المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
صفحة 1 من اصل 1
المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
الدكتور محمد جلوب الفرحان
تقديم :
بعد إنقضاء أكثر من ثمانية قرون وعقد من السنيين على وفاة الفيلسوف ” إبن رشد ” (520 هجرية / 1126 ميلادية – 596 هجرية / 1198 ميلادية) يجري الحديث في مناطق واسعة من دوائرنا الثقافية العربية الإسلامية ، وعبر ندوات ومؤتمرات وتظاهرات فكرية ، عن إمكانية تجديد المشروع الثقافي الرشدي . ولعل السؤال الذي يثار هنا : هل مثل هذا الحديث مشروع وممكن ؟ وهل إن التحديث يشمل كل مكونات المشروع الفلسفي الرشدي ؟ حقاً نتعجل ونقول إن جوانباً عديدة من مكونات المشروع الرشدي كانت تتقدم على العصر الذي تولدت فيه . ولذلك تمكن العقل الغربي من الإحتجاج بها في مجابهة كل ما يعوق حركته في التقدم العلمي والمعرفي ، فأنطلق متسلحاً بالعقلانية الرشدية المستبطنة للتراث العلمي الأرسطي ، يؤسس أشكالاً علمية ومعرفية ، وأنماطاً ثقافية جديدة ، أعلنت من خلالها عن بزوغ شمس عصر جديد ، هو ” عصر النهضة الأوربية / الرينسانس ” .
ونحسب إن القرون الثمانية والعقد من السنين التي تفصلنا عن المشروع الرشدي ، قد كشفت بما يكفي من الشواهد على إن جوانب عديدة من هذا المشروع قد تجاوزتها روح العصر ، وأرغمتها على الإستسلام والدخول إلى ذمة الذاكرة والتاريخ
، ولم تعد مكونات يحتج بها من أجل نهضة عربية إسلامية جديدة . وعلى هذا الأساس فأن مذهبنا في التعامل مع تراث فيلسوف قرطبة ، مختلف مع كل وجهات النظر التي تراهن على المشروع الرشدي في عملية الإستنهاض الفكري والثقافي للواقع العربي الإسلامي . فالفرصة تأتي مرة واحدة ولا تتكرر مرتين ، وقد وفرها لنا فيلسوف قرطبة قبل ثمانية قرون وعقد من السنيين . وكنا نغط في نوم عميق كما وصف الحال المفكر الإسلامي مالك بن نبي . ففوتنا الفرصة وإستثمرها العقل الغربي في كل من الجامعات الإيطالية ومن ثم الفرنسية ، فإنبثقت موجة رشدية عارمة ، لم تتمكن قوى الكثلكة وزعيمها توماس الإكويني من وقفها ، فتتوجت بعصر النهضة الذي حمل مشروع التجديد للثقافة والعلم الغربيين (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ إبن رشد الأب الروحي للعلمانية الحديثة / منشور على موقع مجلة أفيروس) . ولعل من الكلام المعاد القول بأن ما تحصده الحضارة الغربية وبكل الأوجه هو من ثمار النهضة الأوربية أو قل على الأصح النهضة الرشدية التي عمت الحياة الأوربية خلال القرنيين الثالث والرابع عشر الميلاديين .
ورغم ضياع الفرصة الرشدية من أيدينا ، فأننا نجد في الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات ، وبالتحديد في العلوم والمعرفيات قوة تعيننا في تكوين أفق ثقافي يحركنا بتعجيل متسارع نحو علوم الغرب ومعرفياته ، وما تولد منها من منهجيات ونظم منطقية ، وتقنيات بحث وأجهزة لغوية ، ترجمة وهضماً وإستيعاباً ، وذلك بهدف تأسيس قاعدة علمية معرفية عربية إسلامية متجددة ، تمكننا من جديد من الإقلاع الحضاري في القرن الحادي والعشرين . ولهذا نحسب إن الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات ، هو المضمار المتجدد من طرف الخطاب الرشدي . وهو الذي نراهن عليه في تأسيس قاعدة الإقلاع الفلسفي العلمي والمعرفي . ولهذا السبب إنتخبناه موضوعاً لبحثنا الحالي .
حقيقة إن ما يميز الخطاب الذي ولده عقل فيلسوف قرطبة ، هو إنه نهض على قاعدة فلسفية مستوعبة لمعرفيات وعلوم عصره المرجحة للمنطق الثنائي الأرسطي والممزوج بالمنطق القضوي الرواقي والهندسة الإقليدية ، والمستوعب للهوامش الفلسفية الإسلامية التي جرت على النظريات الطبيعية عامة والفلكية خاصة التي هبطت إلى دائرته المعرفية من التراث الأرسطي الممزوج بفيثاغورية إفلاطونية مع تغليب إفلاطوني محدث لمشروعي جالينوس وبطليموس والقائمة مفتوحة لجهود حشد أخر …
ولما كان الخطاب الرشدي يتطلع إلى إنجاز مشروع إقلاع فلسفي تترجح فيه كفة العقل ، كما ويحفز العقل ليعمل في مختلف مناطق التفكير دون تردد . فإننا نلحظ إن ذهنية إبن رشد قد إمتصت مختلف العلوم المتداولة يومذاك ، ووقفت على مجمل الإتجاهات الفلسفية والمعرفية التي كتبها الفلاسفة الذين تقدموا عليه . وكونت مواقفاً فلسفية معرفية ، فيها من التحفظ والشك من إمكانية قيام بعض العلوم والمعرفيات . وفي الوقت ذاته إقترحت قائمة ببعض العلوم والمعرفيات ، ورأت بأن في بنيتها وفي مناهجها إمكانية للإعلان عن بزوغ شمس معرفيات وعلوم جديدة . ولعل الحاصل من كل ذلك توافر طاقات تعزز من سلطة العقل ومنهجه ، وترسم له علامات جغرافية في ساحات الفكر والعلوم والمعرفيات ، من غير الممكن تخطيها والعمل خارج حدودها .
يسعى هذا البحث إلى توفير إجابات على الأسئلة الآتية :
أولاً – ما حجم حضور العلوم والمعرفيات في كتابات فلاسفة المغرب الذين تقدموا على فيلسوف قرطبة ، وشكلت كتاباتهم بيئة ثقافية عاش فيها إبن رشد وتعلم منها ؟
ثانياً – ما حجم حضور هذه العلوم والمعرفيات في الإفادات التي كتبها فيلسوف قرطبة ؟
ثالثاً – وما هي قوائم العلوم والمعرفيات الممكنة ؟ وما أثرها على منهجه العقلاني؟
رابعاً – وما هي قوائم العلوم الباطلة ؟ وما أثرها على منهجه العقلاني ؟
الدكتور محمد جلوب الفرحان
تقديم :
بعد إنقضاء أكثر من ثمانية قرون وعقد من السنيين على وفاة الفيلسوف ” إبن رشد ” (520 هجرية / 1126 ميلادية – 596 هجرية / 1198 ميلادية) يجري الحديث في مناطق واسعة من دوائرنا الثقافية العربية الإسلامية ، وعبر ندوات ومؤتمرات وتظاهرات فكرية ، عن إمكانية تجديد المشروع الثقافي الرشدي . ولعل السؤال الذي يثار هنا : هل مثل هذا الحديث مشروع وممكن ؟ وهل إن التحديث يشمل كل مكونات المشروع الفلسفي الرشدي ؟ حقاً نتعجل ونقول إن جوانباً عديدة من مكونات المشروع الرشدي كانت تتقدم على العصر الذي تولدت فيه . ولذلك تمكن العقل الغربي من الإحتجاج بها في مجابهة كل ما يعوق حركته في التقدم العلمي والمعرفي ، فأنطلق متسلحاً بالعقلانية الرشدية المستبطنة للتراث العلمي الأرسطي ، يؤسس أشكالاً علمية ومعرفية ، وأنماطاً ثقافية جديدة ، أعلنت من خلالها عن بزوغ شمس عصر جديد ، هو ” عصر النهضة الأوربية / الرينسانس ” .
ونحسب إن القرون الثمانية والعقد من السنين التي تفصلنا عن المشروع الرشدي ، قد كشفت بما يكفي من الشواهد على إن جوانب عديدة من هذا المشروع قد تجاوزتها روح العصر ، وأرغمتها على الإستسلام والدخول إلى ذمة الذاكرة والتاريخ
، ولم تعد مكونات يحتج بها من أجل نهضة عربية إسلامية جديدة . وعلى هذا الأساس فأن مذهبنا في التعامل مع تراث فيلسوف قرطبة ، مختلف مع كل وجهات النظر التي تراهن على المشروع الرشدي في عملية الإستنهاض الفكري والثقافي للواقع العربي الإسلامي . فالفرصة تأتي مرة واحدة ولا تتكرر مرتين ، وقد وفرها لنا فيلسوف قرطبة قبل ثمانية قرون وعقد من السنيين . وكنا نغط في نوم عميق كما وصف الحال المفكر الإسلامي مالك بن نبي . ففوتنا الفرصة وإستثمرها العقل الغربي في كل من الجامعات الإيطالية ومن ثم الفرنسية ، فإنبثقت موجة رشدية عارمة ، لم تتمكن قوى الكثلكة وزعيمها توماس الإكويني من وقفها ، فتتوجت بعصر النهضة الذي حمل مشروع التجديد للثقافة والعلم الغربيين (أنظر: محمد جلوب الفرحان ؛ إبن رشد الأب الروحي للعلمانية الحديثة / منشور على موقع مجلة أفيروس) . ولعل من الكلام المعاد القول بأن ما تحصده الحضارة الغربية وبكل الأوجه هو من ثمار النهضة الأوربية أو قل على الأصح النهضة الرشدية التي عمت الحياة الأوربية خلال القرنيين الثالث والرابع عشر الميلاديين .
ورغم ضياع الفرصة الرشدية من أيدينا ، فأننا نجد في الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات ، وبالتحديد في العلوم والمعرفيات قوة تعيننا في تكوين أفق ثقافي يحركنا بتعجيل متسارع نحو علوم الغرب ومعرفياته ، وما تولد منها من منهجيات ونظم منطقية ، وتقنيات بحث وأجهزة لغوية ، ترجمة وهضماً وإستيعاباً ، وذلك بهدف تأسيس قاعدة علمية معرفية عربية إسلامية متجددة ، تمكننا من جديد من الإقلاع الحضاري في القرن الحادي والعشرين . ولهذا نحسب إن الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات ، هو المضمار المتجدد من طرف الخطاب الرشدي . وهو الذي نراهن عليه في تأسيس قاعدة الإقلاع الفلسفي العلمي والمعرفي . ولهذا السبب إنتخبناه موضوعاً لبحثنا الحالي .
حقيقة إن ما يميز الخطاب الذي ولده عقل فيلسوف قرطبة ، هو إنه نهض على قاعدة فلسفية مستوعبة لمعرفيات وعلوم عصره المرجحة للمنطق الثنائي الأرسطي والممزوج بالمنطق القضوي الرواقي والهندسة الإقليدية ، والمستوعب للهوامش الفلسفية الإسلامية التي جرت على النظريات الطبيعية عامة والفلكية خاصة التي هبطت إلى دائرته المعرفية من التراث الأرسطي الممزوج بفيثاغورية إفلاطونية مع تغليب إفلاطوني محدث لمشروعي جالينوس وبطليموس والقائمة مفتوحة لجهود حشد أخر …
ولما كان الخطاب الرشدي يتطلع إلى إنجاز مشروع إقلاع فلسفي تترجح فيه كفة العقل ، كما ويحفز العقل ليعمل في مختلف مناطق التفكير دون تردد . فإننا نلحظ إن ذهنية إبن رشد قد إمتصت مختلف العلوم المتداولة يومذاك ، ووقفت على مجمل الإتجاهات الفلسفية والمعرفية التي كتبها الفلاسفة الذين تقدموا عليه . وكونت مواقفاً فلسفية معرفية ، فيها من التحفظ والشك من إمكانية قيام بعض العلوم والمعرفيات . وفي الوقت ذاته إقترحت قائمة ببعض العلوم والمعرفيات ، ورأت بأن في بنيتها وفي مناهجها إمكانية للإعلان عن بزوغ شمس معرفيات وعلوم جديدة . ولعل الحاصل من كل ذلك توافر طاقات تعزز من سلطة العقل ومنهجه ، وترسم له علامات جغرافية في ساحات الفكر والعلوم والمعرفيات ، من غير الممكن تخطيها والعمل خارج حدودها .
يسعى هذا البحث إلى توفير إجابات على الأسئلة الآتية :
أولاً – ما حجم حضور العلوم والمعرفيات في كتابات فلاسفة المغرب الذين تقدموا على فيلسوف قرطبة ، وشكلت كتاباتهم بيئة ثقافية عاش فيها إبن رشد وتعلم منها ؟
ثانياً – ما حجم حضور هذه العلوم والمعرفيات في الإفادات التي كتبها فيلسوف قرطبة ؟
ثالثاً – وما هي قوائم العلوم والمعرفيات الممكنة ؟ وما أثرها على منهجه العقلاني؟
رابعاً – وما هي قوائم العلوم الباطلة ؟ وما أثرها على منهجه العقلاني ؟
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5142
السٌّمعَة : 1
رد: المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
حضور الأبستمولوجيات في الفلسفة المغربية قبل إبن رشد :
شكلت الفلسفة المغربية التي ولدها العقل العربي الإسلامي قبل ظهور ” إبن رشد ” البيئة الثقافية والأفق المعرفي للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة . وكان لحضور العلوم والمعرفيات في مباني الفلسفة المغربية أكبر الأثر في تكوين ذهنية إبن رشد المعرفية والمنهجية . كما ولعبت دوراً مهماً في تنمية إتجاهاته نحو بعض العلوم وترجيح مكانتها في الخطاب الفلسفي المعرفي العلمي الذي كتبه ، والتي كان لها بالمقابل الأثر في صرف إهتمام فيلسوف قرطبة عن بعض المعرفيات والعلوم ، مما حملته على التحفظ منها أو إهمالها على الإطلاق . ولهذا نحسب إنه من النافع جداً أن نوفر بياناً نكشف فيه رصيد المعرفيات والعلوم في البيئة الثقافية التي عاش فيها إبن رشد ، وتعلم منها ، والتي في الوقت ذاته أسهمت في تكوين ذهنيته في أجواءها .
حقيقة إن الإجابة على السؤال الأول (ما حجم حضور العلوم والمعرفيات في الفلسفة المغربية قبل إبن رشد ؟) ، تتطلب تقديم شهادات دالة من داخل المباني الفلسفية التي كتبها الفلاسفة المغاربة قبل إبن رشد . ولهذا السبب سنبدأ أولاً بتقديم شهادات دالة من داخل المباني الفلسفية التي كتبها ” إبن حزم الأندلسي ” (384 – 456 هجرية) ، وذلك لأن الأندلسي قد أسهم بفعل معرفي وثقافي متميز في تكوين البيئة الثقافية والمعرفية التي إمتدت من المغرب وحتى الأندلس . ولهذا نرى إن إبن حزم يتقدم الصفوف في الفلسفة المغربية ، ويعرض في مؤلفاته أشكالاً ملونة من المعرفيات والعلوميات في العمارة الفكرية التي شكلها فكره وكتبها يراعه ، والتي كانت متوافرة أمام أنظار فيلسوف قرطبة ، فدقق في أسسها وتفاصيلها ، ووقف على طبيعة الفكرانية الظاهرية التي إستظلت بها ، فكانت موضوع درس ونقد وتقويم ، ومن ثم إستبطان وإفادة .
شكلت الفلسفة المغربية التي ولدها العقل العربي الإسلامي قبل ظهور ” إبن رشد ” البيئة الثقافية والأفق المعرفي للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة . وكان لحضور العلوم والمعرفيات في مباني الفلسفة المغربية أكبر الأثر في تكوين ذهنية إبن رشد المعرفية والمنهجية . كما ولعبت دوراً مهماً في تنمية إتجاهاته نحو بعض العلوم وترجيح مكانتها في الخطاب الفلسفي المعرفي العلمي الذي كتبه ، والتي كان لها بالمقابل الأثر في صرف إهتمام فيلسوف قرطبة عن بعض المعرفيات والعلوم ، مما حملته على التحفظ منها أو إهمالها على الإطلاق . ولهذا نحسب إنه من النافع جداً أن نوفر بياناً نكشف فيه رصيد المعرفيات والعلوم في البيئة الثقافية التي عاش فيها إبن رشد ، وتعلم منها ، والتي في الوقت ذاته أسهمت في تكوين ذهنيته في أجواءها .
حقيقة إن الإجابة على السؤال الأول (ما حجم حضور العلوم والمعرفيات في الفلسفة المغربية قبل إبن رشد ؟) ، تتطلب تقديم شهادات دالة من داخل المباني الفلسفية التي كتبها الفلاسفة المغاربة قبل إبن رشد . ولهذا السبب سنبدأ أولاً بتقديم شهادات دالة من داخل المباني الفلسفية التي كتبها ” إبن حزم الأندلسي ” (384 – 456 هجرية) ، وذلك لأن الأندلسي قد أسهم بفعل معرفي وثقافي متميز في تكوين البيئة الثقافية والمعرفية التي إمتدت من المغرب وحتى الأندلس . ولهذا نرى إن إبن حزم يتقدم الصفوف في الفلسفة المغربية ، ويعرض في مؤلفاته أشكالاً ملونة من المعرفيات والعلوميات في العمارة الفكرية التي شكلها فكره وكتبها يراعه ، والتي كانت متوافرة أمام أنظار فيلسوف قرطبة ، فدقق في أسسها وتفاصيلها ، ووقف على طبيعة الفكرانية الظاهرية التي إستظلت بها ، فكانت موضوع درس ونقد وتقويم ، ومن ثم إستبطان وإفادة .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5142
السٌّمعَة : 1
رد: المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
صورة الأبستمولوجيات والعلوميات عند إبن حزم
لقد تناول إبن حزم موضوع المعرفيات والعلوميات في رسائله وكتبه المختلفة وبصور متنوعة . ففي رسالة له بعنوان ” التوقيف على شارع النجاة بإختصار الطريق ” ، أشار إلى وجود موقفين من العلوم في عصره . وهنا يمكن النظر إليه كمؤرخ للإتجاهات المعرفية والعلومية المؤيدة والمخاصمة يومذاك . وتمثلت هذه المواقف من المعرفيات والعلوميات في طائفتين :
الأولى – طائفة إتبعت علوم الأوائل :
إن المهم في الإفادات التي تقدم بها إبن حزم ، إنها حددت لنا هوية علوم الأوائل ، ووضعت في متناولنا لوحة فهم تقويمية لها . فعلوم الأوائل حسب ضبطه هي : الفلسفة والمنطق وعلم العدد وعلم المساحة وعلم الهيئة (منا : علم الفلك) . وفي تقويم إبن حزم للعلوم من زاوية الفكرانية الظاهرية ، ينهض على إن المنطق ” علم حسن رفيع ” (إبن حزم الأندلسي ؛ رسالة التوقيف على شارع النجاة بإختصار الطريق ” منشورة في كتاب ” رسائل إبن حزم الأندلسي ” تحقيق إحسان عباس / المجموعة الأولى / مصر بلا تاريخ ، ص 43) . وإن علم العدد ” علم صحيح برهاني . إلا إن المنفعة به إنما في الدنيا فقط ” (المصدر السابق ، ص 44) . وإن علم المساحة (الهندسة) ” علم حسن برهاني ” . وأهميته تتحدد في ناحيتين ؛ في ” فهم صنعة الأفلاك والأرض ” . وفي ” رفع الأثقال والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك . إلا إن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط ” (المصدر السابق ، ص ص 44 – 45) . وإن علم الهيئة ” علم برهاني حسي حق ” ، وتأتي منفعته من جهة ” الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع وقدرته ” (المصدر السابق ، ص 45) .
ويلحظ الباحث إن إفادات إبن حزم لم تكتفي بهذه الشجرة من العلوم ، وإنما تقدمت بصورتين أخريين من العلوم ؛ واحدة يمكن الإصطلاح عليها بالعلوم الممكنة أو العلوم المضافة ، والتي كان ” علم الطب ” ممثلاً لها . وفي تقويمه لهذا النوع من العلم ، وجدناه يفيد ؛ إنه ” علم حسن برهاني ، إلا إن منفعته إنما هي في الدنيا فقط ” (المصدر السابق) . وهنا نسجل تحفظاتنا على إصطلاح علم برهاني ، وذلك لأن الطب في جوهره علم تجريبي إختباري ، يعتمد الملاحظة . وربما في جانب التشخيص يستند على مانطلق علية بالإستدلال التجريبي (وفي التسميات القديمة الإستقراء) . وبالتأكيد هذا النوع من الإستدلال يختلف عن البرهان المتداول في العلوم النظرية الخالصة (المنطق والرياضيات والفيزياء النظرية) .
أما الصورة الثانية للعلوم ، ففي الإمكان تسميتها بالعلوم الباطلة والتي يمثلها ” القضاء بالكواكب ” ، وهو حسب الإفادات التي كتبها إبن حزم : علم ” باطل لتعريه من البرهان ، وإنما هو دعوى فقط ” (المصدر السابق) . وقد لا يغيب عن الأنظار بأن البرهان في هذا الإفادات ، هو ” علم المنطق ” ، والذي سيجد له صدىً قوياً في الإفادات المعرفية ، وبالتحديد المنهجية التي سيكتبها فيلسوف قرطبة .
الثانية – طائفة إتبعت علوم النبوة :
لاحظ الباحث إن إبن حزم ، بحكم كونه صاحب مذهب إسلامي ، يدافع عن أصولية الينابيع الأولى للرسالة الإسلامية ، فإنه من الطبيعي أن يركز على منفعة ” ما جاءت به النبوة ” (المصدر السابق ، ص 43) . ولذلك رأى إن هذه المنفعة تأتي من نواح ثلاث :
1 – إصلاح الأخلاق النفسية ، والدعوة إلى الإلتزام بأفضل ما فيها . وحسب إفادات إبن حزم ، إن ذلك يتحقق من جهة تفضيل إصلاح النفس على إصلاح الجسد ، ولذلك ذهب مؤكداً على إن ” صلاح النفس ومداواتها من فسادها ، أنفع مع مداواة الجسد وإصلاحه ” . وعلى هذا الأساس إعتقد إن صلاح الأخلاق لا يتم ” بالفلسفة دون النبوة ” (المصدر السابق ، ص 46) .
2 – ضبط سلوك العباد وتصرفاتهم ، وذلك عن طريق دعوة النبوة إلى ” دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ” . وهنا تؤكد إفادات إبن حزم على إنتخاب الطريق الأسلم الذي يؤدي إلى ” صنع النظام ” ، و” إيجاد التعاطف ” ، وإن كل ذلك لا يمكن إنجازه ” بغير النبوة أصلاً ” (المصدر السابق ، ص 46) .
3 – ولعل المنفعة الثالثة من علم النبوة ، هي منفعة حسب صاحب المذهب الظاهري تتجاوز حدود هذا العالم (الدار) الدنيوي ، وتتطلع إلى إنجاز مهمة تخص العالم (الدار) الآخروي ، والتي تتمثل بالعمل على ” .. نجاة النفس فيما بعد خروجها من هذا الدار ” . وإن الأولويات من المنافع ، هي تمكين العباد من ” معرفة حقيقة الخالق ” و ” معرفة طريق خلاصنا ” . وكلا الحالتين في يقين إبن حزم لا تتحققان ” إلا بالنبوة ” (المصدر السابق) .
وعلى أساس هذين الموقفين من المعرفيات ، كون إبن حزم رؤية فكرانية (ظاهرية) ، إنطلق في ضوءها إلى وزن علوم الفلسفة وبيان جدواها ، فهي محاكمة للعلوم الفلسفية في إطار علوم النبوة التي تتسور بها فكرانية إبن حزم الظاهرية ، وهذه هي الضميمة التي تلف مجمل الموقف الظاهري من العلوم الفلسفية . ولذلك قال إبن حزم صراحة ودون تردد الباحث في مضمار المعرفيات الفلسفية ، بل بمنطق اليقين العقيدي الظاهري : إن العلوم الفلسفية غير قادرة على إنجاز ما حققته النبوة .
وبالإستناد إلى هذه الرؤية إشتغل على مهاجمة الأفكار النابتة في الشواطئ الفكرية المقابلة لشاطئه ، فذهب مفنداً رأي كل من يعتقد بخلاف رأيه الظاهري ، وإنتهى الى النتيجة الشيعة للحوار والتداول مع أصحاب الشواطئ الأخرى ، الذين إتهمهم ” بالكذب ” وإفتقار حججهم للبرهان . إن كل ذلك جاء في إفادته القائلة : إن ” من إدعى ذلك فقد إدعى الكذب لأنه يقول ذلك بلا برهان ” (المصدر السابق ، ص 48) .
ومن ثم تقدم في نص معرفي أخر ، وكان بعنوان ” رسالة في ترتيب العلوم ” ، وهي في حقيقة الأمر خطاباً في المعرفيات والعلوميات المتداولة في عصره . ومن الملاحظ على هذا الخطاب إنه إستند إلى رؤية بيداغوجية (تربوية – تعليمية) . حملت معها مشجراً للعلوم فيه إختلاف ومديات تنوع ، تقتضيها العملية البيداغوجية . فأفاد منبهاً ولافتاً إنتباه أولياء أمور المتعلمين ، وبكلماته ” من ساس صغار ولدانه ” ، على ضرورة إختيار ” المؤدب ” الذي تتوافر فيه شروط التعليم ، والعلوم التي يقوم بتعليمها لهم . ولاحظنا إن منهاج إبن حزم البيداغوجي للعلوم ، يتشكل من مساقيين : الأول ما يمكن أن نسميه بالتعليم الأولي والذي ركز على ” تعليم الخط وتأليف الكلمات من الحروف ، فإذا درب الكلام في ذلك ، درس وقرأ ” (إبن حزم الأندلسي ؛ رسالة مراتب العلوم / منشورة في كتاب رسائل إبن حزم .. / مصدر سابق / ص 63) . أما المساق التعليمي الثاني ، فأنه مشروط بتوجيه إبن حزم ، الذي يطالب المؤدب (المعلم) أن يدرس المتعلمين ، منهجاً دراسياً ، يلتزم فيه بتراتبية للعلوم وبالصورة الآتية :
” علم النحو واللغة معاً ” (المصدر السابق ، ص 64) .
” رواية شئ من الشعر ” (المصدر السابق ، ص ص 65 – 66) .
هذا هو المستوى الأول من هذا المساق التعليمي . أما المستوى الثاني وهو مرحلة تحول أو إنتقال بالمتعلم نحو شواطئ علوم أخرى بكلمات إبن حزم ، تبدأ بعلم الحساب ، ومن ثم علم الهندسة ، وإختيار مقررات دراسية مشروطة محددة . ولعل العودة إلى إفادات إبن حزم ، هي السبيل الدقيق الوحيد الذي يرسم رحلة العلوم وتراتبيتها في المنهج التعليمي للصبيان ، فتفيد :
ومن ثم ينتقل ” إلى علم العدد ”
ويأخذه في طرف ” من المساحة “
ويقرأ ” كتاب أقليدس ” (المصدر السابق ، ص 67) . (وهو كتاب في الهندسة ، فرض هيمنته تاريخياً ولفترة طويلة على دوائر التفكير العلمي ، وظهرت له شروح كثيرة ، وأثيرت شكوك حول ما يسمى ببديهية التوازي خصوصاً في العالم الإسلامي بعيد ترجمته وتداوله .. وأصبح من الكتب الدراسية الكلاسيكية هنا في العالم الإسلامي وهناك في العالم الغربي في المراحل الهيلينستية ، والوسطى المسيحية ، وعصر النهضة والعصور الحديثة . وإن المناقشات التي حدثت حول هندسة إقليدس وما جاءت به الإكتشافات العلمية ، كل ذلك تتوج بظهور هندسات جديدة أطلق عليها الهندسات اللا إقليدية . وأقليدس هو أحد علماء الرياضيات في مدرسة الإسكندرية ، ولا تذكر المصادر سواء كانت تأريخية أم التي إهتمت بالرياضيات شيئاً عن ولادته أو وفاته ، بل كل ما تذكر إن إسمه إرتبط بكتاب الأصول .. أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الأثر المنطقي لأرسطو على هندسة إقليدس / مجلة أداب الرافدين / كلية الآداب – جامعة الموصل / العدد التاسع 1978 ، ص ص 119 – 150) .
ويطالع ” كتاب المجسطي ” ( إبن حزم : المصدر السابق ، ص 68) . ومثلما لعب كتاب إقليدس دوراً تاريخياً في مناهج التعليم في المرحلتين الهيلينستية والإسلامية ، لعب كتاب المجسطي مثل هذا الدور كذلك . ووضعت عليه الكثير من الشروح ، وإمتد أثره إلى عصر النهضة وما بعد .. والمجسطي كان من تأليف بطليموس (90 م – 168م) وتعني كلمة ” مجسطي ” الرسالة العظيمة ، وهي تتألف من أربعة كتب أو رسائل : الأولى في الرياضيات ، والثانية في الجغرافية ، والثالثة في الفلك ، والرابعة في تعديل فلسفة أرسطو الطبيعية المتداولة يومذاك لتتماشى وعلم الفلك في عصره (أنظر : كتاب مجسطي بطليموس ، ترجمه إلى الإنكليزية جيرالد جيمس تومر ، نشرة جامعة برنكتن 1984). ولهذا الكتاب سمعة عالية في التراث العلمي العربي الإسلامي ، والذي كانت له سلطة علمية قرابة ألف عاماً ، وهو كتاب في علم الفلك ويعرض موديلا هندسيا لحركة الكواكب والنجوم (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ دور المرأة الفيلسوفة في تاريخ الفلسفة الغربية / منشور على موقع الفيلسوف ومواقع عديدة / خصوصاً القسم الخاص بشهيدة الفلسفة هبيشا الإسكندرانية) .
ونلاحظ إن إبن حزم سعى إلى تنمية التفكير الرياضي عند المتعلم ، وذلك شرطاً أو إستعداداً لنقله لمساق تعليمي أعلى ، وهو ” النظر في حدود المنطق ” . ومن ثم ينقله للنظر ” في الطبيعيات ” (إبن حزم ؛ المصدر السابق ، ص 71) . وبعد كل ذلك يسمح له بأن يطالع ” أخبار الأمم السالفة .. وقراءة التواريخ القديمة والحديثة ” (المصدر السابق ، ص ص 71 – 72) .
كما ويرى القارئ المدقق لإفادات إبن حزم في المعرفيات والعلوميات ، إن الرجل تقدم بصياغة جديدة لتراتبية العلوم ، فيها تصعيد لبعض العلوم ، وفيها سحب وتسفيل لمكانة علوم أخرى . فمثلاً يجد في الصياغة الجديدة لتراتبية العلوم ، إن ” علم الشريعة ” يتقدمها في قمة الهرم ، ومن ثم تأتي بعدها علوم ستة ، وهي ” علم الأخبار ” و ” علم اللغة ” علم النجوم ” و ” علم العدد ” و ” علم الطب ” و ” علم الفلسفة ” (المصدر السابق ، ص 78) .
وإفتراضاً إذا قبلنا هذه التراتبية للعلوم ، وذلك على أساس إن العلوم إستندت في تحديد مكانتها وفقاً لدرجة قربها من علوم الشريعة . وإن الفلسفة تأتي في نهاية السلم التعليمي ، حيث تكونت عقيدة المتعلم بشكل صحيح ، ولا خوف عليه من دراسة الفلسفة . فإن من الملاحظ إن العلوم ما بعد الشريعة ، والعلوم ما قبل الفلسفة تفتقد إلى كل شكل من الأساس الذي يبرر تراتبيتها بهذه الصورة التي عرضها إبن حزم . فهو لم يستند إلى معيار ” الملموس المحسوس ” صعوداً إلى طوابق المجرد العالي . و لا إلى معيار ” الذهني المجرد ” نزولاً إلى قاع الملموس الواقعي . ولذلك لم يبدأ بعلوم التجريب والواقع ، ومن ثم يرتقي حيث علوم التجريد ، وهي علوم الرياضيات التي تمهد المتعلم إلى دخول الدرس الفلسفي . على كل إن غياب هذا الأساس المعيار ، هو قدر الإفادات التي كتبها فيلسوف الفكرانية الظاهرية ، والتي تناول فيها المعرفيات والعلوميات في تراتبية مختلطة شكلت جدولاً لتعليم العلوم .
وبعد إن إنتهى إبن حزم من وضع هذا الجدول ، ورتب العلوم في سلم سباعي ، عاد فقسم علوم شريعة الإسلام إلى أربعة أقسام هي : علم القرآن ، وعلم الحديث ، وعلم الفقه وعلم الكلام (المصدر السابق) . ولعل من الإفادات البالغة الأهمية ، التي أدلى بها إبن حزم ، هي الإفادة التي صورت العلوم والمعرفيات في إطار من الوحدة والإندماج ، حيث تشكل بمجملها كتلة تتكون من أطراف ، بعضها يعتمد على بعض ، وتلتحم لإنجاز غرض فكراني ، هو ” الفوز بالآخرة ” . وهو هدف ” علم الشريعة ” (المصدر السابق ، ص 90) .
كما يرتبط بهذه الإفادات ، موقف لإبن حزم من بعض العلوم ، والتي شكلت لها مكانة ملحوظة في خرائط العلوم والمعرفيات ، والتي ذكرها الكثير من الفلاسفة والحارثين في مضمار المعرفيات والعلوميات . فمثلاً رأى إن هناك علوماً إندرست ، ولم ” يبقى منها إلا إسمها ، فمن ذلك علم السحر وعلم الطلسمات ، ومن ذلك علم الموسيقى ” (المصدر السابق ، ص ص 59 – 60) . وهنا نستغرب من إدراج إبن حزم لعلم الموسيقى في قائمة العلوم المندرسة ، وهو العارف بأن لها فعل في حياة الخاصة والعامة ، والذين يتطلعون بشغف للمشاركة في الأحتفالات والمواليد المأمولة ، والتي تصاحبها أشكال من الموسيقى هذا طرف . والطرف الثاني إن التقليد الفلسفي القادم من المشرق الإسلامي إلى دوائر المغرب ، قد أولى في تصانيفه للعلوم ، والتراتبيات التي إقترحها لها ، مكانة تقليدية للموسيقى في العلوم عامة وعلوم الفلسفة خاصة . كما إن العديد من فلاسفة المشرق كانوا مؤلفين موسيقيين ، ولهم معرفة بصناعة الموسيقى وآلاتها (خذ مثلاً الفيلسوف الفارابي) . ويبدو لي إن الفكرانية الظاهرية هي التي لعبت دوراً من شطب الموسيقى أو الحديث عنها كعلماً مندرساً في تراتبيات العلوم في خطاب إبن حزم الأندلسي . ولكن المؤكد إنه كان شاهد حي على مظاهر الحياة المدنية التي تولدت في الأندلس والمغرب ، ومن ضمنها ظهور العديد من مشاهير الموسيقى الأندلسية وصانعي الآلات الموسيقية .
إن ما أراد إبن حزم أن يقوله في خطابه في العلوميات ، هو إن الإسلام يرفض السحر والموسيقى ، ويبدو إن هناك تردداً حول الموقف الإسلامي من الطلسمات ، وخصوصاً الموقف الإسلامي الشعبي وليس الفقهي . أما موقفه من علم الكيمياء ، فقد كشفه في الإفادة القائلة : ” أما هذا العلم الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز فلم يزل عدماً غير موجود وباطلاً ” (المصدر السابق) .
والحقيقة إن موقف إبن حزم هذا ، هو موقف المؤسسة السياسية الصارم ، والضارب على أيدي المزيفين للعملة والذين يستخدمون الكيمياء وسيلة للوصول إلى الإثراء السريع ، وذلك عن طريق خداع العامة ، ومن ثم إحداث إضرار إقتصادية بالغة للمجتمع والدولة ومؤسساتها . نقول هذا شئ والتفكير العلمي في تطوير البحث في مضمار الكيمياء شئ أخر ، وهو شئ مختلف ويظل طموحاً إنسانياً مشروعاً ، ينتظر لحظة الولادة الشرعية للكيمياء علماً ممكناً بعد إن كانت ” حلماً إنسانياً ” يراود البشر للسيطرة على الطبيعة وتسييرها لصالحهم . صحيح إن هذه اللحظة كانت بعيدة من عصر إبن حزم ، وكان من حق الدولة أن تضرب على أيدي المزيفين للعملة وهذا طرف . ولكن غلق باب التفكير والبحث في الكيمياء وإعتباره علماً باطلاً طرف مختلف .
كما ونظن إن رأي إبن حزم حول ما أسماه ” بأحكام النجوم ” فيه خلط وشمول لعلم الفلك . يقول : إن ” الإشتغال بأحكام النجوم فلا معنى له ” (المصدر السابق ، ص 68) . والحقيقة إن علم الفلك شئ والتنجيم شئ أخر . وإن عبارة إبن حزم فيها من الخلط والشمول لعلم الفلك على حد سواء وهذا أمر يفتقد إلى الموضوعية والإنصاف في الحديث عن العلوم .
وتكتمل صورة المعرفيات والعلوميات في الخطاب الذي كتبه إبن حزم ، بقراءة كتابه ” التقريب لحد المنطق والمدخل إليه ” . ففي هذا الكتاب وصف العلوم المتداولة في عصره . وفعلاً عمل ذلك في أحسن ما يقوم به الباحث المؤرخ . فقد حدد هذه العلوم في ” إثني عشر علم ” . وإن المتولد منهما ” علمان زائدان ” . ولنبدأ أولاً بالعلوم الأساس ، ومن ثم ننتهي بالعلوم الزائدة . أما الأولى فهي تضم :
” علم القرآن ، وعلم الحديث ، وعلم المذاهب ، وعلم الفتيا ، وعلم المنطق ، وعلم النحو ، وعلم اللغة ، وعلم الشعر ، وعلم الخبر ، وعلم الطب ، وعلم العدد والهندسة ، وعلم النجوم ” (إبن حزم الأندلسي ؛ التقريب لحد المنطق والمدخل إليه ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت ، بلا تاريخ ، ص 201) .
ويلاحظ الدارس لهذه التراتبية للعلوم والمعرفيات إلى إنها لا تستند في ترتيبها على أساس . فمثلاً علوم الذات التي تولدت في الأرض العربية الأسلامية أو الأدق التي إستندت إلى فكرانية دينية (إسلامية أو ظاهرية = نسبة إلى مذهب إبن حزم) سارت في مساق مختلف عن سلسلسة أخرى ضمتها كتلة العلوم في تراتبية كتاب ” التقريب لحد المنطق..” .
صحيح جداً أن العلوم الأربعة قد تم ترتيبها على أساس الفكرانية الدينية (الإسلامية – الظاهرية) . ولكن علم المنطق (العلم الخامس في التراتبية) وهو علم وافد من دائرة الثقافة اليونانية قد إحتل المرتبة الخامسة . وبذلك إنقطعت سلسلة العلوم التي تنهض على فكرانية دينية . إلا إن من الملاحظ إن سلسلة هذه العلوم تعود إلى مساقها الأول بعد هذا الإنقطاع ، وتنضم إلى كتلة العلوم التي ولدتها الذات العربية الإسلامية ، حدث هذا مع العلم السادس (علم النحو) ، ومن ثم جاء العلم السابع (علم اللغة) ، والذي تلاه العلم الثامن (علم الشعر) وأخيراً جاء العلم التاسع (علم الخبر : التاريخ) .
وعند علم التاريخ يحدث إنقطاع أخر في سلسلة علوم الذات ، فيعود إبن حزم إلى العلوم الوافدة ، وهي بالتصنيف التقليدي في عصر إبن حزم ، أطراف من العلوم الفلسفية ، وهنا حدثت متابعة لسلسلة العلوم الوافدة ، والتي بدأت مع العلم الخامس (علم المنطق) ، ومن ثم جرت متابعة لسلسلة علوم الأخر ، فالعلم العاشر (علم الطب) ، والعلم الحادي عشر (علم العدد والهندسة) ، والعلم الثاني عشر (علم النجوم). وهكذا يصبح واضحاً في هذه الترابية للعلوم ، من إنها تكونت من سلسلتين مختلفتين في الأساس ؛ سلسلة علوم الذات (العلوم الرافدة) . وسلسلسة علوم الأخر (العلوم الوافدة).
ويواجهنا إشكال ظاهري في هذه التراتبية التي ذكرنا بأنها تكونت من سلسلتين ، وذلك عند النظر فيما أطلق عليها إبن حزم إصطلاح العلوم الزائدة أو المضافة (أو الناتجة من علوم التراتبية أعلاه) . فعلوم مثل ” علوم العبارة ” و ” علم البلاغة ” هي ليست بعلوم زائدة ، وإنما هي جزء من كتلة علوم الذات (العلوم الرافدة) . وهي بهذا الحال لا تكون مساقاً ثالثاً أو سلسلة ثالثة في تراتبية المعرفيات والعلوميات في كتاب التقريب لحد المنطق ..
لقد كونت علوم كتاب التقريب لحد المنطق .. كتلة من المعرفيات والعلوميات ، كتلة تعايش فيها الوافد مع المتولد في الدار الثقافي المعرفية العربية الإسلامية (ويحق لك القول الظاهرية) . وهي كتلة ثقافية معرفية دللت على حجم النمو والإنفتاح المعرفي والثقافي الناجز يومذاك تحت ظلال المشروع الثقافي الإسلامي .
ونحسب إن هذه الكتلة من المعرفيات والعلوميات ستكون متوافرة أمام أنظار فيلسوف قرطبة ” إبن رشد ” ، والذي من طرفه سيقوم بهضمها ، والتدقيق فيها ، وبالتأكيد سيضعها موضع الحوار والتقويم ، ومن ثم الإفادة منها في تجربته العقلانية التي ستملأ النصف الثاني من القرن السادس الهجري أو الثلث الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي (حيث كانت وفاته عام 1198م) .
لقد تناول إبن حزم موضوع المعرفيات والعلوميات في رسائله وكتبه المختلفة وبصور متنوعة . ففي رسالة له بعنوان ” التوقيف على شارع النجاة بإختصار الطريق ” ، أشار إلى وجود موقفين من العلوم في عصره . وهنا يمكن النظر إليه كمؤرخ للإتجاهات المعرفية والعلومية المؤيدة والمخاصمة يومذاك . وتمثلت هذه المواقف من المعرفيات والعلوميات في طائفتين :
الأولى – طائفة إتبعت علوم الأوائل :
إن المهم في الإفادات التي تقدم بها إبن حزم ، إنها حددت لنا هوية علوم الأوائل ، ووضعت في متناولنا لوحة فهم تقويمية لها . فعلوم الأوائل حسب ضبطه هي : الفلسفة والمنطق وعلم العدد وعلم المساحة وعلم الهيئة (منا : علم الفلك) . وفي تقويم إبن حزم للعلوم من زاوية الفكرانية الظاهرية ، ينهض على إن المنطق ” علم حسن رفيع ” (إبن حزم الأندلسي ؛ رسالة التوقيف على شارع النجاة بإختصار الطريق ” منشورة في كتاب ” رسائل إبن حزم الأندلسي ” تحقيق إحسان عباس / المجموعة الأولى / مصر بلا تاريخ ، ص 43) . وإن علم العدد ” علم صحيح برهاني . إلا إن المنفعة به إنما في الدنيا فقط ” (المصدر السابق ، ص 44) . وإن علم المساحة (الهندسة) ” علم حسن برهاني ” . وأهميته تتحدد في ناحيتين ؛ في ” فهم صنعة الأفلاك والأرض ” . وفي ” رفع الأثقال والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك . إلا إن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط ” (المصدر السابق ، ص ص 44 – 45) . وإن علم الهيئة ” علم برهاني حسي حق ” ، وتأتي منفعته من جهة ” الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع وقدرته ” (المصدر السابق ، ص 45) .
ويلحظ الباحث إن إفادات إبن حزم لم تكتفي بهذه الشجرة من العلوم ، وإنما تقدمت بصورتين أخريين من العلوم ؛ واحدة يمكن الإصطلاح عليها بالعلوم الممكنة أو العلوم المضافة ، والتي كان ” علم الطب ” ممثلاً لها . وفي تقويمه لهذا النوع من العلم ، وجدناه يفيد ؛ إنه ” علم حسن برهاني ، إلا إن منفعته إنما هي في الدنيا فقط ” (المصدر السابق) . وهنا نسجل تحفظاتنا على إصطلاح علم برهاني ، وذلك لأن الطب في جوهره علم تجريبي إختباري ، يعتمد الملاحظة . وربما في جانب التشخيص يستند على مانطلق علية بالإستدلال التجريبي (وفي التسميات القديمة الإستقراء) . وبالتأكيد هذا النوع من الإستدلال يختلف عن البرهان المتداول في العلوم النظرية الخالصة (المنطق والرياضيات والفيزياء النظرية) .
أما الصورة الثانية للعلوم ، ففي الإمكان تسميتها بالعلوم الباطلة والتي يمثلها ” القضاء بالكواكب ” ، وهو حسب الإفادات التي كتبها إبن حزم : علم ” باطل لتعريه من البرهان ، وإنما هو دعوى فقط ” (المصدر السابق) . وقد لا يغيب عن الأنظار بأن البرهان في هذا الإفادات ، هو ” علم المنطق ” ، والذي سيجد له صدىً قوياً في الإفادات المعرفية ، وبالتحديد المنهجية التي سيكتبها فيلسوف قرطبة .
الثانية – طائفة إتبعت علوم النبوة :
لاحظ الباحث إن إبن حزم ، بحكم كونه صاحب مذهب إسلامي ، يدافع عن أصولية الينابيع الأولى للرسالة الإسلامية ، فإنه من الطبيعي أن يركز على منفعة ” ما جاءت به النبوة ” (المصدر السابق ، ص 43) . ولذلك رأى إن هذه المنفعة تأتي من نواح ثلاث :
1 – إصلاح الأخلاق النفسية ، والدعوة إلى الإلتزام بأفضل ما فيها . وحسب إفادات إبن حزم ، إن ذلك يتحقق من جهة تفضيل إصلاح النفس على إصلاح الجسد ، ولذلك ذهب مؤكداً على إن ” صلاح النفس ومداواتها من فسادها ، أنفع مع مداواة الجسد وإصلاحه ” . وعلى هذا الأساس إعتقد إن صلاح الأخلاق لا يتم ” بالفلسفة دون النبوة ” (المصدر السابق ، ص 46) .
2 – ضبط سلوك العباد وتصرفاتهم ، وذلك عن طريق دعوة النبوة إلى ” دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ” . وهنا تؤكد إفادات إبن حزم على إنتخاب الطريق الأسلم الذي يؤدي إلى ” صنع النظام ” ، و” إيجاد التعاطف ” ، وإن كل ذلك لا يمكن إنجازه ” بغير النبوة أصلاً ” (المصدر السابق ، ص 46) .
3 – ولعل المنفعة الثالثة من علم النبوة ، هي منفعة حسب صاحب المذهب الظاهري تتجاوز حدود هذا العالم (الدار) الدنيوي ، وتتطلع إلى إنجاز مهمة تخص العالم (الدار) الآخروي ، والتي تتمثل بالعمل على ” .. نجاة النفس فيما بعد خروجها من هذا الدار ” . وإن الأولويات من المنافع ، هي تمكين العباد من ” معرفة حقيقة الخالق ” و ” معرفة طريق خلاصنا ” . وكلا الحالتين في يقين إبن حزم لا تتحققان ” إلا بالنبوة ” (المصدر السابق) .
وعلى أساس هذين الموقفين من المعرفيات ، كون إبن حزم رؤية فكرانية (ظاهرية) ، إنطلق في ضوءها إلى وزن علوم الفلسفة وبيان جدواها ، فهي محاكمة للعلوم الفلسفية في إطار علوم النبوة التي تتسور بها فكرانية إبن حزم الظاهرية ، وهذه هي الضميمة التي تلف مجمل الموقف الظاهري من العلوم الفلسفية . ولذلك قال إبن حزم صراحة ودون تردد الباحث في مضمار المعرفيات الفلسفية ، بل بمنطق اليقين العقيدي الظاهري : إن العلوم الفلسفية غير قادرة على إنجاز ما حققته النبوة .
وبالإستناد إلى هذه الرؤية إشتغل على مهاجمة الأفكار النابتة في الشواطئ الفكرية المقابلة لشاطئه ، فذهب مفنداً رأي كل من يعتقد بخلاف رأيه الظاهري ، وإنتهى الى النتيجة الشيعة للحوار والتداول مع أصحاب الشواطئ الأخرى ، الذين إتهمهم ” بالكذب ” وإفتقار حججهم للبرهان . إن كل ذلك جاء في إفادته القائلة : إن ” من إدعى ذلك فقد إدعى الكذب لأنه يقول ذلك بلا برهان ” (المصدر السابق ، ص 48) .
ومن ثم تقدم في نص معرفي أخر ، وكان بعنوان ” رسالة في ترتيب العلوم ” ، وهي في حقيقة الأمر خطاباً في المعرفيات والعلوميات المتداولة في عصره . ومن الملاحظ على هذا الخطاب إنه إستند إلى رؤية بيداغوجية (تربوية – تعليمية) . حملت معها مشجراً للعلوم فيه إختلاف ومديات تنوع ، تقتضيها العملية البيداغوجية . فأفاد منبهاً ولافتاً إنتباه أولياء أمور المتعلمين ، وبكلماته ” من ساس صغار ولدانه ” ، على ضرورة إختيار ” المؤدب ” الذي تتوافر فيه شروط التعليم ، والعلوم التي يقوم بتعليمها لهم . ولاحظنا إن منهاج إبن حزم البيداغوجي للعلوم ، يتشكل من مساقيين : الأول ما يمكن أن نسميه بالتعليم الأولي والذي ركز على ” تعليم الخط وتأليف الكلمات من الحروف ، فإذا درب الكلام في ذلك ، درس وقرأ ” (إبن حزم الأندلسي ؛ رسالة مراتب العلوم / منشورة في كتاب رسائل إبن حزم .. / مصدر سابق / ص 63) . أما المساق التعليمي الثاني ، فأنه مشروط بتوجيه إبن حزم ، الذي يطالب المؤدب (المعلم) أن يدرس المتعلمين ، منهجاً دراسياً ، يلتزم فيه بتراتبية للعلوم وبالصورة الآتية :
” علم النحو واللغة معاً ” (المصدر السابق ، ص 64) .
” رواية شئ من الشعر ” (المصدر السابق ، ص ص 65 – 66) .
هذا هو المستوى الأول من هذا المساق التعليمي . أما المستوى الثاني وهو مرحلة تحول أو إنتقال بالمتعلم نحو شواطئ علوم أخرى بكلمات إبن حزم ، تبدأ بعلم الحساب ، ومن ثم علم الهندسة ، وإختيار مقررات دراسية مشروطة محددة . ولعل العودة إلى إفادات إبن حزم ، هي السبيل الدقيق الوحيد الذي يرسم رحلة العلوم وتراتبيتها في المنهج التعليمي للصبيان ، فتفيد :
ومن ثم ينتقل ” إلى علم العدد ”
ويأخذه في طرف ” من المساحة “
ويقرأ ” كتاب أقليدس ” (المصدر السابق ، ص 67) . (وهو كتاب في الهندسة ، فرض هيمنته تاريخياً ولفترة طويلة على دوائر التفكير العلمي ، وظهرت له شروح كثيرة ، وأثيرت شكوك حول ما يسمى ببديهية التوازي خصوصاً في العالم الإسلامي بعيد ترجمته وتداوله .. وأصبح من الكتب الدراسية الكلاسيكية هنا في العالم الإسلامي وهناك في العالم الغربي في المراحل الهيلينستية ، والوسطى المسيحية ، وعصر النهضة والعصور الحديثة . وإن المناقشات التي حدثت حول هندسة إقليدس وما جاءت به الإكتشافات العلمية ، كل ذلك تتوج بظهور هندسات جديدة أطلق عليها الهندسات اللا إقليدية . وأقليدس هو أحد علماء الرياضيات في مدرسة الإسكندرية ، ولا تذكر المصادر سواء كانت تأريخية أم التي إهتمت بالرياضيات شيئاً عن ولادته أو وفاته ، بل كل ما تذكر إن إسمه إرتبط بكتاب الأصول .. أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الأثر المنطقي لأرسطو على هندسة إقليدس / مجلة أداب الرافدين / كلية الآداب – جامعة الموصل / العدد التاسع 1978 ، ص ص 119 – 150) .
ويطالع ” كتاب المجسطي ” ( إبن حزم : المصدر السابق ، ص 68) . ومثلما لعب كتاب إقليدس دوراً تاريخياً في مناهج التعليم في المرحلتين الهيلينستية والإسلامية ، لعب كتاب المجسطي مثل هذا الدور كذلك . ووضعت عليه الكثير من الشروح ، وإمتد أثره إلى عصر النهضة وما بعد .. والمجسطي كان من تأليف بطليموس (90 م – 168م) وتعني كلمة ” مجسطي ” الرسالة العظيمة ، وهي تتألف من أربعة كتب أو رسائل : الأولى في الرياضيات ، والثانية في الجغرافية ، والثالثة في الفلك ، والرابعة في تعديل فلسفة أرسطو الطبيعية المتداولة يومذاك لتتماشى وعلم الفلك في عصره (أنظر : كتاب مجسطي بطليموس ، ترجمه إلى الإنكليزية جيرالد جيمس تومر ، نشرة جامعة برنكتن 1984). ولهذا الكتاب سمعة عالية في التراث العلمي العربي الإسلامي ، والذي كانت له سلطة علمية قرابة ألف عاماً ، وهو كتاب في علم الفلك ويعرض موديلا هندسيا لحركة الكواكب والنجوم (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ دور المرأة الفيلسوفة في تاريخ الفلسفة الغربية / منشور على موقع الفيلسوف ومواقع عديدة / خصوصاً القسم الخاص بشهيدة الفلسفة هبيشا الإسكندرانية) .
ونلاحظ إن إبن حزم سعى إلى تنمية التفكير الرياضي عند المتعلم ، وذلك شرطاً أو إستعداداً لنقله لمساق تعليمي أعلى ، وهو ” النظر في حدود المنطق ” . ومن ثم ينقله للنظر ” في الطبيعيات ” (إبن حزم ؛ المصدر السابق ، ص 71) . وبعد كل ذلك يسمح له بأن يطالع ” أخبار الأمم السالفة .. وقراءة التواريخ القديمة والحديثة ” (المصدر السابق ، ص ص 71 – 72) .
كما ويرى القارئ المدقق لإفادات إبن حزم في المعرفيات والعلوميات ، إن الرجل تقدم بصياغة جديدة لتراتبية العلوم ، فيها تصعيد لبعض العلوم ، وفيها سحب وتسفيل لمكانة علوم أخرى . فمثلاً يجد في الصياغة الجديدة لتراتبية العلوم ، إن ” علم الشريعة ” يتقدمها في قمة الهرم ، ومن ثم تأتي بعدها علوم ستة ، وهي ” علم الأخبار ” و ” علم اللغة ” علم النجوم ” و ” علم العدد ” و ” علم الطب ” و ” علم الفلسفة ” (المصدر السابق ، ص 78) .
وإفتراضاً إذا قبلنا هذه التراتبية للعلوم ، وذلك على أساس إن العلوم إستندت في تحديد مكانتها وفقاً لدرجة قربها من علوم الشريعة . وإن الفلسفة تأتي في نهاية السلم التعليمي ، حيث تكونت عقيدة المتعلم بشكل صحيح ، ولا خوف عليه من دراسة الفلسفة . فإن من الملاحظ إن العلوم ما بعد الشريعة ، والعلوم ما قبل الفلسفة تفتقد إلى كل شكل من الأساس الذي يبرر تراتبيتها بهذه الصورة التي عرضها إبن حزم . فهو لم يستند إلى معيار ” الملموس المحسوس ” صعوداً إلى طوابق المجرد العالي . و لا إلى معيار ” الذهني المجرد ” نزولاً إلى قاع الملموس الواقعي . ولذلك لم يبدأ بعلوم التجريب والواقع ، ومن ثم يرتقي حيث علوم التجريد ، وهي علوم الرياضيات التي تمهد المتعلم إلى دخول الدرس الفلسفي . على كل إن غياب هذا الأساس المعيار ، هو قدر الإفادات التي كتبها فيلسوف الفكرانية الظاهرية ، والتي تناول فيها المعرفيات والعلوميات في تراتبية مختلطة شكلت جدولاً لتعليم العلوم .
وبعد إن إنتهى إبن حزم من وضع هذا الجدول ، ورتب العلوم في سلم سباعي ، عاد فقسم علوم شريعة الإسلام إلى أربعة أقسام هي : علم القرآن ، وعلم الحديث ، وعلم الفقه وعلم الكلام (المصدر السابق) . ولعل من الإفادات البالغة الأهمية ، التي أدلى بها إبن حزم ، هي الإفادة التي صورت العلوم والمعرفيات في إطار من الوحدة والإندماج ، حيث تشكل بمجملها كتلة تتكون من أطراف ، بعضها يعتمد على بعض ، وتلتحم لإنجاز غرض فكراني ، هو ” الفوز بالآخرة ” . وهو هدف ” علم الشريعة ” (المصدر السابق ، ص 90) .
كما يرتبط بهذه الإفادات ، موقف لإبن حزم من بعض العلوم ، والتي شكلت لها مكانة ملحوظة في خرائط العلوم والمعرفيات ، والتي ذكرها الكثير من الفلاسفة والحارثين في مضمار المعرفيات والعلوميات . فمثلاً رأى إن هناك علوماً إندرست ، ولم ” يبقى منها إلا إسمها ، فمن ذلك علم السحر وعلم الطلسمات ، ومن ذلك علم الموسيقى ” (المصدر السابق ، ص ص 59 – 60) . وهنا نستغرب من إدراج إبن حزم لعلم الموسيقى في قائمة العلوم المندرسة ، وهو العارف بأن لها فعل في حياة الخاصة والعامة ، والذين يتطلعون بشغف للمشاركة في الأحتفالات والمواليد المأمولة ، والتي تصاحبها أشكال من الموسيقى هذا طرف . والطرف الثاني إن التقليد الفلسفي القادم من المشرق الإسلامي إلى دوائر المغرب ، قد أولى في تصانيفه للعلوم ، والتراتبيات التي إقترحها لها ، مكانة تقليدية للموسيقى في العلوم عامة وعلوم الفلسفة خاصة . كما إن العديد من فلاسفة المشرق كانوا مؤلفين موسيقيين ، ولهم معرفة بصناعة الموسيقى وآلاتها (خذ مثلاً الفيلسوف الفارابي) . ويبدو لي إن الفكرانية الظاهرية هي التي لعبت دوراً من شطب الموسيقى أو الحديث عنها كعلماً مندرساً في تراتبيات العلوم في خطاب إبن حزم الأندلسي . ولكن المؤكد إنه كان شاهد حي على مظاهر الحياة المدنية التي تولدت في الأندلس والمغرب ، ومن ضمنها ظهور العديد من مشاهير الموسيقى الأندلسية وصانعي الآلات الموسيقية .
إن ما أراد إبن حزم أن يقوله في خطابه في العلوميات ، هو إن الإسلام يرفض السحر والموسيقى ، ويبدو إن هناك تردداً حول الموقف الإسلامي من الطلسمات ، وخصوصاً الموقف الإسلامي الشعبي وليس الفقهي . أما موقفه من علم الكيمياء ، فقد كشفه في الإفادة القائلة : ” أما هذا العلم الذي يدعونه من قلب جوهر الفلز فلم يزل عدماً غير موجود وباطلاً ” (المصدر السابق) .
والحقيقة إن موقف إبن حزم هذا ، هو موقف المؤسسة السياسية الصارم ، والضارب على أيدي المزيفين للعملة والذين يستخدمون الكيمياء وسيلة للوصول إلى الإثراء السريع ، وذلك عن طريق خداع العامة ، ومن ثم إحداث إضرار إقتصادية بالغة للمجتمع والدولة ومؤسساتها . نقول هذا شئ والتفكير العلمي في تطوير البحث في مضمار الكيمياء شئ أخر ، وهو شئ مختلف ويظل طموحاً إنسانياً مشروعاً ، ينتظر لحظة الولادة الشرعية للكيمياء علماً ممكناً بعد إن كانت ” حلماً إنسانياً ” يراود البشر للسيطرة على الطبيعة وتسييرها لصالحهم . صحيح إن هذه اللحظة كانت بعيدة من عصر إبن حزم ، وكان من حق الدولة أن تضرب على أيدي المزيفين للعملة وهذا طرف . ولكن غلق باب التفكير والبحث في الكيمياء وإعتباره علماً باطلاً طرف مختلف .
كما ونظن إن رأي إبن حزم حول ما أسماه ” بأحكام النجوم ” فيه خلط وشمول لعلم الفلك . يقول : إن ” الإشتغال بأحكام النجوم فلا معنى له ” (المصدر السابق ، ص 68) . والحقيقة إن علم الفلك شئ والتنجيم شئ أخر . وإن عبارة إبن حزم فيها من الخلط والشمول لعلم الفلك على حد سواء وهذا أمر يفتقد إلى الموضوعية والإنصاف في الحديث عن العلوم .
وتكتمل صورة المعرفيات والعلوميات في الخطاب الذي كتبه إبن حزم ، بقراءة كتابه ” التقريب لحد المنطق والمدخل إليه ” . ففي هذا الكتاب وصف العلوم المتداولة في عصره . وفعلاً عمل ذلك في أحسن ما يقوم به الباحث المؤرخ . فقد حدد هذه العلوم في ” إثني عشر علم ” . وإن المتولد منهما ” علمان زائدان ” . ولنبدأ أولاً بالعلوم الأساس ، ومن ثم ننتهي بالعلوم الزائدة . أما الأولى فهي تضم :
” علم القرآن ، وعلم الحديث ، وعلم المذاهب ، وعلم الفتيا ، وعلم المنطق ، وعلم النحو ، وعلم اللغة ، وعلم الشعر ، وعلم الخبر ، وعلم الطب ، وعلم العدد والهندسة ، وعلم النجوم ” (إبن حزم الأندلسي ؛ التقريب لحد المنطق والمدخل إليه ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت ، بلا تاريخ ، ص 201) .
ويلاحظ الدارس لهذه التراتبية للعلوم والمعرفيات إلى إنها لا تستند في ترتيبها على أساس . فمثلاً علوم الذات التي تولدت في الأرض العربية الأسلامية أو الأدق التي إستندت إلى فكرانية دينية (إسلامية أو ظاهرية = نسبة إلى مذهب إبن حزم) سارت في مساق مختلف عن سلسلسة أخرى ضمتها كتلة العلوم في تراتبية كتاب ” التقريب لحد المنطق..” .
صحيح جداً أن العلوم الأربعة قد تم ترتيبها على أساس الفكرانية الدينية (الإسلامية – الظاهرية) . ولكن علم المنطق (العلم الخامس في التراتبية) وهو علم وافد من دائرة الثقافة اليونانية قد إحتل المرتبة الخامسة . وبذلك إنقطعت سلسلة العلوم التي تنهض على فكرانية دينية . إلا إن من الملاحظ إن سلسلة هذه العلوم تعود إلى مساقها الأول بعد هذا الإنقطاع ، وتنضم إلى كتلة العلوم التي ولدتها الذات العربية الإسلامية ، حدث هذا مع العلم السادس (علم النحو) ، ومن ثم جاء العلم السابع (علم اللغة) ، والذي تلاه العلم الثامن (علم الشعر) وأخيراً جاء العلم التاسع (علم الخبر : التاريخ) .
وعند علم التاريخ يحدث إنقطاع أخر في سلسلة علوم الذات ، فيعود إبن حزم إلى العلوم الوافدة ، وهي بالتصنيف التقليدي في عصر إبن حزم ، أطراف من العلوم الفلسفية ، وهنا حدثت متابعة لسلسلة العلوم الوافدة ، والتي بدأت مع العلم الخامس (علم المنطق) ، ومن ثم جرت متابعة لسلسلة علوم الأخر ، فالعلم العاشر (علم الطب) ، والعلم الحادي عشر (علم العدد والهندسة) ، والعلم الثاني عشر (علم النجوم). وهكذا يصبح واضحاً في هذه الترابية للعلوم ، من إنها تكونت من سلسلتين مختلفتين في الأساس ؛ سلسلة علوم الذات (العلوم الرافدة) . وسلسلسة علوم الأخر (العلوم الوافدة).
ويواجهنا إشكال ظاهري في هذه التراتبية التي ذكرنا بأنها تكونت من سلسلتين ، وذلك عند النظر فيما أطلق عليها إبن حزم إصطلاح العلوم الزائدة أو المضافة (أو الناتجة من علوم التراتبية أعلاه) . فعلوم مثل ” علوم العبارة ” و ” علم البلاغة ” هي ليست بعلوم زائدة ، وإنما هي جزء من كتلة علوم الذات (العلوم الرافدة) . وهي بهذا الحال لا تكون مساقاً ثالثاً أو سلسلة ثالثة في تراتبية المعرفيات والعلوميات في كتاب التقريب لحد المنطق ..
لقد كونت علوم كتاب التقريب لحد المنطق .. كتلة من المعرفيات والعلوميات ، كتلة تعايش فيها الوافد مع المتولد في الدار الثقافي المعرفية العربية الإسلامية (ويحق لك القول الظاهرية) . وهي كتلة ثقافية معرفية دللت على حجم النمو والإنفتاح المعرفي والثقافي الناجز يومذاك تحت ظلال المشروع الثقافي الإسلامي .
ونحسب إن هذه الكتلة من المعرفيات والعلوميات ستكون متوافرة أمام أنظار فيلسوف قرطبة ” إبن رشد ” ، والذي من طرفه سيقوم بهضمها ، والتدقيق فيها ، وبالتأكيد سيضعها موضع الحوار والتقويم ، ومن ثم الإفادة منها في تجربته العقلانية التي ستملأ النصف الثاني من القرن السادس الهجري أو الثلث الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي (حيث كانت وفاته عام 1198م) .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5142
السٌّمعَة : 1
رد: المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
في تصنيف إبن باجة للعلوم والأبستمولوجيات
جاء بعد ذلك ” إبن باجة ” (500 – 550 هجرية) وعرض صوراً مختلفة من المعرفيات ، نحسب إن لها سيكون من الأثر في توليد أشكالاً من المعرفيات والعلوميات عند فيلسوف قرطبة فيما بعد . فمثلاً إن القارئ لرسالة إبن باجة ” تدبير المتوحد ” يلحظ إنه تحدث عن نوعين من الصناعات * (وليس العلوم أو المعرفيات)
جاء بعد ذلك ” إبن باجة ” (500 – 550 هجرية) وعرض صوراً مختلفة من المعرفيات ، نحسب إن لها سيكون من الأثر في توليد أشكالاً من المعرفيات والعلوميات عند فيلسوف قرطبة فيما بعد . فمثلاً إن القارئ لرسالة إبن باجة ” تدبير المتوحد ” يلحظ إنه تحدث عن نوعين من الصناعات * (وليس العلوم أو المعرفيات)
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5142
السٌّمعَة : 1
رد: المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
لكنها في حقيقة الأمر تسميات ، وذلك لأن المادة المعرفية لهذه الصناعات تكشف عن جوهر المعرفيات التي كانت متداولة في دائرة الفكر الفلسفي الإسلامي لحظة الإنشاء ، ومن ثم في تاريخ نمو المعرفيات الإسلامية وحتى اللحظة التي أنتج عقل إبن باجة هذه الصناعات المعرفية .
ففعلاً تقدم البناء الفلسفي للصناعات المعرفية ، النوع الأول من الصناعات التي ذكرها إبن باجة ، وهي ” الصناعة الطبيعية ” . في حين تلاها النوع الثاني ، وهو “ الصناعة المدنية ” . وضم صاحب تدبير المتوحد الطب إلى ما أسماه ” الصنائع الطبيعية ” . بينما جاء حديثه عن ” صناعة القضاء ” داخل مباني ” الصناعة المدنية ” (إبن باجة : تدبير المتوحد / منشور ضمن رسائل إبن باجة الإلهية ، تحقيق ماجد فخري ، بيروت 1968 ، ص 44) .
وكما يبدو إن إصطلاح الصناعة لم يمتلك القوة المطلقة ، حيث يفرض هيمنته على مجمل إفادات إبن باجة . بل إن الباحث المدقق في نصوصه يلحظ إنها تخلت عن هذا الإصطلاح ، وعادت لتتداول إصطلاح ” العلم ” . وكان الشاهد على ذلك إنه درس المعرفيات من طرف رؤيته إلى العلوم . وعلى هذا الأساس وجدناه في خارطة المعرفيات التي تقدم بها ، يشير إلى كتلة جديدة من العلوم تضم معاً ” العلم الطبيعي والعلم المدني ” .
ومن المفيد الإشارة إلى أن الإفادات التي كتبها إبن باجة قد تغذت بمادة معرفية مستمدة من الخرائط المعرفية التي تصعد إلى الغزالي والصوفية . ولهذا نلحظه يعتمد على تراثهم المعرفي ، فيذكر في إفاداته التقسيم الثلاثي للحكمة النظرية مع الإشارة إلى علوم التعاليم (علوم الرياضيات) (المصدر السابق ، ص ص 90 – 91) .
وفي تحليل إبن باجة لوعي المتوحد ، ومن ثم بيان ما يحتاجه من علوم ومعرفيات ، يعرض نوعين من العلوم الضرورية للمتوحد . وهي علم الأسباب الموصلة ، وعلم الصور الروحانية (المصدر السابق ، ص 91) . ويلاحظ الباحث إن إبن باجة قد ألزم المتوحد بدراسة هذه العلوم والإنشغال بها (لذواتها) ، ومن بعد ذلك حثه على التوجه نحو دراسة (العلوم النظرية) . ونحسب إن إبن باجة فضل أن تكون البداية في تجربة المتوحد في إكتساب العلوم والمعرفيات ، أن تبدأ من علوم الفكرانية الدينية (أو ما أسماها علم الأسباب الموصلة وعلم الصور الروحانية) . فهي أسوار وموجهات ضرورية لتشكيل ذهنية المتوحد ، كما وأنها أساس فكراني مطلوب أن تستظل به عملية إكتساب العلوم برمتها . ولذلك إعتقد إبن باجة ، إن النظر في هذه العلوم مسار ” جليل القدر ” (المصدر السابق) .
وعاد إبن باجة إلى مضمار المتداول في دائرة الفكر الفلسفي الإسلامي ، وإلتحم به بقوة . فمثلاً يجد القارئ لرسالة إبن باجة المعنونة ” قول يتلو رسالة الوداع ” . إن الفيلسوف إبن باجة قد ميز بين نوعين من العلوم ” العلم النظري والعلوم العملية ” (إبن باجة : قول يتلو رسالة الوداع / منشورة في الرسائل الإلهية / ص 123) . وهما النوعان المتداولان في دائرة الفكر الفلسفي العربي . كما إن حديثه عن الفضائل الفكرية وتقسيمه لها ، هو في الوقت ذاته التقسيم المعروف الشائع ، والذي يقسمها إلى علوم : عملية ونظرية (حسب الترتيب الباجوي نسبة إلى إبن باجة) . ومن ثم إنتهى إلى تقسيم العلوم العملية إلى مهن وقوى .
ويبدو للقارئ المتخصص في فلسفة العلوم العربية في مراحل الصعود الحضارية الإسلامية فيما يسمى بالعصور الوسطى ، وبالتحديد لخرائط العلوم وتشجير المعارف (والتي تبناها العقل الإسلامي من التراث الفلسفي اليوناني المقروء بمنهج إفلاطوني محدث ، وعلى الأخص شروح فرفريوس الصوري على تساعيات أستاذه إفلوطين والتي ترجم بعض منها تحت عنوان كتاب منتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . وبعد ذلك أخذت تعرف شجرة العلوم بشجرة فرفريوس) . إن المقارنة بين ما هو متداول من تشجير للعلوم والمعارف في دائرة الفكر الفلسفي الإسلامي ومن فيلسوف العرب الأول الكندي وحتى ما قبل حقبة الفكر الفلسفي الباجوي . نقول إن مقارنة ذلك بما توفره لنا نصوص إبن باجة . نشعر إننا نقف على تشجير ناقص ومقتضب جدا جدا للعلوم والمعارف عند الفيلسوف إبن باجة .
ولعل الأمثلة الدالة التي تقدمها نصوص إبن باجة الفلسفية كثيرة ، منها إنه يذكر إن للعلم ” النظري أصنافاً ” (المصدر السابق ، ص 142) . ومن ثم يصمت ولم يتكلم بشئ عن هذه الأصناف . وتحول بحركة سريعة نحو المهن وألتها البشرية . فذهب معقباً ؛ بأن هذه المهن تستعمل ” البدن (وهي) كالنجارة والسكافة ” . أما القوى فهي
” كالطب والملاحة والفلاحة والخطابة وقود (هكذا وردت في النص ، وهي واضحة تعني قيادة) الجيش ” (المصدر السابق ، ص 136) .
وتواجه شجرة التصنيف الباجوي للمهن والقوى ، مشكلة تصنيف معرفية علمية . فهذه الشجرة فيها تداخل بين أصناف المهن والقوى ، ويعوزها رسم الحدود الفاصلة بين أصناف ما هو مهني وما هو من أصناف القوى . كما إن الأمثلة الواردة في طرفي المهن والقوى ، تحمل القارئ على التساؤل : ما هو الفارق مثلاً بين النجارة والسكافة في طرف المهن و الملاحة والفلاحة في طرف القوى ؟ كما أن ضم الخطابة إلى طرف القوى وبالتحديد مع الأصناف الواردة في النص الباجوي ، فيها خروج على المتداول في خرائط العلوم وتشجير المعارف الفلسفية العربية ومنذ الكندي وحتى إبن خلدون . إذ درج تاريخ التصنيف الفلسفي العربي إلى إدراجها ضمن علوم الذات ، وبالتحديد في طرف من علوم اللسان .
وفي طرف مهم من مشروع تشجير العلوم والمعارف الباجوي ، هو الحديث عن إمكانية قيام علوم جديدة . ورغم معرفتنا بأن الحديث الباجوي لا يحمل إعلاناً عن تأسيس علوم جديدة ، فهي على كل حال محاولة في تكريس هذا الطرف من مشروع تشجير العلوم والمعارف في دائرة التفكير الفلسفي ما قبل مرحلة إبن رشد ومن هنا تأتي أهميتها التاريخية . ولهذا نقول إنه في موضوع الإمكان ذكرت أفادات إبن باجة صنفين من العلوم الممكنة ، وهي العلم الطبيعي والإلهي . مع ملاحظة تقديم العلم الطبيعي على العلم الإلهي ، وهي مسألة فيها مخالفة لطرف سابق من تشجير العلوم والمعارف الباجوي . بعد ذلك ذهب إبن باجة مناقشاً ماهية العلم الطبيعي أو جوهره ، فأفاد إنه الذي ” يدرك العلم وبقدر الإنسان على الوقوف عليه من تلقائه “
. ومن ثم تحول صوب جوهر العلم الإلهي ، فقال : إنه العلم الذي ” يُدرك بمعونة إلهية ” ( المصدر السابق ، ص 142)
ولا حظ الباحث في رسالة للفيلسوف إبن باجة ، وبعنوان ” في المتحرك ” يطلق الإصطلاح الفلسفي المتداول في دوائر الفكر الفلسفي الإسلامي الكلاسيكية على العلم الإلهي ، وهو إصطلاح ” الفلسفة الأولى ” (أنظر: رسالة لأبي بكر (أي إبن باجة) ؛ في المتحرك / منشورة في كتاب رسائل الكندي والفارابي وإبن باجة وإبن عدي / تحقيق عبد الرحمن بدوي ، بنغازي 1971 ، ص 144) .
وكذلك سيلاحظ القارئ بسهولة لمشكلة تشجير العلوم والمعرفيات في المشروع الباجوي ، سواء في الجانب الذي ذكرناه أعلاه ، وهو الخلط بين أصناف تشجيره للمهن والقوى وبمثال باجوي بحد ذاته ودون تدخل منا ، فهو يخلط فيه بين مهنة النجارة الذي أورده سابقاً وبين صنف من القوى وهو الطب الذي تكلم عنه سابقاً كذلك . أو التقسيم الثنائي الذي إقترحه لعلم الفلسفة . حقيقة إن هذا التقسيم جاء أثناء حديثه عن طلاب الفلسفة . فقال : إن الفلسفة تنقسم إلى ” أشياء عملية (مثل النجارة والطب) ، وأشياء نظرية (مثل التعاليم : فهي معقولات ناقصة ، والهندسة فهي تعتمد على المحسوسات ” (إبي بكر الصائغ ؛ رسالة الإتصال / منشورة في تلخيص كتاب لإبن رشد / نشرة أحمد فؤاد الأهواني ، ط1 ، القاهرة 1950 ، ص 110) . ونشعر في النص الباجوي ، مسألتين في غاية الأهمية ، نود توضحيهما ؛
الأولى – إن النص حمل بشكل واضح لا غبار عليه النقد الإفلاطوني للعلوم الرياضية بالفهم الفيثاغوري ، فهي من زاوية إفلاطون علوم ناقصة لا ترقى إلى الطوابق العليا حيث علوم المثل والخير وهي علوم مجردة لا علاقة لها بعالم الحواس . ونشعر بقوة إن هذا النص لم ينزل إلى دوائر الفكر الفلسفي الإسلامي عامة ومضمار فلسفة إبن باجة خاصة من المحاورات الإفلاطونية . وإنما هبط من كتاب الميتافيزيقا أو مابعد الطبيعة للفيلسوف اليوناني ” أرسطو ” والذي عرفته دائرة الفكر الفلسفي الأسلامي بترجمات متنوعة ، ومخلوط بشروح إفلاطونية محدثة (للإطلاع على نقد إفلاطون للعلوم الرياضية (الفيثاغورية) ؛ أنظر رسالتنا للماجستير والمعنونة : تحليل أرسطو للعلم البرهاني ، القسم الأول والذي كان بعنوان : الفلسفة الرياضية قبل أرسطو ، نشرة وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1983) .
الثانية – إن النص فيه إشكال فهم باجوي لقضية تشجير العلوم والمعرفيات عامة ، وتشجير علوم الفلسفة خاصة . صحيح جداً إن شجرة العلوم والمعرفيات عامة تتفرع إلى علوم عملية وعلوم نظرية . وصحيح إن العلوم العملية تشمل النجارة ، وربما بدرجة أقل قبول الطب في قائمتها … ولكن مشكلة النص الباجوي إنه خلط التشجير العام للعلوم والمعرفيات بالتشجير الخاص بعلوم الفلسفة . ومن هنا نتحفظ بقوة على ضم إبن باجة النجارة إلى الطرف العملي من علوم الفلسفة . وذلك لأن المتعارف عليه بين الفلاسفة عامة والفلاسفة المسلمين خاصة ، إن علوم الفلسفة العملية هي الأخلاق والسياسة والتدبير المنزلي …
كما إن مشروع إبن باجة لتشجير العلوم والمعرفيات ، قد حمل قائمتين في غاية الأهمية ، وهما ” علوم خارجة ” و ” علوم باطلة ” . فالأولى هي العلوم التي تقع خارج قائمة العلوم التي تقدم بها . ومن هذه العلوم ” الكيمياء ” و ” صناعة النجوم “ ” طب النفوس ” و ” طب المعاشرات ” أي الحكومة ” (إبن باجة ؛ تدبير المتوحد ، ص ص 90 – 91) . و ” صناعة المنطق ” (المصدر السابق ، ص 51) و “علم النفس ” (أبن باجة ؛ قول يتلو رسالة الوداع / ص ص 124 – 125) . أما العلوم التي كان ينظر إليها على إنها باطلة ، والتي هي حسب ظنه ، هي ” صنائع ظنونية ” وهي تشمل ” النحو وما جانسه ” (إبن باجة ؛ تدبير المتوحد ، ص 56) .
ومما يلاحظ على إفادات إبن باجة الخاصة بالعلوم الباطلة ، إنها لم تكتفي بما هو مذكور أعلاه ، وإنما شملت علوماً سبق إن إعترف بإمكانية قيامها . فمثلاً في حديثه عن المدينة الفاضلة إستبعد منها صناعتي ” الطب و القضاء ” ويبرر ذلك بقيام ” المحبة بينهم أجمع فلا تشاكس بينهم أصلاً ” و ” لا يغتذي أهلها بالأغذية الضارة ” (المصدر السابق ، ص 41) . كما إستبعد ” صنائع الشعبذة ” (المصدر السابق ، ص 56) . ونحسب في الإفادات الباجوية صدى قوي لأفكار الفارابي في العلوم والمعرفيات التي عالجها في كتابه ” أراء أهل المدينة الفاضلة ” ومصادرها الأفلاطونية خصوصاً في كتاب ” الجمهورية ” .
ففعلاً تقدم البناء الفلسفي للصناعات المعرفية ، النوع الأول من الصناعات التي ذكرها إبن باجة ، وهي ” الصناعة الطبيعية ” . في حين تلاها النوع الثاني ، وهو “ الصناعة المدنية ” . وضم صاحب تدبير المتوحد الطب إلى ما أسماه ” الصنائع الطبيعية ” . بينما جاء حديثه عن ” صناعة القضاء ” داخل مباني ” الصناعة المدنية ” (إبن باجة : تدبير المتوحد / منشور ضمن رسائل إبن باجة الإلهية ، تحقيق ماجد فخري ، بيروت 1968 ، ص 44) .
وكما يبدو إن إصطلاح الصناعة لم يمتلك القوة المطلقة ، حيث يفرض هيمنته على مجمل إفادات إبن باجة . بل إن الباحث المدقق في نصوصه يلحظ إنها تخلت عن هذا الإصطلاح ، وعادت لتتداول إصطلاح ” العلم ” . وكان الشاهد على ذلك إنه درس المعرفيات من طرف رؤيته إلى العلوم . وعلى هذا الأساس وجدناه في خارطة المعرفيات التي تقدم بها ، يشير إلى كتلة جديدة من العلوم تضم معاً ” العلم الطبيعي والعلم المدني ” .
ومن المفيد الإشارة إلى أن الإفادات التي كتبها إبن باجة قد تغذت بمادة معرفية مستمدة من الخرائط المعرفية التي تصعد إلى الغزالي والصوفية . ولهذا نلحظه يعتمد على تراثهم المعرفي ، فيذكر في إفاداته التقسيم الثلاثي للحكمة النظرية مع الإشارة إلى علوم التعاليم (علوم الرياضيات) (المصدر السابق ، ص ص 90 – 91) .
وفي تحليل إبن باجة لوعي المتوحد ، ومن ثم بيان ما يحتاجه من علوم ومعرفيات ، يعرض نوعين من العلوم الضرورية للمتوحد . وهي علم الأسباب الموصلة ، وعلم الصور الروحانية (المصدر السابق ، ص 91) . ويلاحظ الباحث إن إبن باجة قد ألزم المتوحد بدراسة هذه العلوم والإنشغال بها (لذواتها) ، ومن بعد ذلك حثه على التوجه نحو دراسة (العلوم النظرية) . ونحسب إن إبن باجة فضل أن تكون البداية في تجربة المتوحد في إكتساب العلوم والمعرفيات ، أن تبدأ من علوم الفكرانية الدينية (أو ما أسماها علم الأسباب الموصلة وعلم الصور الروحانية) . فهي أسوار وموجهات ضرورية لتشكيل ذهنية المتوحد ، كما وأنها أساس فكراني مطلوب أن تستظل به عملية إكتساب العلوم برمتها . ولذلك إعتقد إبن باجة ، إن النظر في هذه العلوم مسار ” جليل القدر ” (المصدر السابق) .
وعاد إبن باجة إلى مضمار المتداول في دائرة الفكر الفلسفي الإسلامي ، وإلتحم به بقوة . فمثلاً يجد القارئ لرسالة إبن باجة المعنونة ” قول يتلو رسالة الوداع ” . إن الفيلسوف إبن باجة قد ميز بين نوعين من العلوم ” العلم النظري والعلوم العملية ” (إبن باجة : قول يتلو رسالة الوداع / منشورة في الرسائل الإلهية / ص 123) . وهما النوعان المتداولان في دائرة الفكر الفلسفي العربي . كما إن حديثه عن الفضائل الفكرية وتقسيمه لها ، هو في الوقت ذاته التقسيم المعروف الشائع ، والذي يقسمها إلى علوم : عملية ونظرية (حسب الترتيب الباجوي نسبة إلى إبن باجة) . ومن ثم إنتهى إلى تقسيم العلوم العملية إلى مهن وقوى .
ويبدو للقارئ المتخصص في فلسفة العلوم العربية في مراحل الصعود الحضارية الإسلامية فيما يسمى بالعصور الوسطى ، وبالتحديد لخرائط العلوم وتشجير المعارف (والتي تبناها العقل الإسلامي من التراث الفلسفي اليوناني المقروء بمنهج إفلاطوني محدث ، وعلى الأخص شروح فرفريوس الصوري على تساعيات أستاذه إفلوطين والتي ترجم بعض منها تحت عنوان كتاب منتحل ” أثولوجيا أرسطو ” . وبعد ذلك أخذت تعرف شجرة العلوم بشجرة فرفريوس) . إن المقارنة بين ما هو متداول من تشجير للعلوم والمعارف في دائرة الفكر الفلسفي الإسلامي ومن فيلسوف العرب الأول الكندي وحتى ما قبل حقبة الفكر الفلسفي الباجوي . نقول إن مقارنة ذلك بما توفره لنا نصوص إبن باجة . نشعر إننا نقف على تشجير ناقص ومقتضب جدا جدا للعلوم والمعارف عند الفيلسوف إبن باجة .
ولعل الأمثلة الدالة التي تقدمها نصوص إبن باجة الفلسفية كثيرة ، منها إنه يذكر إن للعلم ” النظري أصنافاً ” (المصدر السابق ، ص 142) . ومن ثم يصمت ولم يتكلم بشئ عن هذه الأصناف . وتحول بحركة سريعة نحو المهن وألتها البشرية . فذهب معقباً ؛ بأن هذه المهن تستعمل ” البدن (وهي) كالنجارة والسكافة ” . أما القوى فهي
” كالطب والملاحة والفلاحة والخطابة وقود (هكذا وردت في النص ، وهي واضحة تعني قيادة) الجيش ” (المصدر السابق ، ص 136) .
وتواجه شجرة التصنيف الباجوي للمهن والقوى ، مشكلة تصنيف معرفية علمية . فهذه الشجرة فيها تداخل بين أصناف المهن والقوى ، ويعوزها رسم الحدود الفاصلة بين أصناف ما هو مهني وما هو من أصناف القوى . كما إن الأمثلة الواردة في طرفي المهن والقوى ، تحمل القارئ على التساؤل : ما هو الفارق مثلاً بين النجارة والسكافة في طرف المهن و الملاحة والفلاحة في طرف القوى ؟ كما أن ضم الخطابة إلى طرف القوى وبالتحديد مع الأصناف الواردة في النص الباجوي ، فيها خروج على المتداول في خرائط العلوم وتشجير المعارف الفلسفية العربية ومنذ الكندي وحتى إبن خلدون . إذ درج تاريخ التصنيف الفلسفي العربي إلى إدراجها ضمن علوم الذات ، وبالتحديد في طرف من علوم اللسان .
وفي طرف مهم من مشروع تشجير العلوم والمعارف الباجوي ، هو الحديث عن إمكانية قيام علوم جديدة . ورغم معرفتنا بأن الحديث الباجوي لا يحمل إعلاناً عن تأسيس علوم جديدة ، فهي على كل حال محاولة في تكريس هذا الطرف من مشروع تشجير العلوم والمعارف في دائرة التفكير الفلسفي ما قبل مرحلة إبن رشد ومن هنا تأتي أهميتها التاريخية . ولهذا نقول إنه في موضوع الإمكان ذكرت أفادات إبن باجة صنفين من العلوم الممكنة ، وهي العلم الطبيعي والإلهي . مع ملاحظة تقديم العلم الطبيعي على العلم الإلهي ، وهي مسألة فيها مخالفة لطرف سابق من تشجير العلوم والمعارف الباجوي . بعد ذلك ذهب إبن باجة مناقشاً ماهية العلم الطبيعي أو جوهره ، فأفاد إنه الذي ” يدرك العلم وبقدر الإنسان على الوقوف عليه من تلقائه “
. ومن ثم تحول صوب جوهر العلم الإلهي ، فقال : إنه العلم الذي ” يُدرك بمعونة إلهية ” ( المصدر السابق ، ص 142)
ولا حظ الباحث في رسالة للفيلسوف إبن باجة ، وبعنوان ” في المتحرك ” يطلق الإصطلاح الفلسفي المتداول في دوائر الفكر الفلسفي الإسلامي الكلاسيكية على العلم الإلهي ، وهو إصطلاح ” الفلسفة الأولى ” (أنظر: رسالة لأبي بكر (أي إبن باجة) ؛ في المتحرك / منشورة في كتاب رسائل الكندي والفارابي وإبن باجة وإبن عدي / تحقيق عبد الرحمن بدوي ، بنغازي 1971 ، ص 144) .
وكذلك سيلاحظ القارئ بسهولة لمشكلة تشجير العلوم والمعرفيات في المشروع الباجوي ، سواء في الجانب الذي ذكرناه أعلاه ، وهو الخلط بين أصناف تشجيره للمهن والقوى وبمثال باجوي بحد ذاته ودون تدخل منا ، فهو يخلط فيه بين مهنة النجارة الذي أورده سابقاً وبين صنف من القوى وهو الطب الذي تكلم عنه سابقاً كذلك . أو التقسيم الثنائي الذي إقترحه لعلم الفلسفة . حقيقة إن هذا التقسيم جاء أثناء حديثه عن طلاب الفلسفة . فقال : إن الفلسفة تنقسم إلى ” أشياء عملية (مثل النجارة والطب) ، وأشياء نظرية (مثل التعاليم : فهي معقولات ناقصة ، والهندسة فهي تعتمد على المحسوسات ” (إبي بكر الصائغ ؛ رسالة الإتصال / منشورة في تلخيص كتاب لإبن رشد / نشرة أحمد فؤاد الأهواني ، ط1 ، القاهرة 1950 ، ص 110) . ونشعر في النص الباجوي ، مسألتين في غاية الأهمية ، نود توضحيهما ؛
الأولى – إن النص حمل بشكل واضح لا غبار عليه النقد الإفلاطوني للعلوم الرياضية بالفهم الفيثاغوري ، فهي من زاوية إفلاطون علوم ناقصة لا ترقى إلى الطوابق العليا حيث علوم المثل والخير وهي علوم مجردة لا علاقة لها بعالم الحواس . ونشعر بقوة إن هذا النص لم ينزل إلى دوائر الفكر الفلسفي الإسلامي عامة ومضمار فلسفة إبن باجة خاصة من المحاورات الإفلاطونية . وإنما هبط من كتاب الميتافيزيقا أو مابعد الطبيعة للفيلسوف اليوناني ” أرسطو ” والذي عرفته دائرة الفكر الفلسفي الأسلامي بترجمات متنوعة ، ومخلوط بشروح إفلاطونية محدثة (للإطلاع على نقد إفلاطون للعلوم الرياضية (الفيثاغورية) ؛ أنظر رسالتنا للماجستير والمعنونة : تحليل أرسطو للعلم البرهاني ، القسم الأول والذي كان بعنوان : الفلسفة الرياضية قبل أرسطو ، نشرة وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد 1983) .
الثانية – إن النص فيه إشكال فهم باجوي لقضية تشجير العلوم والمعرفيات عامة ، وتشجير علوم الفلسفة خاصة . صحيح جداً إن شجرة العلوم والمعرفيات عامة تتفرع إلى علوم عملية وعلوم نظرية . وصحيح إن العلوم العملية تشمل النجارة ، وربما بدرجة أقل قبول الطب في قائمتها … ولكن مشكلة النص الباجوي إنه خلط التشجير العام للعلوم والمعرفيات بالتشجير الخاص بعلوم الفلسفة . ومن هنا نتحفظ بقوة على ضم إبن باجة النجارة إلى الطرف العملي من علوم الفلسفة . وذلك لأن المتعارف عليه بين الفلاسفة عامة والفلاسفة المسلمين خاصة ، إن علوم الفلسفة العملية هي الأخلاق والسياسة والتدبير المنزلي …
كما إن مشروع إبن باجة لتشجير العلوم والمعرفيات ، قد حمل قائمتين في غاية الأهمية ، وهما ” علوم خارجة ” و ” علوم باطلة ” . فالأولى هي العلوم التي تقع خارج قائمة العلوم التي تقدم بها . ومن هذه العلوم ” الكيمياء ” و ” صناعة النجوم “ ” طب النفوس ” و ” طب المعاشرات ” أي الحكومة ” (إبن باجة ؛ تدبير المتوحد ، ص ص 90 – 91) . و ” صناعة المنطق ” (المصدر السابق ، ص 51) و “علم النفس ” (أبن باجة ؛ قول يتلو رسالة الوداع / ص ص 124 – 125) . أما العلوم التي كان ينظر إليها على إنها باطلة ، والتي هي حسب ظنه ، هي ” صنائع ظنونية ” وهي تشمل ” النحو وما جانسه ” (إبن باجة ؛ تدبير المتوحد ، ص 56) .
ومما يلاحظ على إفادات إبن باجة الخاصة بالعلوم الباطلة ، إنها لم تكتفي بما هو مذكور أعلاه ، وإنما شملت علوماً سبق إن إعترف بإمكانية قيامها . فمثلاً في حديثه عن المدينة الفاضلة إستبعد منها صناعتي ” الطب و القضاء ” ويبرر ذلك بقيام ” المحبة بينهم أجمع فلا تشاكس بينهم أصلاً ” و ” لا يغتذي أهلها بالأغذية الضارة ” (المصدر السابق ، ص 41) . كما إستبعد ” صنائع الشعبذة ” (المصدر السابق ، ص 56) . ونحسب في الإفادات الباجوية صدى قوي لأفكار الفارابي في العلوم والمعرفيات التي عالجها في كتابه ” أراء أهل المدينة الفاضلة ” ومصادرها الأفلاطونية خصوصاً في كتاب ” الجمهورية ” .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5142
السٌّمعَة : 1
رد: المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
تشجير العلوم والأبستمولوجيات عند إبن طفيل
وشارك في مشروع تشجير العلوم والمعرفيات الفيلسوف ” إبن طفيل ” (المتوفى عام 581 هجرية) وبالتحديد في روايته الفلسفية المعرفية ” حي بن يقضان ” . فقد كتب فيها مجموعة إفادات كونت بمجملها خطاباً فلسفياً في المعرفيات والعلوميات . ونحسب إن إبن رشد كان قارئاً جيداً لهذه الرواية ، وذلك بحكم الرفقة بين إبن طفيل وإبن رشد . أو ربما قد ناقشا سوية أطرافاً منها . ولهذا نرجح إنها كانت من المصادر التي زودت فيلسوف قرطبة بزاد ومواقف سيكون لها من الأثر في توجهاته في صياغة التشجير الفلسفي للمعرفيات والعلوميات . وهنا ستنقوم بقراءة رواية ” حي بن يقضان ” من زاوية المعرفيات والعلوميات (وقد أنجزنا لها قراءة بيداغوجية – تربوية . أنظر كتابنا ” الخطاب التربوي الإسلامي ، نشرة الشركة العالمية للكتاب ، بيروت 1999 ، الفصل الحادي عشر والمعنون ” القصة التربوية عند إبن طفيل ” ص ص 127 – 137) ، وذلك لمتابعة أثرها في الإفادات التي كتبها ” إبن رشد ” في خطابه الفلسفي الخاص بالمعرفيات والعلوميات .
دشن إبن طفيل عمله الروائي في مضمار الفلسفة المعرفية ، بخطاب ميز فيه بين نوعين من العلوم ، هما ” علم الطبيعة ” و ” علم ما بعد الطبيعة ” . وجاء ذلك أثناء التصنيف الفلسفي بين لحظتين معرفيتين ، لهما طابعهما الخاص المختلف ؛ لحظة ما أسماها ” إدراك أهل النظر ” و لحظة ما إصطلح عليها ” إدراك أهل الولاية ” . وخص بالحظة الأولى عمل العلماء ورجال المعرفيات . وشمل بالحظة الثانية مثابرات أهل السلطة ورجال الفكرانيات . والحقيقة إن هذا التفريق المعرفي فيه شئ من الشبه بالتمييز الذي أقام عليه الفلاسفة تصانيفهم للعلوم والمعرفيات . ونقصد التفريق بين العلوم النظرية والعلوم العملية .
ومثلما فعل الفلاسفة في خرائطهم للعلوم وتشجيراتهم للمعارف ، والتي نهضت على أساس التمييز بين ما هو معرفي وما هو فكراني ، أنشأ إبن طفيل نظرته إلى العلوميات والمعرفيات . وإن الشاهد على ما عمله إفادته التي أشارت إلى إن فعل إدراك ” أهل النظر ” متعلق ” بعالم الطبيعة ” (إبن طفيل : حي بن يقظان ، تحقيق عبد الحليم محمود ، ط2 ، القاهرة بلا تاريخ ، ص 60) . بينما فعل إدراك ” أهل الولاية ” مرتبط ” بما بعد الطبيعة ” (المصدر السابق) . ونحسب إن هذه الإفادة ، تحمل بياناً في غاية الأهمية في مضمار المعرفيات والعلوميات ، وذلك من حيث إنها تكشف حالة التنوع والتمايز بين مثابرتين معرفيتين مختلفتين ؛ واحدة ميدانها العالم الخارجي ” الطبيعة ” . والثانية مضمارها فكراني فوقاني خالص ، حيث عالم ” ما بعد الطبيعة ” .
لقد قدم إبن طفيل مثالاً دالاً ، وفي إفادة موجزة على علوم ” أهل الولاية ” ، وذلك حين تحدث عن ما أسماه ” المشاهد والأذواق والحضور ” . وبين بصورة واضحة ، إن هذا المسار العرفاني ” مما لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب ” (المصدر السابق) . وهذا هو طريق المكاشفة الذي ذكره ” الإمام الغزالي ” والذي مفاده ؛ إنه ” متى حاول أحد ذلك وتكلفه بالقول أو الكتب إستحالت حقيقته ، وصار من قبيل القسم الآخر النظري ” (المصدر السابق) .
ويلاحظ الباحث إن إبن طفيل قد عرض خارطة معرفية ، فيها تشجير لعلوم الفلسفة . وذلك حين حكى قصة إنتشار علوم الفلسفة في الأندلس . وفيها ذكر ما يشبه إطاراً عاماً لمنهج يسعى إلى تعليم علوم الفلسفة . ونحسب في هذا الطرف قد منح إبن طفيل العلوم والمعرفيات ” بعداً بيداغوجياً ” ، حيث تحولت إلى دروس يلقيها معلمون متخصصون على طلبة متطلعين إلى التخصص فيها . فمثلاً وجدنا عند إبن طفيل ، إن ” علوم التعاليم ” (الرياضيات) تتقدم في هذا المنهج على العلوم الأخرى . وهذه العلوم هي : علوم التعاليم ، وعلم المنطق ، والفلسفة (المصدر السابق) . وإن هذه الكتلة من العلوم ترجح برمتها العقل منهجاً ومساراً في البحث .
والواقع إن هذا المنهج سيكون له حضور بدرجات ما في الإفادات التي سيكتبها فيلسوف قرطبة ” إبن رشد ” في مضمار المعرفيات والعلوميات . مما يدلل على إن جسور الحوار كانت قائمة بين إبن رشد وإبن طفيل .
كما يلاحظ الباحث في الإفادات التي كتبها إبن طفيل في روايته الفلسفية المعرفية ، إنه قد ذكر مشجراً للعلوم والمعرفيات ، يقع خارج قوائم العلوم التي تقدم بها ، مما يحملنا على القول إن هذا المشجر إقترح إمكانية لقيام مثل هذه العلوم ، والتي تشمل :
” الجغرافية ” و ” الهيئة ” (المصدر السابق ، ص ص 67 – 68) و ” علم التشريح “ (المصدر السابق ، ص 77) و” علم التأويل ” (المصدر السابق ، ص 125) . ومن ثم أضاف إلى القائمة ، العلوم الممكنة الآتية : ” العلم المكنون ” و ” المعرفة بالله ” . وأشار إلى إن الأول يتحقق عن طريق الثاني . وذلك من حيث إن ” العلم المكنون ” ” لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله ” (المصدر السابق ، ص 130) .
وشارك في مشروع تشجير العلوم والمعرفيات الفيلسوف ” إبن طفيل ” (المتوفى عام 581 هجرية) وبالتحديد في روايته الفلسفية المعرفية ” حي بن يقضان ” . فقد كتب فيها مجموعة إفادات كونت بمجملها خطاباً فلسفياً في المعرفيات والعلوميات . ونحسب إن إبن رشد كان قارئاً جيداً لهذه الرواية ، وذلك بحكم الرفقة بين إبن طفيل وإبن رشد . أو ربما قد ناقشا سوية أطرافاً منها . ولهذا نرجح إنها كانت من المصادر التي زودت فيلسوف قرطبة بزاد ومواقف سيكون لها من الأثر في توجهاته في صياغة التشجير الفلسفي للمعرفيات والعلوميات . وهنا ستنقوم بقراءة رواية ” حي بن يقضان ” من زاوية المعرفيات والعلوميات (وقد أنجزنا لها قراءة بيداغوجية – تربوية . أنظر كتابنا ” الخطاب التربوي الإسلامي ، نشرة الشركة العالمية للكتاب ، بيروت 1999 ، الفصل الحادي عشر والمعنون ” القصة التربوية عند إبن طفيل ” ص ص 127 – 137) ، وذلك لمتابعة أثرها في الإفادات التي كتبها ” إبن رشد ” في خطابه الفلسفي الخاص بالمعرفيات والعلوميات .
دشن إبن طفيل عمله الروائي في مضمار الفلسفة المعرفية ، بخطاب ميز فيه بين نوعين من العلوم ، هما ” علم الطبيعة ” و ” علم ما بعد الطبيعة ” . وجاء ذلك أثناء التصنيف الفلسفي بين لحظتين معرفيتين ، لهما طابعهما الخاص المختلف ؛ لحظة ما أسماها ” إدراك أهل النظر ” و لحظة ما إصطلح عليها ” إدراك أهل الولاية ” . وخص بالحظة الأولى عمل العلماء ورجال المعرفيات . وشمل بالحظة الثانية مثابرات أهل السلطة ورجال الفكرانيات . والحقيقة إن هذا التفريق المعرفي فيه شئ من الشبه بالتمييز الذي أقام عليه الفلاسفة تصانيفهم للعلوم والمعرفيات . ونقصد التفريق بين العلوم النظرية والعلوم العملية .
ومثلما فعل الفلاسفة في خرائطهم للعلوم وتشجيراتهم للمعارف ، والتي نهضت على أساس التمييز بين ما هو معرفي وما هو فكراني ، أنشأ إبن طفيل نظرته إلى العلوميات والمعرفيات . وإن الشاهد على ما عمله إفادته التي أشارت إلى إن فعل إدراك ” أهل النظر ” متعلق ” بعالم الطبيعة ” (إبن طفيل : حي بن يقظان ، تحقيق عبد الحليم محمود ، ط2 ، القاهرة بلا تاريخ ، ص 60) . بينما فعل إدراك ” أهل الولاية ” مرتبط ” بما بعد الطبيعة ” (المصدر السابق) . ونحسب إن هذه الإفادة ، تحمل بياناً في غاية الأهمية في مضمار المعرفيات والعلوميات ، وذلك من حيث إنها تكشف حالة التنوع والتمايز بين مثابرتين معرفيتين مختلفتين ؛ واحدة ميدانها العالم الخارجي ” الطبيعة ” . والثانية مضمارها فكراني فوقاني خالص ، حيث عالم ” ما بعد الطبيعة ” .
لقد قدم إبن طفيل مثالاً دالاً ، وفي إفادة موجزة على علوم ” أهل الولاية ” ، وذلك حين تحدث عن ما أسماه ” المشاهد والأذواق والحضور ” . وبين بصورة واضحة ، إن هذا المسار العرفاني ” مما لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب ” (المصدر السابق) . وهذا هو طريق المكاشفة الذي ذكره ” الإمام الغزالي ” والذي مفاده ؛ إنه ” متى حاول أحد ذلك وتكلفه بالقول أو الكتب إستحالت حقيقته ، وصار من قبيل القسم الآخر النظري ” (المصدر السابق) .
ويلاحظ الباحث إن إبن طفيل قد عرض خارطة معرفية ، فيها تشجير لعلوم الفلسفة . وذلك حين حكى قصة إنتشار علوم الفلسفة في الأندلس . وفيها ذكر ما يشبه إطاراً عاماً لمنهج يسعى إلى تعليم علوم الفلسفة . ونحسب في هذا الطرف قد منح إبن طفيل العلوم والمعرفيات ” بعداً بيداغوجياً ” ، حيث تحولت إلى دروس يلقيها معلمون متخصصون على طلبة متطلعين إلى التخصص فيها . فمثلاً وجدنا عند إبن طفيل ، إن ” علوم التعاليم ” (الرياضيات) تتقدم في هذا المنهج على العلوم الأخرى . وهذه العلوم هي : علوم التعاليم ، وعلم المنطق ، والفلسفة (المصدر السابق) . وإن هذه الكتلة من العلوم ترجح برمتها العقل منهجاً ومساراً في البحث .
والواقع إن هذا المنهج سيكون له حضور بدرجات ما في الإفادات التي سيكتبها فيلسوف قرطبة ” إبن رشد ” في مضمار المعرفيات والعلوميات . مما يدلل على إن جسور الحوار كانت قائمة بين إبن رشد وإبن طفيل .
كما يلاحظ الباحث في الإفادات التي كتبها إبن طفيل في روايته الفلسفية المعرفية ، إنه قد ذكر مشجراً للعلوم والمعرفيات ، يقع خارج قوائم العلوم التي تقدم بها ، مما يحملنا على القول إن هذا المشجر إقترح إمكانية لقيام مثل هذه العلوم ، والتي تشمل :
” الجغرافية ” و ” الهيئة ” (المصدر السابق ، ص ص 67 – 68) و ” علم التشريح “ (المصدر السابق ، ص 77) و” علم التأويل ” (المصدر السابق ، ص 125) . ومن ثم أضاف إلى القائمة ، العلوم الممكنة الآتية : ” العلم المكنون ” و ” المعرفة بالله ” . وأشار إلى إن الأول يتحقق عن طريق الثاني . وذلك من حيث إن ” العلم المكنون ” ” لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله ” (المصدر السابق ، ص 130) .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5142
السٌّمعَة : 1
مواضيع مماثلة
» حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
» عمر بن الخطاب رضي الله عنه
» الخطاب المتعلق بالاقتضاء
» زوجات عمر بن الخطاب رضي الله عنه
» قراءة فى كتاب الخطاب المعكوس
» عمر بن الخطاب رضي الله عنه
» الخطاب المتعلق بالاقتضاء
» زوجات عمر بن الخطاب رضي الله عنه
» قراءة فى كتاب الخطاب المعكوس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى