قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
2 مشترك
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان
صفحة 1 من اصل 1
قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
قال الله تعالى وتقدس: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون* واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا, واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءا فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا, وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها, كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه). قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة, وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).
وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الخوارج: "أنهم كلاب أهل النار" وقرأ هذه الآية: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه). قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه, وخرج البخاري طائفة منها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم, يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية – وفي رواية - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان".
والخوارج هم أول من كفّر المسلمين. يكفرون بالذنوب ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله, فيتبعون الحق, ويرحمون الخلق.
وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة, حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم, وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه, وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر" ورواه عنه البخاري في صحيحه.
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات, لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم, فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين, ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره, بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور, ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أوفجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أوفاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره, فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم, وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة, وهوأحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أوالفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أوفاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم.
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الإستحباب, كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحمد إنه لا تصح إلا خلف من اعرف حاله.
ولما قدم أبوعمر وعثمان بن مرزوق إلى ديار مصر -وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع, وكانوا باطتية ملاحدة, وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية- أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة, ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين, ومن قال إن الصلاة محرمة أوباطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره, كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعا وجلده عثمان بن عفان على ذلك.
وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن بوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهما بالإلحاد وداعيا إلى الضلال.
فصل
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه, كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة, فإن الله تعالى قال (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله, لا نفرق بين أحد من رسله, وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة, بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم, ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين, فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم, فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هوأعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها, وإن كانت فيها بدعة محققة, فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ, والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وقال صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وقال صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهوالمسلم له ذمة الله ورسوله" وقال "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل يا رسول الله هذا القاتل, فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وقال "إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما" وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولا في القتال أوالتكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر ابن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا, وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر, فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟" وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضا: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين, واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق, ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا, بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قودا, ولا دية, ولا كفارة, لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم, وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون, وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين, لا يعادون كمعاداة الكفار, فيقبل بعضهم شهادة بعض, ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض, مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه " أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك, وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك, وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك" وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا.
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى (قل هوالقادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال "أعوذ بوجهك" (أومن تحت أرجلكم) قال "أعوذ بوجهك" (أويلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) قال "هاتان أهون".
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف, ونهى عن البدعة والاختلاف, وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" وقال: " الشيطان مع الواحد وهومن الإثنين أبعد" وقال: " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم".
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم, وإن رأى بعضهم ضالا أوغاويا وأمكنأن يهديه ويرشده فعل ذلك, وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها, وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه, وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله, فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة, فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة, فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا".
وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره, كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا, وكان قد رد بدعة ببدعة.
حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم, حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهومبتدع. وهذا أظهر القولين, لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع, ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله, والمحبوس وذووا الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة, بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلا بوجوبها لم يأمره بالقضاء, فعمرووعمار لما أجنبا وعمرولم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء, وأبوذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء, والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء.
والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء, وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسودمن الفجر) هوالحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هوسواد الليل وبياض النهار" ولم يأمرهم بالقضاء؛ والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات, والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت (بالأمر بالصلاة إلى الكعبة) وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا, وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال, في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت وقيل لا يثبت, وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين".
فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدرا.
المصدر: مجموع الفتاوى لابن تيمية, جزء 3 , ص 278-292
وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الخوارج: "أنهم كلاب أهل النار" وقرأ هذه الآية: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه). قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه, وخرج البخاري طائفة منها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم, يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية – وفي رواية - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان".
والخوارج هم أول من كفّر المسلمين. يكفرون بالذنوب ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله, فيتبعون الحق, ويرحمون الخلق.
وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة, حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم, وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه, وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر" ورواه عنه البخاري في صحيحه.
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات, لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم, فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين, ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره, بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور, ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أوفجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أوفاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره, فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم, وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة, وهوأحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أوالفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أوفاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم.
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الإستحباب, كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحمد إنه لا تصح إلا خلف من اعرف حاله.
ولما قدم أبوعمر وعثمان بن مرزوق إلى ديار مصر -وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع, وكانوا باطتية ملاحدة, وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية- أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة, ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين, ومن قال إن الصلاة محرمة أوباطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره, كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعا وجلده عثمان بن عفان على ذلك.
وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن بوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهما بالإلحاد وداعيا إلى الضلال.
فصل
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه, كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة, فإن الله تعالى قال (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله, لا نفرق بين أحد من رسله, وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة, بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم, ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين, فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم, فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هوأعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها, وإن كانت فيها بدعة محققة, فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ, والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وقال صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وقال صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهوالمسلم له ذمة الله ورسوله" وقال "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل يا رسول الله هذا القاتل, فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وقال "إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما" وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولا في القتال أوالتكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر ابن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا, وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر, فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟" وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضا: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين, واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق, ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا, بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قودا, ولا دية, ولا كفارة, لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم, وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون, وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين, لا يعادون كمعاداة الكفار, فيقبل بعضهم شهادة بعض, ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض, مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه " أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك, وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك, وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك" وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا.
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى (قل هوالقادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) قال "أعوذ بوجهك" (أومن تحت أرجلكم) قال "أعوذ بوجهك" (أويلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) قال "هاتان أهون".
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف, ونهى عن البدعة والاختلاف, وقال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" وقال: " الشيطان مع الواحد وهومن الإثنين أبعد" وقال: " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم".
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم, وإن رأى بعضهم ضالا أوغاويا وأمكنأن يهديه ويرشده فعل ذلك, وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها, وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه, وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله, فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة, فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة, فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا".
وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره, كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا, وكان قد رد بدعة ببدعة.
حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم, حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهومبتدع. وهذا أظهر القولين, لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع, ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله, والمحبوس وذووا الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة, بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلا بوجوبها لم يأمره بالقضاء, فعمرووعمار لما أجنبا وعمرولم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء, وأبوذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء, والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء.
والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء, وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسودمن الفجر) هوالحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هوسواد الليل وبياض النهار" ولم يأمرهم بالقضاء؛ والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات, والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت (بالأمر بالصلاة إلى الكعبة) وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا, وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال, في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت وقيل لا يثبت, وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين".
فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدرا.
المصدر: مجموع الفتاوى لابن تيمية, جزء 3 , ص 278-292
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
كان عبد الله بن المبارك محدثا كبيرا، وجمع الله له إلى ذلك خصالا جليلة، فكان شاعرا جوادا مجاهدا، يحج عاما ويغزو عاما. واشتهر فضيل بن عياض بالزهد والصلاح، يعتبره الزهاد والصوفية إماماً.
عِتَابٌ رقيق بين صديقين متصافيين. وكان الرجلان عَلَمين بارزين من أعلام القرن الثالث الفاضل. في القرون التالية اتخذ الخلاف في المذهب والرأي ووجهة النظر شكل الجدَل العَنيف، واستفحل، وكانت حروب كلامية وغارات. وتَرِثُ هذه الأجيال المتأخرة كتُبَ الخلاف فيما ترث، فتقفُ عند جزئيات الخلاف دون أن تتعلم أن ذلك الخلاف كان ضروريا، وكان رحمة، لأنه تمخض عن زبدة الدين، وتحررتْ من خلاله العقيدة، وصُفي الحديث، وتأصل الفقه، وحوربت البدع.
لا يمكننا أن نضرب بما شجر من خلاف بين علمائنا عُرض الحائط، ويمكننا أن نستفيد من مسيرة هُبوطِهِ إلينَا اكتشاف الطريق الصاعدة إلى النبوة والخلافة الراشدة. تخطي هذا الخلاف مثل اتّخاذه هدفاً أسمى وسقفا موقفان متطرفان، بينهما توجد الحكمة.
والحكمة قبول الخلاف ظاهرةً بشرية، وقبول تنوع الاجتهاد، وتنظيم هذا التنوع. وبداية الحكمة أن نضع خلافات علمائنا الأولين مواضعها النسبية، لا نتخذ رأي فلان أو فلان مرجعا نهائيا ومطلقا لا تسمو العقول لمناقشته.
حظُّ كل صاحب مذهب ورأي من حفظ النص وتحريره، ومن حِدة العقل وتنظيمه، ومن تَوجُّه الإرادة وسموها ومضائها يحدد إمكانياته ويرسم له حدودا. فينكر في حدوده وظروفه وزمانه ومكانه ما هو عند الآخرين غير منكور. ويَرُدّ ويُردّ عليه. ولكل مجتهد أجر عند الله، ووجه معقول مَقْبول عند العقلاء الموفقين.
عقبة الخِلاف في شأن الصوفية والتصوف ليست أهون العقبات أمام من يريد أن يشرح ما عند القوم من كنز محفوظ لقارئ وقع في يده كتاب من هذه الورقات السطحية التي تتكاثر في السوق، يكتبها من ألهاهم التكاثر عن السؤال المركزي: "وأنا ماذا فعلت، وماذا علمت، وما حظي من ربي؟".
ينحصر معظم الخلاف على الصوفية في المُحَدّثين الحنابلة. علم أصول الحديث علم تعديل وتجريح، وبنفس المنهاج تناول الحنابلة المحدثون الصوفية فجرحوا أكثر مما عَدَّلوا. وكان من أدعياء التصوف وفلاسفة الإشراق طوائف نالوا بجدارة واستحقاق من بعض المحدثين الحنابلة تصويرا سلبيا محضا. فأنت إذا قرأت كتاب "تلبيس إبليس" خيل إليك أن الصوفية في كلمة واحدة هم إخوان الشياطين. ويا حسرة على من قرأ نُقول من نقل عن من نقل عن أمثال ابن الجوزي رحمه الله، ثم اكتفى وطوى الملف! ماذا فاتك يا مسكين!
لهذه الخلافات أسباب ظاهرة مشروعة، مثل الخلاف في العقيدة، ولها أسباب دُنيوية تاريخية. والخلاف جزء لا يتجزأ من العناصر الحركية التي عليها صلحت الأرض واستقامت. الخلاف مهما كانت أسبابه، شريفة عفيفة أو مغرضة أو جاهلة أو تحاملية، دفاع الله الناس بعضهم ببعض، )وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( (سورة البقرة، الآية: 251).
قال التاج السبكي يقص قصة خلاف المحدثين والصوفية، وقد كان ووالده التقي السبكي شيخ الإسلام من أكبر المعارضين لابن تيمية. قال: "نبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أن الخلاف بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث قد أوجب كلام بعضهم في بعض، كما تكلم بعضهم في الحارث المحاسبي وغيره. وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد، وإن عده ابن دقيق العيد غيرَهُ. والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى. نعم، وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا. وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين"[1].
عندما تختلف الآراء، وتشتبك الألسنة في الجدال تثور النفوس وتتعمق الهوة بين الخصوم، ويجد الشيطان في هوى الناس مطية لإشعال الفِتْنة. والغِرُّ من يظن أن النزاعات بين العلماء تعكس كلها الصفاء الملائكي والتحري المجرد عن كل شائِبَةٍ. والبشر بشر، والفتنة اللسانية أمضى من فتنة السيف وأسرع ضِراما. روى أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكون الفتنة تَستنطف (أي تأتي على الأخيار) العرب. قتلاها في النار. اللسان فيها أشد من السيف". هذا لفظ الترمذي.
والغيرة البشرية بين الأقران والمتعاصرين تتدخَّل فتُضخِّم ما يكون ثَمَّ من أصل حقيقي للخلاف. رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لا أدركتُ ولا أدْركتم زمانا يتغاير الناس فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج!".
ولأبِي عُمر بن عبد البر كلام نفيس في الموضوع أنقله عن التاج السبكي. وابن عبد البر من المحدثين المحققين يحظى بالاعتبار التام عند علماء الأمة. قال السبكي: "عقد الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزُّبَيْر رضي الله عنه: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء" الحديث. قلت: وهو حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيصيب أمتي داء الأمم فقالوا يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال الأشَرُ والبَطَرُ والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي".
ثم قال السبكي رحمه الله: "وروى (ابن عبد البر) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض. فوالذي نفسي بيده، لهم أشدُّ تَغايُراً من التُّيوس في زُروبها" وعن مالك بن دينار: "يوخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض"(...). واختلاف الاجتهاد مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه. وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا. ثم اندفع ابن عبد البر في ذكر كلام جماعة من النظراء بعضهم في بعض وعدم الالتفات إليه، إلى أن انتهى إلى كلام ابن معين (وهو من كبار المحدثين) في الشافعي، وقال: إنه مما نُقِمَ على ابن معين وعِيبَ به. وذكر قول أحمد بن حنبل: "من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعيّ، ولا يعرف ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئا عاداه"[2].
أقول وبالله التوفيق: إن خلاف العلماء وشجارهم ووقوع بعضهم في بعض عن حسن نية أو فلتةً بشريّةً ينبغي أن لا يوهمنا أن الحق في هذا الجانب ضربة لازب. فهم خطاؤون ككل ابنٍ لآدم، وهم مخطئون أحيانا. وحلة القدسية التي يضفيها خيال المُقلدين على إمام عالم هي من صنع الجهل. وكل واحد يؤخذ من كلامه ويطرح إلا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
وأرجع لابن السبكي وابن عبد البر لأنقل إليك فَصّاً ثمينا من فصوص العلم ونوادر الحكمة. قال: "ثم قال ابن عبد البر: فمن أراد قبول قول العلماء الثقات بعضهم في بعض فليقبل قول الصحابة بعضهم في بعض. قال: فإن فعل ذلك فَقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خُسرانا مبينا. قال: وإن لم يفعل، ولن يفعل إن هداه الله وألهمه، فليقف عند ما شرطناه في أن لا يقبل في صحيح العدالة المعلوم بالعلم قول قائل لا برهان له".
يظلم نَفسَه ويظلم العلماءَ من يجرد الخصومات التي خاضُوها من ملابساتها الظرفية وشوائبها البشرية، وينصب أحدَهم لواءً خفاقا يخوض تحته معاركهُ هو، عن جهل للأصول والفروع، وعن تقليد أعمى لمن لا يحسن حتى فك جملهم وفهم لغتهم، فأحرى أن يفهم مرامي الكلام وظواهره وبواطنه ودوافعه ومقدماته التاريخية.
من المظلومين في هذا العصر شيخ الإسلام ابن تيمية. تبحره في العلوم، وتمكنه في الحديث وقد كان حافظا، ثم انتشار كتبه الانتشار الواسع تنفق عليها بسخاء جهات معروفة لأسباب قد لا يعرفها كل الناس، جعل من اسمه سلاحا مرهبا، ومن سرد كلماته حجة قاطعة، ومن فكره مرجعا نهائيا، يحسب المتحنبلون الجدد أن كلمة شيخ الإسلام رحمه الله هي الكلمة الفصل، والكلمة الوحيدة، والكلمة الأخيرة، وكأن الله عز وجل لم يخلق معه ولا بعده عالما يذكر.
تعمدت في هذا الكتاب الاستشهاد بكلام ابن تيمية، وخاصة بكلام تلميذه ومريده هذا النجم الثاقب في سماء البيان ابن القيم، إشفاقا على من ظَلَموا أنفسهم وظلموا أهل العلم، وإشفاقا على من تجرعوا مرارات الخلاف وصمَّتْ آذانَهم طبولُ المقلِّدَةِ.
كتب الدكتور سعيد رمضان البوطي مقالا مهما بعنوان: "موقف ابن تيمية من ابن عربي"، دافع فيه عن ابن عربي بما هو معروف من أن كتبه دُسَّ فيها الكثير. في كتابي هذا تجنّبت مواطن الخلاف على الأشخاص، إذ الشأنُ بي وبك لا بمن مضوا وانقضوا ولقُوا الله بأعمالهم. لكني أنقل إليك تظَلُّم عالمنا الجليل سعيد من المقلدة. قال: "والحقيقة التي لا ريب فيها أن ابن تيمية رحمه الله قد ظُلم من قِبَلِ هؤلاء الناس... لقَدْ ظُلم من قبلهم مرتين: المرةَ الأولى أنّهم نسبوا إليه بسبب جهلهم أو بسبب أغراضهم التي يتأبطونها مالم يقله، وما لم يخطر منه على بال. فقد صوّروا منه عدوا للتصوف، وهو من أبرز المنافحين عنه والداعين إليه، والقائلين بوجوب الانخراط في منهجه التربوي على كل مسلم(...).
قال: "والمرةَ الثانيَةَ أنهم صَبَغوه بذلك في تصوُّر كثير من الناس، بل حتى العلماءِ والباحثين السطحيين، بصبغة المُنكِرِ لهذا الذي ثبت أنه جوهر الإسلام ولُبابه، والمنقِّصِ لكل من سار في هذا الطريق وسلك الناس في طريق تزكية النفس، حتى غدا اسم ابن تيمية عند عامة الناس رمزاً لمحاربة هذا السبيل الإسلامي القويم"[3].
نعم، من العقبات الكبرى والحواجز العائقة عن سماع كلمة الحق في موضوع جوهر الإسلام ولُبابه استعمال المتسطحين الحرفيين لاسم ابن تيمية وترجمتهم لفكره.
كان الرجل رحمه الله شعلة من الذكاء والهمة العالية والفروسية العلمية والميدانية. كانت حياته كلها معارك، فاصطبغ فكرُه بلون الأرْجُوان، وعلاه غبار الميدان الحربي. ولولا وضوح فكره وتمكنه ورسوخه في العلوم، ولولا تشبثه المتين بالأصول يدافع عن الحق في زمان استفحلت فيه البدع، وهجمت الباطنية، وطمَّ الغزو التتاري فكان الفارس المُعْلَم في كل تلك الميادين، لكانت خلافياته مما طُوِيَ وبقي في الرفوف. لكن نشر تراثه الممتاز أثار موجة من البلوى عمت وطمت.
الرجل، وإن كان اختلف مع المتأخرين من الصوفية، يعتبر أمثال الجنيد وابن يزيد وسهل أئمة هدى. ويضع الشيخ عبد القادر الجيلاني موضع الاحترام المطلق. يذكر اسمه فيقرنه بالترحم الصوفي على الأكابر: "قدس الله سره".
إن كان ابن تيمية كفر هذا وجرح ذاك وشدّد على هؤلاء وسالم أولئك، فتلك معاركُ مضت وانقضت. وتبقى رسالة ابن تيمية وشهادته ناصعة الجبين واضحة المعالم لمن تجاوز مراحل محاربة الأمية أنَّه من أكبر الداعين للتزكي القلبي وصحبة المشايخ وملازمة الأوراد.
خاصم الغزاليَّ في أمور نُسبت إليه في كتاب "مشكاة الأنوار" وكتاب "كيمياء السعادة" ثم قال: "وقد أنكر عليه (على الغزالي) طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق. وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم. وأخطأوا أيضا في هذا النفي. بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم"[4].
المكاشفة والكشف والفتح هي الأسماء التي يطلقها الصوفية على العلوم الوهبية التي يفتحها الله الكريم الوهاب على من يشاء مصداقا لوعده الكريم: )وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ( (سورة البقرة، الآية: 282). ابن تيمية من أهل الذوق، علم يقينا أن الذاكرين السالكين تفتح لهم أبواب من العلم لا يَنالها غيرهم. وهذا لب المسألة كلها. ومن العلماء من ينكر هذا العلم الموهوب جملة وتفصيلا ويعتبر المكاشفة "كلاما فارغا"[5]. وكلا الرجلين محدث حنبلي، لكن شتان ما بينهما.
نقطة أخرى تتطابق فيها معرفة ابن تيمية وتجربته مع معرفة الغزالي وتجربته، هي ضرورة صحبة المشايخ لاكتساب علوم الولاية. قال: "أهل التصفية والرياضة والتأله يحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر، كما قال الشيخ الملقب بالكبيري للرازي ورفيقه، وقد قالا له: يا شيخ! بلغنا أنك تعلم علم اليقين. فقال: نعم! فقالا: كيف تَعْلَمُ ونحن نتناظر في زمان طويل، كلما ذكرَ شيئا أفسدتُه، وكلما ذكرتُ شيئا أفسدَه؟ فقال: هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام. وطلب أحدهما أن يحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له"[6].
اعتراف إذا ونصح بمشروعية التشيخ وبنتائجه.
في نص آخر يصرح ابن تيمية بحقيقة لا تسعها أدمغة المقلدة، ولعل منهم من يؤولها لنا تأويلا إن استطاع. قال: "إن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم (أي الفلاسفة) الذي ذكروه، بله الفراسة أيضا وأمثالها"[7].
قرَنَ إذن الأنبياء والأولياء في تلقي علوم الوحي والإلهام. هل قال الغزالي وأكابر السادة الصوفية غير هذا؟
كان ابن تيمية رحمه الله ذا شخصية قوية عزيزة الجانب. قوته وعزة جانبه يرشَحان من مقالاته الجازمة الحاسمة في مؤلفاته. فمن لا يعطي الحقائق مكانتها النسبيّة يظن أن ما كتبه عالِمنا الواسعُ في زمان ما ومكان ما حقٌّ مطلقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذلك خطل وخبال.
كان خطاءً ككل بني آدم عرضة للخطإ مثلهم. وكان يكتب اليوم ما يجزم به اليوم، فيَفتح الله له غدا بما يناقض اقتناعه بالأمس. نرجع إن شاء الله في الفصل السادس من هذا الكتاب لمسألة نظر الأولياء في اللوح المحفوظ. ابن تيمية الشيخ يكتب في مرحلة ما من مراحل سلوكه أن ذلك ممتنع، ويشهد ابن القيم المريد أن شيخه صرح بأنه ينظر في اللوح المحفوظ. تناقض؟ لا! لكن سَيْر، واطلاع نسبي، وقصور بشري، ومِنن إلهية يختص الله بها من شاء من عباده متى شاء. وقد نعرض لبعض التناقضات الظاهرة في كلام ابن تيمية وتلميذه الوفي، لا لكي نحطم الشخصين العزيزين، لكن لنكسر صورة التشويه التي صنعها المقلدة.
كان خصوم ابن تيْمية يرمونه بتهمة أنه لم يتأدب على يد شيخ يهذب شخصيته. وكيف ينقاد شخص في مثل قوته وكرامته واندفاعه لأحد؟ قال التقي السبكي الوالد: "ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له اطلاع، ولم يجد شيخا يهذبه، وهو على مذهبهم (يعني الحنابلة المُثْبتة يسميهم الخصوم مجسمة). وهو جَسور مُتجرد لتقرير مذهبه"[8]. وقال: "وهو كان مكثرا من الحفظ، ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه، مع جسارة واتساع خيال وشغَب كثير( … ). وكان الناس في حياته قد ابتلوا بالكلام معه للرد عليه"[9].
في نظر معاصري ابن تيمية يتقمّص ابن تيمية حجمه الطبيعي النسبي: "جاء في أواخر المائة السابعة رجل"، رجل "له اطلاع ولم يجد شيخا يهذبه". لَمّا ترفعه قداسة القِدَمِ وتقليد القاصرين إلى مراتب العلاء.
ومن معاصري شيخ الإسلام، من المحدثين الحنابلة الصوفيين، رجل من أكابر العلماء وأئمتهم لا ريب، أخذت منه شخصية الحافظ "الجسور" كل مأخذ، فاتخذه شيخا بكل ما في كلمة "شيخ" من فخامة وضخامة، وأحبه وأخلص له، ووَفّى، وخاض معه معارك، وبث في كتبه النفيسة ما أورثته صحبة شيخ الإسلام الكريم علينا من علوم ظاهرة، وأذواق باطنة لا تكون إلا عند خلّص الصوفية. ها هو يشيد بشيخه إشادة لاَ يتأتى لها النثر. فقال شعرا في نونيته المشهورة التي سجَّلت معركة حَاميةً في تاريخ الخلاف.
عِتَابٌ رقيق بين صديقين متصافيين. وكان الرجلان عَلَمين بارزين من أعلام القرن الثالث الفاضل. في القرون التالية اتخذ الخلاف في المذهب والرأي ووجهة النظر شكل الجدَل العَنيف، واستفحل، وكانت حروب كلامية وغارات. وتَرِثُ هذه الأجيال المتأخرة كتُبَ الخلاف فيما ترث، فتقفُ عند جزئيات الخلاف دون أن تتعلم أن ذلك الخلاف كان ضروريا، وكان رحمة، لأنه تمخض عن زبدة الدين، وتحررتْ من خلاله العقيدة، وصُفي الحديث، وتأصل الفقه، وحوربت البدع.
لا يمكننا أن نضرب بما شجر من خلاف بين علمائنا عُرض الحائط، ويمكننا أن نستفيد من مسيرة هُبوطِهِ إلينَا اكتشاف الطريق الصاعدة إلى النبوة والخلافة الراشدة. تخطي هذا الخلاف مثل اتّخاذه هدفاً أسمى وسقفا موقفان متطرفان، بينهما توجد الحكمة.
والحكمة قبول الخلاف ظاهرةً بشرية، وقبول تنوع الاجتهاد، وتنظيم هذا التنوع. وبداية الحكمة أن نضع خلافات علمائنا الأولين مواضعها النسبية، لا نتخذ رأي فلان أو فلان مرجعا نهائيا ومطلقا لا تسمو العقول لمناقشته.
حظُّ كل صاحب مذهب ورأي من حفظ النص وتحريره، ومن حِدة العقل وتنظيمه، ومن تَوجُّه الإرادة وسموها ومضائها يحدد إمكانياته ويرسم له حدودا. فينكر في حدوده وظروفه وزمانه ومكانه ما هو عند الآخرين غير منكور. ويَرُدّ ويُردّ عليه. ولكل مجتهد أجر عند الله، ووجه معقول مَقْبول عند العقلاء الموفقين.
عقبة الخِلاف في شأن الصوفية والتصوف ليست أهون العقبات أمام من يريد أن يشرح ما عند القوم من كنز محفوظ لقارئ وقع في يده كتاب من هذه الورقات السطحية التي تتكاثر في السوق، يكتبها من ألهاهم التكاثر عن السؤال المركزي: "وأنا ماذا فعلت، وماذا علمت، وما حظي من ربي؟".
ينحصر معظم الخلاف على الصوفية في المُحَدّثين الحنابلة. علم أصول الحديث علم تعديل وتجريح، وبنفس المنهاج تناول الحنابلة المحدثون الصوفية فجرحوا أكثر مما عَدَّلوا. وكان من أدعياء التصوف وفلاسفة الإشراق طوائف نالوا بجدارة واستحقاق من بعض المحدثين الحنابلة تصويرا سلبيا محضا. فأنت إذا قرأت كتاب "تلبيس إبليس" خيل إليك أن الصوفية في كلمة واحدة هم إخوان الشياطين. ويا حسرة على من قرأ نُقول من نقل عن من نقل عن أمثال ابن الجوزي رحمه الله، ثم اكتفى وطوى الملف! ماذا فاتك يا مسكين!
لهذه الخلافات أسباب ظاهرة مشروعة، مثل الخلاف في العقيدة، ولها أسباب دُنيوية تاريخية. والخلاف جزء لا يتجزأ من العناصر الحركية التي عليها صلحت الأرض واستقامت. الخلاف مهما كانت أسبابه، شريفة عفيفة أو مغرضة أو جاهلة أو تحاملية، دفاع الله الناس بعضهم ببعض، )وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( (سورة البقرة، الآية: 251).
قال التاج السبكي يقص قصة خلاف المحدثين والصوفية، وقد كان ووالده التقي السبكي شيخ الإسلام من أكبر المعارضين لابن تيمية. قال: "نبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أن الخلاف بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث قد أوجب كلام بعضهم في بعض، كما تكلم بعضهم في الحارث المحاسبي وغيره. وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد، وإن عده ابن دقيق العيد غيرَهُ. والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى. نعم، وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا. وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين"[1].
عندما تختلف الآراء، وتشتبك الألسنة في الجدال تثور النفوس وتتعمق الهوة بين الخصوم، ويجد الشيطان في هوى الناس مطية لإشعال الفِتْنة. والغِرُّ من يظن أن النزاعات بين العلماء تعكس كلها الصفاء الملائكي والتحري المجرد عن كل شائِبَةٍ. والبشر بشر، والفتنة اللسانية أمضى من فتنة السيف وأسرع ضِراما. روى أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكون الفتنة تَستنطف (أي تأتي على الأخيار) العرب. قتلاها في النار. اللسان فيها أشد من السيف". هذا لفظ الترمذي.
والغيرة البشرية بين الأقران والمتعاصرين تتدخَّل فتُضخِّم ما يكون ثَمَّ من أصل حقيقي للخلاف. رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لا أدركتُ ولا أدْركتم زمانا يتغاير الناس فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج!".
ولأبِي عُمر بن عبد البر كلام نفيس في الموضوع أنقله عن التاج السبكي. وابن عبد البر من المحدثين المحققين يحظى بالاعتبار التام عند علماء الأمة. قال السبكي: "عقد الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزُّبَيْر رضي الله عنه: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء" الحديث. قلت: وهو حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيصيب أمتي داء الأمم فقالوا يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال الأشَرُ والبَطَرُ والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي".
ثم قال السبكي رحمه الله: "وروى (ابن عبد البر) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض. فوالذي نفسي بيده، لهم أشدُّ تَغايُراً من التُّيوس في زُروبها" وعن مالك بن دينار: "يوخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض"(...). واختلاف الاجتهاد مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه. وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا. ثم اندفع ابن عبد البر في ذكر كلام جماعة من النظراء بعضهم في بعض وعدم الالتفات إليه، إلى أن انتهى إلى كلام ابن معين (وهو من كبار المحدثين) في الشافعي، وقال: إنه مما نُقِمَ على ابن معين وعِيبَ به. وذكر قول أحمد بن حنبل: "من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعيّ، ولا يعرف ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئا عاداه"[2].
أقول وبالله التوفيق: إن خلاف العلماء وشجارهم ووقوع بعضهم في بعض عن حسن نية أو فلتةً بشريّةً ينبغي أن لا يوهمنا أن الحق في هذا الجانب ضربة لازب. فهم خطاؤون ككل ابنٍ لآدم، وهم مخطئون أحيانا. وحلة القدسية التي يضفيها خيال المُقلدين على إمام عالم هي من صنع الجهل. وكل واحد يؤخذ من كلامه ويطرح إلا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
وأرجع لابن السبكي وابن عبد البر لأنقل إليك فَصّاً ثمينا من فصوص العلم ونوادر الحكمة. قال: "ثم قال ابن عبد البر: فمن أراد قبول قول العلماء الثقات بعضهم في بعض فليقبل قول الصحابة بعضهم في بعض. قال: فإن فعل ذلك فَقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خُسرانا مبينا. قال: وإن لم يفعل، ولن يفعل إن هداه الله وألهمه، فليقف عند ما شرطناه في أن لا يقبل في صحيح العدالة المعلوم بالعلم قول قائل لا برهان له".
يظلم نَفسَه ويظلم العلماءَ من يجرد الخصومات التي خاضُوها من ملابساتها الظرفية وشوائبها البشرية، وينصب أحدَهم لواءً خفاقا يخوض تحته معاركهُ هو، عن جهل للأصول والفروع، وعن تقليد أعمى لمن لا يحسن حتى فك جملهم وفهم لغتهم، فأحرى أن يفهم مرامي الكلام وظواهره وبواطنه ودوافعه ومقدماته التاريخية.
من المظلومين في هذا العصر شيخ الإسلام ابن تيمية. تبحره في العلوم، وتمكنه في الحديث وقد كان حافظا، ثم انتشار كتبه الانتشار الواسع تنفق عليها بسخاء جهات معروفة لأسباب قد لا يعرفها كل الناس، جعل من اسمه سلاحا مرهبا، ومن سرد كلماته حجة قاطعة، ومن فكره مرجعا نهائيا، يحسب المتحنبلون الجدد أن كلمة شيخ الإسلام رحمه الله هي الكلمة الفصل، والكلمة الوحيدة، والكلمة الأخيرة، وكأن الله عز وجل لم يخلق معه ولا بعده عالما يذكر.
تعمدت في هذا الكتاب الاستشهاد بكلام ابن تيمية، وخاصة بكلام تلميذه ومريده هذا النجم الثاقب في سماء البيان ابن القيم، إشفاقا على من ظَلَموا أنفسهم وظلموا أهل العلم، وإشفاقا على من تجرعوا مرارات الخلاف وصمَّتْ آذانَهم طبولُ المقلِّدَةِ.
كتب الدكتور سعيد رمضان البوطي مقالا مهما بعنوان: "موقف ابن تيمية من ابن عربي"، دافع فيه عن ابن عربي بما هو معروف من أن كتبه دُسَّ فيها الكثير. في كتابي هذا تجنّبت مواطن الخلاف على الأشخاص، إذ الشأنُ بي وبك لا بمن مضوا وانقضوا ولقُوا الله بأعمالهم. لكني أنقل إليك تظَلُّم عالمنا الجليل سعيد من المقلدة. قال: "والحقيقة التي لا ريب فيها أن ابن تيمية رحمه الله قد ظُلم من قِبَلِ هؤلاء الناس... لقَدْ ظُلم من قبلهم مرتين: المرةَ الأولى أنّهم نسبوا إليه بسبب جهلهم أو بسبب أغراضهم التي يتأبطونها مالم يقله، وما لم يخطر منه على بال. فقد صوّروا منه عدوا للتصوف، وهو من أبرز المنافحين عنه والداعين إليه، والقائلين بوجوب الانخراط في منهجه التربوي على كل مسلم(...).
قال: "والمرةَ الثانيَةَ أنهم صَبَغوه بذلك في تصوُّر كثير من الناس، بل حتى العلماءِ والباحثين السطحيين، بصبغة المُنكِرِ لهذا الذي ثبت أنه جوهر الإسلام ولُبابه، والمنقِّصِ لكل من سار في هذا الطريق وسلك الناس في طريق تزكية النفس، حتى غدا اسم ابن تيمية عند عامة الناس رمزاً لمحاربة هذا السبيل الإسلامي القويم"[3].
نعم، من العقبات الكبرى والحواجز العائقة عن سماع كلمة الحق في موضوع جوهر الإسلام ولُبابه استعمال المتسطحين الحرفيين لاسم ابن تيمية وترجمتهم لفكره.
كان الرجل رحمه الله شعلة من الذكاء والهمة العالية والفروسية العلمية والميدانية. كانت حياته كلها معارك، فاصطبغ فكرُه بلون الأرْجُوان، وعلاه غبار الميدان الحربي. ولولا وضوح فكره وتمكنه ورسوخه في العلوم، ولولا تشبثه المتين بالأصول يدافع عن الحق في زمان استفحلت فيه البدع، وهجمت الباطنية، وطمَّ الغزو التتاري فكان الفارس المُعْلَم في كل تلك الميادين، لكانت خلافياته مما طُوِيَ وبقي في الرفوف. لكن نشر تراثه الممتاز أثار موجة من البلوى عمت وطمت.
الرجل، وإن كان اختلف مع المتأخرين من الصوفية، يعتبر أمثال الجنيد وابن يزيد وسهل أئمة هدى. ويضع الشيخ عبد القادر الجيلاني موضع الاحترام المطلق. يذكر اسمه فيقرنه بالترحم الصوفي على الأكابر: "قدس الله سره".
إن كان ابن تيمية كفر هذا وجرح ذاك وشدّد على هؤلاء وسالم أولئك، فتلك معاركُ مضت وانقضت. وتبقى رسالة ابن تيمية وشهادته ناصعة الجبين واضحة المعالم لمن تجاوز مراحل محاربة الأمية أنَّه من أكبر الداعين للتزكي القلبي وصحبة المشايخ وملازمة الأوراد.
خاصم الغزاليَّ في أمور نُسبت إليه في كتاب "مشكاة الأنوار" وكتاب "كيمياء السعادة" ثم قال: "وقد أنكر عليه (على الغزالي) طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق. وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم. وأخطأوا أيضا في هذا النفي. بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم"[4].
المكاشفة والكشف والفتح هي الأسماء التي يطلقها الصوفية على العلوم الوهبية التي يفتحها الله الكريم الوهاب على من يشاء مصداقا لوعده الكريم: )وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ( (سورة البقرة، الآية: 282). ابن تيمية من أهل الذوق، علم يقينا أن الذاكرين السالكين تفتح لهم أبواب من العلم لا يَنالها غيرهم. وهذا لب المسألة كلها. ومن العلماء من ينكر هذا العلم الموهوب جملة وتفصيلا ويعتبر المكاشفة "كلاما فارغا"[5]. وكلا الرجلين محدث حنبلي، لكن شتان ما بينهما.
نقطة أخرى تتطابق فيها معرفة ابن تيمية وتجربته مع معرفة الغزالي وتجربته، هي ضرورة صحبة المشايخ لاكتساب علوم الولاية. قال: "أهل التصفية والرياضة والتأله يحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر، كما قال الشيخ الملقب بالكبيري للرازي ورفيقه، وقد قالا له: يا شيخ! بلغنا أنك تعلم علم اليقين. فقال: نعم! فقالا: كيف تَعْلَمُ ونحن نتناظر في زمان طويل، كلما ذكرَ شيئا أفسدتُه، وكلما ذكرتُ شيئا أفسدَه؟ فقال: هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام. وطلب أحدهما أن يحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له"[6].
اعتراف إذا ونصح بمشروعية التشيخ وبنتائجه.
في نص آخر يصرح ابن تيمية بحقيقة لا تسعها أدمغة المقلدة، ولعل منهم من يؤولها لنا تأويلا إن استطاع. قال: "إن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم (أي الفلاسفة) الذي ذكروه، بله الفراسة أيضا وأمثالها"[7].
قرَنَ إذن الأنبياء والأولياء في تلقي علوم الوحي والإلهام. هل قال الغزالي وأكابر السادة الصوفية غير هذا؟
كان ابن تيمية رحمه الله ذا شخصية قوية عزيزة الجانب. قوته وعزة جانبه يرشَحان من مقالاته الجازمة الحاسمة في مؤلفاته. فمن لا يعطي الحقائق مكانتها النسبيّة يظن أن ما كتبه عالِمنا الواسعُ في زمان ما ومكان ما حقٌّ مطلقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذلك خطل وخبال.
كان خطاءً ككل بني آدم عرضة للخطإ مثلهم. وكان يكتب اليوم ما يجزم به اليوم، فيَفتح الله له غدا بما يناقض اقتناعه بالأمس. نرجع إن شاء الله في الفصل السادس من هذا الكتاب لمسألة نظر الأولياء في اللوح المحفوظ. ابن تيمية الشيخ يكتب في مرحلة ما من مراحل سلوكه أن ذلك ممتنع، ويشهد ابن القيم المريد أن شيخه صرح بأنه ينظر في اللوح المحفوظ. تناقض؟ لا! لكن سَيْر، واطلاع نسبي، وقصور بشري، ومِنن إلهية يختص الله بها من شاء من عباده متى شاء. وقد نعرض لبعض التناقضات الظاهرة في كلام ابن تيمية وتلميذه الوفي، لا لكي نحطم الشخصين العزيزين، لكن لنكسر صورة التشويه التي صنعها المقلدة.
كان خصوم ابن تيْمية يرمونه بتهمة أنه لم يتأدب على يد شيخ يهذب شخصيته. وكيف ينقاد شخص في مثل قوته وكرامته واندفاعه لأحد؟ قال التقي السبكي الوالد: "ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له اطلاع، ولم يجد شيخا يهذبه، وهو على مذهبهم (يعني الحنابلة المُثْبتة يسميهم الخصوم مجسمة). وهو جَسور مُتجرد لتقرير مذهبه"[8]. وقال: "وهو كان مكثرا من الحفظ، ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه، مع جسارة واتساع خيال وشغَب كثير( … ). وكان الناس في حياته قد ابتلوا بالكلام معه للرد عليه"[9].
في نظر معاصري ابن تيمية يتقمّص ابن تيمية حجمه الطبيعي النسبي: "جاء في أواخر المائة السابعة رجل"، رجل "له اطلاع ولم يجد شيخا يهذبه". لَمّا ترفعه قداسة القِدَمِ وتقليد القاصرين إلى مراتب العلاء.
ومن معاصري شيخ الإسلام، من المحدثين الحنابلة الصوفيين، رجل من أكابر العلماء وأئمتهم لا ريب، أخذت منه شخصية الحافظ "الجسور" كل مأخذ، فاتخذه شيخا بكل ما في كلمة "شيخ" من فخامة وضخامة، وأحبه وأخلص له، ووَفّى، وخاض معه معارك، وبث في كتبه النفيسة ما أورثته صحبة شيخ الإسلام الكريم علينا من علوم ظاهرة، وأذواق باطنة لا تكون إلا عند خلّص الصوفية. ها هو يشيد بشيخه إشادة لاَ يتأتى لها النثر. فقال شعرا في نونيته المشهورة التي سجَّلت معركة حَاميةً في تاريخ الخلاف.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
رد: قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
ظهر بعد عصر التابعين وتابعيهم الكذبُ، واختفى في العامة الحُثَالَةِ حسب التعبير النبوي ذلك الصدق الفطري الذي وصفه الله تعالى بقوله: )رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا( (سورة آل عمران، الآية: 193). خرجت طوائف مبتدعة أَجْفَل منها الصادقون، وتبرءوا منها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم. لم يكن من رأي السلف الصالح في الصدر الأول من الإسلام أن يناظروا أحدا في الدين ولا أن يجلسوا للجدل، بل كانوا يقاطعونهم ويبغضونهم ويرون أن طريقهم مسلك مظلم يوشك من اقترب منهم أن يتوغل فيه فلا يهتدي بعدها. وكان السلف الصالح شديد المقت للمجادلين في الدين، خاصة القدرية. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو كان عالما مجتهدا قبل أن يلي "الخلافة": "ينبغي أن نتقدم إليهم فيما أحدثوا من القدَر، فإن كفوا وإلا استُلَّت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا". وقال: "من جعل دينه غرَضا للخصومات أكثر التنقل". وكثرة التنقل في عبارته تعني التحول في العقيدة والاضطراب فيها والزيغ مسايرة للمجادل المخاصم.
فما جاء القرن الخامس حتى طم الجدل في الدين، وعمت الخصومة فيه، وقل أمثال الإمام أحمد بن حنبل الذي قاوم المعتزلة المعزَّزين بسلطان المامون والمعتصم العباسيين، وتحمل الأذى والشدة في الدين في قضية قول الإسلام الرسمي المعتزلي بخلق القرآن، أكره على هذه المقالة الشائنة البائنة علماء الأمة بالنار والحديد.
في القرن الرابع ظهرت البدع أيما ظهور،وعلا نجم الفلاسفة والملاحدة الزنادقة حتى أصبحت البدعة رائجة رواجا. أصبحت نقدَ الوقت وعُملته. وفي مواجهة هذا الطاغوت الفكري، الموازي المساير للطاغوتية في الحكم، ظهر المتكلمون المجادلون عن الحق بالبرهان العقلي والدليل. عم في الناس التيار العقلاني لما استعجمت الحياة العامة تحت سيوف بني بويه والسلاجقة، واستعجمت الألسن والقلوب. وغلا المتكلمون غلوا شديدا وأسرفوا حتى كفروا الزنادقة بحق وكفروا معهم العامة من المسلمين، "وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حررناها فهو كافر"[1].
ويقول أبو حامد: "من ظن أن مَدْرَك الإيمان الكلامُ والأدلةُ المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد. لا! بل الإيمان نور يقذفه الله في قلب عبده عطية وهدية من عِنْده، تارة بتنبيه من الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند مجالسته وصحبته.(...)، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاحدا منكرا، فلما وقع بصره على طلعته البهية فرآها تتلأْلأُ منها أنوار النبوة قال : والله ما هذا بوجه كذاب!".
في القرن الرابع عقب القرون الثلاثة الفاضلة ظهر رجل من عظماء الأمة اسمه أبو الحسن الأشعري. عاش أربعين سنة مع المعتزلة القدرية يصوغ الأقيسة ويستدل بالاستقراء والتماثل، ويبني "القضية الكبرى" على الصغرى حتى أصبح واحدا من ألمع تلامذة الجبائي، أحد زعمائهم. ثم اهتدى، وبه اقتدى من بعده جمهورُ علماء الملة، خلا طائفة من الحنابلة أهل الحديث أشهرهم ابن تيمية ومدرسته. حتى الإمام الغزالي لم يخرج عن المذهب الأشعري إلا في مسائل قليلة كفره من أجلها بعض الأشاعرة المتعصبين.
كان لا بد من إقامة سدٍّ عقلي أمام هجوم العقلانية الفلسفية الزندقية لحماية الدين والدفاع عن المعتقدات التي نقلها عن السلف أجيال من العلماء عانوا الأمرَّيْنِ من اضطهاد الحكام واستعجام العصر. وأكثر ما كان نفعُ الصياغة الأشعرية والماتوريدية لخاصة العلماء المتفرغين للجدل ولعامة المسلمين الذين يسمعون المقالات البدعية الفلسفية فيحارون، فيجيئون العالم المتكلم ليكشف عنهم غمة الشك. أما من اشتد مِراسُهم من المبتدعة والزنادقة فجلوس المتكلم المجادل معهم يغذي غرورهم ويزيدهم تمسكا بضلالتهم.
دافع أبو الحسن الأشعري، ومثله الإمام أبو المنصور الماتريدي مع خلاف يسير، عن ما جاء من عقائد في الكتاب والسنة بكل وسائل الإقناع العقلي وإلزام الخصم بالحجة العقلية والنقلية. وسلك في مسائل الصفات مسلكا وسطا بين الجهمية والمعتزلة المعطلين وبين المشبهة والحشوية المجسمين. كما سلك في "أفعال العباد" مسلكا وسطا بين المعتزلة الذين يقولون بخلود مرتكب الكبيرة في النار وبين المرجئة الذين يقولون بأن الإخلاص لله لا تضر معه كبيرة.
استعمل الأشعري، وكان من السادة الصوفية كما قال ابن السبكي، أسلحة المتكلمين المعتزلة العقلية وأسلحة أهل الحديث النقلية وبين جوانحه قلب ذاكر وإرادة ومحبة. غَلب على علمه العقلُ من حيث غلب القلبُ على علم الغزالي. وكانت الموازنة بين الإرادة الصوفية والعقل الكلامي والنقل القرآني الحديثي عند ابن تيمية في تركيبة أخرى غلب عليها طابع النقل، وحاول صاحبها أن يثبت للناس ما كان هو يعيشه في خاصة إيمانه من أن العقل الرجيح يطابق النقل الصحيح والذوق السليم.
متكلم صوفي تلميذ للحفاظ، وصوفي كبير متكلم على حظ غير كبير من النقل، وحافظ ناظر على "قدر مشترك" مع الصوفية. الأشعري والغزالي وابن تيمية رحمهم الله أعلام نيرة في سماء الإسلام.
كل منهم نافح عن الدين، وبارز طوائف الفلاسفة والمناطقة (باستثناء أبي حامد الذي عيب عليه تشبثه بالقياس المنطقي) وطوائف القرامطة والباطنية والشيعه وسائر أهل الأهواء والنِّحل الفاسدة. من هذه الطوائف من لا يقطعه النقل، فسلّوا عليه صوارم العقل والبرهان. وجدير بمن أمسك في يده حساما صدئا أن تتصدَّأَ يداه. فالغزالي لاموه على قوله باتخاذ المنطق وقياسه الصوري الأرسطي منهاجا. والأشعري رماه ابن حزم وابن تيمية وغيرهما بأنه من الجبرية الزائغين. وابن تيمية لما توغل في جدال الفلاسفة والمناطقة اضطر أن يتناول من حيث تناولوا فقال مقالة في قدم العالم لم يقلها أحد من أهل الاستقامة.
مستند الحنابلة أهل الحديث في تبديعهم للأشعري والأشاعرة أن الأشعري يؤول في الصفات.حتى أن ابن تيمية صنف الأشاعرة في الصف الخامس من أهل الزيغ، مع الباطنية المعطلة، والفلاسفة، والاتحادية القائلين بوحدة الوجود، والمعتزلة المنكرين لصفات المعاني.
إذا علمنا أن جمهور علماء الأمة، منذ القرن الرابع، على مذهب الأشعري في الدفاع عن العقائد تبين لنا خطورة القول بزيغ الأشعرية. يقول سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام: "إن المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة أشعريون"[2].
ويقول المحدث الحافظ ابن عساكر: "هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق للأشعري، ومنتسب إليه، وراض بحميد سعيه في دين الله، مُثْنٍ بكثرة العلم عليه، غير شرذمة قليلة تُضْمِر التشبيه وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه، وتضاهي قول المعتزلة في ذمه، وتباهي بإظهار جهلها بجانب سعة علمه؟"[3].
برز ابن تيمية من بين الحنابلة الذين انضمت قلوبهم على كَمَدِ فتنة الإمام الجليل أحمد بن حنبل وتعذيبه وجلده على يد المامون والمعتصم.ونبغ ببيانه وقوة عارضته ومتانة شخصيته. فكان كنقطة بيان وإعلان في أوج المشاغبة الحنبلية المستديمة في وجه السلطان ومن معه من جمهرة فقهاء المذاهب الفقهية الأخرى. يجمع هذه المذاهب في نظر أهل الحديث الحنابلة إجماعُها على الأشعرية الماتوريدية في العقائد، وشبه إجماعها على التصوف من حيث كونه السلوك الأخلاقي الروحي الضروري لكل طالب للحق.
وطفق الفريقان من أهل الحق، الحنابلة من جهة، ما خلا ابن الجوزي المؤول، وسائر العلماء من جهة أخرى، يختصمون في أخبار الصفات، وفي الاستواء على العرش وحقيقته، وهل تثبت الصفات بما تثبت به الذات أو بشيء زائد، وهل النص المروي بخَبر الآحاد تثبت به عقيدة، وهل تُحمل الأخبار الصفاتية على الحس أو على المجاز،وهل نؤول بعض تلك الأخبار أو كلَّها لنعرف كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ولنعرف كيف يأتي الله عز وجل إلى عبده هرولة إذا جاء العبد إليه يمشي، وهل القول بالجهة في حق الباري جل وعلا يُلزم القول بالجسمية أم أن اشتراك الحق سبحانه في الصفة مع العبد اشتراك في الاسم لا في الحقيقة.
في قضية التشبيه والتنزيه قضى علماء الأمة زمانا في الجدل والخصومة. لكل فريق من أهل الحق، ما بين صوفية أشاعرة وفقهاء مناظرين ومحدثين أثريين، خيارُه وعيارُه، وحظه من العقل والنقل والإرادة. سفينة الأمة اختلف على مقادتها ربابنَة متَعَددو الوجهات والنيات والقدرات.كل يدعو إلى اجتهاده ومَبْلَغ علمه، مخلصا مصيبا مرة مخطئا أخرى،ولم يخل الجو أبدا من أصحاب النعرات والنفاق والتعصب والمسابقة إلى الرئاسات والمِنَح والمناصب بالتزلف إلى الحاكم السائر برياح هواه. البشرية لم تتعطل، والشيطنة الجنية والإنسية لم تُعزل.
أنماط من التفكير، وألوان من المذهبيات، واختلاف في الأهداف والأساليب. انتقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانفرطت ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، وذات البَيْن الحالقة للدين، حبّاتُ العقد الإسلامي، وانفرطت جامعة الإيمان السمحة التي جاء بها الوحي بغياب وازع السلطان.اشتغل السلطان العاض، الذي يمثل في تاريخ الإسلام بدعة أعظم بدعة، بحرب القرآن وأهل القرآن. وأعانه هؤلاء على أنفسهم بالخصام والتراشق.
أفنبقى، ونحن على أعتاب الخلافة الثانية إن شاء الله، أسرى التجربة الخلافية التي خاضتها الأمة ؟ من أين نبدأ ؟ وما السبيل إلى إيمان لا إله إلا الله، وعصمة "قل ربي الله ثم استقم" وفلاح )رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا( ؟(سورة آل عمران، الآية: 193)
فما جاء القرن الخامس حتى طم الجدل في الدين، وعمت الخصومة فيه، وقل أمثال الإمام أحمد بن حنبل الذي قاوم المعتزلة المعزَّزين بسلطان المامون والمعتصم العباسيين، وتحمل الأذى والشدة في الدين في قضية قول الإسلام الرسمي المعتزلي بخلق القرآن، أكره على هذه المقالة الشائنة البائنة علماء الأمة بالنار والحديد.
في القرن الرابع ظهرت البدع أيما ظهور،وعلا نجم الفلاسفة والملاحدة الزنادقة حتى أصبحت البدعة رائجة رواجا. أصبحت نقدَ الوقت وعُملته. وفي مواجهة هذا الطاغوت الفكري، الموازي المساير للطاغوتية في الحكم، ظهر المتكلمون المجادلون عن الحق بالبرهان العقلي والدليل. عم في الناس التيار العقلاني لما استعجمت الحياة العامة تحت سيوف بني بويه والسلاجقة، واستعجمت الألسن والقلوب. وغلا المتكلمون غلوا شديدا وأسرفوا حتى كفروا الزنادقة بحق وكفروا معهم العامة من المسلمين، "وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حررناها فهو كافر"[1].
ويقول أبو حامد: "من ظن أن مَدْرَك الإيمان الكلامُ والأدلةُ المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد. لا! بل الإيمان نور يقذفه الله في قلب عبده عطية وهدية من عِنْده، تارة بتنبيه من الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند مجالسته وصحبته.(...)، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاحدا منكرا، فلما وقع بصره على طلعته البهية فرآها تتلأْلأُ منها أنوار النبوة قال : والله ما هذا بوجه كذاب!".
في القرن الرابع عقب القرون الثلاثة الفاضلة ظهر رجل من عظماء الأمة اسمه أبو الحسن الأشعري. عاش أربعين سنة مع المعتزلة القدرية يصوغ الأقيسة ويستدل بالاستقراء والتماثل، ويبني "القضية الكبرى" على الصغرى حتى أصبح واحدا من ألمع تلامذة الجبائي، أحد زعمائهم. ثم اهتدى، وبه اقتدى من بعده جمهورُ علماء الملة، خلا طائفة من الحنابلة أهل الحديث أشهرهم ابن تيمية ومدرسته. حتى الإمام الغزالي لم يخرج عن المذهب الأشعري إلا في مسائل قليلة كفره من أجلها بعض الأشاعرة المتعصبين.
كان لا بد من إقامة سدٍّ عقلي أمام هجوم العقلانية الفلسفية الزندقية لحماية الدين والدفاع عن المعتقدات التي نقلها عن السلف أجيال من العلماء عانوا الأمرَّيْنِ من اضطهاد الحكام واستعجام العصر. وأكثر ما كان نفعُ الصياغة الأشعرية والماتوريدية لخاصة العلماء المتفرغين للجدل ولعامة المسلمين الذين يسمعون المقالات البدعية الفلسفية فيحارون، فيجيئون العالم المتكلم ليكشف عنهم غمة الشك. أما من اشتد مِراسُهم من المبتدعة والزنادقة فجلوس المتكلم المجادل معهم يغذي غرورهم ويزيدهم تمسكا بضلالتهم.
دافع أبو الحسن الأشعري، ومثله الإمام أبو المنصور الماتريدي مع خلاف يسير، عن ما جاء من عقائد في الكتاب والسنة بكل وسائل الإقناع العقلي وإلزام الخصم بالحجة العقلية والنقلية. وسلك في مسائل الصفات مسلكا وسطا بين الجهمية والمعتزلة المعطلين وبين المشبهة والحشوية المجسمين. كما سلك في "أفعال العباد" مسلكا وسطا بين المعتزلة الذين يقولون بخلود مرتكب الكبيرة في النار وبين المرجئة الذين يقولون بأن الإخلاص لله لا تضر معه كبيرة.
استعمل الأشعري، وكان من السادة الصوفية كما قال ابن السبكي، أسلحة المتكلمين المعتزلة العقلية وأسلحة أهل الحديث النقلية وبين جوانحه قلب ذاكر وإرادة ومحبة. غَلب على علمه العقلُ من حيث غلب القلبُ على علم الغزالي. وكانت الموازنة بين الإرادة الصوفية والعقل الكلامي والنقل القرآني الحديثي عند ابن تيمية في تركيبة أخرى غلب عليها طابع النقل، وحاول صاحبها أن يثبت للناس ما كان هو يعيشه في خاصة إيمانه من أن العقل الرجيح يطابق النقل الصحيح والذوق السليم.
متكلم صوفي تلميذ للحفاظ، وصوفي كبير متكلم على حظ غير كبير من النقل، وحافظ ناظر على "قدر مشترك" مع الصوفية. الأشعري والغزالي وابن تيمية رحمهم الله أعلام نيرة في سماء الإسلام.
كل منهم نافح عن الدين، وبارز طوائف الفلاسفة والمناطقة (باستثناء أبي حامد الذي عيب عليه تشبثه بالقياس المنطقي) وطوائف القرامطة والباطنية والشيعه وسائر أهل الأهواء والنِّحل الفاسدة. من هذه الطوائف من لا يقطعه النقل، فسلّوا عليه صوارم العقل والبرهان. وجدير بمن أمسك في يده حساما صدئا أن تتصدَّأَ يداه. فالغزالي لاموه على قوله باتخاذ المنطق وقياسه الصوري الأرسطي منهاجا. والأشعري رماه ابن حزم وابن تيمية وغيرهما بأنه من الجبرية الزائغين. وابن تيمية لما توغل في جدال الفلاسفة والمناطقة اضطر أن يتناول من حيث تناولوا فقال مقالة في قدم العالم لم يقلها أحد من أهل الاستقامة.
مستند الحنابلة أهل الحديث في تبديعهم للأشعري والأشاعرة أن الأشعري يؤول في الصفات.حتى أن ابن تيمية صنف الأشاعرة في الصف الخامس من أهل الزيغ، مع الباطنية المعطلة، والفلاسفة، والاتحادية القائلين بوحدة الوجود، والمعتزلة المنكرين لصفات المعاني.
إذا علمنا أن جمهور علماء الأمة، منذ القرن الرابع، على مذهب الأشعري في الدفاع عن العقائد تبين لنا خطورة القول بزيغ الأشعرية. يقول سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام: "إن المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة أشعريون"[2].
ويقول المحدث الحافظ ابن عساكر: "هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق للأشعري، ومنتسب إليه، وراض بحميد سعيه في دين الله، مُثْنٍ بكثرة العلم عليه، غير شرذمة قليلة تُضْمِر التشبيه وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه، وتضاهي قول المعتزلة في ذمه، وتباهي بإظهار جهلها بجانب سعة علمه؟"[3].
برز ابن تيمية من بين الحنابلة الذين انضمت قلوبهم على كَمَدِ فتنة الإمام الجليل أحمد بن حنبل وتعذيبه وجلده على يد المامون والمعتصم.ونبغ ببيانه وقوة عارضته ومتانة شخصيته. فكان كنقطة بيان وإعلان في أوج المشاغبة الحنبلية المستديمة في وجه السلطان ومن معه من جمهرة فقهاء المذاهب الفقهية الأخرى. يجمع هذه المذاهب في نظر أهل الحديث الحنابلة إجماعُها على الأشعرية الماتوريدية في العقائد، وشبه إجماعها على التصوف من حيث كونه السلوك الأخلاقي الروحي الضروري لكل طالب للحق.
وطفق الفريقان من أهل الحق، الحنابلة من جهة، ما خلا ابن الجوزي المؤول، وسائر العلماء من جهة أخرى، يختصمون في أخبار الصفات، وفي الاستواء على العرش وحقيقته، وهل تثبت الصفات بما تثبت به الذات أو بشيء زائد، وهل النص المروي بخَبر الآحاد تثبت به عقيدة، وهل تُحمل الأخبار الصفاتية على الحس أو على المجاز،وهل نؤول بعض تلك الأخبار أو كلَّها لنعرف كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ولنعرف كيف يأتي الله عز وجل إلى عبده هرولة إذا جاء العبد إليه يمشي، وهل القول بالجهة في حق الباري جل وعلا يُلزم القول بالجسمية أم أن اشتراك الحق سبحانه في الصفة مع العبد اشتراك في الاسم لا في الحقيقة.
في قضية التشبيه والتنزيه قضى علماء الأمة زمانا في الجدل والخصومة. لكل فريق من أهل الحق، ما بين صوفية أشاعرة وفقهاء مناظرين ومحدثين أثريين، خيارُه وعيارُه، وحظه من العقل والنقل والإرادة. سفينة الأمة اختلف على مقادتها ربابنَة متَعَددو الوجهات والنيات والقدرات.كل يدعو إلى اجتهاده ومَبْلَغ علمه، مخلصا مصيبا مرة مخطئا أخرى،ولم يخل الجو أبدا من أصحاب النعرات والنفاق والتعصب والمسابقة إلى الرئاسات والمِنَح والمناصب بالتزلف إلى الحاكم السائر برياح هواه. البشرية لم تتعطل، والشيطنة الجنية والإنسية لم تُعزل.
أنماط من التفكير، وألوان من المذهبيات، واختلاف في الأهداف والأساليب. انتقضت عروة الحكم بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانفرطت ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، وذات البَيْن الحالقة للدين، حبّاتُ العقد الإسلامي، وانفرطت جامعة الإيمان السمحة التي جاء بها الوحي بغياب وازع السلطان.اشتغل السلطان العاض، الذي يمثل في تاريخ الإسلام بدعة أعظم بدعة، بحرب القرآن وأهل القرآن. وأعانه هؤلاء على أنفسهم بالخصام والتراشق.
أفنبقى، ونحن على أعتاب الخلافة الثانية إن شاء الله، أسرى التجربة الخلافية التي خاضتها الأمة ؟ من أين نبدأ ؟ وما السبيل إلى إيمان لا إله إلا الله، وعصمة "قل ربي الله ثم استقم" وفلاح )رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا( ؟(سورة آل عمران، الآية: 193)
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
رد: قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
قرأنا من حديث للبخاري أن الإمام عليا رضي الله عنه قال: "إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخِرَّ من السماء أحبُّ إلي من أن أكذب عليه. وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خُدعة".
معنى كلام هذا الإمام العظيم أنَّ نقل الثقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يحتمل أدنى هوادة في الصدق والتحري، أما حديث الرجل من تلقاء نفسه لعرض آرائه واجتهاده ففيه مجال للخطإ والمحاولة والإبلاغ الذي يتأثر بعوامل النفس وانفعالاتها وظروفها في مواجهة رأي الآخر.
قال سيد العلماء وسيد اللطفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ مع ربه عز وجل عهدا ويعلمنا درسا في أمر بشريِّتنا ونقصها: "اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه. فإنما أنا بشر! فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها صلاة عليه، وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرج أبو داود عن عمرو بن مرة أن حذيفة بن اليمان وسلمانا الفارسيَّ كانا بالمدائن على عهد أمير المرمنين عمر، وأن حذيفة كان يحدث الناس ببعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فزجره سلمان وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضى. أمَا تنتهي حتى تُورِث رجالا حب رجال، ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفرقة!؟" وذكره بعد ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن بشريته وغضبه البشري وعهده مع الله في القضية بلفظ قريب من لفظ البخاري ومسلم.
يتعصب التيميون والسلفيون، أصلحهم الله، ويرفعون الرجال إلى سماء العصمة أو يخفِضونهم إلى حضيض الشيطنة، ما عندهم ميزان للاعتدال. رسخت في قلوب العوام رواسبُ الخلاف والشجار. هؤلاء يكفرون الشيعة عامة لأن ابن تيمية في زمانه ومكانه وغضبته سماهم روافض. ولو تريَّث المكفرون وتثبتوا لعلموا أن الرفض من ذلك الجانب هو الوليد الهجين اللعين للمقت الأموي الذي فرض على الخطباء في مساجد المسلمين في طول البلاد والعرض سب الإمام الطاهر علي بن أبي طالب لمدة ستين سنة قبل أن يوقف اللعنة الصالح التقي عمر بن عبد العزيز.
غضب بغضب، وبشرية ناقصة، وعناد ومعاندة، وجدل يتحدى فيه الخصم خصمه، وحرب تسلُّ فيها السيوف العضبة والألسنة المسمومة. فمتى يُرجى منكم تلطُّف بهذه الأمة يا من تقررون من وراء كرّاساتكم العتيقة، ومن فوق كراسيكم الآمنة أمن القاعدين!
كان ابن تيمية بطلا، كان فارس كل ميدان. خاض معركة مرج الصفر التي وقعت في رمضان سنة 702 تحت راية الملك الناصر محمد بن قلاوون ضد التتار. وقال لبعض أمراء الجيش: "يا فلان! أوقفني موقف الموت! قال الأمير: "فسُقْتهُ إلى مقابلة العدو، وهم منحدرون كالسيل، تلوح أسلحتهم من تحت الغُبار المنعقد عليهم. فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلا (قلت: يذكر الله كما أُمِرَ المؤمنون إن لقوا فئة العدو). ثم انبعث وأقدم على القتال. وقد شوهد في هذه الموقعة ومعه أخوه يصيحان بصوت مرتفع، يحرِّضان الناس على القتال، ويحذرانهم من الفرار"[1]. ما موقفكم أنتم من تتار زمانكم؟ يا خزيَكم!
هذا البطل كان يستطيع أن يُلجم غضبه وأن يتلطف. كان في المماليك مقدَّم بارز اسمه بَيْبَرس الجاشنكير، وهو غير بيبرس الكبير صاحب واقعة عين جالوت المجيدة. وقد تسلطن الجاشنكير فيما بعد. وكان الجاشنكير يتغالى في حب شيخ صوفي اسمه نصر المنبجي. وكان لهذا الشيخ سيرة ومحاسن جمة[2]. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الإمام: "ارتفع ذكره في دولة الجاشنكير لأنه كان يعتقده ولا يخالف أمره.(…). وكان يحط على ابن تيمية (ينتقده ويلومه ويوبخ) من أجل حطه على ابن عربي.(…). قال الذهبي: جلست مع الشيخ (نصر) بزاويته، وأعجبني سَمْتُه وعبادته. قلَّ أن ترى العيون مثله"[3]. وينقل ابن حجر شهادة الشيخ ابن عطاء الله، وهو ألد خصوم ابن تيمية، في الشيخ نصر فيقول: "الشيخ نصر حجة لنا على إبليس. يعني أنه لو ادعى أنه لم يبق على الأرض قائم بالله لقلت: كذبت يا إبليس، هذا الشيخ نصر بهذه الصفات!".
يمثل الشيخ نصر إذن حصنا منيعا متدرعا بالسلطان بعد تدرعه بالتقوى والصلاح.كفى ابن تيمية شجاعة أن يجهر برأيه في ابن عربي وفي بدع المتصوفة في عصر تحمي فيه الدولة المملوكية مملكة الدراويش بما فيهم من صادقين ومن "صوفية الحقائق" و"صوفية الأرزاق" و"صوفية الزي" حسب تعبير الشيخ نفسه. ومع خلاف الشيخ نصر له على طول الخط، و"حطه" عليه، فإن بطلنا الفارس تلطف للشيخ غاية التلطف، وكتب إليه رسالة مطولة يعرض فيها رأيه وأفكاره، وكأن لهجة الخطاب تحمل رسالة ثانية من وراء السطور، رسالة اعتذار عَمَّا فَرَطَ.
قال ابن تيمية البشر الغضوب العالم المتلطف: "من أحمد ابن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميَّزة بين خلقه وطاعته وإرادته ومحبته"[4].
وقال: "وبعد فإن الله تعالى أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا منزلة عليَّة، ومودة إلهية، لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد".
وختم يقول داعيا: "الشيخ أيّد الله تعالى به الإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحُسْن مقاصده، ونور قلبه".
نجد عند العالمين الجليلين ابن تيمية وابن القيم تلطفا آخر في معالجة قضية حساسة جدا في تاريخ الحنابلة، هي قضية شيخ الإسلام أبى إسماعيل الهِروي صاحب كتاب "منازل السائرين". كان أبو إسماعيل محدثا حنبليا صوفيا. وكان بينه وبين الأشاعرة حروب في أول عهد الاصطدام بين الأشاعرة وأهل الحديث، وكان الأشاعرة، وهم الأغلبية الساحقة من الأمة، يرمونه بالتشبيه. ثم إن كتابه "منازل السائرين" يشتمل على مقالات هي من قبيل الشطح الصرف. لذلك كان ابن تيمية "يرمي أبا إسماعيل بالعظائم بسبب هذا الكتاب ويقول : إنه مشتمل على الاتحاد" كما قال الذهبي[5]. وكان ابن تيمية يميل إلى الهروي مع ذلك. فكانت مشكلة عويصة واجهت الحنابلة، وفي مقدمتهم ابن تيمية، أن يكون حنبلي محدث يكتب مثل ما كتب الهروي. فالتمس ابن تيمية لصاحبه في المذهب الأعذار، وتلطف للخصوم فقرَّعه أحيانا.
وكرّس ابن القيم جهودا كبيرة لشرح كتاب الهروي في مؤلفه "مدارج السالكين" كل ذلك لغسل أوْضار الخصومة ما بين أشاعرة صوفية هم الأغلبية وبين محدثين لهم "قدر مشترك" ولبعضهم، مثل الهروي، سهم وافر من التصوف.
قال ابن تيمية: "وأما أبو اسماعيل الأنصاري صاحب "منازل السائرين" فليس في كلامه شيء من الحلول العام. لكن في كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو "مقام التوحيد"[6].
ويلتمس ابن تيمية عفا الله عنا وعنه العذر للقائلين بالحلول الخاص المعاذير فيقول: "وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل".
العبارات تسرق. وتعالى الله أن يحل في شيء أو يحل فيه شيء. وتعالى أن يتحد بشيء أو يتحد به شيء. وغلبة الحال و"السكر" حق يفقد معه الذاكر السالك عقله ووجوده. ونعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ.
ومن يقرأ الجزء الثاني من فتاوي ابن تيمية ير العجب العُجاب، والخوض العميق الذي أخطأ معه من أخطأ وأصاب من أصاب.
قال ابن تيمية في معرض تكفير الحلاج: "وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا (البَوح بسر التوحيد)، وتوحيده (الهروي) الذي قال فيه:
ما وَحـد الواحـد من واحـد إذ مـن وحــده جــاحـد
توحيد من يخبـر عن نعتـه عـارية أبطـلهـا الواحــد
تـوحيـده إيـاه تـوحيـده ونعـتُ من ينعتـه لاحِــدُ
قال: فإن حقيقة قول هؤلاء أن الموحِّد هو الموَحَّد، وأنَّ الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأن لا يوحِّد إلا نفسه"[7].
لكنه عفا الله عنه لم يقل لماذا يعذر الهروي ويوصف بَوْحُه وشطحُه بأنه "حلول خاص" مقبول، ويكفر الحلاج وابن عربي لنفس المقالة.
وينبري ابن القيم ليدافع عن الهروي فيقول: "وحاشا شيخ الإسلام (الهروي) من إلحاد أهل الاتحاد، وإن كانت عبارته موهمة، بل مفهمة ذلك"[8].
بين تأويل العبارات "الموهمة" وإدانة العبارات "المفهمة" وقعت خصومات، وسالت دماء. وأنت تقول: إن أمر الأمة لا يصلح إلا بإعادة تلك الخصومات إلى الحياة، واختراع خصومات جديدة! وتقول إن البشر ليسوا بشرا، وأن الغضب والتعصب والعناد والتحدي والتحدي المضاد من عالم الشياطين لا من عالم بني آدم الخطائين التوابين!
ويتلطف ابن القيم للرأي الآخر فيقول: "شيخ الإسلام (الهروي) حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه. وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك"[9]. ماذا قال المعصوم صلى الله عليه وسلم عن بشريته وغضبه؟ يا معشر المقلدين!
هذه دعوة للتدارك والتوبة والعمل بدل التمشدق والتكلف والتعصب والتمَعْقُل. قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: "عن قريب تصلون نارا حامية إن لم تتداركوا وتتوبوا وتعتذروا. عليكم بالاتباع من غير ابتداع. عليكم بمذهب السلف الصالح. امشوا في الجادة المستقيمة: لا تشبيه ولا تعطيل، بل اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير تكليف ولا تطبُّع ولا تمشدق ولا تمعقل. يسعكم ما وسع من كان قبلكم. ويحك تحفظ القرآن ولا تعمل به؟ تحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعمل بها؟ فلأي شيء تفعل ذلك؟ تأمر الناس وأنت لا تفعل، وتنهاهم وأنت لا تنتهي!"[10].
الجدل عند قوم أحلى وأغلى من العمل. يتفرغ أحدهم ليستعرض الناس أمامه، من مضى منهم ومن هو حاضر، في طابورَين هو قرر قسمتهما ملوّحاً باسم فلان وفلان، مُخْتفيا تحت رداء من مضوا ولقوا الله بأعمالهم، وليس له من خِيارهم ولا عِيارهم قسمة، ولا من علمهم مُسكة. طابور المهتدين حزبه، وطابور الهالكين من لا يخضع ويسمع ويتبع. نفوسهم لم تهذب بصحبة، ولا ذكرت الله، ولا حزنت على بلواها، بل ولا علمت بما هي مبتلاة به. ألا هل من تلطف أيها الناس!
قال رجلٌ رجُلٌ، وكأنه يخاطب أصحاب الافتتان بالعالم الواحد المعصوم:
صــدِّق بأحــوال الرجــال ومـا تلقــوا مـن فــوائــد
وإذا هَــوِيـتَ شفــوفَـهــم فاسلك سبيلـهــمُ وجــاهـد
فـــوراء ذلك لـــذة يعتــابهــا من لـم يشــاهـد
صحـت كرامــات الــرجــ ــال بنقــل أصحـاب المَسـاند
مـا نــائــم مــلء الجــفــ ــون كقــائم لله ســاجــد
هــل يسـتــوي هــذا وذا ما نـاقـص حــالا كــزائــد
يــا راقــدا فــي ليـلــه وإذا تـنـبــه فهــو راقِــد
أتَرَكْــتَ جمـهــور الأئــمـ ــة واقتــديـت بقـول واحـد؟
نظــر لعمــرك فــاســد يـقضي بأن القلـب فـاســد
فوقــوع مــا هــو ممـكــن للقــوم من خــرق العـوائــد
شـهــد الوفــاق لـهم بهـا فـدع الخلاف ولا تجـاحـد
قيل هذا الكلام لجاحد كرامات الأولياء، وقلت لجاحد الولاية من أصلها:
الطُـفْ بِهـمْ لا تَبْتَـئِــسْ إنْ قالَ خَصمٌ أو مُعـانِد
مَـات الرِّجـالُ ومــا بقِي مِـن أوليــاءِ اللّه وَاحــدْ
وقِـفَنْ علـى بَاب الكَريم بِكامـلِ الصِّدق وجَـاهِدْ
[1] العقود الدرية لابن عبد الهادي ص177.
[2] شذرات الذهب ج 6 ص 52.
[3] الدرر الكامنة ج 5 ص 165.
[4] الفتاوي ج 2 ص 452 وما بعدها.
[5] نقله عنه السبكي في "الطبقات" ج 3 ص117.
[6] الفتاوي ج 5 ص485.
[7] الفتاوي ج8 ص 317.
[8] مدارج السالكين ج 1 ص 149.
[9] نفس المصدر ج2 ص 37.
[10] الفتح الرباني ص 47.
معنى كلام هذا الإمام العظيم أنَّ نقل الثقة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يحتمل أدنى هوادة في الصدق والتحري، أما حديث الرجل من تلقاء نفسه لعرض آرائه واجتهاده ففيه مجال للخطإ والمحاولة والإبلاغ الذي يتأثر بعوامل النفس وانفعالاتها وظروفها في مواجهة رأي الآخر.
قال سيد العلماء وسيد اللطفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ مع ربه عز وجل عهدا ويعلمنا درسا في أمر بشريِّتنا ونقصها: "اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه. فإنما أنا بشر! فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها صلاة عليه، وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرج أبو داود عن عمرو بن مرة أن حذيفة بن اليمان وسلمانا الفارسيَّ كانا بالمدائن على عهد أمير المرمنين عمر، وأن حذيفة كان يحدث الناس ببعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فزجره سلمان وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب فيقول لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضى. أمَا تنتهي حتى تُورِث رجالا حب رجال، ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفرقة!؟" وذكره بعد ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن بشريته وغضبه البشري وعهده مع الله في القضية بلفظ قريب من لفظ البخاري ومسلم.
يتعصب التيميون والسلفيون، أصلحهم الله، ويرفعون الرجال إلى سماء العصمة أو يخفِضونهم إلى حضيض الشيطنة، ما عندهم ميزان للاعتدال. رسخت في قلوب العوام رواسبُ الخلاف والشجار. هؤلاء يكفرون الشيعة عامة لأن ابن تيمية في زمانه ومكانه وغضبته سماهم روافض. ولو تريَّث المكفرون وتثبتوا لعلموا أن الرفض من ذلك الجانب هو الوليد الهجين اللعين للمقت الأموي الذي فرض على الخطباء في مساجد المسلمين في طول البلاد والعرض سب الإمام الطاهر علي بن أبي طالب لمدة ستين سنة قبل أن يوقف اللعنة الصالح التقي عمر بن عبد العزيز.
غضب بغضب، وبشرية ناقصة، وعناد ومعاندة، وجدل يتحدى فيه الخصم خصمه، وحرب تسلُّ فيها السيوف العضبة والألسنة المسمومة. فمتى يُرجى منكم تلطُّف بهذه الأمة يا من تقررون من وراء كرّاساتكم العتيقة، ومن فوق كراسيكم الآمنة أمن القاعدين!
كان ابن تيمية بطلا، كان فارس كل ميدان. خاض معركة مرج الصفر التي وقعت في رمضان سنة 702 تحت راية الملك الناصر محمد بن قلاوون ضد التتار. وقال لبعض أمراء الجيش: "يا فلان! أوقفني موقف الموت! قال الأمير: "فسُقْتهُ إلى مقابلة العدو، وهم منحدرون كالسيل، تلوح أسلحتهم من تحت الغُبار المنعقد عليهم. فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلا (قلت: يذكر الله كما أُمِرَ المؤمنون إن لقوا فئة العدو). ثم انبعث وأقدم على القتال. وقد شوهد في هذه الموقعة ومعه أخوه يصيحان بصوت مرتفع، يحرِّضان الناس على القتال، ويحذرانهم من الفرار"[1]. ما موقفكم أنتم من تتار زمانكم؟ يا خزيَكم!
هذا البطل كان يستطيع أن يُلجم غضبه وأن يتلطف. كان في المماليك مقدَّم بارز اسمه بَيْبَرس الجاشنكير، وهو غير بيبرس الكبير صاحب واقعة عين جالوت المجيدة. وقد تسلطن الجاشنكير فيما بعد. وكان الجاشنكير يتغالى في حب شيخ صوفي اسمه نصر المنبجي. وكان لهذا الشيخ سيرة ومحاسن جمة[2]. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الإمام: "ارتفع ذكره في دولة الجاشنكير لأنه كان يعتقده ولا يخالف أمره.(…). وكان يحط على ابن تيمية (ينتقده ويلومه ويوبخ) من أجل حطه على ابن عربي.(…). قال الذهبي: جلست مع الشيخ (نصر) بزاويته، وأعجبني سَمْتُه وعبادته. قلَّ أن ترى العيون مثله"[3]. وينقل ابن حجر شهادة الشيخ ابن عطاء الله، وهو ألد خصوم ابن تيمية، في الشيخ نصر فيقول: "الشيخ نصر حجة لنا على إبليس. يعني أنه لو ادعى أنه لم يبق على الأرض قائم بالله لقلت: كذبت يا إبليس، هذا الشيخ نصر بهذه الصفات!".
يمثل الشيخ نصر إذن حصنا منيعا متدرعا بالسلطان بعد تدرعه بالتقوى والصلاح.كفى ابن تيمية شجاعة أن يجهر برأيه في ابن عربي وفي بدع المتصوفة في عصر تحمي فيه الدولة المملوكية مملكة الدراويش بما فيهم من صادقين ومن "صوفية الحقائق" و"صوفية الأرزاق" و"صوفية الزي" حسب تعبير الشيخ نفسه. ومع خلاف الشيخ نصر له على طول الخط، و"حطه" عليه، فإن بطلنا الفارس تلطف للشيخ غاية التلطف، وكتب إليه رسالة مطولة يعرض فيها رأيه وأفكاره، وكأن لهجة الخطاب تحمل رسالة ثانية من وراء السطور، رسالة اعتذار عَمَّا فَرَطَ.
قال ابن تيمية البشر الغضوب العالم المتلطف: "من أحمد ابن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميَّزة بين خلقه وطاعته وإرادته ومحبته"[4].
وقال: "وبعد فإن الله تعالى أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا منزلة عليَّة، ومودة إلهية، لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد".
وختم يقول داعيا: "الشيخ أيّد الله تعالى به الإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحُسْن مقاصده، ونور قلبه".
نجد عند العالمين الجليلين ابن تيمية وابن القيم تلطفا آخر في معالجة قضية حساسة جدا في تاريخ الحنابلة، هي قضية شيخ الإسلام أبى إسماعيل الهِروي صاحب كتاب "منازل السائرين". كان أبو إسماعيل محدثا حنبليا صوفيا. وكان بينه وبين الأشاعرة حروب في أول عهد الاصطدام بين الأشاعرة وأهل الحديث، وكان الأشاعرة، وهم الأغلبية الساحقة من الأمة، يرمونه بالتشبيه. ثم إن كتابه "منازل السائرين" يشتمل على مقالات هي من قبيل الشطح الصرف. لذلك كان ابن تيمية "يرمي أبا إسماعيل بالعظائم بسبب هذا الكتاب ويقول : إنه مشتمل على الاتحاد" كما قال الذهبي[5]. وكان ابن تيمية يميل إلى الهروي مع ذلك. فكانت مشكلة عويصة واجهت الحنابلة، وفي مقدمتهم ابن تيمية، أن يكون حنبلي محدث يكتب مثل ما كتب الهروي. فالتمس ابن تيمية لصاحبه في المذهب الأعذار، وتلطف للخصوم فقرَّعه أحيانا.
وكرّس ابن القيم جهودا كبيرة لشرح كتاب الهروي في مؤلفه "مدارج السالكين" كل ذلك لغسل أوْضار الخصومة ما بين أشاعرة صوفية هم الأغلبية وبين محدثين لهم "قدر مشترك" ولبعضهم، مثل الهروي، سهم وافر من التصوف.
قال ابن تيمية: "وأما أبو اسماعيل الأنصاري صاحب "منازل السائرين" فليس في كلامه شيء من الحلول العام. لكن في كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو "مقام التوحيد"[6].
ويلتمس ابن تيمية عفا الله عنا وعنه العذر للقائلين بالحلول الخاص المعاذير فيقول: "وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل".
العبارات تسرق. وتعالى الله أن يحل في شيء أو يحل فيه شيء. وتعالى أن يتحد بشيء أو يتحد به شيء. وغلبة الحال و"السكر" حق يفقد معه الذاكر السالك عقله ووجوده. ونعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ.
ومن يقرأ الجزء الثاني من فتاوي ابن تيمية ير العجب العُجاب، والخوض العميق الذي أخطأ معه من أخطأ وأصاب من أصاب.
قال ابن تيمية في معرض تكفير الحلاج: "وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا (البَوح بسر التوحيد)، وتوحيده (الهروي) الذي قال فيه:
ما وَحـد الواحـد من واحـد إذ مـن وحــده جــاحـد
توحيد من يخبـر عن نعتـه عـارية أبطـلهـا الواحــد
تـوحيـده إيـاه تـوحيـده ونعـتُ من ينعتـه لاحِــدُ
قال: فإن حقيقة قول هؤلاء أن الموحِّد هو الموَحَّد، وأنَّ الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأن لا يوحِّد إلا نفسه"[7].
لكنه عفا الله عنه لم يقل لماذا يعذر الهروي ويوصف بَوْحُه وشطحُه بأنه "حلول خاص" مقبول، ويكفر الحلاج وابن عربي لنفس المقالة.
وينبري ابن القيم ليدافع عن الهروي فيقول: "وحاشا شيخ الإسلام (الهروي) من إلحاد أهل الاتحاد، وإن كانت عبارته موهمة، بل مفهمة ذلك"[8].
بين تأويل العبارات "الموهمة" وإدانة العبارات "المفهمة" وقعت خصومات، وسالت دماء. وأنت تقول: إن أمر الأمة لا يصلح إلا بإعادة تلك الخصومات إلى الحياة، واختراع خصومات جديدة! وتقول إن البشر ليسوا بشرا، وأن الغضب والتعصب والعناد والتحدي والتحدي المضاد من عالم الشياطين لا من عالم بني آدم الخطائين التوابين!
ويتلطف ابن القيم للرأي الآخر فيقول: "شيخ الإسلام (الهروي) حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه. وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك"[9]. ماذا قال المعصوم صلى الله عليه وسلم عن بشريته وغضبه؟ يا معشر المقلدين!
هذه دعوة للتدارك والتوبة والعمل بدل التمشدق والتكلف والتعصب والتمَعْقُل. قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: "عن قريب تصلون نارا حامية إن لم تتداركوا وتتوبوا وتعتذروا. عليكم بالاتباع من غير ابتداع. عليكم بمذهب السلف الصالح. امشوا في الجادة المستقيمة: لا تشبيه ولا تعطيل، بل اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير تكليف ولا تطبُّع ولا تمشدق ولا تمعقل. يسعكم ما وسع من كان قبلكم. ويحك تحفظ القرآن ولا تعمل به؟ تحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعمل بها؟ فلأي شيء تفعل ذلك؟ تأمر الناس وأنت لا تفعل، وتنهاهم وأنت لا تنتهي!"[10].
الجدل عند قوم أحلى وأغلى من العمل. يتفرغ أحدهم ليستعرض الناس أمامه، من مضى منهم ومن هو حاضر، في طابورَين هو قرر قسمتهما ملوّحاً باسم فلان وفلان، مُخْتفيا تحت رداء من مضوا ولقوا الله بأعمالهم، وليس له من خِيارهم ولا عِيارهم قسمة، ولا من علمهم مُسكة. طابور المهتدين حزبه، وطابور الهالكين من لا يخضع ويسمع ويتبع. نفوسهم لم تهذب بصحبة، ولا ذكرت الله، ولا حزنت على بلواها، بل ولا علمت بما هي مبتلاة به. ألا هل من تلطف أيها الناس!
قال رجلٌ رجُلٌ، وكأنه يخاطب أصحاب الافتتان بالعالم الواحد المعصوم:
صــدِّق بأحــوال الرجــال ومـا تلقــوا مـن فــوائــد
وإذا هَــوِيـتَ شفــوفَـهــم فاسلك سبيلـهــمُ وجــاهـد
فـــوراء ذلك لـــذة يعتــابهــا من لـم يشــاهـد
صحـت كرامــات الــرجــ ــال بنقــل أصحـاب المَسـاند
مـا نــائــم مــلء الجــفــ ــون كقــائم لله ســاجــد
هــل يسـتــوي هــذا وذا ما نـاقـص حــالا كــزائــد
يــا راقــدا فــي ليـلــه وإذا تـنـبــه فهــو راقِــد
أتَرَكْــتَ جمـهــور الأئــمـ ــة واقتــديـت بقـول واحـد؟
نظــر لعمــرك فــاســد يـقضي بأن القلـب فـاســد
فوقــوع مــا هــو ممـكــن للقــوم من خــرق العـوائــد
شـهــد الوفــاق لـهم بهـا فـدع الخلاف ولا تجـاحـد
قيل هذا الكلام لجاحد كرامات الأولياء، وقلت لجاحد الولاية من أصلها:
الطُـفْ بِهـمْ لا تَبْتَـئِــسْ إنْ قالَ خَصمٌ أو مُعـانِد
مَـات الرِّجـالُ ومــا بقِي مِـن أوليــاءِ اللّه وَاحــدْ
وقِـفَنْ علـى بَاب الكَريم بِكامـلِ الصِّدق وجَـاهِدْ
[1] العقود الدرية لابن عبد الهادي ص177.
[2] شذرات الذهب ج 6 ص 52.
[3] الدرر الكامنة ج 5 ص 165.
[4] الفتاوي ج 2 ص 452 وما بعدها.
[5] نقله عنه السبكي في "الطبقات" ج 3 ص117.
[6] الفتاوي ج 5 ص485.
[7] الفتاوي ج8 ص 317.
[8] مدارج السالكين ج 1 ص 149.
[9] نفس المصدر ج2 ص 37.
[10] الفتح الرباني ص 47.
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
رد: قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
"أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي والحاكم عن أنس بسند حسن. أطهر أهل القرآن قلبا أقربهم لله. لا يمسه إلا المطهرون، وهم الملائكة ومن دخل في حكمهم بتطهره الظاهر والباطن حتى أزالت ملائكيته دوابيته، ومحت نورانيته ظلمته، وأذهب الله عنه الرجس وقربه وأحبه وجعله من خاصته. ولكل من عظم كتاب الله وخدمه حفظا وتلاوة، وعمل بأمره ونهيه نصيب من ولاية الله. ولَخَيْرُ الأمة من تعلم القرآن وعلمه، إذا كان مع التعلم والتعليم تقوى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". قال الإمام الرفاعي في شرح هذا الحديث: "هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن قد تعلم القرآن وعلمه لما في القرآن العظيم من بالغ الحكم، وغامض السر، وخطير الشأن، وهو حبل الله الأعظم، به يهتدي المهتدون، ويصل الواصلون. وهو خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب. وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة. وما المعرفة التي لم ترجع إليه؟ ما هي إلا زور وضلالة. ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم فقد صار عارفا، وانكشفت له الأسرار الربانية، الملكية والملكوتية. ومتى صار عارفا حَنَّ وأَنَّ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق وفن وكل الطرق والفُنُون في القرآن العظيم. والعارفون هم الراسخون في العلم يقولون آمنا به، وإليه سير هممهم، وعنه يصدرون، وبه يهيمون، ومنه يأخذون"[1].
القرآن العظيم هو ربيع قلوب الذاكرين، هو الذكر الحكيم )هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ( (سورة فصلت، الآية: 44). الذين لا يومنون بالله يسمعون لفظ القرآن، لكنهم لا يهتدون بالقرآن. لا يهتدون به ولا يحفلون لأنه "هدى وبشرى" للمؤمنين لا لغيرهم، لأنه "ذكرى" للمؤمنين لا لغيرهم، لأنه "هدى ورحمة" للمحسنين لا لغيرهم. قال الله تعالى: )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً( (سورة الإسراء، الآية: 82). وقال جل سلطانه: )وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( (سورة التوبة، الآيتان: 124-125).
نرى الناس في زماننا فَرَضوا على القرآن الإقامة الجبرية في المساجد ومعرض التجويد ومباريات الترنيمِ. ما أقاموه في الشأن الخاص والعام، ما احتكموا إليه، ما حكموه، ما اهتدوا به، ما تراحموا به، ما ابتسَمت حياتهم ببشراه. اتخذوه مهجورا في التسجيلات والتسميعات لتُشَنَّفَ بألحان ألفاظه الآذان، والقلوب في عماها. وما ذاك إلا لانعدام أصل الإيمان، وبِلاه، وخلْقه. لا يتخذ المسلمون القرآن إماما إلا إن جددوا الإيمان في قلوبهم. ومن الاعتساف والحكم المضاف أن نعتمد القرآن فقط مصدرا للتشريع لا نعدو حرفيته. من الكفر أن نعتبر القرآن تراثا من التراث المجيد و"إنتاجا" قوميا ونثرا فنيا رائعا لا غير.
أوتي الصحابة رضي الله عنهم الإيمان قبل القرآن، فاستقبلوا نزوله بخشوع، وتلوا آياته في خضوع، وطبقوا أوامره متبعين غير مبتدعين. قرأوه حلاوة في اللسان، وأمانة في جذر القلب، ونورا في العقل المتفكر المفكر، ودليلا في خاص الأمر وعامه، وإماما وحيدا، ومرجعا فريدا، يبينه الرسول الأمين، ويفصله ويفهمه وحيا على وحي، نورا على نور. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قلبك حُشِيَ الإيمان. وإن الإيمانَ يُعطى العبد قبل القرآن". وقال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما من الصحابة: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا". والآثار في هذا المعنى كثيرة، "رواها المصَنِّفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة". كما قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان"[2]. في رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثُرونه نثر الدقل". أي ترمون به مستخفين كما يرمى بالتمر الرديء.
يجب أن نقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه إيانا للقرآن ووصيته من بعده على ضوء أن الإيمان في قلوب الرجال هو الذي يهيِّئ السامع للاهتداء بالقرآن. كان القرآن كلمةَ الله التي ينطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بلاغه وبيانه وخطابه الدائم لمن يدعوهم من الناس. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه. لم يكن سماعُهم للقرآن سواءً .هداية الله وسابقة المدعوين عند الله تحدّد النتيجة، فيومن بعض ويحصلون على أصل الإيمان بهداية الله وهداية رسوله، ويزدادون إيمانا إذا تليت عليهم آيات الله. ويكفر آخرون ويصمون ويستهزئون. ثم كان الصحابة يقتبسون الإيمان، بعضهم من بعض. يجلس بعضهم إلى بعض ليذكروا الله جميعا، ومن جملة الذكر، بل أعظم الذكر القرآن. لا إله إلا الله من القرآن، فبذلك كانت أعلى شعب الإيمان، وكان تَرْدادُها وتِكرارها في صحبة المؤمنين أوثقَ مصدرٍ للإيمان وأقربه. يأتي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فيأخذ بيد الرجل من الصحابة فيقول: تعال نومن ساعة! روى الإمام أحمد عن أنس أن عبد الله فعل ذلك وقاله ذات يوم لرجل، فغضب الرجل وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله ابن رواحة! إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة". وفي الباب الأول من كتاب الإيمان في صحيح البخاري: وقال معاذ: اجلس بنا نومن ساعة.
وأخرج الترمذي هذه الوصية النبوية الشريفة الموجهة للمؤمنين المجاهدين، رواها عن زيد بن أرقم بإسناد حسن يقول فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله، حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض. وعتْرَتي أهلَ بيتي. لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ". الحديث.
ترك فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء. والإيمان والإحسان يتجددان بالاعتصام بالحبلين العظيمين،كتاب الله وسنة رسول الله، ومن سنته العِتْرَةُ الطاهرة، وهم عموما كل متق وليٍّ لله، وخصوصا الطاهرون الأولياء. وهم آل البيت حقاً .باعتصامنا الصادق بهما يتجدد إيماننا حتى يتطابق مع إيمان الصحابة ويتماثل على المعيار القرآني الذي جاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ( (سورة الحجرات، الآية: 10). وجاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ( (سورة الأنفال، الآية: 2). وجاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (سورة الحجرات، الآية: 15). رتِّبْ هذه الآيات إن شئت واقرأ شروط تجديد الإيمان وإحيائه: أخوة في الله، وصحبة، وذكر، وصدق .
بالاعتصام الجامع يصبح لتلاوة القرآن وحفظه معنى غير معنى الحافظين للحرف والمرتِّلين للسمع، تصبح له غاية زائدة على غاية الفقيه المجتهد وغاية المتبتل العابد. يصبح القرآن بحرفه وأحكامه ونوره قبلة الأرواح وضياء الدنيا والآخرة. الاعتصام الجامع هو مخرج الأمة من الفتنة، ومعراجُها من دركات الانحطاط والانهزام والغثائية. روى الإمام أحمد والترمذي والدارمي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنها ستكون فتنة!". قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل.من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلُقُ على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به".من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل،ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم". الحديث.
الأحاديث في فضل القرآن، وثواب التالين، ودرجات الحافظين، وتنور السامعين كثيرة. كان الاعتصام بالقرآن والسنة طيلة هذه القرون بعد الخلافة الراشدة المهدية الأولى اعتصام قُربة فردية، نرجو من فضل مَن له الفضل سبحانه أن تجمع هذه الأجيال بين يدي الساعة إلى قربات القرآن الثوابية الدرجاتية قربة الجهاد في طريقنا إلى الخلافة الثانية المشهودة الموعودة. بذلك نكون حقا من أهل الله وخاصته كما كان من أُنزل القرآن بين ظهرانيهم. والقرآن كتاب جهاد أولا وأخيرا، ما أصبح تميمة للتبرك، ووثيقة مهجورة، ونصا معروضا معزولا إلا بِبِلَى الإيمان وعموم الفتنة، أخرجنا الله من عهودها بمنه.
قال الإمام عبد القادر قدس الله سره: "طر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة. ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وسلم. اجعله وزيرَك ومعلمك. دع يده تُزَيِّنُكَ وتُمَشِّطُكَ وتعرضك عليه. هو الحاكم بين الأرواح، المربي للمريدين، جهبذ المرادين، أمير الصالحين"[3].
وقال الإمام الرفاعي قدس الله سره: "مفتاح السعادة الأبدية الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وهيئته وأكله وشربه وقعوده وقيامه ونومه وكلامه، حتى يصح لك الاتباع المطلق"[4].
خلاف بعض الناس للناس وَسِباقُهم إلى دعوى الاعتصام بالكتاب والسنة يُخفي هوى حب الرئاسات، و"يعتصم" هذا وذاك من الوراقين بفهمه هو، وبقصده هو، وخُطته هو، وإمكانياته هو، واعتقاده هو في عبقرية نفسه، وعصمة مدرسته، وتحقيق نصوصه، ينسب ذلك كله إلى السنة والكتاب، كل من خالف مجموعه الفريدَ النضيدَ خطأٌ وبدعة وضلال. ما نتكلم مع أمثال الخالية قلوبهم من ذكر الله، ومن محبة الله ورسوله، تلك المحبة التي يصدر عنها ويرد إليها الأكابر الأولياء.
قال مجتهد في طاعة الله، متبرىء من الدعوى، خال من البلوى إن شاء الله، طلق الدنيا والرئاسة، وارتفعت همته عن الدناءة والخساسة:
رجـال الله قـد سعـدوا وفـازوا ونـالـوا فضـل رحمـتـه وحـازوا
بَـدا علـم الـنَّجـاةِ فَـيَـمَّـمــوه يُحَـرِّكـُهــم بِـدارٌ واـنحـفــاز
فَـبَعْـضٌ نـارت الأمـصـارُ منـه وبعـضٌ تستـنـيـر بـه المـفــازُ
تمـيَّــزَ كـل ذي دنيـا بدنيـا وهـم لهــم بدينـهــم امتـيــاز
ومـا اعتـزوا بمخلــوق ولكـن لهـم بالواحـد الأحـد اعتــزاز
أَرَدْت لَحـاقَهُم وعجـزتَ عنهـم وحِدْتَ عن الإجـازَةِ إذ أجـازوا
أتـطمـع في اللحـاق ولا نهـوضٌ وتـفـرح بالرحيـل ولا جهـازُ!
وأنـت أخـوهم نسَـبــاً ولكـن طــرازك فـوقــه ذاك الطــراز
دع الدعـوى فلست لهـم بـنِـدٍّ وهل تخفى الحقيقة والمجـازُ!!
وقلت:
تُريدُ لَحــاقَ قومٍ قـد أجــازُوا إلى القُــربى وبالرحمــن فَــازُوا
فَهلْ مَسكـتْ يَداكَ بِكـفِّ خِـلٍّ وَهُيِّـئ للمُصــاحبةِ الجَهــازُ؟
وهلْ بالسُّنـةِ الغــرَّاءِ أضحـى عن البــدع اعتصــامٌ وانحِيــازُ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". قال الإمام الرفاعي في شرح هذا الحديث: "هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن قد تعلم القرآن وعلمه لما في القرآن العظيم من بالغ الحكم، وغامض السر، وخطير الشأن، وهو حبل الله الأعظم، به يهتدي المهتدون، ويصل الواصلون. وهو خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب. وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة. وما المعرفة التي لم ترجع إليه؟ ما هي إلا زور وضلالة. ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم فقد صار عارفا، وانكشفت له الأسرار الربانية، الملكية والملكوتية. ومتى صار عارفا حَنَّ وأَنَّ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق وفن وكل الطرق والفُنُون في القرآن العظيم. والعارفون هم الراسخون في العلم يقولون آمنا به، وإليه سير هممهم، وعنه يصدرون، وبه يهيمون، ومنه يأخذون"[1].
القرآن العظيم هو ربيع قلوب الذاكرين، هو الذكر الحكيم )هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ( (سورة فصلت، الآية: 44). الذين لا يومنون بالله يسمعون لفظ القرآن، لكنهم لا يهتدون بالقرآن. لا يهتدون به ولا يحفلون لأنه "هدى وبشرى" للمؤمنين لا لغيرهم، لأنه "ذكرى" للمؤمنين لا لغيرهم، لأنه "هدى ورحمة" للمحسنين لا لغيرهم. قال الله تعالى: )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً( (سورة الإسراء، الآية: 82). وقال جل سلطانه: )وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ( (سورة التوبة، الآيتان: 124-125).
نرى الناس في زماننا فَرَضوا على القرآن الإقامة الجبرية في المساجد ومعرض التجويد ومباريات الترنيمِ. ما أقاموه في الشأن الخاص والعام، ما احتكموا إليه، ما حكموه، ما اهتدوا به، ما تراحموا به، ما ابتسَمت حياتهم ببشراه. اتخذوه مهجورا في التسجيلات والتسميعات لتُشَنَّفَ بألحان ألفاظه الآذان، والقلوب في عماها. وما ذاك إلا لانعدام أصل الإيمان، وبِلاه، وخلْقه. لا يتخذ المسلمون القرآن إماما إلا إن جددوا الإيمان في قلوبهم. ومن الاعتساف والحكم المضاف أن نعتمد القرآن فقط مصدرا للتشريع لا نعدو حرفيته. من الكفر أن نعتبر القرآن تراثا من التراث المجيد و"إنتاجا" قوميا ونثرا فنيا رائعا لا غير.
أوتي الصحابة رضي الله عنهم الإيمان قبل القرآن، فاستقبلوا نزوله بخشوع، وتلوا آياته في خضوع، وطبقوا أوامره متبعين غير مبتدعين. قرأوه حلاوة في اللسان، وأمانة في جذر القلب، ونورا في العقل المتفكر المفكر، ودليلا في خاص الأمر وعامه، وإماما وحيدا، ومرجعا فريدا، يبينه الرسول الأمين، ويفصله ويفهمه وحيا على وحي، نورا على نور. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قلبك حُشِيَ الإيمان. وإن الإيمانَ يُعطى العبد قبل القرآن". وقال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما من الصحابة: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا". والآثار في هذا المعنى كثيرة، "رواها المصَنِّفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة". كما قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان"[2]. في رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثُرونه نثر الدقل". أي ترمون به مستخفين كما يرمى بالتمر الرديء.
يجب أن نقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه إيانا للقرآن ووصيته من بعده على ضوء أن الإيمان في قلوب الرجال هو الذي يهيِّئ السامع للاهتداء بالقرآن. كان القرآن كلمةَ الله التي ينطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بلاغه وبيانه وخطابه الدائم لمن يدعوهم من الناس. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه. لم يكن سماعُهم للقرآن سواءً .هداية الله وسابقة المدعوين عند الله تحدّد النتيجة، فيومن بعض ويحصلون على أصل الإيمان بهداية الله وهداية رسوله، ويزدادون إيمانا إذا تليت عليهم آيات الله. ويكفر آخرون ويصمون ويستهزئون. ثم كان الصحابة يقتبسون الإيمان، بعضهم من بعض. يجلس بعضهم إلى بعض ليذكروا الله جميعا، ومن جملة الذكر، بل أعظم الذكر القرآن. لا إله إلا الله من القرآن، فبذلك كانت أعلى شعب الإيمان، وكان تَرْدادُها وتِكرارها في صحبة المؤمنين أوثقَ مصدرٍ للإيمان وأقربه. يأتي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فيأخذ بيد الرجل من الصحابة فيقول: تعال نومن ساعة! روى الإمام أحمد عن أنس أن عبد الله فعل ذلك وقاله ذات يوم لرجل، فغضب الرجل وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله ابن رواحة! إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة". وفي الباب الأول من كتاب الإيمان في صحيح البخاري: وقال معاذ: اجلس بنا نومن ساعة.
وأخرج الترمذي هذه الوصية النبوية الشريفة الموجهة للمؤمنين المجاهدين، رواها عن زيد بن أرقم بإسناد حسن يقول فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله، حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض. وعتْرَتي أهلَ بيتي. لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ". الحديث.
ترك فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء. والإيمان والإحسان يتجددان بالاعتصام بالحبلين العظيمين،كتاب الله وسنة رسول الله، ومن سنته العِتْرَةُ الطاهرة، وهم عموما كل متق وليٍّ لله، وخصوصا الطاهرون الأولياء. وهم آل البيت حقاً .باعتصامنا الصادق بهما يتجدد إيماننا حتى يتطابق مع إيمان الصحابة ويتماثل على المعيار القرآني الذي جاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ( (سورة الحجرات، الآية: 10). وجاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ( (سورة الأنفال، الآية: 2). وجاء فيه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (سورة الحجرات، الآية: 15). رتِّبْ هذه الآيات إن شئت واقرأ شروط تجديد الإيمان وإحيائه: أخوة في الله، وصحبة، وذكر، وصدق .
بالاعتصام الجامع يصبح لتلاوة القرآن وحفظه معنى غير معنى الحافظين للحرف والمرتِّلين للسمع، تصبح له غاية زائدة على غاية الفقيه المجتهد وغاية المتبتل العابد. يصبح القرآن بحرفه وأحكامه ونوره قبلة الأرواح وضياء الدنيا والآخرة. الاعتصام الجامع هو مخرج الأمة من الفتنة، ومعراجُها من دركات الانحطاط والانهزام والغثائية. روى الإمام أحمد والترمذي والدارمي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنها ستكون فتنة!". قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل.من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلُقُ على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به".من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل،ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم". الحديث.
الأحاديث في فضل القرآن، وثواب التالين، ودرجات الحافظين، وتنور السامعين كثيرة. كان الاعتصام بالقرآن والسنة طيلة هذه القرون بعد الخلافة الراشدة المهدية الأولى اعتصام قُربة فردية، نرجو من فضل مَن له الفضل سبحانه أن تجمع هذه الأجيال بين يدي الساعة إلى قربات القرآن الثوابية الدرجاتية قربة الجهاد في طريقنا إلى الخلافة الثانية المشهودة الموعودة. بذلك نكون حقا من أهل الله وخاصته كما كان من أُنزل القرآن بين ظهرانيهم. والقرآن كتاب جهاد أولا وأخيرا، ما أصبح تميمة للتبرك، ووثيقة مهجورة، ونصا معروضا معزولا إلا بِبِلَى الإيمان وعموم الفتنة، أخرجنا الله من عهودها بمنه.
قال الإمام عبد القادر قدس الله سره: "طر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة. ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وسلم. اجعله وزيرَك ومعلمك. دع يده تُزَيِّنُكَ وتُمَشِّطُكَ وتعرضك عليه. هو الحاكم بين الأرواح، المربي للمريدين، جهبذ المرادين، أمير الصالحين"[3].
وقال الإمام الرفاعي قدس الله سره: "مفتاح السعادة الأبدية الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وهيئته وأكله وشربه وقعوده وقيامه ونومه وكلامه، حتى يصح لك الاتباع المطلق"[4].
خلاف بعض الناس للناس وَسِباقُهم إلى دعوى الاعتصام بالكتاب والسنة يُخفي هوى حب الرئاسات، و"يعتصم" هذا وذاك من الوراقين بفهمه هو، وبقصده هو، وخُطته هو، وإمكانياته هو، واعتقاده هو في عبقرية نفسه، وعصمة مدرسته، وتحقيق نصوصه، ينسب ذلك كله إلى السنة والكتاب، كل من خالف مجموعه الفريدَ النضيدَ خطأٌ وبدعة وضلال. ما نتكلم مع أمثال الخالية قلوبهم من ذكر الله، ومن محبة الله ورسوله، تلك المحبة التي يصدر عنها ويرد إليها الأكابر الأولياء.
قال مجتهد في طاعة الله، متبرىء من الدعوى، خال من البلوى إن شاء الله، طلق الدنيا والرئاسة، وارتفعت همته عن الدناءة والخساسة:
رجـال الله قـد سعـدوا وفـازوا ونـالـوا فضـل رحمـتـه وحـازوا
بَـدا علـم الـنَّجـاةِ فَـيَـمَّـمــوه يُحَـرِّكـُهــم بِـدارٌ واـنحـفــاز
فَـبَعْـضٌ نـارت الأمـصـارُ منـه وبعـضٌ تستـنـيـر بـه المـفــازُ
تمـيَّــزَ كـل ذي دنيـا بدنيـا وهـم لهــم بدينـهــم امتـيــاز
ومـا اعتـزوا بمخلــوق ولكـن لهـم بالواحـد الأحـد اعتــزاز
أَرَدْت لَحـاقَهُم وعجـزتَ عنهـم وحِدْتَ عن الإجـازَةِ إذ أجـازوا
أتـطمـع في اللحـاق ولا نهـوضٌ وتـفـرح بالرحيـل ولا جهـازُ!
وأنـت أخـوهم نسَـبــاً ولكـن طــرازك فـوقــه ذاك الطــراز
دع الدعـوى فلست لهـم بـنِـدٍّ وهل تخفى الحقيقة والمجـازُ!!
وقلت:
تُريدُ لَحــاقَ قومٍ قـد أجــازُوا إلى القُــربى وبالرحمــن فَــازُوا
فَهلْ مَسكـتْ يَداكَ بِكـفِّ خِـلٍّ وَهُيِّـئ للمُصــاحبةِ الجَهــازُ؟
وهلْ بالسُّنـةِ الغــرَّاءِ أضحـى عن البــدع اعتصــامٌ وانحِيــازُ
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
رد: قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
جناية المصطلحات بسم الله الرحمن الرحيم. )رب اغفر لي ولأخِي وأدخلنا في رحمتك. وَأنت أرحم الراحمين(. اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير. واجعل الموت راحة لي من كل شر. إن كانت عقبَات الصمم عن سماع النداء الموجه للفطرة، وعقبات الكبرياء المانعة من الأخذ عن الأكابر، وعقبات البعد عن عهد النبوة والصحابة، وعقبات الدنيا والشهوات المانعة من التوبة واليقظة، وعقبات الانغماس والانطماس عن طلب المعالي حواجزَ شاهقة وسدودا غَالقة عن الاقتحام فإن من أهم العقبات وجود آراء مسبقة عن شيء يسمى التصوف، يتحدث جهابذة علمائه عن "سبيل الدين الغامض"، وعن المعرفة واللحظ، وعن ميلاد القلوب، وعن ضرورة الشيخ، ويستعملون مصطلحات محدثة. وعندي وعند المسلمين أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فما هي هذه الشجرة التي تزْعمون أنكم شممتم أزهارها وقطفتم ثمارها؟ من غرسها، وبم سقاها، ومن تعهدها حتى وَرِفَتْ ظلالها، وامتدت، وفاء إليها أكابر العلماء يجثون على الركب أمام الشيخ العارف يسلسون له القياد. وقام طائفة من أهل العلم يصرخون ويستصرخون، وينقدون ويؤلفون في "تبليس إبليس"؟ دين الله واضح، وها هو الكتاب وها هي السنة. ضع بإزاء سؤالاتك سُؤالاً أخيرا: ما حقيقة إسلامك أنت؟ وما حقيقة إيمانك؟ وضع بإزاء وجود الكتاب والسنة وجودك أنت، واشتغل بسؤالها إن طُفْتَ وأعياك التَّطواف بالكتب والخلافات. ثم تعال معي، واصبر معي. فقد جنيت لك الأطايب من شجرة طيبة إن كنت من الصادقين، وإن علمت أن أحداً من العقلاء لا يجازف بآخرته فيهرف بما لا يعرف. ذكر البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، وَدعوا ما يكرهون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟" ومن هذا الباب قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم". وقد كانت ولا تزال أحاديث الصوفية عن مواجيدهم وما يتخذونه من مصطلحات فتنة لكثير من المسلمين. ومن الناس من يكره تلك الأحاديث لمجرد أنها تشير إلى ما لا تدركه عقولهم. وعند القوم رضي الله عنهم مما يضمره الجنان ما لا تتسع له العبارة رغم وفرة المصطلحات. قال الغزالي: "ومن أول الطريقة تبتدئ المشاهدات والمكاشفات حتى إنهم (أي الصوفية) في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى بهم الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجـات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطإ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه"[1]. رويدا، رويدا! ملائكة تشاهد! أرواح! ثم لا يكفي هذا! أين بساطة الإيمان من هذه الدعوى التي لا يستسيغها مُدرك بحس ولا متخيل بحدس؟! السلف الصالح لم يستعملوا الألفاظ المُغْرِبة وإن كان ورد عن عمران بن حصين الصحابي رضي الله عنه أنهُ كانت تصافحه الملائكة حتى اكتوى فاحتجبت عنه. إن اصطلاحات القوم ككل الاصطلاحات المحدثة في الإسلام أشياء محددة بالمكان، موسومة بالزمان، أملاها الاضطرار. قال الأستاذ القشيري: "السلف الصالح لم يسْتعملوا هذه الألفاظ. لم يكن في معارفهم خلل. والخلَف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مُبايَنةً، ولا في الدين بدعة. كما أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين اسْتعملوا ألفاظ الفقهاء من لفظ "العلة" و"المعلول" و"القياس" وغيره. ثم لم يكن استعمالهم لذلك بدعة ولا خُلُوُّ السلف عن ذلك كان لهم نقصا. وكذلك شأن النحويين والتصريفيين ونَقَلَةُ الأخبار، في ألفاظ تَخْتص كل طائفة منهم بها"[2]. قال هذا الأستاذ القشيري، وهو من أئمة الفقهاء والمتكلمين والصوفية، جمع الله فيه خيرا كثيرا، في رسالة له يدافع فيها عن العقيدة الأشعرية، وعن مصطلحات المتكلمين. ومن العلماء الأكابر من يشفق على قارىء أخبار الصوفية أن يسيء فهمهم فيقرب ويُسدد. قال ابن القيم بعد أن تناول مبحثا دقيقا من مباحث شيخ الإسلام الهروي: "وكَسَوْتُهُ أحسن عبارة لئلا يُتَعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير"[3]. ومنهم من يشرح ويُقارن. قال الإمام السيوطي: "واعلم أن دقائق علم التصوف لو عُرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان، وكانوا أول قائل بها. وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها"[4]. وبعد فما هو التصوف، وكلمة "تصوف" هي رأس قائمة المصطلحات؟ وما علاقة التصوف، وهو لفظ محدث، بالإحسان وهو لفظ قرآني نبوي، وبالتزكية والتطهر؟ اعلم يا أخي أولا أنني أزهد الناس في المصطلح إن سلمت لنا مطويات القلوب ومكنونات اللبوب. واعلم ثانيا أن هؤلاء الذين تسموا في التاريخ صوفية أشكال وألوان وأصناف، منهم الصادقون ومنهم دون ذلك. واعلم أخيرا أنني لا أبغي بغير الصحابة المجاهدين المهاجرين إلى الله ورسوله الناصرين بديلا. أما الصوفية فقال عنهم واحد من فرسان العلماء وجهابذتهم ابن تيمية رحمه الله: "طائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة(...). وطائفة غَلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء. وكِلا طرفي هذه الأمور ذميم. والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله. ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده. وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيُخطئ، وفيهم من يذنبُ فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.(...) فهذا أصل التصوف. ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت الصوفية ثلاثة أصناف: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم"[5]. يعني شيخ الإسلام بصوفية الحقائق صوفية السلوك والأذواق والكشف والفتح والكرامات على درجات. ويعني بصوفية الأرزاق أقواما حبسوا أنفسهم في الخانقات والزوايا تجري عليهم الجرايات والأرْفاقات والصدقات. ويعني بصوفية الرسم المتشَبّهون والمتبركون والمنتسبون باللباس والآداب والزي. صنف رابع لم يذكرهم الشيخ هم صنف التصوف الفلسفي يحملون الاسم زورا وبهتانا. وصنف خامس لم يذكرهم الشيخ ولعلهم كانوا لا يوجدون في زمانه ومكانه واهتمامه. وهم صوفية الرباط، المجاهدون في ثغور المسلمين. بالجملة ما حكم العلماء على الصوفية الصادقين؟ قرأنا في الفصل الأول من هذا الكتاب شهادات تمشي على رجلين، هي شهادات فطاحل العلماء الساعين بخضوع للجلوس بين يدي العارف الرباني. ونقرأ هنا شهادة مكتوبة. قال ابن القيم رحمه الله: "فَنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القَدْر المشترك". لا شك أن الشيخ يعني نفسه هنا، يشارك القوم (الصوفية) في مشاربهم القلبية ويَنْفَرِدُ عنهم بالمشاركة الواسعة في علوم الظاهر. والقدْرُ المشترك بينه وبينهم عَلّمَه أن: "جملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغُمِرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته. فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب. قد أنساهم حبه ذكر غيره. وأوحشهم أنسهم به ممن سواه. قد فَنُوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتّذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره"[6]. أهذا غلُو في القوم يُبْديه تلميذ ابن تيمية الذي يعده المستَخِفّون عدوا لكل ما يمت للتصوف بصلة؟ كلا والله بل هي شهادة رجل واثق ذائق صادق. والتصوف الخُلُق. قال الكتاني أحد مشايخ الصوفية: "التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف". وسئل ذو النون المصري، وهو من أكابر القوم، عن الصوفي فقال: "هو الذي لا يُتعبه طلب، ولا يزعجه سلب". وقال أيضا: "هم قوم آثروا الله على كل شيء فآثرهم الله على كل شيء". لا حاجة لنا هنا في البحث عن أصل المصطلح هل هو من الصوف أو من الصفاء. ولننظر في المواضيع التي تملأ كتب القوم. في رسالة القشيري: "باب في تفسير ألفاظ تدور بين هذه الطائفة". منها الحالُ والمقام، والقبض والبسط، والهيبة والأنس، والتواجد والوجد والوجود، والجمع والفرق، والفناء والبقاء، والغيبة والحضور، والصحو والسكر، والذوق والشرب، والمحو والإثبات. والقائمة طويلة. وتحت كل لفظ علوم يُبْهمها الصِّيانُ ولا يفصح عنها البيان إلا إشارات ومصطلحات يعرفها من ذاق. لا بأس من هذه الأذواق الشريفة المُنيفة تُصاغ في قوالب لفظية ليتداولها أهل الذوق وليتفاهموا فيما بينهم. وقد كانت حياتهم حياة التفرغ والانكفاف عن الخلق. يتسع وقتهم لتعْميق المشاعر الرقيقة. يا حسرة على من ظن أن حديث القوْم ولغتهم زخرف القول غرورا، تزويق وتنميق. ذاك على الباب ما قرع، ومن أهل الذكر ما سمع. أولئك هم الغافلون. لا بأس، وبخٍ بَخٍ! لكني لا أجد في هذه القائمة المبجلة كلمات القرآن والنبوة عن الجهاد، والقتال، والنفقة في سبيل الله، وحصار المشركين، والغلظة عليهم والشدة، والتحزب لله، وحمل هم الأمة، والنصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم. وجَدَّتْ في عصرنا مستجدات: أمة مقهورة مقسومة مغلوبة، فلسطين القدس المحتلة، تخلف المسلمين، حكام الجبر عليهم، قوى عظمى تتحكم في الأرض، تخلف، صناعة، فضاء، علوم، اختراعات، تكنولوجيا، طـوق إعلامي يغزو سكان الأرض، مجاعة، تضخم سكاني، استعمار، ثورة، تلوث البيئة، أسلحة نووية، أسفار نحو الكواكب، إنتاج، استهلاك، ديموقراطية، اشتراكية. أين تقع مصطلحات القوم من اهتمامات العصر، ومن المستقَر القرآني النبوي، ومن النموذج الصحابي الجهادي؟ هذا هو سؤالنا في هذا الكتاب. قديما قال الشاعر الصوفي يأسف على ما آل إليه التصوف في زمانه، ونحن همنا أن ندرج التربية الإحسانية في سياق جِهادي لكيلا تكون مَخْرَقَة: أهل التصوف قد مضوا صار التصـوف مخرقـه صار التصـوف صَيْحـة وتَواجُــدا ومـُطَـبَّـقَــه مضت العلوم فلا علـوم ولا قلـوبٌ مشــرقــه كذبتك نفسـك ليـس ذا سَنَن الطريق المُخْـلَـقـه حتى تكون بعيـن مـَـن عنه العيون المُحـدِقَــه تجري عليك صـروفـه وهموم سِـرّك مُطـرقـه وقلت جعلني الله وإياك من الإخوان أهل القرآن: كذَبَتْكَ نفسك بالأما ني والأماني مَخْرَقــهْ لا لن تفـوز بقــربـه وترى الفتوح المشْرقَـهْ إلا بـعــزم صـابــر وبـهـمـة مُـتَـعَـشِّـقَــهْ
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
رد: قاعدة أهل السنة والجماعة : الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم التفرقة / الامام ابن تيميه
الردود مقتبسة من كتاب الإحسان للشيخ عبد السلام ياسين، وهي حول الخلاف و أدب الأختلاف ، و الإعتصام بكتاب الله و السنة ، و حول جناية المصطلحات ، و كيف نتجاوز عقبات الخلاف و الله الموفق
<br>
عمرالحسني- كـاتــــب
-
الديانه : الاسلام
البلد : المغرب
عدد المساهمات : 1169
نقاط : 6486
السٌّمعَة : 12
مواضيع مماثلة
» مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة
» حكم لعن المسلم لابن تيميه
» فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة / للامام ابو حامد الغزالي
» لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه ..ابن تيميه
» رحلة إلي مثلث برمودا "قاعدة الشيطان
» حكم لعن المسلم لابن تيميه
» فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة / للامام ابو حامد الغزالي
» لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه ..ابن تيميه
» رحلة إلي مثلث برمودا "قاعدة الشيطان
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى