حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
صفحة 1 من اصل 1
حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
الدكتور محمد جلوب الفرحان
تقديم :
قدم لنا الطرف السابق من البحث شهادات دالة على نوعية المعرفيات ، وأشكال العلوم التي كانت متداولة في كتابات الفلاسفة الذين تقدموا في عملية التدوين والإنشاء الفلسفي على نشاط إبن رشد ، والذين أسهموا من جانبهم في تشكيل البيئة المعرفية والثقافية التي عاش وتعلم فيها فيلسوف قرطبة ، وإنه بتأثير هذه المعرفيات والعلوم سلباً وإيجاباً تكونت ذهنيته المعرفية والعلمية والمنهجية .
ولهذا نحسب إن الإفادات التي كتبها إبن رشد قد إحتضنت بعض هذه العلوم . في حين سجلت في الوقت نفسه نقداً وتقويماً رشديين ، ومن ثم إبطالاً لبعض من المعرفيات والعلوميات الأخرى . ولبيان ذلك نتساءل :
ماحجم حضور المعرفيات والعلوميات في الإفادات التي كتبها فيلسوف قرطبة ، والتي عززت من طرفها منهجه العقلاني المتطلع إلى المنطق وبالتحديد إلى البرهان مساراً معرفياً ؟ وماهي المعرفيات والعلوميات التي حملت في بنيتها ومنهجيتها إمكانية لتكون جزء من قوائم العلوم والمعرفيات المتداولة في عصره ؟ وما هي المسوغات التي تقدم بها لتبرير فعل إبطاله لعلوم ومعرفيات أخرى ؟
الدكتور محمد جلوب الفرحان
تقديم :
قدم لنا الطرف السابق من البحث شهادات دالة على نوعية المعرفيات ، وأشكال العلوم التي كانت متداولة في كتابات الفلاسفة الذين تقدموا في عملية التدوين والإنشاء الفلسفي على نشاط إبن رشد ، والذين أسهموا من جانبهم في تشكيل البيئة المعرفية والثقافية التي عاش وتعلم فيها فيلسوف قرطبة ، وإنه بتأثير هذه المعرفيات والعلوم سلباً وإيجاباً تكونت ذهنيته المعرفية والعلمية والمنهجية .
ولهذا نحسب إن الإفادات التي كتبها إبن رشد قد إحتضنت بعض هذه العلوم . في حين سجلت في الوقت نفسه نقداً وتقويماً رشديين ، ومن ثم إبطالاً لبعض من المعرفيات والعلوميات الأخرى . ولبيان ذلك نتساءل :
ماحجم حضور المعرفيات والعلوميات في الإفادات التي كتبها فيلسوف قرطبة ، والتي عززت من طرفها منهجه العقلاني المتطلع إلى المنطق وبالتحديد إلى البرهان مساراً معرفياً ؟ وماهي المعرفيات والعلوميات التي حملت في بنيتها ومنهجيتها إمكانية لتكون جزء من قوائم العلوم والمعرفيات المتداولة في عصره ؟ وما هي المسوغات التي تقدم بها لتبرير فعل إبطاله لعلوم ومعرفيات أخرى ؟
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
حضور الأبستمولوجيات والعلوميات في الإفادات الرشدية
سجلت المعرفيات والعلوم أشكالاً متنوعة ودرجات مختلفة من الحضور في الإفادات التي كتبها إبن رشد . ولهذا سنحاول تقديم نماذج من الإفادات مأخوذة ومدروسة من كتب ألفها إبن رشد ، وبالشكل الآتي :
سجلت المعرفيات والعلوم أشكالاً متنوعة ودرجات مختلفة من الحضور في الإفادات التي كتبها إبن رشد . ولهذا سنحاول تقديم نماذج من الإفادات مأخوذة ومدروسة من كتب ألفها إبن رشد ، وبالشكل الآتي :
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
أولاً – إنموذج من المعرفيات والعلوميات في كتاب ” فصل المقال “
ثانياً – إنموذج من المعرفيات والعلوميات في كتاب ” تهافت التهافت “
ولنبدأ مع إنموذج كتاب ” فصل ” ، ونحسب إن تكون البداية سؤال رشدي ، والذي رفعه فيلسوف قرطبة بنفسه ، ونظن إن التحديات التي واجهتها الفلسفة (وكذلك المنطق) ، هي التي حملت إبن رشد على إثارته ، ونفضل وضعه بكلمات فيلسوف قرطبة حرفياً ، وبالصيغة الآتية :
هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع … أم محظور ؟ (إبن رشد ؛ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال ، تحقيق محمد عمارة ، دار المعارف بمصر ، القاهرة بلا تاريخ ، ص 22) . في الحقيقة نشعر إن هناك هدف ماكث في بنية هذا السؤال ، والذي يتمثل في مشروع المثابرة الفلسفية التي سيقودها إبن رشد في داخل دائرة الثقافة العربية الإسلامية . وبالتخصيص يمكن الحديث عن أهداف المثابرة الفلسفية الرشدية بالشكل الآتي :
1 – تقديم شهادة دالة على وجود كفالة شرعية على عمل الفلسفة والمنطق .
2 – سعى إلى رد الإعتبار إلى الفلسفة والمنطق ، بعد أشواط من المحنة والإمتحان .
3 – كشف عن رخاوة الأرض التي تحرك عليها رجال فتاوي مصادرة البحث العقلاني .
4 – بين ضيق أفق أصحاب دعاوي تحريم كتب الفلسفة والمنطق ، والتنديد بمحاولاتهم الناجزة في حرق كتب الفلسفة والمنطق .
5 – أعلن على الملأ إلى إن من ناصب الفلاسفة والمناطقة العداء ، وحرك السلطة والجمهور على ملاحقتهم ، قد أسس موقفه بالإعتماد على فكرانية وحيدة الجانب . في حين إن دائرة الفكر الإسلامي مفتوحة ، وتتسع لفكرانيات كلامية ومعرفية متعددة ، ولها مناهج ورِؤى متنوعة .
ومن خلال الطريق الذي إختاره فيلسوف قرطبة ، كشف عن حجم الظلم الذي أصاب الفلسفة والمنطق . ومن ثم بين حقيقة منهج التشويش ، وليس منهج النقد العلمي الموضوعي الذي واجهته الفلسفة خلال محنتها وإمتحانها . وكل هذا دلل على عقلانية ونقدية وموضوعية نهج فيلسوف قرطبة . وكان باسلاً في الإشارة إلى الحق في أي شاطئ كان . ونبه على الباطل ، ولم يتردد أو يخاف لومة لائم ، فدخل السجن وواجه التحريم ، وصودرت كتبه وحرقت في الساحات العامة ، فكان فيلسوفاً حقيقياً يرقى إلى منزلة شهيد الفلسفة سقراط وشهيدة الفلسفة هبيشا الإسكندرانية ، وشهيد فلسفة العلم ” برنو ” ..
بعد هذا المهاد نحسب إنه من المهم الوقوف على حال المعرفيات ، وأوضاع العلوميات في كتاب ” الفصل ” وبيان قوة تشابكها بحيث تشكل كتلة من المعرفيات والعلوميات ، والتي أعلنت عن ولادة إنموذج تتوحد في طوابقه بعض العلوم . في حين تتجاور علوم ومعرفيات في طوابق أخرى ، حيث تكون العلاقة بينهما علاقة الغريب بالغريب .
كما وإن هذا الإنمودج له أهميتين فلسفية وتاريخية على حد سواء ، فهو يكشف عن موقف رشدي فيه تجديد لبعض العلوم . وفي الوقت نفسه فيه تحفظ وإبطال ، وكذلك فيه ترجيح لبعضها على حساب علوم أخرى ، وبما يحقق إنتصاراً للعقل وعلومه . وفيه مثابرة عقلية نازعة إلى إعادة قراءة العلوم ، خصوصاً ” الما فوق عقلية ” لمصلحة ” العلوم العقلية ” .
ومن اللازم علينا الإشارة إلى إن الإنجاز الرشدي في مضمار المعرفيات والعلوميات ، فيه صور من التشابه مع ما أنجزه الفلاسفة في هذا الميدان في الفترة الما قبل الرشدية . مع ملاحظة الفارق في التوظيف الرشدي لهذا المضمار ولتحقيق أهداف مختلفة . وبالتحديد توظيف يتطلع إلى توليد نتائج لصالح نهجه العقلاني . ولعل من الشواهد الدالة على إن فيلسوف قرطبة قد نهج منهجاً مشابهاً لنهج من تقدم عليه من الفلاسفة ، إنه يتحدث عن نوعين من المعرفيات والعلوم ، والتي حملت الإصطلاح ذاته الذي تداولته إفادات الفلاسفة قبله ، وهو إصطلاح ” الصنائع ” بدلاً من المعرفيات والعلوم .
وعلى هذا الأساس إنها نوعين من الصنائع ” الصنائع العلمية … و … العملية ” (المصدر السابق ، ص 28) . والحقيقة إن هذه الإفادة الرشدية تدلل على وجود نوعين من المعرفيات ؛ معرفيات علمية خالصة ومعرفيات عملية . ودليلها بالتأكيد هو المعرفيات الأولى . وهذه النظرة الرشدية تشمل الدوائر المعرفية المتداخلة ، والتي كانت متداولة في ثقافة عصر إبن رشد ، و فترة ما قبل إبن رشد وما بعده ، وهي دوائر ” الفلسفة ، والعلوم ، والصنائع ” .
لقد سعى فيلسوف قرطبة إلى إعادة صياغة العلوميات والمعرفيات الما فوق عقلية (سواء من جهة المنطلق أو من جهة واقعيتها حيث إنها تلبي حاجة إجتماعية) إلى إطار من العقلانية . ويلاحظ القارئ لهذا الطرف ، إن فيلسوف قرطبة ثابر لإنجاز هذا الهدف من خلال البحث في العلوميات والمعرفيات من زاويتي ” الحق ” و ” الحقيقة ” ، وهي في واقع الأمر من معالم وموازين درب العقل ومنهج المنطق . ولعل الشاهد على ذلك الإفادة الرشدية التي نظرت إلى العلوم والمعرفيات من زاوية ” العلم الحق ” و ” العمل الحق ” . وسعياً من فيلسوف العقل (إبن رشد) إلى عقلنة الما فوق العقل ، دخل أجواء العقل والمنطق ، وبالتحديد من خلال أحد أبواب العقل والمنطق ، وهو التعريف . وعلى هذا الأساس تقدم بتعريف للعلم الحق ، فذهب ضابطاً ذلك في تعريف دال بأنه ” معرفة الله ” (المصدر السابق) .
إن المتأمل في صيغة هذا التعريف ، يلحظ إن إبن رشد ، قد أثار العقل ودفعه ليعمل من أجل الوصول إلى ” معرفة الله ” . حقاً إنها مثابرة رشدية جديرة بالإهتمام خصوصاً في مضمار عقلنة اللامعقول . ونحسب إنها من طرف أخر مثابرة نزعت إلى تحفيز العقل وحثه على الإرتقاء إلى طبقة معرفية عالية ، وليثابر من هناك وبمناهجه الإنسية على دراسة موضوع عال (وبمنظار البعض من المناهج مضمار عصي على العقل الإنساني) من خلال جهاز من المقولات والمفاهيم وآليات المنهج العقلي .
أما العمل الحق ، فهو بالفهم الرشدي ، مثابرة معرفية تستند إلى العقل في حساب نتائج الأفعال الإنسانية وما يتولد منها . ولهذا عرفه ؛ بإنه ” إمتثال الأفعال التي تفيد السعادة ، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء ، والمعرفة بهذه الأفعال (هي التي تسمى) العلم العملي ” (المصدر السابق) . وإذا كان العقل في المجاهدة المعرفية الأولى تطلع الصعود والإرتقاء إلى طابق معرفي عال . فإنها مع ” العلم العملي ” مثابرة معرفية تنزل من العالي إلى القاع ، حيث حياة البشر ، وتبدأ عملها برصد أفعالهم ، وضبط ما يتولد منها ، وصولاً إلى صياغة الإطار المعرفي المعبر عن الفعل البشري والنتيجة المترتبة عليه . والواقع إنه في المثابرتين مجاهدة معرفية ينجزها العقل البشري سواء في الصعود إلى السماء أو الهبوط إلى أرض الحياة .
وعلى أساس هذا التصور الرشدي لعمل العقل ، رأى إن ” العمل الحق ” أو لنقل المعرفة العملية تتوزع في جبهتين ، كل جبهة منهما يشتغل العقل فيها . فالأولى يهبط إليها العقل من الطوابق العالية ليلامس حياة البشر ، ويعيد ترتيبها . والعلم الممثل لهده الجبهة ، هو ” الفقه ” . وفي الجبهة الثانية ينطلق العقل من القاع الإجتماعي للناس ، وخلال التدريب والمجاهدة البشرية ، والتي يمثل أطرافها ” الزهد ” والإستعداد الرياضي . يبدأ العقل بالصعود إلى رحاب التفكير والتأمل في عالم يتعالى على حياة البشر ، ويتطلع إلى الفوز بالآخرة . إن الطريق المؤدي إلى هناك مثلته ” علوم الآخرة ” (المصدر السابق ، ص 54) . ومعلوم إن العلوم الواردة هنا ، هي من نتائج مثابرات العقل البشري ، النازعة إلى إنجاز فعل الإرتقاء والصعود من فضاء الحياة البشرية ، وحدود إمكانيات العقل إلى سماء العلوم والمعرفيات ، التي هي ” علوم الآخرة ” .
ونحسب إنه من المهم العودة إلى دائرة الإفادات الرشدية ، نقلبها ونعيد قراءتها ، وذلك لنتعرف عن قرب على حدود المثابرة العقلية التي قادها فيلسوف قرطبة ، والتي كان من أهدافها إعادة صياغة ” الفقه ” صياغة عقلية . ومن ثم تحديد معالم درب الإنطلاق والصعود إلى سماء المعرفيات والعلوميات ، وهو الدرب الذي تمثل بمسار” الزهد وعلوم الآخرة ” . ولعل أول أمر يلاحظه الباحث في هذه المثابرة الرشدية ، هي عملية ضبط المفاهيم ، من مثل العلوميات الفقهية أو الفقه . وحسب ضبط إبن رشد ، هو ” علم ” تدور مبانيه حول ” أفعال ظاهرة بدنية ” هذا طرف ، ومن طرف أخر ذهب مُعرفاً ” الزهديات وعلوميات الآخرة ” بأنها ” علوم ” تبحث مبانيها في ” أفعال نفسانية مثل الشكر والصبر وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها ” (المصدر السابق ، ص ص 54 – 55) . على كل إنها شواهد على عمل العقل وفاعليته في الإفادات التي جعلها يراع إبن رشد في مضمار المعرفيات والعلوميات ، السماوية منها أو الأرضية البشرية المشروطة .
كما ويلاحظ الباحث إن إفادات إبن رشد ، قد حددت لنا ثلاثة أنواع من العلوم والصناعات ، والتي بدورها كونت خارطة للمعرفيات ، والتي تترتب فيها العلوم صعوداً إلى طوابق العقل والمنطق والبرهان . وهبوطاً من علم العقل إلى معرفيات الجمهور، حيث الجدل ومن ثم الخطابة . ويشعر قارئ نصوص فيلسوف قرطبة ، بأن إبن رشد قد إنحاز على أساس حجم حضور العقل ، نحو العلم . أي العلم الذي يشتغل فيه العقل ، ولهذا جاء ترجيحه لمكانة ” الحكمة ” والذي يتساوق مع نهجه العقلاني . حقيقة إن كل ذلك جاء أثناء حديثه عن مراتب الناس .
ورب أحد يتساءل : ما هي المعرفيات والعلوم التي تقابل مراتب الناس ؟ في الواقع إن إثارة هذا السؤال بحد ذاته ، يحملنا على الشعور بأن فكر فيلسوف قرطبة ، قد دار حول ما يمكن الإصطلاح عليه بالبعد ” الإجتماعي للمعرفة ” ، والذي يحملنا على القول إن هذه المعرفيات والعلوميات توزعت في المثلث المعرفي الآتي :
” الخطابة ، والجدل والبرهان ” (المصدر السابق ، ص 58) .
إن المتأمل في قاع ورأس المثلث ، يشعر بدرجات من اليقين إن فيلسوف قرطبة قد إنتصر إلى المنطق وذلك من خلال البرهان ، وإنتصر إلى الفلسفة (الحكمة) وذلك من خلال المنطق . وهذا يأتي من طرف إن المنطق هو منهج الفلسفة .
حقاً لقد جاء الإنتصار للعقل وخطابه من خلال الدفاع الرشدي عن مكانة البرهان . وكل هذا تحقق عن طريق إعلان الإخوة بين الحكمة والشريعة . فالشريعة هي ” الأخت الرضيعة ” للحكمة حسب الإفادات الرشدية (أرجو هنا الإنتباه إلى الإصطلاح الرشدي : الأخت الرضيعة) . وهذا التصوير الرشدي يحملنا على القول بأن للشريعة الأخت الرضيعة التي لها شخصيتها ، وإن شاركت في الرضاعة مع الأخت الحكمة . والتي هي من طرفها (أي الحكمة = الفلسفة = العقل) تتمتع بشخصيتها ومنهجيتها وخطابها ودرجة يقينية قضاياها الفلسفية وصرامة برهانها وبما يتناسب والمجهود البشري المبذول للوصول إلى الحقيقة .
في الواقع إن الإفادات الرشدية في إعلانها عن مشروع الإخوة بين المضمارين المعرفيين ؛ العقلي والعقيدي (الإيماني) ، هو مشروع دفاع عن الحكمة (الفلسفة) وترجيح لمكانتها التي سعى الخصوم إلى إضعافها ، ومن ثم العمل على شطب تأثيرها في دائرة الثقافة العربية الإسلامية . وبالتأكيد إن قارئ هذه الإفادات ، يلحظ حجم قوة المجاهدة الرشدية النازعة دون تردد من الإنتصار للحكمة (الفلسفة) ، ومن خلالها الإنتصار للعقل .
فعلاً جاء ذلك الإنتصار على شكل فعل تكييف شرعي من داخل المدرك الديني كخطوة أولى ، تلتها خطوة ثانية تقدمت نحو إستنباط حكم يعترف بشرعية الإشتغال بالحكمة في الدار الثقافية العربية الإسلامية . وذلك على أساس إن من شروط النظر العقيدي الصحيح ، هو إعتماد طريق البرهان . ومن طرف الإفادات الرشدية يأتي التوضيح بكلمات إبن رشد : ” إذا كانت هذه الشريعة حقاً ، وداعية إلى النظر المؤدي إلى المعرفة الحق ، فإنا معشر المسلمين ، نعلم على القطع ، إنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع ” (المصدر السابق ، ص 31) . إن كل ذلك حدث فعلاً بسبب الإخوة الحميمة بين الحكمة والشريعة ، ومن خلال علاقة الصحبة بين العقل والنقل ، وحسب النشيد الرشدي العقلاني ” إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة ” (المصدر السابق ، ص 67) .
كما ولاحظ الباحث إن الإفادات الرشدية ، قد ولدت إشكالاً في مضمار تداول الإصطلاحات . وبالتحديد فيما يتعلق بإصطلاحي ” الصناعة ” و ” العلم ” . ويبدو إن السبب يعود إلى تداخل ودوران الإصطلاحين في داخل بنية الأثنين . ونحسب إن في هذه القضية رؤية تنهض على أساس الإختلاف من الزاوية الإصطلاحية بين المضمارين . فالصناعة هي صناعة والعلم هو علم . ولكن رغم هذا الإشكال ، فإننا نعود إلى واقع الإفادات الرشدية ، ونتعامل معها كواقع معرفي مفروض ولا سبيل يتوافر لتبديله . فمثلاً ينظر إلى ” الحكمة ” على إنها ” صناعة الصنائع ” (المصدر السابق ، ص 28) .
حقيقة إن المتمعن في هذا النظر الرشدي ، يجد نفسه ممتحناً في قبول خيار جديد في الشرح الإصطلاحي ، وذلك إن المسألة واضحة ، وهي إن الحكمة حكمة ، وإن الصناعة صناعة .. وإذا كان إصطلاح الصناعة متدولاً في التراث العربي وخصوصاً عند الحديث عن صناعة الشعر … فإنه موضوع نقد وتقويم من زاوية نظرية التعريف المنطقية ومضمارفلسفة اللغة (اللنكوستك) . ولهذا لم يبقى أمام الباحث إلا أن يطرق أبواب الآماني . ويتمنى على فيلسوف قرطبة أن يكون أكثر دقة في إختيار الإصطلاح وتداوله وخصوصاً إذا كان هو واحد من جهابذة المنطق العربي والحارث المتمكن في نظرية التعريف ، ودوره في الوضوح وإزالة التشويش ورفع الحشو… وإنطلاقاً من الحقيقة القائلة إن الخطاب يتأثر سلباً وإيجاباً بجهازه اللغوي . وإن اللغة هي مجموعة إصطلاحات وتراكيب وقواعد بناء . فإن ما كُنا نتمناه من فيلسوف قرطبة ، هو تداول إصطلاح ” العلم ” وذلك لدقته ودلالته الصارمة . فيكون الحاصل من ذلك هو إن الحكمة بالمعنى الإصطلاحي الدقيق هي ” علم العلم ” بدلاً من عبارة ” صناعة الصنائع ” والتي تحمل الكثير من التشويش والغموض من زاوية المنطق وخصوصاً نظريته في التعريف ، وإن كنا نعرف باليقين إنها عبارة مجازية .
والحقيقة إن هذا التداخل بين الإصطلاحين ، ليس هو الإشكال الذي تعانيه مباني فلسفة إبن رشد وحدها . وإنما هو إشكال منبوت ومتداول في مباني رهط ملحوظ من الفلاسفة الإسلاميين . ولعل الشاهد على ما قلناه ، هو الإفادة الرشدية التي تداولت إصطلاحي العلم والصناعة في آن واحد وعلى حد سواء . يقول فيلسوف قرطبة ، وهو يعدد الصناعات المترتبة على علم التعاليم* : ” علوم التعاليم … (هي) صناعة الهندسة … وكذلك صناعة علم الهيئة ” (المصدر السابق)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وهنا أود أن أذكر أمراً في غاية الأهمية يخص إطروحات إبن رشد في المعرفة والعلم ، بإنه عندما يتحدث عن علم التعاليم (الرياضيات) يميز بين ما هو علم نظري وما هو عملي أي صناعة . وهذه المسألة تشمل معظم فلاسفة الإسلام . وما ينهض على هذه الإطروحة الرشدية خاصة والإسلامية عامة ، تحملنا دون تردد على القول إن إصطلاح العلم في مدركاتهم يشمل الجانب النظري والنظري فقط .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والواقع إنه كان دقيقاً في الإصطلاح الأول ” علوم التعاليم ” (فهو علم نظري خالص) . بينما حديثه عن الإصطلاح الثاني ” صناعة الهندسة ” ، والإصطلاح الثالث ” علم الهيئة ” . ففيه أشياء تحتمل القبول بدرجات ما ، خصوصاً إذا نظرنا إليها من زاوية إن المعرفة أو علم الهندسة والفلك النظريين ” ، وقد تحولا إلى صنائع ، وهي مايقابل ” علم الهندسة والفلك العمليين ” . وفي الإصطلاح الرشدي الأخير ” صناعة علم الهيئة ” ، الكثير من الدلالات الدقيقة المؤيدة للرأي الذي نذهب إليه . ففي مضمار علم الفلك المعرفي ؛ إطار نظري عبر عنه الإصطلاح الرشدي بلفظتي ” علم الهيئة ” . وفيه ميدان عملي (ترجمة للعلم) تمثل في إصطلاح ” الصناعة ” .
كما وتضعنا الإفادات الرشدية أمام حقيقة مهمة تخص منهج الخطاب العقلاني ، الدي سعى فيلسوف قرطبة إلى ضبط ظروف توليده . وهنا نركز على الظروف المعرفية ، والتي كان لها دوراً مؤثراً في تكوين هوية الخطاب الرشدي برمته . ولعل الشاهد على ذلك ، هو إن إبن رشد تطلع إلى صياغة خطابه المعرفي في ضوء إشتراطات الخطاب الرياضي (أو خطاب علوم التعاليم في إصطلاحات المعرفيات الفلسفية الإسلامية) وذلك إدراكاً منه لما تتميز من دقة وصرامة ، وخالية من الحشو والغموض . وفعلاً كان لهذا التطلع الرشدي نتائجه المحسوبة لصالح النهج العقلاني الذي كان يقوده في كل زوايا الفكر الإسلامي العقيدي والمعرفي . ولهذا السبب نفهم الأسباب التي حملته إلى الدعوة إلى تعميم إستخدام ” علوم التعاليم ” في مضمار علوم الذات العربية ، خصوصاً العمل على إدخالها في بنيات علوم (أو صناعات) لم يسبق لها إن إعتمدت على علوم التعاليم (الرياضيات) .
وكان فيلسوف قرطبة صريحاً في لغته ، وواضحاً كل الوضوح في مسعاه الذي يتطلع إلى إدخال مفصل مهم من مفاصل المعرفيات الفلسفية (حسب التصنيف الكلاسيكي يومذاك) في رحم بنيات علوم لها مكانة خطيرة في علوم الشريعة . وكان الحاصل من ذلك إنه سمح للعقل أن يشتغل داخل هذه البنيات العقيدية ومن خلال علوم التعاليم بالطبع . يقول إبن رشد : ” أما الذي أحوج في هذا التمثيل بصناعة التعاليم (الرياضيات) فهذه صناعة أصول الفقه والفقه نفسه ” (المصدر السابق ، ص27) . حقيقة إنها لحظة إعلان رشدي عن دخول العقل إلى مناطق علوم الشريعة ، ومن ثم العمل بجوارها ، وذلك من أجل تيسير الحياة البشرية ، ورفع كل ما يتعارض بين المثابرة العقلية ورسوم الشريعة .
ثانياً – إنموذج من المعرفيات والعلوميات في كتاب ” تهافت التهافت “
ولنبدأ مع إنموذج كتاب ” فصل ” ، ونحسب إن تكون البداية سؤال رشدي ، والذي رفعه فيلسوف قرطبة بنفسه ، ونظن إن التحديات التي واجهتها الفلسفة (وكذلك المنطق) ، هي التي حملت إبن رشد على إثارته ، ونفضل وضعه بكلمات فيلسوف قرطبة حرفياً ، وبالصيغة الآتية :
هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع … أم محظور ؟ (إبن رشد ؛ فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال ، تحقيق محمد عمارة ، دار المعارف بمصر ، القاهرة بلا تاريخ ، ص 22) . في الحقيقة نشعر إن هناك هدف ماكث في بنية هذا السؤال ، والذي يتمثل في مشروع المثابرة الفلسفية التي سيقودها إبن رشد في داخل دائرة الثقافة العربية الإسلامية . وبالتخصيص يمكن الحديث عن أهداف المثابرة الفلسفية الرشدية بالشكل الآتي :
1 – تقديم شهادة دالة على وجود كفالة شرعية على عمل الفلسفة والمنطق .
2 – سعى إلى رد الإعتبار إلى الفلسفة والمنطق ، بعد أشواط من المحنة والإمتحان .
3 – كشف عن رخاوة الأرض التي تحرك عليها رجال فتاوي مصادرة البحث العقلاني .
4 – بين ضيق أفق أصحاب دعاوي تحريم كتب الفلسفة والمنطق ، والتنديد بمحاولاتهم الناجزة في حرق كتب الفلسفة والمنطق .
5 – أعلن على الملأ إلى إن من ناصب الفلاسفة والمناطقة العداء ، وحرك السلطة والجمهور على ملاحقتهم ، قد أسس موقفه بالإعتماد على فكرانية وحيدة الجانب . في حين إن دائرة الفكر الإسلامي مفتوحة ، وتتسع لفكرانيات كلامية ومعرفية متعددة ، ولها مناهج ورِؤى متنوعة .
ومن خلال الطريق الذي إختاره فيلسوف قرطبة ، كشف عن حجم الظلم الذي أصاب الفلسفة والمنطق . ومن ثم بين حقيقة منهج التشويش ، وليس منهج النقد العلمي الموضوعي الذي واجهته الفلسفة خلال محنتها وإمتحانها . وكل هذا دلل على عقلانية ونقدية وموضوعية نهج فيلسوف قرطبة . وكان باسلاً في الإشارة إلى الحق في أي شاطئ كان . ونبه على الباطل ، ولم يتردد أو يخاف لومة لائم ، فدخل السجن وواجه التحريم ، وصودرت كتبه وحرقت في الساحات العامة ، فكان فيلسوفاً حقيقياً يرقى إلى منزلة شهيد الفلسفة سقراط وشهيدة الفلسفة هبيشا الإسكندرانية ، وشهيد فلسفة العلم ” برنو ” ..
بعد هذا المهاد نحسب إنه من المهم الوقوف على حال المعرفيات ، وأوضاع العلوميات في كتاب ” الفصل ” وبيان قوة تشابكها بحيث تشكل كتلة من المعرفيات والعلوميات ، والتي أعلنت عن ولادة إنموذج تتوحد في طوابقه بعض العلوم . في حين تتجاور علوم ومعرفيات في طوابق أخرى ، حيث تكون العلاقة بينهما علاقة الغريب بالغريب .
كما وإن هذا الإنمودج له أهميتين فلسفية وتاريخية على حد سواء ، فهو يكشف عن موقف رشدي فيه تجديد لبعض العلوم . وفي الوقت نفسه فيه تحفظ وإبطال ، وكذلك فيه ترجيح لبعضها على حساب علوم أخرى ، وبما يحقق إنتصاراً للعقل وعلومه . وفيه مثابرة عقلية نازعة إلى إعادة قراءة العلوم ، خصوصاً ” الما فوق عقلية ” لمصلحة ” العلوم العقلية ” .
ومن اللازم علينا الإشارة إلى إن الإنجاز الرشدي في مضمار المعرفيات والعلوميات ، فيه صور من التشابه مع ما أنجزه الفلاسفة في هذا الميدان في الفترة الما قبل الرشدية . مع ملاحظة الفارق في التوظيف الرشدي لهذا المضمار ولتحقيق أهداف مختلفة . وبالتحديد توظيف يتطلع إلى توليد نتائج لصالح نهجه العقلاني . ولعل من الشواهد الدالة على إن فيلسوف قرطبة قد نهج منهجاً مشابهاً لنهج من تقدم عليه من الفلاسفة ، إنه يتحدث عن نوعين من المعرفيات والعلوم ، والتي حملت الإصطلاح ذاته الذي تداولته إفادات الفلاسفة قبله ، وهو إصطلاح ” الصنائع ” بدلاً من المعرفيات والعلوم .
وعلى هذا الأساس إنها نوعين من الصنائع ” الصنائع العلمية … و … العملية ” (المصدر السابق ، ص 28) . والحقيقة إن هذه الإفادة الرشدية تدلل على وجود نوعين من المعرفيات ؛ معرفيات علمية خالصة ومعرفيات عملية . ودليلها بالتأكيد هو المعرفيات الأولى . وهذه النظرة الرشدية تشمل الدوائر المعرفية المتداخلة ، والتي كانت متداولة في ثقافة عصر إبن رشد ، و فترة ما قبل إبن رشد وما بعده ، وهي دوائر ” الفلسفة ، والعلوم ، والصنائع ” .
لقد سعى فيلسوف قرطبة إلى إعادة صياغة العلوميات والمعرفيات الما فوق عقلية (سواء من جهة المنطلق أو من جهة واقعيتها حيث إنها تلبي حاجة إجتماعية) إلى إطار من العقلانية . ويلاحظ القارئ لهذا الطرف ، إن فيلسوف قرطبة ثابر لإنجاز هذا الهدف من خلال البحث في العلوميات والمعرفيات من زاويتي ” الحق ” و ” الحقيقة ” ، وهي في واقع الأمر من معالم وموازين درب العقل ومنهج المنطق . ولعل الشاهد على ذلك الإفادة الرشدية التي نظرت إلى العلوم والمعرفيات من زاوية ” العلم الحق ” و ” العمل الحق ” . وسعياً من فيلسوف العقل (إبن رشد) إلى عقلنة الما فوق العقل ، دخل أجواء العقل والمنطق ، وبالتحديد من خلال أحد أبواب العقل والمنطق ، وهو التعريف . وعلى هذا الأساس تقدم بتعريف للعلم الحق ، فذهب ضابطاً ذلك في تعريف دال بأنه ” معرفة الله ” (المصدر السابق) .
إن المتأمل في صيغة هذا التعريف ، يلحظ إن إبن رشد ، قد أثار العقل ودفعه ليعمل من أجل الوصول إلى ” معرفة الله ” . حقاً إنها مثابرة رشدية جديرة بالإهتمام خصوصاً في مضمار عقلنة اللامعقول . ونحسب إنها من طرف أخر مثابرة نزعت إلى تحفيز العقل وحثه على الإرتقاء إلى طبقة معرفية عالية ، وليثابر من هناك وبمناهجه الإنسية على دراسة موضوع عال (وبمنظار البعض من المناهج مضمار عصي على العقل الإنساني) من خلال جهاز من المقولات والمفاهيم وآليات المنهج العقلي .
أما العمل الحق ، فهو بالفهم الرشدي ، مثابرة معرفية تستند إلى العقل في حساب نتائج الأفعال الإنسانية وما يتولد منها . ولهذا عرفه ؛ بإنه ” إمتثال الأفعال التي تفيد السعادة ، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء ، والمعرفة بهذه الأفعال (هي التي تسمى) العلم العملي ” (المصدر السابق) . وإذا كان العقل في المجاهدة المعرفية الأولى تطلع الصعود والإرتقاء إلى طابق معرفي عال . فإنها مع ” العلم العملي ” مثابرة معرفية تنزل من العالي إلى القاع ، حيث حياة البشر ، وتبدأ عملها برصد أفعالهم ، وضبط ما يتولد منها ، وصولاً إلى صياغة الإطار المعرفي المعبر عن الفعل البشري والنتيجة المترتبة عليه . والواقع إنه في المثابرتين مجاهدة معرفية ينجزها العقل البشري سواء في الصعود إلى السماء أو الهبوط إلى أرض الحياة .
وعلى أساس هذا التصور الرشدي لعمل العقل ، رأى إن ” العمل الحق ” أو لنقل المعرفة العملية تتوزع في جبهتين ، كل جبهة منهما يشتغل العقل فيها . فالأولى يهبط إليها العقل من الطوابق العالية ليلامس حياة البشر ، ويعيد ترتيبها . والعلم الممثل لهده الجبهة ، هو ” الفقه ” . وفي الجبهة الثانية ينطلق العقل من القاع الإجتماعي للناس ، وخلال التدريب والمجاهدة البشرية ، والتي يمثل أطرافها ” الزهد ” والإستعداد الرياضي . يبدأ العقل بالصعود إلى رحاب التفكير والتأمل في عالم يتعالى على حياة البشر ، ويتطلع إلى الفوز بالآخرة . إن الطريق المؤدي إلى هناك مثلته ” علوم الآخرة ” (المصدر السابق ، ص 54) . ومعلوم إن العلوم الواردة هنا ، هي من نتائج مثابرات العقل البشري ، النازعة إلى إنجاز فعل الإرتقاء والصعود من فضاء الحياة البشرية ، وحدود إمكانيات العقل إلى سماء العلوم والمعرفيات ، التي هي ” علوم الآخرة ” .
ونحسب إنه من المهم العودة إلى دائرة الإفادات الرشدية ، نقلبها ونعيد قراءتها ، وذلك لنتعرف عن قرب على حدود المثابرة العقلية التي قادها فيلسوف قرطبة ، والتي كان من أهدافها إعادة صياغة ” الفقه ” صياغة عقلية . ومن ثم تحديد معالم درب الإنطلاق والصعود إلى سماء المعرفيات والعلوميات ، وهو الدرب الذي تمثل بمسار” الزهد وعلوم الآخرة ” . ولعل أول أمر يلاحظه الباحث في هذه المثابرة الرشدية ، هي عملية ضبط المفاهيم ، من مثل العلوميات الفقهية أو الفقه . وحسب ضبط إبن رشد ، هو ” علم ” تدور مبانيه حول ” أفعال ظاهرة بدنية ” هذا طرف ، ومن طرف أخر ذهب مُعرفاً ” الزهديات وعلوميات الآخرة ” بأنها ” علوم ” تبحث مبانيها في ” أفعال نفسانية مثل الشكر والصبر وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها ” (المصدر السابق ، ص ص 54 – 55) . على كل إنها شواهد على عمل العقل وفاعليته في الإفادات التي جعلها يراع إبن رشد في مضمار المعرفيات والعلوميات ، السماوية منها أو الأرضية البشرية المشروطة .
كما ويلاحظ الباحث إن إفادات إبن رشد ، قد حددت لنا ثلاثة أنواع من العلوم والصناعات ، والتي بدورها كونت خارطة للمعرفيات ، والتي تترتب فيها العلوم صعوداً إلى طوابق العقل والمنطق والبرهان . وهبوطاً من علم العقل إلى معرفيات الجمهور، حيث الجدل ومن ثم الخطابة . ويشعر قارئ نصوص فيلسوف قرطبة ، بأن إبن رشد قد إنحاز على أساس حجم حضور العقل ، نحو العلم . أي العلم الذي يشتغل فيه العقل ، ولهذا جاء ترجيحه لمكانة ” الحكمة ” والذي يتساوق مع نهجه العقلاني . حقيقة إن كل ذلك جاء أثناء حديثه عن مراتب الناس .
ورب أحد يتساءل : ما هي المعرفيات والعلوم التي تقابل مراتب الناس ؟ في الواقع إن إثارة هذا السؤال بحد ذاته ، يحملنا على الشعور بأن فكر فيلسوف قرطبة ، قد دار حول ما يمكن الإصطلاح عليه بالبعد ” الإجتماعي للمعرفة ” ، والذي يحملنا على القول إن هذه المعرفيات والعلوميات توزعت في المثلث المعرفي الآتي :
” الخطابة ، والجدل والبرهان ” (المصدر السابق ، ص 58) .
إن المتأمل في قاع ورأس المثلث ، يشعر بدرجات من اليقين إن فيلسوف قرطبة قد إنتصر إلى المنطق وذلك من خلال البرهان ، وإنتصر إلى الفلسفة (الحكمة) وذلك من خلال المنطق . وهذا يأتي من طرف إن المنطق هو منهج الفلسفة .
حقاً لقد جاء الإنتصار للعقل وخطابه من خلال الدفاع الرشدي عن مكانة البرهان . وكل هذا تحقق عن طريق إعلان الإخوة بين الحكمة والشريعة . فالشريعة هي ” الأخت الرضيعة ” للحكمة حسب الإفادات الرشدية (أرجو هنا الإنتباه إلى الإصطلاح الرشدي : الأخت الرضيعة) . وهذا التصوير الرشدي يحملنا على القول بأن للشريعة الأخت الرضيعة التي لها شخصيتها ، وإن شاركت في الرضاعة مع الأخت الحكمة . والتي هي من طرفها (أي الحكمة = الفلسفة = العقل) تتمتع بشخصيتها ومنهجيتها وخطابها ودرجة يقينية قضاياها الفلسفية وصرامة برهانها وبما يتناسب والمجهود البشري المبذول للوصول إلى الحقيقة .
في الواقع إن الإفادات الرشدية في إعلانها عن مشروع الإخوة بين المضمارين المعرفيين ؛ العقلي والعقيدي (الإيماني) ، هو مشروع دفاع عن الحكمة (الفلسفة) وترجيح لمكانتها التي سعى الخصوم إلى إضعافها ، ومن ثم العمل على شطب تأثيرها في دائرة الثقافة العربية الإسلامية . وبالتأكيد إن قارئ هذه الإفادات ، يلحظ حجم قوة المجاهدة الرشدية النازعة دون تردد من الإنتصار للحكمة (الفلسفة) ، ومن خلالها الإنتصار للعقل .
فعلاً جاء ذلك الإنتصار على شكل فعل تكييف شرعي من داخل المدرك الديني كخطوة أولى ، تلتها خطوة ثانية تقدمت نحو إستنباط حكم يعترف بشرعية الإشتغال بالحكمة في الدار الثقافية العربية الإسلامية . وذلك على أساس إن من شروط النظر العقيدي الصحيح ، هو إعتماد طريق البرهان . ومن طرف الإفادات الرشدية يأتي التوضيح بكلمات إبن رشد : ” إذا كانت هذه الشريعة حقاً ، وداعية إلى النظر المؤدي إلى المعرفة الحق ، فإنا معشر المسلمين ، نعلم على القطع ، إنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع ” (المصدر السابق ، ص 31) . إن كل ذلك حدث فعلاً بسبب الإخوة الحميمة بين الحكمة والشريعة ، ومن خلال علاقة الصحبة بين العقل والنقل ، وحسب النشيد الرشدي العقلاني ” إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة ” (المصدر السابق ، ص 67) .
كما ولاحظ الباحث إن الإفادات الرشدية ، قد ولدت إشكالاً في مضمار تداول الإصطلاحات . وبالتحديد فيما يتعلق بإصطلاحي ” الصناعة ” و ” العلم ” . ويبدو إن السبب يعود إلى تداخل ودوران الإصطلاحين في داخل بنية الأثنين . ونحسب إن في هذه القضية رؤية تنهض على أساس الإختلاف من الزاوية الإصطلاحية بين المضمارين . فالصناعة هي صناعة والعلم هو علم . ولكن رغم هذا الإشكال ، فإننا نعود إلى واقع الإفادات الرشدية ، ونتعامل معها كواقع معرفي مفروض ولا سبيل يتوافر لتبديله . فمثلاً ينظر إلى ” الحكمة ” على إنها ” صناعة الصنائع ” (المصدر السابق ، ص 28) .
حقيقة إن المتمعن في هذا النظر الرشدي ، يجد نفسه ممتحناً في قبول خيار جديد في الشرح الإصطلاحي ، وذلك إن المسألة واضحة ، وهي إن الحكمة حكمة ، وإن الصناعة صناعة .. وإذا كان إصطلاح الصناعة متدولاً في التراث العربي وخصوصاً عند الحديث عن صناعة الشعر … فإنه موضوع نقد وتقويم من زاوية نظرية التعريف المنطقية ومضمارفلسفة اللغة (اللنكوستك) . ولهذا لم يبقى أمام الباحث إلا أن يطرق أبواب الآماني . ويتمنى على فيلسوف قرطبة أن يكون أكثر دقة في إختيار الإصطلاح وتداوله وخصوصاً إذا كان هو واحد من جهابذة المنطق العربي والحارث المتمكن في نظرية التعريف ، ودوره في الوضوح وإزالة التشويش ورفع الحشو… وإنطلاقاً من الحقيقة القائلة إن الخطاب يتأثر سلباً وإيجاباً بجهازه اللغوي . وإن اللغة هي مجموعة إصطلاحات وتراكيب وقواعد بناء . فإن ما كُنا نتمناه من فيلسوف قرطبة ، هو تداول إصطلاح ” العلم ” وذلك لدقته ودلالته الصارمة . فيكون الحاصل من ذلك هو إن الحكمة بالمعنى الإصطلاحي الدقيق هي ” علم العلم ” بدلاً من عبارة ” صناعة الصنائع ” والتي تحمل الكثير من التشويش والغموض من زاوية المنطق وخصوصاً نظريته في التعريف ، وإن كنا نعرف باليقين إنها عبارة مجازية .
والحقيقة إن هذا التداخل بين الإصطلاحين ، ليس هو الإشكال الذي تعانيه مباني فلسفة إبن رشد وحدها . وإنما هو إشكال منبوت ومتداول في مباني رهط ملحوظ من الفلاسفة الإسلاميين . ولعل الشاهد على ما قلناه ، هو الإفادة الرشدية التي تداولت إصطلاحي العلم والصناعة في آن واحد وعلى حد سواء . يقول فيلسوف قرطبة ، وهو يعدد الصناعات المترتبة على علم التعاليم* : ” علوم التعاليم … (هي) صناعة الهندسة … وكذلك صناعة علم الهيئة ” (المصدر السابق)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* وهنا أود أن أذكر أمراً في غاية الأهمية يخص إطروحات إبن رشد في المعرفة والعلم ، بإنه عندما يتحدث عن علم التعاليم (الرياضيات) يميز بين ما هو علم نظري وما هو عملي أي صناعة . وهذه المسألة تشمل معظم فلاسفة الإسلام . وما ينهض على هذه الإطروحة الرشدية خاصة والإسلامية عامة ، تحملنا دون تردد على القول إن إصطلاح العلم في مدركاتهم يشمل الجانب النظري والنظري فقط .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والواقع إنه كان دقيقاً في الإصطلاح الأول ” علوم التعاليم ” (فهو علم نظري خالص) . بينما حديثه عن الإصطلاح الثاني ” صناعة الهندسة ” ، والإصطلاح الثالث ” علم الهيئة ” . ففيه أشياء تحتمل القبول بدرجات ما ، خصوصاً إذا نظرنا إليها من زاوية إن المعرفة أو علم الهندسة والفلك النظريين ” ، وقد تحولا إلى صنائع ، وهي مايقابل ” علم الهندسة والفلك العمليين ” . وفي الإصطلاح الرشدي الأخير ” صناعة علم الهيئة ” ، الكثير من الدلالات الدقيقة المؤيدة للرأي الذي نذهب إليه . ففي مضمار علم الفلك المعرفي ؛ إطار نظري عبر عنه الإصطلاح الرشدي بلفظتي ” علم الهيئة ” . وفيه ميدان عملي (ترجمة للعلم) تمثل في إصطلاح ” الصناعة ” .
كما وتضعنا الإفادات الرشدية أمام حقيقة مهمة تخص منهج الخطاب العقلاني ، الدي سعى فيلسوف قرطبة إلى ضبط ظروف توليده . وهنا نركز على الظروف المعرفية ، والتي كان لها دوراً مؤثراً في تكوين هوية الخطاب الرشدي برمته . ولعل الشاهد على ذلك ، هو إن إبن رشد تطلع إلى صياغة خطابه المعرفي في ضوء إشتراطات الخطاب الرياضي (أو خطاب علوم التعاليم في إصطلاحات المعرفيات الفلسفية الإسلامية) وذلك إدراكاً منه لما تتميز من دقة وصرامة ، وخالية من الحشو والغموض . وفعلاً كان لهذا التطلع الرشدي نتائجه المحسوبة لصالح النهج العقلاني الذي كان يقوده في كل زوايا الفكر الإسلامي العقيدي والمعرفي . ولهذا السبب نفهم الأسباب التي حملته إلى الدعوة إلى تعميم إستخدام ” علوم التعاليم ” في مضمار علوم الذات العربية ، خصوصاً العمل على إدخالها في بنيات علوم (أو صناعات) لم يسبق لها إن إعتمدت على علوم التعاليم (الرياضيات) .
وكان فيلسوف قرطبة صريحاً في لغته ، وواضحاً كل الوضوح في مسعاه الذي يتطلع إلى إدخال مفصل مهم من مفاصل المعرفيات الفلسفية (حسب التصنيف الكلاسيكي يومذاك) في رحم بنيات علوم لها مكانة خطيرة في علوم الشريعة . وكان الحاصل من ذلك إنه سمح للعقل أن يشتغل داخل هذه البنيات العقيدية ومن خلال علوم التعاليم بالطبع . يقول إبن رشد : ” أما الذي أحوج في هذا التمثيل بصناعة التعاليم (الرياضيات) فهذه صناعة أصول الفقه والفقه نفسه ” (المصدر السابق ، ص27) . حقيقة إنها لحظة إعلان رشدي عن دخول العقل إلى مناطق علوم الشريعة ، ومن ثم العمل بجوارها ، وذلك من أجل تيسير الحياة البشرية ، ورفع كل ما يتعارض بين المثابرة العقلية ورسوم الشريعة .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
إنموذج من المعرفيات والعلوميات في كتاب ” تهافت التهافت “
شكل كتاب ” تهافت التهافت ” تجربة معرفية ” متميزة ومحسوبة في تاريخ الحوار الثقافي الإسلامي الإسلامي (أنظر للإطلاع على التجارب التي تقدمت على إبن رشد؛ محمد جلوب الفرحان : الجدل الثقافي عند العرب / نشرته مجلة دراسات عربية ، بيروت – لبنان 1986 (قبل ربع قرن) وهو جدل دار بين علماء الكلام والفلاسفة ، فعلماء الكلام كانت تقودهم فكرانية أشعرية معادية للفلسفة والفلاسفة ، في حين إن الفلاسفة كانوا رجال فعل ثقافي تطلعوا إلى نشر الفلسفة والمنطق في ديار الثقافة العربية)* . إضافة إلى إنها حملت من الفرادة في النهج الذي إعتمده فيلسوف قرطبة في إدارة الحوار مع الإمام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بالتحديد قبيل أقل من عشر سنوات نشرت الصحف والمجلات المصرية وغير المصرية جدل حول ترقية إستاذ فلسفة في إحدى الجامعات المصرية ، تقدم ببحث له في جوهره إعادة إنتاج الفكرة الأساس (الفكرانية الأشعرية وخصومتها وعدواتها للفلسفة والفلاسفة) لبحثنا الجدل الثقافي عند العرب ، وعرفت من خلال الصحف إن الدكتور حسن حنفي كان طرفاً في إقناع أستاذ الفلسفة المصري على أشبه بالتخلي عن بحثه المشكل . وكان الأستاذ المصري في حالة غضب شديد على حنفي .. وقلب الدنيا يومها … ولكنني لم أسمع من أحد الإشارة وإخبار الأستاذ المصري بأن بحثك هو إعادة إنتاج لبحث نشره الدكتور العراقي محمد جلوب الفرحان في مجلة دراسات عربية اللبنانية في العام 1986 أي قبل نشرة أستاذ الفلسفة المصري بحدود العشرين عاماً . والسؤال هل قرأ الأستاذ المصري بحثنا ؟ وكيف تعامل معه ؟ وهل أشار إليه في مصادره ؟ إنها محنة وإمتحان .. أسجل هذه المسألة للتاريخ وللباحثين عن الحق والحقيقة في تاريخ المنشور الفلسفي العربي في القرن العشرين) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغزالي ، الخصم الفكراني الأشعري العتيد للفلسفة والفلاسفة . ونحسب من النافع الإشارة إلى إن إبن رشد كان ناقداً موضوعياً لمثابرة الغزالي ، وإنه فعلاً مثل الغزالي إعتمد على المنطق . وإذا كان الغزالي قد إعتمد على المنطق لتقويض ما أسماه خطأً الفلسفة المشائية والفلاسفة المشائين (وكان حديث الغزالي يخص على الأقل الفارابي وإبن سينا والتي غلبت على مصادرهم الفلسفية (وهنا نشمل الكندي) بعض من تساعيات إفلوطين التي ترجمت إلى العربية وحملت عنواناً خطأً هو أثولوجيا أرسطو .. أنظر للتفصيل : محمد جلوب الفرحان : كتاب أثولوجيا أرسطو وإشكالية الفلسفة الإسلامية (الأصل والمنحول) / منشور على موقع الفيلسوف / 3 أب 2011) . فإن فيلسوف قرطبة قد إعتمد على المنطق في إدارة الجدل مع الإمام الغزالي (الأشعري) مع الإشارة إلى إن الأمام قد إعتمد الجدل وحجج الشكاك وهي المستوى الهابط من الأنساق المنطقية . في حين إن المنطق برهان وهذا هو المستوى العالي من الأنساق المنطقية وهنا تكمن ضميمة الغزالي في إستخدام منطق الفلاسفة في هدم الفلسفة (إن الغزالي لم يستخدم منطق الفلاسفة وهو البرهان وإنما إستخدم الجدل وهذا ما سيكشفه إبن رشد) . ومن الإنصاف لعدالة النهج العقلاني الرشدي ، أن نشير إلى إن فيلسوف قرطبة قد كشف عن الحق والباطل على صعيد الجبهتين المتخاصمتين ؛ جبهة علماء الكلام وخاصة ممثلهم الإمام الغزالي ، وجبهة الفلاسفة عامة ، وفي عينة الفلسفة السينوية خاصة ، والتي إنطلق منها الغزالي في بيان تهافت الفلاسفة .
إن كتاب تهافت التهافت ، هو مشروع ثقافي رشدي كبير ، بل هو من المشروعات الفلسفية والمعرفية الكبيرة التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية . ولكونه مشروعاً فقد حمل في داخله على إفادات رشدية عن المعرفيات والعلوميات ، والتي من طرفها قد غذت الموقف المعرفي والمنهج الرشدي بطاقات مكنته من قيادة الحوار لصالح الخيار والنهج العقلاني الذي أرسى أسسه ، ووضع تطبيقات له خلال فحص القضايا التي دار حولها الخلاف والجدل بين الإمام الغزالي والفلاسفة ، وبطريقة النقد والتقويم وإعادة تركيب القضية الفلسفية ، ومن خلال العودة إلى المرجعيات الفلسفية التي نقل منها إبن سينا مثلاً ، وبالمقابل فحص القضية التي صارع فيها الغزالي الفلاسفة وبيان حجم الحق والباطل .
حقيقة إن مشروع النقد والتقويم الرشدي كشف بموضوعية بإن قراءات الفلاسفة من طرف وقراءات الغزالي من طرف ، فيها مسافة إبتعدت فيها القراءة الغزالية وقراءة الفلاسفة عن روح النص الفلسفي في إصوله الحقيقية . ولعل السبب يعود إلى إن الطرفين إعتمد على مصادر غير أصيلة فيها الكثير الكثير من الإنتحال والتلفيق . فقد أخطأ الإمام الغزالي في تقويضه لما أسماه ” الفلسفة المشائية والفلاسفة المشائين “.
ومن طرفهم الفلاسفة فقد توهموا خطأً إن ” كتاب أثولوجيا ” هو واحد من كتب المعلم الأول . وعلى أساس هذا الإعتقاد الخاطئ ، نهضت مشروعات الفلاسفة على ” التوفيق بين الفيلسوفيين الحكيمين ؛ إفلاطون وأرسطو ” (أنظر مثلاً على هذه الإغلوطة الفلسفية كتاب الفارابي المعنون ” الجمع بين رأي الحكيمين “) ومشروعات فلاسفة المشرق النازعة بروح إفلاطونية محدثة ، وليست مشائية كما زعم الغزالي ، إلى التوفيق بين العقل والشرع ، وقضايا أخرى ..
كل هذه الإفادات المعرفية والعلمية كانت حاضرة أمام فيلسوف قرطبة . إضافة إلى مصادر أصيلة وليست منتحلة عن فلسفة المعلم الأول . فكان لها من الأثر في تمكين فيلسوف قرطبة من معرفة حجم الحق والباطل في كل من جبهة الفلاسفة وجبهة المتكلمين ممثلاً في الإمام الغزالي . هذا طرف ومن طرف أخر تمكينه من صياغة ما يمكن الإصطلاح عليه بفلسفة المنهج العقلاني عند إبن رشد . وإنطلاقاً من هذه المكانة التي تحتلها الإفادات المعرفية والعلومية في المنهج الرشدي ، وتكوين إطاره الفلسفي وشبكة مفاهيمه ، نثير الأسئلة الآتية :
ما حجم حضور المعرفيات والعلوم في الإفادات التي كتبها إبن رشد ؟ وما هي المواقف الرشدية من بعض العلوم ( والتي شكلت ما يمكن الإصطلاح عليه بالعلوم الممكنة) ؟ وما هي المواقف الرشدية من علوم أخرى (والتي كونت مضماراً يمكن الإصطلاح عليه بمضمار العلوم الباطلة) ؟
إن قارئ كتاب تهافت التهافت ، يلحظ إن هذا الكتاب إحتوى على إفادات كثيرة ، دارت أغلب محتوياتها حول المعرفة والعلوم . إلا إن تبعثر هذه الإفادات ، ومن ثم النظر إليها بصورة تجزيئية ، تحمل القارئ على التعجل ، والقول بإن هذه الإفادات لا تقدم وصفاً شاملاً كلياً لحقيقة الموقف الرشدي من المعرفيات والعلوم . غير إن عملية الحفر والتنقيب خلف الإفادات ، ومن ثم تركيزها في إطار فهم كلي ، حيث تضعنا أمام موقف رشدي عام جامع من العلوم والمعرفيات . وهذا الأمر سنقوم ببحثه وإنجازه في هذا الطرف من البحث . وبالصورة الآتية :
شكل كتاب ” تهافت التهافت ” تجربة معرفية ” متميزة ومحسوبة في تاريخ الحوار الثقافي الإسلامي الإسلامي (أنظر للإطلاع على التجارب التي تقدمت على إبن رشد؛ محمد جلوب الفرحان : الجدل الثقافي عند العرب / نشرته مجلة دراسات عربية ، بيروت – لبنان 1986 (قبل ربع قرن) وهو جدل دار بين علماء الكلام والفلاسفة ، فعلماء الكلام كانت تقودهم فكرانية أشعرية معادية للفلسفة والفلاسفة ، في حين إن الفلاسفة كانوا رجال فعل ثقافي تطلعوا إلى نشر الفلسفة والمنطق في ديار الثقافة العربية)* . إضافة إلى إنها حملت من الفرادة في النهج الذي إعتمده فيلسوف قرطبة في إدارة الحوار مع الإمام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بالتحديد قبيل أقل من عشر سنوات نشرت الصحف والمجلات المصرية وغير المصرية جدل حول ترقية إستاذ فلسفة في إحدى الجامعات المصرية ، تقدم ببحث له في جوهره إعادة إنتاج الفكرة الأساس (الفكرانية الأشعرية وخصومتها وعدواتها للفلسفة والفلاسفة) لبحثنا الجدل الثقافي عند العرب ، وعرفت من خلال الصحف إن الدكتور حسن حنفي كان طرفاً في إقناع أستاذ الفلسفة المصري على أشبه بالتخلي عن بحثه المشكل . وكان الأستاذ المصري في حالة غضب شديد على حنفي .. وقلب الدنيا يومها … ولكنني لم أسمع من أحد الإشارة وإخبار الأستاذ المصري بأن بحثك هو إعادة إنتاج لبحث نشره الدكتور العراقي محمد جلوب الفرحان في مجلة دراسات عربية اللبنانية في العام 1986 أي قبل نشرة أستاذ الفلسفة المصري بحدود العشرين عاماً . والسؤال هل قرأ الأستاذ المصري بحثنا ؟ وكيف تعامل معه ؟ وهل أشار إليه في مصادره ؟ إنها محنة وإمتحان .. أسجل هذه المسألة للتاريخ وللباحثين عن الحق والحقيقة في تاريخ المنشور الفلسفي العربي في القرن العشرين) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغزالي ، الخصم الفكراني الأشعري العتيد للفلسفة والفلاسفة . ونحسب من النافع الإشارة إلى إن إبن رشد كان ناقداً موضوعياً لمثابرة الغزالي ، وإنه فعلاً مثل الغزالي إعتمد على المنطق . وإذا كان الغزالي قد إعتمد على المنطق لتقويض ما أسماه خطأً الفلسفة المشائية والفلاسفة المشائين (وكان حديث الغزالي يخص على الأقل الفارابي وإبن سينا والتي غلبت على مصادرهم الفلسفية (وهنا نشمل الكندي) بعض من تساعيات إفلوطين التي ترجمت إلى العربية وحملت عنواناً خطأً هو أثولوجيا أرسطو .. أنظر للتفصيل : محمد جلوب الفرحان : كتاب أثولوجيا أرسطو وإشكالية الفلسفة الإسلامية (الأصل والمنحول) / منشور على موقع الفيلسوف / 3 أب 2011) . فإن فيلسوف قرطبة قد إعتمد على المنطق في إدارة الجدل مع الإمام الغزالي (الأشعري) مع الإشارة إلى إن الأمام قد إعتمد الجدل وحجج الشكاك وهي المستوى الهابط من الأنساق المنطقية . في حين إن المنطق برهان وهذا هو المستوى العالي من الأنساق المنطقية وهنا تكمن ضميمة الغزالي في إستخدام منطق الفلاسفة في هدم الفلسفة (إن الغزالي لم يستخدم منطق الفلاسفة وهو البرهان وإنما إستخدم الجدل وهذا ما سيكشفه إبن رشد) . ومن الإنصاف لعدالة النهج العقلاني الرشدي ، أن نشير إلى إن فيلسوف قرطبة قد كشف عن الحق والباطل على صعيد الجبهتين المتخاصمتين ؛ جبهة علماء الكلام وخاصة ممثلهم الإمام الغزالي ، وجبهة الفلاسفة عامة ، وفي عينة الفلسفة السينوية خاصة ، والتي إنطلق منها الغزالي في بيان تهافت الفلاسفة .
إن كتاب تهافت التهافت ، هو مشروع ثقافي رشدي كبير ، بل هو من المشروعات الفلسفية والمعرفية الكبيرة التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية . ولكونه مشروعاً فقد حمل في داخله على إفادات رشدية عن المعرفيات والعلوميات ، والتي من طرفها قد غذت الموقف المعرفي والمنهج الرشدي بطاقات مكنته من قيادة الحوار لصالح الخيار والنهج العقلاني الذي أرسى أسسه ، ووضع تطبيقات له خلال فحص القضايا التي دار حولها الخلاف والجدل بين الإمام الغزالي والفلاسفة ، وبطريقة النقد والتقويم وإعادة تركيب القضية الفلسفية ، ومن خلال العودة إلى المرجعيات الفلسفية التي نقل منها إبن سينا مثلاً ، وبالمقابل فحص القضية التي صارع فيها الغزالي الفلاسفة وبيان حجم الحق والباطل .
حقيقة إن مشروع النقد والتقويم الرشدي كشف بموضوعية بإن قراءات الفلاسفة من طرف وقراءات الغزالي من طرف ، فيها مسافة إبتعدت فيها القراءة الغزالية وقراءة الفلاسفة عن روح النص الفلسفي في إصوله الحقيقية . ولعل السبب يعود إلى إن الطرفين إعتمد على مصادر غير أصيلة فيها الكثير الكثير من الإنتحال والتلفيق . فقد أخطأ الإمام الغزالي في تقويضه لما أسماه ” الفلسفة المشائية والفلاسفة المشائين “.
ومن طرفهم الفلاسفة فقد توهموا خطأً إن ” كتاب أثولوجيا ” هو واحد من كتب المعلم الأول . وعلى أساس هذا الإعتقاد الخاطئ ، نهضت مشروعات الفلاسفة على ” التوفيق بين الفيلسوفيين الحكيمين ؛ إفلاطون وأرسطو ” (أنظر مثلاً على هذه الإغلوطة الفلسفية كتاب الفارابي المعنون ” الجمع بين رأي الحكيمين “) ومشروعات فلاسفة المشرق النازعة بروح إفلاطونية محدثة ، وليست مشائية كما زعم الغزالي ، إلى التوفيق بين العقل والشرع ، وقضايا أخرى ..
كل هذه الإفادات المعرفية والعلمية كانت حاضرة أمام فيلسوف قرطبة . إضافة إلى مصادر أصيلة وليست منتحلة عن فلسفة المعلم الأول . فكان لها من الأثر في تمكين فيلسوف قرطبة من معرفة حجم الحق والباطل في كل من جبهة الفلاسفة وجبهة المتكلمين ممثلاً في الإمام الغزالي . هذا طرف ومن طرف أخر تمكينه من صياغة ما يمكن الإصطلاح عليه بفلسفة المنهج العقلاني عند إبن رشد . وإنطلاقاً من هذه المكانة التي تحتلها الإفادات المعرفية والعلومية في المنهج الرشدي ، وتكوين إطاره الفلسفي وشبكة مفاهيمه ، نثير الأسئلة الآتية :
ما حجم حضور المعرفيات والعلوم في الإفادات التي كتبها إبن رشد ؟ وما هي المواقف الرشدية من بعض العلوم ( والتي شكلت ما يمكن الإصطلاح عليه بالعلوم الممكنة) ؟ وما هي المواقف الرشدية من علوم أخرى (والتي كونت مضماراً يمكن الإصطلاح عليه بمضمار العلوم الباطلة) ؟
إن قارئ كتاب تهافت التهافت ، يلحظ إن هذا الكتاب إحتوى على إفادات كثيرة ، دارت أغلب محتوياتها حول المعرفة والعلوم . إلا إن تبعثر هذه الإفادات ، ومن ثم النظر إليها بصورة تجزيئية ، تحمل القارئ على التعجل ، والقول بإن هذه الإفادات لا تقدم وصفاً شاملاً كلياً لحقيقة الموقف الرشدي من المعرفيات والعلوم . غير إن عملية الحفر والتنقيب خلف الإفادات ، ومن ثم تركيزها في إطار فهم كلي ، حيث تضعنا أمام موقف رشدي عام جامع من العلوم والمعرفيات . وهذا الأمر سنقوم ببحثه وإنجازه في هذا الطرف من البحث . وبالصورة الآتية :
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
حضور العلوم والمعرفيات في المبنى الفلسفي الرشدي
لعب التقليد الفلسفي في تصنيف العلوم والمعرفيات ، والذي كان متداولاً في البيئة الثقافية والتعليمية التي نشأ فيها فيلسوف قرطبة ، دوراً مؤثراً في تكوين ذهنيته العلمية ، وتشكيل مواقفه من بعض العلوم ترجيحاً وتحفظاً . كما إن بعض صور هذا التقليد قد ظهر لها صدى وأثاراً في الإفادات التي كتبها قلمه . وعلى سبيل المثال ، نلحظ إن فيلسوف قرطبة يشير إلى التقسيم الكلاسيكي المتداول قبله ، وهو تقسيم ” العلوم ” أو ” الصنائع ” إلى ” علوم نظرية ” (إبن رشد ؛ تهافت التهافت ، تحقيق سليمان دنيا ، ط2 ، القاهرة بلاتاريخ / القسم الأول ، ص345) ، و ” صنائع عملية ” وذلك أثناء حديثه عن أقاويل الفلاسفة في ” الصنائع البرهانية ” (المصدر السابق / القسم الثاني ، ص 648) . وكذلك سجل هذا التقليد حضوراً في الإفادات الرشدية ، وذلك عندما بحث فيلسوف قرطبة في الفضائل الخلقية للإنسان ، والتي هي على أساس هذا التقليد : ” فضائل نظرية ” و ” صنائع عملية ” (المصدر السابق ، ص 865) .
ويلاحظ الباحث في نصوص إبن رشد ، إن هذا التقليد ظهر له صدى قوي في الإفادات التي كتبها حول العلوم والمعرفيات . فمثلاً إنه إستسلم للتقسيم الثلاثي للعلوم النظرية . فذكر ” علوم التعاليم ” ، و ” العلوم الإلهية ” ، وبعدها جاءت ” الطبيعيات ” . ونرى إن هذا التقسيم قد غيب ” علم المنطق ” . والحقيقة إن هذا التغييب لعلم المنطق له أسبابه الرشدية . ففيلسوف قرطبة يتابع التقليد الأرسطي ، الذي ينظر إلى المنطق على إنه ليس هو جزء من العلوم الفلسفية ، وإنما هو ” أورغانون ” أو ” أداة ” و ” ألة الفلسفة ” .
بعد هذا نفضل العودة إلى الإفادات الرشدية ، وننتخب منها شواهداً دالة على حضور التصنيف التقليدي للعلوم والمعرفيات ، وكيف إن عقلية إبن رشد المنتجة ، وظفت كل ذلك في إتجاه تنمية النهج العقلاني داخل المباني الفلسفية للعلوم . وبالتحديد من خلال إدخال المنطق (نظرية البرهان) ليس في مباني علم التعاليم وحسب ، بل وشمل العلوم الإلهية ، وهناك إمكانيات رشدية ليضم علوم الطبيعيات . ففي إفادة رشدية بالغة الأهمية تكلم فيلسوف قرطبة عن ” علوم التعاليم ” ، وأكد بأن هذا العلم لا يتحصل ” إلا بطريق البرهان ” ، ومن ثم أشار إلى عينة جزئية من علم التعاليم ، فيها تطبيق لطريق البرهان في مضمار ما أسماه ” الأمور الهندسية ” ، ومن ثم في عينة شاملة طوت ” علوم التعاليم ” برمتها (المصدرالسابق / القسم الأول ، ص 346) . ومن ثم نظر في ” العلوم الإلهية ” من زاوية البرهان . ووجدناه يتمنى أن تتداول العلوم الإلهية البرهان في عرض مبانيها (المصدر السابق) . ومن ثم جاء كلامه عن ” الطبيعيات ” (المصدر السابق / القسم الثاني ، ص 765 وما بعد) .
لعب التقليد الفلسفي في تصنيف العلوم والمعرفيات ، والذي كان متداولاً في البيئة الثقافية والتعليمية التي نشأ فيها فيلسوف قرطبة ، دوراً مؤثراً في تكوين ذهنيته العلمية ، وتشكيل مواقفه من بعض العلوم ترجيحاً وتحفظاً . كما إن بعض صور هذا التقليد قد ظهر لها صدى وأثاراً في الإفادات التي كتبها قلمه . وعلى سبيل المثال ، نلحظ إن فيلسوف قرطبة يشير إلى التقسيم الكلاسيكي المتداول قبله ، وهو تقسيم ” العلوم ” أو ” الصنائع ” إلى ” علوم نظرية ” (إبن رشد ؛ تهافت التهافت ، تحقيق سليمان دنيا ، ط2 ، القاهرة بلاتاريخ / القسم الأول ، ص345) ، و ” صنائع عملية ” وذلك أثناء حديثه عن أقاويل الفلاسفة في ” الصنائع البرهانية ” (المصدر السابق / القسم الثاني ، ص 648) . وكذلك سجل هذا التقليد حضوراً في الإفادات الرشدية ، وذلك عندما بحث فيلسوف قرطبة في الفضائل الخلقية للإنسان ، والتي هي على أساس هذا التقليد : ” فضائل نظرية ” و ” صنائع عملية ” (المصدر السابق ، ص 865) .
ويلاحظ الباحث في نصوص إبن رشد ، إن هذا التقليد ظهر له صدى قوي في الإفادات التي كتبها حول العلوم والمعرفيات . فمثلاً إنه إستسلم للتقسيم الثلاثي للعلوم النظرية . فذكر ” علوم التعاليم ” ، و ” العلوم الإلهية ” ، وبعدها جاءت ” الطبيعيات ” . ونرى إن هذا التقسيم قد غيب ” علم المنطق ” . والحقيقة إن هذا التغييب لعلم المنطق له أسبابه الرشدية . ففيلسوف قرطبة يتابع التقليد الأرسطي ، الذي ينظر إلى المنطق على إنه ليس هو جزء من العلوم الفلسفية ، وإنما هو ” أورغانون ” أو ” أداة ” و ” ألة الفلسفة ” .
بعد هذا نفضل العودة إلى الإفادات الرشدية ، وننتخب منها شواهداً دالة على حضور التصنيف التقليدي للعلوم والمعرفيات ، وكيف إن عقلية إبن رشد المنتجة ، وظفت كل ذلك في إتجاه تنمية النهج العقلاني داخل المباني الفلسفية للعلوم . وبالتحديد من خلال إدخال المنطق (نظرية البرهان) ليس في مباني علم التعاليم وحسب ، بل وشمل العلوم الإلهية ، وهناك إمكانيات رشدية ليضم علوم الطبيعيات . ففي إفادة رشدية بالغة الأهمية تكلم فيلسوف قرطبة عن ” علوم التعاليم ” ، وأكد بأن هذا العلم لا يتحصل ” إلا بطريق البرهان ” ، ومن ثم أشار إلى عينة جزئية من علم التعاليم ، فيها تطبيق لطريق البرهان في مضمار ما أسماه ” الأمور الهندسية ” ، ومن ثم في عينة شاملة طوت ” علوم التعاليم ” برمتها (المصدرالسابق / القسم الأول ، ص 346) . ومن ثم نظر في ” العلوم الإلهية ” من زاوية البرهان . ووجدناه يتمنى أن تتداول العلوم الإلهية البرهان في عرض مبانيها (المصدر السابق) . ومن ثم جاء كلامه عن ” الطبيعيات ” (المصدر السابق / القسم الثاني ، ص 765 وما بعد) .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
بحث في صياغة مفهوم العلم وبناء أساس للمعرفيات
تتوافر لقارئ كتاب تهافت التهافت ، مجموعة من الإفادات فيها إمكانيات لإستنباط مفهوم رشدي للعلم . فمثلاً إن الفيلسوف قد ميز بين حقيقتين : الأولى تخص موضوع العلم . والثانية تتعلق بالعلم ذاته . ولاحظ إن هناك فارقاً بين المضمارين . فموضوع العلم شئ مختلف ، وذلك من طرف إنه ” المعلوم في المادة ” . في حين إن العلم مبنى مختلف عن الموضوع . وذلك من حيث إن ” العلم ليس في المادة ” (المصدر السابق / القسم الأول ، ص 311) .
بعد هذا التفريق الرشدي بين العلم كمبنى وموضوعه كميدان ، تقدم بضبط لمفهوم ” العلم الكلي ” و ” العلم الجزئي ” . فمثلاً مفهوم العلم الجزئي ينهض على أساس إنه علم ” بالأشخاص ” أي علم المرئي والمملوس . وإن طريق إكتسابه بالفهم الرشدي يكون عن طريق ” الحس والخيال ” . أما العلم الكلي فإن مبناه المفهومي يقوم على طريق مغاير للعلم الجزئي ، فهو أولاً العلم ” بالكليات ” وينظر إليه على إنه ” عقل ” (المصدر السابق / القسم الثاني ، ص 701) .
ونحسب في هذا الضبط الرشدي إشارة إلى موضوعه ومنهجه المعرفي . فهو من ناحية الموضوع يبحث في الأمور الكلية التي هي مجردات . وإن منهجه الدال على ذلك هو ” العقل ” الذي يتعامل مع المفاهيم والمقولات الكلية (والتي هي بالتأكيد أطر عقلية خالصة) . ولعل الشاهد على ذلك الإفادة الرشدية التي تعرف ” العلم الكلي ” بأنه علم ” للمعنى الكلي ” وهو ” علم للجزئيات بنحو كلي ، يفعله الذهن في الجزئيات ” . ولم يكتف فيلسوف قرطبة بذلك ، وإنما قدم شرحاً وتفاصيلاً تكشف عن الفعل الذي يقوم به العقل في تكوين العلم الكلي . وبالتحديد أثناء عملية التجريد ، وتكوين المفهوم الكلي لمشترك . إن ذلك جاء في الإفادة الرشدية القائلة : إن ذلك يحدث عندما يقوم العقل بتجريد ” الطبيعة الواحدة المشتركة التي إنقسمت في المواد ” ومن ثم يصور لنا العلاقة بين المفهوم كإطار عقلي ، والشئ كموضوع لعملية التأمل ، فيذهب إلى إن الكلي ” ليست طبيعته طبيعة الأشياء التي هو لها كلي ” (المصدر السابق / القسم الأول ، ص 204) .
إنتقل فيلسوف قرطبة بعد ذلك ، ليقدم لنا تصويراً معرفياً للأساس الذي تنهض عليه العلوم والمعرفيات . فقارئ إفادات إبن رشد ، يرى الفيلسوف قد إعتمد على موضوع المعرفة ، وعلى الطريق الذي ننتخبه في إكتسابها . فعلاً لقد إعتمد عليهما سبيلاً في تكوين قاعدة الإنشاء لمباني العلوم والمعرفيات . والشاهد على ذلك الإفادة الرشدية التي ميزت بين نوعين من الوجود : ” وجود محسوس ووجود معقول ” (المصدر السابق / القسم الأول ، ص 356) .
إذن هناك أمام الذات العارفة موضوع واحد ، وهناك سبيلين لتكوين المعرفة ؛ سبيل الحس وطريق العقل . والأول يساعدنا على تكوين نوع من المعرفة ، يمكن الإصطلاح عليها بالمعرفة الحسية . والثاني نشاط عقلي خالص ، يسهم في إنتاج شكل من المعرفة ، يمكن تسميتها بالمعرفة العقلية . والواقع إن إفادات فيلسوف قرطبة تشعرنا بيقين عال على إن الرجل قد رجح المعرفة العقلية على حساب المعرفة الحسية . ولكن حال إبن رشد حال فيلسوف إسطاغيرا إعتمد على العقل في إنشاء المعرفة وإن كان المثير للمعرفة حسياً . ولعل الإفادة الرشدية جاءت مؤيدة لذلك ، فأشارت : إن ” نسبة الوجود المحسوس من الوجود المعقول ، هي نسبة المصنوعات من علم الصانع ” (المصدر السابق ، ص ص 306 – 307) .
وترجيحاً للأساس المعرفي العقلي في إنشاء مباني العلوم والمعرفيات ، أجرى فيلسوف قرطبة في إفاداته ، مناقشة حول طبيعة ما أسماه بالعقول المفارقة ، وطبيعة العقل الإنساني . أي بمعنى أخر إن المناقشة جرت حول طبيعة العقل على صعيد جبهتين ؛ جبهة العقل المتعالي ، وجبهة عقل المثابرة الإنسانية . وكانت غاية إبن رشد ، هو بيان فعل الشراكة في إطار عمل العقلين . وبالتحديد على صعيد جهاز المفاهيم ، التي تمثل في بنيتها أطر عقلية لصور الموجودات . وهذا الفهم الرشدي يتضمن إن لغة الخطاب المعرفي العقلي ، هي مجموعة من القوالب أو المقولات العقلية . إن الإفادة الرشدية جاءت واضحة ، فهي من طرف بينت تفرد العقل المتعالي ، وذلك لكونه ” أشرف من العقل الإنساني ” . ولكونهما من طرف أخر يشتركان في تداول ” المعقولات ” مفردات للخطاب العقلي . ولذلك أفصح إبن رشد بصراحة : إن العقول المفارقة ” تشترك مع العقل الإنساني في إن معقولاتها هي صور الموجودات ” (المصدر السابق ، ص 307) .
ولاحظ الباحث إن فيلسوف قرطبة قد إحتج بعلم النفس لتقوية نزعته المتطلعة إلى إرساء الأساس العقلي للمعرفيات والعلوم . ويأتي دلك من الزاوية الرشدية ، من حيث إن علم النفس يدقق في طرق إكتساب المعرفة ، والسبل التي تعتمدها القوى الحسية ، والطرق التي ترجحها القوى العقلية . وإنتهى إلى إن القوى العقلية ” أشرف ” من القوى الحسية (الباصرة) . مما ترتب على ذلك الإستنتاج القائل ؛ إن المعرفة المتولدة من القوى العقلية ، هي بالطبع أشرف في رتبتها من المعرفة المتكونة من القوى الباصرة (الحسية) . وفي إفادة رشدية وجيزة ، أفصح فيلسوف قرطبة عن كل ذلك بقوله : فقد ” تبين … في علم النفس إن للون وجوداً … في القوى الخيالية ، وإنه أشرف من وجوده في القوة الباصرة ” (المصدر السابق) .
تتوافر لقارئ كتاب تهافت التهافت ، مجموعة من الإفادات فيها إمكانيات لإستنباط مفهوم رشدي للعلم . فمثلاً إن الفيلسوف قد ميز بين حقيقتين : الأولى تخص موضوع العلم . والثانية تتعلق بالعلم ذاته . ولاحظ إن هناك فارقاً بين المضمارين . فموضوع العلم شئ مختلف ، وذلك من طرف إنه ” المعلوم في المادة ” . في حين إن العلم مبنى مختلف عن الموضوع . وذلك من حيث إن ” العلم ليس في المادة ” (المصدر السابق / القسم الأول ، ص 311) .
بعد هذا التفريق الرشدي بين العلم كمبنى وموضوعه كميدان ، تقدم بضبط لمفهوم ” العلم الكلي ” و ” العلم الجزئي ” . فمثلاً مفهوم العلم الجزئي ينهض على أساس إنه علم ” بالأشخاص ” أي علم المرئي والمملوس . وإن طريق إكتسابه بالفهم الرشدي يكون عن طريق ” الحس والخيال ” . أما العلم الكلي فإن مبناه المفهومي يقوم على طريق مغاير للعلم الجزئي ، فهو أولاً العلم ” بالكليات ” وينظر إليه على إنه ” عقل ” (المصدر السابق / القسم الثاني ، ص 701) .
ونحسب في هذا الضبط الرشدي إشارة إلى موضوعه ومنهجه المعرفي . فهو من ناحية الموضوع يبحث في الأمور الكلية التي هي مجردات . وإن منهجه الدال على ذلك هو ” العقل ” الذي يتعامل مع المفاهيم والمقولات الكلية (والتي هي بالتأكيد أطر عقلية خالصة) . ولعل الشاهد على ذلك الإفادة الرشدية التي تعرف ” العلم الكلي ” بأنه علم ” للمعنى الكلي ” وهو ” علم للجزئيات بنحو كلي ، يفعله الذهن في الجزئيات ” . ولم يكتف فيلسوف قرطبة بذلك ، وإنما قدم شرحاً وتفاصيلاً تكشف عن الفعل الذي يقوم به العقل في تكوين العلم الكلي . وبالتحديد أثناء عملية التجريد ، وتكوين المفهوم الكلي لمشترك . إن ذلك جاء في الإفادة الرشدية القائلة : إن ذلك يحدث عندما يقوم العقل بتجريد ” الطبيعة الواحدة المشتركة التي إنقسمت في المواد ” ومن ثم يصور لنا العلاقة بين المفهوم كإطار عقلي ، والشئ كموضوع لعملية التأمل ، فيذهب إلى إن الكلي ” ليست طبيعته طبيعة الأشياء التي هو لها كلي ” (المصدر السابق / القسم الأول ، ص 204) .
إنتقل فيلسوف قرطبة بعد ذلك ، ليقدم لنا تصويراً معرفياً للأساس الذي تنهض عليه العلوم والمعرفيات . فقارئ إفادات إبن رشد ، يرى الفيلسوف قد إعتمد على موضوع المعرفة ، وعلى الطريق الذي ننتخبه في إكتسابها . فعلاً لقد إعتمد عليهما سبيلاً في تكوين قاعدة الإنشاء لمباني العلوم والمعرفيات . والشاهد على ذلك الإفادة الرشدية التي ميزت بين نوعين من الوجود : ” وجود محسوس ووجود معقول ” (المصدر السابق / القسم الأول ، ص 356) .
إذن هناك أمام الذات العارفة موضوع واحد ، وهناك سبيلين لتكوين المعرفة ؛ سبيل الحس وطريق العقل . والأول يساعدنا على تكوين نوع من المعرفة ، يمكن الإصطلاح عليها بالمعرفة الحسية . والثاني نشاط عقلي خالص ، يسهم في إنتاج شكل من المعرفة ، يمكن تسميتها بالمعرفة العقلية . والواقع إن إفادات فيلسوف قرطبة تشعرنا بيقين عال على إن الرجل قد رجح المعرفة العقلية على حساب المعرفة الحسية . ولكن حال إبن رشد حال فيلسوف إسطاغيرا إعتمد على العقل في إنشاء المعرفة وإن كان المثير للمعرفة حسياً . ولعل الإفادة الرشدية جاءت مؤيدة لذلك ، فأشارت : إن ” نسبة الوجود المحسوس من الوجود المعقول ، هي نسبة المصنوعات من علم الصانع ” (المصدر السابق ، ص ص 306 – 307) .
وترجيحاً للأساس المعرفي العقلي في إنشاء مباني العلوم والمعرفيات ، أجرى فيلسوف قرطبة في إفاداته ، مناقشة حول طبيعة ما أسماه بالعقول المفارقة ، وطبيعة العقل الإنساني . أي بمعنى أخر إن المناقشة جرت حول طبيعة العقل على صعيد جبهتين ؛ جبهة العقل المتعالي ، وجبهة عقل المثابرة الإنسانية . وكانت غاية إبن رشد ، هو بيان فعل الشراكة في إطار عمل العقلين . وبالتحديد على صعيد جهاز المفاهيم ، التي تمثل في بنيتها أطر عقلية لصور الموجودات . وهذا الفهم الرشدي يتضمن إن لغة الخطاب المعرفي العقلي ، هي مجموعة من القوالب أو المقولات العقلية . إن الإفادة الرشدية جاءت واضحة ، فهي من طرف بينت تفرد العقل المتعالي ، وذلك لكونه ” أشرف من العقل الإنساني ” . ولكونهما من طرف أخر يشتركان في تداول ” المعقولات ” مفردات للخطاب العقلي . ولذلك أفصح إبن رشد بصراحة : إن العقول المفارقة ” تشترك مع العقل الإنساني في إن معقولاتها هي صور الموجودات ” (المصدر السابق ، ص 307) .
ولاحظ الباحث إن فيلسوف قرطبة قد إحتج بعلم النفس لتقوية نزعته المتطلعة إلى إرساء الأساس العقلي للمعرفيات والعلوم . ويأتي دلك من الزاوية الرشدية ، من حيث إن علم النفس يدقق في طرق إكتساب المعرفة ، والسبل التي تعتمدها القوى الحسية ، والطرق التي ترجحها القوى العقلية . وإنتهى إلى إن القوى العقلية ” أشرف ” من القوى الحسية (الباصرة) . مما ترتب على ذلك الإستنتاج القائل ؛ إن المعرفة المتولدة من القوى العقلية ، هي بالطبع أشرف في رتبتها من المعرفة المتكونة من القوى الباصرة (الحسية) . وفي إفادة رشدية وجيزة ، أفصح فيلسوف قرطبة عن كل ذلك بقوله : فقد ” تبين … في علم النفس إن للون وجوداً … في القوى الخيالية ، وإنه أشرف من وجوده في القوة الباصرة ” (المصدر السابق) .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
العلوم والمعرفيات وفعل المثابرة العقلانية في العلم الإلهي
في البدء أسئلة : ما طبيعة المثابرة العقلانية التي أنجزها إبن رشد حول ماهية العلم الإلهي ؟ وهل كانت فعلاً عقلانية على طول خط النقاش ؟ أم إنها توقفت في أجواء النقاش ، ولاذت في النقاط الحاسمة تحت حماية الفكراني العقيدي (وبذلك جسد فيلسوف قرطبة في مثابرته العقلانية إشتراطات عقل متنور ، يتحرك على أرضية محكومة بالعقيدي) ؟ حقيقة إن دخول إبن رشد إلى مناطق العلم الإلهي ، ودعوته إلى ضرورة الإعتماد على المنطق (ومن قبل ذلك على علوم التعاليم والتي هي بالمنظور الأرسطي تطبيقات منطقية في مضمار الرياضيات)* . وبالتحديد على البرهان الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الأثر المنطقي لأرسطو على هندسة إقليدس / مجلة آداب الرافدين / تصدرها كلية الآداب – جامعة الموصل 1978 ، ص ص 117 – 150 / وهي مجلة أكاديمية محكمة / وهو بحث رائد في الدراسات المنطقية (وفلسفة الرياضيات والمنطق الرياضي) وكان المحكم العلمي لنشر هذا البحث الفيلسوف الدكتور ياسين خليل طيب الله ثراه ، والذي كان مشرفاً على رسالة الماجستير التي أنجزها الباحث محمد جلوب الفرحان عام 1976 والتي كانت بعنوان ” تحليل أرسطو للعلم البرهاني (والتي نشرتها وزارة الثقافة والإعلام العراقية تحت العنوان ذاته في العام 1983) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتمتع بيقينية عالية في عرض قضاياها . له من الدلالات الواضحة على مكانة المنهج العقلاني الذي قاده فيلسوف قرطبة ، سواء في بناء المعرفة أو في فحص أسس العلوم
، وفي المواقف التي إتخذها من المسائل التي تنازع حولها المتكلمون والفلاسفة .
لقد كتب إبن رشد مقدمة في كتابه تهافت التهافت ، عن العلوم الإلهية ، كشف فيها عن التحولات التي تعرض لها العلم الإلهي ، خصوصاً في حياة الجمهور ، والتي إصطلح عليها ” بالأقوال الشنيعة ” ، وهي تشبه في بعض الأحيان ” الأحلام ” .
ولهذا لاحظ إنه بسبب تعطيل المنطق والبرهان على وجه الخصوص من العمل في مناطق علوم الإلهيات ، إن تقوت سلطة هذه الأقوال ، وتكرست معرفيات الأحلام . ولذلك دعا إلى رفع وإزالة مما أسماه بتلك ” الشنعة ” من التفكير . وبالإستناد إلى منهجه العقلاني الذي يلامس بدرجات ما الواقع . ولذلك إعتقد بأن الخطوة الأولى ، هو تكوين ما أسماه ” مقدمات محمودة ” تطرح نفسها بديلاً عن ” تلك الشناعات ” . وكم نبه فيلسوف قرطبة إلى ضرورة ” التروي ” و ” طول زمان ” وهي من شروط المنهج العقلاني النازع إلى ” بيان ما هو حق ، وما هو باطل ” والذي يحسب إن الإمام الغزالي قد وظفه ” للتشويش على الفلسفة والفلاسفة ” .
وإنطلاقاً من موضوع معرفيات الأحلام ، بين فيلسوف قرطبة درجات الفارق بينها وبين العلم الإلهي . وعلى أساس الفارق رسم حدود مضمار مستقل للعلم الإلهي . وهنا نحسب من اللازم القول بحق النهج العقلاني الذي إختاره إبن رشد ، بأنه نهج تميز بلغة الحياد والنظرة الموضوعية التي تحتكم إلى المنطق والحق في الفصل بين ما ذهب إليه أصحابه من الفلاسفة ، وبين النقد الذي وجهه الأمام الغزالي . ولذلك وجدناه في عبارات التقويم والمواقف المصاحبة معها يقف بجوار الغزالي ، ويتحرك معه على الشاطئ المقابل لشاطئ الفلاسفة .
ولهذا نظر إلى العلم الإلهي من زاوية المنطق وبلغة إبن رشد المنطق البرهاني . ورأى إن حضور البرهان في مبانيه ، أبعده من الشراكة مع علوم الرأي ، وفي الوقت ذاته فتح له أبواب الصعود إلى طوابق اليقينية العالية . ولذلك دقق في الفارق بين علوم الرأي والعلم الإلهي . وذهب معقباً : ” وإذا كان هذا موجوداً (أي البرهان) في غير العلوم الإلهية ، فهذا المعنى في العلوم الإلهية أحرى أن يكون موجوداً لبعد هذه العلوم عن العلوم التي في بادئ الرأي . وإذا كان هذا هكذا فينبغي أن يعلم إنه ليس يمكن أن يقع في هذا الجنس مخاطبة جدلية مثل ما وقعت في سائر المسائل ” (إبن رشد ؛ تهافت التهافت ، تحقيق بويج ، دار المشرق ، بيروت 1987 ، ص 209) .
ولعل الملفت للنظر في الإفادات الرشدية المرجحة للنهج العقلاني المنحاز إلى المنطق البرهاني ، وتشغيله في مباني العلم الإلهي . الإفادة الرشدية المتفردة ، والتي لم تقف عند حدود الدعوة إلى إدخال البرهان في بنية العلم الإلهي ، وإنما تخطت هذه الحدود ، وأكدت على حاجة العلم الإلهي للبرهان ، أكثر من حاجة علوم التعاليم (الرياضيات) التي هي بطبيعتها علوم البرهان . نحسب إنه إلحاح رشدي يتطلع إلى إدخال العقل ، ومن خلال المنطق البرهاني إلى مناطق العلوم الإلهية . وذلك بهدف إنجازالمهمة النهائية لمثابرته الساعية إلى ” عقلنة ” مضمار الإلهيات برمته . جاء كل ذلك في الإفادة الرشدية القائلة : ” لا سبيل أن يتحصل هذا العلم (أي العلم الإلهي) إلا بطريق البرهان لمن سلك طريق البرهان ، وإذا كان هذا موجوداً في مطالب الأمور الهندسية وبالجملة في الإمور التعاليمية (الرياضية) ، فأحرى أن يكون ذلك موجوداً في العلوم الإلهية ” ( المصدر السابق ، ص ص 207 – 208) .
ونحسب إن مثابرة إبن رشد النقدية في مشروعه الفلسفي الكبير في كتاب تهافت التهافت ، قد دشنت مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الفلسفي الأسلامي ، فلم يحفل هذا التاريخ بمحاولة فلسفية نقدية من داخل ” أهل البيت الفلسفي ” ، تعتمد المنهج في نقد وتقويم المثابرة الفلسفية التي أنجزها فلاسفة الإسلام* . فقد لاحظ إن الفلاسفة إعتمدوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أرجو الإنتباه إلى التمييز بين تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي ، وتاريخ الثقافة والفكر الإسلاميين العام . فالأول لم يحتقل بنقد فلسفي للفلاسفة من زاوية فيلسوف وبعمق مثل مثابرة إبن رشد في تهافت التهافت . ولكن في تاريخ الثقافة الإسلامية هناك تاريخ طويل ، إحتضن كتب وفصول تحت عناوين مختلفة مثل تهافت الفلاسفة ، ومصارعة الفلاسفة ، وفضائح اليونانية ، ومطارحة الفلاسفة .. فهو تاريخ نقد المتكلمين على الوجه العام لمشروعات الفلاسفة .. وتاريخ رد الفلاسفة على خصومهم من المتكلمين أصحاب الفكرانية الأشعرية على الوجه الأعم ، أو من إستبطنها من متكلمين ليسوا في الحقيقة أشاعرة قلباً وقالباً ، وإنما إستعاروا المنهج الأشعري بوعي ودون وعي لنقد الفلسفة والفلاسفة . للتفصيل ، أنظر بحثنا الرائد الذي نشرناه قبل ربع قرن من الزمن وبعنوان : الجدل الثقافي عند العرب (مصدرسابق) / نشرة مجلة دراسات عربية / بيروت 1987) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ” الجدل ” بديلاً من ” البرهان ” هذا طرف خاص بالمنهج ، إلا إن فيلسوف قرطبة قد مسك ضميمة كبيرة على فلاسفة الإسلام المشارقة (الفارابي وإبن سينا ونحسب إنها تشمل الكندي) تخص أصالة المصادر التي زودتهم بمادة معرفية عن الفلسفة اليونانية عامة وأرسطو وإفلاطون خاصة*.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنظر مناقشة هذه القضية في بحثنا الرائد والمعنون : كتاب أثولوجيا أرسطو وإشكالية الفلسفة الإسلامية (الأصل والمنحول) / منشور على موقع الفيلسوف ، 3 أب 2011 . وتجد طرف من مناقشة مساهمة إبن رشد لضميمة الفلسفة الإسلامية في المشرق في بحثنا الإحتفالي المعنون : ملاحظات حول مقال ” الإنبهار .. بإبن رشد أو الفارابي ” أخطاء تاريخية وكبوة المنهج الإنتخابي في التعامل مع إبن رشد / منشور على موقع الفيلسوف ، 17 يوليو 2011 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن الغريب في المنهج النقدي الرشدي لإطروحة الفلاسفة ، إنه هو الأخر لم يعتمد البرهان في نقد الفلاسفة ، ولم يظل مثلهم يستخدم منهج الجدل . وإنما ذهب في خطابه النقدي إلى خارج مناطق المثابرة الإنسانية (حيث اللامعقول) . فحلق في طوابق المعرفيات (والأدق العرفانيات) العالية ، والتي تتطلع للحديث عن عرفانيات الفعل الفذ الذي يتخطى عقلانية الفعل المعرفي البشري . وهو نهج يضع فيلسوف قرطبة والإمام الغزالي يتحركان على أرضية عرفانية ولا نقول صوفية مشتركة .
ولكن رغم هذا الحال الرشدي ، فإننا نحسب في الوجه العام ، إن لإبن رشد مواقفاً مهيمنة ، فيها إنتصار لمجاهدة الأصحاب الفلاسفة ، وفيها نقد معروف للإمام الغزالي . وفعلاً إن فيلسوف قرطبة أشار إلى كلمة حملت معها مشروع تغيير في الموقف الرشدي برمته ، ومن ثم عادت به إلى درب الفلسفة والفلاسفة ، ومغادرة شاطئ الغزالي . إنها كلمة ” يظن ” التي إستخدمها الغزالي ، ومن ثم وضع إبن رشد يده عليها ، وإنطلق منها في نقد وتقويم المثابرة النقدية الغزالية للفلسفة والفلاسفة خصوصاً في العلم الإلهي .
حقيقة إن مجاهدة الفلاسفة في العلم الإلهي مثقلة بمصادر فلسفية ملونة ، وإنها فعلاً كانت مقروءة من زاوية الفكرانية الكلامية (وعلى الأغلب من زاوية أشعرية) وهي فكرانية الشاطئ المخاصم العنيد لشاطئ الفلسفة والفلاسفة . وفي القراءة الكلامية الأشعرية على الأكثر ضميمة ، تضع النص الفلسفي في معاقل إتهام غير صحيح (فلسفة مشائية وفلاسفة مشائيون) ، وغير متفهمة وعارفة بدقة للمصادر الفلسفية التي زودت فلاسفة المشرق بزاد فلسفي (الذي هو ليس بمؤلفات أرسطو الأصلية ، وليست بمحاورات إفلاطون الأصلية ، وإنما في طرف كبير منها تساعيات إفلوطين التي ترجمت تحت عنوان خطأ : أثولوجيا أرسطو ) ، وعلى أساس هذه المصادر الخطأ كونوا مشاريعم في الجمع بين الحكيميين : إفلاطون وأرسطو ، والتقريب بين الحكمة والشريعة .
ومثلما وقع الفلاسفة في وهم كتاب ” أثولوجيا أرسطو ” وهو عينة واحدة من المصادر الفلسفية ، وليست العينة الوحيدة . فإن المتكلمين وخصوصاً الأشاعرة منهم على الأغلب الأعم ، قد تابعوا الفلاسفة في وهمهم في المصادر المعرفية . ومن المفروض في النقد أن يكون عملية فحص وتدقيق ، وحفر وتنقيب . إن هذا مع الأسف لم يحدث في شاطئ النقد الكلامي للفلسفة والفلاسفة . ونحسب إن هذا الذنب لم يكن ذنب الفلاسفة ، وإنما هو ذنب الناقد القارئ للإطروحة الفلسفية . ولما كانت ثقافته الفلسفية محدودة ، وإن الزمن الذي خصصه للإطلاع على التراث الفلسفي مشروط والتفويض بالنقد وتقويض الفلسفة ومحاصرة الفلسفة قد صدر من مراكز سلطانية عالية ، والتنفيذ مطلوب ، لذلك شد الإمام الغزالي العزم وأنجز النقد والتقويض الذي يرضي السلطان السلجوقي الكاره للفلسفة والفلاسفة . وفعلاً فإن الزمن الذي أعلن فيه الغزالي للتفرغ لدراسة الفلسفة وعلومها ، لم يكن كاف للإلمام بتفاصيلها الدقيقة . مما جعل هدا الأعتراف الغزالي بلسان فيلسوف قرطبة ، نقطة مسجلة لغير مصلحة الإمام الغزالي .
ونحسب إن القارئ الأكاديمي المتبحر بعلوم الفلسفة ، وخصوصاً الحارث في حقيقة مصادر الفلسفة اليونانية ، الأصيلة منها والمنتحلة التي وصلت للفلاسفة المسلمين ، والناظر بعيون نقدية لمشاريع فلاسفة المشرق (عينة الفارابي وإبن سينا وإخوان الصفا ومن ضمنها عينة الكندي) على الأقل . يلحظ أولاً إن مشروع الإمام الغزالي النقدي للفلسفة والفلاسفة نهض على إطروحة خطأ وهو إن الفكر الفلسفي الإسلامي بحدود العينة أعلاه والتي إستهدفها الإمام بالنقد . أولاً إن هذه العينة الفلسفية (أيها الإمام الغزالي) لم تكن فلسفتها مشائية ولم يكونوا فلاسفة مشائيون . وإنما مصادرهم نعود ونؤكد (على عدم دقة لغة الإمام الغزالي) ، هي مصادر إفلاطونية محدثة ترتبط بالمؤسس إفلوطين وكتابه التساعيات التي جمعها ونشرها تلميذه فرفريوس الصوري . ولذلك كانت مصادرهم إفلاطونية محدثة وليست مشائية وعلى وجه الدقة تساعيات إفلوطين* والتي ترجمت خطأً تحت عنوان أثولوجيا أرسطو . ثانياً إن مشروع الإمام النقدي للفلسفة والفلاسفة كان في نقده مشروع فكراني أشعري يقوم على تبديع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنظر للتفصيل في هده القضية بحثنا المعنون : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في العدد الثاني من مجلة أوراق فلسفية جديدة ، ربيع 2011 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفلاسفة في طرف وتكفيرهم في أطراف أخرى . ومن ثم إن فعل النقد والإتهام بالمشائية ، يحمل في طياته التجريم بالوثنية والهرطقة . ثالثاً إن قراءة المشروع النقدي للإمام الغزالي من زاوية المنهج ، تضعنا أمام الحقيقة القائلة ؛ إنه مشروع موسوعي نحتفل به من الناحية الثقافية . إلا إنه كبوة من الناحية المنهجية وتشويش من زاوية المثابرة الفلسفية . وللإسباب الآتية :
أولاً – إن مشروع الغزالي لم يكن نقدياً برمته . وذلك لكونه تألف من كتابين : الأول مقاصد الفلاسفة والثاني تهافت الفلاسفة . وكتاب المقاصد ليس فيه إنتاج غزالي أصيل (حتى أستطيع أن أقول دون تردد أن الأراء فيها هي أراء الفلاسفة وحسب الترتيب : إبن سينا وإخوان الصفا ومن ثم الفارابي ..) ولذلك فإن هذا الكتاب في مادته ليس للغزالي ، وليس فيه إنتاج له ، وليس فيه عرض لفلسفته أو رأياً نقدياً . وإن جاء على غلافه إسم الإمام الغزالي . وأشير هنا إلى إن رهط من الباحثين في المضمار الفلسفي من زملاء وأستاذة قد وقعوا في خطأ كبير عندما أعتمدوا على كتاب مقاصد الفلاسفة عند الكتابة عن الإمام الغزالي أو الإحتجاج بنصوص منه في بحث يعالج طرف من فكر الغزالي . وإكتفي هنا بالقول بأن عمله ، هو جمع أراء الفلاسفة ورتبها كمقاصد أو كما أراد أن يقول هذه هي بضاعة الفلسفة المشائية ، وهذه هي ضميمة الفلاسفة المشائيين .
ثانياً – قلنا قبل قليل إنه من ناحية المنهج ليس مشروع الغزالي النقدي أو الأدق في مذهبنا مشروع التشويش على الفلسفة والفلاسفة ، وبذلك فهو ليس بمشوع تشويش برمته للفلسفة والفلاسفة . وإشرنا كذلك إلى إن المشروع على الأقل في قسمه الأول كتاب المقاصد كان فيه ترويج ونشر لبضاعة الفلاسفة اللذين أطلق عليهم خطأً بالمشائيين . والحال كذلك فيما يخص القسم الثاني من مشروع الغزالي ، ونقصد كتابه تهافت الفلاسفة ، فهو الأخر من الناحية المنهجية لم يكن كتاباً نقدياً والأصح تشويشاً شاملاً على الفلسفة والفلاسفة .
ولبيان ذلك نقول إن الإمام الغزالي رأى في منهجه التشويشي إن بضاعة الفلاسفة تتألف من :
1 – الرياضيات أو علوم التعاليم
2 – المنطقيات
3 – الطبيعيات
4 – الإلهيات
والحقيقة إن الإمام الغزالي لم يشوش الفلاسفة في علومهم الرياضية . ولم يقترب من المنطقيات ، بل على عكس تبنى المنهج المنطقي في جانبين : الأول قائم على مزجه في علوم الشريعة وهذا إنتصار دائم للفلسفة والفلاسفة بعد إن وجد منطق الفلاسفة مكانة رفيعة في داخل بنيات علوم الشريعة . والثاني وهو الأقوى في الإنتصار إلى علوم الفلسفة ، وهو تبني المنطق اليوناني في هدم ما أسماه خطأً الفلسفة المشائية . فالمنطق هو منهج الفلاسفة الذي ينكفأ عند عتباته منهج التشويش الدي قاده الإمام بدفع فكراني سلجوقي .
أما الطبيعيات فمعظمها مقبول ولم يشوش عليها الإمام ويقيم التكفير على الفلاسفة . ولكنه في قضايا من الطبيعيات بدع الفلاسفة ، وهي تهمة بميزان الغزالي أقل درجة من التكفير الذي خص الفلاسفة في القسم الرابع وهو الإلهيات . ونصل إلى نهاية الرحلة في منهج التشويش على الفلسفة والفلاسفة الذي نفذه الغزالي . ونقول إن كان من زاوية الفلاسفة ، هو مشروع فكراني أشعري خال من أية رؤية فلسفية جديدة بديلة عن رؤية الفلاسفة . ولكنها في حقيقتها هي فكرانية كلامية أشعرية ، رغب أبناء السلاجقة إحلالها في برامج التعليم التي أسسوها في العالم الإسلامي وذلك لإعداد وتكوين عقلية رجل الدين الفكراني الأشعري ، ومن خلاله تكوين ذهنية الجمهور الذي يقودهم في الخطبة والشعائر الخمسة اليومية .
وهذا المهاد جداً مهم للقارئ ليعرف بأن كتاب تهافت الفلاسفة للأمام الغزالي هو مشروع تشويش على الفلاسفة والفلاسفة في جزئية جداً محدودة وهي العلم الإلهي . وإن كتاب إبن رشد تهافت التهافت ، هو رد فعل عليه من زاوية المنهج الفلسفي والمصادر الفلسفية التي حصل عليها فيلسوف قرطبة . ولذلك توافر لإبن رشد ماكان ينقص الغزالي ، وهي إن إبن رشد فيلسوف يعمل في شاطئ مغاير للفكرانية الكلامية الأشعرية ، عارف بما أصيل ومنحول من المصادر الفلسفية ، وهو عالم منطقي خبير قادر على التمييز بين المنطق البرهاني وبين الجدل وحجج الشكاك (فقد كشف ضميمة الغزالي عندما تخلى عن المنطق البرهاني لأن فيه خسارة له ، ولاذ إلى الجدل وحجج الشكاك وقاده للتشويش) . وإنه لكل ذلك رأى أبن رشد الحق والباطل ، الحق والباطل في صف الأصحاب الفلاسفة ، والحق والباطل في صف الأشعري الإمام الغزالي .
نعود بعد هذا المشوار ، إلى شواهد إبن رشد النقدية للفلاسفة ، ورأيه في الإمام الغزالي وظنونه على الموقف الفلسفي في فهم العلوم الإلهية . فمثلاً في إفادة رشدية مهمة ، إشارة إلى إشكالية المنهج في علوم المثابرة الإنسانية والعلوم الإلهية : ” والجدل نافع مباح في سائر العلوم ومحرم في هذا العلم . ولذلك لجأ أكثر الناظرين في هذا العلم إلى إن هذا كله من باب التكييف في الجوهر الذي لا تكيفه العقول لأن لو كيفته لكان العقل الأزلي والكائن الفاسد واحداً ” (المصدر السابق ، ص 209) .
ويلاحظ الباحث إن فيلسوف قرطبة لم يكن مستقراً على رأي في متابعة المنهج العقلاني في حسم المسائل الفلسفية التي عالجها الفلاسفة في موضوع العلم الإلهي ونازعهم فيها الغزالي . فقد وجدناه يتحول أثناء نقد منهج الغزالي أو منهج الفلاسفة ، من مضمار المعرفيات إلى معاقل الفكراني العقيدي . وبالتحديد وجدناه يتوسل بالدعاء والإحتكام إلى ” الله ليأخذ الحق ممن تكلم في هذه الأشياء الكلام العام ويجادل في الله بغير علم ” (المصدر السابق) . والحقيقة إن هذه الإفادة الرشدية تشمل في الدعاء رجالات الشاطئين ؛ شاطئ الفلاسفة ، وشاطئ المتكلمين وممثلهم الإمام الغزالي .
ومن خلال قرائتنا لنصوص فيلسوف قرطبة ومعايشتها . وجدنا إنه عندما يتفق مع الإمام الغزالي في مضمار العلم الإلهي ، فإنه يستخدم لفظة ” صحيح ” . وحينما يكون متحفظاً أو يرغب إبقاء الموقف فاعلاً ، فإنه يلوذ إل دائرة الصمت ، ويترك بعض ألفاظ دالة على الموقف برمته . ولذلك نشعر إن إبن رشد قد تخفى وراء كلمة ” يظن ” ، ولم يحسم الموقف وترك الباب مفتوحاً . وكذلك الحال يتكرر مع عبارة ” يقول أبو حامد “
فإنه يتركها دون تعليق ، سوى تجيرها على حساب مسؤلية الإمام الغزالي . منها على سبيل الإستشهاد ، الإفادة الرشدية القائلة : ” ولذلك يظن إن الفلاسفة في غاية الضعف في هذه العلوم . ولذلك يقول أبو حامد إن علومهم الإلهية هي ظنية ” (المصدر السابق) .
ومن الشواهد على وقوف إبن رشد موقف الناقد للغزالي ، وعدم موافقته على منهجه وأفكاره الكلامية في إدارة المناجزة مع الفلاسفة ، الإفادة التي كتبها في الصفحة ذاتها التي نقلت لنا الموقف الرشدي السابق . وحقيقة إن فيلسوف قرطبة قام فيها بتفكيك خطاب الغزالي ، ووقف عند الفكرانية التي إعتمدها صاحب كتاب تهافت الفلاسفة ، في معاندته للفلاسفة . وأمسك بالمنهج الذي إستخدمه في التشويش عليهم . وهنا نترك الإفادة الرشدية توضح ذلك : ” ولكن … نروم أن نبين من أمور محمودة ومقدمات معلومة وإن كانت ليست برهانية ، ولم نك نستخير ذلك إلا لأن الرجل (أي الغزالي) أوقع هذا الخيال في هذا العلم العظيم وأبطل على الناس الوصول إلى سعادتهم بالأعمال الفاضلة والله سائله وحسيبه ” (المصدر السابق ، ص ص 209 – 210) .
ومن ثم يدافع فيلسوف قرطبة عن موقف الفلاسفة في العلم الإلهي ، ومن خلالهم بالطبع يدافع عن المنهج العقلاني المستند إلى ” المنطق البرهاني ” ويرد على الغزالي الذي عطل المنطق البرهاني . وبالمقابل رفع راية فكرانية أشعرية تعلن عن إستخدام المنطق منهجاً في هدم الفلسفة ” . وهكذا لاذ الغزالي إلى معاقل الفكرانية الأشعرية يستمد زاده المعرفي الذي يساعده في إدارة المناجزة مع الفلاسفة .
وهنا يكمن الإختلاف بين منهجين ؛ منهج العقل (المنطق البرهاني) الذي إعتمده الفلاسفة . ومنهج الفكرانية الكلامية الذي إستند إليه الإمام الغزالي . ولذلك يقول إبن رشد واصفاً طبيعة المنهجين : ” فأما الفلاسفة فإنهم طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا مستندين إلى قول من يدعوهم إلى قبول قوله من غير برهان ” (المصدر السابق ، ص ص 210 – 211) .
وإعتماداً على منهجه العقلاني ، يحدد فيلسوف قرطبة للعقل الإنساني ، طوابق من البحث يشتغل فيها ، وشروطاً يعمل في ظلالها . وفي المقابل العقل الإلهي الذي يتمتع بالحرية الواسعة التي لا توقفها الحدود والمسافات . ومن الملفت للنظر إن إبن رشد يعالج هذا الموضوع بالإستناد إلى رواية الغزالي التي تذهب إلى إن هناك مستويات يعمل فيها العقل البشري ؟ كما إن هناك مستويات يتوقف فيها . وحسب صاحب تهافت الفلاسفة ، إن العمل في هذه المستويات هو من وظيفة العقل الإلهي . ولهذا أفاد فيلسوف قرطبة مرجحاً رأي الغزالي .
ونحسب إن هذا الترجيح الرشدي لرأي الغزالي ، كانت له ظروفه الضاغظة على فيلسوف قرطبة ، وذلك لأن القضية أصبحت مكشوفة ، وليس من الممكن السير بها خطوة أخرى إلى الأمام ، وفيها ترجيح لعمل العقل البشري ، دون مواجهة ودفع ثمن غال .
ولهذا أجل فيلسوف قرطبة المواجهة ودفع الثمن إلى مستقبل يأتي أو لا يأتي على الإطلاق . ولكن التاريخ يخبرنا بأن ما أجله إبن رشد ، وقع فيما بعد . وذلك حين أحكم خصومه الظروف ، وكشفوا عن خطورة ضميمته التي تنتصر للعقل والمنطق البرهاني ، ويُعلي من مكانتهما على كل مضمار ومنهج في داخل ثقافة يقودها الفكراني العقيدي . حقيقة إنها كانت مجاهدة رشدية عالية سعت إلى تنوير وإضاءة المناطق المظلمة من مضامين ثقافتنا الإسلامية يومذاك .
في البدء أسئلة : ما طبيعة المثابرة العقلانية التي أنجزها إبن رشد حول ماهية العلم الإلهي ؟ وهل كانت فعلاً عقلانية على طول خط النقاش ؟ أم إنها توقفت في أجواء النقاش ، ولاذت في النقاط الحاسمة تحت حماية الفكراني العقيدي (وبذلك جسد فيلسوف قرطبة في مثابرته العقلانية إشتراطات عقل متنور ، يتحرك على أرضية محكومة بالعقيدي) ؟ حقيقة إن دخول إبن رشد إلى مناطق العلم الإلهي ، ودعوته إلى ضرورة الإعتماد على المنطق (ومن قبل ذلك على علوم التعاليم والتي هي بالمنظور الأرسطي تطبيقات منطقية في مضمار الرياضيات)* . وبالتحديد على البرهان الذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الأثر المنطقي لأرسطو على هندسة إقليدس / مجلة آداب الرافدين / تصدرها كلية الآداب – جامعة الموصل 1978 ، ص ص 117 – 150 / وهي مجلة أكاديمية محكمة / وهو بحث رائد في الدراسات المنطقية (وفلسفة الرياضيات والمنطق الرياضي) وكان المحكم العلمي لنشر هذا البحث الفيلسوف الدكتور ياسين خليل طيب الله ثراه ، والذي كان مشرفاً على رسالة الماجستير التي أنجزها الباحث محمد جلوب الفرحان عام 1976 والتي كانت بعنوان ” تحليل أرسطو للعلم البرهاني (والتي نشرتها وزارة الثقافة والإعلام العراقية تحت العنوان ذاته في العام 1983) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتمتع بيقينية عالية في عرض قضاياها . له من الدلالات الواضحة على مكانة المنهج العقلاني الذي قاده فيلسوف قرطبة ، سواء في بناء المعرفة أو في فحص أسس العلوم
، وفي المواقف التي إتخذها من المسائل التي تنازع حولها المتكلمون والفلاسفة .
لقد كتب إبن رشد مقدمة في كتابه تهافت التهافت ، عن العلوم الإلهية ، كشف فيها عن التحولات التي تعرض لها العلم الإلهي ، خصوصاً في حياة الجمهور ، والتي إصطلح عليها ” بالأقوال الشنيعة ” ، وهي تشبه في بعض الأحيان ” الأحلام ” .
ولهذا لاحظ إنه بسبب تعطيل المنطق والبرهان على وجه الخصوص من العمل في مناطق علوم الإلهيات ، إن تقوت سلطة هذه الأقوال ، وتكرست معرفيات الأحلام . ولذلك دعا إلى رفع وإزالة مما أسماه بتلك ” الشنعة ” من التفكير . وبالإستناد إلى منهجه العقلاني الذي يلامس بدرجات ما الواقع . ولذلك إعتقد بأن الخطوة الأولى ، هو تكوين ما أسماه ” مقدمات محمودة ” تطرح نفسها بديلاً عن ” تلك الشناعات ” . وكم نبه فيلسوف قرطبة إلى ضرورة ” التروي ” و ” طول زمان ” وهي من شروط المنهج العقلاني النازع إلى ” بيان ما هو حق ، وما هو باطل ” والذي يحسب إن الإمام الغزالي قد وظفه ” للتشويش على الفلسفة والفلاسفة ” .
وإنطلاقاً من موضوع معرفيات الأحلام ، بين فيلسوف قرطبة درجات الفارق بينها وبين العلم الإلهي . وعلى أساس الفارق رسم حدود مضمار مستقل للعلم الإلهي . وهنا نحسب من اللازم القول بحق النهج العقلاني الذي إختاره إبن رشد ، بأنه نهج تميز بلغة الحياد والنظرة الموضوعية التي تحتكم إلى المنطق والحق في الفصل بين ما ذهب إليه أصحابه من الفلاسفة ، وبين النقد الذي وجهه الأمام الغزالي . ولذلك وجدناه في عبارات التقويم والمواقف المصاحبة معها يقف بجوار الغزالي ، ويتحرك معه على الشاطئ المقابل لشاطئ الفلاسفة .
ولهذا نظر إلى العلم الإلهي من زاوية المنطق وبلغة إبن رشد المنطق البرهاني . ورأى إن حضور البرهان في مبانيه ، أبعده من الشراكة مع علوم الرأي ، وفي الوقت ذاته فتح له أبواب الصعود إلى طوابق اليقينية العالية . ولذلك دقق في الفارق بين علوم الرأي والعلم الإلهي . وذهب معقباً : ” وإذا كان هذا موجوداً (أي البرهان) في غير العلوم الإلهية ، فهذا المعنى في العلوم الإلهية أحرى أن يكون موجوداً لبعد هذه العلوم عن العلوم التي في بادئ الرأي . وإذا كان هذا هكذا فينبغي أن يعلم إنه ليس يمكن أن يقع في هذا الجنس مخاطبة جدلية مثل ما وقعت في سائر المسائل ” (إبن رشد ؛ تهافت التهافت ، تحقيق بويج ، دار المشرق ، بيروت 1987 ، ص 209) .
ولعل الملفت للنظر في الإفادات الرشدية المرجحة للنهج العقلاني المنحاز إلى المنطق البرهاني ، وتشغيله في مباني العلم الإلهي . الإفادة الرشدية المتفردة ، والتي لم تقف عند حدود الدعوة إلى إدخال البرهان في بنية العلم الإلهي ، وإنما تخطت هذه الحدود ، وأكدت على حاجة العلم الإلهي للبرهان ، أكثر من حاجة علوم التعاليم (الرياضيات) التي هي بطبيعتها علوم البرهان . نحسب إنه إلحاح رشدي يتطلع إلى إدخال العقل ، ومن خلال المنطق البرهاني إلى مناطق العلوم الإلهية . وذلك بهدف إنجازالمهمة النهائية لمثابرته الساعية إلى ” عقلنة ” مضمار الإلهيات برمته . جاء كل ذلك في الإفادة الرشدية القائلة : ” لا سبيل أن يتحصل هذا العلم (أي العلم الإلهي) إلا بطريق البرهان لمن سلك طريق البرهان ، وإذا كان هذا موجوداً في مطالب الأمور الهندسية وبالجملة في الإمور التعاليمية (الرياضية) ، فأحرى أن يكون ذلك موجوداً في العلوم الإلهية ” ( المصدر السابق ، ص ص 207 – 208) .
ونحسب إن مثابرة إبن رشد النقدية في مشروعه الفلسفي الكبير في كتاب تهافت التهافت ، قد دشنت مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الفلسفي الأسلامي ، فلم يحفل هذا التاريخ بمحاولة فلسفية نقدية من داخل ” أهل البيت الفلسفي ” ، تعتمد المنهج في نقد وتقويم المثابرة الفلسفية التي أنجزها فلاسفة الإسلام* . فقد لاحظ إن الفلاسفة إعتمدوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أرجو الإنتباه إلى التمييز بين تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي ، وتاريخ الثقافة والفكر الإسلاميين العام . فالأول لم يحتقل بنقد فلسفي للفلاسفة من زاوية فيلسوف وبعمق مثل مثابرة إبن رشد في تهافت التهافت . ولكن في تاريخ الثقافة الإسلامية هناك تاريخ طويل ، إحتضن كتب وفصول تحت عناوين مختلفة مثل تهافت الفلاسفة ، ومصارعة الفلاسفة ، وفضائح اليونانية ، ومطارحة الفلاسفة .. فهو تاريخ نقد المتكلمين على الوجه العام لمشروعات الفلاسفة .. وتاريخ رد الفلاسفة على خصومهم من المتكلمين أصحاب الفكرانية الأشعرية على الوجه الأعم ، أو من إستبطنها من متكلمين ليسوا في الحقيقة أشاعرة قلباً وقالباً ، وإنما إستعاروا المنهج الأشعري بوعي ودون وعي لنقد الفلسفة والفلاسفة . للتفصيل ، أنظر بحثنا الرائد الذي نشرناه قبل ربع قرن من الزمن وبعنوان : الجدل الثقافي عند العرب (مصدرسابق) / نشرة مجلة دراسات عربية / بيروت 1987) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ” الجدل ” بديلاً من ” البرهان ” هذا طرف خاص بالمنهج ، إلا إن فيلسوف قرطبة قد مسك ضميمة كبيرة على فلاسفة الإسلام المشارقة (الفارابي وإبن سينا ونحسب إنها تشمل الكندي) تخص أصالة المصادر التي زودتهم بمادة معرفية عن الفلسفة اليونانية عامة وأرسطو وإفلاطون خاصة*.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنظر مناقشة هذه القضية في بحثنا الرائد والمعنون : كتاب أثولوجيا أرسطو وإشكالية الفلسفة الإسلامية (الأصل والمنحول) / منشور على موقع الفيلسوف ، 3 أب 2011 . وتجد طرف من مناقشة مساهمة إبن رشد لضميمة الفلسفة الإسلامية في المشرق في بحثنا الإحتفالي المعنون : ملاحظات حول مقال ” الإنبهار .. بإبن رشد أو الفارابي ” أخطاء تاريخية وكبوة المنهج الإنتخابي في التعامل مع إبن رشد / منشور على موقع الفيلسوف ، 17 يوليو 2011 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن الغريب في المنهج النقدي الرشدي لإطروحة الفلاسفة ، إنه هو الأخر لم يعتمد البرهان في نقد الفلاسفة ، ولم يظل مثلهم يستخدم منهج الجدل . وإنما ذهب في خطابه النقدي إلى خارج مناطق المثابرة الإنسانية (حيث اللامعقول) . فحلق في طوابق المعرفيات (والأدق العرفانيات) العالية ، والتي تتطلع للحديث عن عرفانيات الفعل الفذ الذي يتخطى عقلانية الفعل المعرفي البشري . وهو نهج يضع فيلسوف قرطبة والإمام الغزالي يتحركان على أرضية عرفانية ولا نقول صوفية مشتركة .
ولكن رغم هذا الحال الرشدي ، فإننا نحسب في الوجه العام ، إن لإبن رشد مواقفاً مهيمنة ، فيها إنتصار لمجاهدة الأصحاب الفلاسفة ، وفيها نقد معروف للإمام الغزالي . وفعلاً إن فيلسوف قرطبة أشار إلى كلمة حملت معها مشروع تغيير في الموقف الرشدي برمته ، ومن ثم عادت به إلى درب الفلسفة والفلاسفة ، ومغادرة شاطئ الغزالي . إنها كلمة ” يظن ” التي إستخدمها الغزالي ، ومن ثم وضع إبن رشد يده عليها ، وإنطلق منها في نقد وتقويم المثابرة النقدية الغزالية للفلسفة والفلاسفة خصوصاً في العلم الإلهي .
حقيقة إن مجاهدة الفلاسفة في العلم الإلهي مثقلة بمصادر فلسفية ملونة ، وإنها فعلاً كانت مقروءة من زاوية الفكرانية الكلامية (وعلى الأغلب من زاوية أشعرية) وهي فكرانية الشاطئ المخاصم العنيد لشاطئ الفلسفة والفلاسفة . وفي القراءة الكلامية الأشعرية على الأكثر ضميمة ، تضع النص الفلسفي في معاقل إتهام غير صحيح (فلسفة مشائية وفلاسفة مشائيون) ، وغير متفهمة وعارفة بدقة للمصادر الفلسفية التي زودت فلاسفة المشرق بزاد فلسفي (الذي هو ليس بمؤلفات أرسطو الأصلية ، وليست بمحاورات إفلاطون الأصلية ، وإنما في طرف كبير منها تساعيات إفلوطين التي ترجمت تحت عنوان خطأ : أثولوجيا أرسطو ) ، وعلى أساس هذه المصادر الخطأ كونوا مشاريعم في الجمع بين الحكيميين : إفلاطون وأرسطو ، والتقريب بين الحكمة والشريعة .
ومثلما وقع الفلاسفة في وهم كتاب ” أثولوجيا أرسطو ” وهو عينة واحدة من المصادر الفلسفية ، وليست العينة الوحيدة . فإن المتكلمين وخصوصاً الأشاعرة منهم على الأغلب الأعم ، قد تابعوا الفلاسفة في وهمهم في المصادر المعرفية . ومن المفروض في النقد أن يكون عملية فحص وتدقيق ، وحفر وتنقيب . إن هذا مع الأسف لم يحدث في شاطئ النقد الكلامي للفلسفة والفلاسفة . ونحسب إن هذا الذنب لم يكن ذنب الفلاسفة ، وإنما هو ذنب الناقد القارئ للإطروحة الفلسفية . ولما كانت ثقافته الفلسفية محدودة ، وإن الزمن الذي خصصه للإطلاع على التراث الفلسفي مشروط والتفويض بالنقد وتقويض الفلسفة ومحاصرة الفلسفة قد صدر من مراكز سلطانية عالية ، والتنفيذ مطلوب ، لذلك شد الإمام الغزالي العزم وأنجز النقد والتقويض الذي يرضي السلطان السلجوقي الكاره للفلسفة والفلاسفة . وفعلاً فإن الزمن الذي أعلن فيه الغزالي للتفرغ لدراسة الفلسفة وعلومها ، لم يكن كاف للإلمام بتفاصيلها الدقيقة . مما جعل هدا الأعتراف الغزالي بلسان فيلسوف قرطبة ، نقطة مسجلة لغير مصلحة الإمام الغزالي .
ونحسب إن القارئ الأكاديمي المتبحر بعلوم الفلسفة ، وخصوصاً الحارث في حقيقة مصادر الفلسفة اليونانية ، الأصيلة منها والمنتحلة التي وصلت للفلاسفة المسلمين ، والناظر بعيون نقدية لمشاريع فلاسفة المشرق (عينة الفارابي وإبن سينا وإخوان الصفا ومن ضمنها عينة الكندي) على الأقل . يلحظ أولاً إن مشروع الإمام الغزالي النقدي للفلسفة والفلاسفة نهض على إطروحة خطأ وهو إن الفكر الفلسفي الإسلامي بحدود العينة أعلاه والتي إستهدفها الإمام بالنقد . أولاً إن هذه العينة الفلسفية (أيها الإمام الغزالي) لم تكن فلسفتها مشائية ولم يكونوا فلاسفة مشائيون . وإنما مصادرهم نعود ونؤكد (على عدم دقة لغة الإمام الغزالي) ، هي مصادر إفلاطونية محدثة ترتبط بالمؤسس إفلوطين وكتابه التساعيات التي جمعها ونشرها تلميذه فرفريوس الصوري . ولذلك كانت مصادرهم إفلاطونية محدثة وليست مشائية وعلى وجه الدقة تساعيات إفلوطين* والتي ترجمت خطأً تحت عنوان أثولوجيا أرسطو . ثانياً إن مشروع الإمام النقدي للفلسفة والفلاسفة كان في نقده مشروع فكراني أشعري يقوم على تبديع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أنظر للتفصيل في هده القضية بحثنا المعنون : فرفريوس الصوري مؤرخاً للفلسفة اليونانية / منشور في العدد الثاني من مجلة أوراق فلسفية جديدة ، ربيع 2011 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفلاسفة في طرف وتكفيرهم في أطراف أخرى . ومن ثم إن فعل النقد والإتهام بالمشائية ، يحمل في طياته التجريم بالوثنية والهرطقة . ثالثاً إن قراءة المشروع النقدي للإمام الغزالي من زاوية المنهج ، تضعنا أمام الحقيقة القائلة ؛ إنه مشروع موسوعي نحتفل به من الناحية الثقافية . إلا إنه كبوة من الناحية المنهجية وتشويش من زاوية المثابرة الفلسفية . وللإسباب الآتية :
أولاً – إن مشروع الغزالي لم يكن نقدياً برمته . وذلك لكونه تألف من كتابين : الأول مقاصد الفلاسفة والثاني تهافت الفلاسفة . وكتاب المقاصد ليس فيه إنتاج غزالي أصيل (حتى أستطيع أن أقول دون تردد أن الأراء فيها هي أراء الفلاسفة وحسب الترتيب : إبن سينا وإخوان الصفا ومن ثم الفارابي ..) ولذلك فإن هذا الكتاب في مادته ليس للغزالي ، وليس فيه إنتاج له ، وليس فيه عرض لفلسفته أو رأياً نقدياً . وإن جاء على غلافه إسم الإمام الغزالي . وأشير هنا إلى إن رهط من الباحثين في المضمار الفلسفي من زملاء وأستاذة قد وقعوا في خطأ كبير عندما أعتمدوا على كتاب مقاصد الفلاسفة عند الكتابة عن الإمام الغزالي أو الإحتجاج بنصوص منه في بحث يعالج طرف من فكر الغزالي . وإكتفي هنا بالقول بأن عمله ، هو جمع أراء الفلاسفة ورتبها كمقاصد أو كما أراد أن يقول هذه هي بضاعة الفلسفة المشائية ، وهذه هي ضميمة الفلاسفة المشائيين .
ثانياً – قلنا قبل قليل إنه من ناحية المنهج ليس مشروع الغزالي النقدي أو الأدق في مذهبنا مشروع التشويش على الفلسفة والفلاسفة ، وبذلك فهو ليس بمشوع تشويش برمته للفلسفة والفلاسفة . وإشرنا كذلك إلى إن المشروع على الأقل في قسمه الأول كتاب المقاصد كان فيه ترويج ونشر لبضاعة الفلاسفة اللذين أطلق عليهم خطأً بالمشائيين . والحال كذلك فيما يخص القسم الثاني من مشروع الغزالي ، ونقصد كتابه تهافت الفلاسفة ، فهو الأخر من الناحية المنهجية لم يكن كتاباً نقدياً والأصح تشويشاً شاملاً على الفلسفة والفلاسفة .
ولبيان ذلك نقول إن الإمام الغزالي رأى في منهجه التشويشي إن بضاعة الفلاسفة تتألف من :
1 – الرياضيات أو علوم التعاليم
2 – المنطقيات
3 – الطبيعيات
4 – الإلهيات
والحقيقة إن الإمام الغزالي لم يشوش الفلاسفة في علومهم الرياضية . ولم يقترب من المنطقيات ، بل على عكس تبنى المنهج المنطقي في جانبين : الأول قائم على مزجه في علوم الشريعة وهذا إنتصار دائم للفلسفة والفلاسفة بعد إن وجد منطق الفلاسفة مكانة رفيعة في داخل بنيات علوم الشريعة . والثاني وهو الأقوى في الإنتصار إلى علوم الفلسفة ، وهو تبني المنطق اليوناني في هدم ما أسماه خطأً الفلسفة المشائية . فالمنطق هو منهج الفلاسفة الذي ينكفأ عند عتباته منهج التشويش الدي قاده الإمام بدفع فكراني سلجوقي .
أما الطبيعيات فمعظمها مقبول ولم يشوش عليها الإمام ويقيم التكفير على الفلاسفة . ولكنه في قضايا من الطبيعيات بدع الفلاسفة ، وهي تهمة بميزان الغزالي أقل درجة من التكفير الذي خص الفلاسفة في القسم الرابع وهو الإلهيات . ونصل إلى نهاية الرحلة في منهج التشويش على الفلسفة والفلاسفة الذي نفذه الغزالي . ونقول إن كان من زاوية الفلاسفة ، هو مشروع فكراني أشعري خال من أية رؤية فلسفية جديدة بديلة عن رؤية الفلاسفة . ولكنها في حقيقتها هي فكرانية كلامية أشعرية ، رغب أبناء السلاجقة إحلالها في برامج التعليم التي أسسوها في العالم الإسلامي وذلك لإعداد وتكوين عقلية رجل الدين الفكراني الأشعري ، ومن خلاله تكوين ذهنية الجمهور الذي يقودهم في الخطبة والشعائر الخمسة اليومية .
وهذا المهاد جداً مهم للقارئ ليعرف بأن كتاب تهافت الفلاسفة للأمام الغزالي هو مشروع تشويش على الفلاسفة والفلاسفة في جزئية جداً محدودة وهي العلم الإلهي . وإن كتاب إبن رشد تهافت التهافت ، هو رد فعل عليه من زاوية المنهج الفلسفي والمصادر الفلسفية التي حصل عليها فيلسوف قرطبة . ولذلك توافر لإبن رشد ماكان ينقص الغزالي ، وهي إن إبن رشد فيلسوف يعمل في شاطئ مغاير للفكرانية الكلامية الأشعرية ، عارف بما أصيل ومنحول من المصادر الفلسفية ، وهو عالم منطقي خبير قادر على التمييز بين المنطق البرهاني وبين الجدل وحجج الشكاك (فقد كشف ضميمة الغزالي عندما تخلى عن المنطق البرهاني لأن فيه خسارة له ، ولاذ إلى الجدل وحجج الشكاك وقاده للتشويش) . وإنه لكل ذلك رأى أبن رشد الحق والباطل ، الحق والباطل في صف الأصحاب الفلاسفة ، والحق والباطل في صف الأشعري الإمام الغزالي .
نعود بعد هذا المشوار ، إلى شواهد إبن رشد النقدية للفلاسفة ، ورأيه في الإمام الغزالي وظنونه على الموقف الفلسفي في فهم العلوم الإلهية . فمثلاً في إفادة رشدية مهمة ، إشارة إلى إشكالية المنهج في علوم المثابرة الإنسانية والعلوم الإلهية : ” والجدل نافع مباح في سائر العلوم ومحرم في هذا العلم . ولذلك لجأ أكثر الناظرين في هذا العلم إلى إن هذا كله من باب التكييف في الجوهر الذي لا تكيفه العقول لأن لو كيفته لكان العقل الأزلي والكائن الفاسد واحداً ” (المصدر السابق ، ص 209) .
ويلاحظ الباحث إن فيلسوف قرطبة لم يكن مستقراً على رأي في متابعة المنهج العقلاني في حسم المسائل الفلسفية التي عالجها الفلاسفة في موضوع العلم الإلهي ونازعهم فيها الغزالي . فقد وجدناه يتحول أثناء نقد منهج الغزالي أو منهج الفلاسفة ، من مضمار المعرفيات إلى معاقل الفكراني العقيدي . وبالتحديد وجدناه يتوسل بالدعاء والإحتكام إلى ” الله ليأخذ الحق ممن تكلم في هذه الأشياء الكلام العام ويجادل في الله بغير علم ” (المصدر السابق) . والحقيقة إن هذه الإفادة الرشدية تشمل في الدعاء رجالات الشاطئين ؛ شاطئ الفلاسفة ، وشاطئ المتكلمين وممثلهم الإمام الغزالي .
ومن خلال قرائتنا لنصوص فيلسوف قرطبة ومعايشتها . وجدنا إنه عندما يتفق مع الإمام الغزالي في مضمار العلم الإلهي ، فإنه يستخدم لفظة ” صحيح ” . وحينما يكون متحفظاً أو يرغب إبقاء الموقف فاعلاً ، فإنه يلوذ إل دائرة الصمت ، ويترك بعض ألفاظ دالة على الموقف برمته . ولذلك نشعر إن إبن رشد قد تخفى وراء كلمة ” يظن ” ، ولم يحسم الموقف وترك الباب مفتوحاً . وكذلك الحال يتكرر مع عبارة ” يقول أبو حامد “
فإنه يتركها دون تعليق ، سوى تجيرها على حساب مسؤلية الإمام الغزالي . منها على سبيل الإستشهاد ، الإفادة الرشدية القائلة : ” ولذلك يظن إن الفلاسفة في غاية الضعف في هذه العلوم . ولذلك يقول أبو حامد إن علومهم الإلهية هي ظنية ” (المصدر السابق) .
ومن الشواهد على وقوف إبن رشد موقف الناقد للغزالي ، وعدم موافقته على منهجه وأفكاره الكلامية في إدارة المناجزة مع الفلاسفة ، الإفادة التي كتبها في الصفحة ذاتها التي نقلت لنا الموقف الرشدي السابق . وحقيقة إن فيلسوف قرطبة قام فيها بتفكيك خطاب الغزالي ، ووقف عند الفكرانية التي إعتمدها صاحب كتاب تهافت الفلاسفة ، في معاندته للفلاسفة . وأمسك بالمنهج الذي إستخدمه في التشويش عليهم . وهنا نترك الإفادة الرشدية توضح ذلك : ” ولكن … نروم أن نبين من أمور محمودة ومقدمات معلومة وإن كانت ليست برهانية ، ولم نك نستخير ذلك إلا لأن الرجل (أي الغزالي) أوقع هذا الخيال في هذا العلم العظيم وأبطل على الناس الوصول إلى سعادتهم بالأعمال الفاضلة والله سائله وحسيبه ” (المصدر السابق ، ص ص 209 – 210) .
ومن ثم يدافع فيلسوف قرطبة عن موقف الفلاسفة في العلم الإلهي ، ومن خلالهم بالطبع يدافع عن المنهج العقلاني المستند إلى ” المنطق البرهاني ” ويرد على الغزالي الذي عطل المنطق البرهاني . وبالمقابل رفع راية فكرانية أشعرية تعلن عن إستخدام المنطق منهجاً في هدم الفلسفة ” . وهكذا لاذ الغزالي إلى معاقل الفكرانية الأشعرية يستمد زاده المعرفي الذي يساعده في إدارة المناجزة مع الفلاسفة .
وهنا يكمن الإختلاف بين منهجين ؛ منهج العقل (المنطق البرهاني) الذي إعتمده الفلاسفة . ومنهج الفكرانية الكلامية الذي إستند إليه الإمام الغزالي . ولذلك يقول إبن رشد واصفاً طبيعة المنهجين : ” فأما الفلاسفة فإنهم طلبوا معرفة الموجودات بعقولهم لا مستندين إلى قول من يدعوهم إلى قبول قوله من غير برهان ” (المصدر السابق ، ص ص 210 – 211) .
وإعتماداً على منهجه العقلاني ، يحدد فيلسوف قرطبة للعقل الإنساني ، طوابق من البحث يشتغل فيها ، وشروطاً يعمل في ظلالها . وفي المقابل العقل الإلهي الذي يتمتع بالحرية الواسعة التي لا توقفها الحدود والمسافات . ومن الملفت للنظر إن إبن رشد يعالج هذا الموضوع بالإستناد إلى رواية الغزالي التي تذهب إلى إن هناك مستويات يعمل فيها العقل البشري ؟ كما إن هناك مستويات يتوقف فيها . وحسب صاحب تهافت الفلاسفة ، إن العمل في هذه المستويات هو من وظيفة العقل الإلهي . ولهذا أفاد فيلسوف قرطبة مرجحاً رأي الغزالي .
ونحسب إن هذا الترجيح الرشدي لرأي الغزالي ، كانت له ظروفه الضاغظة على فيلسوف قرطبة ، وذلك لأن القضية أصبحت مكشوفة ، وليس من الممكن السير بها خطوة أخرى إلى الأمام ، وفيها ترجيح لعمل العقل البشري ، دون مواجهة ودفع ثمن غال .
ولهذا أجل فيلسوف قرطبة المواجهة ودفع الثمن إلى مستقبل يأتي أو لا يأتي على الإطلاق . ولكن التاريخ يخبرنا بأن ما أجله إبن رشد ، وقع فيما بعد . وذلك حين أحكم خصومه الظروف ، وكشفوا عن خطورة ضميمته التي تنتصر للعقل والمنطق البرهاني ، ويُعلي من مكانتهما على كل مضمار ومنهج في داخل ثقافة يقودها الفكراني العقيدي . حقيقة إنها كانت مجاهدة رشدية عالية سعت إلى تنوير وإضاءة المناطق المظلمة من مضامين ثقافتنا الإسلامية يومذاك .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
رد: حدود وسلطة المنهج العقلاني الرشدي
تعقيب
ونشعر إنه من النافع العودة إلى مضمار الإفادة الرشدية ، نقرأها أولاً وننظر فيما تحمله من دلالات ودروس لطبيعة ظروف المجابهة الرشدية ، والتي تكون في بعض من أطرافها الصعبة ، لا تمنح العقل الإنساني من خيارات ، سوى الإنحناء أمام عاصفتها الهوجاء ، وترك الباب مفتوحاً لتمر ، فتكون الخسائر طفيفة . وهذا هو أسلم طريق ينبغي على الفيلسوف أن يسلكه . وهذا فعلاً ما فكر فيه فيلسوف قرطبة وسلكه مسارأً لتأجيل المواجهة . فجاءت الإفادة الرشدية ترجح رأي الغزالي وتؤكد عليه : ” وقوله (أي الغزالي) إن كل ما قصرت عن إدراكه العقول الإنسانية فواجب أن نرجع فيه إلى الشرع حق ، وذلك إن العلم المتلقي من قبل الوحي إنما جاء متمماً لعلوم العقل . أعني إن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قبل الوحي ، والعجز عن المدارك الضروري علمها في حياة الإنسان ووجوده منها ما هو عجز بإطلاق إن ليس في طبيعة العقل أن يدرك بما هو عقل ومنها ما هو عجز بحسب طبيعة صنف من الناس وهذا العجز أما أن يكون في أصل الفطرة ، وأما أن يكون لأمر عارض من خارج من عدم تعلم وعلم الوحي رحمة لجميع هذه الأصناف ” (المصدر السابق ، ص ص 255 – 256) .
ونشعر إنه من النافع العودة إلى مضمار الإفادة الرشدية ، نقرأها أولاً وننظر فيما تحمله من دلالات ودروس لطبيعة ظروف المجابهة الرشدية ، والتي تكون في بعض من أطرافها الصعبة ، لا تمنح العقل الإنساني من خيارات ، سوى الإنحناء أمام عاصفتها الهوجاء ، وترك الباب مفتوحاً لتمر ، فتكون الخسائر طفيفة . وهذا هو أسلم طريق ينبغي على الفيلسوف أن يسلكه . وهذا فعلاً ما فكر فيه فيلسوف قرطبة وسلكه مسارأً لتأجيل المواجهة . فجاءت الإفادة الرشدية ترجح رأي الغزالي وتؤكد عليه : ” وقوله (أي الغزالي) إن كل ما قصرت عن إدراكه العقول الإنسانية فواجب أن نرجع فيه إلى الشرع حق ، وذلك إن العلم المتلقي من قبل الوحي إنما جاء متمماً لعلوم العقل . أعني إن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قبل الوحي ، والعجز عن المدارك الضروري علمها في حياة الإنسان ووجوده منها ما هو عجز بإطلاق إن ليس في طبيعة العقل أن يدرك بما هو عقل ومنها ما هو عجز بحسب طبيعة صنف من الناس وهذا العجز أما أن يكون في أصل الفطرة ، وأما أن يكون لأمر عارض من خارج من عدم تعلم وعلم الوحي رحمة لجميع هذه الأصناف ” (المصدر السابق ، ص ص 255 – 256) .
<br>
amalou_first1- عضو نشيط
- الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 198
نقاط : 5139
السٌّمعَة : 1
مواضيع مماثلة
» المعقول واللامعقول : الخطاب الرشدي في الأبستمولوجيات
» المنهج التجريبى
» المنهج الإكلينيكى
» حدود الله تعالى وحرماته
» إبن رشد والرشدية "أخطاء تاريخية وكبوة المنهج الإنتخابي"
» المنهج التجريبى
» المنهج الإكلينيكى
» حدود الله تعالى وحرماته
» إبن رشد والرشدية "أخطاء تاريخية وكبوة المنهج الإنتخابي"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى