بزعم تحرير إرادة الإنسان حتى يشرع لنفسه بنفسه.
و"الانفصال عن الطبيعة" حين ألغيت حرمة هذه الطبيعة ونـزعت القداسة على العالم قصد إرادة السيادة على الكون، وهكذا لم يبق جانب من الطبيعة لم تمسه وسائل التقنية بهدف تحرير قدرة الإنسان على الإنتاج وتلبية حاجاته. و"الانفصال عن الحيز" حين ألغيت حرمة الحيز بنوعيه الجغرافي والفيزيائي عن طريق الشركات العالمية ووسائل الاتصال، وكان القصد تحرير قدرة الإنسان على الحركة حيثما أراد سياحة أو سباحة.
ولزم من هذا أنَّ تضامن الآدميين الذي تجلى فيه هذا التطبيق كان تضامناً ضد غيرهم من الكائنات؛ إذ أفضى إلى آفات ثلاث هي: "آفة التزلزل"، و"آفة الخوف"، و"آفة التشرد".
فآفة التزلزل جاءت من أنَّ الانفصال عن التراث أطْلَق عقلَ الإنسان من عقاله، ولكنَّه أغرقه في بحر من الظنون والشكوك التي لا تنتهي. وآفة الخوف مردها إلى ما نتج عن إلغاء حرمة الطبيعة والثورة عليها، حين لم يستطع الإنسان أن يضمن لنفسه ما يدفع به الأخطار التي تتولد من التقدم المخيف في مجال التكنولوجية النووية، والهندسة الوراثية، والصناعة الكيماوية وغيرها، فهذه الأخطار تهدد الحياة والبيئة والأرض جميعاً.
أما آفة التشرد فنتجت عن إطلاق تعامل الإنسان الحديث من قيوده، وانفتاح باب التواصل مع أي شيء، ولكنه لم يستطع أن يزوده بما يحفظ مركزيته وخصوصيته، بل أضاعه في فضاء واسع من المعلومات وأفقده إحساسه بدوره الإنساني.
في حين أن التطبيق الإسلامي لهذا الركن يجعل التعميم يسع الموجودات كلها، محوّلاً الانفصالات القاطعة إلى انفطامات واصلة، ذلك أن مبدأ التراحم الذي يتجلى فيه هذا التطبيق الثاني تتفرع عليه واجبات رحمية كونية، تقضي كلها بإيجاد عالم تكون فيه العلاقات بين الأحياء والأشياء جميعاً علاقات بين أقرباء؛ أقرباء فيما بينهم وأقرباء من الرحمن الذي يتجلى عليهم، لا بقهره وإنما برحمته، فيتفكرون في مظاهر رحمته ويتشبهون بأخلاقه، وتكون الواجبات فيما بينهم، لا واجبات الأجانب، وإنما واجبات الأقارب.
وبفضل هذا التوجه يضمحل همّ القضاء على التراث؛ لأن أحد مقاصد التراث هو أن يزود الإنسان بقوة الماضي، متمثلة في حفظ ذاكرته بِعدِّها قيمة تجلب للإنسان الثبات الذي لا تزلزل معه، كما يضمحل همّ القضاء على الطبيعة التي من مقاصدها تزويد الإنسان بقوة المستقبل بحفظ ذريته بوصفها قيمة تكسب الإنسان الأمن الذي لا خوف معه، ويضمحل همُّ القضاء على الحيز الذي يزود الإنسان بقوة الحاضر بحفظ هويته حفظاً يحقق الإقامة التي لا تشرد معها.
وهكذا، تكون مسؤولية المسلمين في زمن الحداثة –كما يرى طه عبد الرحمن- أعظم من أي وقت مضى، لأنهم يملكون من أسباب التعقيل الموسع، القادرة على التصدي لانحرافات العولمة، ما لا يملكه غيرهم، فضلاً عن أن مسؤولية العولمة تقع عليهم أكثر مما تقع على هؤلاء، ولو أنها ليست مما كسبت أيديهم، وذلك لظهورها في الزمن الأخلاقي الذي خلق لهم من دون سواهم، ولا خوف عليهم من زحفها ولا من هولها متى سارعوا إلى النهوض بهذه المسؤولية؛ فهمّة الإنسان أكبر من أن تقهرها قوة العولمة، وعُدَّة المسلم أقوى من أن تقهرها عظمة المسؤولية.
ويختم طه عبد الرحمن كتابه بسؤال جوهري: "لم الاشتعال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة، وقد انتقلت الإنسانية من طور الحداثة إلى طور "الما بعد حداثة." ولا يقل هذا السؤال أهميّة عمّا سبق سرده من واقع الحداثة وتطبيقاتها، لهذا فإنّ إجابات المؤلّف كانت أكثر حسماً، كونها إعادة تفعيل للمفاهيم والمضامين والآليات التي تضبط الفعل الحداثيّ، وتذكرّ بالاستنتاجات التّي أصّل لها المؤلف في مهاد كتابه، ولا سيّما، في الجانب التنظيري منه.
ويقف المؤلف في هذه الخاتمة عند عدد من المفاهيم التي ينبغي أخذها بالحسبان، عند الترجيح بين عناصر الحداثة، وعناصر الما بعد حداثة، واتخذت هذه المفاهيم طابعاً تحذيرياً من الوقوع في المغالطات، أو التهويل، أو قلب الحقائق، فتطبيق "روح الحداثة" يقتضي دفع ما يترتب على سؤال المشروعية الحداثية، بالحلول في فكرة التجاوز والارتقاء نحو فضاء مفهومي عالمي للحداثة يكتسب مشروعيته من الفكرة الإسلامية المبدعة التي تدمج في أعطافها ليس البشر وحدهم، بل كلّ الموجودات التي يتضمنها العالم.
أما مبدأ التضامن الحداثي فقد وقع -كما يرى طه عبد الرحمن- في أزمة انفصال خطيرة، نتجت من أنَّ التطبيق الغربي لروح التعميم، من أركان روح الحداثة، يقصره على الآدميين، ولا يتعدى به إلى غيرهم من الكائنات، بل إنه يقطعهم عنها محدثاً انفصالات جوهرية ثلاثة، وهي: "الانفصال عن التراث" حين ألغيت حرمة التراث بزعم تحرير إرادة الإنسان حتى يشرع لنفسه بنفسه.
و"الانفصال عن الطبيعة" حين ألغيت حرمة هذه الطبيعة ونـزعت القداسة على العالم قصد إرادة السيادة على الكون، وهكذا لم يبق جانب من الطبيعة لم تمسه وسائل التقنية بهدف تحرير قدرة الإنسان على الإنتاج وتلبية حاجاته. و"الانفصال عن الحيز" حين ألغيت حرمة الحيز بنوعيه الجغرافي والفيزيائي عن طريق الشركات العالمية ووسائل الاتصال، وكان القصد تحرير قدرة الإنسان على الحركة حيثما أراد سياحة أو سباحة.
ولزم من هذا أنَّ تضامن الآدميين الذي تجلى فيه هذا التطبيق كان تضامناً ضد غيرهم من الكائنات؛ إذ أفضى إلى آفات ثلاث هي: "آفة التزلزل"، و"آفة الخوف"، و"آفة التشرد".
فآفة التزلزل جاءت من أنَّ الانفصال عن التراث أطْلَق عقلَ الإنسان من عقاله، ولكنَّه أغرقه في بحر من الظنون والشكوك التي لا تنتهي. وآفة الخوف مردها إلى ما نتج عن إلغاء حرمة الطبيعة والثورة عليها، حين لم يستطع الإنسان أن يضمن لنفسه ما يدفع به الأخطار التي تتولد من التقدم المخيف في مجال التكنولوجية النووية، والهندسة الوراثية، والصناعة الكيماوية وغيرها، فهذه الأخطار تهدد الحياة والبيئة والأرض جميعاً.
أما آفة التشرد فنتجت عن إطلاق تعامل الإنسان الحديث من قيوده، وانفتاح باب التواصل مع أي شيء، ولكنه لم يستطع أن يزوده بما يحفظ مركزيته وخصوصيته، بل أضاعه في فضاء واسع من المعلومات وأفقده إحساسه بدوره الإنساني.
في حين أن التطبيق الإسلامي لهذا الركن يجعل التعميم يسع الموجودات كلها، محوّلاً الانفصالات القاطعة إلى انفطامات واصلة، ذلك أن مبدأ التراحم الذي يتجلى فيه هذا التطبيق الثاني تتفرع عليه واجبات رحمية كونية، تقضي كلها بإيجاد عالم تكون فيه العلاقات بين الأحياء والأشياء جميعاً علاقات بين أقرباء؛ أقرباء فيما بينهم وأقرباء من الرحمن الذي يتجلى عليهم، لا بقهره وإنما برحمته، فيتفكرون في مظاهر رحمته ويتشبهون بأخلاقه، وتكون الواجبات فيما بينهم، لا واجبات الأجانب، وإنما واجبات الأقارب.
وبفضل هذا التوجه يضمحل همّ القضاء على التراث؛ لأن أحد مقاصد التراث هو أن يزود الإنسان بقوة الماضي، متمثلة في حفظ ذاكرته بِعدِّها قيمة تجلب للإنسان الثبات الذي لا تزلزل معه، كما يضمحل همّ القضاء على الطبيعة التي من مقاصدها تزويد الإنسان بقوة المستقبل بحفظ ذريته بوصفها قيمة تكسب الإنسان الأمن الذي لا خوف معه، ويضمحل همُّ القضاء على الحيز الذي يزود الإنسان بقوة الحاضر بحفظ هويته حفظاً يحقق الإقامة التي لا تشرد معها.
وهكذا، تكون مسؤولية المسلمين في زمن الحداثة –كما يرى طه عبد الرحمن- أعظم من أي وقت مضى، لأنهم يملكون من أسباب التعقيل الموسع، القادرة على التصدي لانحرافات العولمة، ما لا يملكه غيرهم، فضلاً عن أن مسؤولية العولمة تقع عليهم أكثر مما تقع على هؤلاء، ولو أنها ليست مما كسبت أيديهم، وذلك لظهورها في الزمن الأخلاقي الذي خلق لهم من دون سواهم، ولا خوف عليهم من زحفها ولا من هولها متى سارعوا إلى النهوض بهذه المسؤولية؛ فهمّة الإنسان أكبر من أن تقهرها قوة العولمة، وعُدَّة المسلم أقوى من أن تقهرها عظمة المسؤولية.
ويختم طه عبد الرحمن كتابه بسؤال جوهري: "لم الاشتعال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة، وقد انتقلت الإنسانية من طور الحداثة إلى طور "الما بعد حداثة." ولا يقل هذا السؤال أهميّة عمّا سبق سرده من واقع الحداثة وتطبيقاتها، لهذا فإنّ إجابات المؤلّف كانت أكثر حسماً، كونها إعادة تفعيل للمفاهيم والمضامين والآليات التي تضبط الفعل الحداثيّ، وتذكرّ بالاستنتاجات التّي أصّل لها المؤلف في مهاد كتابه، ولا سيّما، في الجانب التنظيري منه.
ويقف المؤلف في هذه الخاتمة عند عدد من المفاهيم التي ينبغي أخذها بالحسبان، عند الترجيح بين عناصر الحداثة، وعناصر الما بعد حداثة، واتخذت هذه المفاهيم طابعاً تحذيرياً من الوقوع في المغالطات، أو التهويل، أو قلب الحقائق، فتطبيق "روح الحداثة" يقتضي دفع ما يترتب على سؤال المشروعية الحداثية، بالحلول في فكرة التجاوز والارتقاء نحو فضاء مفهومي عالمي للحداثة يكتسب مشروعيته من الفكرة الإسلامية المبدعة التي تدمج في أعطافها ليس البشر وحدهم، بل كلّ الموجودات التي يتضمنها العالم.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» مفهوم الحداثة في الفكر العربي
» "إيسيسكو" تدعم "السيرة النبوية في الكتابات الغربية"
» جدلية العلاقة بين الحداثة والتصوف في الفكر العربي الإسلامي
» مقدمة العلامة مفتي الديار المصرية علي جمعة لكتاب القول التمام
» أزمة الأزهر..عبدالله رشدي نموذج
» "إيسيسكو" تدعم "السيرة النبوية في الكتابات الغربية"
» جدلية العلاقة بين الحداثة والتصوف في الفكر العربي الإسلامي
» مقدمة العلامة مفتي الديار المصرية علي جمعة لكتاب القول التمام
» أزمة الأزهر..عبدالله رشدي نموذج
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى