قراءة في فكر الإمام محمد أبو زهرة حول وحدة الأمة الإسلامية
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان
صفحة 1 من اصل 1
قراءة في فكر الإمام محمد أبو زهرة حول وحدة الأمة الإسلامية
الوحدة الإسلامية.. فريضة شرعية وضرورة إنسانية (تمهيد)
1 ـ إن من نافلة القول عند من يعرفون الحقائق الإسلامية أن نقول لهم إن المسلمين أمة واحدة، بل لعلهم يعدون ذلك من الفضول الذي لا يجوز الكلام فيه، لأنه بديهية من البديهيات المقررة في الإسلام، ولأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة لا يماري فيه مؤمن، ولا ينبغي أن يجادل فيه مسلم، ولكننا في عصر غربة الإسلام، صارت حقائقه غريبة، حتى إنها في بيانها لتحتاج إلى استئناس لتزول غربتها، وتذهب وحشتها، بل نحن في حاجة إلى أن نبينها وندافع عنها غير وانين ولا متهاونين، ولابد أن تنفر منا طائفة تحمل الدعوة إليها، وتحث الناس عليها، فانه لا عزة للإسلام إلى بها، ولا قوة للمسلمين إلا بوجودها، إذ أن من المقررات الثابتة أن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، ولا تستطيع أن تعود إلى ماضيها العزيز الكريم إلا إذا أخذت بالأسباب التي قام عليها ذلك الماضي، وإنه لا عزة لهذه الأمة التي جمعها الإيمان إلا بأن تستمد من صدر تاريخها قوة وإيمانا، ومن دينها الجامع بينها قوة وتثبيتا، وذلك يكون إذا تلاقت أقاليمها وآحادها على أمر جامع لا يتفرقون فيه ولا يختلفون.
2 ـ وإذا كنا قد أهملنا في الماضي فعلينا أن نستيقظ في الحاضر، وقد تأدى بنا إهمالنا إلى أن التهمنا ذئاب الإنسانية إقليما، إقليما، وأن صرنا نهباً مقسوماً بين الناس، يختلفون في أمرنا أو يتفقون، ونحن لا حول لنا ولا طول، يستشار أعداؤنا فينا، ونحن نترقب ما يفعلون مستسلمين غير مغيرين، يشحذون السيوف ونحن نرى بريقها ولا نحسب أنه تصوب إلينا أولا وبالذات.
ولقد استيقظ النائم من سباته، وتنهب المشاعر، وتحركت النفوس، ولكن في الدوائر الإقليمية والنزعات الوطنية، وإن ذلك محمود في ذاته على أنه خطوة لا غاية، وعلى أنه سير في الابتداء، وليس هو غاية الانتهاء، وأنه كان أمراً لابد منه، لأن أعداء الإسلام ما كانوا يسمحون بأن نجتمع، وهم قابضون على النواصي في كل أمة إسلامية، وما كانوا يسمحون بأن نتلاقى على مائدة الإسلام، وهم يرون فيها انتهاء استغلالهم وذهاب استعمارهم، فكان الطريق للخلاص أن يتحرك كل إقليم في موضعه، حتى يخلع الربقة، فإذا تخلص الجميع أمكن أن يتلاقوا على عزة وحرية وأن يتدبروا شئونهم ودينهم الذي ارتضوا، وأن يسمعوا صوت الحق يناديهم بندائه الخالد إلى يوم القيامة: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ".
3 ـ ولقد كنا معشر المسلمين في غمرة، حتى صرنا وقود الحروب نؤكل فيها ولا نأكل، وتستغل كل قوانا ولا ننتفع بشيء من أمورنا، وتستنزف كل خيراتنا، ولا ننال منها إلا النزر اليسير إلى يجود به علينا المتحكمون فينا، فأرادونا زراعا وهم الحاصدون؛ وأرادونا صناعا وهم المثرون، حملونا على ترك مبادئ ديننا مبدأ مبدأ، نزعوا من قلوبنا حب الجهاد، وألقوا فيها الوهن وحب الدنيا الضئيلة التابعة وذلك بما كانوا يبثونه بيننا، وما يغرون به كبراءنا، حتى صار أمر هذه الأمة سددا بددا، وصارت القيادة فيها إلى الجهلاء بأمر دينهم.
وكانت تلك حالنا في حروبهم التي يشنها بعضهم على بعض، غير أن الله أفاض علينا بنعمة الاعتزاز من بعد، وأذهب عنا الاغترار بهؤلاء الذين كانوا يسوموننا الهوان، ويذيقوننا عذاب الهون بما كسبنا وبما أهملنا. فإنه بعد الحرب العالمية الأولى أخذت عقول الشعوب تتنبه، وعزائمها تتحرك؛ وكانت مغالبة بينها وبين الغالبين من جهة، وبينها وبين الذين أقامهم الغالبون ستاراً يحكمون الشعوب بأسمائهم ومن جهة أخرى. يتحكمون في الرقاب بسلطانهم الوهمي الذي ليس من الدين، ولكن الشعوب إذا تحركت لا ترجع، فلما جاءت الحرب الثانية وقادونا إليها وليس لنا فيها ناقة ولا جمل، ولم تستطع الشعوب فكاكا من حكمها، لأن مقاليد الأمور لم تكن بأيدي ممثليها، ولكنها في هذه الجولة لم تكن كالأولى، وهم فيها كانوا شراً مما كانوا، فقد أخرجوا المسلمين من ديارهم وأموالهم في بقعة من أرض الإسلام، ومزقوا أهلها كل ممزق، وتركوهم يأكلهم العرى والجوع بلا مأوى يؤويهم، ولا أرض يستقرون فيها، فكان ذلك كالمبضع يقطع في جسم حي قد ذهب منه المخدر أو كالسكين تقطع في إنسان حي تكونت له إرادة وعزيمة، فعلم المسلمون حينئذ أن هذا ابتداء وأنه لابد من أن يقطع على أولئك السبيل حتى لا يصلوا إلى نهاية الطريق فإنها الموت المخبوء، ثم عندئذ علموا أنه لم يعد للاستضعاف موضع في إرادتهم، وأن من يريد الحياة يحيا، ومع اليأس والقنوط الفناء، وأن موتاً في سبيل الحق هو عين البقاء، وظهرت مظاهره، ولقد تنبهوا فوجدوا قول الحق الخالد: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفوراً، ومنم يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفوراً رحيماً".
4 ـ وفي نهاية هذا المعترك الفاصل بين النوم واليقظة، وبين الاستخذاء والاستعلاء نهضت الأقاليم الإسلامية، فاستقل بعضها استقلالا كاملا، واستقل بعضها استقلالا نسبياً اختفت فيه يد الأجنبي، وإن كان له عمل وراء الستار، ولكن الشعوب لها إرادة، وتريد الإسلام وعزته، وتريد الاستقلال الكامل وحريته.
وإن هذا العصر هو العصر الذي تتجمع فيه الدول، ويحس كل إقليم أنه مأكول إن لم يكن في جماعة من الدول، وأنه مغلوب على أمره إن لم يتجه مختاراً إلى تجمع دولي، وقد بدت التجمعات الدولية والأحلاف العسكرية التي يريد كل حلف فيها أن يكون المسيطر في الحروب، والغالب عند ما تشتعل النيران، وتلاقت التجمعات في جمعين: شرق وغرب، فهل لنا نحن المسلمين أن نتلاقى في تجمع روحي لا يبنى على الغلبة وحب السلطان، ولكن يبني على الإيمان وطاعة الديان؟!.
إن هذه التجمع ليس أمراً ضد الفطرة كتلك التجمعات التي تبني على مقاومة الفطرة، ولكنه نداء الفطرة، ونداء الحقيقة الخالدة التي نطق بها القرآن في قول الله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير ".
5 ـ إنه قد تكونت دول إسلامية تحكم شعوباً إسلامية، وقطعت أصابع الأجنبي من بعضها، واستترت في بعضها، ولكن قطعها لا يحتاج إلى مجهود حربي ولا إلى ثورة عنيفة، وإنما يحتاج فقط إلى تغليب المصلحة الحقيقية على المصلحة الوهمية، والعقيدة الإسلامية على المطامع الأشعبية، والنفس الحازمة الضابطة على النفس الأمارة بالسوء التي يسيطر عليها الهوى، يحتاج إلى ضبط للأهواء، ويحتاج إلى اعتزاز بالإسلام وحده: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ".
وإنه قد آن لنا أن نتجمع لأن الإسلام يدعو إلى هذا التجمع، ولأننا إن لم نجتمع بشعار الإسلام وحده. وذهب كل إقليم إلى تجمع لا يحمل شعار الإسلام تقع الحروب بين المسلمين، ويقاتل المسلمون إخوانهم من المسلمين تحت ظل لواء غير لواء الإسلام، ولم يكن ذلك أمراً يتوقع فقط، ولكنه أمر ثابت قد وقع، ففي الحرب العالمية الأولى قاتل كثيرون من المسلمين جنود الأتراك المسلمين، ولم يكونوا في ظل إسلامي إذ يقاتلون، بل كانوا يقاتلون في ظل أعداء الإسلام. والله يقول: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون".
6 ـ إذن فلابد من أن يجتمع المسلمون ولا يختلفوا، وأن تتكون منهم أمة واحدة، كما قال تعالى: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " ولا نقصد بأن نكون أمة واحدة أن تحكمنا حكومة واحدة، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق، ولكن يمكن أن يتحقق منا تجمع واحد. أو جامعة إسلامية واحدة، على ما سنشير إلى ذلك في موضعه.
وإن الأمة الإسلامية تقوم الروابط فيها على وحدة الدين والعقيدة، ووحدة المبادئ الخلقية، والعبادات، وكل يوم يمر يشعر المؤمن بالوحدة الإسلامية إن أدى العبادات اليومية على وجهها، فتلك الوحدة في قلبه آناء الليل والنهار بالصلوات الخمس إذ يؤديها المسلمون جميعا إلى قبلة واحدة، فإذا تصور المسلم عند أداء الصلاة أنه واحد من ألوف الألوف يتجهون إلى مثل اتجاهه، ويولون وجوههم شطر بيت الله الحرام على أين تكون مثابته، وأين تكون جماعته، إنه عندئذ يدرك أنه لبنة في بناء مجتمع كبير يضم أقطاراً من الشرق والغرب ويقوم على الفضيلة والاتجاه إلى الله تعالى، وإنك لترى ذلك المظهر السامي في الصوم، وتراه في الحج أوضاح إشراقاً وأعظم نوراً، إن أدركت القلوب معنى العبادة.
7 ـ وإن قيام الاجتماع الإسلامي على مبادئ الفضيلة والأخلاق هو أمثل الطرق لتكوين الجماعات الدولية، ولا يعد الاجتماع العنصري أو الاقتصادي أمثل المجتمعات لتكون الأمم، وذلك لأن الجماعة الواحدة لا تتكون منها أمة إلا إذا اتحدت المشاعر والأهواء والمنازع النفسية، ولا تتكون هذه المشاعر تحت سلطان تبادل النافع فقط، وذلك لأن تبادل المنافع يكون عند قيامها، ويزول عند زوالها.
ولا تتحد النفوس في هذا الظل العارض الذي يتغير بتغير الأحوال والأزمان، ولم يعرف أن أمة تكونت من مجرد التبادل الاقتصادي، أو الاشتراك في المنفعة المادية.
وإنه بالموازنة بين تكوين الأمم بالعنصرية وتكوينها بالدين يتبين أن السير بالإنسانية في مدارج الرقى، وقيام العلائق البشرية على تسس من المودة والفضيلة إنما يكون تحت ظل الدين لا تحت ظل العنصرية، لأن العنصرية تفرض فصيلة من الفصائل لتقاتل أخرى، وتحتاز مكاناً تقيم فيه لتغالب الآخرين، فليس التجمع الإنساني على أساس العنصرية إلا بقية من بقايا الحيوانية المتناحرة في الإنسان، وإنا لنرى ذلك واضحاً في الأمم التي تعامل الشعوب على أساس ألوانها، وليست فكرة الأمم الملونة والأمم البيضاء إلا صورة لتحكم العنصرية، وبقية من بقايا الحيوانية المتناحرة، بل هي أخص ظواهرها.
أما الاجتماع باسم الإسلام فهو اجتماع لا يقوم على المغالبة، بل على الأخوة العامة، والمودة الراحمة التي يحث عليها ذلك الدين القويم، فهذا الاجتماع الإسلامي يكون أمة تتحد فيها المشاعر نحو الفضيلة والمثل العليا التي تنزع بالروح الإنساني نحو الملكوت الأعلى، ويخضع فيها الإنسان لخالق الأكوان وحده، وعندئذ يعلو ابن الإنسان عن المغالبة إلا إذا اعتدى عليه، فعندئذ يؤذن له في القتال لدفع الفساد وإقامة مصالح العباد، ولقد قال تعالى: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير... ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز ".
8 ـ وإنه في الوحدة التي يكون أساسها الدين الإسلامي تكون العدالة الحقيقية التي لا تفرق بين جنس وجنس، ولا لون ولون، وإنما التفرقة في توزيع العدالة تكون في العنصرية، وإن في أمريكا لعبرة لأولى الأبصار، فبينا نجد الحريات للبيض مكفولة، والرق قد ألغى ـ نجد ظلماً يقع على السود لا يقل عن ظلم الجاهلية الأولى، وما دون من حقوق لهم إنما هو خطوط مسطورة على قراطيس ليس لها في العمل مظهر يثبت وجودها.
والعلو في المجتمعات التي تقوم على الدين الإسلامي تربط بين آحادها مبادئ فاضلة تقوم على أسس فعل الخير والتقوى لا على أساس نيل الدم، وتقوم على أساس احترام الكرامة الإنسانية التي هي حق مشترك لكل إنسان، لا على أساس كرامة السلالة.
وإن قيام الجماعات على أسس دينية يترتب عليه أن يقل التناحر بين أهل الأرض إذا أخذوا بمبادئ الأديان.
وإذا كان التاريخ يحكى تناحراً بين الناس باسم الأديان، فليس ذلك ناشئاً عن الدين نفسه، إنما هو ضلال الفهم، فقد يتحول الدين في نفوس بعض الذين لا يدركون حقائقه إلى معنى يشبه الجنسية أو العنصرية، وفي هذه الحال لا يكون التناحر منبعثاً من ذات الدين ولا من مبادئه، بل من العنصرية التي لبست لبوس الدين، والدين منها براء، وقد يكون التناحر من خطأ الفهم للحقائق الدينية، فيتحول في نفوس المنتحلين له إلى عصبية تشبه عصبية النسب، ويختفي في النفس معنى الخير، وسمو الفضيلة.
وليس هذا هو اجتماع أهل الإسلام، إنما اجتماع أهل الإسلام الذي نطيع فيه القرآن هو الخاضع لقول الله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ".
9 ـ هذه حقائق مقررة تشير إلى معنى الاجتماع في الإسلام في جامعة إسلامية، وإنه لا عصبية فيها ولا عنصرية ولا جنسية ولا إقليمية، ولكن على أي شكل تكون الوحدة الجامعة اليوم؟ أتكون على الشكل الأول في صدر الإسلام، أم تكون على شكل جديد يلائم روح العصر مع تحقق معنى الوحدة على أكمل وجه، على أننا إن تأثرنا بروح العصر، ففي شكل الوحدة، لا في جوهرها، فلسنا ممن يخضعون أحكام الإسلام لروح العصر، ولكن الإسلام أمرنا بالقيام بحقائق مقررة، وترك لنا أساليب تحقيقها فنجتهد في تعرف أنجعها وأقربها توصيلا لهذه الحقائق، فمن روح العصر نستمد الطريق الموصل، وما يمكن أن يكون عليه شكل الوحدة، ولا نسوغ لأحد كائنا من كان أن يتحكم في أي حقيقة شرعية باسم روح العصر فحقائق الإسلام ثابتة مستقرة لا تقبل التغيير ولا التبديل.
10 ـ ويجب أن يعلم علما يقينياً كما أشرنا أن الوحدة التي نبتغيها لا تمس سلطان ذي سلطان يقوم بالحق والعدل في المسلمين، ولا شكل الحكم في الأقاليم الإسلامية، فلكل إقليم أسلوب حكمه ما دام يؤدي إلى إقامة الحق والعدل فيه، ويحقق المعاني الإسلامية السامية وإنما معنى الجامعة الإسلامية أن نعتبر أنفسنا مهما تناءت الديار مرتبطين بروابط وثيقة تمتد جذورها في أعماق أنفسنا وهي أحكام الإسلام، وشعائره وعبادته وعقائده، إذ هو دين الوحدة الجامعة الشاملة كما هو دين التوحيد الخالص من كل شرك أيا كان نوعه، وأيا كان مظهره.
ويتحقق معنى الوحدة في ثلاثة أمور جامعة:
أولها: أن تتحد مشاعرنا جميعا في الإحسان بأننا إخوة بحكم الإسلام، وأن الاخوة الإسلامية فوق الجنسية والعنصرية، وأن نتذكر أن أول حكم تكليفي نفذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة هو الأخوة الإسلامية في نظام الإخاء الذي قام به، فقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وآخى بين الأنصار بعضهم مع بعض، وآخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وذلك ليشعر الجميع بأن الأخوة الإسلامية هي التي تجمع، وغيرها يفرق، وإن أسباب هذه الأخوة قائمة، والعقائد والتكليفات وحدها كافية لذلك، ولقد قال السيد جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الإسلامية في العصور الحديثة: " أما وعزة الحق وسر العدل لو ترك المسلمون أنفسهم بما هو عليه من عقائد مع رعاية العاملين فهم لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم، ولكن وا أسفاه تخللهم المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب لا أمر فيه ولا نهي. هؤلاء هم الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم، وخرجوا على ملوكهم حتى تناكرت الوجوه وتباينت الرغائب".
الأمر الثاني: وحدة ثقافية ولغوية واجتماعية تجمع بين المشاعر والأحاسيس، حتى يقرأ كل مسلم ما يقرؤه الأخر، ويحاربوا كل ما فيه هدم للإسلام ويتفقوا على ما فيه رفع له، وإعزاز للمسلمين، وأن يكون المجتمع الإسلامي قائما على مبادئ الإسلام الصحيحة.
الأمر الثالث: ألا يكون من إقليم إسلامي حرب على إقليم آخر، أيا كانت أساليب هذه الحرب، سواء أكانت بالاقتصاد أم كانت بالسيف، فهي في كلا شكليها توهين لقوى الإسلام وإضعاف لشأنه، وقد أمرنا بأن نصلح بين المسلمين إن تنازعت منهم طائفتان، وأمرنا بأن يكون كل مسلم في حاجة أخيه المسلم، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
**بتصرف يسير، نقلا عن مجلة "رسالة الإسلام"
المصدر: موقع إسلام أون لاين
1 ـ إن من نافلة القول عند من يعرفون الحقائق الإسلامية أن نقول لهم إن المسلمين أمة واحدة، بل لعلهم يعدون ذلك من الفضول الذي لا يجوز الكلام فيه، لأنه بديهية من البديهيات المقررة في الإسلام، ولأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة لا يماري فيه مؤمن، ولا ينبغي أن يجادل فيه مسلم، ولكننا في عصر غربة الإسلام، صارت حقائقه غريبة، حتى إنها في بيانها لتحتاج إلى استئناس لتزول غربتها، وتذهب وحشتها، بل نحن في حاجة إلى أن نبينها وندافع عنها غير وانين ولا متهاونين، ولابد أن تنفر منا طائفة تحمل الدعوة إليها، وتحث الناس عليها، فانه لا عزة للإسلام إلى بها، ولا قوة للمسلمين إلا بوجودها، إذ أن من المقررات الثابتة أن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، ولا تستطيع أن تعود إلى ماضيها العزيز الكريم إلا إذا أخذت بالأسباب التي قام عليها ذلك الماضي، وإنه لا عزة لهذه الأمة التي جمعها الإيمان إلا بأن تستمد من صدر تاريخها قوة وإيمانا، ومن دينها الجامع بينها قوة وتثبيتا، وذلك يكون إذا تلاقت أقاليمها وآحادها على أمر جامع لا يتفرقون فيه ولا يختلفون.
2 ـ وإذا كنا قد أهملنا في الماضي فعلينا أن نستيقظ في الحاضر، وقد تأدى بنا إهمالنا إلى أن التهمنا ذئاب الإنسانية إقليما، إقليما، وأن صرنا نهباً مقسوماً بين الناس، يختلفون في أمرنا أو يتفقون، ونحن لا حول لنا ولا طول، يستشار أعداؤنا فينا، ونحن نترقب ما يفعلون مستسلمين غير مغيرين، يشحذون السيوف ونحن نرى بريقها ولا نحسب أنه تصوب إلينا أولا وبالذات.
ولقد استيقظ النائم من سباته، وتنهب المشاعر، وتحركت النفوس، ولكن في الدوائر الإقليمية والنزعات الوطنية، وإن ذلك محمود في ذاته على أنه خطوة لا غاية، وعلى أنه سير في الابتداء، وليس هو غاية الانتهاء، وأنه كان أمراً لابد منه، لأن أعداء الإسلام ما كانوا يسمحون بأن نجتمع، وهم قابضون على النواصي في كل أمة إسلامية، وما كانوا يسمحون بأن نتلاقى على مائدة الإسلام، وهم يرون فيها انتهاء استغلالهم وذهاب استعمارهم، فكان الطريق للخلاص أن يتحرك كل إقليم في موضعه، حتى يخلع الربقة، فإذا تخلص الجميع أمكن أن يتلاقوا على عزة وحرية وأن يتدبروا شئونهم ودينهم الذي ارتضوا، وأن يسمعوا صوت الحق يناديهم بندائه الخالد إلى يوم القيامة: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ".
3 ـ ولقد كنا معشر المسلمين في غمرة، حتى صرنا وقود الحروب نؤكل فيها ولا نأكل، وتستغل كل قوانا ولا ننتفع بشيء من أمورنا، وتستنزف كل خيراتنا، ولا ننال منها إلا النزر اليسير إلى يجود به علينا المتحكمون فينا، فأرادونا زراعا وهم الحاصدون؛ وأرادونا صناعا وهم المثرون، حملونا على ترك مبادئ ديننا مبدأ مبدأ، نزعوا من قلوبنا حب الجهاد، وألقوا فيها الوهن وحب الدنيا الضئيلة التابعة وذلك بما كانوا يبثونه بيننا، وما يغرون به كبراءنا، حتى صار أمر هذه الأمة سددا بددا، وصارت القيادة فيها إلى الجهلاء بأمر دينهم.
وكانت تلك حالنا في حروبهم التي يشنها بعضهم على بعض، غير أن الله أفاض علينا بنعمة الاعتزاز من بعد، وأذهب عنا الاغترار بهؤلاء الذين كانوا يسوموننا الهوان، ويذيقوننا عذاب الهون بما كسبنا وبما أهملنا. فإنه بعد الحرب العالمية الأولى أخذت عقول الشعوب تتنبه، وعزائمها تتحرك؛ وكانت مغالبة بينها وبين الغالبين من جهة، وبينها وبين الذين أقامهم الغالبون ستاراً يحكمون الشعوب بأسمائهم ومن جهة أخرى. يتحكمون في الرقاب بسلطانهم الوهمي الذي ليس من الدين، ولكن الشعوب إذا تحركت لا ترجع، فلما جاءت الحرب الثانية وقادونا إليها وليس لنا فيها ناقة ولا جمل، ولم تستطع الشعوب فكاكا من حكمها، لأن مقاليد الأمور لم تكن بأيدي ممثليها، ولكنها في هذه الجولة لم تكن كالأولى، وهم فيها كانوا شراً مما كانوا، فقد أخرجوا المسلمين من ديارهم وأموالهم في بقعة من أرض الإسلام، ومزقوا أهلها كل ممزق، وتركوهم يأكلهم العرى والجوع بلا مأوى يؤويهم، ولا أرض يستقرون فيها، فكان ذلك كالمبضع يقطع في جسم حي قد ذهب منه المخدر أو كالسكين تقطع في إنسان حي تكونت له إرادة وعزيمة، فعلم المسلمون حينئذ أن هذا ابتداء وأنه لابد من أن يقطع على أولئك السبيل حتى لا يصلوا إلى نهاية الطريق فإنها الموت المخبوء، ثم عندئذ علموا أنه لم يعد للاستضعاف موضع في إرادتهم، وأن من يريد الحياة يحيا، ومع اليأس والقنوط الفناء، وأن موتاً في سبيل الحق هو عين البقاء، وظهرت مظاهره، ولقد تنبهوا فوجدوا قول الحق الخالد: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفوراً، ومنم يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفوراً رحيماً".
4 ـ وفي نهاية هذا المعترك الفاصل بين النوم واليقظة، وبين الاستخذاء والاستعلاء نهضت الأقاليم الإسلامية، فاستقل بعضها استقلالا كاملا، واستقل بعضها استقلالا نسبياً اختفت فيه يد الأجنبي، وإن كان له عمل وراء الستار، ولكن الشعوب لها إرادة، وتريد الإسلام وعزته، وتريد الاستقلال الكامل وحريته.
وإن هذا العصر هو العصر الذي تتجمع فيه الدول، ويحس كل إقليم أنه مأكول إن لم يكن في جماعة من الدول، وأنه مغلوب على أمره إن لم يتجه مختاراً إلى تجمع دولي، وقد بدت التجمعات الدولية والأحلاف العسكرية التي يريد كل حلف فيها أن يكون المسيطر في الحروب، والغالب عند ما تشتعل النيران، وتلاقت التجمعات في جمعين: شرق وغرب، فهل لنا نحن المسلمين أن نتلاقى في تجمع روحي لا يبنى على الغلبة وحب السلطان، ولكن يبني على الإيمان وطاعة الديان؟!.
إن هذه التجمع ليس أمراً ضد الفطرة كتلك التجمعات التي تبني على مقاومة الفطرة، ولكنه نداء الفطرة، ونداء الحقيقة الخالدة التي نطق بها القرآن في قول الله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير ".
5 ـ إنه قد تكونت دول إسلامية تحكم شعوباً إسلامية، وقطعت أصابع الأجنبي من بعضها، واستترت في بعضها، ولكن قطعها لا يحتاج إلى مجهود حربي ولا إلى ثورة عنيفة، وإنما يحتاج فقط إلى تغليب المصلحة الحقيقية على المصلحة الوهمية، والعقيدة الإسلامية على المطامع الأشعبية، والنفس الحازمة الضابطة على النفس الأمارة بالسوء التي يسيطر عليها الهوى، يحتاج إلى ضبط للأهواء، ويحتاج إلى اعتزاز بالإسلام وحده: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ".
وإنه قد آن لنا أن نتجمع لأن الإسلام يدعو إلى هذا التجمع، ولأننا إن لم نجتمع بشعار الإسلام وحده. وذهب كل إقليم إلى تجمع لا يحمل شعار الإسلام تقع الحروب بين المسلمين، ويقاتل المسلمون إخوانهم من المسلمين تحت ظل لواء غير لواء الإسلام، ولم يكن ذلك أمراً يتوقع فقط، ولكنه أمر ثابت قد وقع، ففي الحرب العالمية الأولى قاتل كثيرون من المسلمين جنود الأتراك المسلمين، ولم يكونوا في ظل إسلامي إذ يقاتلون، بل كانوا يقاتلون في ظل أعداء الإسلام. والله يقول: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون".
6 ـ إذن فلابد من أن يجتمع المسلمون ولا يختلفوا، وأن تتكون منهم أمة واحدة، كما قال تعالى: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " ولا نقصد بأن نكون أمة واحدة أن تحكمنا حكومة واحدة، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق، ولكن يمكن أن يتحقق منا تجمع واحد. أو جامعة إسلامية واحدة، على ما سنشير إلى ذلك في موضعه.
وإن الأمة الإسلامية تقوم الروابط فيها على وحدة الدين والعقيدة، ووحدة المبادئ الخلقية، والعبادات، وكل يوم يمر يشعر المؤمن بالوحدة الإسلامية إن أدى العبادات اليومية على وجهها، فتلك الوحدة في قلبه آناء الليل والنهار بالصلوات الخمس إذ يؤديها المسلمون جميعا إلى قبلة واحدة، فإذا تصور المسلم عند أداء الصلاة أنه واحد من ألوف الألوف يتجهون إلى مثل اتجاهه، ويولون وجوههم شطر بيت الله الحرام على أين تكون مثابته، وأين تكون جماعته، إنه عندئذ يدرك أنه لبنة في بناء مجتمع كبير يضم أقطاراً من الشرق والغرب ويقوم على الفضيلة والاتجاه إلى الله تعالى، وإنك لترى ذلك المظهر السامي في الصوم، وتراه في الحج أوضاح إشراقاً وأعظم نوراً، إن أدركت القلوب معنى العبادة.
7 ـ وإن قيام الاجتماع الإسلامي على مبادئ الفضيلة والأخلاق هو أمثل الطرق لتكوين الجماعات الدولية، ولا يعد الاجتماع العنصري أو الاقتصادي أمثل المجتمعات لتكون الأمم، وذلك لأن الجماعة الواحدة لا تتكون منها أمة إلا إذا اتحدت المشاعر والأهواء والمنازع النفسية، ولا تتكون هذه المشاعر تحت سلطان تبادل النافع فقط، وذلك لأن تبادل المنافع يكون عند قيامها، ويزول عند زوالها.
ولا تتحد النفوس في هذا الظل العارض الذي يتغير بتغير الأحوال والأزمان، ولم يعرف أن أمة تكونت من مجرد التبادل الاقتصادي، أو الاشتراك في المنفعة المادية.
وإنه بالموازنة بين تكوين الأمم بالعنصرية وتكوينها بالدين يتبين أن السير بالإنسانية في مدارج الرقى، وقيام العلائق البشرية على تسس من المودة والفضيلة إنما يكون تحت ظل الدين لا تحت ظل العنصرية، لأن العنصرية تفرض فصيلة من الفصائل لتقاتل أخرى، وتحتاز مكاناً تقيم فيه لتغالب الآخرين، فليس التجمع الإنساني على أساس العنصرية إلا بقية من بقايا الحيوانية المتناحرة في الإنسان، وإنا لنرى ذلك واضحاً في الأمم التي تعامل الشعوب على أساس ألوانها، وليست فكرة الأمم الملونة والأمم البيضاء إلا صورة لتحكم العنصرية، وبقية من بقايا الحيوانية المتناحرة، بل هي أخص ظواهرها.
أما الاجتماع باسم الإسلام فهو اجتماع لا يقوم على المغالبة، بل على الأخوة العامة، والمودة الراحمة التي يحث عليها ذلك الدين القويم، فهذا الاجتماع الإسلامي يكون أمة تتحد فيها المشاعر نحو الفضيلة والمثل العليا التي تنزع بالروح الإنساني نحو الملكوت الأعلى، ويخضع فيها الإنسان لخالق الأكوان وحده، وعندئذ يعلو ابن الإنسان عن المغالبة إلا إذا اعتدى عليه، فعندئذ يؤذن له في القتال لدفع الفساد وإقامة مصالح العباد، ولقد قال تعالى: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير... ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز ".
8 ـ وإنه في الوحدة التي يكون أساسها الدين الإسلامي تكون العدالة الحقيقية التي لا تفرق بين جنس وجنس، ولا لون ولون، وإنما التفرقة في توزيع العدالة تكون في العنصرية، وإن في أمريكا لعبرة لأولى الأبصار، فبينا نجد الحريات للبيض مكفولة، والرق قد ألغى ـ نجد ظلماً يقع على السود لا يقل عن ظلم الجاهلية الأولى، وما دون من حقوق لهم إنما هو خطوط مسطورة على قراطيس ليس لها في العمل مظهر يثبت وجودها.
والعلو في المجتمعات التي تقوم على الدين الإسلامي تربط بين آحادها مبادئ فاضلة تقوم على أسس فعل الخير والتقوى لا على أساس نيل الدم، وتقوم على أساس احترام الكرامة الإنسانية التي هي حق مشترك لكل إنسان، لا على أساس كرامة السلالة.
وإن قيام الجماعات على أسس دينية يترتب عليه أن يقل التناحر بين أهل الأرض إذا أخذوا بمبادئ الأديان.
وإذا كان التاريخ يحكى تناحراً بين الناس باسم الأديان، فليس ذلك ناشئاً عن الدين نفسه، إنما هو ضلال الفهم، فقد يتحول الدين في نفوس بعض الذين لا يدركون حقائقه إلى معنى يشبه الجنسية أو العنصرية، وفي هذه الحال لا يكون التناحر منبعثاً من ذات الدين ولا من مبادئه، بل من العنصرية التي لبست لبوس الدين، والدين منها براء، وقد يكون التناحر من خطأ الفهم للحقائق الدينية، فيتحول في نفوس المنتحلين له إلى عصبية تشبه عصبية النسب، ويختفي في النفس معنى الخير، وسمو الفضيلة.
وليس هذا هو اجتماع أهل الإسلام، إنما اجتماع أهل الإسلام الذي نطيع فيه القرآن هو الخاضع لقول الله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ".
9 ـ هذه حقائق مقررة تشير إلى معنى الاجتماع في الإسلام في جامعة إسلامية، وإنه لا عصبية فيها ولا عنصرية ولا جنسية ولا إقليمية، ولكن على أي شكل تكون الوحدة الجامعة اليوم؟ أتكون على الشكل الأول في صدر الإسلام، أم تكون على شكل جديد يلائم روح العصر مع تحقق معنى الوحدة على أكمل وجه، على أننا إن تأثرنا بروح العصر، ففي شكل الوحدة، لا في جوهرها، فلسنا ممن يخضعون أحكام الإسلام لروح العصر، ولكن الإسلام أمرنا بالقيام بحقائق مقررة، وترك لنا أساليب تحقيقها فنجتهد في تعرف أنجعها وأقربها توصيلا لهذه الحقائق، فمن روح العصر نستمد الطريق الموصل، وما يمكن أن يكون عليه شكل الوحدة، ولا نسوغ لأحد كائنا من كان أن يتحكم في أي حقيقة شرعية باسم روح العصر فحقائق الإسلام ثابتة مستقرة لا تقبل التغيير ولا التبديل.
10 ـ ويجب أن يعلم علما يقينياً كما أشرنا أن الوحدة التي نبتغيها لا تمس سلطان ذي سلطان يقوم بالحق والعدل في المسلمين، ولا شكل الحكم في الأقاليم الإسلامية، فلكل إقليم أسلوب حكمه ما دام يؤدي إلى إقامة الحق والعدل فيه، ويحقق المعاني الإسلامية السامية وإنما معنى الجامعة الإسلامية أن نعتبر أنفسنا مهما تناءت الديار مرتبطين بروابط وثيقة تمتد جذورها في أعماق أنفسنا وهي أحكام الإسلام، وشعائره وعبادته وعقائده، إذ هو دين الوحدة الجامعة الشاملة كما هو دين التوحيد الخالص من كل شرك أيا كان نوعه، وأيا كان مظهره.
ويتحقق معنى الوحدة في ثلاثة أمور جامعة:
أولها: أن تتحد مشاعرنا جميعا في الإحسان بأننا إخوة بحكم الإسلام، وأن الاخوة الإسلامية فوق الجنسية والعنصرية، وأن نتذكر أن أول حكم تكليفي نفذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة هو الأخوة الإسلامية في نظام الإخاء الذي قام به، فقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وآخى بين الأنصار بعضهم مع بعض، وآخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وذلك ليشعر الجميع بأن الأخوة الإسلامية هي التي تجمع، وغيرها يفرق، وإن أسباب هذه الأخوة قائمة، والعقائد والتكليفات وحدها كافية لذلك، ولقد قال السيد جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الإسلامية في العصور الحديثة: " أما وعزة الحق وسر العدل لو ترك المسلمون أنفسهم بما هو عليه من عقائد مع رعاية العاملين فهم لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم، ولكن وا أسفاه تخللهم المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب لا أمر فيه ولا نهي. هؤلاء هم الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم، وخرجوا على ملوكهم حتى تناكرت الوجوه وتباينت الرغائب".
الأمر الثاني: وحدة ثقافية ولغوية واجتماعية تجمع بين المشاعر والأحاسيس، حتى يقرأ كل مسلم ما يقرؤه الأخر، ويحاربوا كل ما فيه هدم للإسلام ويتفقوا على ما فيه رفع له، وإعزاز للمسلمين، وأن يكون المجتمع الإسلامي قائما على مبادئ الإسلام الصحيحة.
الأمر الثالث: ألا يكون من إقليم إسلامي حرب على إقليم آخر، أيا كانت أساليب هذه الحرب، سواء أكانت بالاقتصاد أم كانت بالسيف، فهي في كلا شكليها توهين لقوى الإسلام وإضعاف لشأنه، وقد أمرنا بأن نصلح بين المسلمين إن تنازعت منهم طائفتان، وأمرنا بأن يكون كل مسلم في حاجة أخيه المسلم، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
**بتصرف يسير، نقلا عن مجلة "رسالة الإسلام"
المصدر: موقع إسلام أون لاين
عدل سابقا من قبل أبو عبدالرحمن في الجمعة أبريل 15, 2011 12:25 pm عدل 1 مرات
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: قراءة في فكر الإمام محمد أبو زهرة حول وحدة الأمة الإسلامية
أسس الوحدة وعناصرها/ الشيخ محمد أبو زهرة
1ـ ذكرنا في مقالنا السابق (انظر : الوحدة الإسلامية.. فريضة شرعية وضرورة إنسانية (تمهيد) ) أن الوحدة الإسلامية هي الغاية التي يجب أن يطلبها كل مؤمن، ومن لم يؤمن بأن المؤمنين أمة واحدة فقد عاند نصوص القرآن، وخالف حكمته وجانب دعوته، ودخل في ضمن من يشاقون الله ورسوله والمؤمنين، وقد قال تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا ".
وإذا كنا قد تفرقنا في الماضي، فعلينا أن نتدارك أمرنا في الحاضر، وإذا كانت العنصرية قد فرقتنا، فالانضواء تحت لواء القرآن يجمعنا، وإذا كانت الطائفية التي نبذها الإسلام، ونعاها على اليهود والنصارى من قبل قد جعلت تفكيرنا الديني والسياسي لا يعدوها، فالاتجاه صوب القرآن هو الذي يهدينا للتي هي أقوم، وهو الذي يجذبنا نحو العزة والرفعة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
2 ـ ولئن تقصينا أسباب الافتراق لنتلافاها ونبعدها لنجدنها في أمور تتعلق بتلك العنصرية الجنسية، والأهواء الفكرية، فإنها هي التي تقطع ما أمر الله تعالى بوصله، وتفرق ما أوجب سبحانه وتعالى جمعه، وتبدد ما ألزمنا سبحانه وتعالى بحفظه وصيانته.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " ولقد قال بعض علماء السنة في هذا الخبر: " حديث افتراق الأمة إلى سبعين فرقة رواياته كثيرة يشد بعضها بعضا، بحيث لا نبقي ريبة في حاصل معناه ".
وسواء أكان العدد قد قصد به الكثرة غير المحدودة، أم أنه يدل على الإحصاء فمن المؤكد أن الافتراق قد وقع، ولم يكن خلافا مجردا في النظر، بل صار افتراقا في المنزع والفكر، والإحساس والشعور، وقد أدى كل هذا إلى شقاق، حتى لقد صار المسلم ينظر إلى المسلم الذي يفارقه في المنزع الفكري نظرة الخصم المتربص لا المخالف الذي يتجه كلاهما لطلب الحقيقة في شرع الله تعالى، وإن التعصب للفكرة المذهبية قد أضل صاحبه حتى صار يهمه نصرتها بدل أن ينصر لب الدين وأصل اليقين.
3 ـ ولقد حفظ التاريخ من أثر ذلك في الماضي ما قوض شمل الإسلام، وجعل بأس المؤمنين بينهم شديدا، حتى لقد وجدنا المذابح تقام بين فرقتين، لأن كلتيهما تعتقد أن الأخرى على ضلال، ولقد حدث والتتار غير المسلمين يدقون أسوار بغداد دقا ويذبحون المسلمين في طريقهم ولا يلوون على شيء إلا هدموه إن كان الخلاف على أحده، والمذابح على أشدها بين السنين والشيعيين، حتى لقد ذكر المؤرخون في ذلك أقوالا وأقاويل.
وما أشبه أولئك الذين يقاتلون في سبيل فكرة لهم في فهم الدين ليست من لبه ولا من حقيقته بابن آدم لقد قتل أخاه في سبيل قربان يتقرب به إلى الله تعالى، كما حكى قصته القرآن الكريم، إذ قال تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك. قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا ببساط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من القادمين".
وإذا كان التشبيه غير كامل فلأنه لم يوجد في المتنازعين من لم يبسط لسانه في شأن أخيه، ولم يرسل الله إلينا مثل هذا الغراب ليجعلنا نشعر بالندامة على الفرقة، والإيمان بأن السلامة في الاجتماع.
4 ـ لقد كنا في الماضي نختلف بدوافع العنصرية، أو بدوافع المنازع الفكرية، أو بدوافع من رواسب خلقتها القرون الماضية السابقة على الإسلام، أما الآن فإننا نختلف لأن الذين يريدوننا مختلفين يبعثون فينا أسباب الخلاف، ولأننا نتخذ من غيرنا ولاية يتولاها، ونصرة نبتغيها والقرآن والكريم ينادينا بصوت الخلود القوى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما يتخفى صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، إن الله بما يعملون محيط ".
5 ـ هذه إشارات إلى حقائق ثابتة كنا نقرأ عنها، ولكن في رحلتنا إلى باكستان في الندوة الإسلامية العالمية التي دعت إليها جامعة بنجاب والتي انعقدت في لاهور، رأينا رأي العين ما كنا نتخيله ولا نخاله في هذه الأيام حقيقة واقعة، رأينا في أهل باكستان تقوى وصبراً وإيماناً واحتساباً للنية في كل شيء، رأيناهم دعاة إلى الإسلام في كل البقاع والأصقاع، وأولئك هم الكثرة الكاثرة، ولكن وجدنا مع قلة قد مكن لها بأسباب تتصل بالماضي، تتكلم باسم الإسلام، وتوهم الناس أنها تعلن حقائقه، وما هي من الإسلام في شيء، وإن لهم لأقوالا غريبة، وأفكاراً عجيبة، وأهواء لا تتسع لحق، لقد رأينا منهم من يدعي لنفسه الاجتهاد في الإسلام، ويذكر أن آيات المواريت قد انتهى حكمها، وإذا قيل له إن للاجتهاد شروطاً أدناها أن يعرف العربية ويتقنها، سخر من القائل، واستهزأ به " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعملون ".
ومنهم من يقول إن القرآن وحده هو الحجة، والسنة ليست بحجة، ويندفع وراء غيه، فيدعي أن الصلاة التي يصليها المسلمون اليوم ليست هي المطلوبة، وهكذا يستهزئ بما لا يعرف. ومنهم من ينكر أن القرآن كتاب أحكام، فليس فيه نظم مقررة للأسرة.
ومنهم من يدعي أن الناس جميعا يدخلون الجنة لا فرق بين مسلم وغير مسلم، ويقف مباهيا الناس قائلا حجتي قوله تعالى: " ورحمتي وسعت كل شيء " ونسى أن عقاب المذنب من الرحمة، وأن قانون الرحمة لا يقتضي مساواة المسيء بالمذنب، والعادل بالظالم، فهل يستوي الأعمى والبصير، وهل تستوي الظلمات والنور، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعملون، وهل يستوي العامل والخامل، إن الرحمة لا تسمح بهذه المساواة، فكيف تكون من الرحمة وهي تناقضها.
6 ـ وإن أولئك المنحرفين هم الذين يفرقون الجماعات الإسلامية، فحيثما حللت أرضا إسلامية ما شعرت إلا أنك بين أهلك وذويك، حتى إننا لنحس بصلة الأخوة والألسنة تصعب التفاهم بيننا، ولكن الأرواح تتفاهم، وحواجز اللغة إن منعت فحفظ القرآن والحديث النبوي يجمع ويقرب، بل يوحد، وبينا يحس المؤمن باللقاء الروحي مع أخيه المؤمن ـ نجد أولئك الذين أشربوا حب الفرنجة وتقليدهم قد باعدوا، وتحس وأنت تخاطب أحدهم ولو كان يعرف العربية كأن هوة ساحقة تحاجز بينك وبينه فلا تلتقيان.
ولقد كان ضعف إيمان هؤلاء، وقوة اقتناعهم بالاتصال بغير المسلمين وحسبانهم أن ذلك هو التقدم، وأنه مسايرة العمران، وأنه النجاة في صحراء الحياة، وأنه المعبر إلى العزة ـ سبباً في أنهم لم يتطلعوا إلى الرابطة التي تربطهم بأهل القبلة، ولم يعرفوا أن الإسلام دعا إلى الأخوة الإسلامية العامة في مثل قوله تعالى: " إنما المؤمنون أخوة " ومثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله " إلى آخر ما روى من أحاديث وما يتلى من آيات ذكرنا بعضه في مقالنا السابق.
وإن هؤلاء وأشباههم هم الذين يقفون في سبيل الوحدة، وهم في كل بلد إسلامي، وإن كان ظهورهم على أشكال وألوان مختلفة، فلهم طابع واحد مشترك، أو فكر واحد مميز، أو أمر واحد جامع، ذلك أنهم يتبعون سياسة غير المسلمين، وهي سياسة مفرقة غير جامعة، لا تريد المسلمين قوة في الأرض دافعة أو مانعة، ولا أمة واحدة جامعة، بل يريدونهم أوزاعاً وأشتاتاً متفرقين لكيلا يكونوا قوة للإسلام، بل ليكونوا قوة لهم.
7 ـ ولا شك أن أول طرائق الوحدة ألا يقف هؤلاء محاجزين، وألا تكون في أيديهم مقاليد الحكم، ولكن قد يكون من وراء ذلك فتنة في الأرض أو فساد كبير، والفتن دائماً غير مأمونة العواقب، فقد تؤدي إلى غير الغاية، وقد تعكس الأمر في النهاية؛ ولذلك ندع أمرهم ونتجه إلى شعوبهم، وهم في مغالبة فكرية معهم، وكل يحارب الآخر فكرياً بما في يده من قوة، فعلماء الإسلام ومن وراءهم الكثرة من العامة يحاجونهم بالقرآن وآياته البينات، وأولئك يحاجونهم بعلم الغرب وما فيه من إنكار للحقائق الإسلامية، وإذا أمحل بهم الدليل، وسقطت من أيديهم الحجة قالوا ليس في الإسلام رجال دين، ليدعوا لأنفسهم علم ما يعلموا، وصدق ما يقولون وليزيلوا من أمامهم من يقف في وجوههم وكتاب الله في إحدى يديه، وفي الأخرى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
8 ـ ولا نريد أن نترك هذه الدعوى من غير أن نقف وقفة قصيرة عندها، فقد سمعناها في مؤتمر لاهور من الحاضرين الذين كانوا يمثلون ذلك التفكير، ونقلوها عن إمامهم المتبع محمد إقبال، وفي الحق إن كلمة " ليس في الإسلام رجال دين " كلمة حق يراد بها باطل، نعم ليس في الإسلام رجال كهنوت أقوالهم حجة من غير سند من النصوص، ولا دليل مستمد من الوحي النبوي، والهدى المحمدي، وليس في الإسلام وساطة بين العبد والرب، وإن الدعاء يتجه إلى الله تعالى من غير طريق أحد من البشر، كما قال تعالى: " ادعوني أستجب لكم "
وكما قال تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "، وليس في الإسلام توبة إلا الله تعالى الذي يغفر الذنوب وحده، فلا يملك أحد من الناس غفرانها، فهو سبحانه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولم يكن ذلك لرسول، ولا لغيره ممن دونه الذين لم يصلوا إلى منازل الرسالة أو إلى قريب منها.
هذا كله حق، ولكن الباطل الذي يريده الذين يرددونها أنه ليس في الإسلام علماء قد تخصصوا في فقه الدين بلغوا رتبة الاستنباط فيه، ومعرفة ما يخفى على العامة من أحكام لا تعرف إلا بالعلم بدقائق اللغة، والعلم بالسنة، وفقه الصحابة وأوجه الاستنباط المختلفة، والعلم بالناسخ والمنسوخ، وما أجمع عليه العلماء وما اختلفوا فيه وأوجه الاختلاف، لقد أنكر أولئك الذين يشككون في الحقائق الإسلامية، ويدخلون في الدين ما ليس منه ـ وجود علماء على هذه الشاكلة لكيلا يقف أحد في سبيلهم كما نوهنا، وذلك الإنكار مناف للحقائق التاريخية، والنصوص الدينية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " ولقد دعا النبي صلي لابن عباس أن يفقهه في الدين " ولقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " نضر الله عبداً سمع مقالتنا فوعاها، ونقلها كما وعاها فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " فقد فرض عليه الصلاة والسلام أن الناس منهم الفقيه، ومنهم من ليس بفقيه، والفقهاء فيهم مراتب، والناس في عهد الصحابة والتابعين من بعدهم كان منهم المستفتي، ومنهم المفتي، ومنهم الفقيه المستنبط، والعامي المتبع، ولقد قسم الشافعي العلم إلى قسمين علم عامة، وهو أصول الدين وما علم منه بالضرورة، وعلم خاصة وهو علم الاستنباط والاجتهاد وتعرف الأحكام من النصوص والبناء عليها، وليس علم الإسلام بدعا في ذلك فالقوانين الوضعية لا يعلم دقائقها الناس جميعاً، بل فيهم المتخصص المتعمق فيها، وفيهم المدرك لها الفاهم لأصولها، وفيهم من هو دون ذلك.
وبعد هذه الاستطرادة نعود إلى الكلام في القواعد التي تقوم عليها الوحدة.
9 ـ وإن الوحدة الحقيقية بلا شك هي الوحدة النفسية والفكرية والإحساس بالجامعة العامة التي تجمعنا كما أشرنا، وهذه الوحدة توجب أن يعرف المسلمون بعضهم بعضا، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا كما قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فإنه أولى بالتعارف أهل القبلة، وهم يدينون بدين الوحدانية ودين الوحدة، ودين الاجتماع، وهم أمة واحدة بحكم القرآن، ولقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وبعض العرب، وبين بلال الحبشي وعربي، ليبين أن الأخوة الإسلامية فوق الأخوة الجنسية، والاجتماع الإقليمي.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول أمة واحدة في الواقع كما كانوا أمة واحدة بحكم الشرع وبحكم القرآن، وهدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ليس منا من دعا إلى عصبية " وبين أن من دعا إلى عصبية إقليمية أو جنسية أو نسبية فإنما يكب وجهه في النار، وقد تفاخر قوم أمام سلمان الفارسي بأنسابهم وهو صامت لا يتكلم، حتى حركوه بالسؤال، وقالوا له ابن من أنت، فقال أنا ابن الإسلام فجمجموا وما تكلموا، لأنه بين لهم النسب الذي يجب أن يتلاقى عنده أهل الإيمان، فبلغت تلك الكلمة الحكيمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فبكى من فرط تأثره بصدقها، وقال: وأنا ابن الإسلام وكررها ثلاثاً.
10 ـ ولم ينتثر عقد المسلمين إلا من وقت أن تحركت الشعوبية، وأراد كل شعب أن يحيى أرومته، ويعلن قوميته، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وأخذت تلك الحركات تنمو وتتسع وتزيد، حتى قامت اللغات القديمة، وتكونت الدول الإسلامية المختلفة، وصار الارتباط بالخلافة الإسلامية الجامعة ذاهبا ضعيفاً، واسمياً، لا حقيقيا، وتفرق أمر المسلمين، وأخذت تلك الدول يحارب بعضها بعضاً، وأصبح الملوك يقودون شعوبهم إلى الحرب، لا في لقاء الأعداء، ولكن في ضرب الأخوة من أهل الإسلام، ولم يجد الصليبيون في القرن السادس من يقاومهم، فانقضوا على الأرض، واقتطعوها، ولم تقف في وجههم إلا آخر الدولة السلجوقية، ثم تولى من بعدهم صلاح الدين الأيوبي وجمع شمل البلاد الإسلامية المتقاربة.
11 ـ ولم تلبث الدولة التي جمعها أن تفرقت من بعدها، وتقطعت أوصالها حتى انقض التيار كالصخرة من أعلى الصين إلى البلاد الإسلامية، فتجمعت البلاد العربية المتقاربة، وردتهم، وفلت حدتهم، وخضدت شوكتهم.
وهكذا استمر التاريخ في سيره نحو التفريق، والاجتماع النسبي عند الشدة، وما دمنا قد صرنا في وسط الكتل المتجمعة عند الشرق والغرب، وكل كتلة تريدنا لها تبعاً ولا تريدنا جمعا منفصلا له كيانه، وقد تبين من تاريخنا وديننا وجوب اجتماعنا، فلابد أن نجتمع، وإذا كان بعض أسباب التفريق ما ذكرنا، فأول أسباب الاجتماع إزالة أسباب الافتراق، بعد العهد به، وما جد في عهدنا، ففي الماضي كانت حوزات الملوك هي تفرق الوحدة، وفي الحاضر يفرق الوحدة هذه الحوزات إلى حد ما، وتلك الآراء المنحرفة التي يلقننا إياها الغربيون، واتبعها بعضنا، وأكد التفرق في الحاضر جهل كل شعب إسلامي حال غيره من الشعوب الإسلامية.
12 ـ ولذا نرى أول خطوات الوحدة من الناحية العملية ينحصر في أمور ثلاثة:
أولها: التوحيد الفكري والنفسي بين الشعوب الإسلامية في ظل هيئة علمية تجمع الفكر الإسلامي وتقف على دراسته في ماضيه، وتعني بتعرف الأحكام الشرعية لما يجد في شئون الحياة، والقرب ما بين الطوائف الإسلامية.
وثانيها: العمل على منع النزاع بين الأقاليم الإسلامية.
وثالثها: أن يعرف المسلمون أنفسهم، وذلك بلغة جامعة بينهم، هي لغة القرآن والسنة وهي العربية، فإحياؤها إحياء للوحدة وتعميمها تعميم لها، والله في عون الجميع.
المصدر: موقع إسلام أون لاين
1ـ ذكرنا في مقالنا السابق (انظر : الوحدة الإسلامية.. فريضة شرعية وضرورة إنسانية (تمهيد) ) أن الوحدة الإسلامية هي الغاية التي يجب أن يطلبها كل مؤمن، ومن لم يؤمن بأن المؤمنين أمة واحدة فقد عاند نصوص القرآن، وخالف حكمته وجانب دعوته، ودخل في ضمن من يشاقون الله ورسوله والمؤمنين، وقد قال تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا ".
وإذا كنا قد تفرقنا في الماضي، فعلينا أن نتدارك أمرنا في الحاضر، وإذا كانت العنصرية قد فرقتنا، فالانضواء تحت لواء القرآن يجمعنا، وإذا كانت الطائفية التي نبذها الإسلام، ونعاها على اليهود والنصارى من قبل قد جعلت تفكيرنا الديني والسياسي لا يعدوها، فالاتجاه صوب القرآن هو الذي يهدينا للتي هي أقوم، وهو الذي يجذبنا نحو العزة والرفعة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
2 ـ ولئن تقصينا أسباب الافتراق لنتلافاها ونبعدها لنجدنها في أمور تتعلق بتلك العنصرية الجنسية، والأهواء الفكرية، فإنها هي التي تقطع ما أمر الله تعالى بوصله، وتفرق ما أوجب سبحانه وتعالى جمعه، وتبدد ما ألزمنا سبحانه وتعالى بحفظه وصيانته.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " ولقد قال بعض علماء السنة في هذا الخبر: " حديث افتراق الأمة إلى سبعين فرقة رواياته كثيرة يشد بعضها بعضا، بحيث لا نبقي ريبة في حاصل معناه ".
وسواء أكان العدد قد قصد به الكثرة غير المحدودة، أم أنه يدل على الإحصاء فمن المؤكد أن الافتراق قد وقع، ولم يكن خلافا مجردا في النظر، بل صار افتراقا في المنزع والفكر، والإحساس والشعور، وقد أدى كل هذا إلى شقاق، حتى لقد صار المسلم ينظر إلى المسلم الذي يفارقه في المنزع الفكري نظرة الخصم المتربص لا المخالف الذي يتجه كلاهما لطلب الحقيقة في شرع الله تعالى، وإن التعصب للفكرة المذهبية قد أضل صاحبه حتى صار يهمه نصرتها بدل أن ينصر لب الدين وأصل اليقين.
3 ـ ولقد حفظ التاريخ من أثر ذلك في الماضي ما قوض شمل الإسلام، وجعل بأس المؤمنين بينهم شديدا، حتى لقد وجدنا المذابح تقام بين فرقتين، لأن كلتيهما تعتقد أن الأخرى على ضلال، ولقد حدث والتتار غير المسلمين يدقون أسوار بغداد دقا ويذبحون المسلمين في طريقهم ولا يلوون على شيء إلا هدموه إن كان الخلاف على أحده، والمذابح على أشدها بين السنين والشيعيين، حتى لقد ذكر المؤرخون في ذلك أقوالا وأقاويل.
وما أشبه أولئك الذين يقاتلون في سبيل فكرة لهم في فهم الدين ليست من لبه ولا من حقيقته بابن آدم لقد قتل أخاه في سبيل قربان يتقرب به إلى الله تعالى، كما حكى قصته القرآن الكريم، إذ قال تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك. قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا ببساط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من القادمين".
وإذا كان التشبيه غير كامل فلأنه لم يوجد في المتنازعين من لم يبسط لسانه في شأن أخيه، ولم يرسل الله إلينا مثل هذا الغراب ليجعلنا نشعر بالندامة على الفرقة، والإيمان بأن السلامة في الاجتماع.
4 ـ لقد كنا في الماضي نختلف بدوافع العنصرية، أو بدوافع المنازع الفكرية، أو بدوافع من رواسب خلقتها القرون الماضية السابقة على الإسلام، أما الآن فإننا نختلف لأن الذين يريدوننا مختلفين يبعثون فينا أسباب الخلاف، ولأننا نتخذ من غيرنا ولاية يتولاها، ونصرة نبتغيها والقرآن والكريم ينادينا بصوت الخلود القوى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما يتخفى صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، إن الله بما يعملون محيط ".
5 ـ هذه إشارات إلى حقائق ثابتة كنا نقرأ عنها، ولكن في رحلتنا إلى باكستان في الندوة الإسلامية العالمية التي دعت إليها جامعة بنجاب والتي انعقدت في لاهور، رأينا رأي العين ما كنا نتخيله ولا نخاله في هذه الأيام حقيقة واقعة، رأينا في أهل باكستان تقوى وصبراً وإيماناً واحتساباً للنية في كل شيء، رأيناهم دعاة إلى الإسلام في كل البقاع والأصقاع، وأولئك هم الكثرة الكاثرة، ولكن وجدنا مع قلة قد مكن لها بأسباب تتصل بالماضي، تتكلم باسم الإسلام، وتوهم الناس أنها تعلن حقائقه، وما هي من الإسلام في شيء، وإن لهم لأقوالا غريبة، وأفكاراً عجيبة، وأهواء لا تتسع لحق، لقد رأينا منهم من يدعي لنفسه الاجتهاد في الإسلام، ويذكر أن آيات المواريت قد انتهى حكمها، وإذا قيل له إن للاجتهاد شروطاً أدناها أن يعرف العربية ويتقنها، سخر من القائل، واستهزأ به " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعملون ".
ومنهم من يقول إن القرآن وحده هو الحجة، والسنة ليست بحجة، ويندفع وراء غيه، فيدعي أن الصلاة التي يصليها المسلمون اليوم ليست هي المطلوبة، وهكذا يستهزئ بما لا يعرف. ومنهم من ينكر أن القرآن كتاب أحكام، فليس فيه نظم مقررة للأسرة.
ومنهم من يدعي أن الناس جميعا يدخلون الجنة لا فرق بين مسلم وغير مسلم، ويقف مباهيا الناس قائلا حجتي قوله تعالى: " ورحمتي وسعت كل شيء " ونسى أن عقاب المذنب من الرحمة، وأن قانون الرحمة لا يقتضي مساواة المسيء بالمذنب، والعادل بالظالم، فهل يستوي الأعمى والبصير، وهل تستوي الظلمات والنور، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعملون، وهل يستوي العامل والخامل، إن الرحمة لا تسمح بهذه المساواة، فكيف تكون من الرحمة وهي تناقضها.
6 ـ وإن أولئك المنحرفين هم الذين يفرقون الجماعات الإسلامية، فحيثما حللت أرضا إسلامية ما شعرت إلا أنك بين أهلك وذويك، حتى إننا لنحس بصلة الأخوة والألسنة تصعب التفاهم بيننا، ولكن الأرواح تتفاهم، وحواجز اللغة إن منعت فحفظ القرآن والحديث النبوي يجمع ويقرب، بل يوحد، وبينا يحس المؤمن باللقاء الروحي مع أخيه المؤمن ـ نجد أولئك الذين أشربوا حب الفرنجة وتقليدهم قد باعدوا، وتحس وأنت تخاطب أحدهم ولو كان يعرف العربية كأن هوة ساحقة تحاجز بينك وبينه فلا تلتقيان.
ولقد كان ضعف إيمان هؤلاء، وقوة اقتناعهم بالاتصال بغير المسلمين وحسبانهم أن ذلك هو التقدم، وأنه مسايرة العمران، وأنه النجاة في صحراء الحياة، وأنه المعبر إلى العزة ـ سبباً في أنهم لم يتطلعوا إلى الرابطة التي تربطهم بأهل القبلة، ولم يعرفوا أن الإسلام دعا إلى الأخوة الإسلامية العامة في مثل قوله تعالى: " إنما المؤمنون أخوة " ومثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله " إلى آخر ما روى من أحاديث وما يتلى من آيات ذكرنا بعضه في مقالنا السابق.
وإن هؤلاء وأشباههم هم الذين يقفون في سبيل الوحدة، وهم في كل بلد إسلامي، وإن كان ظهورهم على أشكال وألوان مختلفة، فلهم طابع واحد مشترك، أو فكر واحد مميز، أو أمر واحد جامع، ذلك أنهم يتبعون سياسة غير المسلمين، وهي سياسة مفرقة غير جامعة، لا تريد المسلمين قوة في الأرض دافعة أو مانعة، ولا أمة واحدة جامعة، بل يريدونهم أوزاعاً وأشتاتاً متفرقين لكيلا يكونوا قوة للإسلام، بل ليكونوا قوة لهم.
7 ـ ولا شك أن أول طرائق الوحدة ألا يقف هؤلاء محاجزين، وألا تكون في أيديهم مقاليد الحكم، ولكن قد يكون من وراء ذلك فتنة في الأرض أو فساد كبير، والفتن دائماً غير مأمونة العواقب، فقد تؤدي إلى غير الغاية، وقد تعكس الأمر في النهاية؛ ولذلك ندع أمرهم ونتجه إلى شعوبهم، وهم في مغالبة فكرية معهم، وكل يحارب الآخر فكرياً بما في يده من قوة، فعلماء الإسلام ومن وراءهم الكثرة من العامة يحاجونهم بالقرآن وآياته البينات، وأولئك يحاجونهم بعلم الغرب وما فيه من إنكار للحقائق الإسلامية، وإذا أمحل بهم الدليل، وسقطت من أيديهم الحجة قالوا ليس في الإسلام رجال دين، ليدعوا لأنفسهم علم ما يعلموا، وصدق ما يقولون وليزيلوا من أمامهم من يقف في وجوههم وكتاب الله في إحدى يديه، وفي الأخرى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
8 ـ ولا نريد أن نترك هذه الدعوى من غير أن نقف وقفة قصيرة عندها، فقد سمعناها في مؤتمر لاهور من الحاضرين الذين كانوا يمثلون ذلك التفكير، ونقلوها عن إمامهم المتبع محمد إقبال، وفي الحق إن كلمة " ليس في الإسلام رجال دين " كلمة حق يراد بها باطل، نعم ليس في الإسلام رجال كهنوت أقوالهم حجة من غير سند من النصوص، ولا دليل مستمد من الوحي النبوي، والهدى المحمدي، وليس في الإسلام وساطة بين العبد والرب، وإن الدعاء يتجه إلى الله تعالى من غير طريق أحد من البشر، كما قال تعالى: " ادعوني أستجب لكم "
وكما قال تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "، وليس في الإسلام توبة إلا الله تعالى الذي يغفر الذنوب وحده، فلا يملك أحد من الناس غفرانها، فهو سبحانه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولم يكن ذلك لرسول، ولا لغيره ممن دونه الذين لم يصلوا إلى منازل الرسالة أو إلى قريب منها.
هذا كله حق، ولكن الباطل الذي يريده الذين يرددونها أنه ليس في الإسلام علماء قد تخصصوا في فقه الدين بلغوا رتبة الاستنباط فيه، ومعرفة ما يخفى على العامة من أحكام لا تعرف إلا بالعلم بدقائق اللغة، والعلم بالسنة، وفقه الصحابة وأوجه الاستنباط المختلفة، والعلم بالناسخ والمنسوخ، وما أجمع عليه العلماء وما اختلفوا فيه وأوجه الاختلاف، لقد أنكر أولئك الذين يشككون في الحقائق الإسلامية، ويدخلون في الدين ما ليس منه ـ وجود علماء على هذه الشاكلة لكيلا يقف أحد في سبيلهم كما نوهنا، وذلك الإنكار مناف للحقائق التاريخية، والنصوص الدينية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " ولقد دعا النبي صلي لابن عباس أن يفقهه في الدين " ولقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " نضر الله عبداً سمع مقالتنا فوعاها، ونقلها كما وعاها فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " فقد فرض عليه الصلاة والسلام أن الناس منهم الفقيه، ومنهم من ليس بفقيه، والفقهاء فيهم مراتب، والناس في عهد الصحابة والتابعين من بعدهم كان منهم المستفتي، ومنهم المفتي، ومنهم الفقيه المستنبط، والعامي المتبع، ولقد قسم الشافعي العلم إلى قسمين علم عامة، وهو أصول الدين وما علم منه بالضرورة، وعلم خاصة وهو علم الاستنباط والاجتهاد وتعرف الأحكام من النصوص والبناء عليها، وليس علم الإسلام بدعا في ذلك فالقوانين الوضعية لا يعلم دقائقها الناس جميعاً، بل فيهم المتخصص المتعمق فيها، وفيهم المدرك لها الفاهم لأصولها، وفيهم من هو دون ذلك.
وبعد هذه الاستطرادة نعود إلى الكلام في القواعد التي تقوم عليها الوحدة.
9 ـ وإن الوحدة الحقيقية بلا شك هي الوحدة النفسية والفكرية والإحساس بالجامعة العامة التي تجمعنا كما أشرنا، وهذه الوحدة توجب أن يعرف المسلمون بعضهم بعضا، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا كما قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فإنه أولى بالتعارف أهل القبلة، وهم يدينون بدين الوحدانية ودين الوحدة، ودين الاجتماع، وهم أمة واحدة بحكم القرآن، ولقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وبعض العرب، وبين بلال الحبشي وعربي، ليبين أن الأخوة الإسلامية فوق الأخوة الجنسية، والاجتماع الإقليمي.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول أمة واحدة في الواقع كما كانوا أمة واحدة بحكم الشرع وبحكم القرآن، وهدى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ليس منا من دعا إلى عصبية " وبين أن من دعا إلى عصبية إقليمية أو جنسية أو نسبية فإنما يكب وجهه في النار، وقد تفاخر قوم أمام سلمان الفارسي بأنسابهم وهو صامت لا يتكلم، حتى حركوه بالسؤال، وقالوا له ابن من أنت، فقال أنا ابن الإسلام فجمجموا وما تكلموا، لأنه بين لهم النسب الذي يجب أن يتلاقى عنده أهل الإيمان، فبلغت تلك الكلمة الحكيمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فبكى من فرط تأثره بصدقها، وقال: وأنا ابن الإسلام وكررها ثلاثاً.
10 ـ ولم ينتثر عقد المسلمين إلا من وقت أن تحركت الشعوبية، وأراد كل شعب أن يحيى أرومته، ويعلن قوميته، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وأخذت تلك الحركات تنمو وتتسع وتزيد، حتى قامت اللغات القديمة، وتكونت الدول الإسلامية المختلفة، وصار الارتباط بالخلافة الإسلامية الجامعة ذاهبا ضعيفاً، واسمياً، لا حقيقيا، وتفرق أمر المسلمين، وأخذت تلك الدول يحارب بعضها بعضاً، وأصبح الملوك يقودون شعوبهم إلى الحرب، لا في لقاء الأعداء، ولكن في ضرب الأخوة من أهل الإسلام، ولم يجد الصليبيون في القرن السادس من يقاومهم، فانقضوا على الأرض، واقتطعوها، ولم تقف في وجههم إلا آخر الدولة السلجوقية، ثم تولى من بعدهم صلاح الدين الأيوبي وجمع شمل البلاد الإسلامية المتقاربة.
11 ـ ولم تلبث الدولة التي جمعها أن تفرقت من بعدها، وتقطعت أوصالها حتى انقض التيار كالصخرة من أعلى الصين إلى البلاد الإسلامية، فتجمعت البلاد العربية المتقاربة، وردتهم، وفلت حدتهم، وخضدت شوكتهم.
وهكذا استمر التاريخ في سيره نحو التفريق، والاجتماع النسبي عند الشدة، وما دمنا قد صرنا في وسط الكتل المتجمعة عند الشرق والغرب، وكل كتلة تريدنا لها تبعاً ولا تريدنا جمعا منفصلا له كيانه، وقد تبين من تاريخنا وديننا وجوب اجتماعنا، فلابد أن نجتمع، وإذا كان بعض أسباب التفريق ما ذكرنا، فأول أسباب الاجتماع إزالة أسباب الافتراق، بعد العهد به، وما جد في عهدنا، ففي الماضي كانت حوزات الملوك هي تفرق الوحدة، وفي الحاضر يفرق الوحدة هذه الحوزات إلى حد ما، وتلك الآراء المنحرفة التي يلقننا إياها الغربيون، واتبعها بعضنا، وأكد التفرق في الحاضر جهل كل شعب إسلامي حال غيره من الشعوب الإسلامية.
12 ـ ولذا نرى أول خطوات الوحدة من الناحية العملية ينحصر في أمور ثلاثة:
أولها: التوحيد الفكري والنفسي بين الشعوب الإسلامية في ظل هيئة علمية تجمع الفكر الإسلامي وتقف على دراسته في ماضيه، وتعني بتعرف الأحكام الشرعية لما يجد في شئون الحياة، والقرب ما بين الطوائف الإسلامية.
وثانيها: العمل على منع النزاع بين الأقاليم الإسلامية.
وثالثها: أن يعرف المسلمون أنفسهم، وذلك بلغة جامعة بينهم، هي لغة القرآن والسنة وهي العربية، فإحياؤها إحياء للوحدة وتعميمها تعميم لها، والله في عون الجميع.
المصدر: موقع إسلام أون لاين
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: قراءة في فكر الإمام محمد أبو زهرة حول وحدة الأمة الإسلامية
ضرورة الوحدة الثقافية/ الشيخ محمد أبو زهرة
1 ـ انتهينا في مقالنا السابق (أسس الوحدة وعناصرها) إلى أن الوحدة الإسلامية تتكون من عناصر ثلاثة لابد منها لتحقق في أقل صورها، وتلك العناصر قد ذكرناها إجمالا، وهي التوحيد الفكري والنفسي، ومنع التنازع بين الأقاليم الإسلامية اقتصاديا أو سياسيا، بله حربياً، والعنصر الثالث إيجاد أسباب التعارف المستمر بين المسلمين، آحاداً بعد التعارف الجماعي.
وإن هذه العناصر لا يغني فيها الاجمال المطلق عن التفصيل النسبي، فلابد من توضيح بقليل من القول لا يخرجنا من الإيجاز إلى الإطناب، فإن الإطناب فيها يحتاج إلى مبسوط القول، والى اشتراك العلماء المتخصصين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، ولذلك نكتفي بجهد المقل.
2 ـ وإن التوحيد الفكري والثقافي والنفسي لا يحتاج إلى إنشاء، ولكنه يحتاج إلى توجيه وجمع، فإن الأصل قائم ثابت، وحيثما اتجهت إلى بلد إسلامي، فإنك تحس بأنس الاتفاق النفسي والفكري، وتجد الفكرة الجامعة قائمة، والأمر الجامع لأساليب الفكر الإسلامي ثابتاً، ولا يوجد بين أهل دين، أو أهل مذهب اقتصادي أو اجتماعي، من تتلاقي أفكارهم حول اتجاه معين لا يحول ولا يزول، كما تجده بين المسلمين، ولقد قدر لي في الندوة الإسلامية الكبرى التي عقدت بلاهور أن ألتقي بالوفود التي نزعت من البلاد الإسلامية على اختلاف الطوائف فيها، فما وجدت نفرة فكرية بيني وبينهم، لا فرق في ذلك بين سني وشيعي، ولا بين صيني وروسي وتركي، وإن كانت نفرة بيننا وبين أحد، فما كانت إلا بيننا وبين زنادقة هذا العصر الذين يتسمون بأسماء إسلامية كهذا الذي ينكر أحكام آيات المواريث، ويدعي أنها وقتية، أو كهذا الذي ينكر النبوة، وغيرهما ممن نبذ المسلمون في المؤتمر كلامهم، كما ينبذ الشَّوَاذُ في صحراء الجاهلية، ولما تصدى بعض الذين اشتركوا في هذه الندوة، فَصَكّ بكلمة الحق آذانهم، وصدع بنصوص الدين بينهم، أحس الجميع بشعور واحد نحوه، ولذا قرروا مجتمعين منع تسجيل بعض هذه الكلمات في سجل المؤتمر.
3 ـ وإن السبب في ذلك الاتحاد الفكري لا يحتاج إلا إلى جمع وتوجيه وتنظيم هو وحدة المصدر والاتفاق عليه، والالتفاف حوله، فقد اتفق المسلمون جميعاً على أن الإسلام له مصدر واحد هو نصوصه المحكمة، وهي نصوص القرآن التي لا تقبل تغييراً ولا تبديلا " تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " وأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا كانت بعض الطوائف تختلف في طريقة روايتها، فإن الأصل الذي يقوم عليه عمود الدين، وفقه الإسلام وأحكامه متفق عليه، وإذا كانوا ينتهون إلى حكم واحد في أصول الإسلام والإقرار بجملة السنة التي تدل على هذه الأصول، فإن الغاية قد اتحدت، وأصل الوحدة الثقافية قد ثبت من غير نكير، ومن غير تعاند وتنابز بالألقاب، وإذا كانت أنواع من الجدل قد وقعت وما زالت تقع، فذلك لا يضير في شيء، وهو أحياناً من ضيق الفكر، لا من اختلاف الثقافة، كما كنا نرى في صدر حياتنا من ملاحاة فكرية بين الشافعية والحنفية. ومن عمق الفكر أحيانا كما يسجل التاريخ الفقهي من مناظرات بين أهل هذين الجليلين ببلاد ما وراء النهر في القرنين الرابع والخامس، تلك المناظرات التي كانت محمودة العاقبة منتجة مثمرة، لأنها قد ترتب عليها تأييد الفروع بكلا المذهبين بالأقيسة العميقة، وتنقيح الروايات في الأخبار المؤيدة، وفي هذا المعترك قبس كل مذهب من الآخر.
4 ـ إن هذه حقيقة ثابتة لا مجال للريب فيها، وهي وجود نواة الوحدة الفكرية والثقافية والنفسية في كل البلاد الإسلامية مهما تختلف فها الطوائف والمذاهب، ولكن الأمر الذي نريده هو توجيه هذه الوحدة والعمل على إنمائها، وإيجاد مجتمع فكري موحد يبني دعائم الإسلام، ويقف محاجزاً دون النزعات المنحرفة التي تتغلغل في صفوفه، وتلقي بالريب في حقائقه، ويكشف زيغ أولئك الذين اصطنعهم أعداء الإسلام ليحلوا عراه، ويلقوا بالشك في أفئدة أهله.
ونريد مع هذا جمع تراث الماضين، لا فرق في ذلك بين التراث الذي تركه السابقون من الشيعة، والتراث الذي تركه أئمة الأمصار ذوو المذاهب المعروفة وغير المعروفة، فكل ذلك تراث السابقين، وثمرات غرس الموحدين، فهو تراثنا جميعاً، لا فرق بين سني وغير سني.
وقد يقول قائل إن في بعض هذا المأثور ما يتجافى عن بعض المقررات الثابتة التي تعد من أصول الإسلام، فنقول إن إعلانها يقلل بلا شك من عدد الذين يرددونها، بل إن السبيل الوحيد لمنع الناس من الأخذ بها هو كشفها، وإن على المؤمنين مجتمعين أن يهدوا الضال لا أن يتركوه في غياهبه يعمه، وإن هؤلاء الذين لم يصطنعهم أجنبي فيهم أصل الإخلاص ثابت، وهم طلاب للحق قد أخطئوا سبيله، فعلينا أن نهديهم طريق الصواب، ولقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: " ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه ".
ومهما يكن في بعض الآراء من مخالفة للمعقول أو لبعض المنقول، فإنها مما خلفه السابقون، وهو من التركة التي نقوم عليها، ولا تهمل التركة إذا كان فيها بعض الزيوف، بل يجب أن نفحصها فحص الصيرفي ليستبين زيفها ويبهرج، ويحفظ جيدها وينمى.
5 ـ وإننا بهذه الدراسة للتركة المثرية من غير محاولة للتمييز بين طائفة وطائفة، نتجه إلى أمور ثلاثة:
أولها: وصل ماضي هذه الأمة بحاضرها، فإن كل حضارة لها إطار من الأفكار والمورثات تصل ما بين الحاضر والغابر، وإن تقدم الأمة دائماً يجب أن يكون متصلا بصدر تاريخها، كما قال السيد جمال الدين الأفغاني حكيم الإسلام، وأول داع إلى الوحدة الإسلامية في العصر الأخير، وباعث الوعي الفكري في كل بقاع الإسلام.
وثانيها: ألا يكون العالم الإسلامي منحازاً في جانب من جوانبه، لا يحاول أن يتجه إلى الجانب الآخر، ولا أ ن يتعرف ما فيه، فتلك عصبية مذهبية، أو طائفية تلتقي مع العصبية الجاهلية في نتائجها وثمراتها، وإن خالفتها في منبعها وأسبابها، فتلك نعرة جنسية نسبية، وهذه انحراف فكري وتعصب مذهبي.
وثالثها: أن تتقارب الطوائف الإسلامية، فإن دراسة التراث الإسلامي ككل لا يقبل التجزئة بحيث تدرس كل طائفة ما عند الأخرى ـ يقرب ما بين الطوائف ويزيل تلك النفرة غير الطبيعية التي خلفتها بعض القرون في ماضي الإسلام، وإننا بهذا يتحقق لنا الغرض المقصود، وهو محو الطائفية في الإسلام، أو تقريب ما بين الطوائف بحيث تكون خلافا مذهبياً، كالخلاف الذي بين المالكية والحنابلة، ونحن ندرس بعض آراء الإمامية على أساس أنه مذهب كالمذاهب التي ندرسها.
6 ـ وإن محو الفروق الطائفية يجب أن يكون غاية مقصودة، ذلك لأن أسباب الخلاف قد زالت، ومن الخطأ أن نتمسك بالاختلاف الطائفي مع زوال أسبابه، وكيف يكون بيننا تنافر فكري بسبب أن علياً أفضل من أبي بكر وعمر، أو أنهما أفضل منه، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ومعاذ الله أن يكون أولئك الأبرار كان فيهم من ارتكب خطيئة أو إثماً ضد الإسلام، ولقد سئل الشافعي مرة عن أهل صفين فقال: واقعة قد كفاني الله شهودها، فلماذا لا أبرئ لساني من الخوض في أهلها، ولأن الخلاف الطائفي الآن يشبه أن يكون نزعة عنصرية، ولأن الذين يريدون الكيد للإسلام يتخذون من الخلاف بين الطوائف منفذا ينفذون منه إلى الوحدة الإسلامية، فيجب أن نسد عليهم هذا المنفذ، ولأن وحدة أهل الإسلام توجب وحدة الشعور، والطائفية لا تتحقق معها وحدة الشعور، وقد جربنا في الماضي أن الطائفية مكنت لأعداء الإسلام، ويجب أن يكون في الماضي عبر للحاضر، ونور يضيئه.
ولأن الطائفية في الإسلام ليس الأساس فيها متصلا بالاعتقاد، أو في الأصول التي يجتمع عليها أهل القبلة، بل جلها في مسائل ليست من اللب، ولو ادعى بعض الطوائف أنها من اللب.
لهذه الاعتبارات نقرر أن الطوائف الإسلامية يجب أن تتفق، وتتلاقي على محبة من الله ورضاه، وتحت ظل كتاب الله تعالى، والسنة الصحيحة، والمقررات الإسلامية التي علمت من الدين بالضرورة، ولا مانع من أن تختلف، ولكن يكون اختلاف آحاد في منازع فكرية، لا افتراق فيها، ولا يكون اختلاف جماعات وطوائف تفرق ويجعل الأمة الإسلامية قطعاً متنابذة متدابرة متنافرة.
7 ـ ولسنا نقصد بمحو الطائفية محو المذهبية، وإدماج المذاهب الإسلامية في مذهب، فإن ذلك لا يصح ولن يكون عملا ذا فائدة، لأن إدماج المذاهب في مذهب ليس عملا علمياً يحمد عند العلماء، فإن كل مذهب مجموعة من المعلومات أقيمت على مناهج تتجه في مجموعها إلى النصوص الإسلامية والبناء عليها، وهو ثمرات جهود لأكابر العلماء في هذا المذهب، وكل إدماج فيه إفناء، وليس من المصلحة العلمية في شيء إفناء تلك الجهود الفكرية التي قامت في ظل القرآن والسنة والصحيحة الثابتة، بل يجب أن تكون كل الجهود قائمة على أصولها، يرجع إليها، ويختار منها عند العمل أصلحها للبقاء، أو أكثرها ملاءمة للأزمان، أو أقواها اتصالا بالقرآن، مع بقاء المصدر في موضعه يرجع إليه.
وفوق ذلك فإن المذاهب الإسلامية تراث علمي هو للجميع لا لطائفة من الطوائف، ومن المصلحة العلمية الاستحفاظ عليه، وبقاؤه تراثاً خالداً، وإن الأمم الأوربية على اختلاف قوانينها تدرس القانون الروماني والمذاهب القديمة في الشرائع لأنها ثقافة لابد منها، فكيف نفكر في إلغاء جزء من ثقافتنا العالية التي أثرت في القرون الماضية، وحملت معها صور التفكير في تلك القرون.
هذا وإن إدماج المذاهب بعضها في بعض فوق أنه لا يصح أن يكون غاية هو أمر لا ينال، إذ أن أساس الإدماج هو الاتفاق على مذهب واحد، وإن الاتفاق في الفروع الفقهية كلها على رأي واحد أمر غير ممكن، بل هو من قبيل المستحيل، فإننا إذا خلصنا الفقهاء من التعصب المذهبي ـ وذلك شرط أساسي وهو بعيد الوقوع ـ لا يمكن أن نقرر اتفاق منازعهم الفكرية وبيئاتهم الاجتماعية.
8 ـ وهنا يثور اعتراض يبدو بادئ الرأي وجيها، وهو كيف يمكن محو الطائفية، وبقاء المذاهب التي تحملها هذه الطوائف، ونحن في الجواب عن ذلك نقول: إن المذهب ليس ملازماً للطائفة لا يتصور من غير وجودها، فإن الطائفة جماعة تتجمع حول مذهب تعتنقه وتدعو إليه، وتعتبر كل جماعة لا تعتنقه ليست منها، أما ا لمذهب فمجموعة علمية تبقى حافظة كيانها ثابتة، لأنها تراث فكري، وهو بطبيعة أنه أمر معنوي ينفصل عن الجماعة التي تعتنقه، فإذا دعونا إلى محو الطائفية فمعنى ذلك ألا تكون تلك الجماعة التي تتحيز في موضع من الأرض بعنوان طائفي، وتعتبر نفسها موجوداً منفصلا عن غيره من المسلمين بما تتجه إليه، والمذهب باق يعتنقه من يشاء، ويتمذهب به من يريد، يختاره كله مذهباً له، أو يختار بعضا منه، وإن ذلك ينمى المذهب ويحييه، فإن انحيازه في طائفة معينة قد يكون حجابا يمنع غيرها من أن يدرك ما في هذا المذهب من آراء صالحة ذات فائدة خاصة، أو ذات دليل أقوى، أو أقرب ملاءمة للناس من غير مخالفة للنصوص، ولا إهمال لها، ولا مخالفة للمقررات الشرعية الثابتة التي لا يصح لمسلم أن يخالفها.
9 ـ وإنه من الحق علينا في هذا المقام أن نقرر أن مصر في الأحوال الشخصية قد أخذت من المذاهب الإسلامية المختلفة، وقد تحللت من التقيد بمذهب أبي حنيفة، بل أخذت من مذاهب الطوائف، مجتازة كل الحجز، غير ملتفتة للمنزع الطائفي، فقد أخذت أحكام الطلاق المعلق، والطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة وكونه لا يقع إلا واحدة، أخذت هذا من الإمامية، أي من مذهب الإمام جعفر الصادق، نعم إنها صرحت بأنه أخذته من آراء ابن تيمية وفتاواه، ولكن ابن تيمية صرح بأنه أخذ ذلك من مذهب آل البيت.
وأخذت بتأخير ميراث ولاء العتاقة عن ميراث الأقارب جميعاً، والزوجين من مذهب الجعفرية وهو يسميه: ولاء النعمة.
وأخذت إجازة الوصية لوارث من مذهب الإمام جعفر الصادق أيضا. وأخذت مبدأ الواجبة من الظاهرية كما دونها الإمام ابن حزم الأندلسي.
وإننا ندعو إلى الأخذ في العول في الميراث ـ وهو زيادة عدد السهام عن أصل المسألة أي عن الواحد الصحيح ـ بمذهب الإمام جعفر الصادق، الذي يقرر أنه ينقص من أصحاب الفروض من النساء ما كان ينقص لو كان معهن ذكر، فلا تأخذ عند زيادة السهام أكثر مما كانت تأخذه هي ومن يعصبها (1)، ولقد دعونا إلى ذلك الرأي في دروسنا، وهو يمنع الشذوذ في كثير من المسائل.
وإن إنهاء الوقف عند التخرب أو الضآلة في الأنصبة كما جاء في المادة ـ 18 ـ من القانون رقم 48 لسنة 1946 مأخوذ من مذهب الإمامية أيضا الذي هو مذهب الإمام جعفر الصادق.
وإن تمليك الوقف الأهلي عند إلغائه للمستحقين وقت الإلغاء مبني في شطر منه على المذهب الجعفري.
ونرى من هذا أن مصر خطت خطوة واسعة في فتح الباب، واخترقت الحجزات الطائفية لتصل إلى المذهب في ذاته، وإن كنا قد خالفناها في بعض ما أخذت، فقد خالفناها في إجازة الوصية لوارث، وقد قررنا أنه روى عن الإمام جعفر الصادق أنه لم يجزها.
10 ـ وإن المسلمين لأجل توحيد الثقافة الإسلامية وتوجيهها يحتاجون إلى جامعة تعمل على تنظيمها وتنميتها وتقريبها، والأخذ بالصالح لهذه الحياة من كل مذهب ما دام لا يخالف أصلا قطعياً أو ظنياً من أصول الإسلام الثابتة، وإن هذه الجامعة تتألف من كل الأقاليم الإسلامية في شتى الأرض، وتمثل مؤقتا الطوائف الإسلامية، أو نقول تمثل المذاهب الإسلامية بدل أني قال إنها تمثل الطوائف، ولنبادر من الآن بمحو كلمة الطوائف من قاموس تلك الوحدة المقدسة، فإنها بقية من بقايا التفريق.
وإن هذه الجامعة التي تمثل المسلمين أقاليم ومذاهب تكون أشبه بمجمع علمي أو معهد إسلامي يسهل دراسة المذاهب كلها، ويعمل على نشر الإسلام بين غير المسلمين بكتابة البحوث التي تبين حقائق الإسلام، وتترجم هذه البحوث إلى اللغات الأوربية وغير الأوربية، ويعمل ذلك المجمع على تثقيف المسلمين الذين يسكنون في أطراف إندونيسيا لا يعرفون أحكام الزواج في الإسلام، حتى إن المسلمة تتزوج البوذي، وهي لا تعلم أنه حرام عليها أن تتزوج غير مسلم، وبعضهم يتزوج الوثنية، وهو لا يعلم تحريمها، كما قال تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " وإن من حق هؤلاء على علماء المؤمنين أن يعلموهم، ونحن جميعاً مسئولون عن جهلهم، وهم دوننا في هذه المسئولية، لقد قال علي كرم الله وجهه: " لا يسأل الجهلاء لِمَ لمْ يتعلموا، حتى يسأل العلماء لِمَ لمْ يعلموا ".
وإن ذلك المجمع، أو ذلك المعهد، يدرس المسائل الدينية التي يبتلي بها المسلمون في كل بقاع الأرض، ويصدر في كل مسألة رأيا جماعياً، يتكون من الكثرة، وحكمه ماض، حتى يجد ما يوجب تغييره.
يدرس النظم الاقتصادية التي توسد العصر الحاضر، ويبين حكم الإسلام من غير تحريف ولا تخريج للنصوص في غير ما تدل عليه، أو تأويلها وهي ظاهرة بينة، فإن لم يجد بها بأساً أقرها، وإن لم يجد فيها أمراً حلالا كلف الاقتصاديين وأهل الذكر في علوم الدنيا، أن يقيموا نظاماً يتفق مع الحقائق الإسلامية المقررة الثابتة، ويتولى تنظيم الانتقال من هذا الاقتصاد المحرم إلى الاقتصاد السليم المباح الذي لا يختلف عن نصوص القرآن وما أجمع عليه فقهاء الأمة سلفاً وخلفاً.
وإن هذا المجمع يختار مكاناً يتخذه مستقراً له، وينعقد فيه كل عام أربع مرات على الأقل، وتكون له لجان فنية مختلفة، ولجان تتبعه في كل بلد إسلامي مشهور يكون حلقة الاتصال والتعارف بينه وبين مختلف الأقاليم.
وإن تأليف هذا المجمع ليس أمراً نبتدعه، بل قد جاء به النص القرآني آمراً محذراً من المخالفة، فقال سبحانه: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك لهم عذاب عظيم " وقانا الله شر عذابه، وجمعنا على طاعته ومحبته.
المصدر: موقع إسلام أون لاين
1 ـ انتهينا في مقالنا السابق (أسس الوحدة وعناصرها) إلى أن الوحدة الإسلامية تتكون من عناصر ثلاثة لابد منها لتحقق في أقل صورها، وتلك العناصر قد ذكرناها إجمالا، وهي التوحيد الفكري والنفسي، ومنع التنازع بين الأقاليم الإسلامية اقتصاديا أو سياسيا، بله حربياً، والعنصر الثالث إيجاد أسباب التعارف المستمر بين المسلمين، آحاداً بعد التعارف الجماعي.
وإن هذه العناصر لا يغني فيها الاجمال المطلق عن التفصيل النسبي، فلابد من توضيح بقليل من القول لا يخرجنا من الإيجاز إلى الإطناب، فإن الإطناب فيها يحتاج إلى مبسوط القول، والى اشتراك العلماء المتخصصين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، ولذلك نكتفي بجهد المقل.
2 ـ وإن التوحيد الفكري والثقافي والنفسي لا يحتاج إلى إنشاء، ولكنه يحتاج إلى توجيه وجمع، فإن الأصل قائم ثابت، وحيثما اتجهت إلى بلد إسلامي، فإنك تحس بأنس الاتفاق النفسي والفكري، وتجد الفكرة الجامعة قائمة، والأمر الجامع لأساليب الفكر الإسلامي ثابتاً، ولا يوجد بين أهل دين، أو أهل مذهب اقتصادي أو اجتماعي، من تتلاقي أفكارهم حول اتجاه معين لا يحول ولا يزول، كما تجده بين المسلمين، ولقد قدر لي في الندوة الإسلامية الكبرى التي عقدت بلاهور أن ألتقي بالوفود التي نزعت من البلاد الإسلامية على اختلاف الطوائف فيها، فما وجدت نفرة فكرية بيني وبينهم، لا فرق في ذلك بين سني وشيعي، ولا بين صيني وروسي وتركي، وإن كانت نفرة بيننا وبين أحد، فما كانت إلا بيننا وبين زنادقة هذا العصر الذين يتسمون بأسماء إسلامية كهذا الذي ينكر أحكام آيات المواريث، ويدعي أنها وقتية، أو كهذا الذي ينكر النبوة، وغيرهما ممن نبذ المسلمون في المؤتمر كلامهم، كما ينبذ الشَّوَاذُ في صحراء الجاهلية، ولما تصدى بعض الذين اشتركوا في هذه الندوة، فَصَكّ بكلمة الحق آذانهم، وصدع بنصوص الدين بينهم، أحس الجميع بشعور واحد نحوه، ولذا قرروا مجتمعين منع تسجيل بعض هذه الكلمات في سجل المؤتمر.
3 ـ وإن السبب في ذلك الاتحاد الفكري لا يحتاج إلا إلى جمع وتوجيه وتنظيم هو وحدة المصدر والاتفاق عليه، والالتفاف حوله، فقد اتفق المسلمون جميعاً على أن الإسلام له مصدر واحد هو نصوصه المحكمة، وهي نصوص القرآن التي لا تقبل تغييراً ولا تبديلا " تنزيل من حكيم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " وأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا كانت بعض الطوائف تختلف في طريقة روايتها، فإن الأصل الذي يقوم عليه عمود الدين، وفقه الإسلام وأحكامه متفق عليه، وإذا كانوا ينتهون إلى حكم واحد في أصول الإسلام والإقرار بجملة السنة التي تدل على هذه الأصول، فإن الغاية قد اتحدت، وأصل الوحدة الثقافية قد ثبت من غير نكير، ومن غير تعاند وتنابز بالألقاب، وإذا كانت أنواع من الجدل قد وقعت وما زالت تقع، فذلك لا يضير في شيء، وهو أحياناً من ضيق الفكر، لا من اختلاف الثقافة، كما كنا نرى في صدر حياتنا من ملاحاة فكرية بين الشافعية والحنفية. ومن عمق الفكر أحيانا كما يسجل التاريخ الفقهي من مناظرات بين أهل هذين الجليلين ببلاد ما وراء النهر في القرنين الرابع والخامس، تلك المناظرات التي كانت محمودة العاقبة منتجة مثمرة، لأنها قد ترتب عليها تأييد الفروع بكلا المذهبين بالأقيسة العميقة، وتنقيح الروايات في الأخبار المؤيدة، وفي هذا المعترك قبس كل مذهب من الآخر.
4 ـ إن هذه حقيقة ثابتة لا مجال للريب فيها، وهي وجود نواة الوحدة الفكرية والثقافية والنفسية في كل البلاد الإسلامية مهما تختلف فها الطوائف والمذاهب، ولكن الأمر الذي نريده هو توجيه هذه الوحدة والعمل على إنمائها، وإيجاد مجتمع فكري موحد يبني دعائم الإسلام، ويقف محاجزاً دون النزعات المنحرفة التي تتغلغل في صفوفه، وتلقي بالريب في حقائقه، ويكشف زيغ أولئك الذين اصطنعهم أعداء الإسلام ليحلوا عراه، ويلقوا بالشك في أفئدة أهله.
ونريد مع هذا جمع تراث الماضين، لا فرق في ذلك بين التراث الذي تركه السابقون من الشيعة، والتراث الذي تركه أئمة الأمصار ذوو المذاهب المعروفة وغير المعروفة، فكل ذلك تراث السابقين، وثمرات غرس الموحدين، فهو تراثنا جميعاً، لا فرق بين سني وغير سني.
وقد يقول قائل إن في بعض هذا المأثور ما يتجافى عن بعض المقررات الثابتة التي تعد من أصول الإسلام، فنقول إن إعلانها يقلل بلا شك من عدد الذين يرددونها، بل إن السبيل الوحيد لمنع الناس من الأخذ بها هو كشفها، وإن على المؤمنين مجتمعين أن يهدوا الضال لا أن يتركوه في غياهبه يعمه، وإن هؤلاء الذين لم يصطنعهم أجنبي فيهم أصل الإخلاص ثابت، وهم طلاب للحق قد أخطئوا سبيله، فعلينا أن نهديهم طريق الصواب، ولقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: " ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه ".
ومهما يكن في بعض الآراء من مخالفة للمعقول أو لبعض المنقول، فإنها مما خلفه السابقون، وهو من التركة التي نقوم عليها، ولا تهمل التركة إذا كان فيها بعض الزيوف، بل يجب أن نفحصها فحص الصيرفي ليستبين زيفها ويبهرج، ويحفظ جيدها وينمى.
5 ـ وإننا بهذه الدراسة للتركة المثرية من غير محاولة للتمييز بين طائفة وطائفة، نتجه إلى أمور ثلاثة:
أولها: وصل ماضي هذه الأمة بحاضرها، فإن كل حضارة لها إطار من الأفكار والمورثات تصل ما بين الحاضر والغابر، وإن تقدم الأمة دائماً يجب أن يكون متصلا بصدر تاريخها، كما قال السيد جمال الدين الأفغاني حكيم الإسلام، وأول داع إلى الوحدة الإسلامية في العصر الأخير، وباعث الوعي الفكري في كل بقاع الإسلام.
وثانيها: ألا يكون العالم الإسلامي منحازاً في جانب من جوانبه، لا يحاول أن يتجه إلى الجانب الآخر، ولا أ ن يتعرف ما فيه، فتلك عصبية مذهبية، أو طائفية تلتقي مع العصبية الجاهلية في نتائجها وثمراتها، وإن خالفتها في منبعها وأسبابها، فتلك نعرة جنسية نسبية، وهذه انحراف فكري وتعصب مذهبي.
وثالثها: أن تتقارب الطوائف الإسلامية، فإن دراسة التراث الإسلامي ككل لا يقبل التجزئة بحيث تدرس كل طائفة ما عند الأخرى ـ يقرب ما بين الطوائف ويزيل تلك النفرة غير الطبيعية التي خلفتها بعض القرون في ماضي الإسلام، وإننا بهذا يتحقق لنا الغرض المقصود، وهو محو الطائفية في الإسلام، أو تقريب ما بين الطوائف بحيث تكون خلافا مذهبياً، كالخلاف الذي بين المالكية والحنابلة، ونحن ندرس بعض آراء الإمامية على أساس أنه مذهب كالمذاهب التي ندرسها.
6 ـ وإن محو الفروق الطائفية يجب أن يكون غاية مقصودة، ذلك لأن أسباب الخلاف قد زالت، ومن الخطأ أن نتمسك بالاختلاف الطائفي مع زوال أسبابه، وكيف يكون بيننا تنافر فكري بسبب أن علياً أفضل من أبي بكر وعمر، أو أنهما أفضل منه، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ومعاذ الله أن يكون أولئك الأبرار كان فيهم من ارتكب خطيئة أو إثماً ضد الإسلام، ولقد سئل الشافعي مرة عن أهل صفين فقال: واقعة قد كفاني الله شهودها، فلماذا لا أبرئ لساني من الخوض في أهلها، ولأن الخلاف الطائفي الآن يشبه أن يكون نزعة عنصرية، ولأن الذين يريدون الكيد للإسلام يتخذون من الخلاف بين الطوائف منفذا ينفذون منه إلى الوحدة الإسلامية، فيجب أن نسد عليهم هذا المنفذ، ولأن وحدة أهل الإسلام توجب وحدة الشعور، والطائفية لا تتحقق معها وحدة الشعور، وقد جربنا في الماضي أن الطائفية مكنت لأعداء الإسلام، ويجب أن يكون في الماضي عبر للحاضر، ونور يضيئه.
ولأن الطائفية في الإسلام ليس الأساس فيها متصلا بالاعتقاد، أو في الأصول التي يجتمع عليها أهل القبلة، بل جلها في مسائل ليست من اللب، ولو ادعى بعض الطوائف أنها من اللب.
لهذه الاعتبارات نقرر أن الطوائف الإسلامية يجب أن تتفق، وتتلاقي على محبة من الله ورضاه، وتحت ظل كتاب الله تعالى، والسنة الصحيحة، والمقررات الإسلامية التي علمت من الدين بالضرورة، ولا مانع من أن تختلف، ولكن يكون اختلاف آحاد في منازع فكرية، لا افتراق فيها، ولا يكون اختلاف جماعات وطوائف تفرق ويجعل الأمة الإسلامية قطعاً متنابذة متدابرة متنافرة.
7 ـ ولسنا نقصد بمحو الطائفية محو المذهبية، وإدماج المذاهب الإسلامية في مذهب، فإن ذلك لا يصح ولن يكون عملا ذا فائدة، لأن إدماج المذاهب في مذهب ليس عملا علمياً يحمد عند العلماء، فإن كل مذهب مجموعة من المعلومات أقيمت على مناهج تتجه في مجموعها إلى النصوص الإسلامية والبناء عليها، وهو ثمرات جهود لأكابر العلماء في هذا المذهب، وكل إدماج فيه إفناء، وليس من المصلحة العلمية في شيء إفناء تلك الجهود الفكرية التي قامت في ظل القرآن والسنة والصحيحة الثابتة، بل يجب أن تكون كل الجهود قائمة على أصولها، يرجع إليها، ويختار منها عند العمل أصلحها للبقاء، أو أكثرها ملاءمة للأزمان، أو أقواها اتصالا بالقرآن، مع بقاء المصدر في موضعه يرجع إليه.
وفوق ذلك فإن المذاهب الإسلامية تراث علمي هو للجميع لا لطائفة من الطوائف، ومن المصلحة العلمية الاستحفاظ عليه، وبقاؤه تراثاً خالداً، وإن الأمم الأوربية على اختلاف قوانينها تدرس القانون الروماني والمذاهب القديمة في الشرائع لأنها ثقافة لابد منها، فكيف نفكر في إلغاء جزء من ثقافتنا العالية التي أثرت في القرون الماضية، وحملت معها صور التفكير في تلك القرون.
هذا وإن إدماج المذاهب بعضها في بعض فوق أنه لا يصح أن يكون غاية هو أمر لا ينال، إذ أن أساس الإدماج هو الاتفاق على مذهب واحد، وإن الاتفاق في الفروع الفقهية كلها على رأي واحد أمر غير ممكن، بل هو من قبيل المستحيل، فإننا إذا خلصنا الفقهاء من التعصب المذهبي ـ وذلك شرط أساسي وهو بعيد الوقوع ـ لا يمكن أن نقرر اتفاق منازعهم الفكرية وبيئاتهم الاجتماعية.
8 ـ وهنا يثور اعتراض يبدو بادئ الرأي وجيها، وهو كيف يمكن محو الطائفية، وبقاء المذاهب التي تحملها هذه الطوائف، ونحن في الجواب عن ذلك نقول: إن المذهب ليس ملازماً للطائفة لا يتصور من غير وجودها، فإن الطائفة جماعة تتجمع حول مذهب تعتنقه وتدعو إليه، وتعتبر كل جماعة لا تعتنقه ليست منها، أما ا لمذهب فمجموعة علمية تبقى حافظة كيانها ثابتة، لأنها تراث فكري، وهو بطبيعة أنه أمر معنوي ينفصل عن الجماعة التي تعتنقه، فإذا دعونا إلى محو الطائفية فمعنى ذلك ألا تكون تلك الجماعة التي تتحيز في موضع من الأرض بعنوان طائفي، وتعتبر نفسها موجوداً منفصلا عن غيره من المسلمين بما تتجه إليه، والمذهب باق يعتنقه من يشاء، ويتمذهب به من يريد، يختاره كله مذهباً له، أو يختار بعضا منه، وإن ذلك ينمى المذهب ويحييه، فإن انحيازه في طائفة معينة قد يكون حجابا يمنع غيرها من أن يدرك ما في هذا المذهب من آراء صالحة ذات فائدة خاصة، أو ذات دليل أقوى، أو أقرب ملاءمة للناس من غير مخالفة للنصوص، ولا إهمال لها، ولا مخالفة للمقررات الشرعية الثابتة التي لا يصح لمسلم أن يخالفها.
9 ـ وإنه من الحق علينا في هذا المقام أن نقرر أن مصر في الأحوال الشخصية قد أخذت من المذاهب الإسلامية المختلفة، وقد تحللت من التقيد بمذهب أبي حنيفة، بل أخذت من مذاهب الطوائف، مجتازة كل الحجز، غير ملتفتة للمنزع الطائفي، فقد أخذت أحكام الطلاق المعلق، والطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة وكونه لا يقع إلا واحدة، أخذت هذا من الإمامية، أي من مذهب الإمام جعفر الصادق، نعم إنها صرحت بأنه أخذته من آراء ابن تيمية وفتاواه، ولكن ابن تيمية صرح بأنه أخذ ذلك من مذهب آل البيت.
وأخذت بتأخير ميراث ولاء العتاقة عن ميراث الأقارب جميعاً، والزوجين من مذهب الجعفرية وهو يسميه: ولاء النعمة.
وأخذت إجازة الوصية لوارث من مذهب الإمام جعفر الصادق أيضا. وأخذت مبدأ الواجبة من الظاهرية كما دونها الإمام ابن حزم الأندلسي.
وإننا ندعو إلى الأخذ في العول في الميراث ـ وهو زيادة عدد السهام عن أصل المسألة أي عن الواحد الصحيح ـ بمذهب الإمام جعفر الصادق، الذي يقرر أنه ينقص من أصحاب الفروض من النساء ما كان ينقص لو كان معهن ذكر، فلا تأخذ عند زيادة السهام أكثر مما كانت تأخذه هي ومن يعصبها (1)، ولقد دعونا إلى ذلك الرأي في دروسنا، وهو يمنع الشذوذ في كثير من المسائل.
وإن إنهاء الوقف عند التخرب أو الضآلة في الأنصبة كما جاء في المادة ـ 18 ـ من القانون رقم 48 لسنة 1946 مأخوذ من مذهب الإمامية أيضا الذي هو مذهب الإمام جعفر الصادق.
وإن تمليك الوقف الأهلي عند إلغائه للمستحقين وقت الإلغاء مبني في شطر منه على المذهب الجعفري.
ونرى من هذا أن مصر خطت خطوة واسعة في فتح الباب، واخترقت الحجزات الطائفية لتصل إلى المذهب في ذاته، وإن كنا قد خالفناها في بعض ما أخذت، فقد خالفناها في إجازة الوصية لوارث، وقد قررنا أنه روى عن الإمام جعفر الصادق أنه لم يجزها.
10 ـ وإن المسلمين لأجل توحيد الثقافة الإسلامية وتوجيهها يحتاجون إلى جامعة تعمل على تنظيمها وتنميتها وتقريبها، والأخذ بالصالح لهذه الحياة من كل مذهب ما دام لا يخالف أصلا قطعياً أو ظنياً من أصول الإسلام الثابتة، وإن هذه الجامعة تتألف من كل الأقاليم الإسلامية في شتى الأرض، وتمثل مؤقتا الطوائف الإسلامية، أو نقول تمثل المذاهب الإسلامية بدل أني قال إنها تمثل الطوائف، ولنبادر من الآن بمحو كلمة الطوائف من قاموس تلك الوحدة المقدسة، فإنها بقية من بقايا التفريق.
وإن هذه الجامعة التي تمثل المسلمين أقاليم ومذاهب تكون أشبه بمجمع علمي أو معهد إسلامي يسهل دراسة المذاهب كلها، ويعمل على نشر الإسلام بين غير المسلمين بكتابة البحوث التي تبين حقائق الإسلام، وتترجم هذه البحوث إلى اللغات الأوربية وغير الأوربية، ويعمل ذلك المجمع على تثقيف المسلمين الذين يسكنون في أطراف إندونيسيا لا يعرفون أحكام الزواج في الإسلام، حتى إن المسلمة تتزوج البوذي، وهي لا تعلم أنه حرام عليها أن تتزوج غير مسلم، وبعضهم يتزوج الوثنية، وهو لا يعلم تحريمها، كما قال تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " وإن من حق هؤلاء على علماء المؤمنين أن يعلموهم، ونحن جميعاً مسئولون عن جهلهم، وهم دوننا في هذه المسئولية، لقد قال علي كرم الله وجهه: " لا يسأل الجهلاء لِمَ لمْ يتعلموا، حتى يسأل العلماء لِمَ لمْ يعلموا ".
وإن ذلك المجمع، أو ذلك المعهد، يدرس المسائل الدينية التي يبتلي بها المسلمون في كل بقاع الأرض، ويصدر في كل مسألة رأيا جماعياً، يتكون من الكثرة، وحكمه ماض، حتى يجد ما يوجب تغييره.
يدرس النظم الاقتصادية التي توسد العصر الحاضر، ويبين حكم الإسلام من غير تحريف ولا تخريج للنصوص في غير ما تدل عليه، أو تأويلها وهي ظاهرة بينة، فإن لم يجد بها بأساً أقرها، وإن لم يجد فيها أمراً حلالا كلف الاقتصاديين وأهل الذكر في علوم الدنيا، أن يقيموا نظاماً يتفق مع الحقائق الإسلامية المقررة الثابتة، ويتولى تنظيم الانتقال من هذا الاقتصاد المحرم إلى الاقتصاد السليم المباح الذي لا يختلف عن نصوص القرآن وما أجمع عليه فقهاء الأمة سلفاً وخلفاً.
وإن هذا المجمع يختار مكاناً يتخذه مستقراً له، وينعقد فيه كل عام أربع مرات على الأقل، وتكون له لجان فنية مختلفة، ولجان تتبعه في كل بلد إسلامي مشهور يكون حلقة الاتصال والتعارف بينه وبين مختلف الأقاليم.
وإن تأليف هذا المجمع ليس أمراً نبتدعه، بل قد جاء به النص القرآني آمراً محذراً من المخالفة، فقال سبحانه: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك لهم عذاب عظيم " وقانا الله شر عذابه، وجمعنا على طاعته ومحبته.
المصدر: موقع إسلام أون لاين
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: قراءة في فكر الإمام محمد أبو زهرة حول وحدة الأمة الإسلامية
سبل تحقيق الوحدة/ الشيخ محمد أبو زهرة
1 ـ بينا في المقال السابق (ضرورة الوحدة الثقافية) أثر الوحدة الثقافية في تكوين الوحدة الإسلامية، وقررنا أنه يجب أن تكون ثقافتنا إسلامية موحدة تتصل بمصادر الدين، وتتلاقي على مائدتها من غير تفرقة طائفية، ولا انحياز مذهبي، وأنه لابد في تحقيق هذه الغاية التي تعد أمثل الغايات، وأقوالها تأثيراً من إنشاء معاهد تجمع في دراستها المذاهب الإسلامية كلها من غير تفرقة بين مذهب ومذهب، كما أنه لابد في تكوينها من تلاقي أهل المذاهب جميعاً في صعيد واحد، لكي تزول النفرة القائمة، واعتبار المذاهب الإسلامية كلها تراثاً إسلامياً خالداً، نعني جميعاً بفحصه والاقتباس منه.
2 ـ والآن ننتقل إلى عنصر آخر من عناصر الوحدة الإسلامية، وهو التعارف الإسلامي: إن الإسلام دعا إلى التعارف المطلق بين بني الإنسان، فأولى ثم أولى أن يتحقق التعارف بين أهله، وقد قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".
ولقد عمل أعداء الإسلام في توسيع الهوة بين المسلمين، وتجهيل بعضهم لبعض، وإن علينا وقد استيقظنا من مراقدنا، أن نتخذ الأهبة، وأن نعلم أن وحدتنا في نقيض ما كان يعمل أعداؤنا، وإنه لمن العار علينا كل العار، أن نعرف بلدان أوروبا وأمريكا، وأماكن قوتها، ولا نعرف شيئاً عن بلاد الإسلام، فالمصري لا يعرف باكستان ولا إيران، ولا الأقاليم الإسلامية في الهند، أو في الصين، أو في روسيا، أو في أوربا، فلا يعرف حالهم الدينية، ولا حالهم الاجتماعية والاقتصادية، ولا ينابيع الثروة في بلادهم، ومصادر قوة الإسلام فيها.
وإن سبل التعارف الإسلامي ميسرة سهلة لمن يريدها، ولمن يحتسب النية في سلوكها، وإنا نحصرها في أمور أربعة: أولها: المدارس، وثانيها: تنظيم الرحلات، وثالثها: الحج، ورابعها وهو عمدتها: اللغة.
3 ـ وإنه لتحقيق الأمر الأول يجب أن تكون كل المدارس الإسلامية مشتملة في مناهجها على تاريخ كل بلد إسلامي، وأحواله الاجتماعية، ونظم الحكم فيه، واقتصاده، وجغرافيته، فيدرس ماضيه وحاضره، يعلم ذلك الناشئ إجمالا، ويفصل له في معاهد عليا تدرس فيها الأقطار الإسلامية فأقسام الجغرافيا في كليات الآداب بالجامعات الإسلامية يجب أن يكون منها قسم للتعمق في دراسة جغرافية البلاد الإسلامية، وأقسام التاريخ يجب أن يكون فيها قسم لدراسة تاريخ البلاد الإسلامية بلداً بداً، وأقسام اللغات يجب أن تعني بدراسة اللغات في البلاد الإسلامية.
4 ـ وإنه يجب تسهيل الرحلة إلى البلاد الإسلامية، وبدل أن نذهب إلى أوروبا وأمريكا لنلهو ونلعب ونفسد ديننا، ونحل عراه عروة عروة، نذهب إلى البلاد الإسلامية، وفيه المصطاف والمشتى، وفيها الإيمان والتقوى، فلا تكون رحلاتنا عبثاً لاهياً، بل تكون إيماناً هاديا، وإنه لتحقيق تلك الوسيلة من وسائل التعارف يجب أن تيسر المواصلات، وتتكون من الأقاليم الإسلامية شبكة مواصلات في البر، والبحر، والسماء، فالسيارات تتصل إن أمكن اتصالها، والقاطرات توصل إن أمكن وصلها، والجاريات في البحار تتنقل بالمواني الإسلامية، حاملة أهل الحق ليتلاقوا على نور الله تعالى، والطائرات تقطع أجواز الفضاء، ليصل بين أهل الوحي الذين يلتمسون النور من السماء.
5 ـ والحج سبيل رسمه رب العالمين ومنزل القرآن لنتعارف ونتحاب على مائدة الرحمن الروحية، وقد كان المسلمون الأولون يتخذون منه سبيلاً للتعارف، والدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان هذا اقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه والأئمة الراشدين.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقى خطبة الوداع التي استعرض فيها خلاصة دقيقة للأحكام الإسلامية في عرفة، والأئمة الراشدون كانوا يتولون بأنفسهم رياسة موسم الحج، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتخذه طريقاً لتعرف أحوال المسلمين، وأحوال الولاة، ويلتقى بجميع ولاة الأقاليم فيه، ويتبادل معهم الرأي والشورى في شئون المسلمين، واتخاذ التوصيات اللازمة لإدارة دفة الحكم في الأقاليم عامة، وفي كل إقليم خاصة.
وعلماء الحديث كانوا ينتهزون فرصة الحج ليتبادلوا الرواية، والتقاء التلاميذ بشيوخهم، وأخذ الأقران بعضهم عن بعض، والفقهاء يتلاقون في موسم الحج، ويتذاكرون مسائل الفقه، وكل فقيه يعرض على صاحبه كثيراً مما يسأل عنه في مدرسته، وما ينتهي إليه، فيلتقي أبو حنيفة بمالك، ويتذاكرون، ويقول أبو حنيفة في مالك: ما رأيت أسرع منه بجواب صحيح، ويقول مالك في أبي حنيفة: إنه لفقيه، ويلتقي أبو حنيفة بالأوزاعي، ويتذاكرون، ويلتقى أبو حنيفة بالإمام محمد الباقر، وابنه الإمام جعفر الصادق، ويلتقي الإمام أحمد بالإمام الشافعي.
وهكذا كان الحج في الماضي سبيل التعارف الإسلامي، وإنه يجب علينا أن نعود به إلى ما كان عليه السلف الصالح، فنجمع فيه بين العبادة والنسك، وبين المصلحة العامة للمسلمين، وليتحقق قوله تعالى: " ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ".
وإن تنظيم الحج بحيث يكون سبيلا من سبل التعارف يقتضي عملا من الحكومة الإسلامية القائمة على سدانة البيت الحرام والمسجد النبوي، فإن عليها أن تتعرف بالعلماء الذين يقومون بفريضة الحج، وتقيم ندوات علمية بينهم، فالفقهاء يجتمعون في ندوات تتدارس الفقه، والاقتصاديون يجتمعون في ندوة تتدارس الاقتصاد الإسلامي، والسبيل إلى نموه، وكذلك المهندسون والأطباء، وبذلك يشهد المسلمون منافع لهم وينفذونها.
اللغة العربية:
6 ـ وإنه لا يمكن أن يتحقق تعارف حقيقي بين المسلمين إلا إذا وجدت لغة جامعة، بحيث ينزل المسلم في أي إقليم إسلامي، فلا يتعذر عليه الخطاب، ولا يحتاج إلى مترجم، ولا نقصد بذلك محو اللغات القومية التي انبعثت مع الشعوبية في القرون الخوالي، حتى لا تتحرك العصبيات الإقليمية التي يحاول أعداء الإسلام محاربة الوحدة بتأجيجها، إنما نقصد أن يتعلم المسلم المثقف بجوار لغة بلاده القومية لغة إسلامية هي الجامعة بين المسلمين، وإننا نرى الشباب المثقف في البلاد الإسلامية يتعلم مع لغة قومه لغتين أوروبيتين أو أكثر، فلو قلنا إن على المسلم المثقف أن يستبدل بإحدى هاتين اللغتين لغة تجمع بينه وبين إخوانه المسلمين، ويستطيع التخاطب بها معهم، لا نكون قد قلنا شططاً، ولا نكون قد اعتدينا على قوميته. إننا ننزل في أي إقليم إسلامي فنجد من يستطيع التكلم بالإنجليزية، ويتحدث بها مباهياً مفاخراً بها، بل متعصباً لها، ولا نريد أن نلغي هذه اللغة بالنسبة هؤلاء المتعصبين لها، بل نقول لهم تعلموا معها لغة تمكن إخوانكم المسلمين من أن يخاطبوكم، أفليس من العار أن يتلقى المسلم المغربي بالمسلم الهندي فلا يستطيع أحدهما أن يخاطب الآخر إلا إذا توسط بينهما اللسان الإنجليزي، أو ليس غريبا أن يدعو ربه باللغة العربية، ويخاطب أخاه المسلم بالإنجليزية.
إن وجود لغة جامعة أمر لابد منه، وأي اللغات تكون هي اللغة المختارة؟ إن البداهة تقول إنها العربية، ولسنا ندعو علم الله إليها تعصباً للعرب، ولكن ندعو إليها لأنها لغة القرآن، ولغة السنة، ولغة العبادة الإسلامية، فهل من المسلمين من يصلي بغير قراءة الفاتحة؟ وهل من المسلمين من يكبر بغير اللغة العربية، ومن يتلو القرآن متعبداً بتلاوته بغير العربية؟!!!.
لقد أوجب الإمام الشافعي على كل مسلم أن يعرف قدراً من العربية يصحح به أمر دينه، وبنى ذلك على نزول القرآن بلغة العرب، وإن ذلك القول يتفق مع المعاني الإسلامية، لأنه لا يسوغ لشخص أن يقرأ الفاتحة، ويتعبد بما اشتملت عليه من غير أن يعرف معناها، وكيف يقول في ابتداء صلاته وحركاتها " الله أكبر " من غير أن يعرف معناها؟ وكيف يسوغ لخطيب يخطب على المنبر باللغة العربية لمن لا يفهمونها.
لذلك نجد أن اللغة العربية هي اللغة التي تجمع شمل المسلمين، ولسنا نقول ذلك تعصبا للغة العربية كما أشرنا، بل تعصباً للإسلام، لأن العربية لغة الإسلام، ومن لا يفهمها لا يفهم الإسلام.
وإن اللغة العربية ليست هي لغة العبادة الإسلامية ولا القرآن والسنة فقط، بل هي لغة التراث الإسلامي كله، فالفقهاء على شتى مناهجهم قد دونوا آراءهم باللغة العربية، وكذلك علماء الكلام والتصوف والتفسير، ون ترك اللغة العربية ترك لكنوز الإسلام الفكرية، وكيف يسوغ لنا أن نترك علوم عبد القاهر الجرجاني والأصفهاني والغزالي والرازي والرضي والجصاص، وغيرهم من كبار علماء المسلمين في الشرق والغرب.
نعم إن بعض آثار العلماء كان بغير اللغة العربية، ولكنه نادر بالنسبة للمدون باللغة العربية.
7 ـ وإن هذا التعارف الإسلامي الذي ذكرنا بعض أسبابه، يغذيه وينميه التقريب الثقافي الذي ذكرناه في مقالنا السابق، وإن العناصر كلها متضافرة يقوى بعضها بعضا، ولننتقل إلى العنصر الأخير، وهو السياسي.
الوحدة الإسلامية والاقتصادية:
8 ـ إن هذا العنصر ثمرة لمعاني الدين، وثمرة للعنصرين السابقين، وإنا نتصدى له من غير أن نتعرض للسياسة الإقليمية، لأنه حيث تكلم المتكلم فيها تحركت شكوك، وفي ثغرة الشكوك يجد العدو الباب الذي يؤرِّث منه العداوة بيننا.
ولكن مع هذا لابد من الكلام في الوحدة والسياسة: ولا نوغل في السبيل، بل نكتفي بأن نقرر بأنه يجب أن يكون للمسلمين وحدة سياسية ووحدة اقتصادية، وأن يتكون من المسلمين كتلة متحدة كالجسد الواحد، ويتحقق معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر " وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
وقد يسأل سائل: على أن شكل تكون الوحدة السياسية؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال نقرر ما ذكره القرآن والسنة بالنسبة للروابط التي تربط المسلمين بعضهم ببعض، وهي واجبات متفق عليها بين المسلمين.
9 ـ وأول هذه الواجبات أن نعمل على أن تكون ولاية أهل الإيمان للمؤمنين، فلا نتولى أعداء الإسلام، ولا نجعل لهم ولاية قائمة على المسلمين، أو أي بقعة من بقاعهم، فإن الله تعالى يقرر أنه لا يصح للمؤمن أن يمنح ولايته لأعداء المسلمين، فقد قال تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ".
فلا يصح لإقليم إسلامي أن يوالي من أخرجوا المسلمين من ديارهم، أو أخرجوا طائفة منهم من ديارهم؛ ولا الذين ظاهروا وعاونوا على إخراجهم، ولا الذين يضطهدون المسلمين، ويريدونهم مغنما يغنمونه، ويريدون أن تكون أرضهم مسترادا لجيوشهم ينقضون منها على أعدائهم، لتكون أرض الإسلام طعمة للنيران.
10 ـ وثاني هذه الواجبات أن يمتنع كل رئيس لإقليم إسلامي، أو ملك من ملوك الإسلام، أن يجعل الثقة الذي يثق به في رسم سياسته غير مسلم، فإن ذلك منهي عنه بنص القرآن الكريم، فقد قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم أولاء يحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم إنه عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، إن الله بما يعملون محيط ".
11 ـ وثالث هذه الواجبات أن المسلمين مجتمعين عليهم بمقتضى الأخوة الإنسانية العامة التي أثبتها الإسلام أن يفضوا النزاع الذي يقع بأنفسهم، وألا يتركوا فئة منهم تبغي على الأخرى، فقد قال تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " ويقول سبحانه في آية أخرى: " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم إن كنتم مؤمنين ".
وإن هذا بلا شك يوجب أن يكون المسلمون أمة واحدة كما قال تعالى: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " وأنه يجب أن تتكون من بين المسلمين جماعة تمثلهم، وتحل مشاكلهم التي تثور بينهم، وتقضي بالحق في كل ما ينجم بين الجماعات الإسلامية، ولا يترك القوى يلتهم الضعيف.
12 ـ والواجب الرابع: أن المسلمين جميعاً عليهم أن يعتبروا الاعتداء على أي إقليم إسلامي اعتداء على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن كل شبر في أرض إسلامية لكل مسلم فيه حق يوجب عليه أن يدافع عنه، فمن اعتدى على إقليم إسلامي فقد اعتدى على المسلمين أجمعين، ومن أخذ شبراً من إقليم فقد انتقص من أرض المسلمين جميعاً.
ولقد قاتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرومان لأنهم قتلوا بعض الذين دخلوا في الإسلام من المسلمين، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه " وإن هذا هو مقتضى الولاية التي تربط المسلمين بعضهم ببعض وإن القرآن قد صرح بوجوب نصرة أي جماعة مؤمنة تستنصر عامة المؤمنين، ولقد قال تعالى: " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر".
13 ـ والواجب الخامس على المسلمين: أن يعملوا على منع إذلال المسلمين، فيجب على المؤمنين أن يقاتلوا الذين يذلون بعض المؤمنين ويستضعفونهم، حتى يخرجوهم من ربقة الذل إلى الحرية، ليكونوا مع المؤمنين قوة، ولتكون كلمة الله هي العليا، وليمنع المسلمون من أن يفتنوا في دينهم الذي ارتضوا، ولقد قال تعالى: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيراً ".
وإن هذا الواجب يتقاضى كل إقليم من أقاليم الإسلام أن يتضافر مع غيره لإخراج الظالمين من أي ارض من أراضي الإسلام، إذ أنهم يسومون أهلها الخسف والهوان والذل، ويفرضون عليهم الطغيان، وإنا إن لم نفعل لا نكون آخذين بمبادئ الإسلام، ولا نكون أمة واحدة، ولا مطيعين للقرآن.
14 ـ هذه واجبات يجب أن تتحقق، لأنها حكم الديان، نطق بها القرآن، وأي شكل من الأشكال تتحقق فيه هذه المعاني ندعو إليه، وإنا ندعو إلى الحد الأدنى، ولا ندعو إلى الحد الأعلى، فلا ندعو إلى تكوين دولة إسلامية، لأن الأقاليم الإسلامية في بقاع الأرض ليست متجاوزة متلاصقة، ولا توجد حاضرة تصلح قطبا تدول عليه أحكام الدولة، ولأن كل إقليم له طابعه الذي يمتاز به، ويحتاج إلى أحكام ونظم مناسبة، وفوق ذلك لا يصح أن ندعو إلى دولة واحدة، حتى لا ينزعج أحد، فلا يخشى ملك على حوزته، ولا رئيس على صولته، وحتى لا يجد الأعداء منفذاً ينفذونه، فتموت الوحدة في مهدها.
ولذا نرى أن تكون الوحدة في شكل جامعة إسلامية، أو كومنلوث إسلامي.
وسواء أكان هذا أم كان ذاك، فإنه يتحقق في هذه الوحدة اتحاد السياسة الخارجية في كل الأقاليم الإسلامية، بحيث يوالي كل إقليم إسلامي من يوالي المسلمين وبحيث يعتبر الاعتداء على أي دولة إسلامية اعتداء على الأمة الإسلامية كلها، كما أنه يجب أن تحل المشاكل التي تقع بين الأقاليم الإسلامية بعمل المسلمين، ويجب أن تقاطع كل دولة تعتدي على إقليم إسلامي أو تحاول الاعتداء عليه.
وإنه يجب أن تكون أحكام الجامعة الإسلامية أو ما يشبهها في دائرة المبادئ الخمسة التي قررها الإسلام، وهي التي تعتبر ثابتة في هذا الدين بالضرورة، وتكون قرارات هذه الجامعة أو ما يكون على شكلها نظاماً يتبع ولا يكون أقوالا تردد، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
اقتصاد إسلامي:
15 ـ ولا يدعم الوحدة إلا اقتصاد إسلامي، لأن قوى الأمم في هذه الحياة تقوم على الاقتصاد، والعالم الآن يسيره الاقتصاد، فهو الذي يبعث الحروب، إذ الحروب الكثيرة الآن ليست إلا نزاعا على ينابيع الثروة، فحيث كانت الينابيع اشرأبت الأعناق، وتحركت المطامع، وكان التناحر على الوصول إليها، أو الاستحفاظ عليها، ولقد صارت ينابيع الثروة التي في ارض المسلمين وملكهم موضع تنافس أعدائهم، يلقون إليهم بفتاتها المتساقط، ويجعلون من المسلمين آلات الاستغلال، فهم مسخرون، والنتائج لغيرهم، وما يبقونهم إلا لهذه السخرة.
ولا يرفع عنا ذلك النير الثقيل إلا التعاون الاقتصادي بين الأقاليم الإسلامية، وإني لا أستطيع أن أرسم منهاجاً اقتصادياً، لأني لست من أهل الخبرة في ذلك، ولكني أضع الرغبات الآتية:
أولا: نعمل على استغلال الثروة الإسلامية مجتمعين لا متفرقين، فأهل الخبرة الذين يدرسون ويفحصون يكونون من المسلمين، وإن لم يكن منهم من يستطيع وأريد الاستعانة بأهل خبرة من غيرهم فمن الدول التي لم تعرف بالطمع في ينابيع الثروة الإسلامية، وليست عندها الطاقة للسيطرة عليها.
ثانياً: تكون الشركات الاستغلالية، سواء أكانت تجارية أم كانت صناعية برءوس أموال إسلامية، لأن الأجانب لا يريدوننا إلا مسخرين، ولا يلبثون إلا قليلا، حتى يتخذوا أموالهم سبيلا للتحكم فينا، كذلك فعلوا في الماضين ويريدون أن يعيدوه في الحاضر.
ثالثا: يجب أن يكون هناك ارتباط نقدي بين الأقاليم الإسلامية بحيث يسهل التعامل، ولا يمحى النقد الإقليمي، بل يكون لكل بلد نقده، ولكن يكون هناك نقد جامع تنسب إليه النقود الإقليمية بمقاديرها، وتكون لذلك مصارف، لا يكون عملها القرض بفائدة، بل يكون عملها تسهيل التعامل بين المسلمين.
رابعاً: يجب أن تزول كل الحاجزات الجمركية بين الأقاليم الإسلامية، فإنها تكون إتاوات ظالمة، تعوق التعاون، وتقطع الوحدة وتمزقها.
خامساً: يكون للأقاليم الإسلامية حق الأولوية في التعامل، فلا تجلب بضاعة وفي أحد الأقاليم الإسلامية ما يغني عنها، ولو كانت دونها، ولا تصدر بضاعة يحتاج إليها إقليم إسلامي.
سادساً: يجب أن يكون باب الهجرة مفتوحا بين كل البلاد الإسلامية لتعمر كل أراضيها، وتستغل خيراتها، فإن بعض الأقاليم الإسلامية قد ازدحم بالسكان، حتى بلغ حد الكظة، وبعضها أرضه لا تجد من ينتفع بها، وإذا فتح باب الهجرة وأنس كل مسلم بأخيه المسلم في أي بقعة من أراضي الإسلام قامت الوحدة الاقتصادية، وانتفع المسلمون بكل ما عندهم من ينابيع الثروة زراعية، وصناعية، ومعدنية، وإنسانية، وبذلك يعمرون أرضهم، ويعم الخير، ونجيب قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".
المصدر: موقع إسلام أون لاين
1 ـ بينا في المقال السابق (ضرورة الوحدة الثقافية) أثر الوحدة الثقافية في تكوين الوحدة الإسلامية، وقررنا أنه يجب أن تكون ثقافتنا إسلامية موحدة تتصل بمصادر الدين، وتتلاقي على مائدتها من غير تفرقة طائفية، ولا انحياز مذهبي، وأنه لابد في تحقيق هذه الغاية التي تعد أمثل الغايات، وأقوالها تأثيراً من إنشاء معاهد تجمع في دراستها المذاهب الإسلامية كلها من غير تفرقة بين مذهب ومذهب، كما أنه لابد في تكوينها من تلاقي أهل المذاهب جميعاً في صعيد واحد، لكي تزول النفرة القائمة، واعتبار المذاهب الإسلامية كلها تراثاً إسلامياً خالداً، نعني جميعاً بفحصه والاقتباس منه.
2 ـ والآن ننتقل إلى عنصر آخر من عناصر الوحدة الإسلامية، وهو التعارف الإسلامي: إن الإسلام دعا إلى التعارف المطلق بين بني الإنسان، فأولى ثم أولى أن يتحقق التعارف بين أهله، وقد قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".
ولقد عمل أعداء الإسلام في توسيع الهوة بين المسلمين، وتجهيل بعضهم لبعض، وإن علينا وقد استيقظنا من مراقدنا، أن نتخذ الأهبة، وأن نعلم أن وحدتنا في نقيض ما كان يعمل أعداؤنا، وإنه لمن العار علينا كل العار، أن نعرف بلدان أوروبا وأمريكا، وأماكن قوتها، ولا نعرف شيئاً عن بلاد الإسلام، فالمصري لا يعرف باكستان ولا إيران، ولا الأقاليم الإسلامية في الهند، أو في الصين، أو في روسيا، أو في أوربا، فلا يعرف حالهم الدينية، ولا حالهم الاجتماعية والاقتصادية، ولا ينابيع الثروة في بلادهم، ومصادر قوة الإسلام فيها.
وإن سبل التعارف الإسلامي ميسرة سهلة لمن يريدها، ولمن يحتسب النية في سلوكها، وإنا نحصرها في أمور أربعة: أولها: المدارس، وثانيها: تنظيم الرحلات، وثالثها: الحج، ورابعها وهو عمدتها: اللغة.
3 ـ وإنه لتحقيق الأمر الأول يجب أن تكون كل المدارس الإسلامية مشتملة في مناهجها على تاريخ كل بلد إسلامي، وأحواله الاجتماعية، ونظم الحكم فيه، واقتصاده، وجغرافيته، فيدرس ماضيه وحاضره، يعلم ذلك الناشئ إجمالا، ويفصل له في معاهد عليا تدرس فيها الأقطار الإسلامية فأقسام الجغرافيا في كليات الآداب بالجامعات الإسلامية يجب أن يكون منها قسم للتعمق في دراسة جغرافية البلاد الإسلامية، وأقسام التاريخ يجب أن يكون فيها قسم لدراسة تاريخ البلاد الإسلامية بلداً بداً، وأقسام اللغات يجب أن تعني بدراسة اللغات في البلاد الإسلامية.
4 ـ وإنه يجب تسهيل الرحلة إلى البلاد الإسلامية، وبدل أن نذهب إلى أوروبا وأمريكا لنلهو ونلعب ونفسد ديننا، ونحل عراه عروة عروة، نذهب إلى البلاد الإسلامية، وفيه المصطاف والمشتى، وفيها الإيمان والتقوى، فلا تكون رحلاتنا عبثاً لاهياً، بل تكون إيماناً هاديا، وإنه لتحقيق تلك الوسيلة من وسائل التعارف يجب أن تيسر المواصلات، وتتكون من الأقاليم الإسلامية شبكة مواصلات في البر، والبحر، والسماء، فالسيارات تتصل إن أمكن اتصالها، والقاطرات توصل إن أمكن وصلها، والجاريات في البحار تتنقل بالمواني الإسلامية، حاملة أهل الحق ليتلاقوا على نور الله تعالى، والطائرات تقطع أجواز الفضاء، ليصل بين أهل الوحي الذين يلتمسون النور من السماء.
5 ـ والحج سبيل رسمه رب العالمين ومنزل القرآن لنتعارف ونتحاب على مائدة الرحمن الروحية، وقد كان المسلمون الأولون يتخذون منه سبيلاً للتعارف، والدراسات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان هذا اقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه والأئمة الراشدين.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقى خطبة الوداع التي استعرض فيها خلاصة دقيقة للأحكام الإسلامية في عرفة، والأئمة الراشدون كانوا يتولون بأنفسهم رياسة موسم الحج، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتخذه طريقاً لتعرف أحوال المسلمين، وأحوال الولاة، ويلتقى بجميع ولاة الأقاليم فيه، ويتبادل معهم الرأي والشورى في شئون المسلمين، واتخاذ التوصيات اللازمة لإدارة دفة الحكم في الأقاليم عامة، وفي كل إقليم خاصة.
وعلماء الحديث كانوا ينتهزون فرصة الحج ليتبادلوا الرواية، والتقاء التلاميذ بشيوخهم، وأخذ الأقران بعضهم عن بعض، والفقهاء يتلاقون في موسم الحج، ويتذاكرون مسائل الفقه، وكل فقيه يعرض على صاحبه كثيراً مما يسأل عنه في مدرسته، وما ينتهي إليه، فيلتقي أبو حنيفة بمالك، ويتذاكرون، ويقول أبو حنيفة في مالك: ما رأيت أسرع منه بجواب صحيح، ويقول مالك في أبي حنيفة: إنه لفقيه، ويلتقي أبو حنيفة بالأوزاعي، ويتذاكرون، ويلتقى أبو حنيفة بالإمام محمد الباقر، وابنه الإمام جعفر الصادق، ويلتقي الإمام أحمد بالإمام الشافعي.
وهكذا كان الحج في الماضي سبيل التعارف الإسلامي، وإنه يجب علينا أن نعود به إلى ما كان عليه السلف الصالح، فنجمع فيه بين العبادة والنسك، وبين المصلحة العامة للمسلمين، وليتحقق قوله تعالى: " ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ".
وإن تنظيم الحج بحيث يكون سبيلا من سبل التعارف يقتضي عملا من الحكومة الإسلامية القائمة على سدانة البيت الحرام والمسجد النبوي، فإن عليها أن تتعرف بالعلماء الذين يقومون بفريضة الحج، وتقيم ندوات علمية بينهم، فالفقهاء يجتمعون في ندوات تتدارس الفقه، والاقتصاديون يجتمعون في ندوة تتدارس الاقتصاد الإسلامي، والسبيل إلى نموه، وكذلك المهندسون والأطباء، وبذلك يشهد المسلمون منافع لهم وينفذونها.
اللغة العربية:
6 ـ وإنه لا يمكن أن يتحقق تعارف حقيقي بين المسلمين إلا إذا وجدت لغة جامعة، بحيث ينزل المسلم في أي إقليم إسلامي، فلا يتعذر عليه الخطاب، ولا يحتاج إلى مترجم، ولا نقصد بذلك محو اللغات القومية التي انبعثت مع الشعوبية في القرون الخوالي، حتى لا تتحرك العصبيات الإقليمية التي يحاول أعداء الإسلام محاربة الوحدة بتأجيجها، إنما نقصد أن يتعلم المسلم المثقف بجوار لغة بلاده القومية لغة إسلامية هي الجامعة بين المسلمين، وإننا نرى الشباب المثقف في البلاد الإسلامية يتعلم مع لغة قومه لغتين أوروبيتين أو أكثر، فلو قلنا إن على المسلم المثقف أن يستبدل بإحدى هاتين اللغتين لغة تجمع بينه وبين إخوانه المسلمين، ويستطيع التخاطب بها معهم، لا نكون قد قلنا شططاً، ولا نكون قد اعتدينا على قوميته. إننا ننزل في أي إقليم إسلامي فنجد من يستطيع التكلم بالإنجليزية، ويتحدث بها مباهياً مفاخراً بها، بل متعصباً لها، ولا نريد أن نلغي هذه اللغة بالنسبة هؤلاء المتعصبين لها، بل نقول لهم تعلموا معها لغة تمكن إخوانكم المسلمين من أن يخاطبوكم، أفليس من العار أن يتلقى المسلم المغربي بالمسلم الهندي فلا يستطيع أحدهما أن يخاطب الآخر إلا إذا توسط بينهما اللسان الإنجليزي، أو ليس غريبا أن يدعو ربه باللغة العربية، ويخاطب أخاه المسلم بالإنجليزية.
إن وجود لغة جامعة أمر لابد منه، وأي اللغات تكون هي اللغة المختارة؟ إن البداهة تقول إنها العربية، ولسنا ندعو علم الله إليها تعصباً للعرب، ولكن ندعو إليها لأنها لغة القرآن، ولغة السنة، ولغة العبادة الإسلامية، فهل من المسلمين من يصلي بغير قراءة الفاتحة؟ وهل من المسلمين من يكبر بغير اللغة العربية، ومن يتلو القرآن متعبداً بتلاوته بغير العربية؟!!!.
لقد أوجب الإمام الشافعي على كل مسلم أن يعرف قدراً من العربية يصحح به أمر دينه، وبنى ذلك على نزول القرآن بلغة العرب، وإن ذلك القول يتفق مع المعاني الإسلامية، لأنه لا يسوغ لشخص أن يقرأ الفاتحة، ويتعبد بما اشتملت عليه من غير أن يعرف معناها، وكيف يقول في ابتداء صلاته وحركاتها " الله أكبر " من غير أن يعرف معناها؟ وكيف يسوغ لخطيب يخطب على المنبر باللغة العربية لمن لا يفهمونها.
لذلك نجد أن اللغة العربية هي اللغة التي تجمع شمل المسلمين، ولسنا نقول ذلك تعصبا للغة العربية كما أشرنا، بل تعصباً للإسلام، لأن العربية لغة الإسلام، ومن لا يفهمها لا يفهم الإسلام.
وإن اللغة العربية ليست هي لغة العبادة الإسلامية ولا القرآن والسنة فقط، بل هي لغة التراث الإسلامي كله، فالفقهاء على شتى مناهجهم قد دونوا آراءهم باللغة العربية، وكذلك علماء الكلام والتصوف والتفسير، ون ترك اللغة العربية ترك لكنوز الإسلام الفكرية، وكيف يسوغ لنا أن نترك علوم عبد القاهر الجرجاني والأصفهاني والغزالي والرازي والرضي والجصاص، وغيرهم من كبار علماء المسلمين في الشرق والغرب.
نعم إن بعض آثار العلماء كان بغير اللغة العربية، ولكنه نادر بالنسبة للمدون باللغة العربية.
7 ـ وإن هذا التعارف الإسلامي الذي ذكرنا بعض أسبابه، يغذيه وينميه التقريب الثقافي الذي ذكرناه في مقالنا السابق، وإن العناصر كلها متضافرة يقوى بعضها بعضا، ولننتقل إلى العنصر الأخير، وهو السياسي.
الوحدة الإسلامية والاقتصادية:
8 ـ إن هذا العنصر ثمرة لمعاني الدين، وثمرة للعنصرين السابقين، وإنا نتصدى له من غير أن نتعرض للسياسة الإقليمية، لأنه حيث تكلم المتكلم فيها تحركت شكوك، وفي ثغرة الشكوك يجد العدو الباب الذي يؤرِّث منه العداوة بيننا.
ولكن مع هذا لابد من الكلام في الوحدة والسياسة: ولا نوغل في السبيل، بل نكتفي بأن نقرر بأنه يجب أن يكون للمسلمين وحدة سياسية ووحدة اقتصادية، وأن يتكون من المسلمين كتلة متحدة كالجسد الواحد، ويتحقق معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر " وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
وقد يسأل سائل: على أن شكل تكون الوحدة السياسية؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال نقرر ما ذكره القرآن والسنة بالنسبة للروابط التي تربط المسلمين بعضهم ببعض، وهي واجبات متفق عليها بين المسلمين.
9 ـ وأول هذه الواجبات أن نعمل على أن تكون ولاية أهل الإيمان للمؤمنين، فلا نتولى أعداء الإسلام، ولا نجعل لهم ولاية قائمة على المسلمين، أو أي بقعة من بقاعهم، فإن الله تعالى يقرر أنه لا يصح للمؤمن أن يمنح ولايته لأعداء المسلمين، فقد قال تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ".
فلا يصح لإقليم إسلامي أن يوالي من أخرجوا المسلمين من ديارهم، أو أخرجوا طائفة منهم من ديارهم؛ ولا الذين ظاهروا وعاونوا على إخراجهم، ولا الذين يضطهدون المسلمين، ويريدونهم مغنما يغنمونه، ويريدون أن تكون أرضهم مسترادا لجيوشهم ينقضون منها على أعدائهم، لتكون أرض الإسلام طعمة للنيران.
10 ـ وثاني هذه الواجبات أن يمتنع كل رئيس لإقليم إسلامي، أو ملك من ملوك الإسلام، أن يجعل الثقة الذي يثق به في رسم سياسته غير مسلم، فإن ذلك منهي عنه بنص القرآن الكريم، فقد قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، ها أنتم أولاء يحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله، وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم إنه عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، إن الله بما يعملون محيط ".
11 ـ وثالث هذه الواجبات أن المسلمين مجتمعين عليهم بمقتضى الأخوة الإنسانية العامة التي أثبتها الإسلام أن يفضوا النزاع الذي يقع بأنفسهم، وألا يتركوا فئة منهم تبغي على الأخرى، فقد قال تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " ويقول سبحانه في آية أخرى: " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم إن كنتم مؤمنين ".
وإن هذا بلا شك يوجب أن يكون المسلمون أمة واحدة كما قال تعالى: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " وأنه يجب أن تتكون من بين المسلمين جماعة تمثلهم، وتحل مشاكلهم التي تثور بينهم، وتقضي بالحق في كل ما ينجم بين الجماعات الإسلامية، ولا يترك القوى يلتهم الضعيف.
12 ـ والواجب الرابع: أن المسلمين جميعاً عليهم أن يعتبروا الاعتداء على أي إقليم إسلامي اعتداء على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن كل شبر في أرض إسلامية لكل مسلم فيه حق يوجب عليه أن يدافع عنه، فمن اعتدى على إقليم إسلامي فقد اعتدى على المسلمين أجمعين، ومن أخذ شبراً من إقليم فقد انتقص من أرض المسلمين جميعاً.
ولقد قاتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرومان لأنهم قتلوا بعض الذين دخلوا في الإسلام من المسلمين، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه " وإن هذا هو مقتضى الولاية التي تربط المسلمين بعضهم ببعض وإن القرآن قد صرح بوجوب نصرة أي جماعة مؤمنة تستنصر عامة المؤمنين، ولقد قال تعالى: " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر".
13 ـ والواجب الخامس على المسلمين: أن يعملوا على منع إذلال المسلمين، فيجب على المؤمنين أن يقاتلوا الذين يذلون بعض المؤمنين ويستضعفونهم، حتى يخرجوهم من ربقة الذل إلى الحرية، ليكونوا مع المؤمنين قوة، ولتكون كلمة الله هي العليا، وليمنع المسلمون من أن يفتنوا في دينهم الذي ارتضوا، ولقد قال تعالى: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيراً ".
وإن هذا الواجب يتقاضى كل إقليم من أقاليم الإسلام أن يتضافر مع غيره لإخراج الظالمين من أي ارض من أراضي الإسلام، إذ أنهم يسومون أهلها الخسف والهوان والذل، ويفرضون عليهم الطغيان، وإنا إن لم نفعل لا نكون آخذين بمبادئ الإسلام، ولا نكون أمة واحدة، ولا مطيعين للقرآن.
14 ـ هذه واجبات يجب أن تتحقق، لأنها حكم الديان، نطق بها القرآن، وأي شكل من الأشكال تتحقق فيه هذه المعاني ندعو إليه، وإنا ندعو إلى الحد الأدنى، ولا ندعو إلى الحد الأعلى، فلا ندعو إلى تكوين دولة إسلامية، لأن الأقاليم الإسلامية في بقاع الأرض ليست متجاوزة متلاصقة، ولا توجد حاضرة تصلح قطبا تدول عليه أحكام الدولة، ولأن كل إقليم له طابعه الذي يمتاز به، ويحتاج إلى أحكام ونظم مناسبة، وفوق ذلك لا يصح أن ندعو إلى دولة واحدة، حتى لا ينزعج أحد، فلا يخشى ملك على حوزته، ولا رئيس على صولته، وحتى لا يجد الأعداء منفذاً ينفذونه، فتموت الوحدة في مهدها.
ولذا نرى أن تكون الوحدة في شكل جامعة إسلامية، أو كومنلوث إسلامي.
وسواء أكان هذا أم كان ذاك، فإنه يتحقق في هذه الوحدة اتحاد السياسة الخارجية في كل الأقاليم الإسلامية، بحيث يوالي كل إقليم إسلامي من يوالي المسلمين وبحيث يعتبر الاعتداء على أي دولة إسلامية اعتداء على الأمة الإسلامية كلها، كما أنه يجب أن تحل المشاكل التي تقع بين الأقاليم الإسلامية بعمل المسلمين، ويجب أن تقاطع كل دولة تعتدي على إقليم إسلامي أو تحاول الاعتداء عليه.
وإنه يجب أن تكون أحكام الجامعة الإسلامية أو ما يشبهها في دائرة المبادئ الخمسة التي قررها الإسلام، وهي التي تعتبر ثابتة في هذا الدين بالضرورة، وتكون قرارات هذه الجامعة أو ما يكون على شكلها نظاماً يتبع ولا يكون أقوالا تردد، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
اقتصاد إسلامي:
15 ـ ولا يدعم الوحدة إلا اقتصاد إسلامي، لأن قوى الأمم في هذه الحياة تقوم على الاقتصاد، والعالم الآن يسيره الاقتصاد، فهو الذي يبعث الحروب، إذ الحروب الكثيرة الآن ليست إلا نزاعا على ينابيع الثروة، فحيث كانت الينابيع اشرأبت الأعناق، وتحركت المطامع، وكان التناحر على الوصول إليها، أو الاستحفاظ عليها، ولقد صارت ينابيع الثروة التي في ارض المسلمين وملكهم موضع تنافس أعدائهم، يلقون إليهم بفتاتها المتساقط، ويجعلون من المسلمين آلات الاستغلال، فهم مسخرون، والنتائج لغيرهم، وما يبقونهم إلا لهذه السخرة.
ولا يرفع عنا ذلك النير الثقيل إلا التعاون الاقتصادي بين الأقاليم الإسلامية، وإني لا أستطيع أن أرسم منهاجاً اقتصادياً، لأني لست من أهل الخبرة في ذلك، ولكني أضع الرغبات الآتية:
أولا: نعمل على استغلال الثروة الإسلامية مجتمعين لا متفرقين، فأهل الخبرة الذين يدرسون ويفحصون يكونون من المسلمين، وإن لم يكن منهم من يستطيع وأريد الاستعانة بأهل خبرة من غيرهم فمن الدول التي لم تعرف بالطمع في ينابيع الثروة الإسلامية، وليست عندها الطاقة للسيطرة عليها.
ثانياً: تكون الشركات الاستغلالية، سواء أكانت تجارية أم كانت صناعية برءوس أموال إسلامية، لأن الأجانب لا يريدوننا إلا مسخرين، ولا يلبثون إلا قليلا، حتى يتخذوا أموالهم سبيلا للتحكم فينا، كذلك فعلوا في الماضين ويريدون أن يعيدوه في الحاضر.
ثالثا: يجب أن يكون هناك ارتباط نقدي بين الأقاليم الإسلامية بحيث يسهل التعامل، ولا يمحى النقد الإقليمي، بل يكون لكل بلد نقده، ولكن يكون هناك نقد جامع تنسب إليه النقود الإقليمية بمقاديرها، وتكون لذلك مصارف، لا يكون عملها القرض بفائدة، بل يكون عملها تسهيل التعامل بين المسلمين.
رابعاً: يجب أن تزول كل الحاجزات الجمركية بين الأقاليم الإسلامية، فإنها تكون إتاوات ظالمة، تعوق التعاون، وتقطع الوحدة وتمزقها.
خامساً: يكون للأقاليم الإسلامية حق الأولوية في التعامل، فلا تجلب بضاعة وفي أحد الأقاليم الإسلامية ما يغني عنها، ولو كانت دونها، ولا تصدر بضاعة يحتاج إليها إقليم إسلامي.
سادساً: يجب أن يكون باب الهجرة مفتوحا بين كل البلاد الإسلامية لتعمر كل أراضيها، وتستغل خيراتها، فإن بعض الأقاليم الإسلامية قد ازدحم بالسكان، حتى بلغ حد الكظة، وبعضها أرضه لا تجد من ينتفع بها، وإذا فتح باب الهجرة وأنس كل مسلم بأخيه المسلم في أي بقعة من أراضي الإسلام قامت الوحدة الاقتصادية، وانتفع المسلمون بكل ما عندهم من ينابيع الثروة زراعية، وصناعية، ومعدنية، وإنسانية، وبذلك يعمرون أرضهم، ويعم الخير، ونجيب قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".
المصدر: موقع إسلام أون لاين
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» وحدة الأمة و اتحادها قراءة تاريخية و معاصرة/ بقلم : د. أحمد طويل
» وحدة الأمة والحقد المقدس
» الطريق إلى وحدة الأمة / الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
» كتاب تاريخ المذاهب الاسلامية للعلامة محمد أبو زهرة
» التقريب بين المذاهب الإسلامية رسالة العقلاء في الأمة
» وحدة الأمة والحقد المقدس
» الطريق إلى وحدة الأمة / الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
» كتاب تاريخ المذاهب الاسلامية للعلامة محمد أبو زهرة
» التقريب بين المذاهب الإسلامية رسالة العقلاء في الأمة
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى