دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
صفحة 1 من اصل 1
دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
بسم الله الرحمن الرحيمإخواني الأعزاء، أخواتي العزيزات، أيها المؤمنون أيها المؤمنات. يقول الله جل وعلا : ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ [1]
أريد أن أحدثكم إن شاء الله في رسالتي هاته عن أفق عملنا الموفق بفضل الله ومنته واضعا المنهاج النبوي في مكان الضوء الكاشف لما نتطلع إليه من مستقبل الخلافة على منهاج النبوة، ذلك الوعد الصادق من الله ورسوله الذي يحذو جهادنا.
على هذا الضوء نرى الأحداث التاريخية المعاصرة، نرى التطور المذهل في العلوم والتكنولوجيا استأثر بهما من دوننا أعداء الإسلام، نرى الاتفاق بين شطري الجاهلية على التصدي العدواني لنهضة الإسلام، نرى فرقة المسلمين وتمزقهم، نرى هيمنة المادية الجاهلية وثقافتها في العالم، نرى احتلال العدو لأرض المسلمين واقتصادهم وعقلهم. نرى الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين المجزأة أقطارا ودويلات تمثل الحكم الجبري الذي يتحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يبشرنا بإشراق شمس الخلافة بعد ظلام العض والجبر. أذكر بالحديث الذي اتخذناه محورا لتفكيرنا ومرشدا لخطواتنا، روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت".
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
الانحراف الخطير
إننا إذ ننظر إلى الأحداث المائجة في عصرنا ونعيش مع الأمة أملها في أن يظهر الله دينه على الدين كله كما وعد ووعده الحق لن نعدو محطات الآمال المجنحة الخائبة، تجنيحها وتحليقها فوق الواقع، تحليقا يعطي النشوة المخدرة لكنه لا يعطي التبصر، إن لم نتخذ هذا الحديث الجليل وأمثاله دليلا لمعرفة الانحراف التاريخي الذي حول مجرى حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا. ذهبت الشورى مع ذهاب الخلافة الراشدة، ذهب العدل، ذهب الإحسان، جاء الاستبداد مع بني أمية، ومع القرون استفحل، واحتل الأرض، واحتل العقول، واعتاد الناس أن يسمعوا عن الخلافة الأموية والعباسية وهلم جرا. وعاشوا على سراب الأسماء دون فحص ناقد للمسميات. سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكا عاضا وملكا جبريا وسماها "المؤرخون" الرسميون خلافة، فانطلت الكذبة على الأجيال، وتسلينا ولا نزال بأمجاد هذه "الخلافة". وقد كانت بالفعل شوكة الإسلام وحاميه من العدوان الخارجي. لكن في ظلها زحف العدوان الداخلي لما أسكتت الأصوات الناهية عن المنكر، واغتيل الرأي الحر، وسد باب الاجتهاد. في ظلها وفي خفاء الصراعات تكونت المذاهب الدساسة، وتمزقت الأمة سنة وشيعة، وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة. لا يجسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن مخافة السلطان. كان القتال في ظلها قد انتهى إلى تركين القرآن وأهله في زوايا الإهمال أو الفتك بهم في "قومات" مثل قومة الحسين بن علي رضي الله عنهما الدموية. وفي ظلها تسلط السيف تسلطا عاتيا. وتقدم أصحاب العصبيات العرقية، فحكم بنو بويه والسلاجقة، والعبيديون، وهلم جرا. حكم كل أولئك تحت ظلها، يُفتي تحت ظلها المفتون بشرعية حكم المستولي بالسيف. وسلام على الشورى وعلى العدل والإحسان.
إننا إذ ننظر إلى الأحداث المائجة في عصرنا ونعيش مع الأمة أملها في أن يظهر الله دينه على الدين كله كما وعد ووعده الحق لن نعدو محطات الآمال المجنحة الخائبة، تجنيحها وتحليقها فوق الواقع، تحليقا يعطي النشوة المخدرة لكنه لا يعطي التبصر، إن لم نتخذ هذا الحديث الجليل وأمثاله دليلا لمعرفة الانحراف التاريخي الذي حول مجرى حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا. ذهبت الشورى مع ذهاب الخلافة الراشدة، ذهب العدل، ذهب الإحسان، جاء الاستبداد مع بني أمية، ومع القرون استفحل، واحتل الأرض، واحتل العقول، واعتاد الناس أن يسمعوا عن الخلافة الأموية والعباسية وهلم جرا. وعاشوا على سراب الأسماء دون فحص ناقد للمسميات. سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكا عاضا وملكا جبريا وسماها "المؤرخون" الرسميون خلافة، فانطلت الكذبة على الأجيال، وتسلينا ولا نزال بأمجاد هذه "الخلافة". وقد كانت بالفعل شوكة الإسلام وحاميه من العدوان الخارجي. لكن في ظلها زحف العدوان الداخلي لما أسكتت الأصوات الناهية عن المنكر، واغتيل الرأي الحر، وسد باب الاجتهاد. في ظلها وفي خفاء الصراعات تكونت المذاهب الدساسة، وتمزقت الأمة سنة وشيعة، وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة. لا يجسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن مخافة السلطان. كان القتال في ظلها قد انتهى إلى تركين القرآن وأهله في زوايا الإهمال أو الفتك بهم في "قومات" مثل قومة الحسين بن علي رضي الله عنهما الدموية. وفي ظلها تسلط السيف تسلطا عاتيا. وتقدم أصحاب العصبيات العرقية، فحكم بنو بويه والسلاجقة، والعبيديون، وهلم جرا. حكم كل أولئك تحت ظلها، يُفتي تحت ظلها المفتون بشرعية حكم المستولي بالسيف. وسلام على الشورى وعلى العدل والإحسان.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
ضرورة التفكير المنهاجي
إن لدى دعاة الباطل، لبراليين واشتراكيين، وقوميين، و"يسار إسلاميين"، وكل مزيج مريج من هذه الأصناف، نسقا واضحا لتحليل الواقع، ونقده، وتحليل التاريخ، ورسم مسار ممكن للمستقبل. ونحن نبقى في عموميات مطالبنا الراقية، نعبر عنها بعواطفنا الجياشة الصادقة المشتاقة لغد الإسلام الأغر.
هذه العاطفية تلف في غلالة حانية متسامحة عذبة تاريخنا في نظر أنفسنا. فلا يزال منا من ينشد ضالته عند النموذج التليد على عهد هارون الرشيد. لا ينتبه لحظة أن هذا الملك، العظيم حقا في ميزان الدنيا، ليس في ميزان الإسلام وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ملكا عاضا يجرحه عضه ويسقطه عن مرتبة الاعتبار الشرعي. بعاطفة الحزين على حاضر المسلمين الهزيل، نندفع لاستدعاء أمجاد "شوكة الإسلام"، وهو تعبير للإمام الغزالي برر به رحمه الله دفاعه عن المستظهر العباسي. نستدعي صورة ذلك العهد القوي سلطانا، نحسب أننا بذلك ننتقم لتفاهتنا الغثائية الحاضرة. ما درينا أننا بإعزازنا للملك العاض الماضي نعز الملك الجبري الحاضر، ونعمل على تعمية آثار الهدي النبوي والوصية النبوية الكفيلين وحدهما، تعليما ينير معالم الطريق، وأوامر للتنفيذ، ونموذجا للاحتذاء، بإنهاء غثائيتنا حين نمشي على المنهاج، ونصحب، بالنظر الناقد الماسك على القول الشريف، تطور الأمر حين بدأ الصراع بين القرآن والسلطان، وحين غلب السيف، وحين غابت الشورى وغاب العدل واختفى الإحسان، حين تفتت الفقه، وحين سيقت الأمة إلى التمزق فالاحتلال الاستعماري فبروز المغربين وجند الشياطين يعيثون في الأمة فسادا.
لا بد لنا إذن من إرساء قواعدنا على مكين الكتاب والسنة لأن العاطفة المجنحة خبال، ولأن فقه سلفنا الصالح الذين عاشوا رهائن مقهورة في قبضة العض والجبر لم يخلفوا لنا إلا نثارا من العلم لا يجمعه مشروع متكامل لأن الحديث عن الحكم وسلطانه ما كان ليقبل والسيف مصلت، وما كان بالتالي ليعقل أو ينشر، إلا إذا احتمى في جزئيات "الأحكام السلطانية" التي تقنن للنظام القائم لا تتحدث عنه إلا باحترام تام، أو دخل في جنينات آداب البلاط المزينة بفضائل الأمراء وحِكَمِ الإحسان الأبوي إلى الرعية.
المنهاج النبوي ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا، ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء.
إن الصراع السياسي الداخلي والخارجي قبل القومة وأثناءها وبعدها إما أن يستحضر التوجيه النبوي الذي حذرنا بكامل الوضوح من العض والجبر فيمكننا عندئذ أن نتخطى أنظمة الفتنة ونؤسس خلافة الشورى والعدل والإحسان، وإما أن نهيم على وجه الآمال الحالمة بأمجاد العباسيين وشوكة آل عثمان، رحم الله الجميع، فنقبع في سجن الأمية التاريخية وسجن الإعراض عن الوصية الخالدة الواعدة بمرحلة الخلافة الثانية المتميزة في نظامها.
إننا لا نقصد التنقيص من شوكة ملوك المسلمين لا سيما من أبلوا منهم البلاء الحسن في الدفاع عن الحمى. لا وليس قصدنا هنا التعرض لنقد الأشخاص وقد كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن نقصد نظام الحكم، إعادة تاريخه على معايير الإسلام، غير متأثرين بمقتضيات المفاخرة والمساجلة التي يتخذها القوميون العرب طبولا تطن على الأسماع.
أستعمل كلمة "قومة" بدل "ثورة" تأصيلا للنهضة واليقظة والتعبئة والإعداد والزحف على مثال قوله تعالى : "وإنه لما قام عبد الله يدعوه" [1] . فتكون قومتنا على منهاج النبوة، وتطلعنا بعد العض والجبر إلى الخلافة على منهاج النبوة، ومعالجتنا لكل صغيرة وكبيرة بتفكير منهاجي وأسلوب منهاجي وخطوات تتأسى بخطوات الرسل عليهم السلام، تتوج حكمة خطواتهم الموفقة بالنموذج المحمدي، صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
إن لدى دعاة الباطل، لبراليين واشتراكيين، وقوميين، و"يسار إسلاميين"، وكل مزيج مريج من هذه الأصناف، نسقا واضحا لتحليل الواقع، ونقده، وتحليل التاريخ، ورسم مسار ممكن للمستقبل. ونحن نبقى في عموميات مطالبنا الراقية، نعبر عنها بعواطفنا الجياشة الصادقة المشتاقة لغد الإسلام الأغر.
هذه العاطفية تلف في غلالة حانية متسامحة عذبة تاريخنا في نظر أنفسنا. فلا يزال منا من ينشد ضالته عند النموذج التليد على عهد هارون الرشيد. لا ينتبه لحظة أن هذا الملك، العظيم حقا في ميزان الدنيا، ليس في ميزان الإسلام وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ملكا عاضا يجرحه عضه ويسقطه عن مرتبة الاعتبار الشرعي. بعاطفة الحزين على حاضر المسلمين الهزيل، نندفع لاستدعاء أمجاد "شوكة الإسلام"، وهو تعبير للإمام الغزالي برر به رحمه الله دفاعه عن المستظهر العباسي. نستدعي صورة ذلك العهد القوي سلطانا، نحسب أننا بذلك ننتقم لتفاهتنا الغثائية الحاضرة. ما درينا أننا بإعزازنا للملك العاض الماضي نعز الملك الجبري الحاضر، ونعمل على تعمية آثار الهدي النبوي والوصية النبوية الكفيلين وحدهما، تعليما ينير معالم الطريق، وأوامر للتنفيذ، ونموذجا للاحتذاء، بإنهاء غثائيتنا حين نمشي على المنهاج، ونصحب، بالنظر الناقد الماسك على القول الشريف، تطور الأمر حين بدأ الصراع بين القرآن والسلطان، وحين غلب السيف، وحين غابت الشورى وغاب العدل واختفى الإحسان، حين تفتت الفقه، وحين سيقت الأمة إلى التمزق فالاحتلال الاستعماري فبروز المغربين وجند الشياطين يعيثون في الأمة فسادا.
لا بد لنا إذن من إرساء قواعدنا على مكين الكتاب والسنة لأن العاطفة المجنحة خبال، ولأن فقه سلفنا الصالح الذين عاشوا رهائن مقهورة في قبضة العض والجبر لم يخلفوا لنا إلا نثارا من العلم لا يجمعه مشروع متكامل لأن الحديث عن الحكم وسلطانه ما كان ليقبل والسيف مصلت، وما كان بالتالي ليعقل أو ينشر، إلا إذا احتمى في جزئيات "الأحكام السلطانية" التي تقنن للنظام القائم لا تتحدث عنه إلا باحترام تام، أو دخل في جنينات آداب البلاط المزينة بفضائل الأمراء وحِكَمِ الإحسان الأبوي إلى الرعية.
المنهاج النبوي ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا، ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء.
إن الصراع السياسي الداخلي والخارجي قبل القومة وأثناءها وبعدها إما أن يستحضر التوجيه النبوي الذي حذرنا بكامل الوضوح من العض والجبر فيمكننا عندئذ أن نتخطى أنظمة الفتنة ونؤسس خلافة الشورى والعدل والإحسان، وإما أن نهيم على وجه الآمال الحالمة بأمجاد العباسيين وشوكة آل عثمان، رحم الله الجميع، فنقبع في سجن الأمية التاريخية وسجن الإعراض عن الوصية الخالدة الواعدة بمرحلة الخلافة الثانية المتميزة في نظامها.
إننا لا نقصد التنقيص من شوكة ملوك المسلمين لا سيما من أبلوا منهم البلاء الحسن في الدفاع عن الحمى. لا وليس قصدنا هنا التعرض لنقد الأشخاص وقد كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن نقصد نظام الحكم، إعادة تاريخه على معايير الإسلام، غير متأثرين بمقتضيات المفاخرة والمساجلة التي يتخذها القوميون العرب طبولا تطن على الأسماع.
أستعمل كلمة "قومة" بدل "ثورة" تأصيلا للنهضة واليقظة والتعبئة والإعداد والزحف على مثال قوله تعالى : "وإنه لما قام عبد الله يدعوه" [1] . فتكون قومتنا على منهاج النبوة، وتطلعنا بعد العض والجبر إلى الخلافة على منهاج النبوة، ومعالجتنا لكل صغيرة وكبيرة بتفكير منهاجي وأسلوب منهاجي وخطوات تتأسى بخطوات الرسل عليهم السلام، تتوج حكمة خطواتهم الموفقة بالنموذج المحمدي، صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
طوق التقليد
كيف يمكن أن نقوم ونتحرك وننال المطالب العالية الغالية وطوق التقليد في أعناقنا ؟ كيف يمكن، وهذا الطوق الثقيل بثقل تاريخنا وتراثنا ينقض ظهرنا، أن نجادل عن الخلافة المنهاجية ومستقبل الإسلام تحت دولة الشورى والعدل والإحسان ؟ كيف نتصور هذا المستقبل، مستقبل الوحدة والقوة وحمل الرسالة الخالدة إلى العالمين ؟ كيف نعبر عن حاجات الإنسانية وشكواها وطموحاتها ؟ كيف ننصر دين الله الذي جاء لنصرة الحق والانتصاف للمستضعفين ؟ كيف كيف ونحن نرجو الإفادة والعلم ممن هم دون القرآن والسنة ؟
إن أعتى سلاح في يد الجبارين ليس قوة سلاحهم وجموع جلاديهم، لكنه القوة السالبة، قوة الخمول الفكري ووهن النفوس المتقلصة إلى جحر التبعية وعافية الجبناء.
نصب غيرنا موائد الديمقراطية أو غير هذا الاسم مما تلبسه أنظمة الجبر المعاصرة من ثياب النفاق وجلابيب التمويه، ونطارد نحن من حوالي تلك الموائد كما تطارد الكائنات الطفيلية. الأدهى في القضية أن عقولا سخيفة نسج عليها عنكبوت التقليد والذلة بين يدي السلطان، فهي تلتقط من الفتات الحرام، أو تنقر كالحمام الداجن من يد السفاكين، لا تحدث نفسها بغير السلامة كما يفهم السلامة الطاعم الكاسي.
هذه الذهنية المريضة لا تزال تُسقط على عامة الأمة ظلا قاتما لا يملك معه الدعاة أن يكشفوا عن المؤامرة القرونية بين الحكام المستبدين وسدنة المعابد الطاغوتية من "فقهاء " القصور.
لست أعني بالتحرر من التقليد طرح الاجتهادات في فروع الفقه مما خلفه لنا رجال الإسلام العلماء العاملون، لكن أقصد أول شيء نبذ هذه الذهنية الكريهة التي تنظر في القرآن وفي السيرة العطرة بمنظار الطاعم الكاسي في البلاط لا ينظر إلى البلاط وواقع المسلمين بمنظار القرآن وعوينات السنة الشاهدة لينتقد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويغضب على الباطل وأهله مرة في عمره.
ما المنهاج للتحرر من ذهنية القطيع ومن ثورة التشنج المستعجل معا ؟ ما المنهاج لنخرج من تحت نير الرضوخ، ونحل وثاق التسويف، ونسترجع القدرة على المبادرة، وننصب نحن مائدة الإسلام، مائدة الشورى والعدل والإحسان، ندعو العالمين إلى رحمتها وبرها ؟
من خلال نقائص المقلدين والخانعين والخائفين والطامعين والمزورين يحكمنا طواغيت الجبر كما حكمنا من قبل حكام العض من نفس تلك النقائص. لا محيد لنا عن خطة الخسف ومسيرة الاستقالة أمام السلطان إلا إن فككنا الارتباط مع السنة السيئة وتمسكنا بالسنة النبوية والمنهاج، لنتنسم عبير الإحسان في ذلك الفضاء الإيماني، ولتحكم الأمة نفسها بفضائل الشورى وفضائل العدل مجملة، بفضائل الصحبة والجماعة، والذكر، والصدق، والبذل، والعلم، والسمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، والجهاد. اقتحاما للعقبة وطلبا لوجه الله جل وعلا، لا تدحرجا على مهاوي السهولة والرخاوة وكراهية المساكين والغفلة عن الله والكذب والشح والجهل والكسل والتبعية الحضارية والهيجان واتباع خطوات الشيطان وتضييع الواجب الأقدس واجب الجهاد.
كيف يمكن أن نقوم ونتحرك وننال المطالب العالية الغالية وطوق التقليد في أعناقنا ؟ كيف يمكن، وهذا الطوق الثقيل بثقل تاريخنا وتراثنا ينقض ظهرنا، أن نجادل عن الخلافة المنهاجية ومستقبل الإسلام تحت دولة الشورى والعدل والإحسان ؟ كيف نتصور هذا المستقبل، مستقبل الوحدة والقوة وحمل الرسالة الخالدة إلى العالمين ؟ كيف نعبر عن حاجات الإنسانية وشكواها وطموحاتها ؟ كيف ننصر دين الله الذي جاء لنصرة الحق والانتصاف للمستضعفين ؟ كيف كيف ونحن نرجو الإفادة والعلم ممن هم دون القرآن والسنة ؟
إن أعتى سلاح في يد الجبارين ليس قوة سلاحهم وجموع جلاديهم، لكنه القوة السالبة، قوة الخمول الفكري ووهن النفوس المتقلصة إلى جحر التبعية وعافية الجبناء.
نصب غيرنا موائد الديمقراطية أو غير هذا الاسم مما تلبسه أنظمة الجبر المعاصرة من ثياب النفاق وجلابيب التمويه، ونطارد نحن من حوالي تلك الموائد كما تطارد الكائنات الطفيلية. الأدهى في القضية أن عقولا سخيفة نسج عليها عنكبوت التقليد والذلة بين يدي السلطان، فهي تلتقط من الفتات الحرام، أو تنقر كالحمام الداجن من يد السفاكين، لا تحدث نفسها بغير السلامة كما يفهم السلامة الطاعم الكاسي.
هذه الذهنية المريضة لا تزال تُسقط على عامة الأمة ظلا قاتما لا يملك معه الدعاة أن يكشفوا عن المؤامرة القرونية بين الحكام المستبدين وسدنة المعابد الطاغوتية من "فقهاء " القصور.
لست أعني بالتحرر من التقليد طرح الاجتهادات في فروع الفقه مما خلفه لنا رجال الإسلام العلماء العاملون، لكن أقصد أول شيء نبذ هذه الذهنية الكريهة التي تنظر في القرآن وفي السيرة العطرة بمنظار الطاعم الكاسي في البلاط لا ينظر إلى البلاط وواقع المسلمين بمنظار القرآن وعوينات السنة الشاهدة لينتقد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويغضب على الباطل وأهله مرة في عمره.
ما المنهاج للتحرر من ذهنية القطيع ومن ثورة التشنج المستعجل معا ؟ ما المنهاج لنخرج من تحت نير الرضوخ، ونحل وثاق التسويف، ونسترجع القدرة على المبادرة، وننصب نحن مائدة الإسلام، مائدة الشورى والعدل والإحسان، ندعو العالمين إلى رحمتها وبرها ؟
من خلال نقائص المقلدين والخانعين والخائفين والطامعين والمزورين يحكمنا طواغيت الجبر كما حكمنا من قبل حكام العض من نفس تلك النقائص. لا محيد لنا عن خطة الخسف ومسيرة الاستقالة أمام السلطان إلا إن فككنا الارتباط مع السنة السيئة وتمسكنا بالسنة النبوية والمنهاج، لنتنسم عبير الإحسان في ذلك الفضاء الإيماني، ولتحكم الأمة نفسها بفضائل الشورى وفضائل العدل مجملة، بفضائل الصحبة والجماعة، والذكر، والصدق، والبذل، والعلم، والسمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، والجهاد. اقتحاما للعقبة وطلبا لوجه الله جل وعلا، لا تدحرجا على مهاوي السهولة والرخاوة وكراهية المساكين والغفلة عن الله والكذب والشح والجهل والكسل والتبعية الحضارية والهيجان واتباع خطوات الشيطان وتضييع الواجب الأقدس واجب الجهاد.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
مكاسب ثمينة
إن ما ورثناه عن سلفنا الصالح من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة الأهمية. ما قننوه رضي الله عنهم من أسس في علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين وعلم السلوك باق رهن إشارتنا، باق في تجزئته وبعثرته، كنوزا مدفونة في الدفاتر، على أقفالها رموز يحلها فيستفيد منها من معه مفتاح الفقه الجامع، الفقه الذي ينظر إلى العلم المؤثل من حيث موقعه من الحكم والظرف التاريخي والصراعات المذهبية وموقف أهل العلم رضي الله عنهم المحافظ المشفق على بيضة الأمة أن ترام، وعلى حماها أن يضام.
تراث مبعثر مكسر، شذراته اللماعة لا تزال صالحة للانتفاع في سياق تجدد في النيات والحركة والجهاد.
الفقه الجامع هو الفقه الذي يعم في نظرة واحدة الدعوة والدولة في علاقاتها الأولى على عهد تأليف الجماعة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ثم تطور هذه العلاقات تطورا توسيعيا على عهد الخلافة الرشيدة، ثم في تطورها إلى الفساد والكساد على عهود الملك العاض فالجبري، ثم في الوضع الحالي وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا العدوانية على الدين الصدارة في تفكير الحكام وممارستهم، حتى غطت الدولة على الدعوة تماما، وألجأتها إلى منابر الوعظ المراقب المُلجم المدجَّن أحيانا كثيرة، وإلى ركن "الأحوال الشخصية" بعيدا عن المجالات الحيوية المدنية والجنائية والاقتصادية والإدارية. ثم يعم الفقه الجامع في نظرة واحدة الدعوة والدولة وعلاقتهما المطلوبة في مراحل البناء، كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حتى يعود السلطان خاضعا للقرآن لا العكس.
ثروتنا الفقهية العلمية الموروثة صلة غالبية انحدرت إلينا من تلك الأجيال، تصلنا بهم، وتحمل معها، في صياغتها وتجزئتها وصراعاتها المذهبية، آثار تاريخ حافل بالضغوط المتابدلة، كان لعمائنا العاملين أحسن الله إلينا وإليهم فضل الصمود أثناءها،صمودا حد من غلواء السلطان أطوارا.
تجزئة ذلك الفقه، مثل التجزئة السياسية المعاصرة في أقطار الفتنة، تمثل تحديا لنا أن نقوم نجمع بالاجتهاد شتات العلم، وبالجهاد شتات الأرض والمجتمع الإسلامي، متخطين كل التجزئات وكل الأفكار والاجتهادات والمواقف النسبية المظروفة بظروفها التاريخية. نعيد كل اجتهاد سابق إلى نصابه، نعرضه في حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل الذي طبق كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
بعض الناظرين في كتب السلف الصالح يتخذون إماما أو فقيها أو فارسا خاض معارك حامية في نصرة الدين معيارا مطلقا، يضيفون عليه من خيالهم القاصر كل صفات الكمال، ويساورون علومه بتلمذة جادة مخلصة كما يساور المسافر قمم الجبال الشماء، ثم يتخذون من فهمهم لفهم ذلك الفاهم سلاحا إرهابيا يقمعون به كل من رفع رأسه ليتلقى عن الله ورسوله الأمر الأول الذي جاء بلسان عربي مبين.
نكون منهاجيين إن نحن جعلنا تحت أيدينا الفقه الموروث المجزأ نخاطبه ونحاوره ونسائله وننتقده ونستفيد منه حسب ما نجد عنده أو لا نجد من خبر أو دراية أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد الموفق المعصوم، كيف بلغ، وحين ألف الجماعة بتأليف الله، وحين سلح، وحين آخى وشجع على التضامن في الأرزاق، وحين غزا وواجه العدو، وحين علم كل علم نافع، لا يحقر من التعليم أبسط المبادئ، وحين جاهد حتى ترك لنا أمة واحدة أمرها بينها شورى، حين أوصى ونصح بما سيؤول إليه الأمر من ترد إلى اغتصاب الحكم وإلى العض والجبر، وحين بشر بالخلافة الثانية على منهاج النبوة. نجد مثلا رواية تحدثنا عن الملك العاض أو العضوض فيفهمها أسلافنا من مواقع زمانهم وسياسته ونظام حكمه والجو العام فيه، ومن مواقع اهتمامهم وهمهم وهمتهم وإشفاقهم على أنفسهم وعلى الأمة. يؤولون تلك الرواية على أن ذكر الملك العضوض تشريع له وإيصاء به. لا نكاد نجد من فهم الحديث الشريف على أنه إخبار بكارثة ستقع، لإخبار يتضمن تحذيرا.
نجعل تحت أيدينا كنوز الفقه الموروث، نرجع إليها عند الحاجة، لكن نأتم مباشرة بالتعليمات الشريفة المشرفة التي أوصتنا أن نتبع السنة الأولى ونقتدي بهديها. في تلك السنة لم تنخر نواخر الخلاف والفرقة، ولم يحرف الصراع على السلطة الرأي، وأخمدت النعرات القومية والعصبيات الجاهلية، وقبحت أثرة المترفين، وحمل لواء الجهاد أكابر الرجال من المستضعفين. جزى الله عنا أهل الحديث خيرا فلهم في أعناقنا دين أي دين إذ صححوا وانتقدوا وبلغوا.
علم الحديث أثمن مادة وأرفعها مكانة في السرادق الفخم، سرادق علوم الإسلام. علماء أصول الفقه نضع خطانا على آثارهم المباركة وهم يسيرون على ضوء الأمر القرآني والنهي، وعلى نور السنة المطهرة، ونقتفي ذلك الأثر في احترام الإجماع، لأن إجماع الأمة معصوم لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على ضلال"، ونرحب بالقياس والمصالح المرسلة لما ليس فيه نص. كل تلك القواعد مهاد كفَوْنا رحمهم الله تسويته. وما فرعوا من الأحكام ثمرة مذكورة مشكورة إن لم يتعارض شيء منها مع منهاج السنة الكلي : الشورى والعدل والإحسان.
نضع مثلا في موضعها من الإعراب جملة الفقه السلطاني و"الأحكام السلطانية" في خانة التوقير، ونقارن بين البحار الزاخرة من فقه الفروع التي كانت ضرورية ومسموحا بها، وبين المقالة في حقوق الله وحقوق الأمة في الشورى والعدل، فنجد هذه نزرا يسيرا خجولة ساكتة عن كثير من الحق، ناطقة ببعض الباطل كالفتوى بإمامة المستولي بالسيف.
ننظر في علم السلوك لنأخذ أحسن ما خلفه الصالحون من معاني التعلق بالمولى جل وعلا، ومن معاني ترقيق القلوب، ومن معاني تهذيب النفس والأخلاق، ومن معاني الصدق في طلب وجه الله عز وجل، ومن معاني العزوف عن دار الغرور، ومن معاني الإنابة إلى الرب الكريم وإلى الدار الآخرة. نأخذ المعاني والروح لا الأساليب الزهادية التي كانت مظهرا من مظاهر الانزواء تركت الباغين في الأرض في عربدة لا مراقب عليها، والأمر لله. نعم صحبة رجال تحابوا في الله، وذكروا الله، وصدقوا في طلب الله، وعرفوا الله. ونضر الله تلك الوجوه.
ننظر إلى الواعظ خطيب الجمعة، وإلى المدرس المحتسب الجالس في مساجد المسلمين للفتوى والتعليم، وإلى معلم الصبيان، وإلى المحدث العالم يخرج أجيال الفضلاء.
أولئك كانوا الرمز الحقيقي الذي التفت حوله الأمة واعتصمت به الدعوة يوم كان السلطان رمز السطوة العمياء، ويوم كان المؤهل الوحيد للرمز الرسمي "الخليفة" لا يعدو أحيانا كثيرة نسبه وحيازته لبردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه وبعض آثاره الشريفة.
بقلب مطمئن نقبل تاريخنا، لكن بعين فاحصة.
إن ما ورثناه عن سلفنا الصالح من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة الأهمية. ما قننوه رضي الله عنهم من أسس في علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين وعلم السلوك باق رهن إشارتنا، باق في تجزئته وبعثرته، كنوزا مدفونة في الدفاتر، على أقفالها رموز يحلها فيستفيد منها من معه مفتاح الفقه الجامع، الفقه الذي ينظر إلى العلم المؤثل من حيث موقعه من الحكم والظرف التاريخي والصراعات المذهبية وموقف أهل العلم رضي الله عنهم المحافظ المشفق على بيضة الأمة أن ترام، وعلى حماها أن يضام.
تراث مبعثر مكسر، شذراته اللماعة لا تزال صالحة للانتفاع في سياق تجدد في النيات والحركة والجهاد.
الفقه الجامع هو الفقه الذي يعم في نظرة واحدة الدعوة والدولة في علاقاتها الأولى على عهد تأليف الجماعة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ثم تطور هذه العلاقات تطورا توسيعيا على عهد الخلافة الرشيدة، ثم في تطورها إلى الفساد والكساد على عهود الملك العاض فالجبري، ثم في الوضع الحالي وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا العدوانية على الدين الصدارة في تفكير الحكام وممارستهم، حتى غطت الدولة على الدعوة تماما، وألجأتها إلى منابر الوعظ المراقب المُلجم المدجَّن أحيانا كثيرة، وإلى ركن "الأحوال الشخصية" بعيدا عن المجالات الحيوية المدنية والجنائية والاقتصادية والإدارية. ثم يعم الفقه الجامع في نظرة واحدة الدعوة والدولة وعلاقتهما المطلوبة في مراحل البناء، كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حتى يعود السلطان خاضعا للقرآن لا العكس.
ثروتنا الفقهية العلمية الموروثة صلة غالبية انحدرت إلينا من تلك الأجيال، تصلنا بهم، وتحمل معها، في صياغتها وتجزئتها وصراعاتها المذهبية، آثار تاريخ حافل بالضغوط المتابدلة، كان لعمائنا العاملين أحسن الله إلينا وإليهم فضل الصمود أثناءها،صمودا حد من غلواء السلطان أطوارا.
تجزئة ذلك الفقه، مثل التجزئة السياسية المعاصرة في أقطار الفتنة، تمثل تحديا لنا أن نقوم نجمع بالاجتهاد شتات العلم، وبالجهاد شتات الأرض والمجتمع الإسلامي، متخطين كل التجزئات وكل الأفكار والاجتهادات والمواقف النسبية المظروفة بظروفها التاريخية. نعيد كل اجتهاد سابق إلى نصابه، نعرضه في حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل الذي طبق كلمة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
بعض الناظرين في كتب السلف الصالح يتخذون إماما أو فقيها أو فارسا خاض معارك حامية في نصرة الدين معيارا مطلقا، يضيفون عليه من خيالهم القاصر كل صفات الكمال، ويساورون علومه بتلمذة جادة مخلصة كما يساور المسافر قمم الجبال الشماء، ثم يتخذون من فهمهم لفهم ذلك الفاهم سلاحا إرهابيا يقمعون به كل من رفع رأسه ليتلقى عن الله ورسوله الأمر الأول الذي جاء بلسان عربي مبين.
نكون منهاجيين إن نحن جعلنا تحت أيدينا الفقه الموروث المجزأ نخاطبه ونحاوره ونسائله وننتقده ونستفيد منه حسب ما نجد عنده أو لا نجد من خبر أو دراية أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد الموفق المعصوم، كيف بلغ، وحين ألف الجماعة بتأليف الله، وحين سلح، وحين آخى وشجع على التضامن في الأرزاق، وحين غزا وواجه العدو، وحين علم كل علم نافع، لا يحقر من التعليم أبسط المبادئ، وحين جاهد حتى ترك لنا أمة واحدة أمرها بينها شورى، حين أوصى ونصح بما سيؤول إليه الأمر من ترد إلى اغتصاب الحكم وإلى العض والجبر، وحين بشر بالخلافة الثانية على منهاج النبوة. نجد مثلا رواية تحدثنا عن الملك العاض أو العضوض فيفهمها أسلافنا من مواقع زمانهم وسياسته ونظام حكمه والجو العام فيه، ومن مواقع اهتمامهم وهمهم وهمتهم وإشفاقهم على أنفسهم وعلى الأمة. يؤولون تلك الرواية على أن ذكر الملك العضوض تشريع له وإيصاء به. لا نكاد نجد من فهم الحديث الشريف على أنه إخبار بكارثة ستقع، لإخبار يتضمن تحذيرا.
نجعل تحت أيدينا كنوز الفقه الموروث، نرجع إليها عند الحاجة، لكن نأتم مباشرة بالتعليمات الشريفة المشرفة التي أوصتنا أن نتبع السنة الأولى ونقتدي بهديها. في تلك السنة لم تنخر نواخر الخلاف والفرقة، ولم يحرف الصراع على السلطة الرأي، وأخمدت النعرات القومية والعصبيات الجاهلية، وقبحت أثرة المترفين، وحمل لواء الجهاد أكابر الرجال من المستضعفين. جزى الله عنا أهل الحديث خيرا فلهم في أعناقنا دين أي دين إذ صححوا وانتقدوا وبلغوا.
علم الحديث أثمن مادة وأرفعها مكانة في السرادق الفخم، سرادق علوم الإسلام. علماء أصول الفقه نضع خطانا على آثارهم المباركة وهم يسيرون على ضوء الأمر القرآني والنهي، وعلى نور السنة المطهرة، ونقتفي ذلك الأثر في احترام الإجماع، لأن إجماع الأمة معصوم لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على ضلال"، ونرحب بالقياس والمصالح المرسلة لما ليس فيه نص. كل تلك القواعد مهاد كفَوْنا رحمهم الله تسويته. وما فرعوا من الأحكام ثمرة مذكورة مشكورة إن لم يتعارض شيء منها مع منهاج السنة الكلي : الشورى والعدل والإحسان.
نضع مثلا في موضعها من الإعراب جملة الفقه السلطاني و"الأحكام السلطانية" في خانة التوقير، ونقارن بين البحار الزاخرة من فقه الفروع التي كانت ضرورية ومسموحا بها، وبين المقالة في حقوق الله وحقوق الأمة في الشورى والعدل، فنجد هذه نزرا يسيرا خجولة ساكتة عن كثير من الحق، ناطقة ببعض الباطل كالفتوى بإمامة المستولي بالسيف.
ننظر في علم السلوك لنأخذ أحسن ما خلفه الصالحون من معاني التعلق بالمولى جل وعلا، ومن معاني ترقيق القلوب، ومن معاني تهذيب النفس والأخلاق، ومن معاني الصدق في طلب وجه الله عز وجل، ومن معاني العزوف عن دار الغرور، ومن معاني الإنابة إلى الرب الكريم وإلى الدار الآخرة. نأخذ المعاني والروح لا الأساليب الزهادية التي كانت مظهرا من مظاهر الانزواء تركت الباغين في الأرض في عربدة لا مراقب عليها، والأمر لله. نعم صحبة رجال تحابوا في الله، وذكروا الله، وصدقوا في طلب الله، وعرفوا الله. ونضر الله تلك الوجوه.
ننظر إلى الواعظ خطيب الجمعة، وإلى المدرس المحتسب الجالس في مساجد المسلمين للفتوى والتعليم، وإلى معلم الصبيان، وإلى المحدث العالم يخرج أجيال الفضلاء.
أولئك كانوا الرمز الحقيقي الذي التفت حوله الأمة واعتصمت به الدعوة يوم كان السلطان رمز السطوة العمياء، ويوم كان المؤهل الوحيد للرمز الرسمي "الخليفة" لا يعدو أحيانا كثيرة نسبه وحيازته لبردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه وبعض آثاره الشريفة.
بقلب مطمئن نقبل تاريخنا، لكن بعين فاحصة.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
القرآن حاكم
هم مقعد مقيم أن يكون أتى على بعض المنتسبين للعلم حين من الدهر زعموا فيه أن السلامة في الدين لا سبيل إليها إلا بتوقير القرآن توقير هجران. قالوا، وبئس ما يُجري التقليد على الألسنة : "القرآن صوابه خطأ، وخطأه كفر". استعجم عليهم كلام الله تبارك اسمه لما انطمست القلوب وغشى العقول ما غشاها. في كلمتهم ما يشبه اليأس، أو ما هو اليأس بعينه، من أن يفهموا عن الله أمرا أو نهيا. فبتقديرهم يكون ما يفهمونه من القرآن مباشرة خطأ ولو كان ذلك الفهم صوابا في واقع الأمر، مادام فهمهم لم يكن تقليدا لعمدة حجة يقلدونه في دينهم.
نرى اليوم موقفا معاكسا لذلك الموقف السادر في جهله وتجاهله، ألا وهو جرأة كل ناعق على كتاب الله يؤوله بالهوى، ويتناوله بالمنهاجيات المادية والجدلية والإحصائية والبنيوية، في استهتار واستخفاف. إن كان عند غلاة الصنف الأول هجران للقرآن منشأه فرط الحذر من الوقوع في الخطأ تعظيما لكلام الله جلت عظمته، فعند زنادقة العصرانية يتم تجريد النص القرآني من قدسيته ليصنفوه مع النصوص التارخية، يحتل بينها مكانته على سلم التطور الإديولوجي في الفكر العربي.
فإذا قلنا إيمانا ومذهبا بتحكيم القرآن، والرجوع إليه، والرضوخ التام لأمره ونهيه، فلا بد أن نحدد حمى القرآن وحرمته، والتورع الواجب في الاستشهاد به والاستنباط منه، لكيلا نقع في مهاوي الذين اتخذوا آيات الله هُزُؤا، ولكي لا نحشر، إن نحن استخففنا بالحرمة ووقعنا في الحمى، مع الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدّوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون.
كان الصحابة رضي الله عنهم عربا فصحاء يعرفون البلاغة العربية سليقة، ويذوقون المجاز والإشارة، فيتنزل القرآن وهو غض حديث البروز إلى عالم الشهادة على أسماعهم، يسبقه التعظيم والخشوع لما علموا من أنه كلام من رب العالمين، ويتنزل على قلوبهم ومعه الحلاوة والطمأنينة والاستعداد الصادق لطاعة الله في أمره ونهيه، كانت آياته في أسماعهم وعقولهم توجيهات مباشرة تعالج قضايا الساعة التشريعية والجهادية، وتذكر بسنن الأمم الخالية، وتعطي الأسوة بسير الرسل والأنبياء عليهم السلام، لم يكن شيء من كليات القرآن خافيا عنهم، ولم يكونوا يتقعرون في الجزئيات إذا كان علمها لا يبين حكما ولا يفصل في مسائل العقيدة والحلال والحرام، ورد السؤال عند عمر، وفي رواية عند أبي بكر، رضي الله عنهما في معنى الأبّ في قوله تعالى : ﴿ وفاكهة وأبّا﴾ فأعرض عن ذلك وقال : ما بهذا أمرنا.
كانوا رضي الله عنهم يعلمون أسباب التنزيل، والمقاصد الكلية للشريعة، وعادات العرب في أقوالها وأفعالها وأحوالها، ودخائل العدو الذي كانوا يجاهدونه، مراتب التكليف من واجب الفعل أو الترك فما دونه، ثم لا يكتفون بفهمهم حتى يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان، والبيان وظيفة من وظائفه السامية، به أرسله الله جل وعلا.
كانوا يتأثمون ويتورعون أشد التورع عن تفسير كلام الله سبحانه وتعالى بالرأي، روي عن الصديق رضي الله عنه، وقد سئل في شيء من القرآن (في خبر أن المسألة كانت عن الأبّ) فقال كلمته المشهورة التي ترسم لنا حدود الحمى القرآني وحرمته في قلب المؤمن، " أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إن أنا قلت في كلام الله ما لا أعلم ؟".
بين أن نعظم ونحتاط وبين أن نعطل ونهجُر مسافة احتلها الجاهلون والمتجرئون، والأوْلى بجند الله أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية ويحملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآني في كليات الشريعة وهي لم يطرأ عليها نسخ ولا حدث تغيير لمراد الله من آياته فيها، ولنترك لأهل الاختصاص والاجتهاد النظر فيما اختلف فيه، ريثما يأذن الله عز وجل بنصب الحاكم على منهاج النبوة ليجتمع تحت إشارته الاجتهاد، فإن حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أفسح مجال الاجتهاد والثواب إنما ذكر الحاكم من قاض وعامل، لم يذكر فقيه الفروع الواقف دون عتبة الإمارة العظمى الشرعية، حيث قال : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، رواه الشيخان وغيرهما.
المنهاج والاجتهاد والحكم بما أنزل الله من شورى وعدل وإحسان هذه مطالب قرآنية لا نحتاج لإثباتها وإيجابها على أنفسنا بما أوجبها الله لسلوك طرائق المتقدمين في الاستدلال، ولن يثنينا عنها إن شاء الله التواء من يحاول أن يستر الشمس بكفه، مباشرة نستمع إلى القرآن الكريم يخاطب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾ [1]
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "المنهاج ما جاءت به السنة"، والذي جاءت به السنة، تطبيقا للقرآن وتحكيما له : الحكم بالشورى والعدل والإحسان، بها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وبها أمرنا معهم، وخصصت أجيالنا الصالحة إن شاء الله ببشرى الخلافة الثانية على منهاج النبوة. .
لا يستطيع التجرد لحاكمية القرآن المباشرة وتحكميه المقلدة الذين رقدوا عند قدمي فحل من فحول العلماء الماضين إلى عفو الله إن شاء الله، جاهلين نسبية ذلك الفحل أو ذلك المذهب ومحدوديته في إطار تاريخه، وتاريخ الحكم في عهده، وملابسات اجتهاده السياسية والاجتماعية والشخصية والصراعية المذهبية التي خاضها، لا يستطيع هؤلاء أن يتخطوا الثراث الفاخر ليجلسوا عند درجة المنبر النبوي يسمعون الوحي غضا والأمر العازم الذي يريد التنفيذ لا الجدل.
بعض هؤلاء المقلدة يطرحون جانبا، عن سذاجة أو حسن نية أو جهل، مناهج العلماء الذين خلوا من قبلنا، ويحتفظون فقط، بحسن النية تلك أو بقصد الرئاسة وغلبة الخصم في الجدال، بحرفية ذلك المجتهد وإنتاجه وفتاويه.
الذين اجتهدوا قبلنا كانوا يدافعون عن قضايا ربما تكون الآن اندثرت، كانوا يتفاعلون مع واقعهم بنيات معينة، في مواجهات معينة، بوسائلهم الممكنة، لأهداف ممكنة. كانوا يجتهدون في نسبية تضع اجتهادهم مواضعه في الزمان والمكان والأهمية، ويضعه المقلدة في مكانة المطلق، في المكانة التي لا تنبغي إلا للقرآن وللسنة المبينة، فيا عجبا لمن يحجبه عن كلام الله قول القائلين، إلا أن يكون أميا جاهلا لا يهتدي حتى لمن هم أهل الذكر الذين أُمر مَنْ لا يعلمُ أن يتوجه إليهم بالسؤال، تلك طريق سالكُها غادٍ رائح في سكة التحجر والتعصب وضيق الأفق، عافانا الله بمنِّه.
وسكة أخرى مفتوحة على التيه والضلال، مؤدية إلى بلاد التسيب والتفلت والإباحية، هي سكة المستخفين بأئمتنا وما أسسوه من متين القواعد في علم التفسير وعلم أصول الحديث وعلم أصول الفقه وعلم أصول الدين، يدعون إلى قرآن لا يستطيعون أن يتقدموا إلى الأمة إلا باحترامه، وإلى سنة يعرضونها على العصر وما جد فيه لا يعرضون العصر عليها لتدمغ باطله بحقها، وإلى إجماع يكون أشبه بالاستفتاء الشعبي بدل إجماع علماء الأمة المعتبرين شرعا، وإلى قياس من عندهم هو الرأي السابح بلا قيود في تيارات الهوى.
لا يستحق منا الطواغيت الذين ينكرون السنة بالمرة زاعمين أن القرآن وحده الحق، ولا بيادق الكفر والإلحاد من مستغربي ما يسمى "باليسار الإسلامي"، إلا الإشارة العابرة ليعرفهم كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في زمرة المبطلين المفسدين في الأرض.
وآخرون من أضرابهم قوم "يخدمون" القرآن في زعمهم المنكر يفسرونه تفسيرا عصريا، ويضعون المنهجيات لفحصه وترتيبه على مداخل ترهات ما يسمونه بالعلوم الإنسانية.
إنما يحتكم إلى القرآن، ويرقي فهمه إلى التلقي عن القرآن، ويحفظ حرمة القرآن، من كان القرآن ربيع قلبه، والنظر فيه قرة عينه، والامتثال له راحة روحه، لا يضيره مع هذا أن يستفيد من علوم الأئمة، وما من علم تناولوه إلا وهو في خدمة القرآن، مستنبط من القرآن، راجع إلى القرآن، صادر عن القرآن، والسنة مبينة منيرة.
لا تجد هذه الفراشات الهاجمة على النار، الجريئة على القول بغير علم، إلا من صنف الذين غرست في نفوسهم محبة الفلسفة والعلمانية وثقافات الكفار، أشربوا الغرب الجاهلي والشرق الجاهلي في قلوبهم، فعن ذاك المشرب يُتَرْجِمون، لا ينتهي إعجابهم بالحضارة المعاصرة، ولا يملكون من التمييز ما به يدركون عُوارَها كما يدركه العقلاء من أهلها أنفسُهم.
لذا تسمعهم يتحدثون عن القرآن بصفته "كتاب حضارة" و"كتاب تاريخ" و"كتاب ثورة" انقطع في أذهانهم الكليلة أخزاهم الله وَصْل الإيمان بالله وباليوم الآخر فعاد عندهم القرآن من أساطير الأولين، لا من كلام رب العالمين.
هذا ما يمنع هؤلاء أن يتخذوا القرآن حاكما، يمنعهم الكفر، ويمنع التقليد الأعمى القاطع أيضا عن القرآن، لا يشفع في ذلك أن يكون القاطع فارسا من فرسان علمائنا. لا يقدر المقلدة، وهم في سجن تقليدهم للأقدمين، أن يبصروا واقعهم على ضوء تقريرات القرآن، وإخباره عن سنة الله، وعن دفاع الله الناس بعضهم ببعض، وعن الجهاد الواجب، وعن الولاية والتكتل الواجبين على المؤمنين، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الشورى حكما، والعدل الشامل تصرفا، والإحسان غاية، تغشى تلك الأبصار تقريرات العلماء وتجريداتهم وخلافاتهم، فتذهب بالناظر في تلك الطروس أوهامُه بعيدا عن مقاصد المؤلفين والمفتين والمجتهدين قبلنا، وهي كانت ذات دلالة وتحكم في واقع عصرها، فإذا به يجترّ حروفا طار عنها المعنى كما طار هو في أجواء الجدل حائما دائرا ثملا أن ظفر بفقرة من كتاب حارب بها ذلك الفارس منكر زمانه ليحارب بها هو مخالفيه وناصحيه.
منظار التقليد يفرض على الذهنية الكليلة، ذهنية منشطرة منكدرة، صورا من الماضي الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف لحاضر المسلمين علاجات هي الهوس بعينه، وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها، وهي التناقض والفهاهة.
كل ذهنية يحجب عنها حاجب الكفر أو النفاق أو التقليد الأعمى حاكمية القرآن وهيمنته ونموذجية السنة الكاملة، سنة الجهاد والشورى والعدل والإحسان، دعوة ودولة، دنيا وأخرى، وإنما هي ذهنية عاجزة عن فهم الإسلام وهو إسلام الوجه لله جل وعلا، بيننا وبينه، تعالى جد ربنا، كلمته المجيدة حملها إلينا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فمتى لم نُقِم وجهنا إلى كتاب الله تعالى صمودا إليه، واستماعا وطاعة، وتلقيا دائما، وتلاوة، وتدبرا، وذكرا، فلن نكون المسلمين، لا ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن فهم من سبقني بأثارة من علم، شريطة أن لا يشغلني المفسر عن التفسير، ولا رأي المفتي عن الحكم ولا الحكم عن الحاكم جلّ وعلا.
في تجارب سلفنا الصالح من العلماء وفي محاولاتهم واجتهاداتهم ما هو حريّ بإثراء تجربتنا، وتقويم محاولاتنا، وتوجيه اجتهادنا إن نحن وضعناها جميعا أمام القرآن والقرآن يحكم، نفحصها على ضوئه، في نشوئها وتسلسلها، وتعاقب أشكالها ومناهجها، وتأثرها بحركة الحياة العامة وتأثيرها فيها، وإقدامها وإحجامها، ونتائج صوابها وخطإها.
أمام القرآن وهو يحكم نسائل تلك التجارب وذلك الاجتهاد عما فعل العدل الذي أمر الله عز وجل به في القرآن ؟ وأنى سارت الشورى وصارت ؟ وأيّةً سلك الإحسان ؟ ماذا فعل كل أولئك في فقه هذا المذهب وسلوك تلك الطائفة واستبداد ذلك السلطان ؟
هم مقعد مقيم أن يكون أتى على بعض المنتسبين للعلم حين من الدهر زعموا فيه أن السلامة في الدين لا سبيل إليها إلا بتوقير القرآن توقير هجران. قالوا، وبئس ما يُجري التقليد على الألسنة : "القرآن صوابه خطأ، وخطأه كفر". استعجم عليهم كلام الله تبارك اسمه لما انطمست القلوب وغشى العقول ما غشاها. في كلمتهم ما يشبه اليأس، أو ما هو اليأس بعينه، من أن يفهموا عن الله أمرا أو نهيا. فبتقديرهم يكون ما يفهمونه من القرآن مباشرة خطأ ولو كان ذلك الفهم صوابا في واقع الأمر، مادام فهمهم لم يكن تقليدا لعمدة حجة يقلدونه في دينهم.
نرى اليوم موقفا معاكسا لذلك الموقف السادر في جهله وتجاهله، ألا وهو جرأة كل ناعق على كتاب الله يؤوله بالهوى، ويتناوله بالمنهاجيات المادية والجدلية والإحصائية والبنيوية، في استهتار واستخفاف. إن كان عند غلاة الصنف الأول هجران للقرآن منشأه فرط الحذر من الوقوع في الخطأ تعظيما لكلام الله جلت عظمته، فعند زنادقة العصرانية يتم تجريد النص القرآني من قدسيته ليصنفوه مع النصوص التارخية، يحتل بينها مكانته على سلم التطور الإديولوجي في الفكر العربي.
فإذا قلنا إيمانا ومذهبا بتحكيم القرآن، والرجوع إليه، والرضوخ التام لأمره ونهيه، فلا بد أن نحدد حمى القرآن وحرمته، والتورع الواجب في الاستشهاد به والاستنباط منه، لكيلا نقع في مهاوي الذين اتخذوا آيات الله هُزُؤا، ولكي لا نحشر، إن نحن استخففنا بالحرمة ووقعنا في الحمى، مع الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدّوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون.
كان الصحابة رضي الله عنهم عربا فصحاء يعرفون البلاغة العربية سليقة، ويذوقون المجاز والإشارة، فيتنزل القرآن وهو غض حديث البروز إلى عالم الشهادة على أسماعهم، يسبقه التعظيم والخشوع لما علموا من أنه كلام من رب العالمين، ويتنزل على قلوبهم ومعه الحلاوة والطمأنينة والاستعداد الصادق لطاعة الله في أمره ونهيه، كانت آياته في أسماعهم وعقولهم توجيهات مباشرة تعالج قضايا الساعة التشريعية والجهادية، وتذكر بسنن الأمم الخالية، وتعطي الأسوة بسير الرسل والأنبياء عليهم السلام، لم يكن شيء من كليات القرآن خافيا عنهم، ولم يكونوا يتقعرون في الجزئيات إذا كان علمها لا يبين حكما ولا يفصل في مسائل العقيدة والحلال والحرام، ورد السؤال عند عمر، وفي رواية عند أبي بكر، رضي الله عنهما في معنى الأبّ في قوله تعالى : ﴿ وفاكهة وأبّا﴾ فأعرض عن ذلك وقال : ما بهذا أمرنا.
كانوا رضي الله عنهم يعلمون أسباب التنزيل، والمقاصد الكلية للشريعة، وعادات العرب في أقوالها وأفعالها وأحوالها، ودخائل العدو الذي كانوا يجاهدونه، مراتب التكليف من واجب الفعل أو الترك فما دونه، ثم لا يكتفون بفهمهم حتى يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان، والبيان وظيفة من وظائفه السامية، به أرسله الله جل وعلا.
كانوا يتأثمون ويتورعون أشد التورع عن تفسير كلام الله سبحانه وتعالى بالرأي، روي عن الصديق رضي الله عنه، وقد سئل في شيء من القرآن (في خبر أن المسألة كانت عن الأبّ) فقال كلمته المشهورة التي ترسم لنا حدود الحمى القرآني وحرمته في قلب المؤمن، " أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إن أنا قلت في كلام الله ما لا أعلم ؟".
بين أن نعظم ونحتاط وبين أن نعطل ونهجُر مسافة احتلها الجاهلون والمتجرئون، والأوْلى بجند الله أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية ويحملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآني في كليات الشريعة وهي لم يطرأ عليها نسخ ولا حدث تغيير لمراد الله من آياته فيها، ولنترك لأهل الاختصاص والاجتهاد النظر فيما اختلف فيه، ريثما يأذن الله عز وجل بنصب الحاكم على منهاج النبوة ليجتمع تحت إشارته الاجتهاد، فإن حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أفسح مجال الاجتهاد والثواب إنما ذكر الحاكم من قاض وعامل، لم يذكر فقيه الفروع الواقف دون عتبة الإمارة العظمى الشرعية، حيث قال : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، رواه الشيخان وغيرهما.
المنهاج والاجتهاد والحكم بما أنزل الله من شورى وعدل وإحسان هذه مطالب قرآنية لا نحتاج لإثباتها وإيجابها على أنفسنا بما أوجبها الله لسلوك طرائق المتقدمين في الاستدلال، ولن يثنينا عنها إن شاء الله التواء من يحاول أن يستر الشمس بكفه، مباشرة نستمع إلى القرآن الكريم يخاطب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾ [1]
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "المنهاج ما جاءت به السنة"، والذي جاءت به السنة، تطبيقا للقرآن وتحكيما له : الحكم بالشورى والعدل والإحسان، بها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وبها أمرنا معهم، وخصصت أجيالنا الصالحة إن شاء الله ببشرى الخلافة الثانية على منهاج النبوة. .
لا يستطيع التجرد لحاكمية القرآن المباشرة وتحكميه المقلدة الذين رقدوا عند قدمي فحل من فحول العلماء الماضين إلى عفو الله إن شاء الله، جاهلين نسبية ذلك الفحل أو ذلك المذهب ومحدوديته في إطار تاريخه، وتاريخ الحكم في عهده، وملابسات اجتهاده السياسية والاجتماعية والشخصية والصراعية المذهبية التي خاضها، لا يستطيع هؤلاء أن يتخطوا الثراث الفاخر ليجلسوا عند درجة المنبر النبوي يسمعون الوحي غضا والأمر العازم الذي يريد التنفيذ لا الجدل.
بعض هؤلاء المقلدة يطرحون جانبا، عن سذاجة أو حسن نية أو جهل، مناهج العلماء الذين خلوا من قبلنا، ويحتفظون فقط، بحسن النية تلك أو بقصد الرئاسة وغلبة الخصم في الجدال، بحرفية ذلك المجتهد وإنتاجه وفتاويه.
الذين اجتهدوا قبلنا كانوا يدافعون عن قضايا ربما تكون الآن اندثرت، كانوا يتفاعلون مع واقعهم بنيات معينة، في مواجهات معينة، بوسائلهم الممكنة، لأهداف ممكنة. كانوا يجتهدون في نسبية تضع اجتهادهم مواضعه في الزمان والمكان والأهمية، ويضعه المقلدة في مكانة المطلق، في المكانة التي لا تنبغي إلا للقرآن وللسنة المبينة، فيا عجبا لمن يحجبه عن كلام الله قول القائلين، إلا أن يكون أميا جاهلا لا يهتدي حتى لمن هم أهل الذكر الذين أُمر مَنْ لا يعلمُ أن يتوجه إليهم بالسؤال، تلك طريق سالكُها غادٍ رائح في سكة التحجر والتعصب وضيق الأفق، عافانا الله بمنِّه.
وسكة أخرى مفتوحة على التيه والضلال، مؤدية إلى بلاد التسيب والتفلت والإباحية، هي سكة المستخفين بأئمتنا وما أسسوه من متين القواعد في علم التفسير وعلم أصول الحديث وعلم أصول الفقه وعلم أصول الدين، يدعون إلى قرآن لا يستطيعون أن يتقدموا إلى الأمة إلا باحترامه، وإلى سنة يعرضونها على العصر وما جد فيه لا يعرضون العصر عليها لتدمغ باطله بحقها، وإلى إجماع يكون أشبه بالاستفتاء الشعبي بدل إجماع علماء الأمة المعتبرين شرعا، وإلى قياس من عندهم هو الرأي السابح بلا قيود في تيارات الهوى.
لا يستحق منا الطواغيت الذين ينكرون السنة بالمرة زاعمين أن القرآن وحده الحق، ولا بيادق الكفر والإلحاد من مستغربي ما يسمى "باليسار الإسلامي"، إلا الإشارة العابرة ليعرفهم كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في زمرة المبطلين المفسدين في الأرض.
وآخرون من أضرابهم قوم "يخدمون" القرآن في زعمهم المنكر يفسرونه تفسيرا عصريا، ويضعون المنهجيات لفحصه وترتيبه على مداخل ترهات ما يسمونه بالعلوم الإنسانية.
إنما يحتكم إلى القرآن، ويرقي فهمه إلى التلقي عن القرآن، ويحفظ حرمة القرآن، من كان القرآن ربيع قلبه، والنظر فيه قرة عينه، والامتثال له راحة روحه، لا يضيره مع هذا أن يستفيد من علوم الأئمة، وما من علم تناولوه إلا وهو في خدمة القرآن، مستنبط من القرآن، راجع إلى القرآن، صادر عن القرآن، والسنة مبينة منيرة.
لا تجد هذه الفراشات الهاجمة على النار، الجريئة على القول بغير علم، إلا من صنف الذين غرست في نفوسهم محبة الفلسفة والعلمانية وثقافات الكفار، أشربوا الغرب الجاهلي والشرق الجاهلي في قلوبهم، فعن ذاك المشرب يُتَرْجِمون، لا ينتهي إعجابهم بالحضارة المعاصرة، ولا يملكون من التمييز ما به يدركون عُوارَها كما يدركه العقلاء من أهلها أنفسُهم.
لذا تسمعهم يتحدثون عن القرآن بصفته "كتاب حضارة" و"كتاب تاريخ" و"كتاب ثورة" انقطع في أذهانهم الكليلة أخزاهم الله وَصْل الإيمان بالله وباليوم الآخر فعاد عندهم القرآن من أساطير الأولين، لا من كلام رب العالمين.
هذا ما يمنع هؤلاء أن يتخذوا القرآن حاكما، يمنعهم الكفر، ويمنع التقليد الأعمى القاطع أيضا عن القرآن، لا يشفع في ذلك أن يكون القاطع فارسا من فرسان علمائنا. لا يقدر المقلدة، وهم في سجن تقليدهم للأقدمين، أن يبصروا واقعهم على ضوء تقريرات القرآن، وإخباره عن سنة الله، وعن دفاع الله الناس بعضهم ببعض، وعن الجهاد الواجب، وعن الولاية والتكتل الواجبين على المؤمنين، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الشورى حكما، والعدل الشامل تصرفا، والإحسان غاية، تغشى تلك الأبصار تقريرات العلماء وتجريداتهم وخلافاتهم، فتذهب بالناظر في تلك الطروس أوهامُه بعيدا عن مقاصد المؤلفين والمفتين والمجتهدين قبلنا، وهي كانت ذات دلالة وتحكم في واقع عصرها، فإذا به يجترّ حروفا طار عنها المعنى كما طار هو في أجواء الجدل حائما دائرا ثملا أن ظفر بفقرة من كتاب حارب بها ذلك الفارس منكر زمانه ليحارب بها هو مخالفيه وناصحيه.
منظار التقليد يفرض على الذهنية الكليلة، ذهنية منشطرة منكدرة، صورا من الماضي الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف لحاضر المسلمين علاجات هي الهوس بعينه، وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها، وهي التناقض والفهاهة.
كل ذهنية يحجب عنها حاجب الكفر أو النفاق أو التقليد الأعمى حاكمية القرآن وهيمنته ونموذجية السنة الكاملة، سنة الجهاد والشورى والعدل والإحسان، دعوة ودولة، دنيا وأخرى، وإنما هي ذهنية عاجزة عن فهم الإسلام وهو إسلام الوجه لله جل وعلا، بيننا وبينه، تعالى جد ربنا، كلمته المجيدة حملها إلينا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فمتى لم نُقِم وجهنا إلى كتاب الله تعالى صمودا إليه، واستماعا وطاعة، وتلقيا دائما، وتلاوة، وتدبرا، وذكرا، فلن نكون المسلمين، لا ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن فهم من سبقني بأثارة من علم، شريطة أن لا يشغلني المفسر عن التفسير، ولا رأي المفتي عن الحكم ولا الحكم عن الحاكم جلّ وعلا.
في تجارب سلفنا الصالح من العلماء وفي محاولاتهم واجتهاداتهم ما هو حريّ بإثراء تجربتنا، وتقويم محاولاتنا، وتوجيه اجتهادنا إن نحن وضعناها جميعا أمام القرآن والقرآن يحكم، نفحصها على ضوئه، في نشوئها وتسلسلها، وتعاقب أشكالها ومناهجها، وتأثرها بحركة الحياة العامة وتأثيرها فيها، وإقدامها وإحجامها، ونتائج صوابها وخطإها.
أمام القرآن وهو يحكم نسائل تلك التجارب وذلك الاجتهاد عما فعل العدل الذي أمر الله عز وجل به في القرآن ؟ وأنى سارت الشورى وصارت ؟ وأيّةً سلك الإحسان ؟ ماذا فعل كل أولئك في فقه هذا المذهب وسلوك تلك الطائفة واستبداد ذلك السلطان ؟
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
تنقضن عرى الإسلام
إن فهم الانكسار التاريخي الذي حدث بعد الفتنة الكبرى ومقتل ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان رضي الله عنه ضروري لمن يحمل مشروع العمل لإعادة البناء على الأساس الأول. فهم طبيعة هذا الانكسار، ومغزاه بالنسبة لتسلسل الأحداث وتدهورها بنا إلى الدرك الذي نجد الآن فيه أنفسنا. فهم الذهنية التقليدية التي تدين بالولاء غير المشروط للسلطان، كيف نشأت، وكيف توارثها الخلف عن السلف، وكيف صنعت أجيالا يسوقها الحاكم المستبد سوق الأغنام. فهم الذهنية الأخرى التي رفضت الاستسلام وتشيعت لآل البيت. فهم كيف تغلغلت الثورة الشيعية على الحكم حتى انفجرت في عصرنا. فهم كيف تحجرت الذهنية الشيعية على عقيدة إفراد علي كرم الله وجهه وبنيه بالإمامة، وراثة تقابل توارث الملوك العاضين شؤون الأمة. فهم كيف صنع تكتم الشيعة من الحكام على مر العصور ذهنية غامضة تتناقل الأخبار الغريبة الساذجة من فم لأذن في جو تآمري حاق. فهم كيف نشأت الصراعات المذهبية بين طوائف الشيعة والشيعين للحكم القائم وبين أهل السنة والجماعة الملتفين حوله، لماذا التف هؤلاء ولماذا رفض أولئك. فهم كيف شجرت الخلافات واشتجرت بين فرق النظار والفقهاء، وكيف برزت العقائد المتطرفة من قدرية وجبرية وخوارج ومرجئة.
ليس في هذه الرسالة متسع لتفصيل الكلام في هذه الشؤون الخطيرة، ولا ليس في نيتنا أن نتعرض للفتنة النائمة عصمنا الله بكرمه وعفوه من القواصم، لكن ألح عليكم إخوتي أن تعرفوا أن الانكسار التاريخي حدث محوري في تاريخ الإسلام، وسيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن لم ندرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسار تاريخنا وتجلجلها في الضمائر عن وعي في تلك العهود وبحكم تكوين المخزون الجماعي الذي توارثته الأجيال. رجَّة عظيمة مزقت كيان الأمة المعنوي فبقي المسلمون يعانون من النزيف في الفكر والعواطف منذئذ، ويؤدون إتاوات باهظة لما ضعُف من وحدتهم وتمزق من شملهم وتجزأ من علومهم وأقطارهم.
غيرنا يغضي حياء من فتح تلك الصفحات، وآخرون من حزب الشيطان يثيرون تلك الأخبار لزعزعة ثقة المسلمين بإسلامهم وتشكيكهم في قيمة الحق الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، يستشهدون بتاريخ المسلمين على تاريخية الإسلام ليقولوا إنه إديولوجية عابرة متماوجة متغيرة متعددة التعبير صحبت صراعات بين بطون قريش وبين عصبيات أخرى، لاصق كل ذلك بالأرض، شبيه بالجدليات الصراعية على مر التاريخ. نحن نقصد كشف جانب من ذلك الستر بمقدار ما نتبين كيف تجري قوانين الله ونواميسه في الكون على البر والفاجر، على المسلمين وغير المسلمين، آخذين في اعتبارنا ما جاء به الوحي وما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب، وما أوصى وما علم، لتستقيم لنا الرؤية من زاوية نظر يوجهها القرآن ويحدوها الإخبار المعصوم. لا تزيغ العين التي تقرأ ناموس الله في التاريخ بالعين التي تقرأ مواقع القدر الإلهي، ولا تكون النظرة إلا عوراء إن انغلقت العين المراقبة للكون وأسبابه وانتصبت العين الإيمانية الغيبية تترجم وتفسر، لا خَبَرَ عندها بالعلة والمعلول كما شاء الله تعالى أن تكون علاقتهما مفهومة عقلا مترابطة متساوقة.
نرى هذه الأيام الحرب الضروس القذرة بين إيران والعراق، يا لَضياع أشلاء الأمة ! يتجند بعض علمائنا الحَسَني النية القاصري النظرة لتفسيرها والتحزب فيها انطلاقا من أنها عدوان شيعي على أهل السنة. من لهؤلاء الأفاضل يتبع معهم بإشارة الأصبع كيف انحدرت من أجيال أهل السنة تقاليد الخضوع للحكام أيا كان منذ الانكسار التاريخي، وكيف انحدرت في أجيال الشيعة تقاليد رفض الرضوخ للحاكم. ففي حلبة الصراع الآن ثوارٌ ينادون بثارات الحسين من يزيد العراق يعيشون بألم كما عاش آباؤهم تلك المأساة المحزنة، بل تلك الجريمة النكراء بكل المعايير. والضحية شعب عربي مسلم في العراق خاضع لقيادة قومية لا صلة لها بالإسلام، يسوقها بيادق النصراني المرتد عن دينه ميشيل عفلق. لماذا تأتى للزعماء القوميين أن يركبوا متن الأمة ويلهبوا أظهرها لتنقاد إلى سفك دمائها دفاعا عن نظام بعثي طالما استخف بالإسلام قبل الثورة الإيرانية، وأصبح زعماؤه اليوم يتسابقون إلى عدسات التصوير ليظهروا للجمهور تالين راكعين ساجدين ؟
أين مناط المنكر في الداهية الدهياء التي تبدد مقومات الأمة بشطريها الشيعي والسني ؟ أهو قتل الأبرياء وانتهاك الحُرم وإضعاف الأمة، والعدو متربص شامت والقدس محتلة ؟ أم هو كارثة الأمية التارخية السياسية التي تجعلنا نجرد الأحداث عن منطقها والصراع القائم عن منبعه ومغزاه ومصيريته وذهنياته القائدة وما ترسب فيها منذ الانكسار التاريخي وما تصور لها تلك الترسبات من ضرورة الاندفاع والاستماتة ؟ إنه مخاض مؤلم فريد من نوعه في تاريخنا. مخاض نرجو منه ميلاد الخلافة الموعودة تجبر وتأسو. إن شاء الله الملك الوهاب.
من المسلمين من يرفض، بعينين مغمضتين عن التاريخ وحقائقه وعن الوحي وتعليمه معا، أن يكون قد حدث انكسار أو أن يكون الحكم قد فسد والسنة خضعوا والشيعة ثاروا. هلم بنا نَرْبَعْ على أنفسنا فما الجدلَ نريد. بل نريد أن نستسيغ غصص القدس وأفغانستان وحرب الخليج بجرعات من البسلم النبوي. تجرعوها الأحباب، أجيال المسلمين، مرة ولا يزالون. وإن قضاء الله عز وجل النازل بما كسبت أيدي الناس، العائد بالرحمة فضلا من الولي الحميد سبحانه، نزل رجات يتلو بعضها بعضا إلى زماننا. ونأمل من كرمه أن يحط أقدامنا على مواقع القدر الذي نطق الترجمان الإلهي ببشرى تنزيله بالخلافة على منهاج النبوة بعد كل هذا العض المؤلم والجبر. فالانتظار الواثق لتحقيق تلك البشرى هو بلسمنا. والعمل على التعرض لها إعدادا وتربية وتنظيما وزحفا شغلنا بفضل مَن له المنة. لا إله إلا هو.
ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون في النار المستعرة ليزيدوها ضراما. إن رجعنا، بالطمأنينة الإيمانية، إلى مبعث الخلاف وميلاد الفتنة بقصد العلم المؤسس لعمل يوحد ولا يفرق، يفتح الجرح ليضع فيه دواء لا ليُنْكِيَه، فعسى نعلم ونعمل. ولعل في الجواب عن السؤال البسيط : "هل فسد الحكم في عهد مبكر أم لم يفسد ؟" بما يرتاح له ضمير المؤمن وعقل الناظر ومنطق المحلل ما هو كفيل أن يتوجه بنا إلى العلم النافع والعمل البناء.
روى الإمام أحمد بسنده الحسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة".
لنزداد يقينا بأن الحكم قد فسد في عهد مبكر جدا، ولنزداد معرفة بتفصيل المراحل التي تحدث عنها حديث منهاج النبوة ننظر عند البخاري حديثا رواه بسنده عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال : "كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا هريرة يقول : سمعت الصادق المصدوق يقول : "هلاك أمتي على يدي أُغيلمة من قريش". فقال مروان : غلمة ؟ قال أبو هريرة : إن شئت أن أسميهم : بني فلان وبني فلان".
ولنزداد تدقيقا نسمع شهادة صحابي هو سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث إسناده حسن رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان. في رواية الترمذي : عن سعيد عن سفينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" قال سعيد بن جهمان ثم قال : (أي سفينة) : أمسك (أي احسب في أصابعك) : خلافة أبي بكر، خلافة عمر، وخلافة عثمان ثم قال أمسك خلافة علي. فوجدناها ثلاثين سنة. قال سعيد فقلت له إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال كذبوا بنو الزرقاء ! بل هم ملوك، شر الملوك !"
إن طموح العاملين في الدعوة الإسلامية، يكابدون في جهادهم عنت الإعراض من العامة والمكر السيء من الجبارين في الأرض، يعانون أيضا من الذهنية المتحجرة الواقفة على تقديس التاريخ الإسلامي لا تقبل بوجه أن تنظر فيه للعبرة. هذه الذهنية لوقوفها وتبلدها ورفضها لفهم الماضي أعجز عن تصور مستقبل إسلامي إلا على صورة الإسلام المنشطر المشتت، إسلام الملك العاض، إسلام عاش فيه القرآن وأهل القرآن تحت ظل السيف.
كأني بواحد منهم يطعن في حديث سفينة ويطعن في كل الروايات التاريخية ليبقى له تصوره الجامد المزين بألوان الهناء والفناء. كأني به يقول : "ما عهدنا من يقول مثل ما نسب إلى سفينة إلا الشيعه."
ملوك شر الملوك ! وظل السيف طاف فوق الرقاب. ذهب عبد الملك بن مروان إلى المدينة سنة خمس وسبعين. فارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنها مدوية، ولو كان يسمع الجامدون. قال : "إني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف... والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه !" أنقل هذه الكلمة الكبيرة التي خرجت من فيِّ رجل من ملوك العض عن كتاب المودودي رحمه الله "الخلافة والملك" كما نقلها عن ابن الأثير والجصاص وعن مؤلف كتاب فوات الوفيات.
كتاب المودودي كان أثار زوبعة في أوساط الناس. وهو أهم ما كتبه هذا المفكر المجاهد رحمه الله. لعل الجامدين وجدوا في الكتاب ثغرة دخلوا منها فضخموا جانبا ليطمسوا منه جوانب ناصعة. جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر أن نكف عن الأصحاب [1] . فلم يسع كاتبنا وهو في سياق تحليله أن يتعفف عن ذكر الإمام سيدنا عثمان رضي الله عنه، غفر الله لنا وله وللجميع.
نعم انتقضت، بل نقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء من يقول من على منبره، من مسجده، للناس يومئذ ولكل من يسمع فيعي من العقلاء أن ما وعد الله ورسوله حق، وأن الخلافة الأولى أقبرها السيف، وأن الحاكم العاض يحكم بهواه، وعصبيته، وجبروته، لا بالقرآن، ولا بشورى أهل القرآن، ولا بعدل القرآن، ولا بإحسان أمر به القرآن، ولا برعاية لتقوى الله. ضرب الأعناق ! ودواء الأمة السيف !
و سالت الدماء بانتقاض العروة العليا، وتشبث الناس بالعرى الأخرى في حدود ما سمح به حامل السيف.
إن كان بقي للأمة كيان قوي، واستمرار تاريخي، وشوكة قوية، وفتوح واسعة، وعلوم ومجد، وحضارة وابتكار، وصلاح وتقوى، فالفضل لله عز وجل بأن حفظ على الأمة وجودها وتماسكها بهذا التشبث الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : "فكلما انتقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها."
إن من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباره بالغيب، ومن كرامة الله جل وعلا لهذه الأمة أن بقيت صامدة مواجهة تارة مصانعة أخرى.
واجه الإمام الحسين رضي الله عنه وقاتل، واجه زيد بن على وقاتل، واجه محمد النفس الزكية وإدريس أخوه وإبراهيم ويحيى من بعده وقاتلوا. كان هؤلاء جميعا من آل البيت، وكان لأئمة المسلمين أبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم ميل، بل مساندة فعلية لهؤلاء القائمين.
عذب ابن هبيرة الإمام أبا حنيفة لما رفض أن يتقلد القضاء لأبي جعفر المنصور العباسي لأنه يرى في بيعته شيئا، كان يراها غير شرعية، وعذب والي المدينة مالكا لما أفتى مالك الناس بان طلاق المكره لا يجوز، وكان المنصور يُكره الناس على البيعة ويحلفهم بطلاق أزواجهم إن هم لم يفوا بالبيعة. وما ذلك إلا لأن مالكا رحمه الله كان يرى أن تلك البيعة فاسدة.
إن مشروع الإسلاميين في عصرنا سيكون محدود الأفق إن لم نتفقه في تاريخنا، يغتاله الشعور بالمضض والألم لما وقع في ذلك العهد العنيف، عهد الانتقال من مرحلة الخلافة إلى مرحلة العض. لا ينقصنا العنف في مرحلتنا هذه، تسلطا علينا أو هاجسا ملحا على بعضنا. فلكي نوسع الأفق، ولكي نزيل الأسى على الماضي، نتخفف لنمضي باطمئنان المؤمنين إلى تحقيق موعود الله جهادا فاعلا وتوكلا يتحرى مواقع القدر الحكيم، نقف عند محطة فكرية عاطفية إيمانية عينية عملية سياسية دينية لنتسائل : ترى لِمَ قبل المسلمون حكم السيف والهوى وضرب الأعناق ؟ لِمَ انساقوا تحت إمرة فاسدة في كثير من الأحيان وهم كانوا في العالم قوة فاتحة هادية يداوون الناس كافة برفق الإسلام وقرآن الإسلام، بينما الحاكم في بيتهم هوى السلطان، والدواء السيف، وحل الخلاف ضرب الأعناق ؟
لماذا استبدل سواد الأمة الأعظم الاستبداد بالشورى، والظلم بالعدل، وقبلوا تهتك الأغيلمة من قريش وطيشهم ؟ لماذا سمعوا وأطاعوا الصبية اللاعبين وهو كانوا أُسْد الشرى وعلماء الدنيا ؟ لماذا حكم المترفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة الأمة ؟ لماذا لم يمض الذين ساندوا القائمين من آل البيت إلى آخر شوط في العصيان لأمراء السوء، وكأن في مساندتهم تحفظا شل الحركة، وفت في العضد، وأوهن العزائم ؟
[1] " اذا ذكر أصحابي فأمسكو ". الحديث أخرجه الطبراني عن أبي مسعود بإسناد حسن.
إن فهم الانكسار التاريخي الذي حدث بعد الفتنة الكبرى ومقتل ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان رضي الله عنه ضروري لمن يحمل مشروع العمل لإعادة البناء على الأساس الأول. فهم طبيعة هذا الانكسار، ومغزاه بالنسبة لتسلسل الأحداث وتدهورها بنا إلى الدرك الذي نجد الآن فيه أنفسنا. فهم الذهنية التقليدية التي تدين بالولاء غير المشروط للسلطان، كيف نشأت، وكيف توارثها الخلف عن السلف، وكيف صنعت أجيالا يسوقها الحاكم المستبد سوق الأغنام. فهم الذهنية الأخرى التي رفضت الاستسلام وتشيعت لآل البيت. فهم كيف تغلغلت الثورة الشيعية على الحكم حتى انفجرت في عصرنا. فهم كيف تحجرت الذهنية الشيعية على عقيدة إفراد علي كرم الله وجهه وبنيه بالإمامة، وراثة تقابل توارث الملوك العاضين شؤون الأمة. فهم كيف صنع تكتم الشيعة من الحكام على مر العصور ذهنية غامضة تتناقل الأخبار الغريبة الساذجة من فم لأذن في جو تآمري حاق. فهم كيف نشأت الصراعات المذهبية بين طوائف الشيعة والشيعين للحكم القائم وبين أهل السنة والجماعة الملتفين حوله، لماذا التف هؤلاء ولماذا رفض أولئك. فهم كيف شجرت الخلافات واشتجرت بين فرق النظار والفقهاء، وكيف برزت العقائد المتطرفة من قدرية وجبرية وخوارج ومرجئة.
ليس في هذه الرسالة متسع لتفصيل الكلام في هذه الشؤون الخطيرة، ولا ليس في نيتنا أن نتعرض للفتنة النائمة عصمنا الله بكرمه وعفوه من القواصم، لكن ألح عليكم إخوتي أن تعرفوا أن الانكسار التاريخي حدث محوري في تاريخ الإسلام، وسيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن لم ندرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسار تاريخنا وتجلجلها في الضمائر عن وعي في تلك العهود وبحكم تكوين المخزون الجماعي الذي توارثته الأجيال. رجَّة عظيمة مزقت كيان الأمة المعنوي فبقي المسلمون يعانون من النزيف في الفكر والعواطف منذئذ، ويؤدون إتاوات باهظة لما ضعُف من وحدتهم وتمزق من شملهم وتجزأ من علومهم وأقطارهم.
غيرنا يغضي حياء من فتح تلك الصفحات، وآخرون من حزب الشيطان يثيرون تلك الأخبار لزعزعة ثقة المسلمين بإسلامهم وتشكيكهم في قيمة الحق الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، يستشهدون بتاريخ المسلمين على تاريخية الإسلام ليقولوا إنه إديولوجية عابرة متماوجة متغيرة متعددة التعبير صحبت صراعات بين بطون قريش وبين عصبيات أخرى، لاصق كل ذلك بالأرض، شبيه بالجدليات الصراعية على مر التاريخ. نحن نقصد كشف جانب من ذلك الستر بمقدار ما نتبين كيف تجري قوانين الله ونواميسه في الكون على البر والفاجر، على المسلمين وغير المسلمين، آخذين في اعتبارنا ما جاء به الوحي وما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب، وما أوصى وما علم، لتستقيم لنا الرؤية من زاوية نظر يوجهها القرآن ويحدوها الإخبار المعصوم. لا تزيغ العين التي تقرأ ناموس الله في التاريخ بالعين التي تقرأ مواقع القدر الإلهي، ولا تكون النظرة إلا عوراء إن انغلقت العين المراقبة للكون وأسبابه وانتصبت العين الإيمانية الغيبية تترجم وتفسر، لا خَبَرَ عندها بالعلة والمعلول كما شاء الله تعالى أن تكون علاقتهما مفهومة عقلا مترابطة متساوقة.
نرى هذه الأيام الحرب الضروس القذرة بين إيران والعراق، يا لَضياع أشلاء الأمة ! يتجند بعض علمائنا الحَسَني النية القاصري النظرة لتفسيرها والتحزب فيها انطلاقا من أنها عدوان شيعي على أهل السنة. من لهؤلاء الأفاضل يتبع معهم بإشارة الأصبع كيف انحدرت من أجيال أهل السنة تقاليد الخضوع للحكام أيا كان منذ الانكسار التاريخي، وكيف انحدرت في أجيال الشيعة تقاليد رفض الرضوخ للحاكم. ففي حلبة الصراع الآن ثوارٌ ينادون بثارات الحسين من يزيد العراق يعيشون بألم كما عاش آباؤهم تلك المأساة المحزنة، بل تلك الجريمة النكراء بكل المعايير. والضحية شعب عربي مسلم في العراق خاضع لقيادة قومية لا صلة لها بالإسلام، يسوقها بيادق النصراني المرتد عن دينه ميشيل عفلق. لماذا تأتى للزعماء القوميين أن يركبوا متن الأمة ويلهبوا أظهرها لتنقاد إلى سفك دمائها دفاعا عن نظام بعثي طالما استخف بالإسلام قبل الثورة الإيرانية، وأصبح زعماؤه اليوم يتسابقون إلى عدسات التصوير ليظهروا للجمهور تالين راكعين ساجدين ؟
أين مناط المنكر في الداهية الدهياء التي تبدد مقومات الأمة بشطريها الشيعي والسني ؟ أهو قتل الأبرياء وانتهاك الحُرم وإضعاف الأمة، والعدو متربص شامت والقدس محتلة ؟ أم هو كارثة الأمية التارخية السياسية التي تجعلنا نجرد الأحداث عن منطقها والصراع القائم عن منبعه ومغزاه ومصيريته وذهنياته القائدة وما ترسب فيها منذ الانكسار التاريخي وما تصور لها تلك الترسبات من ضرورة الاندفاع والاستماتة ؟ إنه مخاض مؤلم فريد من نوعه في تاريخنا. مخاض نرجو منه ميلاد الخلافة الموعودة تجبر وتأسو. إن شاء الله الملك الوهاب.
من المسلمين من يرفض، بعينين مغمضتين عن التاريخ وحقائقه وعن الوحي وتعليمه معا، أن يكون قد حدث انكسار أو أن يكون الحكم قد فسد والسنة خضعوا والشيعة ثاروا. هلم بنا نَرْبَعْ على أنفسنا فما الجدلَ نريد. بل نريد أن نستسيغ غصص القدس وأفغانستان وحرب الخليج بجرعات من البسلم النبوي. تجرعوها الأحباب، أجيال المسلمين، مرة ولا يزالون. وإن قضاء الله عز وجل النازل بما كسبت أيدي الناس، العائد بالرحمة فضلا من الولي الحميد سبحانه، نزل رجات يتلو بعضها بعضا إلى زماننا. ونأمل من كرمه أن يحط أقدامنا على مواقع القدر الذي نطق الترجمان الإلهي ببشرى تنزيله بالخلافة على منهاج النبوة بعد كل هذا العض المؤلم والجبر. فالانتظار الواثق لتحقيق تلك البشرى هو بلسمنا. والعمل على التعرض لها إعدادا وتربية وتنظيما وزحفا شغلنا بفضل مَن له المنة. لا إله إلا هو.
ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون في النار المستعرة ليزيدوها ضراما. إن رجعنا، بالطمأنينة الإيمانية، إلى مبعث الخلاف وميلاد الفتنة بقصد العلم المؤسس لعمل يوحد ولا يفرق، يفتح الجرح ليضع فيه دواء لا ليُنْكِيَه، فعسى نعلم ونعمل. ولعل في الجواب عن السؤال البسيط : "هل فسد الحكم في عهد مبكر أم لم يفسد ؟" بما يرتاح له ضمير المؤمن وعقل الناظر ومنطق المحلل ما هو كفيل أن يتوجه بنا إلى العلم النافع والعمل البناء.
روى الإمام أحمد بسنده الحسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة".
لنزداد يقينا بأن الحكم قد فسد في عهد مبكر جدا، ولنزداد معرفة بتفصيل المراحل التي تحدث عنها حديث منهاج النبوة ننظر عند البخاري حديثا رواه بسنده عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال : "كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا هريرة يقول : سمعت الصادق المصدوق يقول : "هلاك أمتي على يدي أُغيلمة من قريش". فقال مروان : غلمة ؟ قال أبو هريرة : إن شئت أن أسميهم : بني فلان وبني فلان".
ولنزداد تدقيقا نسمع شهادة صحابي هو سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث إسناده حسن رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان. في رواية الترمذي : عن سعيد عن سفينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" قال سعيد بن جهمان ثم قال : (أي سفينة) : أمسك (أي احسب في أصابعك) : خلافة أبي بكر، خلافة عمر، وخلافة عثمان ثم قال أمسك خلافة علي. فوجدناها ثلاثين سنة. قال سعيد فقلت له إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال كذبوا بنو الزرقاء ! بل هم ملوك، شر الملوك !"
إن طموح العاملين في الدعوة الإسلامية، يكابدون في جهادهم عنت الإعراض من العامة والمكر السيء من الجبارين في الأرض، يعانون أيضا من الذهنية المتحجرة الواقفة على تقديس التاريخ الإسلامي لا تقبل بوجه أن تنظر فيه للعبرة. هذه الذهنية لوقوفها وتبلدها ورفضها لفهم الماضي أعجز عن تصور مستقبل إسلامي إلا على صورة الإسلام المنشطر المشتت، إسلام الملك العاض، إسلام عاش فيه القرآن وأهل القرآن تحت ظل السيف.
كأني بواحد منهم يطعن في حديث سفينة ويطعن في كل الروايات التاريخية ليبقى له تصوره الجامد المزين بألوان الهناء والفناء. كأني به يقول : "ما عهدنا من يقول مثل ما نسب إلى سفينة إلا الشيعه."
ملوك شر الملوك ! وظل السيف طاف فوق الرقاب. ذهب عبد الملك بن مروان إلى المدينة سنة خمس وسبعين. فارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنها مدوية، ولو كان يسمع الجامدون. قال : "إني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف... والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه !" أنقل هذه الكلمة الكبيرة التي خرجت من فيِّ رجل من ملوك العض عن كتاب المودودي رحمه الله "الخلافة والملك" كما نقلها عن ابن الأثير والجصاص وعن مؤلف كتاب فوات الوفيات.
كتاب المودودي كان أثار زوبعة في أوساط الناس. وهو أهم ما كتبه هذا المفكر المجاهد رحمه الله. لعل الجامدين وجدوا في الكتاب ثغرة دخلوا منها فضخموا جانبا ليطمسوا منه جوانب ناصعة. جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر أن نكف عن الأصحاب [1] . فلم يسع كاتبنا وهو في سياق تحليله أن يتعفف عن ذكر الإمام سيدنا عثمان رضي الله عنه، غفر الله لنا وله وللجميع.
نعم انتقضت، بل نقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء من يقول من على منبره، من مسجده، للناس يومئذ ولكل من يسمع فيعي من العقلاء أن ما وعد الله ورسوله حق، وأن الخلافة الأولى أقبرها السيف، وأن الحاكم العاض يحكم بهواه، وعصبيته، وجبروته، لا بالقرآن، ولا بشورى أهل القرآن، ولا بعدل القرآن، ولا بإحسان أمر به القرآن، ولا برعاية لتقوى الله. ضرب الأعناق ! ودواء الأمة السيف !
و سالت الدماء بانتقاض العروة العليا، وتشبث الناس بالعرى الأخرى في حدود ما سمح به حامل السيف.
إن كان بقي للأمة كيان قوي، واستمرار تاريخي، وشوكة قوية، وفتوح واسعة، وعلوم ومجد، وحضارة وابتكار، وصلاح وتقوى، فالفضل لله عز وجل بأن حفظ على الأمة وجودها وتماسكها بهذا التشبث الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : "فكلما انتقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها."
إن من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباره بالغيب، ومن كرامة الله جل وعلا لهذه الأمة أن بقيت صامدة مواجهة تارة مصانعة أخرى.
واجه الإمام الحسين رضي الله عنه وقاتل، واجه زيد بن على وقاتل، واجه محمد النفس الزكية وإدريس أخوه وإبراهيم ويحيى من بعده وقاتلوا. كان هؤلاء جميعا من آل البيت، وكان لأئمة المسلمين أبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم ميل، بل مساندة فعلية لهؤلاء القائمين.
عذب ابن هبيرة الإمام أبا حنيفة لما رفض أن يتقلد القضاء لأبي جعفر المنصور العباسي لأنه يرى في بيعته شيئا، كان يراها غير شرعية، وعذب والي المدينة مالكا لما أفتى مالك الناس بان طلاق المكره لا يجوز، وكان المنصور يُكره الناس على البيعة ويحلفهم بطلاق أزواجهم إن هم لم يفوا بالبيعة. وما ذلك إلا لأن مالكا رحمه الله كان يرى أن تلك البيعة فاسدة.
إن مشروع الإسلاميين في عصرنا سيكون محدود الأفق إن لم نتفقه في تاريخنا، يغتاله الشعور بالمضض والألم لما وقع في ذلك العهد العنيف، عهد الانتقال من مرحلة الخلافة إلى مرحلة العض. لا ينقصنا العنف في مرحلتنا هذه، تسلطا علينا أو هاجسا ملحا على بعضنا. فلكي نوسع الأفق، ولكي نزيل الأسى على الماضي، نتخفف لنمضي باطمئنان المؤمنين إلى تحقيق موعود الله جهادا فاعلا وتوكلا يتحرى مواقع القدر الحكيم، نقف عند محطة فكرية عاطفية إيمانية عينية عملية سياسية دينية لنتسائل : ترى لِمَ قبل المسلمون حكم السيف والهوى وضرب الأعناق ؟ لِمَ انساقوا تحت إمرة فاسدة في كثير من الأحيان وهم كانوا في العالم قوة فاتحة هادية يداوون الناس كافة برفق الإسلام وقرآن الإسلام، بينما الحاكم في بيتهم هوى السلطان، والدواء السيف، وحل الخلاف ضرب الأعناق ؟
لماذا استبدل سواد الأمة الأعظم الاستبداد بالشورى، والظلم بالعدل، وقبلوا تهتك الأغيلمة من قريش وطيشهم ؟ لماذا سمعوا وأطاعوا الصبية اللاعبين وهو كانوا أُسْد الشرى وعلماء الدنيا ؟ لماذا حكم المترفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة الأمة ؟ لماذا لم يمض الذين ساندوا القائمين من آل البيت إلى آخر شوط في العصيان لأمراء السوء، وكأن في مساندتهم تحفظا شل الحركة، وفت في العضد، وأوهن العزائم ؟
[1] " اذا ذكر أصحابي فأمسكو ". الحديث أخرجه الطبراني عن أبي مسعود بإسناد حسن.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
عامل الإيمان بالغيب
أدوات التحليل التي ابتليت باستعمالها هذه الطبقة من المثقفين المعاصرين تلامذة الجاهلية ليس فيها شيء يسمى الغيب، لأن دائرة تلك الثقافة لا تعرف الله. فإذا أخذوا يحللون الأحداث التاريخية عرضوا الدوافع النفسية والسياسية والاقتصادية أيها كان العامل الحاسم في الواقعة. يرتبون هذه الدوافع حسب ما تعطيه مذاهبهم الفكرية من الأهمية والأسبقية للعوامل الموجهة لحركة المجتمعات. فالشيوعي يبدأ بالبحث عن العامل الاقتصادي والملكية ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليحدد مجرى الصراع الطبقي وتطوره. والمثالي يبحث عن الفكرة والفلسفة والتيار العاطفي أو الديني الذي أعطى السياسة قاعدتها الإديولوجية ومبادئها. وهكذا. أما المؤمن بالله وقضائه وقدره فينظر في الأسباب الظاهرة. تكون نظرته عوراء إن لم يفعل، لكنه ينظر أيضا إلى قدرة الله تعالى وقضائه وتصرفه المطلق في ملكه، من خلال العلل والأسباب أو بدونها. كل فساد ظهر في البر والبحر فبما كسبت أيدي الناس، والحكمة المعلنة في القرآن الكريم أن رب العباد سبحانه يريد ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾ [1] .
في التحليل الإيماني لتاريخ الفتنة وانتقاض عروة الحكم في الإسلام نعزو ما وقع للأمة من تخاذل أمام السلطان إلى الإخلال البشري، لا تغيب عنا أسباب استيقاظ عصبية كانت في طريقها إلى الذوبان في عهد النبوة والخلافة الراشدة. ولا يغيب عنا الصراع بين طوائف جديدة من الشعوب والأجناس التي دخلت في الإسلام ولم تترب عليه تربية كاملة، ولا يغيب عنا كيف كانت هذه العناصر القلقة وسطا مناسبا فشت فيه حمى المطالبة والاعتراض والتآمر. لا يغيب عنا أخطاء، بل أوزار، فئة من الانتهازيين اندسوا في ثنايا الدولة على عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه فكان منطقهم أن "دواء الأمة السيف" قبل أن ينطق بالكلمة عبد الملك بن مروان من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يغيب عنا ما دخل المجتمع الإسلامي من أموال انصبت إثر الفتوح الواسعة لتحدث تحولات في نمط المعيشة. وهلم جرا إلى ما شئت من تخرص وتقدير.
الآن نرجع إلى أمة كانت معجزة تاريخية قبل ظهور كل هذه العوامل لما برزت على ساحة العالم جموعا جائعة فقيرة من المقومات المادية، غنية عزيزة بالمعنى العظيم الذي جمعها وألف بينها ورفعها : معنى الإيمان بالله والشعور بأنها حاملة رسالة إلى العالم.
هذه الأمة كانت تتعامل مع الله عز وجل ثقة به وبوعده في الدنيا والآخرة، كانت تأخذ كلمة القرآن ووصية النبي صلى الله عليه وسلم مأخذ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كان هذا المطلق هو العامل الحاسم في حياتها، في رفعتها وفي كبوتها. كانت طاعة الله ورسوله الباعث على الفعل والترك، على السلم والحرب، على الموت والحياة.
كان الصحابة رضي الله عنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث "الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عاضا". سمعوا وصدقوا أن عرى الإسلام ستنقض، وأن أول ما ينقض منها عروة الحكم ورباطه. سمعوا أن هلاك الأمة سيكون على يد "أغيلمة من قريش". فهل كانت كل هذه الإخبارات تمر على هذه الأحاديث المستقبلية ـ كانت ـ أن العلم بها كان مستفيضا. وقد جمع المحدثون تحت عنوان "كتاب الفتن" أو ما شابه كثيرا مما ذكره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن وقائع تأتى على أمته وعلى العالم من بعده إلى ظهور الدجال لعنه الله وظهور سائر أشراط الساعة.
في حديث نقض عرى الإسلام ذكر المصطفى الكريم على الله صلى الله عليه وسلم أن أول العرى نقضا عروة الحكم، وأن آخرها الصلاة، وأن الناس كلما انتقضت عروة تشبثوا بالتي تليها. العرى الفتحات التي تدخل فيها الأزرار ليشد بها الثوب. فكأن سربال الإسلام يتمزق عن جسم الأمة من أعلى، من حيث الرأس، أي الدولة، والناس يتمسكون به مخافة أن ينكشف. ترى هل أوصى نبي الله صلى الله عليه وسلم أمته بشيء تتشبث به يكون أرجى أن لا تهلك الأمة من جراء الانفصامات المتتالية ؟ ترى هل فهم الصحابة والتابعون والقرون الثلاثة الفاضلة من الوصية النبوية أنها تشريع للفتنة ورضى بها وتشجيع على بسطها ؟
أمامي صحيح الإمام مسلم أقرأ منه في باب الفضائل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال : " أما بعد ألا أيها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين (قال العلماء سُمِّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما) : أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به". فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال : "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ! أذكركم الله في أهل بيتي !" الحديث.
الأخبار عن غدير خم، وعن وصية النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته الأطهار تشكل عند إخوتنا الشيعة النصوص الحيوية التي يبنون عليها ولاءهم المطلق لآل البيت. آل البيت رضي الله عنهم هي العروة التي تشبثوا بها بعد فساد الحكم ونقض عروته. اشتدت عليهم قبضة حكام العض على مر القرون فاستماتت قبضتهم في التمسك بآل البيت، اعتقدوا الوصية لعلي كرم الله وجهه، وغلا غلاتهم فرفضوا الخلفاء قبله وسبوهم، قاتل الله الغلاة وأبعدهم، واعتقدوا الإمامة لبني علي وأضفوا عليهم العصمة.
تشبثٌ آلَ إلى تصلبٍ توارثته الأجيال، وعاش في ظل الاضطهاد والاستخفاء والتقية، لكنه تشبث له أصل ثابت عندنا وعندهم من إخبار الحبيب صلى الله عليه وسلم ووصيته.
أمسِكوا هذه إخوتي وأخواتي، قفوا عند هذا التشبث من جانب الشيعة ريثما نذكر أهل السنة والجماعة، لنرى كيف تفرعا معا من نفس الأصل النبوي، وكيف توسع الخلاف بين الفرعين، وكيف حفرت العداوات والصدامات وتضارب الولاء الهوة حتى أصبح الشيطان والجهل يصوران لنا أنها هوة لا قرار لها، وأنها الفرقة إلى الأبد. هذا التصور الشيطاني يغلق على الأمة آفاق المستقبل في الدنيا وأمل لقاء الله عز وجل وهو يضحك إلينا إن جئناه نعادي أهل القبلة أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، المتمسكين بالقرآن كما نتمسك، وهو الثقل الأول. فما بالنا نكفر إخوتنا وننفخ نفخ الشيطان أن كان فهمنا للثقل الثاني كيف نواليه محط خلاف ؟
أقرأ من كتاب "جامع الأصول" أحاديث كثيرة، لا أورد منها إلا الصحيح، كلها توصي الأمة بالسمع والطاعة مهما كان الأمير. أحاديث انتشرت في السواد الأعظم من الأمة، وهم أهل السنة والجماعة، وأصبحت مبدأ ونظام حياة. يسيء الظن، بل يستخف بالأمة، من يزعم أن هذه الأحاديث كانت من وضع الرواة بإيعاز من الحكام المحتاجين إلى مشروعية، يتخذون هذه الأحاديث أداة تشريعية للقمع. كان هنالك وضع، ووضع كثير، لكن إجماع أهل العلم بالحديث على سلسلات من الرواة الثقات يجعلنا في مأمن تام من أن يتسرب إلى ديننا مثل هذا التزوير. ذلك لثقتنا الكاملة بهذا العلم الفريد الشريف الوحيد في تاريخ الدنيا، ألا وهو علم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل.
عنوان ابن الأثير الجزري رحمه الله : "الفصل الخامس في وجوب طاعة الأمير".
أورد في الفصل سبعة عشر حديثا، ثلاثة عشر منها في الصحيحين أو في أحدهما. والصيغة الأمرية تترواح بين الترغيب والأمر المؤكدين بالطاعة وبين التحذير والوعيد الشديدين من المخالفة والعصيان. "اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة" (البخاري). "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم والترميذي والنسائي)... "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني" (الشيخان والنسائي) " سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجدبه الأشعث بن قيس فقال : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" (مسلم والترمذي). "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" (من حديث لمسلم).
هناك صيغ أخرى مشددة مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "من كره من أمير شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" (الشيخان). هذا الحديث وأمثاله ألجم الأفواه، وألزم علماء الأمة الصبر على كره شديد لما فعله العاضون. فإن نطقت الأفواه بالاحتجاج فما كانت، إلا في حالات قليلة، تثير الخروج على السلطان من جانب العلماء الأتقياء مخافة الوعيد المفزع وعيد الميتة الجاهلية، وقانا الله.
صرح الإمام أحمد رضي الله عنه بملء قوته لما ابتدع المأمون العباسي وفسق عن أمر ربه وحارب الله ورسوله بتبني رأي المعتزلة القائلين بخلق القرآن. وأوذي الإمام فصبر. جلد فغفر. كان وعيد الميتة الجاهلية رادعا قويا لأمثاله الضنينين بدينهم.
وكان الملوك العاضون وسلاطين السيف يستغلون هذه النصوص، ويربطون الناس ببيعة إكراهية تغل منهم الرقاب وتقيد الأرجل وتشل الحركة. ماذا تريد من مؤمن أن يفعل وهو يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يوف له" (الشيخان والترمذي) توفية واجبة إذن وإن اختل العدل في الحكم، وفشا الظلم الاجتماعي، واستأثر الحكام بالأرزاق لا يعطون إلا على نشوة المبذر المسرف في أموال المسلمين.
وطغى في الأرض الفسقة الفجرة، تطيعهم الأمة على كره شديد وتحتفظ بهم، وتغزو بغزوهم، وتأتمر بأمرهم، تسمع وتطيع.
كان خوف الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة يلم شعت الأمة، ويصونها أن تذهب مع العصبيات التي استيقظت، وأن تخرج مع الرايات المفرقة للوحدة، الساعية للفرقة. "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، فقتل فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب بَرها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني ولست منه" (مسلم والنسائي).
لنقف الآن ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد على المنطق الجدلي والاعتبارات الأرضية. لنقف نتساءل : أليس في هذه الوصايا المؤكدة الشديدة ما يحير ؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالشورى وبالعدل وبالإحسان ؟ فلِمَ أوصى بالسمع والطاعة مهما استبد الحاكم. ومهما ظلم ومهما فسق ؟
إن الله عز وجل أخبرنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم حريص على المؤمنين، رؤوف بهم رحيم. وإن الله عز وجل أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على مسائل كثيرة من الغيب، مما يقع لأمته حتى قيام الساعة، نقل إلينا الصحابة رضي الله عنهم بعضها وأُنسوا الكثير. وإن الرسول الكريم حرص على وحدة أمته لما علم من قضاء الله الذي لا يرد، قضاء الله العلي القدير الحكيم الذي اقتضى أن تكون فتن، وأن يبتلى المسلمون بحكام العض والجبر، لا يظلم ربك أحدا، ولا يظهر الفساد في بر أو بحر إلا جزاء لما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون. ولعلهم يؤجرون في الدار الآخرة إن كانوا مسلمين وصبروا واحتسبوا وقالوا باللسان والعمل : إنا لله وإنا إليه راجعون.
أطلع الله جل وعلا نبيه الكريم بما هو كائن لا محيد عنه، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. وبإذن الله نطق الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم. نطق بوصية السمع والطاعة لما علم من أن نوازع الاستعلاء والاستكبار ستظهر، وسيظهر التسابق إلى السلطان، والصراع على السلطان. فلا يكن ذلك على حساب وحدة الأمة وتماسكها الداخلي. ثمن هذا التماسك الصبر، ثمنه الاستبداد وما يجره من خسف للحقوق، ثمنه الظلم وتوابعه، صَلِيت بناره الأمة، وصليت بنار الحروب الأهلية، كانت تلك الحروب كفيلة بالقضاء على الإسلام لولا وصايا السمع والطاعة التي اعتبرها علماء المسلمين دينا ومعهم السواد الأعظم.
هذا الإيضاح النبوي كان العروة المتينة التي تشبث بها أهل السنة والجماعة بعد أن نقضت عروة الحكم.
ولعل كثيرا مما وقع في تاريخنا من اضطراب في السياسة والحكم، في المذاهب والاختلاف، في الفقه والعقيدة، في هروب الصوفية الطَّيـبي الأنفاس من الميدان وسكوت علمائنا عن "تلبيس إبليس" في الحكم، راجع بعد قضاء الله وقدره إلى الحيرة بين التشبثين الواجبين، بين التشبت بالقرآن، وهو العروة الوثقى، فيه الشورى والعدل والإحسان، وبين التشبث بالسنة وفيها الأمر بالسمع والطاعة والتخويف من الميتة الجاهلية في حق من فارق الجماعة. السمع والطاعة لملوك استحقوا الصفة الشائنة التي جاءت بها أيضا السنة وهي صفة العض، وظهر بعد أنهم أخلُّوا بالشورى وبالعدل وبالإحسان جميعا.
من حديث مسلم والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا". لذا لا نجد حاكما عاضا فيما مضى، ولا نجد من حكام الجبر الحاليين إلا من يتمسح بكتاب الله سبحانه ظاهرا، ويعلن ولاءه له وخدمته وإخلاصه. فمن كان منهم من الصالحين ـ وقد كان، فإننا لا ندين الأشخاص بل ندين النظام ـ سدد وقارب ليطبق حكم الله جل شأنه على واقع متفلت. ومن كان دون ذلك فإنما كان يلعنه القرآن ولا تجرؤ الأمة ـ في سوادها الأعظم وفي غالب الأحيان ـ أن تخرج عن طاعته مخافة الوعيد المهول.
فمن خرج من أهل السنة والجماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية ما لم يفهمه غيره. كان الحسين بن علي رضي الله عنهما والقائمون بعده زيد بن علي ومحمد وإدريس وإبراهيم ويحيى وكل القائمين في القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن التشيع يومئذ تحول من كونه مشايعة وانتصارا لآل البيت الأطهار ليصبح مذهبا وعقيدة.
كان هؤلاء القائمون الغاضبون لله المنتصرون للحق يعرفون الأحاديث المشددة على السمع والطاعة ولزوم الجماعة لاشك في ذلك. لكنهم أيضا كانوا يعرفون أحاديث الطاعة فيها مشروطة بأن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى مثل حديث مسلم الذي قرأناه آنفا. ويعرفون الأحاديث التي شرطت الطاعة للحاكم الذي يقيم الصلاة لا لمن يضيعها مثل حديث مسلم عن عوف بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم." قال : "قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟" قال : "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ! لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة".
حديثان لمسلم يشرطان الطاعة بشرطين : أن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى، وأن يقيم الصلاة في الناس. فتبقى للمؤمنين مسؤولية التقدير لتمييز الحاكم الذي يقود بالقرآن أو لا يقود، ولتقدير إقامة الصلاة ما معناها وما مدلولها العملي. إن كان الرسول الكريم على الله المؤيد بالوحي يشير إلى مواطن القدر التي أطلعه ربه عليها مقدما النصائح، فما كان له أن يستبق القدر بتفصيل ما ينبغي أن يبقى مطويا، ولا بتعيين ما يجب أن يبقى إلى زمان ظهوره مسدلة عليه أحجبة الستر، ولا بتعريف حدود الشرطين الحاكمين. كتم صلى الله عليه وسلم ذلك وسكت عنه ليتحمل كل مسؤوليته، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. فقدر الله تعالى الحكيم لقضائه الأزلي لا يتنافى مع ما أثبته الشرع وما تعطيه الملاحظة من كسب العباد وحريتهم في الاختيار. كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن أخبر بالفتن الطارئة على أمته من بعده، لا يعصم الأمة عاصم من أن تجري عليها الأقدار فتتميز عن سائر الخلق، وما بلغت نصائحه الشريفة صلى الله عليه وسلم أكثر من أن ترسم دائرة واسعة، في حدودها يحتفظ بوحدة المجموع دون أن تقيد مسؤولية أحد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
لا نشك لحظة أن الحسين بن علي رضي الله عنهما حين غضب غضبته وقام قومته إنما فعل لاعتقاده أن يزيد فسق عن أمر الله وقاد بغير القرآن وأضاع الصلاة، إن كان غيره قدر غير ذلك ورجح الطاعة فلا يعدو أن يكون مجتهدا. وإن سترت أجيال من علماء السنة كارثة قتل الحسين، أو أدانتها على استحياء، فما يهون من فداحة إخلالهم ذاك في أعيننا إلا وجود تلك النصوص الثابتة الكثيرة الداعية للحفاظ على الوحدة، تأولوا في ظلها سلوك يزيد وأمثاله، وسكتوا عن الذل والإذلال وهم يسمعون بني مروان ويرونهم يصفون السيف دواء لأمراض الأمة، وضرب الرقاب شفاء، ويطبقون.
لا يعذر إخواننا الشيعة أحدا ولا يهون عليهم شيء من سكوت أهل السنة والطاعة. ومعهم من النصوص ما إليه يطمئنون يجدون فيها الوصية النبوية بلزوم الثقلين كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن وأهل البيت في اعتقادهم واعتقادنا مترابطان. نجد الإشارة إلى هذا التلازم في حديث للترمذي قال إنه حسن غريب عن يزيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما."
وبعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر كما رأينا في الحديث الصحيح عند البخاري أن هلاك أمته يكون على يد أغيلمة من قريش. نفهم كلمة الهلاك في النطق الشريف لا على أنه نهاية الأمة، فإن استمرارها منذئذ إلى يومنا أربعة عشر قرنا إلا أربعين عاما أو خمسين لا يقبل ذلك الفهم. لكن الأغيلمة ما وصلوا إلى الحكم إلا لمكان النظام الوراثي العاض الفاسد المفسد. ما كان لأمثالهم أن يتربعوا على السدة لو كان أمر الأمة شورى بينها ولو لم تلد العصبية المستيقظة من أسباب الأثرة والتسلط ما حال دون العدل، وحرف مقاصد القرآن، ودفع إلى المناصب العالية حاملي السيف لا أهل التقوى والإحسان.
وصول الأغيلمة للحكم واستمرار استبداد أهل العض والجبر كان النقض الأخطر إذ كان نقضا للعروة العليا. كان فساد السلطان توهينا للقرآن. من شأن السلطان في دولة الإسلام أن يُخدم القرآن ويكون عنه وازعا مدافعا. فإذا أمسى السلطان مُزْوَرّاً عن القرآن، مخالسا له مخاتلا كما نرى في عصرنا، فهلاك الأمة مستمر. وعلى الله القوي العزيز التوكل في أن يقف الانحدار، ثم تبدأ مسيرة اقتحام العقبة، بجهد أهل القرآن بالعمل الدائب، بالعلم النافع، حتى يستقر السلطان في أيدي الأمناء الأقوياء، حتى تكون الدولة آلة طيعة في يد الدعوة تشرف بها على عملية انتشال الأمة من أودية الهلاك، والصعود بها إلى الذرى. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[1] الآية (41) من سورة الروم.
أدوات التحليل التي ابتليت باستعمالها هذه الطبقة من المثقفين المعاصرين تلامذة الجاهلية ليس فيها شيء يسمى الغيب، لأن دائرة تلك الثقافة لا تعرف الله. فإذا أخذوا يحللون الأحداث التاريخية عرضوا الدوافع النفسية والسياسية والاقتصادية أيها كان العامل الحاسم في الواقعة. يرتبون هذه الدوافع حسب ما تعطيه مذاهبهم الفكرية من الأهمية والأسبقية للعوامل الموجهة لحركة المجتمعات. فالشيوعي يبدأ بالبحث عن العامل الاقتصادي والملكية ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ليحدد مجرى الصراع الطبقي وتطوره. والمثالي يبحث عن الفكرة والفلسفة والتيار العاطفي أو الديني الذي أعطى السياسة قاعدتها الإديولوجية ومبادئها. وهكذا. أما المؤمن بالله وقضائه وقدره فينظر في الأسباب الظاهرة. تكون نظرته عوراء إن لم يفعل، لكنه ينظر أيضا إلى قدرة الله تعالى وقضائه وتصرفه المطلق في ملكه، من خلال العلل والأسباب أو بدونها. كل فساد ظهر في البر والبحر فبما كسبت أيدي الناس، والحكمة المعلنة في القرآن الكريم أن رب العباد سبحانه يريد ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾ [1] .
في التحليل الإيماني لتاريخ الفتنة وانتقاض عروة الحكم في الإسلام نعزو ما وقع للأمة من تخاذل أمام السلطان إلى الإخلال البشري، لا تغيب عنا أسباب استيقاظ عصبية كانت في طريقها إلى الذوبان في عهد النبوة والخلافة الراشدة. ولا يغيب عنا الصراع بين طوائف جديدة من الشعوب والأجناس التي دخلت في الإسلام ولم تترب عليه تربية كاملة، ولا يغيب عنا كيف كانت هذه العناصر القلقة وسطا مناسبا فشت فيه حمى المطالبة والاعتراض والتآمر. لا يغيب عنا أخطاء، بل أوزار، فئة من الانتهازيين اندسوا في ثنايا الدولة على عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه فكان منطقهم أن "دواء الأمة السيف" قبل أن ينطق بالكلمة عبد الملك بن مروان من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يغيب عنا ما دخل المجتمع الإسلامي من أموال انصبت إثر الفتوح الواسعة لتحدث تحولات في نمط المعيشة. وهلم جرا إلى ما شئت من تخرص وتقدير.
الآن نرجع إلى أمة كانت معجزة تاريخية قبل ظهور كل هذه العوامل لما برزت على ساحة العالم جموعا جائعة فقيرة من المقومات المادية، غنية عزيزة بالمعنى العظيم الذي جمعها وألف بينها ورفعها : معنى الإيمان بالله والشعور بأنها حاملة رسالة إلى العالم.
هذه الأمة كانت تتعامل مع الله عز وجل ثقة به وبوعده في الدنيا والآخرة، كانت تأخذ كلمة القرآن ووصية النبي صلى الله عليه وسلم مأخذ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كان هذا المطلق هو العامل الحاسم في حياتها، في رفعتها وفي كبوتها. كانت طاعة الله ورسوله الباعث على الفعل والترك، على السلم والحرب، على الموت والحياة.
كان الصحابة رضي الله عنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث "الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عاضا". سمعوا وصدقوا أن عرى الإسلام ستنقض، وأن أول ما ينقض منها عروة الحكم ورباطه. سمعوا أن هلاك الأمة سيكون على يد "أغيلمة من قريش". فهل كانت كل هذه الإخبارات تمر على هذه الأحاديث المستقبلية ـ كانت ـ أن العلم بها كان مستفيضا. وقد جمع المحدثون تحت عنوان "كتاب الفتن" أو ما شابه كثيرا مما ذكره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن وقائع تأتى على أمته وعلى العالم من بعده إلى ظهور الدجال لعنه الله وظهور سائر أشراط الساعة.
في حديث نقض عرى الإسلام ذكر المصطفى الكريم على الله صلى الله عليه وسلم أن أول العرى نقضا عروة الحكم، وأن آخرها الصلاة، وأن الناس كلما انتقضت عروة تشبثوا بالتي تليها. العرى الفتحات التي تدخل فيها الأزرار ليشد بها الثوب. فكأن سربال الإسلام يتمزق عن جسم الأمة من أعلى، من حيث الرأس، أي الدولة، والناس يتمسكون به مخافة أن ينكشف. ترى هل أوصى نبي الله صلى الله عليه وسلم أمته بشيء تتشبث به يكون أرجى أن لا تهلك الأمة من جراء الانفصامات المتتالية ؟ ترى هل فهم الصحابة والتابعون والقرون الثلاثة الفاضلة من الوصية النبوية أنها تشريع للفتنة ورضى بها وتشجيع على بسطها ؟
أمامي صحيح الإمام مسلم أقرأ منه في باب الفضائل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال : " أما بعد ألا أيها الناس ! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين (قال العلماء سُمِّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما) : أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به". فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال : "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ! أذكركم الله في أهل بيتي !" الحديث.
الأخبار عن غدير خم، وعن وصية النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته الأطهار تشكل عند إخوتنا الشيعة النصوص الحيوية التي يبنون عليها ولاءهم المطلق لآل البيت. آل البيت رضي الله عنهم هي العروة التي تشبثوا بها بعد فساد الحكم ونقض عروته. اشتدت عليهم قبضة حكام العض على مر القرون فاستماتت قبضتهم في التمسك بآل البيت، اعتقدوا الوصية لعلي كرم الله وجهه، وغلا غلاتهم فرفضوا الخلفاء قبله وسبوهم، قاتل الله الغلاة وأبعدهم، واعتقدوا الإمامة لبني علي وأضفوا عليهم العصمة.
تشبثٌ آلَ إلى تصلبٍ توارثته الأجيال، وعاش في ظل الاضطهاد والاستخفاء والتقية، لكنه تشبث له أصل ثابت عندنا وعندهم من إخبار الحبيب صلى الله عليه وسلم ووصيته.
أمسِكوا هذه إخوتي وأخواتي، قفوا عند هذا التشبث من جانب الشيعة ريثما نذكر أهل السنة والجماعة، لنرى كيف تفرعا معا من نفس الأصل النبوي، وكيف توسع الخلاف بين الفرعين، وكيف حفرت العداوات والصدامات وتضارب الولاء الهوة حتى أصبح الشيطان والجهل يصوران لنا أنها هوة لا قرار لها، وأنها الفرقة إلى الأبد. هذا التصور الشيطاني يغلق على الأمة آفاق المستقبل في الدنيا وأمل لقاء الله عز وجل وهو يضحك إلينا إن جئناه نعادي أهل القبلة أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، المتمسكين بالقرآن كما نتمسك، وهو الثقل الأول. فما بالنا نكفر إخوتنا وننفخ نفخ الشيطان أن كان فهمنا للثقل الثاني كيف نواليه محط خلاف ؟
أقرأ من كتاب "جامع الأصول" أحاديث كثيرة، لا أورد منها إلا الصحيح، كلها توصي الأمة بالسمع والطاعة مهما كان الأمير. أحاديث انتشرت في السواد الأعظم من الأمة، وهم أهل السنة والجماعة، وأصبحت مبدأ ونظام حياة. يسيء الظن، بل يستخف بالأمة، من يزعم أن هذه الأحاديث كانت من وضع الرواة بإيعاز من الحكام المحتاجين إلى مشروعية، يتخذون هذه الأحاديث أداة تشريعية للقمع. كان هنالك وضع، ووضع كثير، لكن إجماع أهل العلم بالحديث على سلسلات من الرواة الثقات يجعلنا في مأمن تام من أن يتسرب إلى ديننا مثل هذا التزوير. ذلك لثقتنا الكاملة بهذا العلم الفريد الشريف الوحيد في تاريخ الدنيا، ألا وهو علم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل.
عنوان ابن الأثير الجزري رحمه الله : "الفصل الخامس في وجوب طاعة الأمير".
أورد في الفصل سبعة عشر حديثا، ثلاثة عشر منها في الصحيحين أو في أحدهما. والصيغة الأمرية تترواح بين الترغيب والأمر المؤكدين بالطاعة وبين التحذير والوعيد الشديدين من المخالفة والعصيان. "اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة" (البخاري). "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" (مسلم والترميذي والنسائي)... "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني" (الشيخان والنسائي) " سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجدبه الأشعث بن قيس فقال : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" (مسلم والترمذي). "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" (من حديث لمسلم).
هناك صيغ أخرى مشددة مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "من كره من أمير شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" (الشيخان). هذا الحديث وأمثاله ألجم الأفواه، وألزم علماء الأمة الصبر على كره شديد لما فعله العاضون. فإن نطقت الأفواه بالاحتجاج فما كانت، إلا في حالات قليلة، تثير الخروج على السلطان من جانب العلماء الأتقياء مخافة الوعيد المفزع وعيد الميتة الجاهلية، وقانا الله.
صرح الإمام أحمد رضي الله عنه بملء قوته لما ابتدع المأمون العباسي وفسق عن أمر ربه وحارب الله ورسوله بتبني رأي المعتزلة القائلين بخلق القرآن. وأوذي الإمام فصبر. جلد فغفر. كان وعيد الميتة الجاهلية رادعا قويا لأمثاله الضنينين بدينهم.
وكان الملوك العاضون وسلاطين السيف يستغلون هذه النصوص، ويربطون الناس ببيعة إكراهية تغل منهم الرقاب وتقيد الأرجل وتشل الحركة. ماذا تريد من مؤمن أن يفعل وهو يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يوف له" (الشيخان والترمذي) توفية واجبة إذن وإن اختل العدل في الحكم، وفشا الظلم الاجتماعي، واستأثر الحكام بالأرزاق لا يعطون إلا على نشوة المبذر المسرف في أموال المسلمين.
وطغى في الأرض الفسقة الفجرة، تطيعهم الأمة على كره شديد وتحتفظ بهم، وتغزو بغزوهم، وتأتمر بأمرهم، تسمع وتطيع.
كان خوف الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة يلم شعت الأمة، ويصونها أن تذهب مع العصبيات التي استيقظت، وأن تخرج مع الرايات المفرقة للوحدة، الساعية للفرقة. "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، فقتل فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب بَرها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني ولست منه" (مسلم والنسائي).
لنقف الآن ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد على المنطق الجدلي والاعتبارات الأرضية. لنقف نتساءل : أليس في هذه الوصايا المؤكدة الشديدة ما يحير ؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالشورى وبالعدل وبالإحسان ؟ فلِمَ أوصى بالسمع والطاعة مهما استبد الحاكم. ومهما ظلم ومهما فسق ؟
إن الله عز وجل أخبرنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم حريص على المؤمنين، رؤوف بهم رحيم. وإن الله عز وجل أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على مسائل كثيرة من الغيب، مما يقع لأمته حتى قيام الساعة، نقل إلينا الصحابة رضي الله عنهم بعضها وأُنسوا الكثير. وإن الرسول الكريم حرص على وحدة أمته لما علم من قضاء الله الذي لا يرد، قضاء الله العلي القدير الحكيم الذي اقتضى أن تكون فتن، وأن يبتلى المسلمون بحكام العض والجبر، لا يظلم ربك أحدا، ولا يظهر الفساد في بر أو بحر إلا جزاء لما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون. ولعلهم يؤجرون في الدار الآخرة إن كانوا مسلمين وصبروا واحتسبوا وقالوا باللسان والعمل : إنا لله وإنا إليه راجعون.
أطلع الله جل وعلا نبيه الكريم بما هو كائن لا محيد عنه، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. وبإذن الله نطق الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم. نطق بوصية السمع والطاعة لما علم من أن نوازع الاستعلاء والاستكبار ستظهر، وسيظهر التسابق إلى السلطان، والصراع على السلطان. فلا يكن ذلك على حساب وحدة الأمة وتماسكها الداخلي. ثمن هذا التماسك الصبر، ثمنه الاستبداد وما يجره من خسف للحقوق، ثمنه الظلم وتوابعه، صَلِيت بناره الأمة، وصليت بنار الحروب الأهلية، كانت تلك الحروب كفيلة بالقضاء على الإسلام لولا وصايا السمع والطاعة التي اعتبرها علماء المسلمين دينا ومعهم السواد الأعظم.
هذا الإيضاح النبوي كان العروة المتينة التي تشبث بها أهل السنة والجماعة بعد أن نقضت عروة الحكم.
ولعل كثيرا مما وقع في تاريخنا من اضطراب في السياسة والحكم، في المذاهب والاختلاف، في الفقه والعقيدة، في هروب الصوفية الطَّيـبي الأنفاس من الميدان وسكوت علمائنا عن "تلبيس إبليس" في الحكم، راجع بعد قضاء الله وقدره إلى الحيرة بين التشبثين الواجبين، بين التشبت بالقرآن، وهو العروة الوثقى، فيه الشورى والعدل والإحسان، وبين التشبث بالسنة وفيها الأمر بالسمع والطاعة والتخويف من الميتة الجاهلية في حق من فارق الجماعة. السمع والطاعة لملوك استحقوا الصفة الشائنة التي جاءت بها أيضا السنة وهي صفة العض، وظهر بعد أنهم أخلُّوا بالشورى وبالعدل وبالإحسان جميعا.
من حديث مسلم والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أمر عليكم عبد مجدع (...) يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا". لذا لا نجد حاكما عاضا فيما مضى، ولا نجد من حكام الجبر الحاليين إلا من يتمسح بكتاب الله سبحانه ظاهرا، ويعلن ولاءه له وخدمته وإخلاصه. فمن كان منهم من الصالحين ـ وقد كان، فإننا لا ندين الأشخاص بل ندين النظام ـ سدد وقارب ليطبق حكم الله جل شأنه على واقع متفلت. ومن كان دون ذلك فإنما كان يلعنه القرآن ولا تجرؤ الأمة ـ في سوادها الأعظم وفي غالب الأحيان ـ أن تخرج عن طاعته مخافة الوعيد المهول.
فمن خرج من أهل السنة والجماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية ما لم يفهمه غيره. كان الحسين بن علي رضي الله عنهما والقائمون بعده زيد بن علي ومحمد وإدريس وإبراهيم ويحيى وكل القائمين في القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن التشيع يومئذ تحول من كونه مشايعة وانتصارا لآل البيت الأطهار ليصبح مذهبا وعقيدة.
كان هؤلاء القائمون الغاضبون لله المنتصرون للحق يعرفون الأحاديث المشددة على السمع والطاعة ولزوم الجماعة لاشك في ذلك. لكنهم أيضا كانوا يعرفون أحاديث الطاعة فيها مشروطة بأن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى مثل حديث مسلم الذي قرأناه آنفا. ويعرفون الأحاديث التي شرطت الطاعة للحاكم الذي يقيم الصلاة لا لمن يضيعها مثل حديث مسلم عن عوف بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم." قال : "قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟" قال : "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ! لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة".
حديثان لمسلم يشرطان الطاعة بشرطين : أن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى، وأن يقيم الصلاة في الناس. فتبقى للمؤمنين مسؤولية التقدير لتمييز الحاكم الذي يقود بالقرآن أو لا يقود، ولتقدير إقامة الصلاة ما معناها وما مدلولها العملي. إن كان الرسول الكريم على الله المؤيد بالوحي يشير إلى مواطن القدر التي أطلعه ربه عليها مقدما النصائح، فما كان له أن يستبق القدر بتفصيل ما ينبغي أن يبقى مطويا، ولا بتعيين ما يجب أن يبقى إلى زمان ظهوره مسدلة عليه أحجبة الستر، ولا بتعريف حدود الشرطين الحاكمين. كتم صلى الله عليه وسلم ذلك وسكت عنه ليتحمل كل مسؤوليته، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. فقدر الله تعالى الحكيم لقضائه الأزلي لا يتنافى مع ما أثبته الشرع وما تعطيه الملاحظة من كسب العباد وحريتهم في الاختيار. كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن أخبر بالفتن الطارئة على أمته من بعده، لا يعصم الأمة عاصم من أن تجري عليها الأقدار فتتميز عن سائر الخلق، وما بلغت نصائحه الشريفة صلى الله عليه وسلم أكثر من أن ترسم دائرة واسعة، في حدودها يحتفظ بوحدة المجموع دون أن تقيد مسؤولية أحد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
لا نشك لحظة أن الحسين بن علي رضي الله عنهما حين غضب غضبته وقام قومته إنما فعل لاعتقاده أن يزيد فسق عن أمر الله وقاد بغير القرآن وأضاع الصلاة، إن كان غيره قدر غير ذلك ورجح الطاعة فلا يعدو أن يكون مجتهدا. وإن سترت أجيال من علماء السنة كارثة قتل الحسين، أو أدانتها على استحياء، فما يهون من فداحة إخلالهم ذاك في أعيننا إلا وجود تلك النصوص الثابتة الكثيرة الداعية للحفاظ على الوحدة، تأولوا في ظلها سلوك يزيد وأمثاله، وسكتوا عن الذل والإذلال وهم يسمعون بني مروان ويرونهم يصفون السيف دواء لأمراض الأمة، وضرب الرقاب شفاء، ويطبقون.
لا يعذر إخواننا الشيعة أحدا ولا يهون عليهم شيء من سكوت أهل السنة والطاعة. ومعهم من النصوص ما إليه يطمئنون يجدون فيها الوصية النبوية بلزوم الثقلين كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وسلم. والقرآن وأهل البيت في اعتقادهم واعتقادنا مترابطان. نجد الإشارة إلى هذا التلازم في حديث للترمذي قال إنه حسن غريب عن يزيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما."
وبعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر كما رأينا في الحديث الصحيح عند البخاري أن هلاك أمته يكون على يد أغيلمة من قريش. نفهم كلمة الهلاك في النطق الشريف لا على أنه نهاية الأمة، فإن استمرارها منذئذ إلى يومنا أربعة عشر قرنا إلا أربعين عاما أو خمسين لا يقبل ذلك الفهم. لكن الأغيلمة ما وصلوا إلى الحكم إلا لمكان النظام الوراثي العاض الفاسد المفسد. ما كان لأمثالهم أن يتربعوا على السدة لو كان أمر الأمة شورى بينها ولو لم تلد العصبية المستيقظة من أسباب الأثرة والتسلط ما حال دون العدل، وحرف مقاصد القرآن، ودفع إلى المناصب العالية حاملي السيف لا أهل التقوى والإحسان.
وصول الأغيلمة للحكم واستمرار استبداد أهل العض والجبر كان النقض الأخطر إذ كان نقضا للعروة العليا. كان فساد السلطان توهينا للقرآن. من شأن السلطان في دولة الإسلام أن يُخدم القرآن ويكون عنه وازعا مدافعا. فإذا أمسى السلطان مُزْوَرّاً عن القرآن، مخالسا له مخاتلا كما نرى في عصرنا، فهلاك الأمة مستمر. وعلى الله القوي العزيز التوكل في أن يقف الانحدار، ثم تبدأ مسيرة اقتحام العقبة، بجهد أهل القرآن بالعمل الدائب، بالعلم النافع، حتى يستقر السلطان في أيدي الأمناء الأقوياء، حتى تكون الدولة آلة طيعة في يد الدعوة تشرف بها على عملية انتشال الأمة من أودية الهلاك، والصعود بها إلى الذرى. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[1] الآية (41) من سورة الروم.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
من أعالي التاريخ
المشروع الإسلامي والطموح الذي يناجي ضمير الأمة وتتحدث عنه بفصاحة مدوية أحيانا، عاجزة مقهورة أحايين، هذا الذي سموه بالصحوة الإسلامية، أفقه محدود مسدود لوجود الخلاف المذهبي ولاستمرار الذهنية المقلدة المجزِّئة التي لا تستطيع أن تصعد إلى قمة العلم والهمة حيث يريدنا القرآن أن نكون.
الخلاف المذهبي بين سنة وشيعة والخلافات التي لا نهاية لها بين المقلدة المجزئة تضع إرادتنا وفاعليتنا خارج التاريخ وتبقى جسومنا وعقولنا ومصائرنا ومقوماتنا جميعا نهبا للجاهلية تأكلنا أفكارُها وشقاقاتها وكفرها بالله واليوم الآخر من داخلنا، ويأكلنا من خارج القهر المسلح والهيمنة الهاجمة والاقتصاد المستكبر.
لا يزال حتى بين من أخذوا يفطنون للدين من يعيشون غربة مفجعة عن العالم وحقائقه والأحداث الجادة وجريانها. هذا "فقيه" أُمِّي في العربية، أمي في الحديث، معه آيات يتلوها بصدق تام وجهل بمعانيها ومقاصدها العالية كامل، تتحلق حوله جموع من العامة الراغبين في العلم السائلين عن سبل الإيمان، يستمعون إلى فتوى العصر في أمر خطير. ستعلم خطورة الفتوى بحول الله بعد قليل، بعد وقفة استراحة وأية استراحة !
بلد عربي يسكنه المسلمون ويحكمه ملوك الجبر دخله السنوي مائة مليار دولار في السنة. ألف مليار دولار في عشر سنوات هي دخل هذه الدولة في عشر سنوات. وهذا المقدار هو حجم مديونية عالم المستضعفين أجمع. مقدار من المال يحرر أربعة ملايير من سكان المعمور من ربقة الدين التي طوقت بها العالمَ الفقيرَ مصارفُ المستكبرين وأبناك اليهود.
حسب الحاسبون أن هذه الأموال لو أُحسن استغلالها لدرت من الأرباح رزقا ثابتا مستمرا قدره ستمائة دولار في السنة لكل عربي. الحاسب لم يخطر بباله الأخوة الإسلامية والتضامن الإسلامي الواجبان شرعا. فإن أدخلنا هذا الاعتبار في حسابنا فإن كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض كان يستغني عن الجوع والعري والجهل والحقارة والوسخ والذل والهزيمة والمرض بستمائة دولار سنويا.
ماذا فعلَت بأخلاق الأمة وذمتها ورجولتها هذه الأموال التي بذرت في الكازنوهات وفي مساعدة حلفاء أمريكا وفي الخدمة المخلصة لاقتصاد الأمم الجادة التي تبني على الرمال الذهبية قصور إِرَمَ ذات العماد، وتبيع المصانع الاستعراضية، وأدوات الترف، وسفائن النزهة. ذهبت أموال المسلمين في المنكر والسوء، في حشد البغايا واقتناء أشرطة الفيديو الخليعة، ولْتَمُتْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليحيى الفسقة الفجرة !
وهناك في حلقةٍ غافلٍ أهلُها عن الله لغفلتهم عن شرعه الواسع العالي، شرع العدل والإحسان والجهاد، يقبع فقيهنا يصدر فتوى العصر الخطيرة، يبين حكم الله في ذبح الحلزون !
ماذا فعلَت بالأمة قرون من الحكم العاض، قرون من انتقاض، بل نقض، عروة الحكم، عروة الشورى والعدل والإحسان ؟ ماذا فعل بنا الخلاف المذهبي الذي جاء نتيجة المواقف المتباينة أمام السلطان ؟ ماذا كان أثر نقض الحكم على سائر عرى الإسلام حتى تتالى التفتت في عقلنا وأخلاقنا ومروءتنا وآدميتنا من جراء إصابة المقتل من ديننا ؟
هذا إن شاء الله أوان الطلوع من الوهدة، أوان إعادة العرى إلى شَدِّها بإعادة الحكم إلى نصابه الشرعي. وما تَبَنِّي القضايا التافهة، والاشتغال بالخلافيات المضحكة المبكية كالخلاف في ذكاة الحلزون الذي لم يرد فيه نص، أنقيسه على الجراد والسمك أو على الأنعام ؟، إلا بقايا الالتفات عن الدين إلى الدنيا وإلى الرئاسة على "أضعف المجانين" تتخذه الذهنيات المقلدة من الدرجة الثالثة سُلّما إلى الظهور والشهرة لمّا لم يُتح لها أن تصطف مع المقلدة من الدرجة الأولى عند عتبات البلاط.
يهبنا الوهاب بفضله همة عالية لننظر إلى الواقع من أعالي التاريخ لا من أسافله، لنفهم من مكاننا العالي، بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتلو علينا القرآن ويشفعه بالبيان، لم انحلت عرى الإسلام تباعا بانحلال العروة السلطانية ؟ لم سكت من سكت وقام من قام واختلف من اختلف ؟ لم مرضت الأمة المرض المهلك لما جاءت عهود الأغيلمة يسقون الأمة الحِمام بالسيف، يقتلون فيها الشهامة والمروءة ؟ لم طردت إرادة الأمة من التاريخ ؟ لم اغتيلت الشورى وتاهت على الكون إرادة المستبد ؟ لم غاب العدل وطغى المترفون ونشأت واستمرت واستفحلت في عصرنا تقاليد "ألف ليلة وليلة" ؟ لم تفتت الدين حتى بلغنا إلى درك الإسلام الفردي، إسلام "المتدين" لا يرى الدين شيئا آخر غير ركيعات ينقرهن إن كان أو رحلة يتمتع بعدها بلقب "حاج" ؟
إن تتلمذنا للرسول المعلم الناصح صلى الله عليه وسلم مباشرة بعقلنا يتلقى التعليم، وبقلبنا يتعرض لفيض الرأفة والرحمة، وبسلوكنا يجدد تاريخ الجهاد، وإن أخذنا عنه صلى الله عليه وسلم القرآن كتابا من عند الله هو الضياء والهدى والحياة، كنا على المستوى الرفيع الذي يمكننا من مراقبة الأمور من أعاليها لا من أسافلها.
من هناك، تغمرنا شمس القرآن بضيائها، ويبسط علينا بدر السنة سناءه، يغطى ظلنا الواقع لا يغطى ظلُّ الواقع كياننا. يحكم عقلنا المستنير بنور العلم القرآني النبوي معاقد الفهم، لا يتعقد علينا الفهم. تسكن قلوبنا المقتبسة من نور الله إرادة لا تُهزم، لا تهزمنا صيحات العدو علينا، نتبنى قضية الدين كاملة قوامها الشورى والعدل والإحسان لا تنزل بنا تفاهة الأحلام وخنوع الأزلام وخُفاشية الظلام مع سافل الركام.
بعض الناس من المسلمين، ومن الكتاب المحسوبين على الدعوة، تعترض نيةَ الجهاد الصالحة عندهم ذهنيةُ التقليد الراسخة فيهم. فإذا بهم يفكرون ويوصون ويجتهدون في حدود نمط الحكم الأموي، والمجد العباسي، والشوكة العثمانية، والفقه الفروعي، والعقيدة الجدلية عند علماء الكلام، والدفاع بلا تمييز عن تاريخ المسلمين يحسبونه تاريخ الإسلام.
من كانت ترسبات تاريخنا الحافل تشغل منه العقل والخيال، وكانت أنقاض ما نقض من عرى الإسلام تتمثل لديه معالم هادية، وكان ثقل الأحداث الماضية يحمله على رأسه، وكانت تحديات الحاضر والمستقبل تحاكم في تقديره إلى التراث الفقهي الثري العظيم لا غير، فذاك ينظر إلى الأمور من أسافلها، يظن أن صناعة التاريخ لا تتأتى إلا بوضع نفوسنا تحت كلكله.
هذه الذهنية التي لا تميز تاريخ الفتن، وهو تاريخ المسلمين، عن تاريخ الإسلام الذي كان نموذجا رائعا في اتجاهه وإنجازاته على عهد النبوة والخلافة الراشدة تكيل في صواع أعداء الدين من بني جلدتنا دون أن تشعر. تكيل في صواع القوميين العلمانيين الذين يعتبرون تاريخنا كتلة واحدة، نسبية كلها، جدلية كلها، تحمل بداياتها جراثيم تطورها وانجرافها، تفسر نهاياتها في زمن التخلف والهزيمة هذا محدودية الدعوة المحمدية وإقليميتها ومكانها في سلم التطور الاجتماعي الساري في المجتمعات البشرية المؤتمر بحتمية مادية جدلية. ما كان الدين والإيمان والله والآخرة والوحي إلا مقولات إديولوجية خدمت لزمان فات ومات مشروعا كان ثوريا في زمانه.
هؤلاء الأحباب حسنو النية من المقلدة يمدون أعداء الدين بالحجة والدليل على أن الفكر الإسلامي فكر ماضوي لا يحسن سوى الدفاع والتبرير، لا يحسن إدراك ما هو رهان الحاضر والمستقبل في زمن تتسابق فيه الأحداث.
عن مطلق القرآن لن نحيد بتوفيق الله جل شأنه، وما كسبه السلف الصالح من علم وفقه روافد تغني تجربتنا. لا يضيرني أن أتخذ عالما وفقيها ومذهبا دليلا في سفري العقلي مادامت الدلالة والتفقه والتأصيل عمليات تتم تحت ضوء القرآن ونور السنة. يضيرني أن أقبل تقدير غيري، من زمانه ومكانه ونيته وظروفه، لقضايا خطيرة مثل قضايا الشورى والعدل والإحسان، والزمان زماني والمكان والظروف والعزم.
لكيلا تسبقنا الأحداث، لكيلا يُنَحِّينا إلى الهامش حماس ثائر، أو كراهية لتاريخنا، أو قبول لمأثورات الفتنة غير مشروط، ينبغي أن نوطن الأقدام على مواقف راسخة برسوخ إيماننا بالله ورسوله وموعوده المنهاجي، وأن نرفع الهمة على هامة الزمان ننتعل الثريا لنستحق أن نكون تلامذة راشدين بين يدي ﴿رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة. وذلك دين القيمة.﴾ [1]
عرى الإسلام هل انتفضت ؟ معرفة ذلك ومعرفة من أين بدأ النقض وكيف توالى وتسلسل فقه ضروري لنعرف من أين نبدأ الفتل من جديد. لا استعمالا للأنقاض واستنادا إلى سلطانها المعنوي لما اكتسبته من شرف الانتماء إلى تاريخ المسلمين، لكن بمادة جديدة خالدة لا تبلى هي مادة القرآن وعلى مثال سام لا ترقى إليه المهانة هو مثال السيرة النبوية العطرة.
من تلك المرتفعات فقط يمكننا أن نبصر بوضوح وشمولية وانجماع في فكرنا وقلبنا وإيماننا وإرادتنا وحركتنا مواقع الأقدام على أرض واقع مفتون، ويمكننا أن نسير على المحجة البيضاء نكتشفها من جديد. قضاء الله عز وجل نزل في الماضي بما نزل، وتحملت مسؤوليتها أمة قد خلت منا لا نتنكر لها ولا نكون، نعوذ بالله، من الذين يلعن بعضهم بعضا. وبين أيدينا دليل إلى المستقبل الزاهر مستقبل الخلافة الراشدة الثانية لا يخطئ الطريق، هو بشارة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. بين أيدينا جهاده المظفر وسنته حين ربى وحين جمع المؤمنين وحين آخى بينهم وحين رسم الأهداف وحين قاد وحين انتصر.
بشارة نبوية وسيرة مصطفوية تعطياننا معادلة المستقبل المنشود الذي لن نسلك إليه إن التوينا ولا إن ذهبنا مذهب الذين ينبشون في أرض الأجداد فيثيرون عجاجا يصَّعَّد في الجو حتى يكون ظلة تحجب الضوء وتعتم على النور. إن اتخذنا عجاج الخلافيات الثائر من أرض الأجداد لواء، واتخذنا أنقاض إرادة الأجداد ومواقفهم وجريان الأقدار الإلهية عليهم وتعاملهم مع البلاء النازل عمادا فلن تقوم لنا قائمة عزم ولن يتأسس لنا بناء.
موروثات نجترها تهرأ من اجترارها جوف الأمة، هي موروثات الخلاف يتبناها كل فريق ليخوض لحسابه وحساب الشيطان معارك مضت. يريد كائدون من حكام الجبر أن يتصل دوران عجلة الخلاف وأن تتسارع بنا دوامته إلى أن نفقد كل توازن فنشعلها حروبا تعيد تاريخ الفتن، يحمل هؤلاء لافتة الخوارج، ويمثل أولئك فرسان السنة يشدخون رأس الشيعه، ويسكن الكل ويستكين تحت سياط حكام الجبر. قاعدون خاملون جاهلون يستشهدون بالصحابي فلان والتابعي فلان والعالم علان الذين صلوا خلف الفساق، وكتبوا بيعتهم للظلمة، وسكتوا سكوتا جميلا.
من أخطر أنواع قمع الحركة الإسلامية في عصرنا استعمال جهات من صميم الدول الجاهلية أو من أتباعها وخدمها الدعاية إلى الخلاف، تلقى تلك الدعاية إصغاء من آذان صمَّت عن القرآن فلا تسمعه السمع المنجي، وتلقى تفتحا من أعين عميت عن السيرة الجهادية، سيرة محمد وصحبه عليه الصلاة والسلام وعليهم من الله الرضوان، رمز وحدة الأمة ومنبع كل خير.
تلقى أذهانا كلَّت عن فهم ناموس الله في الكون والتاريخ وفهم قضائه وقدره كيف يظهر أحدهما بالآخر وكيف يكون أولهما ستارا للثاني، تلقى هذه الدعاية الميدان خاليا مفتوحا لمَا عيِيَت ألسن وخرِست عن الحق وعن فضح المؤامرة المزمنة التي يرتدي فيها منتسبون إلى العلم خانوا أمانتهم أردية السلف الصالح الأتقياء ليبرروا قعودهم المخزي. يحتج هؤلاء باجتهاد من عاشوا الفتنة بصبر واحتالوا جهدهم للحفاظ على وحدة الأمة يسمعون ويطيعون على مضض، لم يتخذوا آيات الله هزؤا ولا استخرجوا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصف الخلافة وحدودها الزمانية والملك العاض والجبري بعدها، فتوى خالدة تؤبد شرعية الظلم والاستبداد، وتقضي بالخضوع التام ولو أصبحت كلمة "شورى" كلمة فارغة تقال على المسارح الهزلية.
وتوصف بالمشاركة فيها مجالس مصنوعة، معتوهة، عن الرشد ممنوعة.
إن معالجة مآسي الأمة وجراحاتها من أسافل التقليد والخنوع البليد إنما تكون زيادة في نخر الكيان. من إزاء القرآن والسنة فقط، وبفقه أتقياء أبرياء من لوثات الخيانة والجزئية والتصالحية، يمكن أن نعلو متن التاريخ، ونخوض بقايا الفتنة ورواسبها، ونقتحم العقبة، ونصبر على جهاد الكنس والتأسيس والبناء، وننتصر بحول الله وقوته.
[1] الآيات (2) و(3) و(4) و(5) من سورة البينة
المشروع الإسلامي والطموح الذي يناجي ضمير الأمة وتتحدث عنه بفصاحة مدوية أحيانا، عاجزة مقهورة أحايين، هذا الذي سموه بالصحوة الإسلامية، أفقه محدود مسدود لوجود الخلاف المذهبي ولاستمرار الذهنية المقلدة المجزِّئة التي لا تستطيع أن تصعد إلى قمة العلم والهمة حيث يريدنا القرآن أن نكون.
الخلاف المذهبي بين سنة وشيعة والخلافات التي لا نهاية لها بين المقلدة المجزئة تضع إرادتنا وفاعليتنا خارج التاريخ وتبقى جسومنا وعقولنا ومصائرنا ومقوماتنا جميعا نهبا للجاهلية تأكلنا أفكارُها وشقاقاتها وكفرها بالله واليوم الآخر من داخلنا، ويأكلنا من خارج القهر المسلح والهيمنة الهاجمة والاقتصاد المستكبر.
لا يزال حتى بين من أخذوا يفطنون للدين من يعيشون غربة مفجعة عن العالم وحقائقه والأحداث الجادة وجريانها. هذا "فقيه" أُمِّي في العربية، أمي في الحديث، معه آيات يتلوها بصدق تام وجهل بمعانيها ومقاصدها العالية كامل، تتحلق حوله جموع من العامة الراغبين في العلم السائلين عن سبل الإيمان، يستمعون إلى فتوى العصر في أمر خطير. ستعلم خطورة الفتوى بحول الله بعد قليل، بعد وقفة استراحة وأية استراحة !
بلد عربي يسكنه المسلمون ويحكمه ملوك الجبر دخله السنوي مائة مليار دولار في السنة. ألف مليار دولار في عشر سنوات هي دخل هذه الدولة في عشر سنوات. وهذا المقدار هو حجم مديونية عالم المستضعفين أجمع. مقدار من المال يحرر أربعة ملايير من سكان المعمور من ربقة الدين التي طوقت بها العالمَ الفقيرَ مصارفُ المستكبرين وأبناك اليهود.
حسب الحاسبون أن هذه الأموال لو أُحسن استغلالها لدرت من الأرباح رزقا ثابتا مستمرا قدره ستمائة دولار في السنة لكل عربي. الحاسب لم يخطر بباله الأخوة الإسلامية والتضامن الإسلامي الواجبان شرعا. فإن أدخلنا هذا الاعتبار في حسابنا فإن كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض كان يستغني عن الجوع والعري والجهل والحقارة والوسخ والذل والهزيمة والمرض بستمائة دولار سنويا.
ماذا فعلَت بأخلاق الأمة وذمتها ورجولتها هذه الأموال التي بذرت في الكازنوهات وفي مساعدة حلفاء أمريكا وفي الخدمة المخلصة لاقتصاد الأمم الجادة التي تبني على الرمال الذهبية قصور إِرَمَ ذات العماد، وتبيع المصانع الاستعراضية، وأدوات الترف، وسفائن النزهة. ذهبت أموال المسلمين في المنكر والسوء، في حشد البغايا واقتناء أشرطة الفيديو الخليعة، ولْتَمُتْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليحيى الفسقة الفجرة !
وهناك في حلقةٍ غافلٍ أهلُها عن الله لغفلتهم عن شرعه الواسع العالي، شرع العدل والإحسان والجهاد، يقبع فقيهنا يصدر فتوى العصر الخطيرة، يبين حكم الله في ذبح الحلزون !
ماذا فعلَت بالأمة قرون من الحكم العاض، قرون من انتقاض، بل نقض، عروة الحكم، عروة الشورى والعدل والإحسان ؟ ماذا فعل بنا الخلاف المذهبي الذي جاء نتيجة المواقف المتباينة أمام السلطان ؟ ماذا كان أثر نقض الحكم على سائر عرى الإسلام حتى تتالى التفتت في عقلنا وأخلاقنا ومروءتنا وآدميتنا من جراء إصابة المقتل من ديننا ؟
هذا إن شاء الله أوان الطلوع من الوهدة، أوان إعادة العرى إلى شَدِّها بإعادة الحكم إلى نصابه الشرعي. وما تَبَنِّي القضايا التافهة، والاشتغال بالخلافيات المضحكة المبكية كالخلاف في ذكاة الحلزون الذي لم يرد فيه نص، أنقيسه على الجراد والسمك أو على الأنعام ؟، إلا بقايا الالتفات عن الدين إلى الدنيا وإلى الرئاسة على "أضعف المجانين" تتخذه الذهنيات المقلدة من الدرجة الثالثة سُلّما إلى الظهور والشهرة لمّا لم يُتح لها أن تصطف مع المقلدة من الدرجة الأولى عند عتبات البلاط.
يهبنا الوهاب بفضله همة عالية لننظر إلى الواقع من أعالي التاريخ لا من أسافله، لنفهم من مكاننا العالي، بين يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتلو علينا القرآن ويشفعه بالبيان، لم انحلت عرى الإسلام تباعا بانحلال العروة السلطانية ؟ لم سكت من سكت وقام من قام واختلف من اختلف ؟ لم مرضت الأمة المرض المهلك لما جاءت عهود الأغيلمة يسقون الأمة الحِمام بالسيف، يقتلون فيها الشهامة والمروءة ؟ لم طردت إرادة الأمة من التاريخ ؟ لم اغتيلت الشورى وتاهت على الكون إرادة المستبد ؟ لم غاب العدل وطغى المترفون ونشأت واستمرت واستفحلت في عصرنا تقاليد "ألف ليلة وليلة" ؟ لم تفتت الدين حتى بلغنا إلى درك الإسلام الفردي، إسلام "المتدين" لا يرى الدين شيئا آخر غير ركيعات ينقرهن إن كان أو رحلة يتمتع بعدها بلقب "حاج" ؟
إن تتلمذنا للرسول المعلم الناصح صلى الله عليه وسلم مباشرة بعقلنا يتلقى التعليم، وبقلبنا يتعرض لفيض الرأفة والرحمة، وبسلوكنا يجدد تاريخ الجهاد، وإن أخذنا عنه صلى الله عليه وسلم القرآن كتابا من عند الله هو الضياء والهدى والحياة، كنا على المستوى الرفيع الذي يمكننا من مراقبة الأمور من أعاليها لا من أسافلها.
من هناك، تغمرنا شمس القرآن بضيائها، ويبسط علينا بدر السنة سناءه، يغطى ظلنا الواقع لا يغطى ظلُّ الواقع كياننا. يحكم عقلنا المستنير بنور العلم القرآني النبوي معاقد الفهم، لا يتعقد علينا الفهم. تسكن قلوبنا المقتبسة من نور الله إرادة لا تُهزم، لا تهزمنا صيحات العدو علينا، نتبنى قضية الدين كاملة قوامها الشورى والعدل والإحسان لا تنزل بنا تفاهة الأحلام وخنوع الأزلام وخُفاشية الظلام مع سافل الركام.
بعض الناس من المسلمين، ومن الكتاب المحسوبين على الدعوة، تعترض نيةَ الجهاد الصالحة عندهم ذهنيةُ التقليد الراسخة فيهم. فإذا بهم يفكرون ويوصون ويجتهدون في حدود نمط الحكم الأموي، والمجد العباسي، والشوكة العثمانية، والفقه الفروعي، والعقيدة الجدلية عند علماء الكلام، والدفاع بلا تمييز عن تاريخ المسلمين يحسبونه تاريخ الإسلام.
من كانت ترسبات تاريخنا الحافل تشغل منه العقل والخيال، وكانت أنقاض ما نقض من عرى الإسلام تتمثل لديه معالم هادية، وكان ثقل الأحداث الماضية يحمله على رأسه، وكانت تحديات الحاضر والمستقبل تحاكم في تقديره إلى التراث الفقهي الثري العظيم لا غير، فذاك ينظر إلى الأمور من أسافلها، يظن أن صناعة التاريخ لا تتأتى إلا بوضع نفوسنا تحت كلكله.
هذه الذهنية التي لا تميز تاريخ الفتن، وهو تاريخ المسلمين، عن تاريخ الإسلام الذي كان نموذجا رائعا في اتجاهه وإنجازاته على عهد النبوة والخلافة الراشدة تكيل في صواع أعداء الدين من بني جلدتنا دون أن تشعر. تكيل في صواع القوميين العلمانيين الذين يعتبرون تاريخنا كتلة واحدة، نسبية كلها، جدلية كلها، تحمل بداياتها جراثيم تطورها وانجرافها، تفسر نهاياتها في زمن التخلف والهزيمة هذا محدودية الدعوة المحمدية وإقليميتها ومكانها في سلم التطور الاجتماعي الساري في المجتمعات البشرية المؤتمر بحتمية مادية جدلية. ما كان الدين والإيمان والله والآخرة والوحي إلا مقولات إديولوجية خدمت لزمان فات ومات مشروعا كان ثوريا في زمانه.
هؤلاء الأحباب حسنو النية من المقلدة يمدون أعداء الدين بالحجة والدليل على أن الفكر الإسلامي فكر ماضوي لا يحسن سوى الدفاع والتبرير، لا يحسن إدراك ما هو رهان الحاضر والمستقبل في زمن تتسابق فيه الأحداث.
عن مطلق القرآن لن نحيد بتوفيق الله جل شأنه، وما كسبه السلف الصالح من علم وفقه روافد تغني تجربتنا. لا يضيرني أن أتخذ عالما وفقيها ومذهبا دليلا في سفري العقلي مادامت الدلالة والتفقه والتأصيل عمليات تتم تحت ضوء القرآن ونور السنة. يضيرني أن أقبل تقدير غيري، من زمانه ومكانه ونيته وظروفه، لقضايا خطيرة مثل قضايا الشورى والعدل والإحسان، والزمان زماني والمكان والظروف والعزم.
لكيلا تسبقنا الأحداث، لكيلا يُنَحِّينا إلى الهامش حماس ثائر، أو كراهية لتاريخنا، أو قبول لمأثورات الفتنة غير مشروط، ينبغي أن نوطن الأقدام على مواقف راسخة برسوخ إيماننا بالله ورسوله وموعوده المنهاجي، وأن نرفع الهمة على هامة الزمان ننتعل الثريا لنستحق أن نكون تلامذة راشدين بين يدي ﴿رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة. وذلك دين القيمة.﴾ [1]
عرى الإسلام هل انتفضت ؟ معرفة ذلك ومعرفة من أين بدأ النقض وكيف توالى وتسلسل فقه ضروري لنعرف من أين نبدأ الفتل من جديد. لا استعمالا للأنقاض واستنادا إلى سلطانها المعنوي لما اكتسبته من شرف الانتماء إلى تاريخ المسلمين، لكن بمادة جديدة خالدة لا تبلى هي مادة القرآن وعلى مثال سام لا ترقى إليه المهانة هو مثال السيرة النبوية العطرة.
من تلك المرتفعات فقط يمكننا أن نبصر بوضوح وشمولية وانجماع في فكرنا وقلبنا وإيماننا وإرادتنا وحركتنا مواقع الأقدام على أرض واقع مفتون، ويمكننا أن نسير على المحجة البيضاء نكتشفها من جديد. قضاء الله عز وجل نزل في الماضي بما نزل، وتحملت مسؤوليتها أمة قد خلت منا لا نتنكر لها ولا نكون، نعوذ بالله، من الذين يلعن بعضهم بعضا. وبين أيدينا دليل إلى المستقبل الزاهر مستقبل الخلافة الراشدة الثانية لا يخطئ الطريق، هو بشارة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. بين أيدينا جهاده المظفر وسنته حين ربى وحين جمع المؤمنين وحين آخى بينهم وحين رسم الأهداف وحين قاد وحين انتصر.
بشارة نبوية وسيرة مصطفوية تعطياننا معادلة المستقبل المنشود الذي لن نسلك إليه إن التوينا ولا إن ذهبنا مذهب الذين ينبشون في أرض الأجداد فيثيرون عجاجا يصَّعَّد في الجو حتى يكون ظلة تحجب الضوء وتعتم على النور. إن اتخذنا عجاج الخلافيات الثائر من أرض الأجداد لواء، واتخذنا أنقاض إرادة الأجداد ومواقفهم وجريان الأقدار الإلهية عليهم وتعاملهم مع البلاء النازل عمادا فلن تقوم لنا قائمة عزم ولن يتأسس لنا بناء.
موروثات نجترها تهرأ من اجترارها جوف الأمة، هي موروثات الخلاف يتبناها كل فريق ليخوض لحسابه وحساب الشيطان معارك مضت. يريد كائدون من حكام الجبر أن يتصل دوران عجلة الخلاف وأن تتسارع بنا دوامته إلى أن نفقد كل توازن فنشعلها حروبا تعيد تاريخ الفتن، يحمل هؤلاء لافتة الخوارج، ويمثل أولئك فرسان السنة يشدخون رأس الشيعه، ويسكن الكل ويستكين تحت سياط حكام الجبر. قاعدون خاملون جاهلون يستشهدون بالصحابي فلان والتابعي فلان والعالم علان الذين صلوا خلف الفساق، وكتبوا بيعتهم للظلمة، وسكتوا سكوتا جميلا.
من أخطر أنواع قمع الحركة الإسلامية في عصرنا استعمال جهات من صميم الدول الجاهلية أو من أتباعها وخدمها الدعاية إلى الخلاف، تلقى تلك الدعاية إصغاء من آذان صمَّت عن القرآن فلا تسمعه السمع المنجي، وتلقى تفتحا من أعين عميت عن السيرة الجهادية، سيرة محمد وصحبه عليه الصلاة والسلام وعليهم من الله الرضوان، رمز وحدة الأمة ومنبع كل خير.
تلقى أذهانا كلَّت عن فهم ناموس الله في الكون والتاريخ وفهم قضائه وقدره كيف يظهر أحدهما بالآخر وكيف يكون أولهما ستارا للثاني، تلقى هذه الدعاية الميدان خاليا مفتوحا لمَا عيِيَت ألسن وخرِست عن الحق وعن فضح المؤامرة المزمنة التي يرتدي فيها منتسبون إلى العلم خانوا أمانتهم أردية السلف الصالح الأتقياء ليبرروا قعودهم المخزي. يحتج هؤلاء باجتهاد من عاشوا الفتنة بصبر واحتالوا جهدهم للحفاظ على وحدة الأمة يسمعون ويطيعون على مضض، لم يتخذوا آيات الله هزؤا ولا استخرجوا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصف الخلافة وحدودها الزمانية والملك العاض والجبري بعدها، فتوى خالدة تؤبد شرعية الظلم والاستبداد، وتقضي بالخضوع التام ولو أصبحت كلمة "شورى" كلمة فارغة تقال على المسارح الهزلية.
وتوصف بالمشاركة فيها مجالس مصنوعة، معتوهة، عن الرشد ممنوعة.
إن معالجة مآسي الأمة وجراحاتها من أسافل التقليد والخنوع البليد إنما تكون زيادة في نخر الكيان. من إزاء القرآن والسنة فقط، وبفقه أتقياء أبرياء من لوثات الخيانة والجزئية والتصالحية، يمكن أن نعلو متن التاريخ، ونخوض بقايا الفتنة ورواسبها، ونقتحم العقبة، ونصبر على جهاد الكنس والتأسيس والبناء، وننتصر بحول الله وقوته.
[1] الآيات (2) و(3) و(4) و(5) من سورة البينة
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
وحدة دار الإسلام
إن وحدة دار الإسلام -بيت الإسلام- ضرورة ملحة وواجب شرعي وأمل عزيز على الأمة. فيا من يقرأ قول الله جل وعلا : ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ [1] ، ﴿وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ [2] ، خطابا وجه للأنبياء عليهم السلام، ويقرأ قوله عز من قائل يخصص بالخطاب هذه الأمة المرحومة : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله﴾ [3] . يا من يقرأ القرآن بعقل يعقل عن الله لا بذهنية تقلد، بقلب يخشى الله ولا يخشى الناس، كيف تفرق بين شطري الأمة سنة وشيعة طائفة ممن لا يعقلون وأنت ساكت ؟ كيف ترى نباشي الخلافيات سفلة القراء يعيثون فسادا وتلزم الحياد ؟
ماذا تريد يا أخي من دنياك لآخرتك ؟ وهل تريد من هذه لتلك شيئا حقا وتحقيقا أم ألهاك الجدل ومفاخر الظهور والإبانة في الخصام عن آخرتك ؟ كيف تلقى الله العزيز الجبار وقلبك هنا في الدنيا لم ينفطر ألما على أمة القرآن ما فعل بها الطغيان والكفران والفرقة والهجران ؟ كيف تنتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنت ما خلفت محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته إلا بإشعال النيران ؟
إن تبذير جهود الأمة عملية تجند لها الطغاة من قديم، وهم اليوم لهذه العملية الشيطانية أكثر تجندا. إن نقض عرى الإسلام استمر منذ قرون طويلة حتى وصلنا إلى عصر أضاع أهله الصلاة واتبعوا الشهوات. وإن تقدير أي مؤمن يخلص لله ويعبد الله ويتقيه لا يتسع لإسبال رداء الصون والمعذرة على أفعال طغاة لم يكتفوا بقيادة الأمة بغير القرآن، ولا تهيبوا من اللعب بالصلاة على شاشات التلفزيون، بل تولوا الذين كفروا.
والله عز وجل يقول : ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [4]
فكل وقت يضيع لا نشتغل فيه بجمع جند الله في كل قطر وفي كل بلد مضيعة جُلَّى للأمة. وكل دعاية للتفرقة المذهبية والخلافات على ذكاة الحلزون تنافس انتحاري. وكل جهد يمكن أن يخدم الدعوة نبذره ولا نستصلحه مأساة.
لن تكون أقطارنا الموزعة قِدَداً إلا رمادا تذروه الرياح إن أضفنا إلى جهود الهيمنة الاستراتيجية العالمية التي تضيق علينا الخناق جهودنا نحن لننسف كياننا من أسفل. نكون أقدر على المقاومة كي لا تتلفنا الأحداث وتعدمنا إن لذنا بالعروة الوثقى الخالدة الباقية كتاب الله تعالى. حول القرآن يجب أن نلتف. وبالصبر والزمن تأتي الوحدة إن شاء الله، لا تأتي بأمر يصدر إليها. يصدر إليها من أين ؟ من يريدها ؟ لم يريدها ؟ من يخافها ؟ ولم ؟ من يكرهها ويكيد لها ؟ ولم ؟
من يقود دويلات التجزئة ؟ من يُموِّلهم ويسلحهم ؟ ما بال الأهوال الجسام تقرب شعوب الأرض لتتعاون، وتباعد بين المسلمين الحاصلين في قبضة الحكم المستبد الأناني، وقبضة الدعاة المفرقة المخربة، وقبضة الأمية السياسية، والأمية التاريخية، والأمية الأمية ؟
فقه هذه الأسئلة، فقه وضعها وبحثها والتنقيب عن أصولها والإجابة عنها، كفيل أن يرفعنا من حيث يجثو الجاثون عند أقدام الهيمنة الجاهلية والأموال اليهودية إلى حيث العزة بالله وبرسوله وبدينه، يتيه بها في غد الإسلام شكرا لله لا استكبارا في الأرض ألف مليون مسلم ومسلمة هم اليوم محض غثاء.
حمولتنا الثقيلة من الخلافات والترسبات العاطفية والفكرية، ومن العادات والحسابات الفردية الأنانية التي مردها أول شيء إلى هواجس الخوف من ظل السيف وقهر السلطان تشل إرادتنا وتردع نوازع الإيمان فينا. فيركبنا كابوس الشك والحذر والانطواء على إسلام فردي وفقه جزئي وولاء لله ورسوله ودينه لا نتوجه به إلى المولى عز وجل مباشرة مكتملي العبودية له، بل نوسط فيه آراء الأئمة وأقوال العلماء وجدال المتكلمين.
انحطاطنا من الأفق العلي، أفق القرآن والخلافة على منهاج النبوة، لم يُسقط من أيدينا الشورى والعدل فقط، بل أذهب من قلوبنا معنى الإحسان الذي به يعبد المحسن ربه كأنه يراه. احتل الخوف من الناس، وهو جبن سافل، مكان المزية العظيمة : مزية الخوف من الله العلي العظيم. لولا تدني الشعور عبر الأجيال من سماء الإشفاق على وحدة الأمة إلى أرض حب الدعة والعافية الخرساء لما تدنت مواقفنا المحافظة على بيضة الإسلام المعتنية ببقاء شوكته إلى أن تصبح الاستقالة غير المشروطة بين يدي السلطان دينا. وفي طريقنا صعودا إلى ذلك الأفق لن نستعيد الوحدة الضائعة، ولا الشوكة المخضودة المكسورة، ولا الشورى ولا العدل إن لم نُعِدْ تربية أنفسنا على الإيمان والإحسان.
الأمر يتوقف على إحياء الإرادة الجهادية فينا. لا يكفي أن نعرف ما ينخر في ذاتنا وقوانا الداخلية وإن كانت المعرفة بالمرض مقدمة ضرورية للعلاج. ولا يكفي أن نعرف الحمولة التاريخية ومراحل تطارحها علينا وإن كانت هذه المعرفة شرطا أساسيا. إنما نبرأ من المرض المتوغل ونتحرر من الحمل القاصم للظهور باليقظة الإيمانية والهبة الإحسانية والتعبئة الجهادية. ومع يقظتنا وهبتنا إلى الجهاد نحتاج إلى الاستفادة من تجارب تاريخنا وإلى عرض ما نتج عن أوزار الماضي وسلبياته نستخرج منه دروسا إيجابية لتاريخ مستأنف.
وعندئذ نختار عن وعي كامل، وعن استعداد لما تتطلبه منا المهام العالية. هل نختار الدخول بفرقتنا وتجزئة فكرنا وموروث خلافاتنا في ميزان القوى العالمي تطحننا رحاهم، أو نختار التقارب، فالتفاهم، فالتعاون، فتوحيد النية وتجريد العزم على توحيد الأمة واستعادة ما ضاع من متانة تركيبها الأول.
هل نريد ؟ هل نريد ؟ هل نريد ؟
ذكرت إمكانية الاختيار وإمكانية الإحياء بإرادة متجددة. إن الرحى الجاهلية تطحن بالفعل جسمنا ومعنانا، وإن استمرار الطحن والدك والتهديد بالقضاء المبرم علينا يدفع التحدي إلى مداه. ما نراه من ردود الفعل الشديدة المراس في أفغانستان المجاهدين وفي لبنان الفدائيين وفي إيران وعدائها للشياطين ليس هو الاختيار الواعي لكنه بشائره. ليس هو الإدارة الساعية إلى التوحيد بل هو مقدماتها.
إن الأحداث لا تنتظر، وإن حقائق التاريخ ودفاع الله الناس بعضهم ببعض من شأنها أن تتداخل فيها الحركات، وتتضارب الإرادات، وتصطك العجلات، وتتراكب العمليات. فإذا قلنا بضرورة اليقظة الإيمانية والهبة الإحسانية والتعبئة الجهادية فإننا لا نتصور مراحل يتهيأ فيها لجند الله هدوء الخلوة وصفاء العشرة وحلاوة الأخوة بعيدا عن ضوضاء الأحداث، خارج التاريخ الصاخب، ريثما تتم تعبئتهم للدخول في ساعة الصفر للميدان. ولا نتصور مصحة نعالج فيها في الجو المعقم أمراض النفس ورواسب الفتنة، لا نحتك بأحد مخافة العدوى، حتى يتم البرء وتكتسب المناعة. ولا نتصور محطات للاستراحة والترميم والتعديل عندها نحط الأحمال ونتخفف مما ينوء بنا من نازل الآفات.
عندما أتحدث عن الأفق العالي وعن ركوب متن التاريخ من أعاليه لا من أسافله، فأنا أعنى دخول المعمعة، واقتحام العقبة، ومخالطة المجتمع، وخوض غمار الجهاد والمجتمع مفتون سادر في خموله أو هيجانه، والأفكار في تفاعل، والاتجاهات السياسية في تصارع، والتخلف الصناعي والعلمي والاقتصادي ضارب أطنابه، وحكام الجور في كيد يكيدون، ومن خارج رحى الجاهلية تطحن.
إمكانية الاختيار وإمكانية الإحياء بالإرادة الإيمانية الإحسانية ومضة يلمحها جند الله من بين وهج الأحداث، وفرصة يغنمونها وطبول الحرب العامة المتداعية من كل حدب وصوب علينا تدق. ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. به وحده العزة وبرسوله.
هذا وجه أخيك الشيعي. هذا وجه أخيك المنضم إلى جماعة غير جماعتك. هذا وجه مسلم ومسلمة لا يفصله عنك إلا مرحلة سبقته بها. هو مادٌّ يده إليك على استحياء وحذر. هل نظرت إلى هذه الوجوه من أعالي الأمور ودواعي الوحدة والأخوة ؟ أم نظرت إليها من خلال كتب مليئة بآثار الصراع الماضي حين كان يكال بالصاع صاعين ؟ هل شوه تاريخ مضى، وحرب قائمة وخلافات في الوسائل والمنطلقات والأساليب وجوه إخوتك في عينك ؟ هل يروقك أن تدمر قُوى الشر الهجينة البشعة ديارَك، وتيتم أولادك، وتقتل إنسانيتك ثم لا تفزع إلى الملاذ الأوحد، كتاب الله العروة الوثقى الموحدة المنجية ؟ امسحْ عن عينك غشاوة التقليد، وعن قلبك امسحْ ران الغفلة عن الله رب العالمين، ومن عقلك انزعْ ذهنية التبلد على عادة الكسل، تبصرْ وجهَ أخيك في مرآة المحبة وقد مسح عنه تشويهات صنعها وهمُك حبُّه لله ورسوله، وإيمانه بالله وباليوم الآخر، وتشبثه بالقرآن، ودفاعه عن الحوزة، وسخاؤه بالدماء والجهد لنصرة دين الله.
إن أعداءنا يأكلون دنيانا حلوة هنيئة، ونحن نأكلها مرة مرارة مضاعفة بضعف الفقر والذل، ثم نُغصُّ بمعاشنا هذا الكئيب غُصتين، غصة الدنيا بما قعدنا وعجزنا عن الجهاد، وغصة الآخرة بما ضيعنا من وحدة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تلك الوحدة ولا تزال شرط حياتنا.
[1] الآية (92) من سورة الانبياء.
[2] الآية (52) من سورة المؤمنون.
[3] الآية (110) من سورة آل عمران.
[4] الآية (51) من سورة المائدة.
إن وحدة دار الإسلام -بيت الإسلام- ضرورة ملحة وواجب شرعي وأمل عزيز على الأمة. فيا من يقرأ قول الله جل وعلا : ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ [1] ، ﴿وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ [2] ، خطابا وجه للأنبياء عليهم السلام، ويقرأ قوله عز من قائل يخصص بالخطاب هذه الأمة المرحومة : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله﴾ [3] . يا من يقرأ القرآن بعقل يعقل عن الله لا بذهنية تقلد، بقلب يخشى الله ولا يخشى الناس، كيف تفرق بين شطري الأمة سنة وشيعة طائفة ممن لا يعقلون وأنت ساكت ؟ كيف ترى نباشي الخلافيات سفلة القراء يعيثون فسادا وتلزم الحياد ؟
ماذا تريد يا أخي من دنياك لآخرتك ؟ وهل تريد من هذه لتلك شيئا حقا وتحقيقا أم ألهاك الجدل ومفاخر الظهور والإبانة في الخصام عن آخرتك ؟ كيف تلقى الله العزيز الجبار وقلبك هنا في الدنيا لم ينفطر ألما على أمة القرآن ما فعل بها الطغيان والكفران والفرقة والهجران ؟ كيف تنتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنت ما خلفت محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته إلا بإشعال النيران ؟
إن تبذير جهود الأمة عملية تجند لها الطغاة من قديم، وهم اليوم لهذه العملية الشيطانية أكثر تجندا. إن نقض عرى الإسلام استمر منذ قرون طويلة حتى وصلنا إلى عصر أضاع أهله الصلاة واتبعوا الشهوات. وإن تقدير أي مؤمن يخلص لله ويعبد الله ويتقيه لا يتسع لإسبال رداء الصون والمعذرة على أفعال طغاة لم يكتفوا بقيادة الأمة بغير القرآن، ولا تهيبوا من اللعب بالصلاة على شاشات التلفزيون، بل تولوا الذين كفروا.
والله عز وجل يقول : ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [4]
فكل وقت يضيع لا نشتغل فيه بجمع جند الله في كل قطر وفي كل بلد مضيعة جُلَّى للأمة. وكل دعاية للتفرقة المذهبية والخلافات على ذكاة الحلزون تنافس انتحاري. وكل جهد يمكن أن يخدم الدعوة نبذره ولا نستصلحه مأساة.
لن تكون أقطارنا الموزعة قِدَداً إلا رمادا تذروه الرياح إن أضفنا إلى جهود الهيمنة الاستراتيجية العالمية التي تضيق علينا الخناق جهودنا نحن لننسف كياننا من أسفل. نكون أقدر على المقاومة كي لا تتلفنا الأحداث وتعدمنا إن لذنا بالعروة الوثقى الخالدة الباقية كتاب الله تعالى. حول القرآن يجب أن نلتف. وبالصبر والزمن تأتي الوحدة إن شاء الله، لا تأتي بأمر يصدر إليها. يصدر إليها من أين ؟ من يريدها ؟ لم يريدها ؟ من يخافها ؟ ولم ؟ من يكرهها ويكيد لها ؟ ولم ؟
من يقود دويلات التجزئة ؟ من يُموِّلهم ويسلحهم ؟ ما بال الأهوال الجسام تقرب شعوب الأرض لتتعاون، وتباعد بين المسلمين الحاصلين في قبضة الحكم المستبد الأناني، وقبضة الدعاة المفرقة المخربة، وقبضة الأمية السياسية، والأمية التاريخية، والأمية الأمية ؟
فقه هذه الأسئلة، فقه وضعها وبحثها والتنقيب عن أصولها والإجابة عنها، كفيل أن يرفعنا من حيث يجثو الجاثون عند أقدام الهيمنة الجاهلية والأموال اليهودية إلى حيث العزة بالله وبرسوله وبدينه، يتيه بها في غد الإسلام شكرا لله لا استكبارا في الأرض ألف مليون مسلم ومسلمة هم اليوم محض غثاء.
حمولتنا الثقيلة من الخلافات والترسبات العاطفية والفكرية، ومن العادات والحسابات الفردية الأنانية التي مردها أول شيء إلى هواجس الخوف من ظل السيف وقهر السلطان تشل إرادتنا وتردع نوازع الإيمان فينا. فيركبنا كابوس الشك والحذر والانطواء على إسلام فردي وفقه جزئي وولاء لله ورسوله ودينه لا نتوجه به إلى المولى عز وجل مباشرة مكتملي العبودية له، بل نوسط فيه آراء الأئمة وأقوال العلماء وجدال المتكلمين.
انحطاطنا من الأفق العلي، أفق القرآن والخلافة على منهاج النبوة، لم يُسقط من أيدينا الشورى والعدل فقط، بل أذهب من قلوبنا معنى الإحسان الذي به يعبد المحسن ربه كأنه يراه. احتل الخوف من الناس، وهو جبن سافل، مكان المزية العظيمة : مزية الخوف من الله العلي العظيم. لولا تدني الشعور عبر الأجيال من سماء الإشفاق على وحدة الأمة إلى أرض حب الدعة والعافية الخرساء لما تدنت مواقفنا المحافظة على بيضة الإسلام المعتنية ببقاء شوكته إلى أن تصبح الاستقالة غير المشروطة بين يدي السلطان دينا. وفي طريقنا صعودا إلى ذلك الأفق لن نستعيد الوحدة الضائعة، ولا الشوكة المخضودة المكسورة، ولا الشورى ولا العدل إن لم نُعِدْ تربية أنفسنا على الإيمان والإحسان.
الأمر يتوقف على إحياء الإرادة الجهادية فينا. لا يكفي أن نعرف ما ينخر في ذاتنا وقوانا الداخلية وإن كانت المعرفة بالمرض مقدمة ضرورية للعلاج. ولا يكفي أن نعرف الحمولة التاريخية ومراحل تطارحها علينا وإن كانت هذه المعرفة شرطا أساسيا. إنما نبرأ من المرض المتوغل ونتحرر من الحمل القاصم للظهور باليقظة الإيمانية والهبة الإحسانية والتعبئة الجهادية. ومع يقظتنا وهبتنا إلى الجهاد نحتاج إلى الاستفادة من تجارب تاريخنا وإلى عرض ما نتج عن أوزار الماضي وسلبياته نستخرج منه دروسا إيجابية لتاريخ مستأنف.
وعندئذ نختار عن وعي كامل، وعن استعداد لما تتطلبه منا المهام العالية. هل نختار الدخول بفرقتنا وتجزئة فكرنا وموروث خلافاتنا في ميزان القوى العالمي تطحننا رحاهم، أو نختار التقارب، فالتفاهم، فالتعاون، فتوحيد النية وتجريد العزم على توحيد الأمة واستعادة ما ضاع من متانة تركيبها الأول.
هل نريد ؟ هل نريد ؟ هل نريد ؟
ذكرت إمكانية الاختيار وإمكانية الإحياء بإرادة متجددة. إن الرحى الجاهلية تطحن بالفعل جسمنا ومعنانا، وإن استمرار الطحن والدك والتهديد بالقضاء المبرم علينا يدفع التحدي إلى مداه. ما نراه من ردود الفعل الشديدة المراس في أفغانستان المجاهدين وفي لبنان الفدائيين وفي إيران وعدائها للشياطين ليس هو الاختيار الواعي لكنه بشائره. ليس هو الإدارة الساعية إلى التوحيد بل هو مقدماتها.
إن الأحداث لا تنتظر، وإن حقائق التاريخ ودفاع الله الناس بعضهم ببعض من شأنها أن تتداخل فيها الحركات، وتتضارب الإرادات، وتصطك العجلات، وتتراكب العمليات. فإذا قلنا بضرورة اليقظة الإيمانية والهبة الإحسانية والتعبئة الجهادية فإننا لا نتصور مراحل يتهيأ فيها لجند الله هدوء الخلوة وصفاء العشرة وحلاوة الأخوة بعيدا عن ضوضاء الأحداث، خارج التاريخ الصاخب، ريثما تتم تعبئتهم للدخول في ساعة الصفر للميدان. ولا نتصور مصحة نعالج فيها في الجو المعقم أمراض النفس ورواسب الفتنة، لا نحتك بأحد مخافة العدوى، حتى يتم البرء وتكتسب المناعة. ولا نتصور محطات للاستراحة والترميم والتعديل عندها نحط الأحمال ونتخفف مما ينوء بنا من نازل الآفات.
عندما أتحدث عن الأفق العالي وعن ركوب متن التاريخ من أعاليه لا من أسافله، فأنا أعنى دخول المعمعة، واقتحام العقبة، ومخالطة المجتمع، وخوض غمار الجهاد والمجتمع مفتون سادر في خموله أو هيجانه، والأفكار في تفاعل، والاتجاهات السياسية في تصارع، والتخلف الصناعي والعلمي والاقتصادي ضارب أطنابه، وحكام الجور في كيد يكيدون، ومن خارج رحى الجاهلية تطحن.
إمكانية الاختيار وإمكانية الإحياء بالإرادة الإيمانية الإحسانية ومضة يلمحها جند الله من بين وهج الأحداث، وفرصة يغنمونها وطبول الحرب العامة المتداعية من كل حدب وصوب علينا تدق. ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. به وحده العزة وبرسوله.
هذا وجه أخيك الشيعي. هذا وجه أخيك المنضم إلى جماعة غير جماعتك. هذا وجه مسلم ومسلمة لا يفصله عنك إلا مرحلة سبقته بها. هو مادٌّ يده إليك على استحياء وحذر. هل نظرت إلى هذه الوجوه من أعالي الأمور ودواعي الوحدة والأخوة ؟ أم نظرت إليها من خلال كتب مليئة بآثار الصراع الماضي حين كان يكال بالصاع صاعين ؟ هل شوه تاريخ مضى، وحرب قائمة وخلافات في الوسائل والمنطلقات والأساليب وجوه إخوتك في عينك ؟ هل يروقك أن تدمر قُوى الشر الهجينة البشعة ديارَك، وتيتم أولادك، وتقتل إنسانيتك ثم لا تفزع إلى الملاذ الأوحد، كتاب الله العروة الوثقى الموحدة المنجية ؟ امسحْ عن عينك غشاوة التقليد، وعن قلبك امسحْ ران الغفلة عن الله رب العالمين، ومن عقلك انزعْ ذهنية التبلد على عادة الكسل، تبصرْ وجهَ أخيك في مرآة المحبة وقد مسح عنه تشويهات صنعها وهمُك حبُّه لله ورسوله، وإيمانه بالله وباليوم الآخر، وتشبثه بالقرآن، ودفاعه عن الحوزة، وسخاؤه بالدماء والجهد لنصرة دين الله.
إن أعداءنا يأكلون دنيانا حلوة هنيئة، ونحن نأكلها مرة مرارة مضاعفة بضعف الفقر والذل، ثم نُغصُّ بمعاشنا هذا الكئيب غُصتين، غصة الدنيا بما قعدنا وعجزنا عن الجهاد، وغصة الآخرة بما ضيعنا من وحدة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تلك الوحدة ولا تزال شرط حياتنا.
[1] الآية (92) من سورة الانبياء.
[2] الآية (52) من سورة المؤمنون.
[3] الآية (110) من سورة آل عمران.
[4] الآية (51) من سورة المائدة.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
مطالب الشريعة
نقضت وحدة الأمة بانتقاض الحكم. وضعف الإسلام التاريخي بنيةً منذ انفكَّت تلك العروة. وكل ما نشأ من حروب داخلية بين المسلمين، ومن فتن مذهبية، ومن مروق وزندقة، ومن انحراف في العقيدة وثورة وعنف فإنما مرده بعد تعميق النظر إلى ذلك الانفصام الأول.
أكتب هذا والحرب الضروس المجنونة بين إيران الثائرة باسم الإسلام والعراق الفائزة باسم القومية توشك أن تنهيَ عامها السابع. مظهر آخر من مظاهر "الانفصام النكد" التاريخي وشرارة من ناره. وإن ما نعيشه ونشاهده في هذه النكبة المؤلمة مضافا إلى ما عشناه من نكبات احتلال القدس وخذلان حكام الجبر للأمة بما منعوها من توحيد جهودها لتجاهد عدوها، وبما بددوا من أرزاق، وبما والَوا الكفار وضحوا بالمقدسات ليحتفظوا بالسلطان مهما تمزقت الأمة وافترقت وأُهينت، كل ذلك يلح على ضميرنا لنعيد النظر فيما رتبه علماؤنا من قبلنا في حديثهم عن مقاصد الشريعة.
كان المقصد الأسمى من بعثة الخلاق العظيم سبحانه رسلَه إلى خلقه جليا مجتمعا كاملا متكاملا في فهم الصحابة على عهد النبوة والخلافة على منهاج النبوة التي لم تدم أكثر من ثلاثين سنة بعد انتقال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. كان ذلك المقصد الجليل جليا في العقول والقلوب والنيات والعمل الجهادي بجلاء القرآن ونصاعة بيانه وحيويته الدافقة. هذا المقصد هو أن يكون الدين كله لله، وأن لا تكون فتنة في الأرض، وأن يدخل الخلق جميعا في طاعة الله ليحققوا الغاية التي من أجلها وجد العالم. ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾.[1] أمة واحدة تحمل رسالة للعالمين تبلغها وتجاهد عليها وتتوحد عليها وتحكم بمقتضاها.
وحدة المقصد الأول وحدت من قبائل العرب جندا محض ولاءه لله رب العالمين ونبذ كل الولاآت. وحدت منهم الصف والوجهة والجهد. وحدت منهم الحس والمعنى وكان رمز هذا التوحيد وضامن هذه الوحدة الاعتصام بالعروة الوثقى كتاب الله الذي يجمع لا يفرق، والبيعة الاختيارية غير الإكراهية الموثقة للعهود عقدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم مع خلفائه الراشدين.
على مستوى الفهم عن الله، ومن موقع الإقرار بإرادته الكونية لا مرد لقضائه وهو الرب القهار نقول : أعلمنا المعصوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل رحيله أن تلك الخلافة لن تدوم أكثر من ثلاثة عقود، وأن عروة الحكم من عرى الإسلام ستكون أول ما ينقض من عراه، وأن هلاك الأمة سيكون على يد أغيلمة هم شر الملوك. سبق ما سبق في علم الله.
وعلى مستوى المسؤولية والتكليف الشرعي نقول : ضيع المسلمون وحدة الشورى والعدل والإحسان، وتمسكوا بعدها بوحدة قسرية تحت ظل السيف، رضخوا لحامل السيف تطبيقا للوصايا النبوية المشفقة أو قاموا ضد الحاكم، كلٌّ حسب تقديره لأحقية الحاكم أن يطاع.
وعلى مستوى النظر المترامي إلى الإرادة الإلهية الكونية وإرادته الآمرة التي ورد بها الشرع الشريف نقول : إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة علمائها وصالحيها وأهل الخير في كل زمان جاهدت وقاومت وحافظت على وجودها بتوفيق من الله عز وجل رغم البلاء المتعاقب. رغم البلاء بفساد الحكام وخروج الخوارج وزندقة الفلاسفة وغزو القرامطة والتتار والاستعمار. فهذه الأمة المجاهدة المرحومة المبتلاة لا يزال لها وجود وإن كان مشتتا، وهي موعودة بالنصر إبان الخلافة الثانية، عليها أن تهب وتقوم وتجاهد لتلتقي بالوعد الصادق، وأن تنهض بالعزيمة الكبيرة ليسلك قصدها ومشروعها المستقبلي مسالك الشرع المعبرة عن الأمر الديني راجية من المولى الكريم أن يتطابق القصد ومقاصد الشرع مع مقصد الحق سبحانه في إرادته المطلقة.
لما انفرمت وحدة المسلمين الأولى تحت الملك العاض والجبري لم يتحدث فقهاء ذلك الزمان عن ضرورة إعادة الحكم الشوري لأن وحدة الشوكة والسلطان بقيت قائمة على رقعة دار الإسلام، حقيقية في القرون الأولى، رمزية بعد استقلال كثير من الأمصار، آخر عهدنا بوحدة الشوكة عهد آل عثمان رحمهم الله.
لم يذكر علماؤنا السابقون أثناء حديثهم عن مقاصد الشريعة هذا المقصد الجامع. أما في زماننا، وقد نشبت فينا مخالب الجاهلية والأنياب، فنشعر بضرورة استعادة الوحدة شعورا عميقا. إنها مسألة حياة أو موت. إنها أم المقاصد وشرط تحقيقها.
كان عند سلفنا رحمهم الله شيء يذكر على رقعة العالم، له حرمته وهيبته : كان لهم استقلال ودولة، فكانوا يحرصون على هذا الشيء، لا يعيبونه في ظاهر سلوكهم وإن كان في قرارة النفس ما فيها. كانوا يريدون الحفاظ على ذلك الشيء لأنه كان حياتهم وسقفهم وبيتهم وسلاحهم. وفي ظله كانوا يحتضنون ما تبقى متماسكا من عرى الإسلام. لذلك نقرأ عندهم في معرض الحديث عن المقاصد الشرعية صيغة محافظة. نقرأ أن مقاصد الشريعة حفظ كذا، وحفظ كذا، وحفظ كذا.
أما نحن فدويلات الجبر التي تبيعنا جملة وتفصيلا للجاهلية لا تعتبرها الأمة بيتها ولا سقفها ولا سلاحها ولا تستمر في العيش المهين تحت وطأتها إلا مكرهة كارهة مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم.
لذلك فجدير بنا أن نعبر عن مقاصد الشريعة في صيغ مطلبية لا حفاظية، فنقول : مطالب الشريعة هي كذا وكذا. وجدير بنا ونحن نخطط لإنزال أحكام الشرع منازل الشرف والعزة وننظر إلى الأمر الإلهي من زاوية الطلب لا من زاوية الحفظ، أن نذكر الوسائل التربوية والعلمية والمادية الجهادية القادرة على تحقيق مطالب الشرع. وأن نبحث عن الكيان الجماعي المكلف بالنهوض إلى هذه المطالب، وعن طريقه وأولويات ما يطلب، وعن العراقل في وجهه، وعن العالميات الجاهلية التي تتحدى عالمية الإسلام وتنازعه في بقائه، وعن مراحل الطلب وثقل الحمولة وسرعة الزمان.
كان علماؤنا الأفاضل رحمهم الله وأجزل مثوبتهم يتدارسون مقاصد الشريعة في شتاتها وفرديتها. تجد من أبواب كتب الحديث وكتب الفقه بابا للإمارة والجهاد مصطفّاً مع الأبواب الأخرى، لا يحتل المكانة اللائقة بالعروة الماسكة لكل العرى. كأن علماءنا في كفاحهم الدائم ضد إرادة الحاكم بأمره انتهوا إلى تطليق هذه القضية العويصة قضية الحكم ليتفرغوا معرضين عنها إلى مهمتهم الحفاظية.
انقبضوا عن قضية الحكم فانقبضت عنهم الرؤية إلى كليات الدين من الزاوية العليا. ونحن نأمل أن يبسط الله لنا مجالا واسعا بأن يرفعنا إلى المنطلق الأول إزاء القرآن الحاكم ننظر من أعلى لنتبين أهمية الوحدة التي لا تمكن إلا بالحكم الشوري الضامن وحده أن يسود العدل والإحسان.
لم يكن لعلمائنا قبل الإمام الغزالي عناية بإحصاء مقاصد الشريعة وتصنيفها تصنيفا شكليا لسلامة الفطرة ولأن الكل كانوا أهل قرآن. وإنما نجد التصنيف والرصف في هذا العلم ومن علوم الأصول عند الإمام الشاطبي في القرن الثامن وقد أخذ شكله النهائي الذي يجتره المقلدة اليوم دون أن يطرحوا على التصنيف ولا على الصيغة سؤالا واحدا.
نريد هنا إن شاء الله تعالى أن نقول كلمة أو كلمتين، نتهيب هذا العالم الجليل من أصحاب الاختصاص العالي والتقوى وطول الباع. لكنَّ ألمنا وما نحمل من هم لا يترك مجالا للحشمة. ولعل عدم تخصصنا يحررنا من التبعية السكونية المستكينة رضى بما فعله الأجداد.
نجد عند عالمنا الأصولي ما ينبئ عن تحفظ وسكوت لا يعلم إلا الله ما وراءهما من معاناة رجل عاش تحت ملوك الطوائف. عاش في عهد وفي قطر بلغ فيه التمزق وتهتك الحكام ما لم يتجاوزه إلا حكام عهدنا وأقطارنا هذه البئيسة. يكتب رحمه الله في نهاية كتابه "الموافقات" ما يلي : "على أنه بقيت أشياء لم يَسَعْ إيرادها، إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقلَّ على كثرة التعطش وُرَّادها. فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها. فثنيت من جماح بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان. على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة".
مسائل ثنى عن بيانها عنان قلمه رغم جموح هذا القلم وميله الشديد لكتابتها. ترى، أهي من جزئيات العلم ونوادره، أم هي من كليات الدين وأصوله رأى متفقهة عصره معرضين عنها منحسرين عن ميدانها ؟ ترى، أية غصة كانت في حلق هذا المجتهد الفذ الذي يعد مفخرة من مفاخر القرون الأخيرة، بل واحدا من أكبر علمائنا الجامعين بين المنقول والمعقول، المتضلعين ريا ونورا من معين السنة، العالين مطمحا.
أي شيء هي المسائل التي سكت عنها وتحفظ من ذكرها لأنه لا "يسهل على كثير من السالكين مرادها" ؟
إنه اعتذار يقدمه رحمه الله في آخر كتابه لمن هم على شاكلته من قرائه يحملون من الهم مثلما يحمل، ويشكون من سقوط الهمم و"قلة الوراد" على ما بالأمة من تعطش إلى الحق. حال دون الأمة والحق المنشود المطرود جمود المقلدة ومعارضة المتفقهة المشتتين في الفروع العاجزين عن قبول فقه أصولي يرتفع إلى الأدلة من الكتاب والسنة، ويعلل الأحكام، ويجمع النظائر، ويستخرج القواعد ليبرهن على أن للدين مقاصد كلية، ومنطقا متساوقا.
مثل هذا الفكر لا تستسيغه الأدمغة الراكدة، ولا يستقبله السكون المخيم المسالم للأمر الواقع. لا ينازع ذلك الفكر ولا يسأل ولا يعلل ولا يحب شيئا من المنازعة والسؤال عن الأسباب والمسببات.
يقول عالمنا في مقدمة كتابه، يشكو يكاد يفصح بلواعج بلواه : "أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم، الطالب لأسنى نتائج الحلوم، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى الظاهر المرسوم، طمعا في إدراك باطنه المرقوم معاني مرتوقة في فتق تلك الرسوم. فإنه قد آن لك أن تصغى إلى من وافق هواك هواه، وأن تطارح الشجي (الشجي ما يعترض في الحلق من عظمة وشوكة عبارة عن الهم) من ملكه مثلك شجاه، وتعود إذ شاركته في جواه (أي شوقه) محل نجواه، حتى يبث إليك شكواه، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى، وتسري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى".
هذا رجل أراد أن ينظر من أعلى، فهو يطلب "حقائق أعلى العلوم"، فوجد أن من يفهمه ويجاريه قليل، ووجد أن همه الذي يكابده وشوقه الذي يحمله لا يشاركه فيه الجامدون من أهل عصره. فهو في مثل الغبش يسرى وحده. على طريق مثل الصحراء القاحلة. إنها صحراء التقليد وجفاف العقول وموت الإرادات.
قال رحمه الله يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب : "فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامه (أي صحاري) فيحا (أي واسعة)، وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا، ولاقى من وجوهه المعترضة جهما (وجه متجهم : غاضب مكفهر) وصبيحا، وعانى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا، فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحا، أو لما حالف من العناء طريحا، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا. وجملة الأمر في التحقيق، أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق، فقد الدليل، مع ذهن لفقد نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث (يقصد مجموعات المصائب) عليل، فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل".
إذا كان يشق على العالم المجتهد ما يجده من معارضة الجامدين، فإن جراح المعارضة والمصارعة في ميادين الجدال لا تبلغ بالرجل الصالح العاقل أن يتمنى الموت يريحه من عنائه إذ لم يصف له العيش الهنيء. مثل عالمنا لا تستفزه المخالفات والمجادلات الفقهية إلى هذا الحد. لكنه يتألم لضياع العلم بجمود المتفقهة، ولضياع مقاصد الشريعة لطغيان الجمود، ولطغيان الحكام الناتج عن انصراف المنتسبين للعلم القابعين في جزئيات مسائلهم إلى التوافه يعالجون خلافياتها من تحت.
جاء عالمنا يوقظ النائمين فلم يجد مستجيبا، ومضى يسري في مهامه عزلته الفيحاء، ينطق تارة ويسكت ويتحفظ ويرمز ويشتكي، فماذا نجد في زماننا من عماد نعتمده في علم هذا الرجل وأمثاله. أنردد تلك العبارات ونشرح تلك الإشارات عاكفين عليها وهي تنتمي إلى عصر ومصر استسلم فيه المسلمون لملوك العض لا من يحرك من سواكنهم ؟ إذن لَكُنَّا أشد غباء وأبلد بلادة من معاصري الشيخ الإمام الذين قعدوا يتفرجون على الأندلس تتسرب من أيدي الأمة لا يحسون جوى ولا يشتكون شجىً. نكون إن رددنا اجتهادات من سبقونا بالإيمان غفر الله لنا ولهم بدون أن نحدد لأنفسنا مطالب أو نرسم لأنفسنا خططا أحط من الانحطاط.
في ذلك العصر والمصر، على ما كان ينزل من أضغاث المصائب، لم يكن حاكم ليجرأ على مناهضة الدين في توجهاته الكلية. كان للإسلام معنى وحرمة ووزن في صفوف الأمة حتى عند أهل الجمود. أما في عصرنا وأمصارنا فالدين يقتلع من جذوره، والغزو الشامل سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا يهدد الدين بالعدم، فما فائدة جلوسنا إلى شيخ حي بالإيمان والعلم والغيرة على الدين، سام بتطلعه إلى الأعالي وبتحمله هما سئم الحياة عندما افتقد من يشاطره همه، إن لم نستفد من مجالستنا إياه قبسة من نور المعرفة بالله وبدينه ومقاصد شريعته، لا نكتفى بالجذوة التي انقدحت لديه نحفظها ونخزنها ونزمر حولها، بل ننفخ في جذوتها من نفس غيرتنا وحرقتنا وعنائنا لتتأجج على أعداء الدين نار المقاطعة، ولتسرج في جوانحنا أنوار المواصلة بكتاب الله وسنة رسوله، نرتفع إليهما بنياتنا ومطالبنا واجتهادنا كما ارتفع إليها هو بنيته واجتهاده رحمه الله ؟
نقضت وحدة الأمة بانتقاض الحكم. وضعف الإسلام التاريخي بنيةً منذ انفكَّت تلك العروة. وكل ما نشأ من حروب داخلية بين المسلمين، ومن فتن مذهبية، ومن مروق وزندقة، ومن انحراف في العقيدة وثورة وعنف فإنما مرده بعد تعميق النظر إلى ذلك الانفصام الأول.
أكتب هذا والحرب الضروس المجنونة بين إيران الثائرة باسم الإسلام والعراق الفائزة باسم القومية توشك أن تنهيَ عامها السابع. مظهر آخر من مظاهر "الانفصام النكد" التاريخي وشرارة من ناره. وإن ما نعيشه ونشاهده في هذه النكبة المؤلمة مضافا إلى ما عشناه من نكبات احتلال القدس وخذلان حكام الجبر للأمة بما منعوها من توحيد جهودها لتجاهد عدوها، وبما بددوا من أرزاق، وبما والَوا الكفار وضحوا بالمقدسات ليحتفظوا بالسلطان مهما تمزقت الأمة وافترقت وأُهينت، كل ذلك يلح على ضميرنا لنعيد النظر فيما رتبه علماؤنا من قبلنا في حديثهم عن مقاصد الشريعة.
كان المقصد الأسمى من بعثة الخلاق العظيم سبحانه رسلَه إلى خلقه جليا مجتمعا كاملا متكاملا في فهم الصحابة على عهد النبوة والخلافة على منهاج النبوة التي لم تدم أكثر من ثلاثين سنة بعد انتقال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. كان ذلك المقصد الجليل جليا في العقول والقلوب والنيات والعمل الجهادي بجلاء القرآن ونصاعة بيانه وحيويته الدافقة. هذا المقصد هو أن يكون الدين كله لله، وأن لا تكون فتنة في الأرض، وأن يدخل الخلق جميعا في طاعة الله ليحققوا الغاية التي من أجلها وجد العالم. ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾.[1] أمة واحدة تحمل رسالة للعالمين تبلغها وتجاهد عليها وتتوحد عليها وتحكم بمقتضاها.
وحدة المقصد الأول وحدت من قبائل العرب جندا محض ولاءه لله رب العالمين ونبذ كل الولاآت. وحدت منهم الصف والوجهة والجهد. وحدت منهم الحس والمعنى وكان رمز هذا التوحيد وضامن هذه الوحدة الاعتصام بالعروة الوثقى كتاب الله الذي يجمع لا يفرق، والبيعة الاختيارية غير الإكراهية الموثقة للعهود عقدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم مع خلفائه الراشدين.
على مستوى الفهم عن الله، ومن موقع الإقرار بإرادته الكونية لا مرد لقضائه وهو الرب القهار نقول : أعلمنا المعصوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل رحيله أن تلك الخلافة لن تدوم أكثر من ثلاثة عقود، وأن عروة الحكم من عرى الإسلام ستكون أول ما ينقض من عراه، وأن هلاك الأمة سيكون على يد أغيلمة هم شر الملوك. سبق ما سبق في علم الله.
وعلى مستوى المسؤولية والتكليف الشرعي نقول : ضيع المسلمون وحدة الشورى والعدل والإحسان، وتمسكوا بعدها بوحدة قسرية تحت ظل السيف، رضخوا لحامل السيف تطبيقا للوصايا النبوية المشفقة أو قاموا ضد الحاكم، كلٌّ حسب تقديره لأحقية الحاكم أن يطاع.
وعلى مستوى النظر المترامي إلى الإرادة الإلهية الكونية وإرادته الآمرة التي ورد بها الشرع الشريف نقول : إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة علمائها وصالحيها وأهل الخير في كل زمان جاهدت وقاومت وحافظت على وجودها بتوفيق من الله عز وجل رغم البلاء المتعاقب. رغم البلاء بفساد الحكام وخروج الخوارج وزندقة الفلاسفة وغزو القرامطة والتتار والاستعمار. فهذه الأمة المجاهدة المرحومة المبتلاة لا يزال لها وجود وإن كان مشتتا، وهي موعودة بالنصر إبان الخلافة الثانية، عليها أن تهب وتقوم وتجاهد لتلتقي بالوعد الصادق، وأن تنهض بالعزيمة الكبيرة ليسلك قصدها ومشروعها المستقبلي مسالك الشرع المعبرة عن الأمر الديني راجية من المولى الكريم أن يتطابق القصد ومقاصد الشرع مع مقصد الحق سبحانه في إرادته المطلقة.
لما انفرمت وحدة المسلمين الأولى تحت الملك العاض والجبري لم يتحدث فقهاء ذلك الزمان عن ضرورة إعادة الحكم الشوري لأن وحدة الشوكة والسلطان بقيت قائمة على رقعة دار الإسلام، حقيقية في القرون الأولى، رمزية بعد استقلال كثير من الأمصار، آخر عهدنا بوحدة الشوكة عهد آل عثمان رحمهم الله.
لم يذكر علماؤنا السابقون أثناء حديثهم عن مقاصد الشريعة هذا المقصد الجامع. أما في زماننا، وقد نشبت فينا مخالب الجاهلية والأنياب، فنشعر بضرورة استعادة الوحدة شعورا عميقا. إنها مسألة حياة أو موت. إنها أم المقاصد وشرط تحقيقها.
كان عند سلفنا رحمهم الله شيء يذكر على رقعة العالم، له حرمته وهيبته : كان لهم استقلال ودولة، فكانوا يحرصون على هذا الشيء، لا يعيبونه في ظاهر سلوكهم وإن كان في قرارة النفس ما فيها. كانوا يريدون الحفاظ على ذلك الشيء لأنه كان حياتهم وسقفهم وبيتهم وسلاحهم. وفي ظله كانوا يحتضنون ما تبقى متماسكا من عرى الإسلام. لذلك نقرأ عندهم في معرض الحديث عن المقاصد الشرعية صيغة محافظة. نقرأ أن مقاصد الشريعة حفظ كذا، وحفظ كذا، وحفظ كذا.
أما نحن فدويلات الجبر التي تبيعنا جملة وتفصيلا للجاهلية لا تعتبرها الأمة بيتها ولا سقفها ولا سلاحها ولا تستمر في العيش المهين تحت وطأتها إلا مكرهة كارهة مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم.
لذلك فجدير بنا أن نعبر عن مقاصد الشريعة في صيغ مطلبية لا حفاظية، فنقول : مطالب الشريعة هي كذا وكذا. وجدير بنا ونحن نخطط لإنزال أحكام الشرع منازل الشرف والعزة وننظر إلى الأمر الإلهي من زاوية الطلب لا من زاوية الحفظ، أن نذكر الوسائل التربوية والعلمية والمادية الجهادية القادرة على تحقيق مطالب الشرع. وأن نبحث عن الكيان الجماعي المكلف بالنهوض إلى هذه المطالب، وعن طريقه وأولويات ما يطلب، وعن العراقل في وجهه، وعن العالميات الجاهلية التي تتحدى عالمية الإسلام وتنازعه في بقائه، وعن مراحل الطلب وثقل الحمولة وسرعة الزمان.
كان علماؤنا الأفاضل رحمهم الله وأجزل مثوبتهم يتدارسون مقاصد الشريعة في شتاتها وفرديتها. تجد من أبواب كتب الحديث وكتب الفقه بابا للإمارة والجهاد مصطفّاً مع الأبواب الأخرى، لا يحتل المكانة اللائقة بالعروة الماسكة لكل العرى. كأن علماءنا في كفاحهم الدائم ضد إرادة الحاكم بأمره انتهوا إلى تطليق هذه القضية العويصة قضية الحكم ليتفرغوا معرضين عنها إلى مهمتهم الحفاظية.
انقبضوا عن قضية الحكم فانقبضت عنهم الرؤية إلى كليات الدين من الزاوية العليا. ونحن نأمل أن يبسط الله لنا مجالا واسعا بأن يرفعنا إلى المنطلق الأول إزاء القرآن الحاكم ننظر من أعلى لنتبين أهمية الوحدة التي لا تمكن إلا بالحكم الشوري الضامن وحده أن يسود العدل والإحسان.
لم يكن لعلمائنا قبل الإمام الغزالي عناية بإحصاء مقاصد الشريعة وتصنيفها تصنيفا شكليا لسلامة الفطرة ولأن الكل كانوا أهل قرآن. وإنما نجد التصنيف والرصف في هذا العلم ومن علوم الأصول عند الإمام الشاطبي في القرن الثامن وقد أخذ شكله النهائي الذي يجتره المقلدة اليوم دون أن يطرحوا على التصنيف ولا على الصيغة سؤالا واحدا.
نريد هنا إن شاء الله تعالى أن نقول كلمة أو كلمتين، نتهيب هذا العالم الجليل من أصحاب الاختصاص العالي والتقوى وطول الباع. لكنَّ ألمنا وما نحمل من هم لا يترك مجالا للحشمة. ولعل عدم تخصصنا يحررنا من التبعية السكونية المستكينة رضى بما فعله الأجداد.
نجد عند عالمنا الأصولي ما ينبئ عن تحفظ وسكوت لا يعلم إلا الله ما وراءهما من معاناة رجل عاش تحت ملوك الطوائف. عاش في عهد وفي قطر بلغ فيه التمزق وتهتك الحكام ما لم يتجاوزه إلا حكام عهدنا وأقطارنا هذه البئيسة. يكتب رحمه الله في نهاية كتابه "الموافقات" ما يلي : "على أنه بقيت أشياء لم يَسَعْ إيرادها، إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقلَّ على كثرة التعطش وُرَّادها. فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها. فثنيت من جماح بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان. على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة".
مسائل ثنى عن بيانها عنان قلمه رغم جموح هذا القلم وميله الشديد لكتابتها. ترى، أهي من جزئيات العلم ونوادره، أم هي من كليات الدين وأصوله رأى متفقهة عصره معرضين عنها منحسرين عن ميدانها ؟ ترى، أية غصة كانت في حلق هذا المجتهد الفذ الذي يعد مفخرة من مفاخر القرون الأخيرة، بل واحدا من أكبر علمائنا الجامعين بين المنقول والمعقول، المتضلعين ريا ونورا من معين السنة، العالين مطمحا.
أي شيء هي المسائل التي سكت عنها وتحفظ من ذكرها لأنه لا "يسهل على كثير من السالكين مرادها" ؟
إنه اعتذار يقدمه رحمه الله في آخر كتابه لمن هم على شاكلته من قرائه يحملون من الهم مثلما يحمل، ويشكون من سقوط الهمم و"قلة الوراد" على ما بالأمة من تعطش إلى الحق. حال دون الأمة والحق المنشود المطرود جمود المقلدة ومعارضة المتفقهة المشتتين في الفروع العاجزين عن قبول فقه أصولي يرتفع إلى الأدلة من الكتاب والسنة، ويعلل الأحكام، ويجمع النظائر، ويستخرج القواعد ليبرهن على أن للدين مقاصد كلية، ومنطقا متساوقا.
مثل هذا الفكر لا تستسيغه الأدمغة الراكدة، ولا يستقبله السكون المخيم المسالم للأمر الواقع. لا ينازع ذلك الفكر ولا يسأل ولا يعلل ولا يحب شيئا من المنازعة والسؤال عن الأسباب والمسببات.
يقول عالمنا في مقدمة كتابه، يشكو يكاد يفصح بلواعج بلواه : "أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم، الطالب لأسنى نتائج الحلوم، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى الظاهر المرسوم، طمعا في إدراك باطنه المرقوم معاني مرتوقة في فتق تلك الرسوم. فإنه قد آن لك أن تصغى إلى من وافق هواك هواه، وأن تطارح الشجي (الشجي ما يعترض في الحلق من عظمة وشوكة عبارة عن الهم) من ملكه مثلك شجاه، وتعود إذ شاركته في جواه (أي شوقه) محل نجواه، حتى يبث إليك شكواه، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى، وتسري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى".
هذا رجل أراد أن ينظر من أعلى، فهو يطلب "حقائق أعلى العلوم"، فوجد أن من يفهمه ويجاريه قليل، ووجد أن همه الذي يكابده وشوقه الذي يحمله لا يشاركه فيه الجامدون من أهل عصره. فهو في مثل الغبش يسرى وحده. على طريق مثل الصحراء القاحلة. إنها صحراء التقليد وجفاف العقول وموت الإرادات.
قال رحمه الله يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب : "فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامه (أي صحاري) فيحا (أي واسعة)، وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا، ولاقى من وجوهه المعترضة جهما (وجه متجهم : غاضب مكفهر) وصبيحا، وعانى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا، فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحا، أو لما حالف من العناء طريحا، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا. وجملة الأمر في التحقيق، أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق، فقد الدليل، مع ذهن لفقد نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث (يقصد مجموعات المصائب) عليل، فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل".
إذا كان يشق على العالم المجتهد ما يجده من معارضة الجامدين، فإن جراح المعارضة والمصارعة في ميادين الجدال لا تبلغ بالرجل الصالح العاقل أن يتمنى الموت يريحه من عنائه إذ لم يصف له العيش الهنيء. مثل عالمنا لا تستفزه المخالفات والمجادلات الفقهية إلى هذا الحد. لكنه يتألم لضياع العلم بجمود المتفقهة، ولضياع مقاصد الشريعة لطغيان الجمود، ولطغيان الحكام الناتج عن انصراف المنتسبين للعلم القابعين في جزئيات مسائلهم إلى التوافه يعالجون خلافياتها من تحت.
جاء عالمنا يوقظ النائمين فلم يجد مستجيبا، ومضى يسري في مهامه عزلته الفيحاء، ينطق تارة ويسكت ويتحفظ ويرمز ويشتكي، فماذا نجد في زماننا من عماد نعتمده في علم هذا الرجل وأمثاله. أنردد تلك العبارات ونشرح تلك الإشارات عاكفين عليها وهي تنتمي إلى عصر ومصر استسلم فيه المسلمون لملوك العض لا من يحرك من سواكنهم ؟ إذن لَكُنَّا أشد غباء وأبلد بلادة من معاصري الشيخ الإمام الذين قعدوا يتفرجون على الأندلس تتسرب من أيدي الأمة لا يحسون جوى ولا يشتكون شجىً. نكون إن رددنا اجتهادات من سبقونا بالإيمان غفر الله لنا ولهم بدون أن نحدد لأنفسنا مطالب أو نرسم لأنفسنا خططا أحط من الانحطاط.
في ذلك العصر والمصر، على ما كان ينزل من أضغاث المصائب، لم يكن حاكم ليجرأ على مناهضة الدين في توجهاته الكلية. كان للإسلام معنى وحرمة ووزن في صفوف الأمة حتى عند أهل الجمود. أما في عصرنا وأمصارنا فالدين يقتلع من جذوره، والغزو الشامل سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا يهدد الدين بالعدم، فما فائدة جلوسنا إلى شيخ حي بالإيمان والعلم والغيرة على الدين، سام بتطلعه إلى الأعالي وبتحمله هما سئم الحياة عندما افتقد من يشاطره همه، إن لم نستفد من مجالستنا إياه قبسة من نور المعرفة بالله وبدينه ومقاصد شريعته، لا نكتفى بالجذوة التي انقدحت لديه نحفظها ونخزنها ونزمر حولها، بل ننفخ في جذوتها من نفس غيرتنا وحرقتنا وعنائنا لتتأجج على أعداء الدين نار المقاطعة، ولتسرج في جوانحنا أنوار المواصلة بكتاب الله وسنة رسوله، نرتفع إليهما بنياتنا ومطالبنا واجتهادنا كما ارتفع إليها هو بنيته واجتهاده رحمه الله ؟
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
مقاصد الشريعة
يقول الشاطبي الإمام في أول "كتاب المقاصد" وهو جوهر كتابه "الموافقات" وفَصُّه : "و المقاصد التي ينظر فيها قسمان : أحدهما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف". وفي مقدمة تفصيله لهذه الجملة ذكر المؤلف رحمه الله بمسلمة جعلها مقدمة لكل مناقشاته في الكتاب وهي : " أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا". العاجل الدنيا والآجل الآخرة. في عصرنا هذا، والمسلمون منهزمون فكريا كما هم منهزمون عسكريا (وحيى الله أسد الجهاد في أفغانستان، لولاهم لنسينا أن فينا رجالا البتة)، يكثر الكتاب من الحديث عن مقاصد الشريعة ومن ضمنها "حفظ الدين" ليقدم الكاتب المدافع عن "الأصالة الإسلامية" نصوصه وحجته على أن الإسلام دين مصلحة وحضارة. ثم يمضي في مقارنته التفصيلية بين شرائع الإسلام والشرائع الوضعية،كل ذلك على مستوى الحياة الدنيا، ناسيا ذكر الآخرة والبعث والحشر والموقف والميزان والجنة والنار، طاويا عنها الكشح، خجولا عن سرد "الغيبيات" في معرض تقاس فيه مصالح العباد بالأرقام والإحصاء والكم واللذة و"السعادة" ومستوى المعيشة وأنماط التنمية ومردودية الاستثمار ومصادر التمويل واستراتيجيات التصنيع. يغطي هذا الفيلق من "الأشياء" على بصر من يرى من تحت التحت إلى إسلامه، ويغطي على بصيرته، فإذا إسلامه مذهب اقتصادي سياسي أو ما شئت من تصنيفات العصر. وإذا الآخرة سراب، لا حساب ولا عقاب، والأمر أنف كما كان يقول الجاهليون الأولون. وقد يكون لعارض الإسلام الكاتب المفكر الباحث المنبهر "بأشياء" العصر إيمان بالله واليوم الآخر ينطوي على بصيص منه، لا يكاد يبين عنه، فهو أشبه أن يحسب من باطنية الزمان لشدة تخفيه وتكتمه كأن ما يضمره بدعة وضلالة.
جفت الكتب "الإسلامية" من ذكر الآخرة نعوذ بالله، وتسطحت على سوق المفاضلة في المصالح وضماناتها بين قوانين جاءت من شرق يؤمن بالوحي والرسالات وغرب وضعي مصلحي طلق ذلك الإيمان. احذف كل إشارة إلى الوحي وغيبياته لتحظى بمصداقية عند قرائك. وسلام على الدعوة ! وسلام على الدين !
إن كان في خطاب عالم القرن الثامن ترسبات وتحفظات وسكوت، فما بلغ تأثير الفتنة أن يغيب ذكر الله وذكر الآخرة والجزاء، ولا أن يسكت عنه، ولا أن يستغني عن التذكير به، مسلمة ثابتة معرفة المسلمين بالمسلمة. كانوا رجال دعوة وإيمان، وإن غلب طابع الفقهية القانونية على أسلوب العرض.
فهذه مزية يفضلوننا بها لأنهم كانوا يرمقون من أعلى الإيمان بالله والثقة به ثقة مستعلية على الكفر رغم ما كانوا يعيشون من عيش غير هنيء في كنف الحكم الفاسد والعقل المتجمد.
مقاصد الشرع في رأي الشاطبي ترجع عند النظر إلى قصد الشارع وقصد المكلف. نتركه لتفريعاته الوافية الضافية وفى الله له ونقف نحن وقفات نطل فيها من إزاء القرآن والسنة على تلك الساحة.
وقفة أولى لنميز بين قصد الله الكوني وقصده الشرعي. قضاء الله جل شأنه قصد سابق في أزله، واقع لا محالة بقدر. إرادة مدبر حكيم شاء أن تكون الدنيا دار امتحان، أسئلة هذا الامتحان عويصة، الأجوبة عنها من كسبك أنت المخلوق "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك." [1] هلك القدرية لما عطلوا القضاء الإلهي، وهلك الجبرية لما أنكروا اختيار العبد، وهلك المرجئة لما لم يرتبوا على الكسب ما رتبه القرآن من جزاء.
أما قصد الله تعالى الشرعي فهو أمره ونهيه كما جاء في القرآن والسنة. أمر ونهي تعتريهما أحكام الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهية، أو يوسع سبحانه على عباده بالإباحة والعفو.
قصدان يلتقيان بحكمة في ملك الله وملكوته، لا دخل للعباد في الملكوت وإن كانت لأفعالهم الصالحة أو الطالحة نتائج هناك في صحف الكرام الكاتبين وفي زيادة الله هدى للذين اهتدوا وضلالة لمن ارتكسوا في الفتنة. ونقف وقفة لتأمل قصد المكلف، قصده بالنية والتوجه الصادقين أو الفاسدين إلى مولاه خالقه ورازقه يحدد مكانته الأصلية عند الله : إما مسلم مؤمن، أو مشرك كافر، أو منافق يتردى أسفل سافلين. والقصد الثاني يكون بالأعمال الفرعية صالحة أو سيئة. لكل منها جزاؤه، منها ما يوجب سخط الله ولا يخلد مسلم في النار، ومنها ما يقرب إلى الله العلي القدير في درجات الجنة إلى حيث الوجوه الناضرة إلى ربها ناظرة.
قصد المكلف بالقلب والتصديق، أو الإعراض عنه وتكذيب رسله هذه عقيدة وهي الأصل. وهي معقد السعادة أو الشقاء في الدار الآخرة مهما كانت مشقات الطريق في الدنيا أمام المسلم، "ومكتسبات" المتاع في الدنيا في يد الكافر.
نقف هنا وقفة أخرى لنشير إلى انحراف، ذات اليمين أو ذات الشمال، عن الجادة السالكة بالمؤمن في الدنيا وكل أمره عجب. المؤمن الضعيف يستطيع أن يفوز في الدار الآخرة ولو هرب إلى قمة جبل يعبد الله ويذر الناس من شره. أما المؤمن القوي فيحرص على امتلاك "مكتسبات" في الدنيا يطلب الكفاية وتعطي أمته القوة. وأما الهالك الزائغ ذات الشمال عن جادة الإيمان فهو الذي يطلب الدنيا بالآخرة، أو تلهيه "المكتسبات" الدنيوية عن نفسه وعن الله حتى يضيع منه القصد الاعتقادي والقصد العملي فإذا هو يجري ندّاً لندٍّ في حلبة السياسة والاقتصاد والتنمية، لا يذكر على هذه المطالب الضرورية للأمة اسم الله ليصبح جريه جهادا يحبه الله.
ونقف بعد هذا لنسأل أين يلتقي قصد الشارع بقصد المكلف، بل أين ينبغي أن يلتقيا ليحصل العبد على مصالحه موفورة في الدنيا مدخرة له في دار الكرامة ؟ قضاء الله تعالى ماض إلى قدره، أطاع المكلفون أم عصوا، آمنوا أوكفروا، شاؤوا أم أبوا، إن أعرضت مقاصدهم بالنية عن أمر الله الشرعي فأمره الكوني يرغم أعمالهم على مراد الله فيهم. "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" [2] هكذا نطق الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقاء السعادة والتوفيق هو أن يطابق قصد المكلف بالنية وبتوجهه بالعمل أمر الله ورسوله الشرعي، مهما كانت النتائج القدرية فالعبد راض، ما دام لم يقصر في واجب فرضه الله عليه، ما دام مستغفرا لذنبه وخطئه في الاجتهاد.
عندما كنا نناقش منذ حين الأسباب التي جعلت سلفنا الصالح رضي الله عنهم يسمعون ويطيعون لملوك العض، وكان الفاسدون المفسدون الذين ظهر هلاك الأمة على أيديهم، ذكرنا أن مواقع القدر في تاريخ المسلمين أُطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بها وأوصى معها بالسمع والطاعة ليكون لقاء أعمال المسلمين بإرادة الملك القهار عز وجل لقاء رحمة وحفظ. وهم كانوا مأجورين زادهم الله من فضله، مأجورٌ من سكت، مأجور من خالفه في التقدير فتكلم، مأجور من اجتهد بصدق في أسلوب تغيير المنكر فقام فحمل السلاح، أو هرب إلى الجبل والخلوة، إن شاء الله.
لقاء كان على قدر، والنيات كانت تفيض إخلاصا لله تعالى، والأعمال جادة، والتفاعل مع الأحداث حيا. لم يكن الاستسلام غير المشروط والتستر وراء القدر المهيمن إلا من حظ جبرية العقيدة أو جبرية الخوف. والجبريتان كثيرا ما تتساندان وتبرر إحداهما الأخرى. ولأمر ما نجد "التقدميين" الاشتراكيين منهم والقوميين في زماننا يلهجون بذكر المعتزلة القدرية، يمتدحون عقلانيتهم وثوريتهم. هذا زيغ معاصر عن الجادة، زيغ ذات الشمال دفعت إليه في زحمة الاضطراب الذي وقعت فيه الأمة بعد اندثار الشورى والعدل والإحسان دوافع البحث بأي ثمن عن وسيلة لإنكار الدين وحربه. فأي حفظ للدين نحتاج ؟ بل أي طلب يلزمنا والدين غريب محاصر ؟
من جبرية هذا الزمان، وهم جبرية قعود وخمول وجبن لا غير، من تسأله : "أما تحب أن يكون للإسلام دولة وأن يكون الدين كله لله ؟ " فيجيب : "بلى وألف كرامة !". فإذا سألته لم لا تضع يدك في يدنا لنتعاون على إقامة دين الله ؟ أجاب بأن الله قادر لو شاء على إظهار ما تتعبون أنفسكم فيه. الكفرة لعنهم الله قالوا كما حكى القرآن الكريم ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ [3] وكأن لسان حال الكافرين بنعمة الله من قاعدي الجبن يردد ما قاله من قبل من قص الله تعالى علينا إمساكهم حيث قال : ﴿وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين﴾ [4] .
كانت نياتهم رحمهم الله تفيض إخلاصا لله تعالى. هذا هو الظن بالقرون الفاضلة الثلاثة الأولى وبكل سلفنا الصالح من بعدهم. ما كانت الزندقة ولا العقائد البدعية ولا حواشي الحكام المغردين بأناشيد النفاق إلا هوامش على أطراف مجتمع فاضل في مجموعه ملتف حول أهل الخير من العلماء العالمين.
التفافه ذاك وصمود أهل الخير في وجه الحاكمين بالهوى حفظ الله عز وجل بهما مقاصد الشريعة من التلف. وحفظها بتقوى المتقين وإيمان الكافة باليوم الآخر وبرب العالمين.
إننا إذ نتكلم عن الانكسار التاريخي، وعن نقض عروة الحكم في وقت مبكر، وعن انحسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعيدا عن ساحة الحكم الوراثي العاض، وعن التجزئة في عقل المسلمين وأرضهم وفهمهم للدين تجزئة ناتجة عن الانفصام الأعلى، لا نضع موضع الشك سلامة الأمة المرحومة المرعية بعناية الله جل وعلا. بل يؤكد استمرارها في الوجود وما كتب لها من انتصارات ومساهمات في تحرير بني الإنسان من عبادة الأوثان وقهر الحدثان هذه السلامة الجوهرية التي لم يلوثها التلويث المخزي فساد الحكم، ولم يحطم سفينتها الانكسار التاريخي، ولم يخل انحسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن ساحة الحكم بالوظائف الحيوية لنفي الخبث عن المجتمع، ولم يمنع غياب الشورى في القمة عن وجود اجتهاد في القاعدة، ولم يقض الظلم الاجتماعي المترتب عن الظلم السياسي على المسلمين بإسلامهم دين العدل والإحسان.
هذه القوة الماسكة الحافظة هي عناية الله تعالى بهذه الأمة عناية تمثلت في الإيمان بالله وباليوم الآخر. كان الإيمان بالبعث والنشور وازعا قويا مشتركا عاصما من الانفلات إلى مثل ما نرى في عصرنا. كان الجو العام جو إيمان، وكان الرأي العام رأي إيمان، وكان للآخرة وحقائقها وجود في حياة الناس اليومية، في عباداتهم ومعاملاتهم.
مقاصد الشريعة كانت تفهم فهما ضمنيا أو يفصح عنها الفقيه الأصولي مثل أستاذنا الشاطبي فيستقر فهمها ويدور الإفصاح عنها حول مصالح الدنيا والآخرة، مجتمعة لا تتفرق، يفضى بعضها إلى بعض، ويوجه بعضها بعضا ويقومه.
يتحدث الشاطبي فيحسن، أحسن الله إليه، عن المقاصد الشرعية الضرورية فيقول : "فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج (أي فوضى وسفك للدماء) وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين".
الدنيا عندهم مبنية على الآخرة، والآخرة محمولة على الدنيا، تضمن الشريعة وتطبيقها مصالح العباد في شمولية لا تعرف الانقسام.
التحليل التاريخي الذي لا ينظر إلا بعين واحدة، نظرة عوراء دنيوية غابت عنها الآخرة، يحاكم تاريخ المسلمين إلى شمولية سياسية اجتماعية اقتصادية، يقيس بمعيار المادة في عالم الأسباب والمسببات، وهو عالم تجري أحكامه على الخلق أجمعين. هذا التحليل المادي الناقد يرسم في مقابل الماضي المنقود لوحة لمستقبل إسلامي أفرغ منه ذكر الآخرة وارتباط مصالحها بمصالح الدنيا. فإذا بالنموذج المقترح لمستقبل المسلمين نسخة بليدة من حاضر الحضارة الجاهلية، فيه التنمية والتصنيع، والإنتاج والتوزيع، وفيه "شورى" من نوع ما تشبه الديمقراطية، وعدالة ما تشبه الاشتراكية. وتغطي الألفاظ المسلمة أفكارا مطموسة لما عميت عن الآخرة قلوب الكتاب الحضاريين فطويت الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس وهي غاية عبادته، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المقصود بالعبادة معرفة الله في قوله تعالى : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
يكثر فيما يكتبه الإسلاميون في زماننا الحديث عن مقاصد الشريعة وتفوقها وتقدمها على أحدث القوانين البشرية بأربعة عشر قرنا، ويسرها، ومرونتها، وشموليتها. ويتمدد الخطاب التمجيدي ناسيا أن مقارنة شرع الله عز وجل بشرائع البشر نزول بالشرع من سماويته وعلويته إلى أرضية اختراعات الخلق وسوقيتها.
الحديث عن الأهداف الدنيوية التي يحققها الشرع مع إغفال الغاية الأخروية تشتت وضياع، بل تحريف للكلم عن مواضعه.
في هذا الباب نجد أسلافنا أهل جمع، يحق لنا أن نغبطهم على جمعهم ذاك وانحياشهم إلى الله جل وعلا، ولهجهم بذكره، وانصياعهم للمصير الأخروي، واستحضارهم له. في كل فقرة من كتاب مثل كتاب الشاطبي ذكر لله سبحانه، في كل فصل من فصوله ربط لأشغال الدنيا بأشغال الآخرة، في كل باب اجتهاد كلي لا يفصل أمر الدنيا عن أمر الآخرة.
هم كانوا أعلى مرصدا، كانت شموليتهم شاملة حقا، جامعة حقا، لأنها لم تضيع الغاية الأبدية جريا وراء الأهداف العابرة الغائبة ولم تسكت عن الآخرة تضخيما لشؤون الدنيا.
ضئيلة هي نظرة المقلدة الذين يقرأون علوم السلف، مثل علم أستاذنا، ليستدلوا منها على وجاهة "الحل الإسلامي" و"البديل الإسلامي" إن كان لا يتعدى مرمى بصرهم دار الفناء. تافهة هي حقيرة. وكأن الإسلام وشرعه مفتاح للدنيا، دال على الدنيا، خادم للدنيا، داع إلى مصالح العباد في الدنيا. وهم عن الآخرة غافلون.
كان الأحباب سلفنا الصالح يعضون بالنواجذ على ما تبقى بين أيديهم من عرى الإسلام بعد انفصام العروة الحُكْمية ونقضها. فكانوا بسكوتهم المكره، أو المجتهد على درجة ما من التقدير، أنزل رتبة من "الجيل القرآني" جيل الصحابة المؤسسين وجيل التابعين الراشدين مع الخلفاء المهديين رضي الله عنهم أجمعين.
[1] الآية ( 79) من سورة النساء.
[2] من حديث متفق عليه من رواية الامام علي كرم الله وجهه.
[3] الآية (35) من سورة النحل.
[4] الآية (47) من سورة يس.
يقول الشاطبي الإمام في أول "كتاب المقاصد" وهو جوهر كتابه "الموافقات" وفَصُّه : "و المقاصد التي ينظر فيها قسمان : أحدهما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف". وفي مقدمة تفصيله لهذه الجملة ذكر المؤلف رحمه الله بمسلمة جعلها مقدمة لكل مناقشاته في الكتاب وهي : " أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا". العاجل الدنيا والآجل الآخرة. في عصرنا هذا، والمسلمون منهزمون فكريا كما هم منهزمون عسكريا (وحيى الله أسد الجهاد في أفغانستان، لولاهم لنسينا أن فينا رجالا البتة)، يكثر الكتاب من الحديث عن مقاصد الشريعة ومن ضمنها "حفظ الدين" ليقدم الكاتب المدافع عن "الأصالة الإسلامية" نصوصه وحجته على أن الإسلام دين مصلحة وحضارة. ثم يمضي في مقارنته التفصيلية بين شرائع الإسلام والشرائع الوضعية،كل ذلك على مستوى الحياة الدنيا، ناسيا ذكر الآخرة والبعث والحشر والموقف والميزان والجنة والنار، طاويا عنها الكشح، خجولا عن سرد "الغيبيات" في معرض تقاس فيه مصالح العباد بالأرقام والإحصاء والكم واللذة و"السعادة" ومستوى المعيشة وأنماط التنمية ومردودية الاستثمار ومصادر التمويل واستراتيجيات التصنيع. يغطي هذا الفيلق من "الأشياء" على بصر من يرى من تحت التحت إلى إسلامه، ويغطي على بصيرته، فإذا إسلامه مذهب اقتصادي سياسي أو ما شئت من تصنيفات العصر. وإذا الآخرة سراب، لا حساب ولا عقاب، والأمر أنف كما كان يقول الجاهليون الأولون. وقد يكون لعارض الإسلام الكاتب المفكر الباحث المنبهر "بأشياء" العصر إيمان بالله واليوم الآخر ينطوي على بصيص منه، لا يكاد يبين عنه، فهو أشبه أن يحسب من باطنية الزمان لشدة تخفيه وتكتمه كأن ما يضمره بدعة وضلالة.
جفت الكتب "الإسلامية" من ذكر الآخرة نعوذ بالله، وتسطحت على سوق المفاضلة في المصالح وضماناتها بين قوانين جاءت من شرق يؤمن بالوحي والرسالات وغرب وضعي مصلحي طلق ذلك الإيمان. احذف كل إشارة إلى الوحي وغيبياته لتحظى بمصداقية عند قرائك. وسلام على الدعوة ! وسلام على الدين !
إن كان في خطاب عالم القرن الثامن ترسبات وتحفظات وسكوت، فما بلغ تأثير الفتنة أن يغيب ذكر الله وذكر الآخرة والجزاء، ولا أن يسكت عنه، ولا أن يستغني عن التذكير به، مسلمة ثابتة معرفة المسلمين بالمسلمة. كانوا رجال دعوة وإيمان، وإن غلب طابع الفقهية القانونية على أسلوب العرض.
فهذه مزية يفضلوننا بها لأنهم كانوا يرمقون من أعلى الإيمان بالله والثقة به ثقة مستعلية على الكفر رغم ما كانوا يعيشون من عيش غير هنيء في كنف الحكم الفاسد والعقل المتجمد.
مقاصد الشرع في رأي الشاطبي ترجع عند النظر إلى قصد الشارع وقصد المكلف. نتركه لتفريعاته الوافية الضافية وفى الله له ونقف نحن وقفات نطل فيها من إزاء القرآن والسنة على تلك الساحة.
وقفة أولى لنميز بين قصد الله الكوني وقصده الشرعي. قضاء الله جل شأنه قصد سابق في أزله، واقع لا محالة بقدر. إرادة مدبر حكيم شاء أن تكون الدنيا دار امتحان، أسئلة هذا الامتحان عويصة، الأجوبة عنها من كسبك أنت المخلوق "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك." [1] هلك القدرية لما عطلوا القضاء الإلهي، وهلك الجبرية لما أنكروا اختيار العبد، وهلك المرجئة لما لم يرتبوا على الكسب ما رتبه القرآن من جزاء.
أما قصد الله تعالى الشرعي فهو أمره ونهيه كما جاء في القرآن والسنة. أمر ونهي تعتريهما أحكام الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهية، أو يوسع سبحانه على عباده بالإباحة والعفو.
قصدان يلتقيان بحكمة في ملك الله وملكوته، لا دخل للعباد في الملكوت وإن كانت لأفعالهم الصالحة أو الطالحة نتائج هناك في صحف الكرام الكاتبين وفي زيادة الله هدى للذين اهتدوا وضلالة لمن ارتكسوا في الفتنة. ونقف وقفة لتأمل قصد المكلف، قصده بالنية والتوجه الصادقين أو الفاسدين إلى مولاه خالقه ورازقه يحدد مكانته الأصلية عند الله : إما مسلم مؤمن، أو مشرك كافر، أو منافق يتردى أسفل سافلين. والقصد الثاني يكون بالأعمال الفرعية صالحة أو سيئة. لكل منها جزاؤه، منها ما يوجب سخط الله ولا يخلد مسلم في النار، ومنها ما يقرب إلى الله العلي القدير في درجات الجنة إلى حيث الوجوه الناضرة إلى ربها ناظرة.
قصد المكلف بالقلب والتصديق، أو الإعراض عنه وتكذيب رسله هذه عقيدة وهي الأصل. وهي معقد السعادة أو الشقاء في الدار الآخرة مهما كانت مشقات الطريق في الدنيا أمام المسلم، "ومكتسبات" المتاع في الدنيا في يد الكافر.
نقف هنا وقفة أخرى لنشير إلى انحراف، ذات اليمين أو ذات الشمال، عن الجادة السالكة بالمؤمن في الدنيا وكل أمره عجب. المؤمن الضعيف يستطيع أن يفوز في الدار الآخرة ولو هرب إلى قمة جبل يعبد الله ويذر الناس من شره. أما المؤمن القوي فيحرص على امتلاك "مكتسبات" في الدنيا يطلب الكفاية وتعطي أمته القوة. وأما الهالك الزائغ ذات الشمال عن جادة الإيمان فهو الذي يطلب الدنيا بالآخرة، أو تلهيه "المكتسبات" الدنيوية عن نفسه وعن الله حتى يضيع منه القصد الاعتقادي والقصد العملي فإذا هو يجري ندّاً لندٍّ في حلبة السياسة والاقتصاد والتنمية، لا يذكر على هذه المطالب الضرورية للأمة اسم الله ليصبح جريه جهادا يحبه الله.
ونقف بعد هذا لنسأل أين يلتقي قصد الشارع بقصد المكلف، بل أين ينبغي أن يلتقيا ليحصل العبد على مصالحه موفورة في الدنيا مدخرة له في دار الكرامة ؟ قضاء الله تعالى ماض إلى قدره، أطاع المكلفون أم عصوا، آمنوا أوكفروا، شاؤوا أم أبوا، إن أعرضت مقاصدهم بالنية عن أمر الله الشرعي فأمره الكوني يرغم أعمالهم على مراد الله فيهم. "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" [2] هكذا نطق الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقاء السعادة والتوفيق هو أن يطابق قصد المكلف بالنية وبتوجهه بالعمل أمر الله ورسوله الشرعي، مهما كانت النتائج القدرية فالعبد راض، ما دام لم يقصر في واجب فرضه الله عليه، ما دام مستغفرا لذنبه وخطئه في الاجتهاد.
عندما كنا نناقش منذ حين الأسباب التي جعلت سلفنا الصالح رضي الله عنهم يسمعون ويطيعون لملوك العض، وكان الفاسدون المفسدون الذين ظهر هلاك الأمة على أيديهم، ذكرنا أن مواقع القدر في تاريخ المسلمين أُطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بها وأوصى معها بالسمع والطاعة ليكون لقاء أعمال المسلمين بإرادة الملك القهار عز وجل لقاء رحمة وحفظ. وهم كانوا مأجورين زادهم الله من فضله، مأجورٌ من سكت، مأجور من خالفه في التقدير فتكلم، مأجور من اجتهد بصدق في أسلوب تغيير المنكر فقام فحمل السلاح، أو هرب إلى الجبل والخلوة، إن شاء الله.
لقاء كان على قدر، والنيات كانت تفيض إخلاصا لله تعالى، والأعمال جادة، والتفاعل مع الأحداث حيا. لم يكن الاستسلام غير المشروط والتستر وراء القدر المهيمن إلا من حظ جبرية العقيدة أو جبرية الخوف. والجبريتان كثيرا ما تتساندان وتبرر إحداهما الأخرى. ولأمر ما نجد "التقدميين" الاشتراكيين منهم والقوميين في زماننا يلهجون بذكر المعتزلة القدرية، يمتدحون عقلانيتهم وثوريتهم. هذا زيغ معاصر عن الجادة، زيغ ذات الشمال دفعت إليه في زحمة الاضطراب الذي وقعت فيه الأمة بعد اندثار الشورى والعدل والإحسان دوافع البحث بأي ثمن عن وسيلة لإنكار الدين وحربه. فأي حفظ للدين نحتاج ؟ بل أي طلب يلزمنا والدين غريب محاصر ؟
من جبرية هذا الزمان، وهم جبرية قعود وخمول وجبن لا غير، من تسأله : "أما تحب أن يكون للإسلام دولة وأن يكون الدين كله لله ؟ " فيجيب : "بلى وألف كرامة !". فإذا سألته لم لا تضع يدك في يدنا لنتعاون على إقامة دين الله ؟ أجاب بأن الله قادر لو شاء على إظهار ما تتعبون أنفسكم فيه. الكفرة لعنهم الله قالوا كما حكى القرآن الكريم ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء﴾ [3] وكأن لسان حال الكافرين بنعمة الله من قاعدي الجبن يردد ما قاله من قبل من قص الله تعالى علينا إمساكهم حيث قال : ﴿وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين﴾ [4] .
كانت نياتهم رحمهم الله تفيض إخلاصا لله تعالى. هذا هو الظن بالقرون الفاضلة الثلاثة الأولى وبكل سلفنا الصالح من بعدهم. ما كانت الزندقة ولا العقائد البدعية ولا حواشي الحكام المغردين بأناشيد النفاق إلا هوامش على أطراف مجتمع فاضل في مجموعه ملتف حول أهل الخير من العلماء العالمين.
التفافه ذاك وصمود أهل الخير في وجه الحاكمين بالهوى حفظ الله عز وجل بهما مقاصد الشريعة من التلف. وحفظها بتقوى المتقين وإيمان الكافة باليوم الآخر وبرب العالمين.
إننا إذ نتكلم عن الانكسار التاريخي، وعن نقض عروة الحكم في وقت مبكر، وعن انحسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعيدا عن ساحة الحكم الوراثي العاض، وعن التجزئة في عقل المسلمين وأرضهم وفهمهم للدين تجزئة ناتجة عن الانفصام الأعلى، لا نضع موضع الشك سلامة الأمة المرحومة المرعية بعناية الله جل وعلا. بل يؤكد استمرارها في الوجود وما كتب لها من انتصارات ومساهمات في تحرير بني الإنسان من عبادة الأوثان وقهر الحدثان هذه السلامة الجوهرية التي لم يلوثها التلويث المخزي فساد الحكم، ولم يحطم سفينتها الانكسار التاريخي، ولم يخل انحسار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن ساحة الحكم بالوظائف الحيوية لنفي الخبث عن المجتمع، ولم يمنع غياب الشورى في القمة عن وجود اجتهاد في القاعدة، ولم يقض الظلم الاجتماعي المترتب عن الظلم السياسي على المسلمين بإسلامهم دين العدل والإحسان.
هذه القوة الماسكة الحافظة هي عناية الله تعالى بهذه الأمة عناية تمثلت في الإيمان بالله وباليوم الآخر. كان الإيمان بالبعث والنشور وازعا قويا مشتركا عاصما من الانفلات إلى مثل ما نرى في عصرنا. كان الجو العام جو إيمان، وكان الرأي العام رأي إيمان، وكان للآخرة وحقائقها وجود في حياة الناس اليومية، في عباداتهم ومعاملاتهم.
مقاصد الشريعة كانت تفهم فهما ضمنيا أو يفصح عنها الفقيه الأصولي مثل أستاذنا الشاطبي فيستقر فهمها ويدور الإفصاح عنها حول مصالح الدنيا والآخرة، مجتمعة لا تتفرق، يفضى بعضها إلى بعض، ويوجه بعضها بعضا ويقومه.
يتحدث الشاطبي فيحسن، أحسن الله إليه، عن المقاصد الشرعية الضرورية فيقول : "فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج (أي فوضى وسفك للدماء) وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين".
الدنيا عندهم مبنية على الآخرة، والآخرة محمولة على الدنيا، تضمن الشريعة وتطبيقها مصالح العباد في شمولية لا تعرف الانقسام.
التحليل التاريخي الذي لا ينظر إلا بعين واحدة، نظرة عوراء دنيوية غابت عنها الآخرة، يحاكم تاريخ المسلمين إلى شمولية سياسية اجتماعية اقتصادية، يقيس بمعيار المادة في عالم الأسباب والمسببات، وهو عالم تجري أحكامه على الخلق أجمعين. هذا التحليل المادي الناقد يرسم في مقابل الماضي المنقود لوحة لمستقبل إسلامي أفرغ منه ذكر الآخرة وارتباط مصالحها بمصالح الدنيا. فإذا بالنموذج المقترح لمستقبل المسلمين نسخة بليدة من حاضر الحضارة الجاهلية، فيه التنمية والتصنيع، والإنتاج والتوزيع، وفيه "شورى" من نوع ما تشبه الديمقراطية، وعدالة ما تشبه الاشتراكية. وتغطي الألفاظ المسلمة أفكارا مطموسة لما عميت عن الآخرة قلوب الكتاب الحضاريين فطويت الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس وهي غاية عبادته، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المقصود بالعبادة معرفة الله في قوله تعالى : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
يكثر فيما يكتبه الإسلاميون في زماننا الحديث عن مقاصد الشريعة وتفوقها وتقدمها على أحدث القوانين البشرية بأربعة عشر قرنا، ويسرها، ومرونتها، وشموليتها. ويتمدد الخطاب التمجيدي ناسيا أن مقارنة شرع الله عز وجل بشرائع البشر نزول بالشرع من سماويته وعلويته إلى أرضية اختراعات الخلق وسوقيتها.
الحديث عن الأهداف الدنيوية التي يحققها الشرع مع إغفال الغاية الأخروية تشتت وضياع، بل تحريف للكلم عن مواضعه.
في هذا الباب نجد أسلافنا أهل جمع، يحق لنا أن نغبطهم على جمعهم ذاك وانحياشهم إلى الله جل وعلا، ولهجهم بذكره، وانصياعهم للمصير الأخروي، واستحضارهم له. في كل فقرة من كتاب مثل كتاب الشاطبي ذكر لله سبحانه، في كل فصل من فصوله ربط لأشغال الدنيا بأشغال الآخرة، في كل باب اجتهاد كلي لا يفصل أمر الدنيا عن أمر الآخرة.
هم كانوا أعلى مرصدا، كانت شموليتهم شاملة حقا، جامعة حقا، لأنها لم تضيع الغاية الأبدية جريا وراء الأهداف العابرة الغائبة ولم تسكت عن الآخرة تضخيما لشؤون الدنيا.
ضئيلة هي نظرة المقلدة الذين يقرأون علوم السلف، مثل علم أستاذنا، ليستدلوا منها على وجاهة "الحل الإسلامي" و"البديل الإسلامي" إن كان لا يتعدى مرمى بصرهم دار الفناء. تافهة هي حقيرة. وكأن الإسلام وشرعه مفتاح للدنيا، دال على الدنيا، خادم للدنيا، داع إلى مصالح العباد في الدنيا. وهم عن الآخرة غافلون.
كان الأحباب سلفنا الصالح يعضون بالنواجذ على ما تبقى بين أيديهم من عرى الإسلام بعد انفصام العروة الحُكْمية ونقضها. فكانوا بسكوتهم المكره، أو المجتهد على درجة ما من التقدير، أنزل رتبة من "الجيل القرآني" جيل الصحابة المؤسسين وجيل التابعين الراشدين مع الخلفاء المهديين رضي الله عنهم أجمعين.
[1] الآية ( 79) من سورة النساء.
[2] من حديث متفق عليه من رواية الامام علي كرم الله وجهه.
[3] الآية (35) من سورة النحل.
[4] الآية (47) من سورة يس.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
بإزاء القرآن
إن ارتفعنا بإزاء القرآن وقارنَّا بأهل القرآن يبدو لنا المسلمون الذين عانوا من بعدهم ما عانوا واجمين تحت ظلة أظلمها ذهاب الشورى، وكدَّرها انعدام العدل، وسوَّدها استتار أهل الإحسان وهروبهم من الميدان.
لكن مقلدة العصر الذين لا ترقى بهم الهمم إلى الاقتباس المباشر من كتاب الله وسنة رسوله، والذين يجعلون بينهم وبين منبع الهدى ومبعث النور رجالا كان لهم في زمانهم غناء رغم البلاء، تختلط عليهم المجالات، وتتفرع بهم السبل، فلا يكادون يهتدون سبيلا، تائهين بين مفاهيم العصر المادية، ملفقين منها ومن اجتهادات مضت. يُلبسون أفكار الغرب سرابيل إسلامية ويجردون أقوال السلف من معناها وشموليتها، فهم من تحت التحت، أنَّى يصرفون !
عبر الإمام الشاطبي رحمه الله عن ذات صَدْر تلك الأجيال الصالحة بصلاح جمعها لِهَمِّ الدنيا مع همِّ الآخرة حينما صاغ فهمه لمقاصد الشريعة مستعملا كلمة "حفظ". كان معهم رحمهم الله شيء يستحق في نظرهم أن يُحفظ.
نحن في زماننا نقدر أن ما ضاع منا كثير وأن ما بقي آئل إلى ضياع إن لم ننهض للطلب، طلب الإسلام كله، طلب الإيمان بشعبه، طلب الخلافة على منهاج النبوة، طلب الشورى والعدل والإحسان.
لنتركْ مساءلتهم أحسن الله إلينا وإليهم عن عرى الإسلام التي لم يقوموا لإعادة بنائها بعدما نقضت، فإن في معلناتهم التي عبر عنها الشاطبي في مقدمة كتابه وخاتمته لَكلاماً بليغا يفسر تحفظهم وسكوتهم عن أشياء وزفراتهم المكتومة تكاد تلفح من وراء القرطاس. ولنتتبع تقسيمهم لمقاصد الشريعة لنكتشف في كل موقع دعوا إلى حفظه مضيعة يجب علينا طلبها ولينفتح لنا باب الفهم لمطالب أخرى لم تخطر لهم على بال لأنها في نظرهم كانت حاصلة. منها توحيد الأمة مثلا.
فهم كانوا يعيشون وحدة شعوب جمعها الإسلام لا تكاد تشعر بالتفرقة التي فرقتها الإمارات السَّيْفية، واللغة والسحنة والقطر. لم يكن يقدح في وحدتهم تلك وجود خلافات مذهبية يعيشون صراعاتها الكلامية أو العنيفة داخل إطار الوحدة لا خارجه. ما كانوا ليتصورا ما فعلته بنا الدولة القومية القطرية وتمزقات وتجزئات فرضها الاستعمار بعد ذهاب شوكة الإسلام العثمانية.
قال الشاطبي رحمه الله "والحفظ لها (يعني حفظ مقاصد الشريعة) يكون بأمرين، أحدهما ما يقيم أركانها وتثبت قواعده ويحفظ وجوده بالمحافظة على أصول "العبادات" كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك". وعنده جانب ثان من مقاصد الشريعة سماه "العادات"، وترجع إلى "حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك". وعنده جانب "المعاملات"، وهي "راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات".
ألفنا في زمننا تقسيمات العصر إلى مجالات منها الديني والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وليس تقسيم علمائنا رحمهم الله أقل شمولية ولا أقل جدارة بالاعتبار، ومن الإنصاف المحض أن نحكم بأن تقسيماتهم كانت أوفى وأدق وأحكم لأنها تدخل في معادلاتها الإنسانَ فتجعله مركز الدائرة، إلى مصلحته في الدنيا والآخرة يرجع كل شيء من أشياء الحياة وأنظمتها وصناعتها. لا جرم يكون ذلك كذلك وفي مقدمة اهتمام الفقيه الأصولي "حفظ الدين". ومن واجب حفظ الدين، وفي خدمة حفظ الدين، تتفرع واجبات حفظ النفس والعقل، وحفظ النسل والمال.
خارطتان تمثل إحداهما مخطط الجاهلية وبرنامجها، في خاناتها الثقافة والدين كما يفهم الدين الجاهليون، والسياسة والاقتصاد، والاجتماع. وتمثل الأخرى مقاصد الإسلام، ومطالبه في إقامة الدين، وتثبيت أقدام الإنسان في الأرض، آمِناً على نفسه وماله ونسله، متزنا في عقله، مستعدا للرحيل بخطى مطمئنة من الدنيا وامتحانها إلى الآخرة ونعيمها. ضع الخارطة الأولى على وجه الثانية، فربما يغطي الاقتصاد و"علم النفس" وعلم الطب وسياسة الإسكان وسياسة الحكم والضمان الاجتماعي في الخارطة الأولى بعضا أو كثيرا من أقسام "العادات" و"المعاملات" في الخارطة الثانية. وتبقى مساحة شاسعة لا تمتد خارطة الجاهلية لتغطيتها هي مساحة معنى وجود الإنسان، مساحة الآخرة والمصير إليها وعلاقة هذا المصير بسلوك الإنسان واستقامته، ورفقه لا عنفه، وبذله لا أنانيته، وعطائه لا تبذيره، وأخلاقية الرحمة بالخلق وإطعام المساكين لا وحشية الاستهلاك الباذخ والمستضعفون في الأرض يموتون جوعا.
أين تقع الديمقراطية وهي عصارة التجربة الإنسانية من الشورى وهي تنزيل العزيز الحكيم لخلقه لولا أن الديمقراطية واقع يتمتع بإنسانيته غيرنا ويمثله مسرحا هزليا حكامنا، ولولا أن الشورى نظام غائب ومطلب عزيز دون تحقيقه أشواط من الجهاد ؟
تقع "الديمقراطية ـ الواقع" من "الشورى ـ المطلب" في رياض القرطاس وفي تأملات الكاتب موقع التحدي الفكري. لكنها في حياة الأمة تحد حيوي، يضيع الدين وتضيع الأمة إن استمر الاستبداد العاض. ويُطَلِّق الناس الدين لاعتناق دين الديمقراطية لأن من معاني "الحريات العامة" ضمان كرامة الفرد وتحلله من كل قيد يكبح شهواته. تحد قاتل، فإما ديمقراطية إنسانية دوابية إباحية وإما شورى يكون بها أمرنا على جادة الدين.
كان علماؤنا حتى في القرن الثامن في أندلس الطوائف يتكلمون من موقع استعلاء حضاري. لم يكن أمامهم أي تحد معنوي يصول عليهم بتفوق نموذجه. لذلك كان حفظ ما عندهم غاية سُؤْلهم.
نتساءل نحن أين تقع "الاشتراكية ـ الواقع" وهي عصارة التجربة الإنسانية من العدل الذي أمر به الله جل شأنه عبادة وألحَّ في الأمر ؟ أين تقع الاشتراكية الواقع، الاشتراكية النموذج المعروض الذي تغري الدولة العظمى السوفياتية التائبة من تجربتها الاشتراكية باقتنائه، الاشتراكية المفتاح السحري لمشاكل العالم المختلف، من العدل الإسلامي ـ المطلب ؟
أمن الديمقراطية نبدأ، وإذن لا نصل إلى الاشتراكية. أم نفرضها اشتراكية، وإذن فهو استبداد حزب باسم طبقة، فلا حرية. أو نجعلها اشتراكية ديمقراطية نقلد في تلفيقها مجتمعات ثرية مصنعة تعيش في بحبوحة ونحن هَمَل فقراء، أيديهم وعقولهم صناعٌ، ونحن عقولنا وأيدينا الخرق بعينه ؟
بأي ثمن من ديننا وكياننا نشتري ديمقراطية جاهزة أو نُدخل خلسة اشتراكية مستوردة نفرضها بعد بالحديد والنار ؟
أين تقع الإنسية الجاهلية و"حقوق الإنسان" والأخلاق والفلسفة والفنون، وهي واقع هناك، من الإحسان وهو مطلب كامن في قلوب المؤمنين بالله وباليوم الآخر غائب عن واقع المسلمين ؟
كيف الطلب لكل ذلك ؟ من يطلب ؟ وممن يطلب ومع من يطلب ؟ وضد من يطلب ؟
أسئلة ما طرحها، وأنى له، من يردد عبارات الأجداد الداعية إلى حفظ المقاصد الخمس الضرورية : حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال. يردد ويفرع، بعناد وتبلد، وكأن الدين حاكم سلطانه في بلاد المسلمين، و"العادات" مستقرة حيث تركها الأولون آمنة من عاديات الزمن، و"المعاملات" منتظمة على ما قرروه. تحفظ على ماذا إذن يا فقيهُ وتحافظ ؟
إن ارتفعنا بإزاء القرآن وقارنَّا بأهل القرآن يبدو لنا المسلمون الذين عانوا من بعدهم ما عانوا واجمين تحت ظلة أظلمها ذهاب الشورى، وكدَّرها انعدام العدل، وسوَّدها استتار أهل الإحسان وهروبهم من الميدان.
لكن مقلدة العصر الذين لا ترقى بهم الهمم إلى الاقتباس المباشر من كتاب الله وسنة رسوله، والذين يجعلون بينهم وبين منبع الهدى ومبعث النور رجالا كان لهم في زمانهم غناء رغم البلاء، تختلط عليهم المجالات، وتتفرع بهم السبل، فلا يكادون يهتدون سبيلا، تائهين بين مفاهيم العصر المادية، ملفقين منها ومن اجتهادات مضت. يُلبسون أفكار الغرب سرابيل إسلامية ويجردون أقوال السلف من معناها وشموليتها، فهم من تحت التحت، أنَّى يصرفون !
عبر الإمام الشاطبي رحمه الله عن ذات صَدْر تلك الأجيال الصالحة بصلاح جمعها لِهَمِّ الدنيا مع همِّ الآخرة حينما صاغ فهمه لمقاصد الشريعة مستعملا كلمة "حفظ". كان معهم رحمهم الله شيء يستحق في نظرهم أن يُحفظ.
نحن في زماننا نقدر أن ما ضاع منا كثير وأن ما بقي آئل إلى ضياع إن لم ننهض للطلب، طلب الإسلام كله، طلب الإيمان بشعبه، طلب الخلافة على منهاج النبوة، طلب الشورى والعدل والإحسان.
لنتركْ مساءلتهم أحسن الله إلينا وإليهم عن عرى الإسلام التي لم يقوموا لإعادة بنائها بعدما نقضت، فإن في معلناتهم التي عبر عنها الشاطبي في مقدمة كتابه وخاتمته لَكلاماً بليغا يفسر تحفظهم وسكوتهم عن أشياء وزفراتهم المكتومة تكاد تلفح من وراء القرطاس. ولنتتبع تقسيمهم لمقاصد الشريعة لنكتشف في كل موقع دعوا إلى حفظه مضيعة يجب علينا طلبها ولينفتح لنا باب الفهم لمطالب أخرى لم تخطر لهم على بال لأنها في نظرهم كانت حاصلة. منها توحيد الأمة مثلا.
فهم كانوا يعيشون وحدة شعوب جمعها الإسلام لا تكاد تشعر بالتفرقة التي فرقتها الإمارات السَّيْفية، واللغة والسحنة والقطر. لم يكن يقدح في وحدتهم تلك وجود خلافات مذهبية يعيشون صراعاتها الكلامية أو العنيفة داخل إطار الوحدة لا خارجه. ما كانوا ليتصورا ما فعلته بنا الدولة القومية القطرية وتمزقات وتجزئات فرضها الاستعمار بعد ذهاب شوكة الإسلام العثمانية.
قال الشاطبي رحمه الله "والحفظ لها (يعني حفظ مقاصد الشريعة) يكون بأمرين، أحدهما ما يقيم أركانها وتثبت قواعده ويحفظ وجوده بالمحافظة على أصول "العبادات" كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك". وعنده جانب ثان من مقاصد الشريعة سماه "العادات"، وترجع إلى "حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك". وعنده جانب "المعاملات"، وهي "راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا، لكن بواسطة العادات".
ألفنا في زمننا تقسيمات العصر إلى مجالات منها الديني والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وليس تقسيم علمائنا رحمهم الله أقل شمولية ولا أقل جدارة بالاعتبار، ومن الإنصاف المحض أن نحكم بأن تقسيماتهم كانت أوفى وأدق وأحكم لأنها تدخل في معادلاتها الإنسانَ فتجعله مركز الدائرة، إلى مصلحته في الدنيا والآخرة يرجع كل شيء من أشياء الحياة وأنظمتها وصناعتها. لا جرم يكون ذلك كذلك وفي مقدمة اهتمام الفقيه الأصولي "حفظ الدين". ومن واجب حفظ الدين، وفي خدمة حفظ الدين، تتفرع واجبات حفظ النفس والعقل، وحفظ النسل والمال.
خارطتان تمثل إحداهما مخطط الجاهلية وبرنامجها، في خاناتها الثقافة والدين كما يفهم الدين الجاهليون، والسياسة والاقتصاد، والاجتماع. وتمثل الأخرى مقاصد الإسلام، ومطالبه في إقامة الدين، وتثبيت أقدام الإنسان في الأرض، آمِناً على نفسه وماله ونسله، متزنا في عقله، مستعدا للرحيل بخطى مطمئنة من الدنيا وامتحانها إلى الآخرة ونعيمها. ضع الخارطة الأولى على وجه الثانية، فربما يغطي الاقتصاد و"علم النفس" وعلم الطب وسياسة الإسكان وسياسة الحكم والضمان الاجتماعي في الخارطة الأولى بعضا أو كثيرا من أقسام "العادات" و"المعاملات" في الخارطة الثانية. وتبقى مساحة شاسعة لا تمتد خارطة الجاهلية لتغطيتها هي مساحة معنى وجود الإنسان، مساحة الآخرة والمصير إليها وعلاقة هذا المصير بسلوك الإنسان واستقامته، ورفقه لا عنفه، وبذله لا أنانيته، وعطائه لا تبذيره، وأخلاقية الرحمة بالخلق وإطعام المساكين لا وحشية الاستهلاك الباذخ والمستضعفون في الأرض يموتون جوعا.
أين تقع الديمقراطية وهي عصارة التجربة الإنسانية من الشورى وهي تنزيل العزيز الحكيم لخلقه لولا أن الديمقراطية واقع يتمتع بإنسانيته غيرنا ويمثله مسرحا هزليا حكامنا، ولولا أن الشورى نظام غائب ومطلب عزيز دون تحقيقه أشواط من الجهاد ؟
تقع "الديمقراطية ـ الواقع" من "الشورى ـ المطلب" في رياض القرطاس وفي تأملات الكاتب موقع التحدي الفكري. لكنها في حياة الأمة تحد حيوي، يضيع الدين وتضيع الأمة إن استمر الاستبداد العاض. ويُطَلِّق الناس الدين لاعتناق دين الديمقراطية لأن من معاني "الحريات العامة" ضمان كرامة الفرد وتحلله من كل قيد يكبح شهواته. تحد قاتل، فإما ديمقراطية إنسانية دوابية إباحية وإما شورى يكون بها أمرنا على جادة الدين.
كان علماؤنا حتى في القرن الثامن في أندلس الطوائف يتكلمون من موقع استعلاء حضاري. لم يكن أمامهم أي تحد معنوي يصول عليهم بتفوق نموذجه. لذلك كان حفظ ما عندهم غاية سُؤْلهم.
نتساءل نحن أين تقع "الاشتراكية ـ الواقع" وهي عصارة التجربة الإنسانية من العدل الذي أمر به الله جل شأنه عبادة وألحَّ في الأمر ؟ أين تقع الاشتراكية الواقع، الاشتراكية النموذج المعروض الذي تغري الدولة العظمى السوفياتية التائبة من تجربتها الاشتراكية باقتنائه، الاشتراكية المفتاح السحري لمشاكل العالم المختلف، من العدل الإسلامي ـ المطلب ؟
أمن الديمقراطية نبدأ، وإذن لا نصل إلى الاشتراكية. أم نفرضها اشتراكية، وإذن فهو استبداد حزب باسم طبقة، فلا حرية. أو نجعلها اشتراكية ديمقراطية نقلد في تلفيقها مجتمعات ثرية مصنعة تعيش في بحبوحة ونحن هَمَل فقراء، أيديهم وعقولهم صناعٌ، ونحن عقولنا وأيدينا الخرق بعينه ؟
بأي ثمن من ديننا وكياننا نشتري ديمقراطية جاهزة أو نُدخل خلسة اشتراكية مستوردة نفرضها بعد بالحديد والنار ؟
أين تقع الإنسية الجاهلية و"حقوق الإنسان" والأخلاق والفلسفة والفنون، وهي واقع هناك، من الإحسان وهو مطلب كامن في قلوب المؤمنين بالله وباليوم الآخر غائب عن واقع المسلمين ؟
كيف الطلب لكل ذلك ؟ من يطلب ؟ وممن يطلب ومع من يطلب ؟ وضد من يطلب ؟
أسئلة ما طرحها، وأنى له، من يردد عبارات الأجداد الداعية إلى حفظ المقاصد الخمس الضرورية : حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال. يردد ويفرع، بعناد وتبلد، وكأن الدين حاكم سلطانه في بلاد المسلمين، و"العادات" مستقرة حيث تركها الأولون آمنة من عاديات الزمن، و"المعاملات" منتظمة على ما قرروه. تحفظ على ماذا إذن يا فقيهُ وتحافظ ؟
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
الاجتهاد وتحقيق المناط
ذكر دليلنا الحكيم في مسالك الأصول الإمام الشاطبي أعلى الله درجته أن أركان مصالح الدنيا والدين تقوم، وأن قواعد المقاصد الشرعية تثبت، بمراعاتها " من جانب الوجود"، وذلك بالمحافظة على "العبادات" مثل النطق بالشهادتين والصلاة وسائر الفرائض، وبالمحافظة على النفس والعقل بما يحقق لهما الضروريات من "عادات" مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وبالمحافظة على النسل والمال من خلال المحافظة على " المعاملات " التي تلتقي في شروطها وأهدافها مع "العادات".
الحفظ من "جانب الوجود" عبارة عن الأعمال الإيجابية المكلف بها العباد والمضطر إليها كل أفراد المجتمع في حياتهم اليومية والاقتصادية والتجارية والمالية والأسرية الاجتماعية. داخل كل ذلك تحت جناح "العبادات" التي بها يحفظ الدين.
الحفظ " من جانب الوجود " بالعادات والمعاملات عبارة عن اتخاذ كل الوسائل المشروعة المبلغة إلى الأهداف الدنيوية بما فيها الأمن من العوز والخوف، والعافية في النفس والعقل، والاطمئنان في المأوى والحياة الزوجية الاجتماعية. وسائل دنيوية يقننها الشرع تضمن الوصول إلى الأهداف الدنيوية، أهداف الأمن والاستقرار والسلامة من الهموم المادية. وتأتي "العبادات"، وهي أعمال لا دخل للعباد في وضعها ولا في مناقشتها، فتكسو السعي في الأرض وتدبير المعاش معنى وتعطيه روحا. تعطيه معنى بتوجيهيه إلى الغاية الأخروية، وتعطيه روحا بإيقاظ قلب المؤمن إلى حقيقة ما خلق من أجله، ألا وهو العبودية لله تعالى وابتغاء فضله وجنته ورضاه ووجهه الكريم.
إن تصفيف المقاصد الشرعية تصفيفا أفقيا هكذا الواحد تلو الأخر، (حفظ الدين حفظ النفس، حفظ العقل الخ) يغيب عن الترتيب النوعي بين الوسائل والأهداف الدنيوية وبين الغاية الأخروية. وذلك تفويت مخل بكل مقاصد الشرع، ولئن كان المجتهدون في أزمنة سبقتنا يستغنون عن الإلحاح في هذا الباب بالإشارة لحضورهم وحضور مجتمعهم المتشبع بالدين مع الله عز وجل ومع الآخرة، فإن المجتهدين في أزمنتنا جديرون أن يصنفوا المقاصد بصفتها مطالب لها أولوياتها وبينها ارتباطات، يجب أن تتضافر كلها لتوفير الضرورات البدنية والنفسية والاجتماعية للعبد حتى يتفرغ العبد للجهاد إلى ربه في سبيل ربه.
ويذكر شيخنا الشاطبي رحمه الله أصلا رابعا من أصول المقاصد هو أصل "الجنايات". إلى جانب "العبادات" و"العادات" و"المعاملات" التي تحفظ المقاصد "من جانب الوجود" تأتي "الجنايات" التي تحفظها "من جانب العدم"، قال بأن مراعاة المقاصد من جانب العدم يعني حفظها من "الاختلال الواقع أو المتوقع فيها". ويجمع تحت اصطلاح "الجنايات" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نلمس في عبارة المؤلف رحمه الله المجملة المقتضية أن حصر " الجنايات " في دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التفات عن تعيين مصدر الجناية الكبرى على مقاصد الشرع ألا وهو الحكم إذا كان الحكم فاسدا غير شوري ولا عادل ولا إحساني. جناية الأفراد على الدين ومقومات الدين يعالجها القضاء والحسبة واليقظة العامة. وهذه الثلاثة من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن جناية الدولة على الدعوة ومروق النظام الحاكم من الدين أو من مقتضياته الأساسية كالشورى والعدل والإحسان إخلال فاحش يتعاظم أن يتعرض له القضاء أو تحاسبه الحسبة أو ينكره الآمرون بالمعروف إن لم يكن هؤلاء الآمرون قوة جماعية سياسية يرفضون الحكم العاض والجبري ويتظاهرون على إقامة دين الله بإقامة الخلافة على منهاج النبوة.
التفات من فقيه فردي نوازلي مغمى عليه ؟ كلا فصاحبنا رضي الله عنه واسع الأفق عميق النظر. لكن ما الحيلة والواقع ثقيل والحفاظ على ماهو كائن ارتكاب لأخف الضررين ؟
عند الأصوليين عبارة جارية هي "تحقيق المناط". وتحقيق المناط هو : "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي". وفي تعريف الأصوليين عامة هو : "أن يقع الاتفاق على علية وصف بنص أو بإجماع"، لا نحب أن نزاحم أهل الاختصاص أيدهم الله في توجيه العبارات الفنية الدقيقة. فنقول بلغة عامة بسيطة بأن تحقيق المناط هو فهم الواقع لمعرفة مواقع الأمر والنهي الشرعيين وتنزيلهما فيه. هو تطبيق الشرع على الواقع، تغيير الواقع ليطابق الشرع، معالجة الواقع ليحكمه الشرع لا الهوى. بدون هذا الفهم وهذا التنزيل وهذا التطبيق تبقى الشريعة نظرية عائمة في الفضاء، "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد (الاجتهاد في تحقيق المناط) لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن".
كان الاجتهاد فيما مضى قضية فردية، كان إسلام المكلفين فرديا تحت مظلة شوكة الإسلام، فتطابق اجتهاد المفتي والقاضي مع اهتمام المسلمين كل في خويصة نفسه أو مشاكله في دوائر محصورة. كان المجتهد مدفوعا عن دائرة الأمر العام، دائرة الحكم، معزولا عن شؤون الدولة وجباية المال وتسيير الجيوش وتدبير السياسة. فإن أبدى المجتهد رأيه في " السياسة الشرعية " فإنما هو آمر بالمعروف ناه عن المنكر من خارج وفي حدود لا ينبغي أن يتعداها. وإن كان قاضيا عاما مثل أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أو أقضى القضاة مثل الماوردي اتسعت معرفته بالواقع بحكم مشاركته من أعلى دون أن تتسع سلطته بما يمكنه من تغيير هذا الواقع.
في دولة الخلافة على منهاج النبوة يجب أن يكون الاجتهاد قضية جماعية، شورية. استفحل الواقع، وتفاقمت مشاكله، وأمعن في الشرود عن الدين، وتجاوز كل ما ورثناه من فقه حتى أصبح مناط الأحكام فيه لا يكاد يبين. من أين نمسك الواقع لندخله في حوزة الشرع، كيف نراوده، كيف نرغمه، كيف نتدرج إلى تطويعه ؟ لا يستطيع المجتهد الفرد أن ينهض لذلك وحده مهما كان تمكنه من علوم الشريعة. لا بد من إشراك ذوي الاختصاصات المتنوعة، لابد من معاهد ترعاها الدولة الإسلامية يوم لا تكون الدولة جانية على الدين، يوم تكون دولة الشورى والعدل والإحسان.
[color:e40c=#fff]
ذكر دليلنا الحكيم في مسالك الأصول الإمام الشاطبي أعلى الله درجته أن أركان مصالح الدنيا والدين تقوم، وأن قواعد المقاصد الشرعية تثبت، بمراعاتها " من جانب الوجود"، وذلك بالمحافظة على "العبادات" مثل النطق بالشهادتين والصلاة وسائر الفرائض، وبالمحافظة على النفس والعقل بما يحقق لهما الضروريات من "عادات" مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات، وبالمحافظة على النسل والمال من خلال المحافظة على " المعاملات " التي تلتقي في شروطها وأهدافها مع "العادات".
الحفظ من "جانب الوجود" عبارة عن الأعمال الإيجابية المكلف بها العباد والمضطر إليها كل أفراد المجتمع في حياتهم اليومية والاقتصادية والتجارية والمالية والأسرية الاجتماعية. داخل كل ذلك تحت جناح "العبادات" التي بها يحفظ الدين.
الحفظ " من جانب الوجود " بالعادات والمعاملات عبارة عن اتخاذ كل الوسائل المشروعة المبلغة إلى الأهداف الدنيوية بما فيها الأمن من العوز والخوف، والعافية في النفس والعقل، والاطمئنان في المأوى والحياة الزوجية الاجتماعية. وسائل دنيوية يقننها الشرع تضمن الوصول إلى الأهداف الدنيوية، أهداف الأمن والاستقرار والسلامة من الهموم المادية. وتأتي "العبادات"، وهي أعمال لا دخل للعباد في وضعها ولا في مناقشتها، فتكسو السعي في الأرض وتدبير المعاش معنى وتعطيه روحا. تعطيه معنى بتوجيهيه إلى الغاية الأخروية، وتعطيه روحا بإيقاظ قلب المؤمن إلى حقيقة ما خلق من أجله، ألا وهو العبودية لله تعالى وابتغاء فضله وجنته ورضاه ووجهه الكريم.
إن تصفيف المقاصد الشرعية تصفيفا أفقيا هكذا الواحد تلو الأخر، (حفظ الدين حفظ النفس، حفظ العقل الخ) يغيب عن الترتيب النوعي بين الوسائل والأهداف الدنيوية وبين الغاية الأخروية. وذلك تفويت مخل بكل مقاصد الشرع، ولئن كان المجتهدون في أزمنة سبقتنا يستغنون عن الإلحاح في هذا الباب بالإشارة لحضورهم وحضور مجتمعهم المتشبع بالدين مع الله عز وجل ومع الآخرة، فإن المجتهدين في أزمنتنا جديرون أن يصنفوا المقاصد بصفتها مطالب لها أولوياتها وبينها ارتباطات، يجب أن تتضافر كلها لتوفير الضرورات البدنية والنفسية والاجتماعية للعبد حتى يتفرغ العبد للجهاد إلى ربه في سبيل ربه.
ويذكر شيخنا الشاطبي رحمه الله أصلا رابعا من أصول المقاصد هو أصل "الجنايات". إلى جانب "العبادات" و"العادات" و"المعاملات" التي تحفظ المقاصد "من جانب الوجود" تأتي "الجنايات" التي تحفظها "من جانب العدم"، قال بأن مراعاة المقاصد من جانب العدم يعني حفظها من "الاختلال الواقع أو المتوقع فيها". ويجمع تحت اصطلاح "الجنايات" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نلمس في عبارة المؤلف رحمه الله المجملة المقتضية أن حصر " الجنايات " في دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التفات عن تعيين مصدر الجناية الكبرى على مقاصد الشرع ألا وهو الحكم إذا كان الحكم فاسدا غير شوري ولا عادل ولا إحساني. جناية الأفراد على الدين ومقومات الدين يعالجها القضاء والحسبة واليقظة العامة. وهذه الثلاثة من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن جناية الدولة على الدعوة ومروق النظام الحاكم من الدين أو من مقتضياته الأساسية كالشورى والعدل والإحسان إخلال فاحش يتعاظم أن يتعرض له القضاء أو تحاسبه الحسبة أو ينكره الآمرون بالمعروف إن لم يكن هؤلاء الآمرون قوة جماعية سياسية يرفضون الحكم العاض والجبري ويتظاهرون على إقامة دين الله بإقامة الخلافة على منهاج النبوة.
التفات من فقيه فردي نوازلي مغمى عليه ؟ كلا فصاحبنا رضي الله عنه واسع الأفق عميق النظر. لكن ما الحيلة والواقع ثقيل والحفاظ على ماهو كائن ارتكاب لأخف الضررين ؟
عند الأصوليين عبارة جارية هي "تحقيق المناط". وتحقيق المناط هو : "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي". وفي تعريف الأصوليين عامة هو : "أن يقع الاتفاق على علية وصف بنص أو بإجماع"، لا نحب أن نزاحم أهل الاختصاص أيدهم الله في توجيه العبارات الفنية الدقيقة. فنقول بلغة عامة بسيطة بأن تحقيق المناط هو فهم الواقع لمعرفة مواقع الأمر والنهي الشرعيين وتنزيلهما فيه. هو تطبيق الشرع على الواقع، تغيير الواقع ليطابق الشرع، معالجة الواقع ليحكمه الشرع لا الهوى. بدون هذا الفهم وهذا التنزيل وهذا التطبيق تبقى الشريعة نظرية عائمة في الفضاء، "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد (الاجتهاد في تحقيق المناط) لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن".
كان الاجتهاد فيما مضى قضية فردية، كان إسلام المكلفين فرديا تحت مظلة شوكة الإسلام، فتطابق اجتهاد المفتي والقاضي مع اهتمام المسلمين كل في خويصة نفسه أو مشاكله في دوائر محصورة. كان المجتهد مدفوعا عن دائرة الأمر العام، دائرة الحكم، معزولا عن شؤون الدولة وجباية المال وتسيير الجيوش وتدبير السياسة. فإن أبدى المجتهد رأيه في " السياسة الشرعية " فإنما هو آمر بالمعروف ناه عن المنكر من خارج وفي حدود لا ينبغي أن يتعداها. وإن كان قاضيا عاما مثل أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أو أقضى القضاة مثل الماوردي اتسعت معرفته بالواقع بحكم مشاركته من أعلى دون أن تتسع سلطته بما يمكنه من تغيير هذا الواقع.
في دولة الخلافة على منهاج النبوة يجب أن يكون الاجتهاد قضية جماعية، شورية. استفحل الواقع، وتفاقمت مشاكله، وأمعن في الشرود عن الدين، وتجاوز كل ما ورثناه من فقه حتى أصبح مناط الأحكام فيه لا يكاد يبين. من أين نمسك الواقع لندخله في حوزة الشرع، كيف نراوده، كيف نرغمه، كيف نتدرج إلى تطويعه ؟ لا يستطيع المجتهد الفرد أن ينهض لذلك وحده مهما كان تمكنه من علوم الشريعة. لا بد من إشراك ذوي الاختصاصات المتنوعة، لابد من معاهد ترعاها الدولة الإسلامية يوم لا تكون الدولة جانية على الدين، يوم تكون دولة الشورى والعدل والإحسان.
[color:e40c=#fff]
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
الاستنباط في خدمة القصد
قال الإمام الشاطبي رحمه الله : "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (...). وأما الثاني (أي التمكن من الاستنباط) فهو كالخادم للأول".
كانت عدالة العلماء وتقواهم وإيمانهم بالله رب العالمين واعتصامهم بشريعته أمرا مسلما. لذلك لم يتحدث الشيخ إلا عن فهم المقاصد وعن التمكن من الاستنباط، وهما كفاءتان عقليتان. في زماننا كثر المنافقون عليمو اللسان، لذلك نسبق شرط أن يكون المجتهدون الشوريون المتشاورون من أهل الإيمان والإحسان. لا نأخذ إيمانهم أمرا مسلما حتى نعرف ذلك عنهم ببرهان الصدق نقتضيه منهم على محك الأيام والأحداث والصبر على الجهاد.
لكيلا ننزلق إلى متاهات "الإسلام السياسي" يلزم أن نحقق مناط التكليف بتنفيذ مقاصد الشريعة، ذمة الفرد المسلم كانت مناطا لتكليف زمان التفتت والإسلام الفردي كما نظر لذلك علماء ذلك العصر. قال أستاذنا : "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان : أحدهما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف".
نعم مسؤولية الفرد في آخر المطاف هي المعتبرة لأنه يأتي ربه يوم القيامة فردا، ويحاسب على أعماله هل طابقت مقاصد الشرع نية وتنفيذا، لا تزر وازرة وزر أخرى. لكن أين جماعة المسلمين المخاطبة في القرآن بيايها الذين آمنوا، المكلفة بحمل رسالة الولاية الجهادية بين المهاجرين والأنصار ؟ أين ذهبت بنايتها مع الأجيال وكيف تفتتت، و"الجنايات" الفردية استجابة لحاجات إسلام فردي ؟
إن مسؤولية الاجتهاد واستنباط أحكام شرعية لهذا الزمان، ولمصالح الأمة في هذا الزمان وهذه الظروف، لا يمكن أن يتحملها إلا جماعة المسلمين. لا تزال هذه الجماعة مشروعا في ضمير الأمة يسعى لتحقيقه رجال الدعوة وفقهم الله. المكلف الفرد مهدد إن عاش في مجتمع مفتون في دينه ونفسه وعقله ونسله وماله. لا يستطيع حفظ شيء من ذلك لا من "جانب الوجود" ولا من "جانب العدم".
فيكون بناء جماعة المسلمين لبنة لبنة حتى وحدة المسلمين كافة عبر حدود الأقطار الموروثة عن فتنة القرون وعن الاستعمار هو المطلب الأساسي في تصنيفنا للمطالب الشرعية. "قصد الشارع وقصد المكلف" تعبير تجريدي فرداني. الجماعة الداعية إلى الله الساعية لبناء مجتمع إسلامي موحد وحكم شوري وعدل وإحسان بها يناط الجهاد لتحقيق المقاصد الشرعية، تؤمن بها الجماعة وتحملها وتقاتل من أجلها وتطلب بالمال والنفس تحقيقها. ويأتي الاجتهاد حيا مواكبا لحركة حية، ممهدا في المجال الفقهي لتقدم الركب الإيماني الذي رباه الإحسان، وحركه الغضب لله، وربط على قلبه حب الله ورسوله، وأطربه نحو الأهداف والغاية موعود الله الذي لا يتخلف بالخلافة على منهاج النبوة وبالسعادة في دار البقاء.
العضوية في جماعة من جماعات الدعوة، ثم جماعة المسلمين الموحدة العالمية، جاد الله لنابها بكرمه، شرط في المجتهدين أهل الشوري والعدل والإحسان.
إن من سبقونا بإيمان، غفر الله لنا ولهم وألحقنا بهم على سرر متقابلين، رتبوا المقاصد العليا وحصروها في خمسة مقاصد اتفقوا على وجوب الحفاظ عليها : حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل حفظ النسل حفظ المال. زاد بعض المتأخرين حفظ العرض. لا نفتات على اتفاقهم رحمهم الله ولا ننازع. لكن نرجع إلى تأصيلاتهم ناظرين إليها من إزاء القرآن والسنة، ناظرين إليها أيضا من زاوية واقعنا وظروفنا وما يتاح لنا من طلب كانت أبوابه موصدة في عصور الابتلاء القدرى بالعض والجبر والنصيحة النبوية بلزوم السمع والطاعة حفاظا على بيضة الإسلام أن تشدخ فيموت الرأس، وعلى شوكة الإسلام أو تخضد فيرعى الحمى.
من إزاء القرآن العظيم ومن زاوية ظروفنا وضروراتنا نرى إنشاء جماعة منظمة تكون دعوة وتؤسس دولة الخلافة هو أبو المقاصد والشرط الأول لتنفيذها. ابحث عن منفذ قوي أمين قبل أن تدخل في نقاش عملية التنفيذ.
التربية والتنظيم وذكر الله والصدق والتزود بالعلم النافع، علم الحق المنزل الموحى به وعلم الواقع وعلم الكون، مقومات ضرورية منها تستمد الجماعة الإيمان والقوة والأمانة على شرع الله ومقاصده.
الإحسان والإيمان، يتحلى بهما الفرد المجاهد الطالب ربه، هو الغاية. في أعلى سلم المطالب (مقاصد الشريعة) الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
في الدرج المؤدي إلى الغاية نجد مرتبة لأهداف هي من الدنيا، لكن تكسب الاعتبار الشرعي من كونها وسائل للغاية الدينية الأخروية. تكسب الاعتبار من كون الدنيا مطية المؤمن وزاده للآخرة. روى الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب عن عبيد الله بن محصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". إسناده حسن كما أشار السيوطي رحمه الله في الجامع الصغير.
أرأيت كيف انزرعت الحياة اليومية في المقاصد الشرعية لما سمعنا عنها من لسان الوحي ؟ خواطب المكلف بعافيته، خواطب بأمنه، بقوته، بدنياه وهمومها ليتفرغ لآخرته وإلى الجهاد من أجلها في سبيل الله.
ما قننه علماؤنا الأبرار في صيغة التجريد في باب "العادات" و"المعاملات"، أي في مقاصد حفظ النفس والعقل والنسل والمال، نجده في الحديث النبوي مشخصا في الزمان (من أصبح... قوت يومه) والمكان والجماعة (في سربه) والبدن.
هذه المطالب والأهداف الدنيوية، المؤدية إذا حيزت إلى الغاية، لا تتحقق إلا في مجتمع يأخذ فيه الكم والإحصاء والإنتاج والتوزيع والعدل في كل ذلك المكان الشرعي.
ينقلب سلم القيم في يد بعضهم فإذا عنده نظرية تقول بأن الإسلام أقصر طريق إلى التنمية والازدهار الاقتصادي. وإذا الدين وسيلة والاقتصاد غاية. وإذا الدنيا تنسى الآخرة.
رحم الله علماءنا، إن تأسينا بهم في الاعتصام بالإيمان والإحسان فلن يبعدونا عن القرآن الذي لا يفهمه بعضهم إلا مدونة حضارية ومرجعا فكريا. يسيل من هذا الفكر الخائب على بعض الأدمغة المتحدثة باسم الإسلام سائل الغفلة عن الله وعن الدار الآخرة لا حول ولا قوة إلا بالله.
لابد للتنمية والاقتصاد والإنتاج والتوزيع والكم والإحصاء أن تأخذ مكانها الشرعي، في مقدمة المطالب، في مرتبة الأهداف الدنيوية المسهلة لرحلة المؤمن والمؤمنة إلى ربهما.
والعدل كلمة جامعة ومطلب أساسي في عصر أصبحت فيه قسمة الأرزاق وإنتاجها وتمويل عملية التنمية وتنظيم ذلك تحديا قاتلا في وجه الأمة. إن كان الإحسان رائدا فلا مخافة من الزيغ، لكن يلح السؤال على المجتهدين الأصوليين وعلى المفكرين لمعرفة النظام الأقرب إلى الإسلام : الرأسمالية أو الاشتراكية. إسلام رأسمالي ؟ اشتراكي ؟ نسكت عن العدل في القسمة كما سكت الأولون فتيار الرأسمالية يجرفك. تتحدث عن العدل والظلم الطبقي فتوصم بأنك شيوعي يختبئ في عباءة الإسلام.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله : "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (...). وأما الثاني (أي التمكن من الاستنباط) فهو كالخادم للأول".
كانت عدالة العلماء وتقواهم وإيمانهم بالله رب العالمين واعتصامهم بشريعته أمرا مسلما. لذلك لم يتحدث الشيخ إلا عن فهم المقاصد وعن التمكن من الاستنباط، وهما كفاءتان عقليتان. في زماننا كثر المنافقون عليمو اللسان، لذلك نسبق شرط أن يكون المجتهدون الشوريون المتشاورون من أهل الإيمان والإحسان. لا نأخذ إيمانهم أمرا مسلما حتى نعرف ذلك عنهم ببرهان الصدق نقتضيه منهم على محك الأيام والأحداث والصبر على الجهاد.
لكيلا ننزلق إلى متاهات "الإسلام السياسي" يلزم أن نحقق مناط التكليف بتنفيذ مقاصد الشريعة، ذمة الفرد المسلم كانت مناطا لتكليف زمان التفتت والإسلام الفردي كما نظر لذلك علماء ذلك العصر. قال أستاذنا : "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان : أحدهما يرجع إلى قصد الشارع، والآخر يرجع إلى قصد المكلف".
نعم مسؤولية الفرد في آخر المطاف هي المعتبرة لأنه يأتي ربه يوم القيامة فردا، ويحاسب على أعماله هل طابقت مقاصد الشرع نية وتنفيذا، لا تزر وازرة وزر أخرى. لكن أين جماعة المسلمين المخاطبة في القرآن بيايها الذين آمنوا، المكلفة بحمل رسالة الولاية الجهادية بين المهاجرين والأنصار ؟ أين ذهبت بنايتها مع الأجيال وكيف تفتتت، و"الجنايات" الفردية استجابة لحاجات إسلام فردي ؟
إن مسؤولية الاجتهاد واستنباط أحكام شرعية لهذا الزمان، ولمصالح الأمة في هذا الزمان وهذه الظروف، لا يمكن أن يتحملها إلا جماعة المسلمين. لا تزال هذه الجماعة مشروعا في ضمير الأمة يسعى لتحقيقه رجال الدعوة وفقهم الله. المكلف الفرد مهدد إن عاش في مجتمع مفتون في دينه ونفسه وعقله ونسله وماله. لا يستطيع حفظ شيء من ذلك لا من "جانب الوجود" ولا من "جانب العدم".
فيكون بناء جماعة المسلمين لبنة لبنة حتى وحدة المسلمين كافة عبر حدود الأقطار الموروثة عن فتنة القرون وعن الاستعمار هو المطلب الأساسي في تصنيفنا للمطالب الشرعية. "قصد الشارع وقصد المكلف" تعبير تجريدي فرداني. الجماعة الداعية إلى الله الساعية لبناء مجتمع إسلامي موحد وحكم شوري وعدل وإحسان بها يناط الجهاد لتحقيق المقاصد الشرعية، تؤمن بها الجماعة وتحملها وتقاتل من أجلها وتطلب بالمال والنفس تحقيقها. ويأتي الاجتهاد حيا مواكبا لحركة حية، ممهدا في المجال الفقهي لتقدم الركب الإيماني الذي رباه الإحسان، وحركه الغضب لله، وربط على قلبه حب الله ورسوله، وأطربه نحو الأهداف والغاية موعود الله الذي لا يتخلف بالخلافة على منهاج النبوة وبالسعادة في دار البقاء.
العضوية في جماعة من جماعات الدعوة، ثم جماعة المسلمين الموحدة العالمية، جاد الله لنابها بكرمه، شرط في المجتهدين أهل الشوري والعدل والإحسان.
إن من سبقونا بإيمان، غفر الله لنا ولهم وألحقنا بهم على سرر متقابلين، رتبوا المقاصد العليا وحصروها في خمسة مقاصد اتفقوا على وجوب الحفاظ عليها : حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل حفظ النسل حفظ المال. زاد بعض المتأخرين حفظ العرض. لا نفتات على اتفاقهم رحمهم الله ولا ننازع. لكن نرجع إلى تأصيلاتهم ناظرين إليها من إزاء القرآن والسنة، ناظرين إليها أيضا من زاوية واقعنا وظروفنا وما يتاح لنا من طلب كانت أبوابه موصدة في عصور الابتلاء القدرى بالعض والجبر والنصيحة النبوية بلزوم السمع والطاعة حفاظا على بيضة الإسلام أن تشدخ فيموت الرأس، وعلى شوكة الإسلام أو تخضد فيرعى الحمى.
من إزاء القرآن العظيم ومن زاوية ظروفنا وضروراتنا نرى إنشاء جماعة منظمة تكون دعوة وتؤسس دولة الخلافة هو أبو المقاصد والشرط الأول لتنفيذها. ابحث عن منفذ قوي أمين قبل أن تدخل في نقاش عملية التنفيذ.
التربية والتنظيم وذكر الله والصدق والتزود بالعلم النافع، علم الحق المنزل الموحى به وعلم الواقع وعلم الكون، مقومات ضرورية منها تستمد الجماعة الإيمان والقوة والأمانة على شرع الله ومقاصده.
الإحسان والإيمان، يتحلى بهما الفرد المجاهد الطالب ربه، هو الغاية. في أعلى سلم المطالب (مقاصد الشريعة) الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
في الدرج المؤدي إلى الغاية نجد مرتبة لأهداف هي من الدنيا، لكن تكسب الاعتبار الشرعي من كونها وسائل للغاية الدينية الأخروية. تكسب الاعتبار من كون الدنيا مطية المؤمن وزاده للآخرة. روى الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب عن عبيد الله بن محصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". إسناده حسن كما أشار السيوطي رحمه الله في الجامع الصغير.
أرأيت كيف انزرعت الحياة اليومية في المقاصد الشرعية لما سمعنا عنها من لسان الوحي ؟ خواطب المكلف بعافيته، خواطب بأمنه، بقوته، بدنياه وهمومها ليتفرغ لآخرته وإلى الجهاد من أجلها في سبيل الله.
ما قننه علماؤنا الأبرار في صيغة التجريد في باب "العادات" و"المعاملات"، أي في مقاصد حفظ النفس والعقل والنسل والمال، نجده في الحديث النبوي مشخصا في الزمان (من أصبح... قوت يومه) والمكان والجماعة (في سربه) والبدن.
هذه المطالب والأهداف الدنيوية، المؤدية إذا حيزت إلى الغاية، لا تتحقق إلا في مجتمع يأخذ فيه الكم والإحصاء والإنتاج والتوزيع والعدل في كل ذلك المكان الشرعي.
ينقلب سلم القيم في يد بعضهم فإذا عنده نظرية تقول بأن الإسلام أقصر طريق إلى التنمية والازدهار الاقتصادي. وإذا الدين وسيلة والاقتصاد غاية. وإذا الدنيا تنسى الآخرة.
رحم الله علماءنا، إن تأسينا بهم في الاعتصام بالإيمان والإحسان فلن يبعدونا عن القرآن الذي لا يفهمه بعضهم إلا مدونة حضارية ومرجعا فكريا. يسيل من هذا الفكر الخائب على بعض الأدمغة المتحدثة باسم الإسلام سائل الغفلة عن الله وعن الدار الآخرة لا حول ولا قوة إلا بالله.
لابد للتنمية والاقتصاد والإنتاج والتوزيع والكم والإحصاء أن تأخذ مكانها الشرعي، في مقدمة المطالب، في مرتبة الأهداف الدنيوية المسهلة لرحلة المؤمن والمؤمنة إلى ربهما.
والعدل كلمة جامعة ومطلب أساسي في عصر أصبحت فيه قسمة الأرزاق وإنتاجها وتمويل عملية التنمية وتنظيم ذلك تحديا قاتلا في وجه الأمة. إن كان الإحسان رائدا فلا مخافة من الزيغ، لكن يلح السؤال على المجتهدين الأصوليين وعلى المفكرين لمعرفة النظام الأقرب إلى الإسلام : الرأسمالية أو الاشتراكية. إسلام رأسمالي ؟ اشتراكي ؟ نسكت عن العدل في القسمة كما سكت الأولون فتيار الرأسمالية يجرفك. تتحدث عن العدل والظلم الطبقي فتوصم بأنك شيوعي يختبئ في عباءة الإسلام.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
الجنايات
ومن أخبث الذراري الشيوعيين القوميين أولئك الذين لا يقطعون في خطابهم وشعاراتهم مع الإسلام، بل يتلبسون بالإسلام فيلبسون على الناس ولا كتلبيس إبليس.
تحدثنا في الفقرة السابقة عن المطلب الشرطي مطلب إنشاء جماعة المسلمين المنوط بها حمل الرسالة، وتحدثنا عن مطلب وحدة المسلمين، وعن ضرورة إنشاء الجماعة وتوحيد الأمة ليتأتى"حفظ الدين". وتحدثنا عن مطلب الأمن في السرب والعافية في البدن والكفاية في القوت، هذه المطالب التي تغطي جانب "العادات" و"المعاملات".
وتحدثنا عن كون الوسائل الاقتصادية في الإنتاج والتوزيع والتنمية والتصنيع ضروري اتخادها ليتأتى العدل، إذ بالعدل الموفي بالمطالب الدنيوية يستطيع العبد أن يتطلع إلى الغاية وهي الإحسان.
في هذه الفقرة نقف وقفة قبل أن نتعرض لما به تكون " مراعاة المقاصد الشرعية من جانب العدم "، أي بما يكون حفظها والدفاع عنها، وما " يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها. " في الفقرة المقبلة إن شاء الله نتحدث عن الشورى والدولة ومهامها في صيانة المطالب الشرعية.
الخلل الواقع في الدين ومقاصده من جراء تخاذل الدويلات العاضة، ومن جراء انهيار الإسلام الفردي الموروث أمام الاستعمار والغزو الفكري خلل فاحش.
ليست إشادتنا بعلمائنا الماضين، والتأكيد على صحة عقيدتهم وإيمانهم، اعتصاما بأذيال الأجداد هروبا من واقعنا. تمسكنا بذكرهم وبما أثلوه من اجتهاد نافع ومن قواعد علمية راسخة رصينة لا يكون حجابا بيننا وبين الينبوع الصافي : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويقرئه ويبين للناس ما أنزل إليهم. تمسكنا بذكرهم حفاظ لهم من أيدي زنادقة العصر المتلبسين بالإسلام، منهم واحد لا يهمنا شخصه وفكره في المقام الأول لكن يهمنا ما تفشيه كتاباته من النيات المبيتة ضد الدين، نيات يخفيها فلا تعرف المنافقين، أو يعرضها آخرون سافرة عارية جاهرة بعداء الإسلام فيكون انكشافها إيذانا لها بالموت لأن الأمة ترفض أعداء الدين.
لكن الزنادقة الملبسين، مثل صاحبنا الذي سأذكر اسمه واسم كتابه آخر الفقرة إن شاء الله، يتشبثون لفظا بالتراث ومخلفات الجدود، ويدعون دعوى عريضة بالاجتهاد وبتأسيس علم أصول مجدد. تيار زنديقي يسمى نفسه "اليسار الإسلامي"، صاحبنا أحد أساطينه، فاسمع.
قال في صفحة 7 : "... محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي كإديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تمدها بأسسها النظرية العامة، وتعطيها موجات السلوك".
وفي صفحة 11 يعلن عن أرضية مشروعه متحدثا عن التراث بوصفه : "ذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض".
في صفحة 16 يبين لقومه من طائفة الملبسين كيف يلتصقون بشعارات التراث الحي في ضمير الأمة بعد أن ماتت الإديولوجيات وفشلت وتعطلت، وكيف يغالبون أهل الإسلام على إمامة الجماهير : "التراث إذن مازال قيمة حية في وجدان العصر، يمكن أن يؤثر فيه (...). تجديد التراث هو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة، وقضاء على معوقات التطور والتنمية، والتمهيد لكل تغيير جذري للواقع. فهو عمل لابد للثوري من أن يقوم به وإلا ظل القديم شبحا ماثلا أمام الأعين يمثل أرواح الأسلاف التي تبعث من جديد (يقصد الحركة الإسلامية) تتربص بالأبناء شرا (أي الأرواح المتجددة في الصحوة الإسلامية) إذا هم خرجوا من جبتهم، ورفضوا سلطانهم، ولم يدينوا لهم بالطاعة والولاء، أو يقوم أنصار المحافظة والإبقاء على الأوضاع القائمة باستغلال هذا المخزون لصالحهم، وأخذ الجماهير من جانبهم، وقطع خط الرجعة على أنصار التغيير والتقدم، وسحب البساط من تحت أرجلهم". حديثه عن استعمال الأنظمة القائمة الجبرية واستغلالها للدين وتخديرها لحس الجماهير كلمة حق وردت في معرض باطل. إذ مقصوده قبل كل شيء الحركة الإسلامية الحية الفاعلة الناهضة.
يقول في صفحة 20 بأن التراث قضية وطنية وأن الدين ليس إلا جزءا من التراث. في صفحة 34 يؤكد على ضرورة صياغة إديولوجية "إسلامية" (هو وضع الكلمة بين هلالين) معتمدة على فكر المعتزلة "الإحيائي" (أنا وضعت الهلالين)، وعلى "استقلال العقل والإرادة" (أي عن الدين).
في صفحة 53 يصرح تصريحا شجاعا تقدميا ثوريا بأن : "الإلحاد بهذا المعنى (أي بمعنى التفرغ للعمل الثوري بدل الإيمان والاعتراف بالوحدانية والألوهية لرب العالمين) هو تحول للاختيار القديم (الاختيار القديم هو الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا) من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع، واختيار الطريق الصعب،طريق الشهادة (الماركسيون والملاحدة يسمون هلكاهم شهداء) (...). يكون الإلحاد هو انتقال من الصورة إلى المضمون، ومن الشكل إلى الجوهر". المضمون والجوهر عند أمثاله هو التنمية والاقتصاد والإنتاج والتوزيع ومحاربة الطبقية. فيا إخواني هل في إسلامنا، إسلام "الصورة" و"الشكل"، إسلام الإيمان بكامل شعبه، إسلام الإحسان بعالي رتبه، مكان لمضمون العدل وضرورياته المادية. أم نحن من صنف المجتهدين في ذكاة الحلزون حتى يجرفنا الإلحاد !
في صفحة 54 يبين الملحد الثوري أن الإنسان مستقل بعقله وإرادته، حر في تصرفه، مسؤول عن تحقيق العدل الاجتماعي. ويمضي في صفحة 55 ليبين أن العلمانية مكتسب أساسي لأنها تجعل الإنسان وحده محور كل شيء : " العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض (الشكل دائما هو الدين يجب أن يرمي به والمضمون والجوهر هو المطالب الثورية التقدمية المادية الأرضية) وإلى الصدق دون النفاق وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته وإلى الإنسان دون غيره (غيره هو الله تعالى). العلمانية إذن هي أساس الوحي. فالوحي علماني في جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، هكذا يعتقد فراخ إبليس تلامذة ماركس. وترتفع حمى الإلحاد، ويستعر شعار الكفر فيصطف الكاتب الفيلسوف مع طابور الباحثين الشاكين النافين لوجود الله تعالى : "ومازالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ الله. وكلما أمعنت في البحث ازدادت الآراء تشعبا وتضاربا. فكل عصر يضع من روحه في اللفظ (معناه : الله من صنع التاريخ جل الله وتعالى) ويعطي من بنائه للمعنى. وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات. فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيا هو الحب... الله هو الإشباع... هو " صرخة المضطهدين"... هو العلم... هو التقدم... هو الأرض... هو التحرر، والتنمية والعدل... هو الخبز والرزق، والقوت، والإرادة والحرية" أستغفر الله من حكاية الكفر.
في سياق تال يسرد الكاتب الألفاظ الدالة على المعاني المتخلفة التي يجب القضاء عليها. في صفحة 98 : "واللغة القديمة لغة دينية تسودها ألفاظ تشير إلى موضوعات دينية مثل : دين، ورسول، ومعجزة ونبوة. وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها للعصر الحاضر".
في صفحة 99 يقترح الفيلسوف المجدد إلغاء حتى كلمة إسلام : " فلفظ "التحرر" هو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون "الإسلام" أكثر من اللفظ القديم".
في صفحة 103 يقترح الدكتور حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد" (الطبعة الأولى 1981 دار التنوير) التعامل مع "لغة العقل" أي دين الإلحاد بدل التعامل والإيمان بلغة الدين ومعاني الدين : "اللغة العقلية هي التي يفهمها كل الناس بلا شرح أو تعليق أو سؤال أو استفسار (...) فالعمل، والحرية، والشورى والطبيعة، والعقل كلها ألفاظ عقلية في علم التوحيد (...) أما ألفاظ الله، والجنة، والنار، والآخرة، والحساب، والعقاب، والصراط والميزان، والحوض فهي ألفاظ قطعية صرفة لا يمكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل".
ألا ساء ما يزرون !
ومن أخبث الذراري الشيوعيين القوميين أولئك الذين لا يقطعون في خطابهم وشعاراتهم مع الإسلام، بل يتلبسون بالإسلام فيلبسون على الناس ولا كتلبيس إبليس.
تحدثنا في الفقرة السابقة عن المطلب الشرطي مطلب إنشاء جماعة المسلمين المنوط بها حمل الرسالة، وتحدثنا عن مطلب وحدة المسلمين، وعن ضرورة إنشاء الجماعة وتوحيد الأمة ليتأتى"حفظ الدين". وتحدثنا عن مطلب الأمن في السرب والعافية في البدن والكفاية في القوت، هذه المطالب التي تغطي جانب "العادات" و"المعاملات".
وتحدثنا عن كون الوسائل الاقتصادية في الإنتاج والتوزيع والتنمية والتصنيع ضروري اتخادها ليتأتى العدل، إذ بالعدل الموفي بالمطالب الدنيوية يستطيع العبد أن يتطلع إلى الغاية وهي الإحسان.
في هذه الفقرة نقف وقفة قبل أن نتعرض لما به تكون " مراعاة المقاصد الشرعية من جانب العدم "، أي بما يكون حفظها والدفاع عنها، وما " يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها. " في الفقرة المقبلة إن شاء الله نتحدث عن الشورى والدولة ومهامها في صيانة المطالب الشرعية.
الخلل الواقع في الدين ومقاصده من جراء تخاذل الدويلات العاضة، ومن جراء انهيار الإسلام الفردي الموروث أمام الاستعمار والغزو الفكري خلل فاحش.
ليست إشادتنا بعلمائنا الماضين، والتأكيد على صحة عقيدتهم وإيمانهم، اعتصاما بأذيال الأجداد هروبا من واقعنا. تمسكنا بذكرهم وبما أثلوه من اجتهاد نافع ومن قواعد علمية راسخة رصينة لا يكون حجابا بيننا وبين الينبوع الصافي : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويقرئه ويبين للناس ما أنزل إليهم. تمسكنا بذكرهم حفاظ لهم من أيدي زنادقة العصر المتلبسين بالإسلام، منهم واحد لا يهمنا شخصه وفكره في المقام الأول لكن يهمنا ما تفشيه كتاباته من النيات المبيتة ضد الدين، نيات يخفيها فلا تعرف المنافقين، أو يعرضها آخرون سافرة عارية جاهرة بعداء الإسلام فيكون انكشافها إيذانا لها بالموت لأن الأمة ترفض أعداء الدين.
لكن الزنادقة الملبسين، مثل صاحبنا الذي سأذكر اسمه واسم كتابه آخر الفقرة إن شاء الله، يتشبثون لفظا بالتراث ومخلفات الجدود، ويدعون دعوى عريضة بالاجتهاد وبتأسيس علم أصول مجدد. تيار زنديقي يسمى نفسه "اليسار الإسلامي"، صاحبنا أحد أساطينه، فاسمع.
قال في صفحة 7 : "... محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي كإديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تمدها بأسسها النظرية العامة، وتعطيها موجات السلوك".
وفي صفحة 11 يعلن عن أرضية مشروعه متحدثا عن التراث بوصفه : "ذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض".
في صفحة 16 يبين لقومه من طائفة الملبسين كيف يلتصقون بشعارات التراث الحي في ضمير الأمة بعد أن ماتت الإديولوجيات وفشلت وتعطلت، وكيف يغالبون أهل الإسلام على إمامة الجماهير : "التراث إذن مازال قيمة حية في وجدان العصر، يمكن أن يؤثر فيه (...). تجديد التراث هو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة، وقضاء على معوقات التطور والتنمية، والتمهيد لكل تغيير جذري للواقع. فهو عمل لابد للثوري من أن يقوم به وإلا ظل القديم شبحا ماثلا أمام الأعين يمثل أرواح الأسلاف التي تبعث من جديد (يقصد الحركة الإسلامية) تتربص بالأبناء شرا (أي الأرواح المتجددة في الصحوة الإسلامية) إذا هم خرجوا من جبتهم، ورفضوا سلطانهم، ولم يدينوا لهم بالطاعة والولاء، أو يقوم أنصار المحافظة والإبقاء على الأوضاع القائمة باستغلال هذا المخزون لصالحهم، وأخذ الجماهير من جانبهم، وقطع خط الرجعة على أنصار التغيير والتقدم، وسحب البساط من تحت أرجلهم". حديثه عن استعمال الأنظمة القائمة الجبرية واستغلالها للدين وتخديرها لحس الجماهير كلمة حق وردت في معرض باطل. إذ مقصوده قبل كل شيء الحركة الإسلامية الحية الفاعلة الناهضة.
يقول في صفحة 20 بأن التراث قضية وطنية وأن الدين ليس إلا جزءا من التراث. في صفحة 34 يؤكد على ضرورة صياغة إديولوجية "إسلامية" (هو وضع الكلمة بين هلالين) معتمدة على فكر المعتزلة "الإحيائي" (أنا وضعت الهلالين)، وعلى "استقلال العقل والإرادة" (أي عن الدين).
في صفحة 53 يصرح تصريحا شجاعا تقدميا ثوريا بأن : "الإلحاد بهذا المعنى (أي بمعنى التفرغ للعمل الثوري بدل الإيمان والاعتراف بالوحدانية والألوهية لرب العالمين) هو تحول للاختيار القديم (الاختيار القديم هو الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا) من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع، واختيار الطريق الصعب،طريق الشهادة (الماركسيون والملاحدة يسمون هلكاهم شهداء) (...). يكون الإلحاد هو انتقال من الصورة إلى المضمون، ومن الشكل إلى الجوهر". المضمون والجوهر عند أمثاله هو التنمية والاقتصاد والإنتاج والتوزيع ومحاربة الطبقية. فيا إخواني هل في إسلامنا، إسلام "الصورة" و"الشكل"، إسلام الإيمان بكامل شعبه، إسلام الإحسان بعالي رتبه، مكان لمضمون العدل وضرورياته المادية. أم نحن من صنف المجتهدين في ذكاة الحلزون حتى يجرفنا الإلحاد !
في صفحة 54 يبين الملحد الثوري أن الإنسان مستقل بعقله وإرادته، حر في تصرفه، مسؤول عن تحقيق العدل الاجتماعي. ويمضي في صفحة 55 ليبين أن العلمانية مكتسب أساسي لأنها تجعل الإنسان وحده محور كل شيء : " العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض (الشكل دائما هو الدين يجب أن يرمي به والمضمون والجوهر هو المطالب الثورية التقدمية المادية الأرضية) وإلى الصدق دون النفاق وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته وإلى الإنسان دون غيره (غيره هو الله تعالى). العلمانية إذن هي أساس الوحي. فالوحي علماني في جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، هكذا يعتقد فراخ إبليس تلامذة ماركس. وترتفع حمى الإلحاد، ويستعر شعار الكفر فيصطف الكاتب الفيلسوف مع طابور الباحثين الشاكين النافين لوجود الله تعالى : "ومازالت الإنسانية كلها تحاول البحث عن معنى للفظ الله. وكلما أمعنت في البحث ازدادت الآراء تشعبا وتضاربا. فكل عصر يضع من روحه في اللفظ (معناه : الله من صنع التاريخ جل الله وتعالى) ويعطي من بنائه للمعنى. وتتغير المعاني والأبنية بتغير العصور والمجتمعات. فالله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، وعند المحروم عاطفيا هو الحب... الله هو الإشباع... هو " صرخة المضطهدين"... هو العلم... هو التقدم... هو الأرض... هو التحرر، والتنمية والعدل... هو الخبز والرزق، والقوت، والإرادة والحرية" أستغفر الله من حكاية الكفر.
في سياق تال يسرد الكاتب الألفاظ الدالة على المعاني المتخلفة التي يجب القضاء عليها. في صفحة 98 : "واللغة القديمة لغة دينية تسودها ألفاظ تشير إلى موضوعات دينية مثل : دين، ورسول، ومعجزة ونبوة. وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها للعصر الحاضر".
في صفحة 99 يقترح الفيلسوف المجدد إلغاء حتى كلمة إسلام : " فلفظ "التحرر" هو اللفظ الجديد الذي يعبر عن مضمون "الإسلام" أكثر من اللفظ القديم".
في صفحة 103 يقترح الدكتور حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد" (الطبعة الأولى 1981 دار التنوير) التعامل مع "لغة العقل" أي دين الإلحاد بدل التعامل والإيمان بلغة الدين ومعاني الدين : "اللغة العقلية هي التي يفهمها كل الناس بلا شرح أو تعليق أو سؤال أو استفسار (...) فالعمل، والحرية، والشورى والطبيعة، والعقل كلها ألفاظ عقلية في علم التوحيد (...) أما ألفاظ الله، والجنة، والنار، والآخرة، والحساب، والعقاب، والصراط والميزان، والحوض فهي ألفاظ قطعية صرفة لا يمكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل".
ألا ساء ما يزرون !
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
الدعوة والدولة
أقصد بالدعوة رجال الطلب الحاملين هم الأمة الساعين لإقامة دين الله في الأرض تلبية للنداء القرآني : "يا أيها الذين آمنوا" المنوط بهم تحقيق مطالب الشريعة. وسواء كانت الدعوة منظمة تنظيما موحدا في الأقطار التجزيئية الموروثة أو كانوا جماعات تتعاون ريثما يزداد التقارب والتلاحم إلى وحدة ما، فإن واجب الدعوة إقامة الدولة الخلافية الموحدة ابتداء من دول إسلامية قطرية، ينظر في نوع النظام الأًصلح لربطها تدريجيا.
من مطالب الدعوة كشف المتلبسين بالإسلام الملبسين أمثال الدكتور الفيلسوف الملحد والرد عليهم. هذا نهي عن المنكر واجب في كل المراحل، لكن الدولة الإسلامية بعد بنائها هي الأداة الكفيلة بقطع لسان الأفاكين. لا أقصد قطع العضو الناطق، فليس قطع الألسنة من الحدود الشرعية، بل أقصد إسكات الأصوات النكراء. وللردة أحكامها الشرعية لابد أن تأخذ مجراها في دولة الإسلام.
إن مهمة الدعوة أن تنشئ الحياة الإسلامية وتشيد أركان الدين في المجتمع. أي أن ترعى المقاصد الشرعية في "العبادات" كما يعبر علماء الأصول. ومهمة الدعوة بعد أن تصبح الدولة بيدها، طوع إرادتها، أن تستصلح الوسائل المادية والمالية والتقنية والإدارية لخدمة المطالب الدنيوية. أي أن ترعى مقاصد الشرع "من جانب الوجود" في ميادين "العادات" و"المعاملات".
ومن أهم وظائف الدولة الإسلامية، عندما تكون أداة توجهها الدعوة، صيانة المطالب الإسلامية وحياطتها بأن : "تدرأ عنها الاختلال الواقع والمتوقع فيها".
إن إعادة العلاقات بين الدعوة والدولة إلى نصابها الإسلامي بعد هذه القرون التي استبد فيها السلطان العاض والجبري على القرآن مهمة تحتاج إلى جهاد القومة وتحتاج إلى اجتهاد. في ظل الحكم العاض كان علماؤنا يجتهدون وهم في حيز ضيق، لذلك سموا " جنايات " ذلك الجانب المهم من واجبات الدولة، جانب الدفاع عن حوزة الدين.
وكلوا حفظ المقاصد الشرعية كلها " من جانب العدم " إلى التكليف الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تصوروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا فرديا منوطا بذمة الفرد ولم يتصوره واجبا جماعيا وقد تفتت جماعة المسلمين في زمانهم تحت وطأة العض الوراثي والاستيلائي.
رأينا أن الاجتهاد لمستقبل الإسلام، مواكبا لإنشاء الأركان وإقامة الدولة، ينبغي أن يكون جماعيا شوريا يبتغي الإجماع ما أ مكن. بالتقليد من تحت لفكر من قبلنا وآرائهم لايمكن أن نبني إلا بناء تقليديا يجمد على النمط الموروث. وبإطلاق العنان لكل ناعق كما تطلق الأعنة أنظمة الفساد المتمسحة بالديمقراطية و" الحريات العامة " يبرز الدكاترة الزنادقة بالجديد الإلحادي. وبالانسلاخ من قواعد علم الأصول، هذا العلم الراسخ الرصين " عماد فسطاط العلم " كما قال الشوكاني، يبرز عاميون في العلم عاميون في العقيدة عاميون في حب الرئاسة ويتصدرون للفتوى والرئاسة، يزعم الواحد منهم وهو لا يقيم لسانه في قراءة حديث واحد أن حيازة الكتب الستة الحديثية شرط كاف للاجتهاد.
بالنظر من الموقع الضيق، موقع القاضي والمفتي في النوازل والمدرس التجريدي لا يمكن الاجتهاد الشمولي الأصولي معا القادر على تغطية الفضاء الواسع للمقاصد الشرعية، من حيث كونها مطالب لإنشاء أمر تلاشى والدفاع عن حوزة استبيحت، ومن حيث مناط التكليف الجماعي في الدعوة، ومن حيث سيادة الدعوة على الدولة، أي سيادة القرآن على السلطان لا العكس.
شروط علمائنا في المجتهد القادر على تفسير الأحكام التي وردت فيها نصوص قطعية الثبوت والدلالة، القادر على استنباط أحكام ظنية في غير ذلك بأدوات تقدير المصلحة القياسية العلية أو المصلحة المرسلة شروط صالحة، لا تزال، إن كملناها بشروط تمليها الاعتبارات السابق ذكرها فتدرجها تحت جنس عال من المطالب.
اجمعوا رحمهم الله واتفقوا على الشروط التالية، وإجماعهم على الرأس والعين. اتفقوا على أن المجتهد لابد أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، وأن يكون عارفا بمسائل الإجماع، وأن يكون عالما بلسان العرب، وأن يكون عالما بعلم أصول الفقه" عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه"، وأن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ. ثم اختلفوا في شروط أخرى، منها اشتراط العلم بالدليل العقلي، والعلم بعلم أصول الدين، والعلم بعلم الفروع لأن العلم بها وممارستها يعطي "الدربة" اللازمة، والعلم بعلم الجرح والتعديل ليشارك علماء الحديث ذوي المنة على أجيال المسلمين إلى يوم الدين جزاهم الله خير الجزاء، ومعرفة القياس بشروطه وأركانه لأن القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه.
لو اجتمعت كل هذه الشروط في رجل لما استطاع في عصرنا أن يحيط بالوسائل الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية. يلزمه فقه دقيق بهذه المقاصد وهي قد التبست في العقول وفترت في النيات وغابت في الواقع. كيف يصوغها مطالب، كيف يوقظ الأمة النائمة، كيف يكون حزب الله، كيف يربيه، كيف يزحف به إلى بناء الدين ثم حفظه "من جانب الوجود وجانب العدم" دعوة ودولة.
لا يكفي الواحد للمهام الاجتهادية ولا يقف واجب المجتهدين عند استنباط الحكم وتقنينه. لابد أن يكون أهل الاجتهاد من أهل الدعوة، من صميمها، ممن يحيون بها، ويتنفسون روحها، ويحملون همها، ويغضبون على "الاختلال الواقع والمتوقع فيها". إن كانوا أصحاب أوراق وكراريس ونصوص وتجريد وتقليد، إن كانوا عقولا تدور على ألسنة عليمة والقلب فارغ فلن يكونوا إلا طامة أخرى تأتي على الدين "من جانب العدم".
يلزم المجتهدين في غد الإسلام، بعد الشروط المعرفية والشروط الإيمانية، أن ينظروا من أعلى إلى الأمور، من جانب القرآن، والسلطان واقف بين يديه للخدمة، وأن ينظروا بعيدا إلى أفق وحدة الأمة وإقامة العدل والشورى، وحمل رسالة رب العالمين للعالمين. ومتى يكونون أهلا لذلك إن لم يكونوا من أهل الإحسان، بالمعنى العالي الواسع للإحسان كما نبسط الإحسان في كتاب " الإحسان إن شاء الله.
لم يكن فقهاؤنا جميعا ذوي رأي تجزيئي مسجونين في الدوائر الضيقة. فمن أفذاذهم الإمام الشاطبي رحمه الله الذي كان واسع الأفق بعيد مرمى النظر. نجده يندد بالحرفية الضيقة، ويصغر شأن الذين يدخلون أنفسهم في الاجتهاد " غلطا أو مغالطة" دون أن يشهد لهم أهل "الرتبة" بالاستحقاق. وقال : "وذليل ذلك (أي دليل أن الشرع اعتبر المقاصد وجاء بها) استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لايثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة".
ما أجمل هذا الكلام وأدقة وأعلاه ! أدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض تنتظم على أمر واحد. هذا هو الجمع الذي نطلبه لشتات الأذهان التي تستدل جهدها على تفرقة الأمة وتبديع الناس وذكاة الحلزون، بينما أهل الإلحاد يرفضون الله والنبوة والآخرة ليجمعوا حولهم غثاء المحرومين حول الأمر الثوري الجامع : الخبز والكرامة الإنسانية والإنتاج والتوزيع.
هذه كلمتي إليكم إخواني وأخواتي سائلا منكم ومن كل من يقرأها أن لا تنسوني من دعائكم، أحسن الله الكريم إلينا وإليكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أقصد بالدعوة رجال الطلب الحاملين هم الأمة الساعين لإقامة دين الله في الأرض تلبية للنداء القرآني : "يا أيها الذين آمنوا" المنوط بهم تحقيق مطالب الشريعة. وسواء كانت الدعوة منظمة تنظيما موحدا في الأقطار التجزيئية الموروثة أو كانوا جماعات تتعاون ريثما يزداد التقارب والتلاحم إلى وحدة ما، فإن واجب الدعوة إقامة الدولة الخلافية الموحدة ابتداء من دول إسلامية قطرية، ينظر في نوع النظام الأًصلح لربطها تدريجيا.
من مطالب الدعوة كشف المتلبسين بالإسلام الملبسين أمثال الدكتور الفيلسوف الملحد والرد عليهم. هذا نهي عن المنكر واجب في كل المراحل، لكن الدولة الإسلامية بعد بنائها هي الأداة الكفيلة بقطع لسان الأفاكين. لا أقصد قطع العضو الناطق، فليس قطع الألسنة من الحدود الشرعية، بل أقصد إسكات الأصوات النكراء. وللردة أحكامها الشرعية لابد أن تأخذ مجراها في دولة الإسلام.
إن مهمة الدعوة أن تنشئ الحياة الإسلامية وتشيد أركان الدين في المجتمع. أي أن ترعى المقاصد الشرعية في "العبادات" كما يعبر علماء الأصول. ومهمة الدعوة بعد أن تصبح الدولة بيدها، طوع إرادتها، أن تستصلح الوسائل المادية والمالية والتقنية والإدارية لخدمة المطالب الدنيوية. أي أن ترعى مقاصد الشرع "من جانب الوجود" في ميادين "العادات" و"المعاملات".
ومن أهم وظائف الدولة الإسلامية، عندما تكون أداة توجهها الدعوة، صيانة المطالب الإسلامية وحياطتها بأن : "تدرأ عنها الاختلال الواقع والمتوقع فيها".
إن إعادة العلاقات بين الدعوة والدولة إلى نصابها الإسلامي بعد هذه القرون التي استبد فيها السلطان العاض والجبري على القرآن مهمة تحتاج إلى جهاد القومة وتحتاج إلى اجتهاد. في ظل الحكم العاض كان علماؤنا يجتهدون وهم في حيز ضيق، لذلك سموا " جنايات " ذلك الجانب المهم من واجبات الدولة، جانب الدفاع عن حوزة الدين.
وكلوا حفظ المقاصد الشرعية كلها " من جانب العدم " إلى التكليف الشرعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تصوروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا فرديا منوطا بذمة الفرد ولم يتصوره واجبا جماعيا وقد تفتت جماعة المسلمين في زمانهم تحت وطأة العض الوراثي والاستيلائي.
رأينا أن الاجتهاد لمستقبل الإسلام، مواكبا لإنشاء الأركان وإقامة الدولة، ينبغي أن يكون جماعيا شوريا يبتغي الإجماع ما أ مكن. بالتقليد من تحت لفكر من قبلنا وآرائهم لايمكن أن نبني إلا بناء تقليديا يجمد على النمط الموروث. وبإطلاق العنان لكل ناعق كما تطلق الأعنة أنظمة الفساد المتمسحة بالديمقراطية و" الحريات العامة " يبرز الدكاترة الزنادقة بالجديد الإلحادي. وبالانسلاخ من قواعد علم الأصول، هذا العلم الراسخ الرصين " عماد فسطاط العلم " كما قال الشوكاني، يبرز عاميون في العلم عاميون في العقيدة عاميون في حب الرئاسة ويتصدرون للفتوى والرئاسة، يزعم الواحد منهم وهو لا يقيم لسانه في قراءة حديث واحد أن حيازة الكتب الستة الحديثية شرط كاف للاجتهاد.
بالنظر من الموقع الضيق، موقع القاضي والمفتي في النوازل والمدرس التجريدي لا يمكن الاجتهاد الشمولي الأصولي معا القادر على تغطية الفضاء الواسع للمقاصد الشرعية، من حيث كونها مطالب لإنشاء أمر تلاشى والدفاع عن حوزة استبيحت، ومن حيث مناط التكليف الجماعي في الدعوة، ومن حيث سيادة الدعوة على الدولة، أي سيادة القرآن على السلطان لا العكس.
شروط علمائنا في المجتهد القادر على تفسير الأحكام التي وردت فيها نصوص قطعية الثبوت والدلالة، القادر على استنباط أحكام ظنية في غير ذلك بأدوات تقدير المصلحة القياسية العلية أو المصلحة المرسلة شروط صالحة، لا تزال، إن كملناها بشروط تمليها الاعتبارات السابق ذكرها فتدرجها تحت جنس عال من المطالب.
اجمعوا رحمهم الله واتفقوا على الشروط التالية، وإجماعهم على الرأس والعين. اتفقوا على أن المجتهد لابد أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، وأن يكون عارفا بمسائل الإجماع، وأن يكون عالما بلسان العرب، وأن يكون عالما بعلم أصول الفقه" عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه"، وأن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ. ثم اختلفوا في شروط أخرى، منها اشتراط العلم بالدليل العقلي، والعلم بعلم أصول الدين، والعلم بعلم الفروع لأن العلم بها وممارستها يعطي "الدربة" اللازمة، والعلم بعلم الجرح والتعديل ليشارك علماء الحديث ذوي المنة على أجيال المسلمين إلى يوم الدين جزاهم الله خير الجزاء، ومعرفة القياس بشروطه وأركانه لأن القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه.
لو اجتمعت كل هذه الشروط في رجل لما استطاع في عصرنا أن يحيط بالوسائل الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية. يلزمه فقه دقيق بهذه المقاصد وهي قد التبست في العقول وفترت في النيات وغابت في الواقع. كيف يصوغها مطالب، كيف يوقظ الأمة النائمة، كيف يكون حزب الله، كيف يربيه، كيف يزحف به إلى بناء الدين ثم حفظه "من جانب الوجود وجانب العدم" دعوة ودولة.
لا يكفي الواحد للمهام الاجتهادية ولا يقف واجب المجتهدين عند استنباط الحكم وتقنينه. لابد أن يكون أهل الاجتهاد من أهل الدعوة، من صميمها، ممن يحيون بها، ويتنفسون روحها، ويحملون همها، ويغضبون على "الاختلال الواقع والمتوقع فيها". إن كانوا أصحاب أوراق وكراريس ونصوص وتجريد وتقليد، إن كانوا عقولا تدور على ألسنة عليمة والقلب فارغ فلن يكونوا إلا طامة أخرى تأتي على الدين "من جانب العدم".
يلزم المجتهدين في غد الإسلام، بعد الشروط المعرفية والشروط الإيمانية، أن ينظروا من أعلى إلى الأمور، من جانب القرآن، والسلطان واقف بين يديه للخدمة، وأن ينظروا بعيدا إلى أفق وحدة الأمة وإقامة العدل والشورى، وحمل رسالة رب العالمين للعالمين. ومتى يكونون أهلا لذلك إن لم يكونوا من أهل الإحسان، بالمعنى العالي الواسع للإحسان كما نبسط الإحسان في كتاب " الإحسان إن شاء الله.
لم يكن فقهاؤنا جميعا ذوي رأي تجزيئي مسجونين في الدوائر الضيقة. فمن أفذاذهم الإمام الشاطبي رحمه الله الذي كان واسع الأفق بعيد مرمى النظر. نجده يندد بالحرفية الضيقة، ويصغر شأن الذين يدخلون أنفسهم في الاجتهاد " غلطا أو مغالطة" دون أن يشهد لهم أهل "الرتبة" بالاستحقاق. وقال : "وذليل ذلك (أي دليل أن الشرع اعتبر المقاصد وجاء بها) استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لايثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة".
ما أجمل هذا الكلام وأدقة وأعلاه ! أدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض تنتظم على أمر واحد. هذا هو الجمع الذي نطلبه لشتات الأذهان التي تستدل جهدها على تفرقة الأمة وتبديع الناس وذكاة الحلزون، بينما أهل الإلحاد يرفضون الله والنبوة والآخرة ليجمعوا حولهم غثاء المحرومين حول الأمر الثوري الجامع : الخبز والكرامة الإنسانية والإنتاج والتوزيع.
هذه كلمتي إليكم إخواني وأخواتي سائلا منكم ومن كل من يقرأها أن لا تنسوني من دعائكم، أحسن الله الكريم إلينا وإليكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
رد: دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
كان النص الكامل لكتاب الشيخ عبد السلام ياسين حفظه الله حول التاريخ السلامي و علاقته بالفقه و الأجتهاد و الواقع.
ارجو من الله ان ينفعنا و ينفعكم به لما فيه من نظر تدبري حول التاريخ و علاقته بالوحي
ارجو من الله ان ينفعنا و ينفعكم به لما فيه من نظر تدبري حول التاريخ و علاقته بالوحي
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6489
السٌّمعَة : 12
مواضيع مماثلة
» دراسات في الفقه الجامع
» دراسات في التاريخ الأسلامي:( مقدمة)
» 1.دراسات في التاريخ الأسلامي:(كيف نقرأ التاريخ الأسلامي؟)
» دروس في أصول الفقه للشيخ العلامة محمد حسن هيتو
» نظرات فى مقال هل يتباطأ الزمن خلال الأزمات؟
» دراسات في التاريخ الأسلامي:( مقدمة)
» 1.دراسات في التاريخ الأسلامي:(كيف نقرأ التاريخ الأسلامي؟)
» دروس في أصول الفقه للشيخ العلامة محمد حسن هيتو
» نظرات فى مقال هل يتباطأ الزمن خلال الأزمات؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى