لماذا لا يوجد عذاب قبر في الإسلام؟
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
لماذا لا يوجد عذاب قبر في الإسلام؟
بقلم:سامح عسكر
لماذا لا يوجد عذاب قبر في الإسلام؟
من المُحزن ومن الصعب على النفس البشرية أن تعتقد في دينها أمراً هو لدى الآخر حُجة عليها ، فمفهوم ذلك الحبل الفكري والأخلاقي الذي يربط كافة البشر في تعيين مفاهيم كالصدق والكذب والبطش والرحمة والدين والحركة والسكون والنظر إلى الكون والجنس وسائر المفاهيم البشرية والتي لا تكاد تجد في أمرها خلافاً عدا بعض متعلقات ومصاديق تلك المفاهيم بين الناس..رأيت محاولات محمومة لتحذير الناس من حَدَث عظيم يغرسوه في أنفسنا منذ الصِغر، وكأن هذا الحدث هو لدينا أعظم من أهوال القيامة وعذابها، بل من رحمة هؤلاء أن كان هذا الحدث لديهم عذاباً دون النعيم، وكأن في مُخيلتهم ذلك القرع والزجر يهيمن على مفاصلهم ويشل طاقاتهم الفكرية والذهنية فلم يعودوا يعرفون إلا الاستعاذة منه والاستغفار لأجله.
إن فكرة الدين كي تخرج إلى مجال العمل والبناء لابد لها من فك قيود الإنسان وزرع مهابة الحق في نفسه..ذلك لصناعة الإنسان الحر المبادر والذي لا ينظر للأشياء كوعاء يحتويها لنفسه ورأيه.. بل ينظر إليها كقائد لها وموجه، مطلوب فكرة سويّة تؤمّن له الحُرية والمساواة والعدل له ولغيره ، فإذا كان خطاب من يتحدثون في هذا الحدث خطاباً واحدياً ..تحذير دون تبشير، تخويف وإرهاب دون أمان واطمئنان فما حاجة الإنسان للتصديق بهذا الحدث؟!..إن من زرعوا في أنفسنا عقيدة "عذاب القبر" تغافلوا عن ماهية الإنسان المفكر الحُرّ والذي لا يقبل على نفسه الانقياد والتبعية، وأنه يفهم الدين بحكمة العدل التي توازن بين مشاعر الحب والكراهية..زرعوا فينا عقيدة مشوّهة أقرب إلى الحكايا والخُرافات منها إلى العقائد الثابتة والفاصلة، وكأنه ولابد لنا لكي نتميز في عقائدنا عن الآخرين أن نتميز عنهم بعقيدة 99% منها عذاب وزجر وبطش ومرزبّات تضربنا لتهبط بنا إلى سابع أرض وشُجاع أقرع يأكل جثثنا"المتحللة"ولا أعلم لماذا لم يسأل هؤلاء الجهابذة أنفسهم كيف لجثة تحللت أن تشعر بعذاب أو أن يجري عليها هذا العذاب أصلاً.
سيقولون ولماذا لا تنطق ذلك على الشهداء فقد صرّح القرآن بحياتهم وبالتالي فهم يشعرون، وكأنهم يريدون للقرآن بأن يتقيد لمفاهيمهم الضيقة ورغبتهم "المتكررة" في تقييد القرآن بكلام الرواة، فمفهوم أن الشُهداء غاية ما بلغ إلينا من خبرهم أنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون ولم يأتِ إلينا تصريحاً بأحوالهم في القبر بل لم يُذكر قبر أصلاً..وبالتالي يسقط الاستشهاد بمصيرهم لانتفاء القضية، أيضاً فالموت موت والحياة حياة هكذا نفهم آية الشُهداء في قوله تعالى.."أمواتاً بل أحياء"..والمغايرة بين الحالين ثابتة بنصّ الآية، وكذلك في ثبوت الموت على ما دون الشهداء-بمن فيهم الأنبياء- وأن استثناء الشُهداء بالحياة يعني في مضمونه سريان كافة خصائص الحياة عليهم، ومن يبتدع في كتاب الله أمراً ليس فيه بتأويل الآية لعموم الناس فالله حسيبه، فبدلاً من أن نُعطّل أحكام وقضايا الدين بحرفها عن فهمها"الفطري"لابد لنا من تشجيع أنفسنا على التمسّك بكتاب الله .
أيضاً فمن المقرر لدينا في الدين أن الله يحاسب عباده بموجب صحائفهم وهذا مُقرر سلفاً في مشاهد الحساب.. وحكمته أنه لا عذاب قبل ثبوت التُهمة، وما جاء إلينا من آثار"عذاب القبر"لم يحل هذه المُعضلة والتي تكاد تكون من ثوابت القرآن ومُحكماته، كذلك في إعطاء فرصة لكل نفس لأن تجادل-تدافع- عن نفسها كي تبقى الموازين بالقسط فلا يُظلم أحد...غاية ما أتى إلينا في هذا الشأن هو سؤال القبر.."من ربك وما دينك...إلخ"..وهو تصوّر دنيوي تم إسقاط آيات التثبت عليه ليكتمل المشهد، ولم يُجيب أحدهم عن الحكمة من بقاء هذا النوع من العذاب إلى يوم القيامة حيث كان بقائه يُثبت مظلومية أكثر الناس، فمن مات منذ 1000 عام سيُعذب ولن يتساوى مع من مات قبل القيامة بعام أو بعامين..وهكذا.
وعندما نقول لهم بأن القرآن يخلو من تلك العقيدة"الهمجية والخُرافية"يستدلون علينا بأقوى أدلتهم وهو قوله تعالى .."النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ".. ولكن ماذا نفعل فيمن عطّل تفكيره وشلّ حركته عن العمل، ولما لا والمؤمن بهذه "الخُرافة"هو مُقيّد أصلاً ولا يرى بعقله ما يراه ويسمعه من شيوخه..فالآية ليست محل نزاع لأننا لو قرأنا الآية -دون أي مرجعية مسبقة تحملنا على تفسير القرآن بأفكار موروثة- سنرى هذه الأشياء جلية واضحة:
1-أنهم يُعرضون على النار وليس "يُعذبون في النار"..
2-يُفهم من الآية بقاء النار في موضعها وانتقال أصحاب العذاب إليها..
3- الآية تتحدث عن فرعون مع كل جبروته وكُفره وطُغيانه إلا أنه لم يُعذب في النار.
4-عدم اختصاص الآية بفكرة "عذاب القبر"إذ الوارد في كُتب الصحاح أن عذاب القبر كطريقة وكأسلوب وأدوات ليس كعذاب النار وبينهما من الاختلافات ما شاء الله.
5-الآية قطعية الثبوت ولكنها ظنية الدلالة لاختلاف العلماء في أشكال العرض والعذاب المقصود من تفسير الآية لها..يعني ذلك وجود مساحة فراغ شاسعة تفتح عدداً من الأقاويل.
6-أن الآية لا يوجد بها أي لفظ يفيد معنى"القبر"والمقصود من الآية هو"البرزخ"..ولكن الخلط بين معاني البرزخ والقبر هو الذي أحدث هذا الاشتباه..ولو قرأ كلٌ منا الآية دون أي مرجعية مُسبقة سيرى أنها تتحدث في أمر آخر تماماً غير الذي سيق لها .
بالعموم الآية ليست محل نزاع لأنها لا تُثبت أو تنفي ما يُسمى"عذاب القبر"..وأنها مخصوصة لقوم فرعون وحدهم.. ومع ذلك لم نرَ لهم عذاباً يُذكر سوى العَرض، وإذا قيل أن العرض نفسه عذاب فهذا تقرير بوجود عذاب في القبر بغير ما ورد إلينا في كُتب الرواة والمحدثين..ناهيك عن حال المغايرة الوارد في"ويوم تقوم الساعة" والذي أعقبه ثبوت العذاب في الآخرة..وهذا يعني أن العرض في مضمونه ليس إلا عذاباً نفسياً يفصل بين مفهومنا عن عذاب القبر وبين المفهوم الشرعي للبرزخ ووجود الأنفس فيه إلى يوم الساعة...فإذا قيل أن هذا التفسير بِدعٌ من القول ولم يسبق به أحد فالحكمة في الإسلام ضالة المؤمن ولو قال بها ملحداً فالحق معه، ومع ذلك فالشيخ محمد متولي الشعراوي-رحمه الله-يقول بأن آية العرض لا تثبت"عذاب القبر"إذ أنها تختص بالعذاب النفسي دون البدني وأحال الشيخ وجود ما يسمى"بعذاب القبر" كون العذاب يقتضي أولاً الحساب وبالتالي فالقول بالعذاب دون الحساب ليس من الشرع في شئ.
كذلك فالإمام الفخر الرازي صاحب"التفسير الكبير"ينفي اختصاص هذه الآية بإثبات أو نفي ما يُسمى"عذاب القبر" حيث يقول في تفسيره:
"احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشياً، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا لأن عرض النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض النصائح عليهم في الدنيا؟ لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار، ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين: الأول: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع، وقوله { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني: أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدنيا، أما في القبر فلا وجود لهما، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر. انتهى.
قلت:أضيف أن الآية مكية في سورة غافر وهذا يعني-حسب الآية أن الرسول والصحابة وأمهات المؤمنين كان يعلمون"بعذاب القبر"قبل الهجرة ولكن مع ذلك فلدينا آثار عنهم تقر جميعاً بأنهم كانوا يجهلون"عذاب القبر"في تلك الفترة وأن امرأة يهودية-كالعادة-هي التي نبهت السيدة عائشة والرسول لهذا الأمر في المدينة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
1-"دَخَلَتْ عَلَيْهَا يَهُودِيَّةٌ اسْتَوْهَبَتْهَا طِيبًا فَوَهَبَتْ لَهَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ أَجَارَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَتْ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِلْقَبْرِ عَذَابًا قَالَ نَعَمْ إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ"...مسند أحمد.
2-"دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَتْ إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ فَقُلْتُ كَذَبْتِ فَقَالَتْ بَلَى إِنَّا لَنَقْرِضُ مِنْهُ الثَّوْبَ وَالْجِلْدَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ مَا هَذِهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَتْ فَقَالَ صَدَقَتْ قَالَتْ فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَّا قَالَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَعِذْنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ"..مسند أحمد-سنن النسائي.
قلت: أن معنى أن يجهل النبي بعقيدة أو كان يعلمها ولا يجهر بها للناس منتظراً تلك اليهودية أن تأتي بها ..فهذا يعد انتقاصاً واضحاً من رسول الله، نحن لم نتصور يوماً أن النبي كان شخصاً مبادراً بهذه الطريقة في التفكير..أنا على استعداد بقبول أي رواية ولكن شرط أن تحفظ للنبي مقامه الوارد إلينا في القرآن، وأن عَظَمة القرآن وحكمته تخطت كون الرسول فيه إنساناً خلوقاً طيب القلب....فصورة النبي في القرآن أنه المسلم الذي لا يتهاون في تبليغ الدعوة ، وأنه سيتحمل العناء وكافة التضحيات التي ستعقب أفعاله..لا أن يكتمها في قلبه منتظراً أهل الكتاب كما أفهمتنا تلك الروايات..ولما الكتمان والرسول هو أعظم من ضحّى لأجل الدين..وما هي قيمة"عذاب القبر"لكتمانه؟..ما الآثار السلبية المترتبة على الجهر به..إن فكرنا بعقولنا البسيطة سنجد لا شئ.
الخلاصة أن آية غافر لا علاقة لها بالمسألة لا من قريب ولا من بعيد..بل هناك بعض الآثار عن النبي في مسند أحمد وغيره تقول بأن النبي- في المدينة- كذّب اليهود في ادعائهم بأن هناك عذاباً في القبر فرد عليهم وقال"لا عذاب دون يوم القيامة"ثم نادى في الناس بعد ذلك وحذرهم منه..وهذا يُفترض حسب هذه الرواية المزعومة أن النبي كذّب شيئاً مصدره اليهود..ثم أوحي إليه بعد ذلك بصحته وهذا افتراءٌ على الرسول ودجل وتخبيص فقضايا العقائد والإيمان لا يفتي فيها الرسول بدون علم كما أفهمنا هؤلاء.. والسبب في حدوث ذلك لدى الكاذبين على رسول الله أن الرؤية العقدية لديهم مبنية على روايات بشرية خالصة، سواء كانت "صحيحة أم ضعيفة"ليس هنا الإشكال..بل الإشكال في أن العقيدة بكامل أصولها وتفاصيلها يخلو منها القرآن، بل إن القرآن يقر بالعكس تماماً وينفي وجود مثل هذا التصور الميثولوجي في الإسلام،فالقرآن كان واضحاً ولم يذكر أي أحداث سواء نعيم أو عذاب في فترة ما بين الموت والبعث وأن هذه الفترة تمر على النفس دون شعور بالزمان أو المكان، وأن الجثة في القبر عبارة عن جسد يبلى ويتحلل تكون نفسها في مستودع البرزخ لا تشعر بزمان أو مكان لحين نفخة البعث..
هذا لابد وأن يفتح باب للنظر في كامل المسألة لأن التقرير السابق يتوافق مع عدل الله ورحمته ويحل كافة الإشكالات الشرعية والمنطقية التي أحدثتها هذه الخُرافة....أيضاً لا ننسى أن دور الخرافة في تقنين الاستبداد السياسي والديني كبير، وخُرافة كخُرافة عذاب القبر أعتقد أن منشأها المتصوفة وخرافاتهم، أو عقائد وموروثات المجتمعات حديثة الإسلام والتي تسللت لكُتب الصِحاح حتى استقرت لدينا وأصبحت من الثوابت ولا حول ولا قوة إلا بالله..
الطريف في خرافة "عذاب القبر" أنها لا تحل إشكاليات صنعتها وبالتالي تكون كالذي ورّط نفسه في مستنقع وغرق بأفعاله وجهله، وذلك بإقرارها أسماء ملائكة القبر وكأنه لا يوجد أسماء للملائكة تليق بمقامهم الكريم ومنزلتهم المُثبتة في القرآن..ففي حين نجد أن الله تعالى قال في مُحكم كتابه.."ولا نُنزّل الملائكة إلا بالحق"..نرى القائلين بهذه الخرافة وقد جعلوا التنزيل بالباطل، حيث نعتوا أحد الملائكة.."بالمُنكر"..والآخر.."بالنكير"..حقيقة هذا سلوك غريب ولا أفهم الدافع أو السبب وراء هذه التسمية"القبيحة"..كذلك في قولها-أي الخُرافة- على لسان الكافر بعد سؤاله من ربك وما دينك فيرد قائلاً.."ها ها لا أدري"..وهنا أسجل ضحكة صفراء من هذا الرد الذي يوضح ثقافة القائل بهذا الحديث المُفترى..فتعبير.."ها ها"..للضحك هو تعبير عربي عام ومقيد حسب بعض المجتمعات العربية فأكثر دول الخليج يضحكون هكذا..وكذلك الشام ومنهم في مصر من يضحك هكذا.."هههههه"..ومنهم من في العراق من يضحك هكذا.."خخخخخ"..وبالعموم فهمنا أن هذا الضحك "المفترى"هو من نوعية الضحك المرضي والذي يعاني منه المرضى النفسيون...ولن أتوقف عنده كثيرا فقد ظهر لي أن قائل هذا الحديث عربي بثقافة عربية بينما الحساب عند الله لا يعرف أي حدود.
كذلك في قولهم بأن "مُنكر ونكير" سيظلوا يضربون الجثة بالمرزبة وتهبط بها إلى سابع أرض بينما يقولون في ذات الوقت أن الشجاع الأقرع سيظل ينهش في لحم الميت إلى يوم القيامة، وهنا لا أدري هل الإنسان في القبر سيتفرغ لنوع واحد من العذاب أم لنوعين؟!..أي أنه لا وجود إلا لاحتمال التنسيق بين منكر ونكير من جهة وبين الشجاع الأقرع من جهة أخرى على التناوب في آداء وظيفتهم!..أو بقولهم بأن عدم الاستبراء من البول وكذلك النميمة سبباً في العذاب، أو قولهم بأن عذاب عامة أهل القبور هو لعدم استبرائهم من البول، وقد سجلوا "افتراءاً" على رسول الله في واحدة منها.. بينما لم نجد هذا الشرط –أو السبب-في سؤال القبر والذي عن طريقه –والجواب- عنه يأتي العقاب، أو بعدم التصريح بهوية صاحبي القبر المُعذّبين فإن كانا مسلمين فما بال الزنا والكذب والقتل والبطش والربا...إلخ..وإن كانا كافرين فما بال كُفرهما ولماذا البول والنميمة بالذات وحالهم ينضح بما هو أعظم!
حقيقة فالمتناقضات كثيرة ووضعها في هذا المقال جميعاً لا يكفي.. فهي بحاجة لكتاب، وكافة الروايات معلولة بعلل إما في المتون أوفي تضاربها معاً، بحيث يخرج لك في النهاية عقيدة ليست مترابطة وأكثرها ثغرات ليست فقط عقلية بل أيضاً شرعية..وأشير إلى أنني لم أبحث في فكرة "عذاب القبر" هذه إلا منذ عامين اثنين ولم أجد حُجة مقنعة عند من يقولون بهذا النوع من العذاب...
كمثال فقد خالتني شُبهة قوية وهي الحديث عن مشاهد "العذاب دون النعيم"ولو تدبرنا القرآن-الذي لا نقرأه بتدبر-سنرى أن الله قد ساوى بين مشاهد العذاب والنعيم في الآخرة في مشهد قوي يحفظ للقرآن توازنه وعدله..والبعض يرى أن هذا ليس كافياً حيث قالوا أن فكرة"عذاب القبر"قالت بروضة الجنة وحفرة النار وتوسعة القبر 70 ذراعاً..وكذلك قالت بالأنيس الصالح..لكن هذا كله ليس من مشاهد النعيم التي تتساوق مع المشاهد الحركية لمرزبة منكر ونكير وتقطيع الشجاع الأقرع للحم الميت وغيرها، حيث كان يلزم ذلك وبالتساوى مع مشاهد العذاب أن تُوجد مشاهد للنعيم يتنعم فيها الميت حِسياً وشعوريا وبدنياً كما حضر ذلك الشعور والحِسّ حين عذابه، فما الذي يمنع من طعام الميت وشرابه داخل القبر؟!..ولكن أعتقد أن عدم قولهم بالطعام والشراب ينبع من بواقى الفطرة لديهم وهي التي تجعل مباهج الدنيا ولذتها حصرية للأحياء دون الأموات..ولكن السؤال-الذي في نفس السياق- لماذا يقبلون بمتاعب الدنيا وآلامها على الأموات ومع ذلك لا يقبلون باللذة في حقهم؟وهل يتناسب هذا مع عدل الله أم مع معاييرهم هم عن العدل؟!
حقيقة أن القول بنفي نعيم قضية يلزمه نفي عذابها.. فمعنى انتفاء فكرة النعيم –كجزء-وانتسابها للحساب –ككل-يهدم ما جاء في نظرية الحساب من الأساس ، وذلك تِبعاً لمنطق الجزء أصغر من الكُل، فإذا كانت رؤية الدمج تتضمن شيئين ثبت بُطلان أحدهما فالنظرية بالكامل لا معنى لها إلا بقرينة تُقيم الآخر مستقلاً.. يعني بتوضيح أكثر أن القضية الكلية هي"حساب القبر" والجزئي منها"نعيم وعذاب"..ولم يثبت لنا في كتب الرواة والمحدثين أن هناك حساباً في القبر لأن غالب ما أتى إلينا هو"عذاب القبر"..حتى أن البخاري بوّب له باباً بهذا الشكل"باب ما جاء في عذاب القبر"طب لماذا لم يذكر النعيم ؟!
لماذا لا يوجد عذاب قبر في الإسلام؟
من المُحزن ومن الصعب على النفس البشرية أن تعتقد في دينها أمراً هو لدى الآخر حُجة عليها ، فمفهوم ذلك الحبل الفكري والأخلاقي الذي يربط كافة البشر في تعيين مفاهيم كالصدق والكذب والبطش والرحمة والدين والحركة والسكون والنظر إلى الكون والجنس وسائر المفاهيم البشرية والتي لا تكاد تجد في أمرها خلافاً عدا بعض متعلقات ومصاديق تلك المفاهيم بين الناس..رأيت محاولات محمومة لتحذير الناس من حَدَث عظيم يغرسوه في أنفسنا منذ الصِغر، وكأن هذا الحدث هو لدينا أعظم من أهوال القيامة وعذابها، بل من رحمة هؤلاء أن كان هذا الحدث لديهم عذاباً دون النعيم، وكأن في مُخيلتهم ذلك القرع والزجر يهيمن على مفاصلهم ويشل طاقاتهم الفكرية والذهنية فلم يعودوا يعرفون إلا الاستعاذة منه والاستغفار لأجله.
إن فكرة الدين كي تخرج إلى مجال العمل والبناء لابد لها من فك قيود الإنسان وزرع مهابة الحق في نفسه..ذلك لصناعة الإنسان الحر المبادر والذي لا ينظر للأشياء كوعاء يحتويها لنفسه ورأيه.. بل ينظر إليها كقائد لها وموجه، مطلوب فكرة سويّة تؤمّن له الحُرية والمساواة والعدل له ولغيره ، فإذا كان خطاب من يتحدثون في هذا الحدث خطاباً واحدياً ..تحذير دون تبشير، تخويف وإرهاب دون أمان واطمئنان فما حاجة الإنسان للتصديق بهذا الحدث؟!..إن من زرعوا في أنفسنا عقيدة "عذاب القبر" تغافلوا عن ماهية الإنسان المفكر الحُرّ والذي لا يقبل على نفسه الانقياد والتبعية، وأنه يفهم الدين بحكمة العدل التي توازن بين مشاعر الحب والكراهية..زرعوا فينا عقيدة مشوّهة أقرب إلى الحكايا والخُرافات منها إلى العقائد الثابتة والفاصلة، وكأنه ولابد لنا لكي نتميز في عقائدنا عن الآخرين أن نتميز عنهم بعقيدة 99% منها عذاب وزجر وبطش ومرزبّات تضربنا لتهبط بنا إلى سابع أرض وشُجاع أقرع يأكل جثثنا"المتحللة"ولا أعلم لماذا لم يسأل هؤلاء الجهابذة أنفسهم كيف لجثة تحللت أن تشعر بعذاب أو أن يجري عليها هذا العذاب أصلاً.
سيقولون ولماذا لا تنطق ذلك على الشهداء فقد صرّح القرآن بحياتهم وبالتالي فهم يشعرون، وكأنهم يريدون للقرآن بأن يتقيد لمفاهيمهم الضيقة ورغبتهم "المتكررة" في تقييد القرآن بكلام الرواة، فمفهوم أن الشُهداء غاية ما بلغ إلينا من خبرهم أنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون ولم يأتِ إلينا تصريحاً بأحوالهم في القبر بل لم يُذكر قبر أصلاً..وبالتالي يسقط الاستشهاد بمصيرهم لانتفاء القضية، أيضاً فالموت موت والحياة حياة هكذا نفهم آية الشُهداء في قوله تعالى.."أمواتاً بل أحياء"..والمغايرة بين الحالين ثابتة بنصّ الآية، وكذلك في ثبوت الموت على ما دون الشهداء-بمن فيهم الأنبياء- وأن استثناء الشُهداء بالحياة يعني في مضمونه سريان كافة خصائص الحياة عليهم، ومن يبتدع في كتاب الله أمراً ليس فيه بتأويل الآية لعموم الناس فالله حسيبه، فبدلاً من أن نُعطّل أحكام وقضايا الدين بحرفها عن فهمها"الفطري"لابد لنا من تشجيع أنفسنا على التمسّك بكتاب الله .
أيضاً فمن المقرر لدينا في الدين أن الله يحاسب عباده بموجب صحائفهم وهذا مُقرر سلفاً في مشاهد الحساب.. وحكمته أنه لا عذاب قبل ثبوت التُهمة، وما جاء إلينا من آثار"عذاب القبر"لم يحل هذه المُعضلة والتي تكاد تكون من ثوابت القرآن ومُحكماته، كذلك في إعطاء فرصة لكل نفس لأن تجادل-تدافع- عن نفسها كي تبقى الموازين بالقسط فلا يُظلم أحد...غاية ما أتى إلينا في هذا الشأن هو سؤال القبر.."من ربك وما دينك...إلخ"..وهو تصوّر دنيوي تم إسقاط آيات التثبت عليه ليكتمل المشهد، ولم يُجيب أحدهم عن الحكمة من بقاء هذا النوع من العذاب إلى يوم القيامة حيث كان بقائه يُثبت مظلومية أكثر الناس، فمن مات منذ 1000 عام سيُعذب ولن يتساوى مع من مات قبل القيامة بعام أو بعامين..وهكذا.
وعندما نقول لهم بأن القرآن يخلو من تلك العقيدة"الهمجية والخُرافية"يستدلون علينا بأقوى أدلتهم وهو قوله تعالى .."النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ".. ولكن ماذا نفعل فيمن عطّل تفكيره وشلّ حركته عن العمل، ولما لا والمؤمن بهذه "الخُرافة"هو مُقيّد أصلاً ولا يرى بعقله ما يراه ويسمعه من شيوخه..فالآية ليست محل نزاع لأننا لو قرأنا الآية -دون أي مرجعية مسبقة تحملنا على تفسير القرآن بأفكار موروثة- سنرى هذه الأشياء جلية واضحة:
1-أنهم يُعرضون على النار وليس "يُعذبون في النار"..
2-يُفهم من الآية بقاء النار في موضعها وانتقال أصحاب العذاب إليها..
3- الآية تتحدث عن فرعون مع كل جبروته وكُفره وطُغيانه إلا أنه لم يُعذب في النار.
4-عدم اختصاص الآية بفكرة "عذاب القبر"إذ الوارد في كُتب الصحاح أن عذاب القبر كطريقة وكأسلوب وأدوات ليس كعذاب النار وبينهما من الاختلافات ما شاء الله.
5-الآية قطعية الثبوت ولكنها ظنية الدلالة لاختلاف العلماء في أشكال العرض والعذاب المقصود من تفسير الآية لها..يعني ذلك وجود مساحة فراغ شاسعة تفتح عدداً من الأقاويل.
6-أن الآية لا يوجد بها أي لفظ يفيد معنى"القبر"والمقصود من الآية هو"البرزخ"..ولكن الخلط بين معاني البرزخ والقبر هو الذي أحدث هذا الاشتباه..ولو قرأ كلٌ منا الآية دون أي مرجعية مُسبقة سيرى أنها تتحدث في أمر آخر تماماً غير الذي سيق لها .
بالعموم الآية ليست محل نزاع لأنها لا تُثبت أو تنفي ما يُسمى"عذاب القبر"..وأنها مخصوصة لقوم فرعون وحدهم.. ومع ذلك لم نرَ لهم عذاباً يُذكر سوى العَرض، وإذا قيل أن العرض نفسه عذاب فهذا تقرير بوجود عذاب في القبر بغير ما ورد إلينا في كُتب الرواة والمحدثين..ناهيك عن حال المغايرة الوارد في"ويوم تقوم الساعة" والذي أعقبه ثبوت العذاب في الآخرة..وهذا يعني أن العرض في مضمونه ليس إلا عذاباً نفسياً يفصل بين مفهومنا عن عذاب القبر وبين المفهوم الشرعي للبرزخ ووجود الأنفس فيه إلى يوم الساعة...فإذا قيل أن هذا التفسير بِدعٌ من القول ولم يسبق به أحد فالحكمة في الإسلام ضالة المؤمن ولو قال بها ملحداً فالحق معه، ومع ذلك فالشيخ محمد متولي الشعراوي-رحمه الله-يقول بأن آية العرض لا تثبت"عذاب القبر"إذ أنها تختص بالعذاب النفسي دون البدني وأحال الشيخ وجود ما يسمى"بعذاب القبر" كون العذاب يقتضي أولاً الحساب وبالتالي فالقول بالعذاب دون الحساب ليس من الشرع في شئ.
كذلك فالإمام الفخر الرازي صاحب"التفسير الكبير"ينفي اختصاص هذه الآية بإثبات أو نفي ما يُسمى"عذاب القبر" حيث يقول في تفسيره:
"احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشياً، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا لأن عرض النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض النصائح عليهم في الدنيا؟ لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار، ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين: الأول: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع، وقوله { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني: أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدنيا، أما في القبر فلا وجود لهما، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر. انتهى.
قلت:أضيف أن الآية مكية في سورة غافر وهذا يعني-حسب الآية أن الرسول والصحابة وأمهات المؤمنين كان يعلمون"بعذاب القبر"قبل الهجرة ولكن مع ذلك فلدينا آثار عنهم تقر جميعاً بأنهم كانوا يجهلون"عذاب القبر"في تلك الفترة وأن امرأة يهودية-كالعادة-هي التي نبهت السيدة عائشة والرسول لهذا الأمر في المدينة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
1-"دَخَلَتْ عَلَيْهَا يَهُودِيَّةٌ اسْتَوْهَبَتْهَا طِيبًا فَوَهَبَتْ لَهَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ أَجَارَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَتْ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِلْقَبْرِ عَذَابًا قَالَ نَعَمْ إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ"...مسند أحمد.
2-"دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَتْ إِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ فَقُلْتُ كَذَبْتِ فَقَالَتْ بَلَى إِنَّا لَنَقْرِضُ مِنْهُ الثَّوْبَ وَالْجِلْدَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ مَا هَذِهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَتْ فَقَالَ صَدَقَتْ قَالَتْ فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَّا قَالَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَعِذْنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ"..مسند أحمد-سنن النسائي.
قلت: أن معنى أن يجهل النبي بعقيدة أو كان يعلمها ولا يجهر بها للناس منتظراً تلك اليهودية أن تأتي بها ..فهذا يعد انتقاصاً واضحاً من رسول الله، نحن لم نتصور يوماً أن النبي كان شخصاً مبادراً بهذه الطريقة في التفكير..أنا على استعداد بقبول أي رواية ولكن شرط أن تحفظ للنبي مقامه الوارد إلينا في القرآن، وأن عَظَمة القرآن وحكمته تخطت كون الرسول فيه إنساناً خلوقاً طيب القلب....فصورة النبي في القرآن أنه المسلم الذي لا يتهاون في تبليغ الدعوة ، وأنه سيتحمل العناء وكافة التضحيات التي ستعقب أفعاله..لا أن يكتمها في قلبه منتظراً أهل الكتاب كما أفهمتنا تلك الروايات..ولما الكتمان والرسول هو أعظم من ضحّى لأجل الدين..وما هي قيمة"عذاب القبر"لكتمانه؟..ما الآثار السلبية المترتبة على الجهر به..إن فكرنا بعقولنا البسيطة سنجد لا شئ.
الخلاصة أن آية غافر لا علاقة لها بالمسألة لا من قريب ولا من بعيد..بل هناك بعض الآثار عن النبي في مسند أحمد وغيره تقول بأن النبي- في المدينة- كذّب اليهود في ادعائهم بأن هناك عذاباً في القبر فرد عليهم وقال"لا عذاب دون يوم القيامة"ثم نادى في الناس بعد ذلك وحذرهم منه..وهذا يُفترض حسب هذه الرواية المزعومة أن النبي كذّب شيئاً مصدره اليهود..ثم أوحي إليه بعد ذلك بصحته وهذا افتراءٌ على الرسول ودجل وتخبيص فقضايا العقائد والإيمان لا يفتي فيها الرسول بدون علم كما أفهمنا هؤلاء.. والسبب في حدوث ذلك لدى الكاذبين على رسول الله أن الرؤية العقدية لديهم مبنية على روايات بشرية خالصة، سواء كانت "صحيحة أم ضعيفة"ليس هنا الإشكال..بل الإشكال في أن العقيدة بكامل أصولها وتفاصيلها يخلو منها القرآن، بل إن القرآن يقر بالعكس تماماً وينفي وجود مثل هذا التصور الميثولوجي في الإسلام،فالقرآن كان واضحاً ولم يذكر أي أحداث سواء نعيم أو عذاب في فترة ما بين الموت والبعث وأن هذه الفترة تمر على النفس دون شعور بالزمان أو المكان، وأن الجثة في القبر عبارة عن جسد يبلى ويتحلل تكون نفسها في مستودع البرزخ لا تشعر بزمان أو مكان لحين نفخة البعث..
هذا لابد وأن يفتح باب للنظر في كامل المسألة لأن التقرير السابق يتوافق مع عدل الله ورحمته ويحل كافة الإشكالات الشرعية والمنطقية التي أحدثتها هذه الخُرافة....أيضاً لا ننسى أن دور الخرافة في تقنين الاستبداد السياسي والديني كبير، وخُرافة كخُرافة عذاب القبر أعتقد أن منشأها المتصوفة وخرافاتهم، أو عقائد وموروثات المجتمعات حديثة الإسلام والتي تسللت لكُتب الصِحاح حتى استقرت لدينا وأصبحت من الثوابت ولا حول ولا قوة إلا بالله..
الطريف في خرافة "عذاب القبر" أنها لا تحل إشكاليات صنعتها وبالتالي تكون كالذي ورّط نفسه في مستنقع وغرق بأفعاله وجهله، وذلك بإقرارها أسماء ملائكة القبر وكأنه لا يوجد أسماء للملائكة تليق بمقامهم الكريم ومنزلتهم المُثبتة في القرآن..ففي حين نجد أن الله تعالى قال في مُحكم كتابه.."ولا نُنزّل الملائكة إلا بالحق"..نرى القائلين بهذه الخرافة وقد جعلوا التنزيل بالباطل، حيث نعتوا أحد الملائكة.."بالمُنكر"..والآخر.."بالنكير"..حقيقة هذا سلوك غريب ولا أفهم الدافع أو السبب وراء هذه التسمية"القبيحة"..كذلك في قولها-أي الخُرافة- على لسان الكافر بعد سؤاله من ربك وما دينك فيرد قائلاً.."ها ها لا أدري"..وهنا أسجل ضحكة صفراء من هذا الرد الذي يوضح ثقافة القائل بهذا الحديث المُفترى..فتعبير.."ها ها"..للضحك هو تعبير عربي عام ومقيد حسب بعض المجتمعات العربية فأكثر دول الخليج يضحكون هكذا..وكذلك الشام ومنهم في مصر من يضحك هكذا.."هههههه"..ومنهم من في العراق من يضحك هكذا.."خخخخخ"..وبالعموم فهمنا أن هذا الضحك "المفترى"هو من نوعية الضحك المرضي والذي يعاني منه المرضى النفسيون...ولن أتوقف عنده كثيرا فقد ظهر لي أن قائل هذا الحديث عربي بثقافة عربية بينما الحساب عند الله لا يعرف أي حدود.
كذلك في قولهم بأن "مُنكر ونكير" سيظلوا يضربون الجثة بالمرزبة وتهبط بها إلى سابع أرض بينما يقولون في ذات الوقت أن الشجاع الأقرع سيظل ينهش في لحم الميت إلى يوم القيامة، وهنا لا أدري هل الإنسان في القبر سيتفرغ لنوع واحد من العذاب أم لنوعين؟!..أي أنه لا وجود إلا لاحتمال التنسيق بين منكر ونكير من جهة وبين الشجاع الأقرع من جهة أخرى على التناوب في آداء وظيفتهم!..أو بقولهم بأن عدم الاستبراء من البول وكذلك النميمة سبباً في العذاب، أو قولهم بأن عذاب عامة أهل القبور هو لعدم استبرائهم من البول، وقد سجلوا "افتراءاً" على رسول الله في واحدة منها.. بينما لم نجد هذا الشرط –أو السبب-في سؤال القبر والذي عن طريقه –والجواب- عنه يأتي العقاب، أو بعدم التصريح بهوية صاحبي القبر المُعذّبين فإن كانا مسلمين فما بال الزنا والكذب والقتل والبطش والربا...إلخ..وإن كانا كافرين فما بال كُفرهما ولماذا البول والنميمة بالذات وحالهم ينضح بما هو أعظم!
حقيقة فالمتناقضات كثيرة ووضعها في هذا المقال جميعاً لا يكفي.. فهي بحاجة لكتاب، وكافة الروايات معلولة بعلل إما في المتون أوفي تضاربها معاً، بحيث يخرج لك في النهاية عقيدة ليست مترابطة وأكثرها ثغرات ليست فقط عقلية بل أيضاً شرعية..وأشير إلى أنني لم أبحث في فكرة "عذاب القبر" هذه إلا منذ عامين اثنين ولم أجد حُجة مقنعة عند من يقولون بهذا النوع من العذاب...
كمثال فقد خالتني شُبهة قوية وهي الحديث عن مشاهد "العذاب دون النعيم"ولو تدبرنا القرآن-الذي لا نقرأه بتدبر-سنرى أن الله قد ساوى بين مشاهد العذاب والنعيم في الآخرة في مشهد قوي يحفظ للقرآن توازنه وعدله..والبعض يرى أن هذا ليس كافياً حيث قالوا أن فكرة"عذاب القبر"قالت بروضة الجنة وحفرة النار وتوسعة القبر 70 ذراعاً..وكذلك قالت بالأنيس الصالح..لكن هذا كله ليس من مشاهد النعيم التي تتساوق مع المشاهد الحركية لمرزبة منكر ونكير وتقطيع الشجاع الأقرع للحم الميت وغيرها، حيث كان يلزم ذلك وبالتساوى مع مشاهد العذاب أن تُوجد مشاهد للنعيم يتنعم فيها الميت حِسياً وشعوريا وبدنياً كما حضر ذلك الشعور والحِسّ حين عذابه، فما الذي يمنع من طعام الميت وشرابه داخل القبر؟!..ولكن أعتقد أن عدم قولهم بالطعام والشراب ينبع من بواقى الفطرة لديهم وهي التي تجعل مباهج الدنيا ولذتها حصرية للأحياء دون الأموات..ولكن السؤال-الذي في نفس السياق- لماذا يقبلون بمتاعب الدنيا وآلامها على الأموات ومع ذلك لا يقبلون باللذة في حقهم؟وهل يتناسب هذا مع عدل الله أم مع معاييرهم هم عن العدل؟!
حقيقة أن القول بنفي نعيم قضية يلزمه نفي عذابها.. فمعنى انتفاء فكرة النعيم –كجزء-وانتسابها للحساب –ككل-يهدم ما جاء في نظرية الحساب من الأساس ، وذلك تِبعاً لمنطق الجزء أصغر من الكُل، فإذا كانت رؤية الدمج تتضمن شيئين ثبت بُطلان أحدهما فالنظرية بالكامل لا معنى لها إلا بقرينة تُقيم الآخر مستقلاً.. يعني بتوضيح أكثر أن القضية الكلية هي"حساب القبر" والجزئي منها"نعيم وعذاب"..ولم يثبت لنا في كتب الرواة والمحدثين أن هناك حساباً في القبر لأن غالب ما أتى إلينا هو"عذاب القبر"..حتى أن البخاري بوّب له باباً بهذا الشكل"باب ما جاء في عذاب القبر"طب لماذا لم يذكر النعيم ؟!
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: لماذا لا يوجد عذاب قبر في الإسلام؟
على جانبٍ آخر قد يسأل سائل أننا نقول بأن الأنفس تظل مفارقة للجسد إلى يوم القيامة،ولكن أين مكانها؟ نقول هي في البرزخ كما أقر القرآن وكما أوضح الكثير من العلماء والدارسين لهذه القضية من قبل..والبرزخ هو الحاجز ما بين الموت والبعث، وأن هذه الفترة –أي البرزخ- تمر على النفس دون شعور بالزمان أو المكان، وأن الجثة في القبر عبارة عن جسد يبلى ويتحلل تكون نفسها في مستودع البرزخ لا تشعر بزمان أو مكان لحين نفخة البعث..أما وجود القبر فحكمته هي لتكريم الإنسان وصونه عن باقي المخلوقات وكذلك شعائر دفنه والدعاء له جميعها لتكريمه وطلب الرحمة له في الآخرة..ولكن يبدو أنه باختلاط خرافة عذاب القبر بعذاب الآخرة جرى الاعتقاد بأن الدعاء ومراسم الدفن هي للوقاية من "عذاب القبر"وهذا غير صحيح..فالجسد يبلى ويتحلل في القبر ولا يسمع ولا يشعر لفقدانه جهاز الوعي والشعور والحس لديه وهو النفس..ويستحيل رجوع هذه النفس إلى الجسد إلا في مشاهد البعث كما صرح بذلك القرآن في أكثر من موضع.
أيضاً فلأهمية الدليل القرآني كونه أصل الأصول ومنبع التشريع..نأتي الآن لبعض الأدلة القرآنية والتي يستدل بها القائلون بخُرافة "عذاب القبر" وسنحاول الرد عليها بإيجاز شديد أملاً في إزالة بعض الشبهات والتفسيرات التي تعتري بعض الأذهان... ونسأل الله أن يُفيد:
قالوا أن الدليل في قوله تعالى.." سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم"..ولكن تعدد مرات العذاب لأكثر من واحدة دلالة على تنوعه ويكون ذلك في الدنيا بقرينة ختام الآية.."ثم يردون إلى عذاب عظيم"..والمقصود من العذاب العظيم هو عذاب الآخرة..فإذا كان تعدد العذاب مرتين أنه.."قبر وآخرة"..فيكون العذاب العظيم مغاير وإلا لا اعتبار لتقريره تعالى في الفصل بكلمة"ثم" وهذا مُحال في حق الله..فتقرير الفصل مُحكم ويُثبت مغايرة بين حياة وحياة أخرى..الأولى فيها العذاب مرتين أما الأخرى فتكون العذاب الأعظم.
سلمنا أن تفسيرهم يرى في تعدد مرات العذاب أنه "دنيا وقبر"وأنه يرى تلك المغايرة في ختام الآية، فأين تقرير ذلك الفصل بين الحياة الدنيا والبرزخ، بل ان التثنية تتسق مع كون العذاب مرتين في حق المنافقين، فيجوز عليهم العذاب في الدنيا مرتين لقوله تعالى.." وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ"..فكان عطف الضراء على البأساء يقتضي المغايرة وكلاهما عذاب في الدنيا ..وكذلك لا يجوز إسقاط هذا العذاب على المسلمين كون الآية نزلت في المنافقين....فالآية ليست دليل على شئ والسؤال عن عذاب المنافقين كيف تم أو سيتم هو تحكمٌ بلا دليل والأولى الوقوف عند النص القرآني وعدم تخصيصه لنزول الآية في طائفة محددة سلفاً.
كذلك قالوا أن الدليل في قوله تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون"..ولكن الآية لا تُشير إلى شئ..ففي ختام الآية سيكون الجواب إن شاء الله أي في.."لعلهم يُرجعون"..وهذا تقريرٌ من الله أن المقصود من العذاب الأدنى هو العذاب الدنيوي وأن العذاب الأكبر هو العذاب الأخروي..فمعنى الرجوع يعني وجود الإمكانية للتوبة أو للاعتبار، أما في القبر فلا يوجد عودة ولا رجوع..
كذلك قالوا أن الدليل في قوله تعالى.." ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون"..ولكن البرزخ في القرآن لم يخرج عن معنى.."الحاجز"..ولا علاقة بتفسير البرزخ بأنه القبر أبداً، لأن الإنسان قد يموت ولا يُقبر في شئ ، والخطاب القرآني أجلّ من أن يفصل بين حياتين بتصور مادي مقصور على فهم الإنسان....أما لو أتينا بمطلع الآية الكريمة فهي كالتالي.." حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ،لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"..فالميت يتذكر أحواله حين الاحتضار ويتمنى العودة ولكنها عودة متأخرة فقد استوفت نفسه معاشها في الدنيا وحان وقت معادها إلى ربها..لذلك فالآية لا علاقة لها بفكرة"عذاب القبر"إذ لو كانت تتصل بمضمون هذه الفكرة لكانت الآية كالتالي.."ومن ورائهم عذاب قبر إلى يوم يبعثون".ولكن البرزخ هو الحاجز الذي يفصل بين الحياتين"الدنيا والآخرة"وفيه يكون مستودع الأنفس حيث لا شعور لا بزمان ولا بمكان إلى يوم الساعة.
ومع ذلك تظل محاولاتهم للتشبث بأي آية تنصرهم ورأيهم الذي يهدف في المقام الأول والأخير إلى حفظ الرواية وصون أصحابها وناقليها حتى لو على حساب الشرع حتى لو أوذي النبي نفسه فلا يهمهم..فقد جعلوا الرسول جاهلاً بمثل هذه الحكايا وأنه يأخذ دينه من يهودية، وأنه يكتم الدعوة سنين طويلة تقصيراً في حق الله عليه، حتى الملائكة لم تسلم من أقوالهم فجعلوهم مناكير..وفي الحقيقة أن من يريد السنة الحقيقية فهي في الكتاب دون سواه، ومن أراد المزيد فليتطلع إلى الحديث الموافق له لا المتعارض، بينما العقل هو الكاشف وعنه المعيار.. فالسنة الحقيقية في الكتاب ومن أنكرها فقد أنكر الكتاب هذا ليس قولٌ بدع بل هو تقرير "مُحكم"في القرآن في أكثر من موضع..قال تعالى:
1-ما فرطنا في الكتاب من شئ.
2-ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ.
3-اليوم أكملت لكم دينكم
4-إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
الآن سؤال للكافة مؤيدين ومعارضين..ما معنى.."كل شئ -وما فرطنا –واليوم أكملت لكم دينكم"؟..وهل يُعقل أن يفرض الله علينا عقيدة لا تخضع.."لكل شئ-ولما فرطنا"؟!..وما معنى الأشياء إذاً؟!..وما معنى التفريط؟!..إنه انحراف واضح وجلي عن منهج القرآن وفهمه..فضلاً أن القرآن أقر بحياتين وعذابين وثوابين ولكنهم جعلوها ثلاثة، القرآن يقر بأنه لا عذاب إلا بعد حساب بينما روايات عذاب القبر قالت بالعذاب دون الحساب...القرآن أقر معنى البرزخ وهو الحاجز..بينما روايات عذاب القبر جعلت البرزخ هو القبر...القرآن يقول أن الله لا يظلم مثقال ذرة ..بينما روايات عذاب القبر قالت بأن الله سيظلم الميت القديم...القرآن يقول بأن الميت يجهل ما حدث له والزمان الذي لبثه من بعد الموت إلى البعث بينما روايات عذاب القبر قالت بأنه سيعلم ...القرآن يُقر بأن النفس تصعد لمستودعها في البرزخ بينما أحاديث عذاب القبر تقول بأن النفس ستُعذب مع الجثة في القبر...القرآن يُقر بمشاهد الثواب والعذاب..بينما روايات عذاب القبر لم تُقرّ إلا بالعذاب ومشاهده...الثواب والعذاب في الآخرة من الأمور الغيبية بينما القبر مشاهد محسوسة ومن الممكن الاطلاع على أحوال الجثة بعد الموت..ولم يفتي أحد ممن يؤمن بعذاب القبر كيف لجثة تحللت أن تظل في عذاب إلى يوم القيامة...كذلك فالقرآن يقر بأن الميت فاقد لجميع صفات الوعي والشعور من النطق إلى السمع إلى العقل إلى الحركة إلى الحِسّ بينما روايات عذاب القبر قالت بخلاف هذا كله.
أعلم أن هذا المنهج لا يُعجب هؤلاء فهم لا يؤمنون إلا بحدثنا فلان وعلان، وأن الخبر إذا بلغ مبلغ التواتر-لديهم- فقد حاز على الثقة دون ضرورة لإعمال العقل أو حتى الاجتهاد للتأويل، فهم مُقلّدة ومع ذلك سأرد عليهم بأسلوبهم...أحاديث "عذاب القبر" مشهورة وليست متواترة..والمشهور الصحيح في حُكم الآحاد عند جمهور أهل العلم ، ومن قال بتواترها قال بعضهم بظنيتها قُرباً لليقين لتلقي الأمة لها بالقبول وهذا كلام لا معنى له..فالظن ظن واليقين يقين، أما تلقي الأمة بالقبول فهذا ثابت في أحاديث كثيرة عليها كثير المطاعن ومؤخراً تم تفنيد ورد الكثير منها كتعيين سن زواج وبناء السيدة عائشة وحديث الفرقة الناجية وغيرها فيسقط الشرط....كذلك فالحُكم بتواتر أثر ليس بالمسألة السهلة ففي القضية خلاف عظيم، كذلك القول بالإجماع فليس من العلم في شئ، أنا أصدق ابن حزم ومن لفّ لفّه في نفي وجود الإجماع، وكذلك قول إمامنا ابن حنبل"من ادعى الإجماع فقد كذب"..أفهم أن الإجماع يتحقق ولكن في أضيق الحدود.
علماً بأن جمعاً غفيراً من العلماء أفتى بعدم وجود المتواتر ومنهم من قال بأن المتواتر واحد وهو حديث"من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار".. ومنهم من قال بأن المتواتر خمسة أو عشرة ليس من بينها.."عذاب القبر "..فيظهر لنا أن جمهور الأمة لم يثبت قولاً واحداً بالتواتر في حق أحاديث"عذاب القبر..وعليه فلا موجِب لها في العقائد عند جمهور أهل السنة لعدم الإجماع..كذلك يسقط كون عذاب القبر من أصول الدين فهذا افتراءٌ عظيم، فجمهور أهل السنة توقفوا فيها ولم يقولوا بكُفر منكريها..علاوة أن كثيراً من العلماء والمحققين توقفوا في هذه المسألة قديماً وحديثاً ولم يُبدوا رأيهم، وما يُدرينا ما قولهم وإلى أي قول ننسبهم، كذلك لثبوت نقض الإجماع بقول أكثر المعتزلة وفرقة الخوارج وبعضاً من أهل السنة والشيعة خاصة المعاصرين.
وفي هذا السياق أطرح رؤية عقلانية مقبولة للشيخ محمد رشيد رضا أفتى فيها بنفس النتيجة وهي أن عذاب القبر ليس من أصول الدين، ومع إقراره به إلا أنه التزم الشرع الحنيف بعدم تخطئة المخالف فيما لم يُصرّح به النص الصحيح وقطعي الدلالة، وهاك السؤال والجواب معاً:
السؤال: مِن الشيخ حسن أبو أحمد مأذون الشرع بنقطة ( المنصورة ) .
في مطرية المنزلة خلاف بين طائفتين في عذاب القبر هل هو ثابت بصريح القرآن والسنة الصحيحة أم لا ؟ أرجو التكرم بإيفاء هذا الموضوع حقَّه من غير إحالة على أعداد مضت لأني وعدتهم بذلك وعرفتهم بقولك الفصل ولكم الفضل .
الجواب: قد سبق لنا بيان هذه المسألة في المنار ، ونقول الآن : إنها لم يصرح بها في القرآن ، ولكن ورد فيها أحاديث صحيحة مشهورة وليراجع ما كتبناه من قبل ( ص 946 م 5 ) و ( ص 256 م 8 ) .انتهى
قلت:ظهر لنا بأن الشيخ أقر بعدم تصريح القرآن بتلك العقيدة وهي كافية لديه لعدم تخطئة المخالف، أما من يتفنن ويلتف حول النصوص لإقرار عقيدة لديه هي باطلة شكلاً وموضوعاً فذلك اتباع الهوى بعينه..حقيقة في زمن الشيخ رشيد رضا -رحمه الله-كان الخلاف في مثل هذه الأمور شيئاً عاديا، حيث وبرواية مأذون المنصورة الشيخ حسن أبو أحمد يتبين لنا أن قضايا الاجتهاد في هذا الوقت لم تكن منكورة كما يحدث في زمننا هذا، وأن الإرهاب الفكري الذي يُواجه كل داعية وباحث في هذه المسائل الآن.. هو إرهاب ذميم ومصطنع وليس من الإسلام في شئ..ويكفي أن الشيخ رحمه الله في تقريره السابق في مجلة المنار-المُشار إليه أورد رأياً وجيها حيث قال.."فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر ، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول العقائد التي يكفر منكرها"..انتهى..وهذا تقرير من الشيخ أن مسألة عذاب القبر ليست من أصول العقائد ، حتى مع إيمانه بما وُرد في الأثر عنه إلا أنه يُقر بأن المسألة لا تدخل في قضايا الإيمان والكُفر، بل كان الخلاف على عهده موجِباً للبحث والتحري.
أيضاً فرفضي لفكرة"عذاب القبر"ينطلق من الدفاع عن الشريعة والرسول، وأن لا نكون عُرضة للاختراق من أي عقائد بالية لا توجِب عملاً إيجابياً بل كان مفعولها السلبي في نفوس المسلمين أكثر إرهاباً وعُنفاً..فما بالك بعقيدة متهالكة ومتناقضة مع القرآن والعقل ابتداء..العقل لا يقبلها..والقرآن كذلك لا يقبلها...والعشرات من الآيات القرآنية الصريحة تنسف هذه العقيدة من جذورها...أنا مستعد أن أقبل بوجودها "عقلاً" شرط أن نُحكّمه في تلك التفاصيل والروايات المتناقضة والتي لا تتحدث عن الرسول إلا بزرع صورة سيئة له في الأذهان...أما شرعاً فالشرع يحيلها بشدة....أي أنني أرد أحاديث"عذاب القبر"ليس للرواية ولكن عن "دراية"..وهذه طريقة مشهورة بين العلماء والمحققين ومنهم من رد"دراية"كثير من الصحاح لتعارضها-لديهم-مع القطعي الصريح والصحيح.
نقطة أخرى وهي غاية في الأهمية ،عُرف عن تدوين الحديث أنه سُمح فيه النقل بالمعنى، حتى من يقولون بتواتر روايات"عذاب القبر"نسبوها إلى المعنى فكان تواترهم معنوياً وليس لفظيا ، والنقل بالمعنى فيه من الخطورة ما شاء الله له أن يكون ،فما الذي يمنع من انتقال أحاديث"عذاب الآخرة"عن الرسول إلى فكرة أخرى كانت مقررة سلفاً في المجتمعات حديثة الإسلام ثم تطورت، أقصد هنا تحولها من "عذاب الآخرة إلى عذاب القبر"..هذا مقبول وجائز "عقلاً"ويجب أن يكون في منحى الدارسين، لأن أصل ومضمون فكرة"عذاب القبر" -بصيغته الحالية- يتناقض ويتعاكس مع الشرع الحنيف بشكلٍ فج، فالنفس يحيل عليها العودة إلى الجسد قبل البعث فيكون البعث في هذه الحالة مرتين وهذا مُحال، أيضاً فهناك من الحديث ما يؤيد هذا الاتجاه في قوله صلى الله عليه وسلم.." إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها"..ولا هبوط للجسد بعد صعود ..هكذا نفهم السنة أنها تتفق مع القرآن وتعضده وتشرحه..لا أن تناقضه وتعاكسه فيصل بنا الحال إلى تحريف الدين.
من وجه آخر فالآيات الناقضة لفكرة"عذاب القبر" قطعية الثبوت والدلالة معاً...كقوله تعالى.." ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولَى﴾ فهذا تصريح بأنه لا حياة سوى في الدنيا والآخرة..وكقوله تعالى ﴿ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ ويكفي أن ابن حزم رأى تعارض هذه الآية مع عقيدة رد النفس إلى البدن في القبر، حتى من رأى أن ورود الآية على ألسنة الكفار يكفي لرد التعارض خرج حديثهم متهافتاً حيث وبقولهم "ربنا" يكونون في سياق الاعتراف بدلالة ختام الآية ﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾..فإذا قيل أن اعترافهم محل شك وتقدح في صحة قولهم فماذا نقول في قوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللَّهِ وكُنْتُمْ أمْوَاتاً فأحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجِعُونَ﴾..كذلك في ثبوت رد المولى جل وعلا عليهم وإظهار كذبهم كما قال الرازي.." أما قوله إن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة، قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم، ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم ﴿وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنا مُشْرِكِينَ ﴾ كذبهم الله في ذلك فقال: ﴿ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ (الأنعام: 23، 24)."انتهى...
وللتفصيل أكثر بإظهار ثبوت الموتتين والحياتين دون ثبوتهما في القبر.. يقول الإمام الطبري في تفسيره: قوله: ﴿أمَتَنَّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان. وقال آخرون عن السديّ، قوله: ﴿أمتَنَّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا أو خوطبوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة. ...وقال آخرون في ذلك ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: ﴿ وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ﴾ ...قال: فلما أخذ عليهم الميثاق، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا﴾، انتهى
وأضاف الزمخشري في الكشاف: وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتاً أوّلاً، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحيائتين الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وناهيك تفسيراً لذلك قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (البقرة: 28) وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. ... ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياءات، وهو خلاف ما في القرآن، إلاّ أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها، أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، ويعدّهم في المستثنيين من الصعقة في قوله تعالى ﴿إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ﴾ (النمل: 78).انتهى
قلت:يظهر أن المقصود من الإماتتين والإحيائتين في الآية ينسف فكرة"عذاب القبر"من جذورها..حيث وبمجرد القول بعذاب في القبر -يتسق مع ما ورد في الأحاديث- نضرب القرآن ويفقد تأثيره وهيبته، فضلاً عن ثبوت تأخير الله للظالمين ليوم تشخص فيه الأبصار ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42)﴾ إبراهيم...واليوم كما هو متعارف لدى أهل العلم هو يوم القيامة، فلو كان هناك عذاب ما قبل القيامة لذُكر..كذلك في قوله تعالى ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61)﴾ النحل....فلم يقل أجلان بل أجل واحد، فإذا قيل أجلان قيل بموتتان وحياتان بعد الحياة الدنيا..كذلك في قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45)﴾ يونس...فلو كان هناك حياة ما بعد الموت إلى البعث لذكرها هؤلاء، ولكن التقرير كان أنهم لم يلبثوا إلا ساعة، وهذا يتسق مع السياق العام للقرآن والذي صرّح بأنه لا حياة إلا في الدنيا والآخرة.
أخيراً فالآيات التي تنسف عقيدة"عذاب القبر"كثيرة وهي بالعشرات وبعضهم وصلها لأكثر من 100 آية ، ولا أريد الاسترسال في طرحها وشرحها سواء بفهمي الخاص أو المنقول عن علمائنا وباحثينا، إذ كان يلزم ذلك كتابة كتاب كامل ومفصّل ولم نشأ ذلك لجواز تحصيل المُراد بالإيجاز، ومن أراد البحث والمراجعة فليُراجع، والقول بما يخالف هذا التقرير والتصريح فيه من الخطورة ما شاء الله...أيضاً من هذا السياق القرآني نفهم القرآن ويظهر لدينا بشكل مترابط ومتساوق لا يرد بعضه بعضا، حيث وبوجود وتأصيل هذه الخُرافة لدينا نصنع ليست فقط مشاكل عقلية بل أيضاً مشاكل شرعية لا تُعد ولا تُحصى، وكما أثبتنا عاليه تعارض وتشاكس روايات"عذاب القبر" فيسقط الاستدلال بها لاحتمالية الدليل من وجه ومن رد الدليل لما هو أعلى من وجه آخر...
وكما أن هناك فئة من الناس تهوى التصنيف أقول بأنني لا أتبع مذهباً إسلامياً بعينه، ويكفي أنه لو أراد أحد تصنيفي فأنا مسلم موحد بالله وحسب، لا أؤمن بالخُرافات، وأضع العقل معياراً كاشفاً على كثير من المسائل مما لم تثبت بطريق التواتر الخبري أو الصريح العقلي، فالعقائد لدينا عقليات وخبريات..وخُرافة كخُرافة "عذاب القبر" لا يستسيغها عقل، إما بثبوت التعارض والتناقض وإما باستحالة الحدوث، فالقاضي عندما ينظر لمسألة يضع احتمالاً لديه بالإمكانية، كأن يزعم شخص بأنه سافر من القاهرة لأسوان بالسيارة في نصف ساعة، فكان رد كلامه دليل تعارض، كذلك من يزعم بأن عامة أهل القبور يُعذبون لأجل عدم استبرائهم من البول وهو لدينا حدثاً أصغر فما بالنا بمن لم يتطهر من الجنابة وهي لدينا الحدث الأكبر، وهل يتسق كون عموم الناس يُعذبون للأصغر دون الأكبر؟!..وأشياء كثيرة من التعارضات سُقنا منها هنا والبعض لم نذكره لضيق المساحة..ويبقى لنا أن نسأل الله أن يهدينا إلى الحق بإذنه، وأن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن بأعمالنا نكن عوناً لأنفسنا على التمييز...والحمد لله رب العالمين.
أيضاً فلأهمية الدليل القرآني كونه أصل الأصول ومنبع التشريع..نأتي الآن لبعض الأدلة القرآنية والتي يستدل بها القائلون بخُرافة "عذاب القبر" وسنحاول الرد عليها بإيجاز شديد أملاً في إزالة بعض الشبهات والتفسيرات التي تعتري بعض الأذهان... ونسأل الله أن يُفيد:
قالوا أن الدليل في قوله تعالى.." سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم"..ولكن تعدد مرات العذاب لأكثر من واحدة دلالة على تنوعه ويكون ذلك في الدنيا بقرينة ختام الآية.."ثم يردون إلى عذاب عظيم"..والمقصود من العذاب العظيم هو عذاب الآخرة..فإذا كان تعدد العذاب مرتين أنه.."قبر وآخرة"..فيكون العذاب العظيم مغاير وإلا لا اعتبار لتقريره تعالى في الفصل بكلمة"ثم" وهذا مُحال في حق الله..فتقرير الفصل مُحكم ويُثبت مغايرة بين حياة وحياة أخرى..الأولى فيها العذاب مرتين أما الأخرى فتكون العذاب الأعظم.
سلمنا أن تفسيرهم يرى في تعدد مرات العذاب أنه "دنيا وقبر"وأنه يرى تلك المغايرة في ختام الآية، فأين تقرير ذلك الفصل بين الحياة الدنيا والبرزخ، بل ان التثنية تتسق مع كون العذاب مرتين في حق المنافقين، فيجوز عليهم العذاب في الدنيا مرتين لقوله تعالى.." وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ"..فكان عطف الضراء على البأساء يقتضي المغايرة وكلاهما عذاب في الدنيا ..وكذلك لا يجوز إسقاط هذا العذاب على المسلمين كون الآية نزلت في المنافقين....فالآية ليست دليل على شئ والسؤال عن عذاب المنافقين كيف تم أو سيتم هو تحكمٌ بلا دليل والأولى الوقوف عند النص القرآني وعدم تخصيصه لنزول الآية في طائفة محددة سلفاً.
كذلك قالوا أن الدليل في قوله تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون"..ولكن الآية لا تُشير إلى شئ..ففي ختام الآية سيكون الجواب إن شاء الله أي في.."لعلهم يُرجعون"..وهذا تقريرٌ من الله أن المقصود من العذاب الأدنى هو العذاب الدنيوي وأن العذاب الأكبر هو العذاب الأخروي..فمعنى الرجوع يعني وجود الإمكانية للتوبة أو للاعتبار، أما في القبر فلا يوجد عودة ولا رجوع..
كذلك قالوا أن الدليل في قوله تعالى.." ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون"..ولكن البرزخ في القرآن لم يخرج عن معنى.."الحاجز"..ولا علاقة بتفسير البرزخ بأنه القبر أبداً، لأن الإنسان قد يموت ولا يُقبر في شئ ، والخطاب القرآني أجلّ من أن يفصل بين حياتين بتصور مادي مقصور على فهم الإنسان....أما لو أتينا بمطلع الآية الكريمة فهي كالتالي.." حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ،لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"..فالميت يتذكر أحواله حين الاحتضار ويتمنى العودة ولكنها عودة متأخرة فقد استوفت نفسه معاشها في الدنيا وحان وقت معادها إلى ربها..لذلك فالآية لا علاقة لها بفكرة"عذاب القبر"إذ لو كانت تتصل بمضمون هذه الفكرة لكانت الآية كالتالي.."ومن ورائهم عذاب قبر إلى يوم يبعثون".ولكن البرزخ هو الحاجز الذي يفصل بين الحياتين"الدنيا والآخرة"وفيه يكون مستودع الأنفس حيث لا شعور لا بزمان ولا بمكان إلى يوم الساعة.
ومع ذلك تظل محاولاتهم للتشبث بأي آية تنصرهم ورأيهم الذي يهدف في المقام الأول والأخير إلى حفظ الرواية وصون أصحابها وناقليها حتى لو على حساب الشرع حتى لو أوذي النبي نفسه فلا يهمهم..فقد جعلوا الرسول جاهلاً بمثل هذه الحكايا وأنه يأخذ دينه من يهودية، وأنه يكتم الدعوة سنين طويلة تقصيراً في حق الله عليه، حتى الملائكة لم تسلم من أقوالهم فجعلوهم مناكير..وفي الحقيقة أن من يريد السنة الحقيقية فهي في الكتاب دون سواه، ومن أراد المزيد فليتطلع إلى الحديث الموافق له لا المتعارض، بينما العقل هو الكاشف وعنه المعيار.. فالسنة الحقيقية في الكتاب ومن أنكرها فقد أنكر الكتاب هذا ليس قولٌ بدع بل هو تقرير "مُحكم"في القرآن في أكثر من موضع..قال تعالى:
1-ما فرطنا في الكتاب من شئ.
2-ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ.
3-اليوم أكملت لكم دينكم
4-إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
الآن سؤال للكافة مؤيدين ومعارضين..ما معنى.."كل شئ -وما فرطنا –واليوم أكملت لكم دينكم"؟..وهل يُعقل أن يفرض الله علينا عقيدة لا تخضع.."لكل شئ-ولما فرطنا"؟!..وما معنى الأشياء إذاً؟!..وما معنى التفريط؟!..إنه انحراف واضح وجلي عن منهج القرآن وفهمه..فضلاً أن القرآن أقر بحياتين وعذابين وثوابين ولكنهم جعلوها ثلاثة، القرآن يقر بأنه لا عذاب إلا بعد حساب بينما روايات عذاب القبر قالت بالعذاب دون الحساب...القرآن أقر معنى البرزخ وهو الحاجز..بينما روايات عذاب القبر جعلت البرزخ هو القبر...القرآن يقول أن الله لا يظلم مثقال ذرة ..بينما روايات عذاب القبر قالت بأن الله سيظلم الميت القديم...القرآن يقول بأن الميت يجهل ما حدث له والزمان الذي لبثه من بعد الموت إلى البعث بينما روايات عذاب القبر قالت بأنه سيعلم ...القرآن يُقر بأن النفس تصعد لمستودعها في البرزخ بينما أحاديث عذاب القبر تقول بأن النفس ستُعذب مع الجثة في القبر...القرآن يُقر بمشاهد الثواب والعذاب..بينما روايات عذاب القبر لم تُقرّ إلا بالعذاب ومشاهده...الثواب والعذاب في الآخرة من الأمور الغيبية بينما القبر مشاهد محسوسة ومن الممكن الاطلاع على أحوال الجثة بعد الموت..ولم يفتي أحد ممن يؤمن بعذاب القبر كيف لجثة تحللت أن تظل في عذاب إلى يوم القيامة...كذلك فالقرآن يقر بأن الميت فاقد لجميع صفات الوعي والشعور من النطق إلى السمع إلى العقل إلى الحركة إلى الحِسّ بينما روايات عذاب القبر قالت بخلاف هذا كله.
أعلم أن هذا المنهج لا يُعجب هؤلاء فهم لا يؤمنون إلا بحدثنا فلان وعلان، وأن الخبر إذا بلغ مبلغ التواتر-لديهم- فقد حاز على الثقة دون ضرورة لإعمال العقل أو حتى الاجتهاد للتأويل، فهم مُقلّدة ومع ذلك سأرد عليهم بأسلوبهم...أحاديث "عذاب القبر" مشهورة وليست متواترة..والمشهور الصحيح في حُكم الآحاد عند جمهور أهل العلم ، ومن قال بتواترها قال بعضهم بظنيتها قُرباً لليقين لتلقي الأمة لها بالقبول وهذا كلام لا معنى له..فالظن ظن واليقين يقين، أما تلقي الأمة بالقبول فهذا ثابت في أحاديث كثيرة عليها كثير المطاعن ومؤخراً تم تفنيد ورد الكثير منها كتعيين سن زواج وبناء السيدة عائشة وحديث الفرقة الناجية وغيرها فيسقط الشرط....كذلك فالحُكم بتواتر أثر ليس بالمسألة السهلة ففي القضية خلاف عظيم، كذلك القول بالإجماع فليس من العلم في شئ، أنا أصدق ابن حزم ومن لفّ لفّه في نفي وجود الإجماع، وكذلك قول إمامنا ابن حنبل"من ادعى الإجماع فقد كذب"..أفهم أن الإجماع يتحقق ولكن في أضيق الحدود.
علماً بأن جمعاً غفيراً من العلماء أفتى بعدم وجود المتواتر ومنهم من قال بأن المتواتر واحد وهو حديث"من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار".. ومنهم من قال بأن المتواتر خمسة أو عشرة ليس من بينها.."عذاب القبر "..فيظهر لنا أن جمهور الأمة لم يثبت قولاً واحداً بالتواتر في حق أحاديث"عذاب القبر..وعليه فلا موجِب لها في العقائد عند جمهور أهل السنة لعدم الإجماع..كذلك يسقط كون عذاب القبر من أصول الدين فهذا افتراءٌ عظيم، فجمهور أهل السنة توقفوا فيها ولم يقولوا بكُفر منكريها..علاوة أن كثيراً من العلماء والمحققين توقفوا في هذه المسألة قديماً وحديثاً ولم يُبدوا رأيهم، وما يُدرينا ما قولهم وإلى أي قول ننسبهم، كذلك لثبوت نقض الإجماع بقول أكثر المعتزلة وفرقة الخوارج وبعضاً من أهل السنة والشيعة خاصة المعاصرين.
وفي هذا السياق أطرح رؤية عقلانية مقبولة للشيخ محمد رشيد رضا أفتى فيها بنفس النتيجة وهي أن عذاب القبر ليس من أصول الدين، ومع إقراره به إلا أنه التزم الشرع الحنيف بعدم تخطئة المخالف فيما لم يُصرّح به النص الصحيح وقطعي الدلالة، وهاك السؤال والجواب معاً:
السؤال: مِن الشيخ حسن أبو أحمد مأذون الشرع بنقطة ( المنصورة ) .
في مطرية المنزلة خلاف بين طائفتين في عذاب القبر هل هو ثابت بصريح القرآن والسنة الصحيحة أم لا ؟ أرجو التكرم بإيفاء هذا الموضوع حقَّه من غير إحالة على أعداد مضت لأني وعدتهم بذلك وعرفتهم بقولك الفصل ولكم الفضل .
الجواب: قد سبق لنا بيان هذه المسألة في المنار ، ونقول الآن : إنها لم يصرح بها في القرآن ، ولكن ورد فيها أحاديث صحيحة مشهورة وليراجع ما كتبناه من قبل ( ص 946 م 5 ) و ( ص 256 م 8 ) .انتهى
قلت:ظهر لنا بأن الشيخ أقر بعدم تصريح القرآن بتلك العقيدة وهي كافية لديه لعدم تخطئة المخالف، أما من يتفنن ويلتف حول النصوص لإقرار عقيدة لديه هي باطلة شكلاً وموضوعاً فذلك اتباع الهوى بعينه..حقيقة في زمن الشيخ رشيد رضا -رحمه الله-كان الخلاف في مثل هذه الأمور شيئاً عاديا، حيث وبرواية مأذون المنصورة الشيخ حسن أبو أحمد يتبين لنا أن قضايا الاجتهاد في هذا الوقت لم تكن منكورة كما يحدث في زمننا هذا، وأن الإرهاب الفكري الذي يُواجه كل داعية وباحث في هذه المسائل الآن.. هو إرهاب ذميم ومصطنع وليس من الإسلام في شئ..ويكفي أن الشيخ رحمه الله في تقريره السابق في مجلة المنار-المُشار إليه أورد رأياً وجيها حيث قال.."فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر ، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول العقائد التي يكفر منكرها"..انتهى..وهذا تقرير من الشيخ أن مسألة عذاب القبر ليست من أصول العقائد ، حتى مع إيمانه بما وُرد في الأثر عنه إلا أنه يُقر بأن المسألة لا تدخل في قضايا الإيمان والكُفر، بل كان الخلاف على عهده موجِباً للبحث والتحري.
أيضاً فرفضي لفكرة"عذاب القبر"ينطلق من الدفاع عن الشريعة والرسول، وأن لا نكون عُرضة للاختراق من أي عقائد بالية لا توجِب عملاً إيجابياً بل كان مفعولها السلبي في نفوس المسلمين أكثر إرهاباً وعُنفاً..فما بالك بعقيدة متهالكة ومتناقضة مع القرآن والعقل ابتداء..العقل لا يقبلها..والقرآن كذلك لا يقبلها...والعشرات من الآيات القرآنية الصريحة تنسف هذه العقيدة من جذورها...أنا مستعد أن أقبل بوجودها "عقلاً" شرط أن نُحكّمه في تلك التفاصيل والروايات المتناقضة والتي لا تتحدث عن الرسول إلا بزرع صورة سيئة له في الأذهان...أما شرعاً فالشرع يحيلها بشدة....أي أنني أرد أحاديث"عذاب القبر"ليس للرواية ولكن عن "دراية"..وهذه طريقة مشهورة بين العلماء والمحققين ومنهم من رد"دراية"كثير من الصحاح لتعارضها-لديهم-مع القطعي الصريح والصحيح.
نقطة أخرى وهي غاية في الأهمية ،عُرف عن تدوين الحديث أنه سُمح فيه النقل بالمعنى، حتى من يقولون بتواتر روايات"عذاب القبر"نسبوها إلى المعنى فكان تواترهم معنوياً وليس لفظيا ، والنقل بالمعنى فيه من الخطورة ما شاء الله له أن يكون ،فما الذي يمنع من انتقال أحاديث"عذاب الآخرة"عن الرسول إلى فكرة أخرى كانت مقررة سلفاً في المجتمعات حديثة الإسلام ثم تطورت، أقصد هنا تحولها من "عذاب الآخرة إلى عذاب القبر"..هذا مقبول وجائز "عقلاً"ويجب أن يكون في منحى الدارسين، لأن أصل ومضمون فكرة"عذاب القبر" -بصيغته الحالية- يتناقض ويتعاكس مع الشرع الحنيف بشكلٍ فج، فالنفس يحيل عليها العودة إلى الجسد قبل البعث فيكون البعث في هذه الحالة مرتين وهذا مُحال، أيضاً فهناك من الحديث ما يؤيد هذا الاتجاه في قوله صلى الله عليه وسلم.." إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها"..ولا هبوط للجسد بعد صعود ..هكذا نفهم السنة أنها تتفق مع القرآن وتعضده وتشرحه..لا أن تناقضه وتعاكسه فيصل بنا الحال إلى تحريف الدين.
من وجه آخر فالآيات الناقضة لفكرة"عذاب القبر" قطعية الثبوت والدلالة معاً...كقوله تعالى.." ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولَى﴾ فهذا تصريح بأنه لا حياة سوى في الدنيا والآخرة..وكقوله تعالى ﴿ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ ويكفي أن ابن حزم رأى تعارض هذه الآية مع عقيدة رد النفس إلى البدن في القبر، حتى من رأى أن ورود الآية على ألسنة الكفار يكفي لرد التعارض خرج حديثهم متهافتاً حيث وبقولهم "ربنا" يكونون في سياق الاعتراف بدلالة ختام الآية ﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾..فإذا قيل أن اعترافهم محل شك وتقدح في صحة قولهم فماذا نقول في قوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللَّهِ وكُنْتُمْ أمْوَاتاً فأحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجِعُونَ﴾..كذلك في ثبوت رد المولى جل وعلا عليهم وإظهار كذبهم كما قال الرازي.." أما قوله إن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة، قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم، ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم ﴿وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنا مُشْرِكِينَ ﴾ كذبهم الله في ذلك فقال: ﴿ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ (الأنعام: 23، 24)."انتهى...
وللتفصيل أكثر بإظهار ثبوت الموتتين والحياتين دون ثبوتهما في القبر.. يقول الإمام الطبري في تفسيره: قوله: ﴿أمَتَنَّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان. وقال آخرون عن السديّ، قوله: ﴿أمتَنَّا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا أو خوطبوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة. ...وقال آخرون في ذلك ما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: ﴿ وَإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ﴾ ...قال: فلما أخذ عليهم الميثاق، أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا﴾، انتهى
وأضاف الزمخشري في الكشاف: وأراد بالإماتتين: خلقهم أمواتاً أوّلاً، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحيائتين الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وناهيك تفسيراً لذلك قوله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (البقرة: 28) وكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. ... ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياءات، وهو خلاف ما في القرآن، إلاّ أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها، أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها، ويعدّهم في المستثنيين من الصعقة في قوله تعالى ﴿إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ﴾ (النمل: 78).انتهى
قلت:يظهر أن المقصود من الإماتتين والإحيائتين في الآية ينسف فكرة"عذاب القبر"من جذورها..حيث وبمجرد القول بعذاب في القبر -يتسق مع ما ورد في الأحاديث- نضرب القرآن ويفقد تأثيره وهيبته، فضلاً عن ثبوت تأخير الله للظالمين ليوم تشخص فيه الأبصار ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42)﴾ إبراهيم...واليوم كما هو متعارف لدى أهل العلم هو يوم القيامة، فلو كان هناك عذاب ما قبل القيامة لذُكر..كذلك في قوله تعالى ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61)﴾ النحل....فلم يقل أجلان بل أجل واحد، فإذا قيل أجلان قيل بموتتان وحياتان بعد الحياة الدنيا..كذلك في قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45)﴾ يونس...فلو كان هناك حياة ما بعد الموت إلى البعث لذكرها هؤلاء، ولكن التقرير كان أنهم لم يلبثوا إلا ساعة، وهذا يتسق مع السياق العام للقرآن والذي صرّح بأنه لا حياة إلا في الدنيا والآخرة.
أخيراً فالآيات التي تنسف عقيدة"عذاب القبر"كثيرة وهي بالعشرات وبعضهم وصلها لأكثر من 100 آية ، ولا أريد الاسترسال في طرحها وشرحها سواء بفهمي الخاص أو المنقول عن علمائنا وباحثينا، إذ كان يلزم ذلك كتابة كتاب كامل ومفصّل ولم نشأ ذلك لجواز تحصيل المُراد بالإيجاز، ومن أراد البحث والمراجعة فليُراجع، والقول بما يخالف هذا التقرير والتصريح فيه من الخطورة ما شاء الله...أيضاً من هذا السياق القرآني نفهم القرآن ويظهر لدينا بشكل مترابط ومتساوق لا يرد بعضه بعضا، حيث وبوجود وتأصيل هذه الخُرافة لدينا نصنع ليست فقط مشاكل عقلية بل أيضاً مشاكل شرعية لا تُعد ولا تُحصى، وكما أثبتنا عاليه تعارض وتشاكس روايات"عذاب القبر" فيسقط الاستدلال بها لاحتمالية الدليل من وجه ومن رد الدليل لما هو أعلى من وجه آخر...
وكما أن هناك فئة من الناس تهوى التصنيف أقول بأنني لا أتبع مذهباً إسلامياً بعينه، ويكفي أنه لو أراد أحد تصنيفي فأنا مسلم موحد بالله وحسب، لا أؤمن بالخُرافات، وأضع العقل معياراً كاشفاً على كثير من المسائل مما لم تثبت بطريق التواتر الخبري أو الصريح العقلي، فالعقائد لدينا عقليات وخبريات..وخُرافة كخُرافة "عذاب القبر" لا يستسيغها عقل، إما بثبوت التعارض والتناقض وإما باستحالة الحدوث، فالقاضي عندما ينظر لمسألة يضع احتمالاً لديه بالإمكانية، كأن يزعم شخص بأنه سافر من القاهرة لأسوان بالسيارة في نصف ساعة، فكان رد كلامه دليل تعارض، كذلك من يزعم بأن عامة أهل القبور يُعذبون لأجل عدم استبرائهم من البول وهو لدينا حدثاً أصغر فما بالنا بمن لم يتطهر من الجنابة وهي لدينا الحدث الأكبر، وهل يتسق كون عموم الناس يُعذبون للأصغر دون الأكبر؟!..وأشياء كثيرة من التعارضات سُقنا منها هنا والبعض لم نذكره لضيق المساحة..ويبقى لنا أن نسأل الله أن يهدينا إلى الحق بإذنه، وأن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن بأعمالنا نكن عوناً لأنفسنا على التمييز...والحمد لله رب العالمين.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» لماذا لا يوجد قتل للمرتد في الإسلام
» لا يوجد في الإسلام رجم للزاني المحصن
» هل يوجد عرب الآن؟
» أكذوبة عذاب القبر والثعبان الأقرع
» عذاب قبر أم أوهام قبر؟!
» لا يوجد في الإسلام رجم للزاني المحصن
» هل يوجد عرب الآن؟
» أكذوبة عذاب القبر والثعبان الأقرع
» عذاب قبر أم أوهام قبر؟!
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى