1.دراسات في التاريخ الأسلامي:(كيف نقرأ التاريخ الأسلامي؟)
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
1.دراسات في التاريخ الأسلامي:(كيف نقرأ التاريخ الأسلامي؟)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، و بعد
غالبا ما يسعى الدارس للتاريخ الأسلامي بحذف التفسير الديني للأحداث ، فالأحداث التاريخية من صنع الأنسان ، و الأنسان تتحكم فيه نوازع السلطة و السيطرة وحب الجاه و المحمدة.بمعنى اآخر ، فالمحرك الرئيسي في الحركات التغييرية هي العوامل الثلاث : الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي.و الدين بحسب هذا الرأي عامل ثانوي ، ليس له سلطان على التحركات البشرية عبر العصور و الأزمان.
كيف تكون نظرة الذاكر لله تعالى ، لما يقرأه و يسمعه و يشاهده و يحلله ، سواءا كان حاضرا أو حاضرا أو مستقبلا ؟
كيف أتدبر ما أراه أمامي من حركة و تدافع و صراع ؟
نظرة الذاكر لله تعالى لها أصل و أسس و لها نتائج و قانون أو سنة من السنن يستخلصها مما يراه و يشاهد.؟
من أين بدأ الخلل ؟ و كيف استثمر النصوص التي أجدها في الهدي النبوي لتكون لي نبراسا أستضيئ بها ؟ تحدد لي السبيل للتجديد المستقبلي في التربية و الفكر ثم الفهم و العمل ، و لو لا الهدي النبوي و ما فيه من توجيهات لم تستطع الأمة بأسرها أن تستضيئ في أملها للمستقبل مستقبل الأسلام الأغر .
و الله ولي التوفيق.
1.مقدمات :
النبوة و الخلافة أو الملك و السلطان؟.
كلمات نعتاد سماعا في الدراسات السلطانية ، و السلطان عقيم كما نسمع في علاقته مع الرعية ،لا تنصاع الا بدواء السيف.فكرة استطاع ان يغرسها السلطان الأموي و العباسي ثم العثماني في عقول المسلمين.
و صورة أخرى هي أقرب الى الخيال منه الى الواقع ، فكرة المخلص لذى الشيعة و السنة معا ، الرجل صاحب carisma والجاذبية الخاصة ، و الرأي المستنير الذي تنقاد اليه الأمة في الساعات الحوالك ، و في غيابه انتظارية و خمول.
السيف ثم المخلص و الأنتظار ، أفكار يناقشها بعض الحداثيين فيصفون ديننا و ما لنا من آمال معقودة في التغيير بالخرافة و الشخصانية عوض المؤسسات.
ثم تختلط علينا المفاهيم ، فلا نفرق بين الملك و الخلافة ، وكلاهما سواء ما الفرق أن كان الظلم العباسي يوصف بالخلافة ، و الأموي بالسياسة الرشيدة في تدبير الملك ، و تقويض العصيان بالسيف و الغلبة ، ينضاف اليه فتوى بعض العلماء بجواز حكم المستولي بالسيف على الأمة ، و بيعة الأكراه ، و السكوت لذى الظالم .
وكلها أمور يخشى الدارس في الحديث عنها لألتباس الأمر عليه.
2.رحى الإسلام :
نقف في هذه الفقرات المتواضعة مع حديث نبوي شريف ،في غاية من الأعجاز النبوي ،وهو الحديث الذي سماه المحدثون بحديث الرحى،وهناك روايتان :
1.روى الطبراني عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"ألا ان رحى الأسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا ان كتاب و السلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب ،ألا أنه سيكون عليكم أمراء يرضون لأنفسهم مالا يرضونلكم،فأن اطعتموهم أضلوكم ،وأن عصيتموهم قتلوكم.
قالوا:وماذا نفعل يارسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم:كما فعل أصحاب موسى حملو ا على الخشب و نشروا بالمناشير ،فوالذي نفسي بيده لموت في طاعة خير من حياة في معصية".
صدق مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه ابو نعيم في دلائل النبوة.و الطبراني في المعجم الصغير.
2. باب ماجاء في رحى الأسلام ومتى تدور (من كتاب التذكرة للأمام القرطبي ص 477):
روى ابو داوود عن البراء بن ناجية عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم :"تدور رحى الأسلام لخمس و ثلاثين أو ستة و ثلاثين أو سبع و ثلاثين فأن يهلكوا فسبيل من هلك،و أن لم يقم لهم دينهم يقم لهم سبعينا عاما،قال :أما مما بقي ؟قال :مما مضى".
للحديثان وقع في النفوس و فيه من الدلالات ما تجعلنا نقف مع الأعجاز النبوي المحكم في أخباره عن الأحداث المستقبلية،والمخاطب اليوم نحن ، وسابقا الصحابة رضي الله عنه ،أما نحن نسأل عن مغزى "حياة " التي جاءت نكرة غير معرفة ، بنوعيها ف"معصية " أو الطاعة".
1:المعنى الأجمالي للحديث:
يخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم عن شرخ سيصيب الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم،انفراط عقد جماعة المسلمين ـ،بانهيار الحلم النبوي الراشد، وبروز فتنة الأمراء، و الأنفصام النكد بين كتاب الله و حكام الجور،و الوصية النبوية بالتمسك بكتاب الله جل جلاله،و سلوك طريق الصبر و المصابرة كما فعل أصحاب موسى عليه السلام.
و طلب حية في طاعة ،و ان كانت الدنيا أهون على الله من جناح بعوضة،وترك معصية الله جل جلاله و هي الركون الى الذين ظلموا أنفسهم ـ،وطلب متاع الدنيا،و ترك ماهو أعظم و هو دخول جنة الدنيا ، جنة المعرفة.
و يمكنك أن تقول من خلال الحديث ، ان رحى الأسلام دائرة ، وهو القرآن ،وكان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فالزم خلقه ، في مستوى نفسك"عليك بخاصة نفسك"ان اصطلى نار الفتنة ، هذا لمن لم يقوى على حال البقاء و هو ان يصبر على أذى عيال والله ، ولم ترتفع همته الى أصلاحهم و دعوتهم الى خالقهم.و رضي بالفناء عن الدنيا و من فيها من حاكم ومحكوم، وظالم و مظلوم و أعتزلهم ، طاعة لأحاديث نبوية أخرى خاطبت المؤمنين على قدر مراتبهم و مقاعدهم. فرضي ان يكون من أحلاس بيته لا يؤثر او يؤثر عليه.
أو سلوك طريق الصحبة و المجاهدة و الغلبة و التدافع و الصبر على سطوة السيف ، وهذا سلوك الصحابة رضي الله عنهم ، وأصحاب من صحبوا الأنبياء من قبلهم.
2.مفهوم الرحى:
قال الهروي في تفسير الحديث:قال الحربي :وروى انها تزول و كان تزول أقرب لأنها تزول عن ثبوثها و استقرارها،و تدور يكون بما يحبون و يكرهون فأن كان الصحيح سنة خمسن فأن فيها قام أهل مصر و حاصروا سيدنا عثمان رضي الله عنه،و ان كانت الرواية سنة ست ففيها خرج طلحة و الزبير رضي الله عنهما الى جمل،و ان كانت سنة سبع ففيها كانت صفين غفر الله لهم أجمعين.
وقال الخطابي,يريد عليه الصلاة و السلام ان هذه المدة اذا انقضت حدث في الأسلام أمر عظيم،يخاف على أهله لذلك الهلاك.يقال :الأمر اذا تغير و استحال دارت رحاه و هذا و الله أعلم أشارة الى أنقضاء مدة الخلافة.و قوله"تدور رحى الأسلام " دوران الرحى كناية عن الحرب و القتال و شبهها بالرحى الدائرة التي تطحن لما يكون فيها من قبض الأرواح و هلاك الأنفس.
و قد تكون "الرحى" و دورانها تشير الى الدوائر القرآنية التي تحدث عليها أهل الله الدوائر السبع ، و التي تبدأ بأم الكتاب الى بداية سورة ألأعراف ، والثانية من الأعراف الى سورة يوسف عليه السلام و الثالثة من سورة هود الى سورة مريم ،و الرابعة من طه الى سورة القصص، و الخامسة من سورة القصص الى ياسين ، و السادسة من الصافات الى سورة القاف، و الأخيرة من قاف الى نهاية كتاب الله جل جلاله.
وهذه كيفية تحزيب القرآن عند الصحابة رضي الله عنمهم في سبع أيام.(كتاب مرآة المحاسن لمحمد الفهري الفاسي ص 166.167.)
3.السلطان و القرآن:
لا يخفى على أحد هذا الأمر ، القرآن الذي هو دعوة الله و ووحيه لا سلطان له على السلطان منذ ان قتل مولانا علي كرم الله و جهه.
اللهم بعض الفترات الأستثنائية كخلافة مولانا عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه.فبقي القرآن في صدور المسلمين يحفظ، وفي اجتهاد العلماء الحنفاء يفسر ،و تسطر علومه ، فبرع منهم من برع كالرازي و ابن الكثير ، و الكشاف للزمخشري ،و القرطبي ، و محمد ابو بكر العربي في أحكامه، و سيد قطب ، وابن عجيبة الحسني ، و حبرهم مولانا العباس عليه السلام و رضي الله عنه.
و بقي خلقا كاملا يتوارثه جيلا بعد جيل بالمدد و الهمة و التلمذة و التربية عن أهل الله السالكين و امثلتهم كثيرة.
لا احب أن اخوض في فتنة الأمراء فتفاصيلها موجودة في شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن رجب الحنبلي ، و تاريخ الطبري.
و العواصم من القواصم لابن العربي.
4.أبعاد الحديث النبوي:
أ.البعد التاريخي: يشكل الحديث النبوي أخبار غيبي لا شك فيه ن عن أحداث وقعت ن وهي موعظة لنا من حيث ان الله جعل فتنتنا في ضرب رقاب بعضنا بعضا ان نحن انحرفنا عن الهدي النبوي ، و تركنا القرآن ، ودرنا مع الهوى و الجاه و السلطان.
غفر الله لعبد الملك ابن مروان حينما قال :من قال لي اليوم اتق الله ، ضربت عنقه.
او الوليد ابن المغيرة الوالي المخمور الذي مزق القرآن.او يزيد ابن معاوية الذي ضربت في عهده مكة بالمنجنيق ، و استبيحت المدينة ثلاث ايام،و قتل سبط رسول الله صلى الله عليه و سلم سيدنا الحسين عليه السلام.
فهو عبرة لنا في تقلب الأحوال بفعل الله و تدبيره، بميزان الصلاح و الخير او الفساد و الشر ابتلاءا لمن أراد من خلقه.
ب.البعد التربوي:
استهان النبي صلى الله عليه و سلم بالسلوك الراض بحياة الدنيا ، و اعتبرها معصية.
و اشاد بسلوك اصحاب موسى عليه السلام الذين ىثروا الله بقتل أنفسهم بالصبر على القتل و السيف و الرهبة ، وركنوا الى الاخرة و افتدوا محبوبهم بأجسادهم ،و دخلوا جنة معرفته ببذل مجهودهم الصبر على العذاب ةو جاءهم منه و هي الموت في سبيله.فحازوا معرفته بالقرب و الشهادة.
والتربية هنا يجب ان تصب الى ترك الدنيا و طلاقها باطنا ،والتعلق بالله جل جلاله ، و لاتكون اتلا بالمجاهدة و الذكر و أسلاس القياد لمتبوع مقدم عارف بخبايا النفس و خبير في معالجتها.
و السلوك هنا قد يكون فرديا لمن رضي بذلك ، وقد يكةون جامعا كاملا لمن أراد الجمع كما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته الذكر و الجهاد .
ج.بعد شرعي:
يؤصل الحديث لمعرفة الداء و هو جور السلطان ، و يسن سنة القيام في وجه الجور كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنه و بعض الأئمة الأربعة ، و بعض التابعين من هذه الأنمة في سائر الأزمنة.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين بصدد هذا الحديث:"
نستطيع أن نتمثل للإسلام رحا ذات شقين، لها قاعدة ثابتة ومحور ثابت وحلقة عليا تدور. الإسلام قرآن منـزل لا تبديل لكلمات الله، وقضاء مقدر لاَ رَادَّ لحكم الله، ثم هناك فهم العباد للدين وإيمانهم وحركتهم ونظام حكمهم، وكلها متغيرات متحركات. يساعدنا على هذا التمثيل الرحوي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة عن الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة. ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام: نشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله".
هذا حديث بمقاومة الملك العاض والملك الجبري ورفض رشاواه، وذلك حين يدور الحكم على قاعدة غير قاعدة القرآن، حين تنفصل الدولة عن الدعوة. إلى جانب الأحاديث الكثيرة التي أوصت بالطاعة للجائرين حفاظا على وحدة الأمة وجماعتها نجد أحاديث مثل هذا توصي بالوفاء للقرآن والدوران معه حيث دار ولو كره السلطان وأغرى وسفك الدماء.
وكل ذلك كان في تاريخنا الإسلامي الحافل: نُقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستحال الحكم من الخلافة إلى الملك العاض الوراثي ونحن في عصرنا لا نزال نعيش تحت أنظمة عاضة وراثية أو جبرية عسكرية ننتظر ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من عودة الخلافة على منهاج النبوة. ننتظر بثقة ورحا الإسلام تدور، وخصام السلطان للقرآن مستمر. فهل يكون انتظارنا إلا تبلدا إن نحن اكتفينا بمراقبة الأحداث ولم ندر مع القرآن متحركين بأوامره؟
وهل تكون حركتنا إلا دوَّامة تتكرر فيها مآسي الماضي إن نحن تجاهلنا دروس التاريخ، أو قفزنا من فوقها، أو تخيلنا الإحسان هروبا خارج التاريخ قانعين بزهادة عاجزة مستسلمة؟
كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون القرآن غضا حيا بحياة الإيمان والإحسان في قلوبهم، فيدورون بدورانه، ويسعون حيث أمر، ويتجدد لهم عزم بتجدد نزوله، وتستمر لهم إرادة باستمرار تلاوته، ويزدادون قوة وصلابة في الموقف تأسيا بمن ضرب الله لهم مثلا من النبيئين والحواريين. فما هي الشروط النفسية التربوية والقلبية الإيمانية الإحسانية، والعلمية العقلية الحِكَمية اللازمة لكي نكون على مستوى المواعدة لسنة الله، والملاقاة مع بشارة رسول الله؟ ما هي الشروط لكي نكون بإزاء القرآن وتحت منبر المصطفى من ولد عدنان نسمع ونطيع ونعزم ونستمر ونصبر ونقوى على المقاومة ومقارعة الخطوب؟
هل نكون الرجال على موعد مع الخلافة إن اختفينا عن تاريخنا، أو رُغنا عن فهمه ونقده، أو احتضناه بعاطفية متسامحة جانحة إلى تزيين الواجهة والتفاخر بالأمجاد، أو اتخذنا تاريخنا، المجيد بالفعل في كثير من إنجازاته، واسطة بيننا وبين القرآن، نفهم فهم من دارت بهم الرحا من قبلنا، ونفسر الأحداث بتفسيرهم، ونوجه الجهود بتوجيههم، ونقدر الواجب والممكن تقديرهم؟
إن الإعراض عن تاريخنا بدعوى التشبث بالنموذج النبوي قرين في البلادة لاحتضان هذا التاريخ احتضانا صبيانيا يدافع عن الأخطاء الفادحة ويعلِّم للأجيال ترسيخ الواقع الموروث. نقد تاريخنا بالعقلانية الوضعية من زاوية الإلحاد والعلمانية أو المادية الجدلية أو القومية الاشتراكية نقد موجه لتفسير تاريخ المسلمين تفسيرا يجرد الإسلام من الوحي والنبوة والإيمان بالله وباليوم الآخر ليبقى فقط للاشتراكي "ثورة" أبي ذر وعدل عمر، وللعلماني حضارة بغداد والأندلس المتسامحتان، وللقومي عزة العرب ونخوتها، وللجميع حين ينافقون عبقرية محمد القائد العربي الرائد في إدخال السياسة إلى الميدان العسكري بحيث عبأ العرب تعبئة لا مثيل لها في التاريخ.
للتقدميين تفسير خاص لتاريخ المسلمين يتحسس نبضات القوة ونصوص الحركات ليستدل على ثورية الإسلام. وللمتبلدين من أكاديميات البلاد ولع بالدفاع عن نمط الحكم الأموي، وتوسع المعارف الفلسفية في البلاط العباسي، وروعة الحضارة والفن والمعمار في قاهرة الفاطميين وغرناطة دويلات الطوائف. كل ذلك في قَرَن واحد، كل ذلك يدور مع السلطان وتقلباته لا مع القرآن ومن تحت جناحه.
إننا في بحثنا عن المنهاج الإحساني لا نستطيع أن نتخطى تاريخنا. العبرة بالتاريخ سمة يتحلى بها أولو الأبصار. وفهم تاريخنا ذكرى، وما يذكر إلا أولو الألباب. لو كان مشروعنا أن ننعزل عن الدنيا وفتنها لنتفرغ للآخرة ونسلك إليها الطريق السهلة لكان تقليد السادة الصوفية الذين تعطرت بأنفاسهم الأيام لنا سندا كافيا. لكن مشروعنا جهادي ونظرنا إلى الصحابة رضوان الله عليهم المنغمسين -كانوا- في جو الوحي والقتال، كان الإحسان العبادي والإحسان الجهادي لا ينفكان في حياتهم، وفي حياة الصوفية انفك الجهاد عن العبادة، وترك السلطان زائغا عن القرآن.
فقه أئمة التربية الصوفية ثروة لا غنى عنها لأنه فقه قلوب تغذت بذكر الله وتفتحت لنور الله. وفقه الفقهاء المذهبيين ثروة. وأثل لنا المحدثون علما شامخا. وأسس الأصوليون صرحا عليه كان مدار فهم الشريعة. ولا غنى لنا عن كل هذا في مستقبل الإسلام. لكن هذه الكنوز تبقى غامضة المغزى ضبابية الدلالة إن لم نتابعها كيف نشأت، وفي أية تربة نبتت، وبأي مياه سقيت، وأية أيد تناولتها، وأية جهة رعتها، وفي أية حدود استطاعت أن تزدهر، وإلى أي مَدى وتحت أية ضغوط اضطرت أن تنكتم.
إنْ قَفَزْنا فوق تاريخنا فاتتنا العبرة وفاتنا الاستبصار واختلط علينا اللب والجوهر بالقشر والأعراض. وبفوات ذلك نرتطم بالواقع الذي نريد أن نغيره، بَدْءاً بواقع أنفسنا التي نريد أن تكون محسنة.
ما هو المنهاج لفهم فتنة القرن الخامس عشر وما بعده استنادا إلى العبرة بالجاهلية الأولى؟ ما هو منهاج النبوة في تعاملها مع الجاهلية؟ هل نكفر المجتمع ونعتبره جاهليا لنبدأ من نقطة الصفر؟ ما هي التربية النبوية التي جعلت من الصحابة أولياء لله مجاهدين في سبيل الله؟ ما هي الضمانات الإسلامية للإنسان وكرامته وحقوقه التي جاء بها الإسلام، كيف طبقت وكيف ضاعت وكيف تسترد؟ ما هي مواصفات الخلافة الراشدة الأولى حتى نخطط على علم للخلافة الثانية؟ ما خصائص جماعة المسلمين كما ألفها الله على يد رسوله الكريم فحملت أعباء الجهاد لنحذو ذلك الحذو؟ كيف تمزقت الجماعة الأولى وكيف نشأت الفرق في الإسلام، وكيف دب الخلاف، وكيف استفحل، ولم غلا من غلا، وجمد من جمد، واستبد من استبد، وظلم من ظلم؟
كيف نبع أهل البدع والأهواء، وكيف انبرى لهم علماء الكلام، وكيف انكب أئمة الفقه على التفريع، وكيف أصّلوا، وكيف اجتهدوا، وكيف جمع المحدثون وصفوا وغربلوا، وكيف ولم انعزل الصوفية، وكيف زاغ الفلاسفة، وكيف دامت الخصامات، ومن أوْرَى زند الصراعات، وما هي الكوارث التي حلت بالأمة، والانشقاق الداخلي، والغزو الخارجي حتى جاء تهديد أوربا واستعمارها وحلول عساكرها وفكرها ونمط معيشتها وكفرها وماديتها بين ظهرانينا؟
يبدو للملاحظ ذي النظرة البسيطة أن لا علاقة لكل هذه الأسئلة المتعرضة للدنيا وصخبها وناسها بالإحسان وفقه التصوف. لكن من وقف معنا وقفات متروية يعرف عن أي إحسان نبحث. درجة الانقطاع عن العالم لطلب وجه الله درجة مشكورة مذكورة، إحسان فردي فار إلى الله يفوقه ذكرا عند الله إحسان جهادي جماعي يقاتل في سبيل الله. لا إله إلا الله والحمد لله.
تسمى قاعدة الرحا التي عليها تدور ثِفالا، وفي الثفال يغرز المحور. لنتمثل ثفال رحا الإسلام هو جماعة المسلمين وقاعدتهم الاجتماعية السياسية المتماسكة بالأخوة الإيمانية الإحسانية. ولنتمثل محور جماعة المسلمين ما غُرز في القلوب من توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبودية، والطاعة لأمره ونهيه الوارد بهما كتابه، والالتفاف حول الرسول الكريم وحول الخليفة المختار بالإرادة الحرة للأمة. ولنتمثل الشقَّ الأعلى للرحا ما في حياة المجتمعات من متغيرات مثل نظام الإدارة وإدارة الاقتصاد والاجتهاد التشريعي فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة وترتيب الشورى في توزيع المسؤوليات وتخصيص المؤسسات. كل ذلك يدور حول قاعدة ثابتة، وحول محور مكين فيها، قائم عليها. لنتمثل الدعوة وما تمثله من ركائز الدين وقوة الجماعة قاعدة تدور الدولة حولها لخدمتها. هذا هو الوضع الإسلامي الذي كان سائدا ما بين الهجرة النبوية وانقضاء عهد الخلافة الراشدة ثلاثين سنة بعد وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحت ملكا انقلب الوضعُ، وتوسط الملوك والسلاطينُ الرقعة، ومكنوا في البلاد صنائعهم ورجالهم وذوي عصبياتهم، وراود السلطانُ القرآن على تنازلات ورخص وسكوت، وشالت الدولة رجال الدعوة إلى الهامش ليدوروا حول إرادة الحاكم بالسيف والوراثة والعصبية.
الوضع الآن أشد قلبا للحقائق، والدعوة لا يسمح لها بالوجود إلا إذا أعطت الوَلاء غير المشروط للحاكم.
والمطلوب إرجاع الوضع إلى نصابه الإسلامي، وإخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن. الإسلام على الهامش والمطلوب إدخاله مرة أخرى إلى مكان الصَّدارة وإثباته في منصة السيادة. عامة المسلمين جاهلون بدينهم أو شاردون عنه، وطائفة كافرون به محاربون له، والمطلوب أن يرجع الناس إلى الإسلام وأن يقبلوا شرائعه وأن يندرجوا في درجه.
في معرض استخلاص العبرة من سنة الله في الكون، ومعرض مراقبة رحا الإسلام كيف انقلبت ودارت دون أن تتفكك أوصالها ويندثر وجودها، ينبغي أن لا تنسينا صعوبة المشروع -الذي نأمل نجاحه وننتظر- أنَّ حصون السلطان المتمنع من القرآن مهما كانت قوية لا تستطيع مقاومة الجهاد الإحساني إن درنا مع القرآن حقا، وقلدنا المعصوم صلى الله عليه وسلم صدقا.
ينبغي مع توقع المدد الإلهي الخاص أن نتزود بالصبر، ونعول على المطاولة، ونتوغل في الواقع بحزم في غير عنف ولا تسرع، ونوغل في الدين برفق. من يريد أن يغير الواقع في لحظة، ويرفع الموجود بضربة ليحضر مكانه "حلا إسلاميا" جاهزا مكتملا فإنما هو حالم أو مجنون.
سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة.
الوقت بساط على امتداده تتسلسل هذه العمليات وتتوالد وتتدرج. وفي احترام هذا التدرج العام قانونُه على الناس أجمعين تكمن حكمة الله الخاصة بهذه الأمة، تطوى لها المراحل وتمهد الصعاب وتعجل بالنصر. ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بمكة حول البيت الحرام تحيط به مآت الأصنام مظِنَّةَ أن يفتح مكة ويكسر الآلهة القرشية بعد بضع سنوات. كان المشركون ويهود المدينة من بعد يحسُبُون حساب ميزان القوى وهو في صالحهم. ولو شاء الله لأبطل تلك الميزان إبطالا ولأطبق الأخشبين على قريش وخسف الأرض بيهود كما فعل بأعداء الرسل من قبلُ. لكن حكمته جل وعلا اقتضت أن تدور رحا الإسلام بالتدرج في عالم الأسباب، وأن تأتي الدفعة الملكوتية لتساعد الأيدي المجاهدة، داخل التاريخ وفي زحمته لا خرقا سافرا لناموسه.
قال الله تعالى في سورة الحشر يصف فعله جلت عظمته بيهود خيبر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)).
كذلك يقدر الله تعالى أن يأتي البناء الفتنوي من القواعد، وأن يبدلنا خيرا منه، وأن يفتح لنا كل الحصون. ذلك إليه سبحانه، نستغفره ونضرع إليه. والذي علينا أن نتوغل بالرفق الحازم. روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق". وجاء الحديث من طرُق أخرى بزيادة تقول: "ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله. فإن المُنْبَتَّ (المسرع جدا) لا أرضا قطع ولا ظهرا (دابة) أبقى".
التدرج والإيغال برفق من أهم واجبات الراجين نصر الله، الناصرين بجهادهم الصابر لله. في الصحيح: "يؤتي الله على الرفق مالا يؤتي على العنف". وفي القرآن: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)) (سورة الأنعام). يليها قوله تعالى لرسوله ينبهه وإيانا أن العجلة والضيق بالواقع المعاكس لا تغير من الواقع شيئا: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) (سورة الأنعام).
فمن سنن الله أن يُمْلِي للقرى الظالم أهلها ويمهلهم "حتى" يأتيهم بأسه. ومن سننه أن يلهم أولياءه الصبر على بذل الجهد حتى يأتيهم نصره.
فساد كبير يدخل على العبد في نفسه وجسمه وعقله وعادته يتحرج به ويَعْنَتُ ويكره بسببه العمل إن كلف ما لا يطيق، وتزاحمت عليه وظائف الشرع، واكتظ أفقه بالمهام الملحة حتى لا يدري من أين يبدأ. فيعجل ويعنف ولا يحسن في شيء بل يسيء في كل شيء. ما بالك إذا كانت المهام على مستوى إعادة بناء المجتمع، والوظائف الشرعية شاملة لإقامة دولة القرآن، وزحام الأولويات لا يقيم وزناً لمخلفات الماضي ورواسبه المرضية في جسم الأمة ونفسها وعقلها وعادتها. أي عنت يلحَق الأمة وأية كراهية تكره "الحل الإسلامي" إن جاء جاهزا في التصورات الساذجة عنيفا قاطعا سافكا عجلا !
يأتي مدد الله تعالى من حيث لا يظن المومنون، ومن حيث لا يحتسب الآخرون إن تأنسنا بسنة الله ورسوله وتتبعنا واقتدينا. وهي كلها تدرج وبناء متعاقب ورفق يرفع الإكراه في الدين والحرج في الدين والغلو في الدين والتشدد في الدين.
روى الإمام البخاري في كتاب فضائل القرآن من صحيحه عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها جاءها عراقي فقال: "أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك ! ؟ قال: يا أم المومنين، أريني مصحفك: قالت: لمَ؟ قال: لعله أؤلف القرآن فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: ما يضرك أيَّه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس (رجعوا) إلى الإسلام نزل الحلال والحرامُ. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا ! ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا ! " الحديث.
فال الحافظ ابن حجر: "أشـارت (أمنا عـائشة) إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنـزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمومن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار. فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام. ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها". وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف". قال رحمه الله: "وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال".
العراقي يدقق في جزئيات الكفن وأم المومنين تزجره وتدله على سعة الدين. والنفوس تنفر أشد النفور من الإقلاع عن العادة. ومن الإسلاميين المعاصرين من يدل على الضيق ويتصور أن فرض القوانين الإسلامية بالقوة يوم يستولي جند الله على السلطة كاف لإقامة الدين. لا نتفق مع هذه العقلية القانونية، ولا نحب أن يصبح أهل الحق جلادين يُكْرِهون ويكرِّهون، ولا نقول برفع التكليف لنبدأ من نقطة التوحيد فقد تم التنـزيل والأمة مسلمة مكلفة بالشرع كله. لكن نقول بوجوب التدرج وضرورة التربية.
تكلم الشاطبي رحمه الله طويلا في "الموافقات" على أصل مكين من أصول الدين وهو رفع الحرج والمشقة. وذكر قصة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ما أجدرنا أن نجعلها لنا شعارا. سأله ابنه عبد الملك، وكان رجلا صالحا: "ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لَوْ أن القُدُورَ غَلَتْ بي وبك في الحق ! " فقال الخليفة العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد المطلق: "لا تعجل يا بني ! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيَدَعوه جملة، فيكون من ذا فتنة".
من كتاب سنة الله ، فقرة رحا الأسلام.
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، و بعد
غالبا ما يسعى الدارس للتاريخ الأسلامي بحذف التفسير الديني للأحداث ، فالأحداث التاريخية من صنع الأنسان ، و الأنسان تتحكم فيه نوازع السلطة و السيطرة وحب الجاه و المحمدة.بمعنى اآخر ، فالمحرك الرئيسي في الحركات التغييرية هي العوامل الثلاث : الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي.و الدين بحسب هذا الرأي عامل ثانوي ، ليس له سلطان على التحركات البشرية عبر العصور و الأزمان.
كيف تكون نظرة الذاكر لله تعالى ، لما يقرأه و يسمعه و يشاهده و يحلله ، سواءا كان حاضرا أو حاضرا أو مستقبلا ؟
كيف أتدبر ما أراه أمامي من حركة و تدافع و صراع ؟
نظرة الذاكر لله تعالى لها أصل و أسس و لها نتائج و قانون أو سنة من السنن يستخلصها مما يراه و يشاهد.؟
من أين بدأ الخلل ؟ و كيف استثمر النصوص التي أجدها في الهدي النبوي لتكون لي نبراسا أستضيئ بها ؟ تحدد لي السبيل للتجديد المستقبلي في التربية و الفكر ثم الفهم و العمل ، و لو لا الهدي النبوي و ما فيه من توجيهات لم تستطع الأمة بأسرها أن تستضيئ في أملها للمستقبل مستقبل الأسلام الأغر .
و الله ولي التوفيق.
1.مقدمات :
النبوة و الخلافة أو الملك و السلطان؟.
كلمات نعتاد سماعا في الدراسات السلطانية ، و السلطان عقيم كما نسمع في علاقته مع الرعية ،لا تنصاع الا بدواء السيف.فكرة استطاع ان يغرسها السلطان الأموي و العباسي ثم العثماني في عقول المسلمين.
و صورة أخرى هي أقرب الى الخيال منه الى الواقع ، فكرة المخلص لذى الشيعة و السنة معا ، الرجل صاحب carisma والجاذبية الخاصة ، و الرأي المستنير الذي تنقاد اليه الأمة في الساعات الحوالك ، و في غيابه انتظارية و خمول.
السيف ثم المخلص و الأنتظار ، أفكار يناقشها بعض الحداثيين فيصفون ديننا و ما لنا من آمال معقودة في التغيير بالخرافة و الشخصانية عوض المؤسسات.
ثم تختلط علينا المفاهيم ، فلا نفرق بين الملك و الخلافة ، وكلاهما سواء ما الفرق أن كان الظلم العباسي يوصف بالخلافة ، و الأموي بالسياسة الرشيدة في تدبير الملك ، و تقويض العصيان بالسيف و الغلبة ، ينضاف اليه فتوى بعض العلماء بجواز حكم المستولي بالسيف على الأمة ، و بيعة الأكراه ، و السكوت لذى الظالم .
وكلها أمور يخشى الدارس في الحديث عنها لألتباس الأمر عليه.
2.رحى الإسلام :
نقف في هذه الفقرات المتواضعة مع حديث نبوي شريف ،في غاية من الأعجاز النبوي ،وهو الحديث الذي سماه المحدثون بحديث الرحى،وهناك روايتان :
1.روى الطبراني عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"ألا ان رحى الأسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا ان كتاب و السلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب ،ألا أنه سيكون عليكم أمراء يرضون لأنفسهم مالا يرضونلكم،فأن اطعتموهم أضلوكم ،وأن عصيتموهم قتلوكم.
قالوا:وماذا نفعل يارسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم:كما فعل أصحاب موسى حملو ا على الخشب و نشروا بالمناشير ،فوالذي نفسي بيده لموت في طاعة خير من حياة في معصية".
صدق مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه ابو نعيم في دلائل النبوة.و الطبراني في المعجم الصغير.
2. باب ماجاء في رحى الأسلام ومتى تدور (من كتاب التذكرة للأمام القرطبي ص 477):
روى ابو داوود عن البراء بن ناجية عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم :"تدور رحى الأسلام لخمس و ثلاثين أو ستة و ثلاثين أو سبع و ثلاثين فأن يهلكوا فسبيل من هلك،و أن لم يقم لهم دينهم يقم لهم سبعينا عاما،قال :أما مما بقي ؟قال :مما مضى".
للحديثان وقع في النفوس و فيه من الدلالات ما تجعلنا نقف مع الأعجاز النبوي المحكم في أخباره عن الأحداث المستقبلية،والمخاطب اليوم نحن ، وسابقا الصحابة رضي الله عنه ،أما نحن نسأل عن مغزى "حياة " التي جاءت نكرة غير معرفة ، بنوعيها ف"معصية " أو الطاعة".
1:المعنى الأجمالي للحديث:
يخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم عن شرخ سيصيب الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم،انفراط عقد جماعة المسلمين ـ،بانهيار الحلم النبوي الراشد، وبروز فتنة الأمراء، و الأنفصام النكد بين كتاب الله و حكام الجور،و الوصية النبوية بالتمسك بكتاب الله جل جلاله،و سلوك طريق الصبر و المصابرة كما فعل أصحاب موسى عليه السلام.
و طلب حية في طاعة ،و ان كانت الدنيا أهون على الله من جناح بعوضة،وترك معصية الله جل جلاله و هي الركون الى الذين ظلموا أنفسهم ـ،وطلب متاع الدنيا،و ترك ماهو أعظم و هو دخول جنة الدنيا ، جنة المعرفة.
و يمكنك أن تقول من خلال الحديث ، ان رحى الأسلام دائرة ، وهو القرآن ،وكان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فالزم خلقه ، في مستوى نفسك"عليك بخاصة نفسك"ان اصطلى نار الفتنة ، هذا لمن لم يقوى على حال البقاء و هو ان يصبر على أذى عيال والله ، ولم ترتفع همته الى أصلاحهم و دعوتهم الى خالقهم.و رضي بالفناء عن الدنيا و من فيها من حاكم ومحكوم، وظالم و مظلوم و أعتزلهم ، طاعة لأحاديث نبوية أخرى خاطبت المؤمنين على قدر مراتبهم و مقاعدهم. فرضي ان يكون من أحلاس بيته لا يؤثر او يؤثر عليه.
أو سلوك طريق الصحبة و المجاهدة و الغلبة و التدافع و الصبر على سطوة السيف ، وهذا سلوك الصحابة رضي الله عنهم ، وأصحاب من صحبوا الأنبياء من قبلهم.
2.مفهوم الرحى:
قال الهروي في تفسير الحديث:قال الحربي :وروى انها تزول و كان تزول أقرب لأنها تزول عن ثبوثها و استقرارها،و تدور يكون بما يحبون و يكرهون فأن كان الصحيح سنة خمسن فأن فيها قام أهل مصر و حاصروا سيدنا عثمان رضي الله عنه،و ان كانت الرواية سنة ست ففيها خرج طلحة و الزبير رضي الله عنهما الى جمل،و ان كانت سنة سبع ففيها كانت صفين غفر الله لهم أجمعين.
وقال الخطابي,يريد عليه الصلاة و السلام ان هذه المدة اذا انقضت حدث في الأسلام أمر عظيم،يخاف على أهله لذلك الهلاك.يقال :الأمر اذا تغير و استحال دارت رحاه و هذا و الله أعلم أشارة الى أنقضاء مدة الخلافة.و قوله"تدور رحى الأسلام " دوران الرحى كناية عن الحرب و القتال و شبهها بالرحى الدائرة التي تطحن لما يكون فيها من قبض الأرواح و هلاك الأنفس.
و قد تكون "الرحى" و دورانها تشير الى الدوائر القرآنية التي تحدث عليها أهل الله الدوائر السبع ، و التي تبدأ بأم الكتاب الى بداية سورة ألأعراف ، والثانية من الأعراف الى سورة يوسف عليه السلام و الثالثة من سورة هود الى سورة مريم ،و الرابعة من طه الى سورة القصص، و الخامسة من سورة القصص الى ياسين ، و السادسة من الصافات الى سورة القاف، و الأخيرة من قاف الى نهاية كتاب الله جل جلاله.
وهذه كيفية تحزيب القرآن عند الصحابة رضي الله عنمهم في سبع أيام.(كتاب مرآة المحاسن لمحمد الفهري الفاسي ص 166.167.)
3.السلطان و القرآن:
لا يخفى على أحد هذا الأمر ، القرآن الذي هو دعوة الله و ووحيه لا سلطان له على السلطان منذ ان قتل مولانا علي كرم الله و جهه.
اللهم بعض الفترات الأستثنائية كخلافة مولانا عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه.فبقي القرآن في صدور المسلمين يحفظ، وفي اجتهاد العلماء الحنفاء يفسر ،و تسطر علومه ، فبرع منهم من برع كالرازي و ابن الكثير ، و الكشاف للزمخشري ،و القرطبي ، و محمد ابو بكر العربي في أحكامه، و سيد قطب ، وابن عجيبة الحسني ، و حبرهم مولانا العباس عليه السلام و رضي الله عنه.
و بقي خلقا كاملا يتوارثه جيلا بعد جيل بالمدد و الهمة و التلمذة و التربية عن أهل الله السالكين و امثلتهم كثيرة.
لا احب أن اخوض في فتنة الأمراء فتفاصيلها موجودة في شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن رجب الحنبلي ، و تاريخ الطبري.
و العواصم من القواصم لابن العربي.
4.أبعاد الحديث النبوي:
أ.البعد التاريخي: يشكل الحديث النبوي أخبار غيبي لا شك فيه ن عن أحداث وقعت ن وهي موعظة لنا من حيث ان الله جعل فتنتنا في ضرب رقاب بعضنا بعضا ان نحن انحرفنا عن الهدي النبوي ، و تركنا القرآن ، ودرنا مع الهوى و الجاه و السلطان.
غفر الله لعبد الملك ابن مروان حينما قال :من قال لي اليوم اتق الله ، ضربت عنقه.
او الوليد ابن المغيرة الوالي المخمور الذي مزق القرآن.او يزيد ابن معاوية الذي ضربت في عهده مكة بالمنجنيق ، و استبيحت المدينة ثلاث ايام،و قتل سبط رسول الله صلى الله عليه و سلم سيدنا الحسين عليه السلام.
فهو عبرة لنا في تقلب الأحوال بفعل الله و تدبيره، بميزان الصلاح و الخير او الفساد و الشر ابتلاءا لمن أراد من خلقه.
ب.البعد التربوي:
استهان النبي صلى الله عليه و سلم بالسلوك الراض بحياة الدنيا ، و اعتبرها معصية.
و اشاد بسلوك اصحاب موسى عليه السلام الذين ىثروا الله بقتل أنفسهم بالصبر على القتل و السيف و الرهبة ، وركنوا الى الاخرة و افتدوا محبوبهم بأجسادهم ،و دخلوا جنة معرفته ببذل مجهودهم الصبر على العذاب ةو جاءهم منه و هي الموت في سبيله.فحازوا معرفته بالقرب و الشهادة.
والتربية هنا يجب ان تصب الى ترك الدنيا و طلاقها باطنا ،والتعلق بالله جل جلاله ، و لاتكون اتلا بالمجاهدة و الذكر و أسلاس القياد لمتبوع مقدم عارف بخبايا النفس و خبير في معالجتها.
و السلوك هنا قد يكون فرديا لمن رضي بذلك ، وقد يكةون جامعا كاملا لمن أراد الجمع كما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته الذكر و الجهاد .
ج.بعد شرعي:
يؤصل الحديث لمعرفة الداء و هو جور السلطان ، و يسن سنة القيام في وجه الجور كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنه و بعض الأئمة الأربعة ، و بعض التابعين من هذه الأنمة في سائر الأزمنة.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين بصدد هذا الحديث:"
نستطيع أن نتمثل للإسلام رحا ذات شقين، لها قاعدة ثابتة ومحور ثابت وحلقة عليا تدور. الإسلام قرآن منـزل لا تبديل لكلمات الله، وقضاء مقدر لاَ رَادَّ لحكم الله، ثم هناك فهم العباد للدين وإيمانهم وحركتهم ونظام حكمهم، وكلها متغيرات متحركات. يساعدنا على هذا التمثيل الرحوي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة عن الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة. ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام: نشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله".
هذا حديث بمقاومة الملك العاض والملك الجبري ورفض رشاواه، وذلك حين يدور الحكم على قاعدة غير قاعدة القرآن، حين تنفصل الدولة عن الدعوة. إلى جانب الأحاديث الكثيرة التي أوصت بالطاعة للجائرين حفاظا على وحدة الأمة وجماعتها نجد أحاديث مثل هذا توصي بالوفاء للقرآن والدوران معه حيث دار ولو كره السلطان وأغرى وسفك الدماء.
وكل ذلك كان في تاريخنا الإسلامي الحافل: نُقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واستحال الحكم من الخلافة إلى الملك العاض الوراثي ونحن في عصرنا لا نزال نعيش تحت أنظمة عاضة وراثية أو جبرية عسكرية ننتظر ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من عودة الخلافة على منهاج النبوة. ننتظر بثقة ورحا الإسلام تدور، وخصام السلطان للقرآن مستمر. فهل يكون انتظارنا إلا تبلدا إن نحن اكتفينا بمراقبة الأحداث ولم ندر مع القرآن متحركين بأوامره؟
وهل تكون حركتنا إلا دوَّامة تتكرر فيها مآسي الماضي إن نحن تجاهلنا دروس التاريخ، أو قفزنا من فوقها، أو تخيلنا الإحسان هروبا خارج التاريخ قانعين بزهادة عاجزة مستسلمة؟
كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون القرآن غضا حيا بحياة الإيمان والإحسان في قلوبهم، فيدورون بدورانه، ويسعون حيث أمر، ويتجدد لهم عزم بتجدد نزوله، وتستمر لهم إرادة باستمرار تلاوته، ويزدادون قوة وصلابة في الموقف تأسيا بمن ضرب الله لهم مثلا من النبيئين والحواريين. فما هي الشروط النفسية التربوية والقلبية الإيمانية الإحسانية، والعلمية العقلية الحِكَمية اللازمة لكي نكون على مستوى المواعدة لسنة الله، والملاقاة مع بشارة رسول الله؟ ما هي الشروط لكي نكون بإزاء القرآن وتحت منبر المصطفى من ولد عدنان نسمع ونطيع ونعزم ونستمر ونصبر ونقوى على المقاومة ومقارعة الخطوب؟
هل نكون الرجال على موعد مع الخلافة إن اختفينا عن تاريخنا، أو رُغنا عن فهمه ونقده، أو احتضناه بعاطفية متسامحة جانحة إلى تزيين الواجهة والتفاخر بالأمجاد، أو اتخذنا تاريخنا، المجيد بالفعل في كثير من إنجازاته، واسطة بيننا وبين القرآن، نفهم فهم من دارت بهم الرحا من قبلنا، ونفسر الأحداث بتفسيرهم، ونوجه الجهود بتوجيههم، ونقدر الواجب والممكن تقديرهم؟
إن الإعراض عن تاريخنا بدعوى التشبث بالنموذج النبوي قرين في البلادة لاحتضان هذا التاريخ احتضانا صبيانيا يدافع عن الأخطاء الفادحة ويعلِّم للأجيال ترسيخ الواقع الموروث. نقد تاريخنا بالعقلانية الوضعية من زاوية الإلحاد والعلمانية أو المادية الجدلية أو القومية الاشتراكية نقد موجه لتفسير تاريخ المسلمين تفسيرا يجرد الإسلام من الوحي والنبوة والإيمان بالله وباليوم الآخر ليبقى فقط للاشتراكي "ثورة" أبي ذر وعدل عمر، وللعلماني حضارة بغداد والأندلس المتسامحتان، وللقومي عزة العرب ونخوتها، وللجميع حين ينافقون عبقرية محمد القائد العربي الرائد في إدخال السياسة إلى الميدان العسكري بحيث عبأ العرب تعبئة لا مثيل لها في التاريخ.
للتقدميين تفسير خاص لتاريخ المسلمين يتحسس نبضات القوة ونصوص الحركات ليستدل على ثورية الإسلام. وللمتبلدين من أكاديميات البلاد ولع بالدفاع عن نمط الحكم الأموي، وتوسع المعارف الفلسفية في البلاط العباسي، وروعة الحضارة والفن والمعمار في قاهرة الفاطميين وغرناطة دويلات الطوائف. كل ذلك في قَرَن واحد، كل ذلك يدور مع السلطان وتقلباته لا مع القرآن ومن تحت جناحه.
إننا في بحثنا عن المنهاج الإحساني لا نستطيع أن نتخطى تاريخنا. العبرة بالتاريخ سمة يتحلى بها أولو الأبصار. وفهم تاريخنا ذكرى، وما يذكر إلا أولو الألباب. لو كان مشروعنا أن ننعزل عن الدنيا وفتنها لنتفرغ للآخرة ونسلك إليها الطريق السهلة لكان تقليد السادة الصوفية الذين تعطرت بأنفاسهم الأيام لنا سندا كافيا. لكن مشروعنا جهادي ونظرنا إلى الصحابة رضوان الله عليهم المنغمسين -كانوا- في جو الوحي والقتال، كان الإحسان العبادي والإحسان الجهادي لا ينفكان في حياتهم، وفي حياة الصوفية انفك الجهاد عن العبادة، وترك السلطان زائغا عن القرآن.
فقه أئمة التربية الصوفية ثروة لا غنى عنها لأنه فقه قلوب تغذت بذكر الله وتفتحت لنور الله. وفقه الفقهاء المذهبيين ثروة. وأثل لنا المحدثون علما شامخا. وأسس الأصوليون صرحا عليه كان مدار فهم الشريعة. ولا غنى لنا عن كل هذا في مستقبل الإسلام. لكن هذه الكنوز تبقى غامضة المغزى ضبابية الدلالة إن لم نتابعها كيف نشأت، وفي أية تربة نبتت، وبأي مياه سقيت، وأية أيد تناولتها، وأية جهة رعتها، وفي أية حدود استطاعت أن تزدهر، وإلى أي مَدى وتحت أية ضغوط اضطرت أن تنكتم.
إنْ قَفَزْنا فوق تاريخنا فاتتنا العبرة وفاتنا الاستبصار واختلط علينا اللب والجوهر بالقشر والأعراض. وبفوات ذلك نرتطم بالواقع الذي نريد أن نغيره، بَدْءاً بواقع أنفسنا التي نريد أن تكون محسنة.
ما هو المنهاج لفهم فتنة القرن الخامس عشر وما بعده استنادا إلى العبرة بالجاهلية الأولى؟ ما هو منهاج النبوة في تعاملها مع الجاهلية؟ هل نكفر المجتمع ونعتبره جاهليا لنبدأ من نقطة الصفر؟ ما هي التربية النبوية التي جعلت من الصحابة أولياء لله مجاهدين في سبيل الله؟ ما هي الضمانات الإسلامية للإنسان وكرامته وحقوقه التي جاء بها الإسلام، كيف طبقت وكيف ضاعت وكيف تسترد؟ ما هي مواصفات الخلافة الراشدة الأولى حتى نخطط على علم للخلافة الثانية؟ ما خصائص جماعة المسلمين كما ألفها الله على يد رسوله الكريم فحملت أعباء الجهاد لنحذو ذلك الحذو؟ كيف تمزقت الجماعة الأولى وكيف نشأت الفرق في الإسلام، وكيف دب الخلاف، وكيف استفحل، ولم غلا من غلا، وجمد من جمد، واستبد من استبد، وظلم من ظلم؟
كيف نبع أهل البدع والأهواء، وكيف انبرى لهم علماء الكلام، وكيف انكب أئمة الفقه على التفريع، وكيف أصّلوا، وكيف اجتهدوا، وكيف جمع المحدثون وصفوا وغربلوا، وكيف ولم انعزل الصوفية، وكيف زاغ الفلاسفة، وكيف دامت الخصامات، ومن أوْرَى زند الصراعات، وما هي الكوارث التي حلت بالأمة، والانشقاق الداخلي، والغزو الخارجي حتى جاء تهديد أوربا واستعمارها وحلول عساكرها وفكرها ونمط معيشتها وكفرها وماديتها بين ظهرانينا؟
يبدو للملاحظ ذي النظرة البسيطة أن لا علاقة لكل هذه الأسئلة المتعرضة للدنيا وصخبها وناسها بالإحسان وفقه التصوف. لكن من وقف معنا وقفات متروية يعرف عن أي إحسان نبحث. درجة الانقطاع عن العالم لطلب وجه الله درجة مشكورة مذكورة، إحسان فردي فار إلى الله يفوقه ذكرا عند الله إحسان جهادي جماعي يقاتل في سبيل الله. لا إله إلا الله والحمد لله.
تسمى قاعدة الرحا التي عليها تدور ثِفالا، وفي الثفال يغرز المحور. لنتمثل ثفال رحا الإسلام هو جماعة المسلمين وقاعدتهم الاجتماعية السياسية المتماسكة بالأخوة الإيمانية الإحسانية. ولنتمثل محور جماعة المسلمين ما غُرز في القلوب من توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبودية، والطاعة لأمره ونهيه الوارد بهما كتابه، والالتفاف حول الرسول الكريم وحول الخليفة المختار بالإرادة الحرة للأمة. ولنتمثل الشقَّ الأعلى للرحا ما في حياة المجتمعات من متغيرات مثل نظام الإدارة وإدارة الاقتصاد والاجتهاد التشريعي فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة وترتيب الشورى في توزيع المسؤوليات وتخصيص المؤسسات. كل ذلك يدور حول قاعدة ثابتة، وحول محور مكين فيها، قائم عليها. لنتمثل الدعوة وما تمثله من ركائز الدين وقوة الجماعة قاعدة تدور الدولة حولها لخدمتها. هذا هو الوضع الإسلامي الذي كان سائدا ما بين الهجرة النبوية وانقضاء عهد الخلافة الراشدة ثلاثين سنة بعد وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحت ملكا انقلب الوضعُ، وتوسط الملوك والسلاطينُ الرقعة، ومكنوا في البلاد صنائعهم ورجالهم وذوي عصبياتهم، وراود السلطانُ القرآن على تنازلات ورخص وسكوت، وشالت الدولة رجال الدعوة إلى الهامش ليدوروا حول إرادة الحاكم بالسيف والوراثة والعصبية.
الوضع الآن أشد قلبا للحقائق، والدعوة لا يسمح لها بالوجود إلا إذا أعطت الوَلاء غير المشروط للحاكم.
والمطلوب إرجاع الوضع إلى نصابه الإسلامي، وإخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن. الإسلام على الهامش والمطلوب إدخاله مرة أخرى إلى مكان الصَّدارة وإثباته في منصة السيادة. عامة المسلمين جاهلون بدينهم أو شاردون عنه، وطائفة كافرون به محاربون له، والمطلوب أن يرجع الناس إلى الإسلام وأن يقبلوا شرائعه وأن يندرجوا في درجه.
في معرض استخلاص العبرة من سنة الله في الكون، ومعرض مراقبة رحا الإسلام كيف انقلبت ودارت دون أن تتفكك أوصالها ويندثر وجودها، ينبغي أن لا تنسينا صعوبة المشروع -الذي نأمل نجاحه وننتظر- أنَّ حصون السلطان المتمنع من القرآن مهما كانت قوية لا تستطيع مقاومة الجهاد الإحساني إن درنا مع القرآن حقا، وقلدنا المعصوم صلى الله عليه وسلم صدقا.
ينبغي مع توقع المدد الإلهي الخاص أن نتزود بالصبر، ونعول على المطاولة، ونتوغل في الواقع بحزم في غير عنف ولا تسرع، ونوغل في الدين برفق. من يريد أن يغير الواقع في لحظة، ويرفع الموجود بضربة ليحضر مكانه "حلا إسلاميا" جاهزا مكتملا فإنما هو حالم أو مجنون.
سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة.
الوقت بساط على امتداده تتسلسل هذه العمليات وتتوالد وتتدرج. وفي احترام هذا التدرج العام قانونُه على الناس أجمعين تكمن حكمة الله الخاصة بهذه الأمة، تطوى لها المراحل وتمهد الصعاب وتعجل بالنصر. ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بمكة حول البيت الحرام تحيط به مآت الأصنام مظِنَّةَ أن يفتح مكة ويكسر الآلهة القرشية بعد بضع سنوات. كان المشركون ويهود المدينة من بعد يحسُبُون حساب ميزان القوى وهو في صالحهم. ولو شاء الله لأبطل تلك الميزان إبطالا ولأطبق الأخشبين على قريش وخسف الأرض بيهود كما فعل بأعداء الرسل من قبلُ. لكن حكمته جل وعلا اقتضت أن تدور رحا الإسلام بالتدرج في عالم الأسباب، وأن تأتي الدفعة الملكوتية لتساعد الأيدي المجاهدة، داخل التاريخ وفي زحمته لا خرقا سافرا لناموسه.
قال الله تعالى في سورة الحشر يصف فعله جلت عظمته بيهود خيبر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)).
كذلك يقدر الله تعالى أن يأتي البناء الفتنوي من القواعد، وأن يبدلنا خيرا منه، وأن يفتح لنا كل الحصون. ذلك إليه سبحانه، نستغفره ونضرع إليه. والذي علينا أن نتوغل بالرفق الحازم. روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق". وجاء الحديث من طرُق أخرى بزيادة تقول: "ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله. فإن المُنْبَتَّ (المسرع جدا) لا أرضا قطع ولا ظهرا (دابة) أبقى".
التدرج والإيغال برفق من أهم واجبات الراجين نصر الله، الناصرين بجهادهم الصابر لله. في الصحيح: "يؤتي الله على الرفق مالا يؤتي على العنف". وفي القرآن: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)) (سورة الأنعام). يليها قوله تعالى لرسوله ينبهه وإيانا أن العجلة والضيق بالواقع المعاكس لا تغير من الواقع شيئا: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) (سورة الأنعام).
فمن سنن الله أن يُمْلِي للقرى الظالم أهلها ويمهلهم "حتى" يأتيهم بأسه. ومن سننه أن يلهم أولياءه الصبر على بذل الجهد حتى يأتيهم نصره.
فساد كبير يدخل على العبد في نفسه وجسمه وعقله وعادته يتحرج به ويَعْنَتُ ويكره بسببه العمل إن كلف ما لا يطيق، وتزاحمت عليه وظائف الشرع، واكتظ أفقه بالمهام الملحة حتى لا يدري من أين يبدأ. فيعجل ويعنف ولا يحسن في شيء بل يسيء في كل شيء. ما بالك إذا كانت المهام على مستوى إعادة بناء المجتمع، والوظائف الشرعية شاملة لإقامة دولة القرآن، وزحام الأولويات لا يقيم وزناً لمخلفات الماضي ورواسبه المرضية في جسم الأمة ونفسها وعقلها وعادتها. أي عنت يلحَق الأمة وأية كراهية تكره "الحل الإسلامي" إن جاء جاهزا في التصورات الساذجة عنيفا قاطعا سافكا عجلا !
يأتي مدد الله تعالى من حيث لا يظن المومنون، ومن حيث لا يحتسب الآخرون إن تأنسنا بسنة الله ورسوله وتتبعنا واقتدينا. وهي كلها تدرج وبناء متعاقب ورفق يرفع الإكراه في الدين والحرج في الدين والغلو في الدين والتشدد في الدين.
روى الإمام البخاري في كتاب فضائل القرآن من صحيحه عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها جاءها عراقي فقال: "أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك ! ؟ قال: يا أم المومنين، أريني مصحفك: قالت: لمَ؟ قال: لعله أؤلف القرآن فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: ما يضرك أيَّه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس (رجعوا) إلى الإسلام نزل الحلال والحرامُ. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا ! ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا ! " الحديث.
فال الحافظ ابن حجر: "أشـارت (أمنا عـائشة) إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنـزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمومن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار. فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام. ولهذا قالت: "ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندعها". وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف". قال رحمه الله: "وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال".
العراقي يدقق في جزئيات الكفن وأم المومنين تزجره وتدله على سعة الدين. والنفوس تنفر أشد النفور من الإقلاع عن العادة. ومن الإسلاميين المعاصرين من يدل على الضيق ويتصور أن فرض القوانين الإسلامية بالقوة يوم يستولي جند الله على السلطة كاف لإقامة الدين. لا نتفق مع هذه العقلية القانونية، ولا نحب أن يصبح أهل الحق جلادين يُكْرِهون ويكرِّهون، ولا نقول برفع التكليف لنبدأ من نقطة التوحيد فقد تم التنـزيل والأمة مسلمة مكلفة بالشرع كله. لكن نقول بوجوب التدرج وضرورة التربية.
تكلم الشاطبي رحمه الله طويلا في "الموافقات" على أصل مكين من أصول الدين وهو رفع الحرج والمشقة. وذكر قصة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ما أجدرنا أن نجعلها لنا شعارا. سأله ابنه عبد الملك، وكان رجلا صالحا: "ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لَوْ أن القُدُورَ غَلَتْ بي وبك في الحق ! " فقال الخليفة العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد المطلق: "لا تعجل يا بني ! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيَدَعوه جملة، فيكون من ذا فتنة".
من كتاب سنة الله ، فقرة رحا الأسلام.
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
رد: 1.دراسات في التاريخ الأسلامي:(كيف نقرأ التاريخ الأسلامي؟)
بارك الله فيك اخ عمر كلام طيب
اخوكم
اخوكم
<br>
كاره اليهود- عضو مشارك
-
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
عدد المساهمات : 98
نقاط : 5182
السٌّمعَة : 0
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
مواضيع مماثلة
» دراسات في التاريخ الأسلامي:( مقدمة)
» دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
» الخازوق عبر التاريخ
» هكذا سطروا التاريخ
» نموذج من تزوير التاريخ
» دراسات في التاريخ من خلال نظرات في الفقه و التاريخ للشيخ عبد السلام ياسين
» الخازوق عبر التاريخ
» هكذا سطروا التاريخ
» نموذج من تزوير التاريخ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى