مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
صفحة 1 من اصل 1
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي بقلم : محمد الناصر
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونصلي
ونسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد :
فإن الشعر الجاهلي ... شعر قديم متصل الحلقات يصور حياة العرب قبل
الإسلام ، فهو سجل العواطف والمفاخر ، سجل العصبيات والحروب ، فيه أيام
العرب ووقائعهم ، وتدوين لأصولهم وأنسابهم ، يقول أبو هلال العسكري [1] :
(لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارهم
فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها) .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه) [2] .
وللشعر منزلة عظيمة عند العرب وللشاعر مكانة لا تضاهى [3]، فإذا نبغ في القبيلة شاعر هنأتها القبائل ، وصنعت الأطعمة ، وأعلنت الأفراح ... لأنه حماية لأعراضهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم ، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج [4] .
وما تكاد القصيدة تلقى حتى تسير بها الرواة ، وتنشدها المجالس ، قال
المسيب بن علس [5] :
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
فقصيدته تنشر بين القبائل ويرددها الناس مستمعين لها ومتمثلين بأبياتها .
والأمثلة كثيرة لشعراء حموا أعراض قبائلهم ، ولشعراء تشفعوا لقبائلهم ، أو
لأفراد منها فشفعوا ، وشعراء رفعوا الوضيع ووضعوا الرفيع ...
فالأعشى يقدم مكة ويمدح المحلَّق ويذكر كرمه وشرفه وحسن صفاته بعد فقر
وخمول ذكر ... ثم تحدث عن بناته فقال :
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذيم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق
فما إن أتم قصيدته حتى انسل الناس إلى المحلق يهنئونه ، والأشراف من كل
قبيلة يخطبون بناته العوانس فلم تمس منهن واحدة إلا عصمة رجل أفضل من أبيها
ألف ضعف [6] .
وكان بنو أنف الناقة يأنفون من هذا اللقب حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
صار اسمهم شرفاً لهم .
ولقد كانت القبيلة تحرص على رواية شعرها فتعلم صغارها الشعر وحفظ
أشعار القبية خاصة ، كما كانت تفعل تغلب في تحفيظ أبنائها معلقة عمرو بن كلثوم ، فهجاها شاعر بكر بقوله :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... يروونها أبداً مذ كان أولهم
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ... يا للرجال لشعر غير مسلوم [7]
وفي الإسلام يأذن الرسول عليه الصلاة والسلام لحسان بن ثابت أن يهجو
كفار قريش ، وقال : « اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم
ثم اهجهم وجبريل معك » [8] .
وفي السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان - رضي
الله عنه - : « لشعرك أشد عليهم من وقع النبل » ، مما يبين لنا أهمية الشعر
في الذب عن الدعوة وأصحابها .
وبعد هذه الشواهد ، والأمثلة في مصادر الشعر كثيرة ، يتبين لنا مدى اهتمام
العرب بالشعر ، فهو خير مصدر لتصوير حياتهم ، وهو ديوان العرب كما عرفنا ،
ولذلك يمكننا استخراج مفهوم الحياة الجاهلية ، في مختلف مظاهرها من هذا الشعر ، ثم من ردود القرآن الكريم على الانحراف حيناً لتقويمه وإنكار السلبيات المطلقة
حيناً آخر ...
ولقد حاولت الرجوع إلى المصادر الموثقة للشعر الجاهلي كالمفضليات
والأصمعيات والمعلقات وطبقات فحول الشعراء والشعر والشعراء ... وغيرها
لتكوين صورة واضحة لما كان عليه القوم في جاهليتهم من مصادر الشعر أولاً
وكتب السيرة والتاريخ التي وصفت لنا حياة أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم بنور
الإسلام .
وسترى بعونه تعالى أن كثيراً من مظاهر حياتنا الحديثة وما فيها من عادات
وتقاليد ما هي إلا امتداد لمفهوم الجاهلية العربية ... جاهلية ما قبل الإسلام ...
تحديد العصر الجاهلي :
قد يتبادر إلى الذهن أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب ،
ولكن البحث يظهر أن الأدب الجاهلي يعود إلى قرن ونصف قبل البعثة النبوية ،
يقول الجاحظ [9] :
(أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن ... فإذا استظهرنا الشعر
وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام ، وإذا استظهرنا بغاية
الاستظهار فمائتي عام) .
وما قبل هذا التاريخ قد يشوبه الغموض ولا يعطينا صورة واضحة عن الحياة
الجاهلية مثل إمارة الغساسنة ثم المناذرة ، ومملكة كندة في شمالي نجد ...
ومعلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة [10] .
والسيد محمود شكري الألوسي يحدد فترة الجاهلية بقوله : (وهي الزمن بين
الرسولين ، تطلق على زمن الكفر مطلقاً ، وعلى ما قبل الفتح وعلى ما كان بين
مولد النبي والبعث) [11] .
وعلى العموم فإن الفترة الجاهلية التي تعنينا هي فترة ما قبل بعثة الرسول -
عليه الصلاة والسلام- ، وهي لا تمتد أكثر من مائتي عام ، لأن ما وراء ذلك من
الزمن يشوبه الغموض ولم يصل إلينا من الشعر الجاهلي قبل تلك الفترة شيء
نطمئن إليه .. وفترة ما قبل الإسلام مباشرة هي الفترة التي ورثنا عنها الشعر
الجاهلي ... وهذا العصر هو الذي بزغت عيه شمس الإسلام ، وصور القرآن
الكريم وأحداث السيرة ، كثيراً من معالمه وصراع الحق مع الباطل وزيفه .
معنى الجاهلية :
أ - في كتب اللغة والأدب :
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مادة : جهل تعني الجهل الذي هو خلاف
العلم ... وقد جهل فلان جهلاً وجهلة .
وتجاهل : أي أرى من نفسه ذلك وليس به .
واستجهله : عده جاهلاً واستخفه أيضاً .
والمجهلة : الأمر الذي يحملك على الجهل .
والمجهل : المفازة لا أعلام فيها [12] .
وفي المعجم الوسيط : جهلت القدر جهلاً : اشتد غليانها ، وجهل على غيره
جهالة وجهلاً : قسا وتسافه ، وجاهله : سافهه .
وفي القرآن : [ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ] .
والجاهلية ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة .. والمجهلة :
ما يحمل الإنسان على الجهل وجاء في الحديث الشريف : « الولد مبخلة مجبنة
مجهلة » .
وهكذا (نتبين أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه ، إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة الإسلام
التي تدل على الخضوع والطاعة لله عز وجل وما يطوى فيها من سلوك خلقي
كريم) [13] .
وقد تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم وليس ضد العلم إلا أن
العصر الجاهلي عرف كثيراً من الناس عرفوا بالحلم والتسامح مثل قيس بن عاصم ، والأحنف بن قيس ، وغيرهما حتى ضربت بحلمهما الأمثال [14] ....
وجاء في معلقة عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي لا يتسافه أحد علينا ... وقد يتضمن البيت معنى الظلم والطيش .
ب - وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بهذا المعنى ، معنى
الحمية والطيش والغضب ، ففي سورة البقرة : [ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ] ، وفي سورة الأعراف : [ خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ] .
وفي الحديث الشريف : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال لأبي ذر ،
وقد عير رجلاً بأمه : « إنك امرؤ فيك جاهلية » . أي فيك روح الجاهلية وطيشها
تغضب فلا تحلم .
والذي يظهر لنا أن الجاهلية كانت تعني الجهل لمعنى تجاوز الحق وعدم
معرفته ، وتعني أيضاً الحمية حمية الجاهلية بما فيها من ثأر وطيش وحمق وسفه
وكبر .
وأصبحت تطلق على العصر السابق للإسلام مباشرة ، وكل ما فيه من وثنية
وأخلاق قوامها الحمية واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات [15] .
أما تعبير الجاهلية في كتاب الله فقد جاء في تفسير هذه العبارة في الآية : [ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ] [16] .
(ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي
عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها
الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان من أهل الجاهلية يحكمون به من
الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم) .
وجاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله - :
(فالجاهلية كما يصفها الله ويحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي
عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في
مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله) .
ثم يقول - رحمه الله - أيضاً :
(إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع
يوجد بالأمس ، ويجد اليوم ، ويوجد غداً ، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام ،
والمناقضة للإسلام ... فالعبودية لغير الله جرت أهل الجاهلية إلى كل الضلالات
السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد) [17] .
وهي بناء على ذلك تعني مفهوم الضلالات ، والسفه ، والطيش ، وتحكيم
العادات والتقاليد ، بعيداً عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة
الاجتماعية ، وتتلون بشعارات براقة كثيرة ، قد تخدع وتسيطر على العقول عندما
تضعف آصرة العقيدة ، والتوحيد وتحكيم شرع الله .
وسنتابع هذا المفهوم ، مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي يصور لنا حياة
العرب قبل الإسلام في حروبهم وثاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم وخرافاتهم ،
مما سنجمله في الفصول التالية بإذنه تعالى :
1-الأول : الحياة السياسية أو الصراع القبلي .
2-الثاني : الحياة الاجتماعية ، وما فيها من عادات وتقاليد .
3-الثالث : الحياة الدينية ، وما فيها من عقائد وتصورات وخرافات .
4-الرابع : الحياة الاقتصادية وأمور حياتهم ومعاشهم .
الفصل الأول
الحياة السياسية عند العرب
أو : الصراع القبلي
أ - لمحة موجزة عن حياة العرب قبل الإسلام :
إن العرب ينحدرون من أصلين كبيرين : قحطان وعدنان [18] .
1 - عرب الجنوب :
وكان موطن قحطان باليمن ثم تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان ، وكان منهم قبيلة حمير ومنها قضاعة ، ومنهم كهلان وأشهرهم
طيء وهمدان وكندة ولخم والأزد ، وأولاد جفنة ملوك صحراء الشام .
هاجرت هذه القبائل بعد انهيار مأرب عام (120ق . م) فسكنت الأزد المدينة ، وكان منها الأوس والخزرج ، ومنهم من نزل على ماء غسان في الشام وأسسوا
إمارة الغساسنة والموالية للروم ، أما لخم فقد سكنت الحيرة ، واصطفتهم فارس إلى
جوارها وبقي في اليمن كثير من قبائل حمير وكندة وغيرهم .
ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت غالباً جوار الأمم المتحضرة ويذكر
المؤرخون أن عرب الجنوب كانت لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل
وتشييد السدود وكانوا يؤلهون الكواكب والنجوم .
2- عرب الشمال :
وكان موطن عدنان مكة المكرمة وما جاورها من أرض الحجاز وتهامة ، وقد
تشعبت بطون هذا الفرع من نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل - عليه
السلام - .
ثم هاجرت بعض هذه البطون إلى مواطن الخصب والكلأ .. فنزلت ربيعة
شرقاً ، فأقامت عبد القيس في البحرين ، وحذيفة في اليمامة ، وأقامت سائر بكر بن
وائل ما بين البحرين واليمامة ، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة
بين دجلة والفرات ، وسكنت تميم في بادية البصرة .
وأما فرع مضر بن معد بن عدنان : فقد نزلت سُليم بالقرب من المدينة
وأقامت ثقيف في الطائف ، واستوطنت ساذر هوازن شرقي مكة المكرمة ، وسكنت
أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حورا[19].
وبقيت معيشة هذه القبائل صحراوية بدوية ، ولم تهيء لهم هذه الحياة
الاستقرار إلا في بعض الواحات في الحجاز .. ويظهر أن عرب الشمال لم ينجحوا
في وحدة سياسية قبل الميلاد ، فطبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق [20] .
3- القبائل العربية :
النظام القبلي :
وهكذا (استقرت القبائل العربية في الجزيرة وتجاور العدنانيون والقحطانيون ،
ولم يكن لهذه القبائل دولة تشمهم ، ولا نظام موحد يسودهم بل كانت كل قبيلة تكون
وحدة اجتماعية وسياسية مستقلة) .
(وكانت هذه القبائل متشابهة في تكوينها ونظامها ، فكل قبيلة تقوم على أساس
اشتراك أبنائها في الأصل الواحد والموطن الواحد . والرباط الأقوى في القبيلة هو
العصبية ، والعصبية كما يعرفها ابن خلدون في مقدمته : « النصرة على ذوي
القربى وأهل الأرحام أن ينالهم أو تصيبهم هلكة) .
(وأفراد القبيلة متضامنون كلهم في المصائب والمسرات فقالوا : في الحرب
تشترك العشيرة) .
(ثم نشأ عن طبيعة الجزيرة العربية وحتمية انتقال العرب وراء الماء وطلباً
للكلأ ، نشأ النظام القبلي كضرورة اجتماعية ، وحيوية حتى يتنقلوا في جماعات
عشائر توفر لأفرادها الحماية والأمن .. ولم يقتصر وجودها على البادية بل تعداها
إلى الحواضر على قلتها وتناثرها في الصحراء المترامية) [21] .
ولقد كانت هيمنة القبيلة هي الأساس في البادية والحاضرة حيث أن (هذه
القبائل لم تفقد صورتها القبلية فقد ظل لكل منها منازلها الخاصة ومعاقلها الصغيرة ،
وسيادتها وشئونها الخاصة ، ومرد ذلك إلى أن رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة
المدينة حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها) [22] .
فوحدة القبيلة كانت أمراً مقدساً ترتب عليه طائفة من التقاليد يحدد علاقة
الأفراد مع بعضهم .. وعلاقة الأفراد بقبائلهم لأن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي
عرفها المجتمع الجاهلي في البادية والمدن .. وكان أفراد القبيلة يؤلفون أسرة واحدة
قائمة بذاتها لا اختلاط فيها ، متجانسة لا تباين بين أفرادها .. يعمل الجميع في
سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها [23] .
العصبية :
وقد آمنت القبيلة بوحدتها وجعلت ذلك أمراً مقدساً ، ترتب عليه طائفة من
التقاليد الاجتماعية ، تحدد واجبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية ، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالماً أو مظلوماً .
ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون
الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة ، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل
اعتبار .
يقول دريد بن الصمة [24] :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فالشاعر يرى رأي قبيلته غزية ، بل يتنازل عن رأيه من أجل رأيها ، ولو
كان خطأً .. فغيه وضلاله ، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها ، وأمعن في ضلاله ، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه .
والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله [25] :
حدبت علي بطون ضبة كلها ... إن ظالماً فيهم وإن مظلوماً
وعلى الفرد أن يحترم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سبباً في تمزيق
وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق ، ولذلك اتخذت
القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفرادها إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض
أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم
للأخلاق آنذاك ، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي [26] .
شيخ القبيلة :
فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة
ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به ، وشيخ القبيلة
يكون عادة شيخاً مجرباً هو سيدها له حكمة وسداد رأي وسعة في الثروة .. وهو
الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها ، ويستقبل وفود القبائل الأخري ، ويعقد
الصلح والمحالفات ويقيم الضيافات ، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء
كليب التغلبي عندما بغى وطغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سبباً في
نشوب حرب البسوس المشهورة .
ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها ، كالشجاعة والحسب والكرم
والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة
وما تدفعه من ديات ، وغالباً يرث الشيخ سيادته عن آبائه [27] ، وإلى ذلك يشير
معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول [28] :
إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد ، لهم مجد أشم تليد
ألفوا أباهم سيداً وأعانهم ... كرم وأعمام لهم وجدود
نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها ، وتغفر ذنبها وتسود
وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به ، وإذا تعود نعود
ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفاً لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سيد
بني شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته [29] :
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية ، والصفايا جمع
صفية وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة ، والنشيطة ما أصابه
الجيش في طريقه قبل الغارة من فرس أو ناقة ، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو
الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام .
الاعتزاز بالأنساب والقوة :
ولقد آمنت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم
قبيلة أخرى ، وهم يفضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات ،
وهم أجدر الناس أن يكونوا خير الناس ، ولعل هذا ما يفسر لنا تلك المنافرات التي
امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي ، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد
شعرائه [30] .
ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب ، والفخر بالآباء ،
والأجداد [31] حيث يقول :
1- ورثت مهلهلاً [32] والخير منه ... زهيراً نعم ذخر الذاخرينا
2- وعتاباً وكلثوماً جميعاً ... بهم نلنا تراث الأكرمينا
3- ومنا قبله الساعي كليب ... فأي المجد إلا قد ولينا
ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول :
4- ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العازمون إذا عُصينا
5- ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا
6- وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أتينا
7- وأنا الشاربون الماء صفواً ... ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون
بلا رادع حيث يقول :
8- لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حيث نبطش قادرينا
9- إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الخسف فينا
والمعلقة كلها ضجيج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها
الجاهلية المتغطرسة ، انظر إليه حيث يقول :
10 - إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
11 - ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا
12- ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق
البحر بسفنهم ؟ ! ، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجوداً ومذلة .
والشواهد كثيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن
جبروت الجاهلية وغطرستها .
فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول [33] :
هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ... ولنا فواضلها ومجدُ لوائها
ثم يفتخر بقوة قومه في الحروب ، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال
أجود ذوو مروءة ، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول [34] :
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآمية ... وخير ناد رآه الناس نادينا
فهم أصحاب حروب وقرى .
وطرفة بن العبد يفتخر بقبيلته بكر ويتحدث عن كرمها وقوتها وحسبها إذ
يقول [35] :
1- ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يُسُر
2- ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وُقر
3- ولقد تعلم بكر أننا ... صادقو البأس وفي المحفل غر
والشاعر لبيد بن ربيعة يفخر بأحساب قومه وشرفهم في معلقته ، فالمجد فيهم
قد سنَّه آباؤهم وعلموهم إياه فتبعه صغارهم بعد كبارهم إذ يقول [36] :
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سُنَّة وإمامها
فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
وكانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى لذلك يحزن الشاعر
ذو الإصبع العدواني على تفرق قومه بني عدوان واختلافهم بعد ائتلافهم واتحادهم
فيقول [37] :
1- عذير الحي من هذوا ... من كانوا حية الأرض
2- بغى بعضهم بعضاً ... فلم يُرعُوا على بعض
3- ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض
وعدوان من قيس عيلان بن مضر بن نزار ، كانوا من أعز العرب وأكثرهم
عدداً ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا .
إن الأنساب مهمة وأساسية في حياة العربي آمن بها إيماناً شديداً ، وصارت
علماً عندهم إذا رأوا فيه ما يراه الناس في الوطن الآن .
والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية ،
وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكاً شديداً ، الرابط
الوحيد بين أفرادها هو العصبية ، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن
إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه ، ولا سلطة يتحاكم إليها ، والعصبية قبلية ليس فيها
شعور واضح بالجنس العربي العام ، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة
ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية .. ولم ينفذ هؤلاء جميعاً إلى فكرة الأمة
العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد ، إنما كل ما
هنالك اتحاد قبلي له رئيس [38] ، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات .
وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد
القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيراً ما
تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب ... فكل قبيلة مستعدة دائماً
للحرب والإغارة وهلأ دائماً شاكية السلاح ، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم
الأعلى .
هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية .
الإمارات العربية في شمال الجزيرة [39] :
أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق ، في تخوم الشام حيث أسس
الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم
على أطراف بلاد فارس .. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا
درعاً واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية ، وكثيراً ما وقعت
الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم ، وبدوافع قبلية أخرى .
(1) لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة ، وكان قد
تنصر ثم خلفه ابنه المنذر ، ومن ملوكهم الحارث الأصغر ، وكانت جيوش
الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد ، وبني فزارة ، وقع كثير من أسرى
القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر ، فقصده النابغة الذبياني يمدحه
متوسلاً إليه في فكاكهم ، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول [40] :
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت - رضي الله عنه - ، وقد كان ينزل به
وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم [41] :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
(2) أما المناذرة : فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا ، حيث رحلت
قبائل لخم وتنوخ ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم ،
ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (514 - 554م) ، وامتد سلطانه على عدد
من قبائل نجد وكان له يومان : يوم نعيم ، ويوم بؤس ، وممن قتل في يوم بؤسه :
الشاعر عبيد بن الأبرص ، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ
عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه
الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج ، ثم سار
الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها [42] ، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند ،
وكان طاغية مستبداً ، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول [43] :
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته [44] :
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً ... متى كنا لأمك مقتوينا [45]
ومن ملوكهم : النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس ، وقد امتد سلطانه
إلى نجد والبحرين وعمان ، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سبباً في حروب
شغلت قبائل قيس ردحاً من الزمن ، ويقال : إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب
قتله عدي بن زيد العبادي .. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته
ومنها قوله [46] :
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار
بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب .
لقد أدت هاتان الإمارتان دورهما في خدمة سادتهما خير أداء ، فقد بطش
ملوكهم بقبائل العرب بطشاً مريعاً ففي يوم أوارة الأول مثلاً يبطش المنذر بن ماء
السماء بقبيلة بكر ؛ لأنها رفضت طاعته ، ويقتل منها خلقاً كثيراً بعد حرب دامية ،
ثم أسر منهم عدداً كبيراً وأمر بهم أن يذبحوا على جبل أوارة حتى جعل الدم يحمد
وأمر النساء أن يحرقن بالنار [47] .
وابنه عمرو بن هند وضع ابناً له عند سيد بني تميم زرارة بن عُدس ، وكان
صغيراً ، خرج يصطاد بعد أن أصبح رجلاً ، ومر بإبل لزوج ابنة زرارة وأمر
ببكرة منها فنُحرت ، وكان صاحب الإبل نائماً فلما انتبه ضربه بعصا ولم يعرفه
فمات .. فخرج سويد صهر زرارة هارباً إلى مكة المكرمة ، وهرب زرارة أيضاً
إلى أن قيل له : ائت الملك واصدقه .. فجاء الملك وأخبره الخبر فقال : جئني
بسويد ، قال : قد لحق بمكة ، قال : فعلي ببنيه ، فأتي ببنيه السبعة من ابنة زرارة
وهم غلمة بعضهم فوق بعض فأمر بقتلهم ، تناولوا أحدهم فضربوا عنقه ، فتعلق
الآخرون بزرارة ، فقال زرارة : يا بعضي سرّح بعضاً ، ثم قتلوا ، وآلى عمرو
ليحرقن من بني درام مائة رجل .. فبعث بجيش على مقدمته عمرو بن ملقط الطائي
فأخذ ثمانية وتسعين منهم - من بني دارم - ولحقه عمرو بن هند في الناس حتى
انتهى إلى أوارة وهو جبل من ناحية البحرين .. وأمر الملك بأخدود فخد لهم ثم
أضرم ناراً ثم قذف بهم في النار ، ومن هنا سمته العرب : محرقاً [48] .
وبقي أمر الحيرة مضطرباً بعد مقتل أبي قابوس ، حتى فتحها المسلمون ،
وأذعنت لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - .
- وهناك إمارة كندة : في شمال نجد في دومة الجندل ، ومن أشهر ملوكهم
حجر الملقب بآكل المرار ، وقد سيطر على القبائل الشمالية في نجد واليمامة ، ثم
جاء بعده حفيده الحارث الذي عين أبناءه على قبائل نجد ، منهم ابنه والد امرئ
القيس (حجر) الذي ساءت سيرته في بني أسد فقتلته بعد أن انهزمت كندة وغنمت
أسدٌ أموالهم وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص [49] :
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين ! أينا
وأمضى امرؤ القيس بقية حياته مستعيناً بقبائل العرب من حمير وطيء يريد
أن يثأر من بني أسد ، ويستعيد ملك آبائه ، فلم يشتف ، واتجه إلى قيصر الروم
ولقي حتفه بينما كان راجعاً .. ومن شعره في ذلك [50] :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
مكة المكرمة وغيرها من مدن الحجاز [51] :
تقوم مكة المكرمة في منتصف الطريق المعبد بين اليمن والشام حيث تمسك
بزمام القوافل التجارية وتعتبر أكبر مركز ديني للوثنية عند العرب .
لقد كانت مسكناً لجرهم وبقايا الأمم البائدة ، ثم سكنها إسماعيل - عليه الصلاة
والسلام - وأصهر إلى قبيلة جرهم ، ثم أجلت قبيلة خزاعة قبيلة جرهم عن مكة
المكرمة .
ثم نزلها قصي ومعه قبيلة قريش وأصهر إلى خزاعة ، وأساءت هذه القبيلة
إلى البيت العتيق فأخرجها قصي ومن معه .
كان قصي بن كلاب مطاعاً في قومه ، سيداً رئيساً معظماً ، ولي البيت وأمر
مكة وجمّع قومه من منازلهم المتفرقة ، وتملك على قومه فملكوه ، وأقر العرب على
ما كانوا عليه من النسيء والإجازة من مزدلفة .. حتى جاء الإسلام فهدم به الله كل
ذلك .. وكانت إلى قصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء ، فجاز شرف
مكة كله ، وقطع مكة رباعاً بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة .
قال قائلهم في مدح قصي وشرفه [52] :
قصي لعمري كان يُدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
همو ملأوا البطحاء مجداً وسؤدداً ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر
لم تدن مكة لأي ملك أجنبي ، وفي ذلك يقول حرب بن أمية [53] :
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتنزل بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش
(ولم يؤد أهل مكة في الجاهلية إتاوة قط ، وفرضوا على العرب قاطبة أن
يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم ، وهم بعد أعز العرب فيتأمرون عليهم ... قاطبة) [54] .
وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم ، مما يؤكد زعامة قريش
ومكانتها عند العرب ، فمكة بيت كعبتهم ، وبيت تجارتهم ، أقاموا حولها الأسواق
التجارية ، كسوق عكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز ، وكان يعرض فيها الشعر والأدب
أيضاً ، وفيها - في مكة - دار الندوة ، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها
الدينية والتجارية ، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من
الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبلياً على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط
بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان
لعشيرة على عشيرة .
كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب
والعادة ، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية [55] .
وكانت الطائف مصيفاً جميلاً يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة
والخمرة الصافية ، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية ، وكانت حياتهم لا تختلف عن
حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من
الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة .
أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني
الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين ، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا
العربية لغة لهم في حياتهم اليومية ، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية ،
وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف .
بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس
والخزرج من اليمن ، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين ، وكانوا وثنيين يحجون إلى
مكة وأصنامها ، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون
على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة .
كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة
يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية ...
كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم
حاطب ويوم فارع ، والبقيع ، ويوم بُعاث وغيرها [56] .
وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم
برسوله ، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً .
وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء ، ومازالوا بها
حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الجزيرة كلها
وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصراً لامرئ
القيس .
ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعاً
ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها [57] .
هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في
القبائل والمدن ، لم نجد بينها فرقاً يذكر ، حيث إن النظام القبلي ، هو الذي كان
يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها .
وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب ، والأحلاف وعادات الثأر
والأسر والسبي والصلح والسلم ، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم .
الحروب في الجاهلية :
أ - أسبابها [58] :
إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية ، أو على
المحالفة والنصرة .
ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب ؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها ؟ لوجدنا
أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه
الأسباب ، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء
يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها [59] .
وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة ؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم
في رماحهم ، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم ،
وديدنهم في السلب والغارة [60] :
وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على
غزوهم :
(البسوا جلود النمر ، والثبات أفضل من القوة ، أهنأ الظفر كثرة الأسرى ،
وخير الغنيمة المال) [61] .
فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان
بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها .
يقول سلامة بن جندل : إن بقاؤه بعيداً عن الغزو ، سيؤخره عن جمع الإبل
التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها [62] :
تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً ... إلى الرّوع يوماً تاركي لا أبا ليا
دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا ... من الحدثان والمنية واقيا
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ... ترى ساقييها يألان التراقيا
وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعياً وراء الشهرة والسيادة ،
فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالاً ، وإذا كان الحكم خبيراً بما سيجره
حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر
بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين .
وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالماً أو مظلوماً ، على الحقيقة
وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته ، وربما عير الشاعر قبيلته من
جراء تخليها عن نصرته ، قال قريط بن أنيف ، وكان بعض بني شيبان أغار على
إبله ، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم ... فأنجدوه [63] :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لهبّ لنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرساناً وركبانا
وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما
حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج .
وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض ، أو الأخذ بالثأر ، أو بسبب
المنافسة على رئاسة وزعامة ، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب
وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث
قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء ، التي استمرت أربعين
سنة ، بسبب سباق بين فرسين .
ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار ، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد
نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى .
ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول :
(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة ، وإما عدوان ، وإما غضب
لله ولدينه ، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده ، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل
المتجاورة والعشائر المتناظرة ، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم
الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا
أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم .. والثالث وهو المسمى في
الشريعة بالجهاد ، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين ... لطاعتها .. ) [64] .
ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف :
لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية ، أنها كانت حياة حربية تقوم على
سفك الدماء .. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم ، فهم دائماً قاتلون
مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم .
وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها ، بل
يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم [65] .
يقول زهير بن أبي سلمى [66] :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل[67]
فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم ... وكانوا قديماً من مناياهم القتل
فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم ، وتدور رحى الحرب
فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم ، يقول
دريد بن الصمة [68] :
وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيُشتفى ... بنا إن صبنا أو تُغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائماً واترون
موتورون .
وما كانوا يرهبون شيئاً مثل الموت حتف الأنف بعيداً عن ميادين القتال ،
ميادين الشرف والبطولة ، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع ، يقول ... الشنفري [69] :
فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أمّ عامر
فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية .
إن طبيعة العربي في باديته ، من حبه للحرية ، وتعشقه للقوة ، وتفضيله
الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم ، جعلت حياته حرباً ضروساً لا
تهدأ ، يقول الأفوه الأودي :
نقود ونأبى أن نقاد ولا نرى ... لقوم علينا في مكارمهم فضلاً
وكانت القبيلة تؤمن إيماناً كلياً بإخضاع القبائل الأخرى لمشيئتها سعياً وراء
المجد الرفيع مما يدفع القبائل إلى التناحر والتصادم [70] .
الفخر والحماسة :
ولقد وصفوا الحرب وصفاً مسهباً فيه فخر واعتزاز فهذا عنترة بن شداد
يصف وطأة الحرب وشدتها إذ يقول [71] :
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذا تقلّص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم [72]
يدعون عنترة والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم [73]
مازلت أرميهم بغرة وجهه ... ولبانه حتى تسربل بالدم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مُكلمي
نشوة عجيبة يحس بها عنترة وهو يخوض غمرات الموت ، فيسطر لنا
مشاعر الفخر والحماسة في معلقته هذه .
وكان الشعراء يمدحون الشجاع ويفتخرون بالقوة والشجاعة والفروسية . يقول
طرفة بن العبد في معلقته [74] :
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعاً إذا بلت بقائمة يدي
فالقوة وصليل السيوف ، والغارات المريعة ، هي قوام حياة العربي في باديته
ومجال فخرة وعزه ، حتى أصبحت حكمتهم المنشودة تدعو إلى الظلم حتى لا يُظلم ، ولا يجرؤ العدو على انتقاص حقك ، يقول زهير بن أبي سلمى [75] :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أي من لا يمنع عن عشيرته يذل ، ويشرح الأصمعي البيت الأول بقول : من
ملأ حوضه ثم لم يمنع منه غُشي وهدم وهو تمثيل أي من لان للناس ظلموه .
وعمرو بن كلثوم يقول في معلقته [76] :
نسمّى ظالمين وما ظلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمِينا
ثم نراه يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المشهورة من مثل قوله[77] :
متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا
نطاعن ما تراضى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا
نجذ رؤوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا
كأن ثيابنا منا ومنهم ... خُضبن بأرجوان أو طُلينا
__________
(1) الصناعتين : ص138 .
(2) طبقات فحول الشعراء 1/24 .
(3) انظر : الشعر الجاهلي : يحيى الجبوري ، والحياة العربية للحوفي .
(4) العمدة .
(5) المفضليات : ص62 .
(6) - العمدة 1/25 ، والسبح : الماء الجاري ، والجابية : الحوض الضخم .
(7) الشعر الجاهلي : يحيى الجبوري ص 136 .
(8) الأغاني : 4 .
(9) الحيوان للجاحظ : 1/74 .
(10) انظر العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص 39 .
(11) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 1/15 .
(12) الصحاح للجوهري .
(13) العصر الجاهلي : دكتور شوقي ضيف ص39 .
(14) انظر الشعر الجاهلي : د يحيى الجبوري .
(15) انظر المصدري السابقين : العصر الجاهلي ، والشعر الجاهلي .
(16) المائدة : 50 ، وانظر تفسير ابن كثير .
(17) في ظلال القرآن ص 904 ، المجلد الثاني / الآية 50 من سورة المائدة .
(18) انظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 39 ، والطريق إلى المدائن : أحمد عادل كمال ص40 وانظر أنساب العرب في أيام العرب لجاد المولى ص 408 وما بعدها .
(19) الطريق إلى المدائن : أحمد عادل كمال .
(20) الشعر الجاهلي : يحيى الجبوري ص 43 - 44 .
(21) الطريق إلى المدائن ص 47 .
(22) الطريق إلى المدائن ص 47 .
(23) الشعراء الصعاليك : يوسف خليف ص 87 .
(24) الأصمعيات : ص 107 .
(25) أشعار الشعراء الستة الجاهليين ، اختيارات الأعلم الشنتمري ص 236 ، وضية : قبيلة من عذرة ثم من قضاعة ، وحديث عطفت وأشفقت .
(26) انظر أسباب الخلع : كتاب الشعراء الصعاليك ص 91 وما بعدها .
(27) العصر الجاهلي : د شوقي ضيف ص 59 ، 60 بتصرف .
(28) المفضليات رقم القصيدة (104) ص 354 /355 ، والحشد : الذين يحتشدون ويجتمعون للملمات الثقل : الغرم والدية وغيرهما يقول : نفعل ذلك كلما سللنا مربة بعد مرة .
(29) الأصمعيات : رقم القصيدة (8) ص37 .
(30) شرح أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون ص37 .
(31) الشعراء الصعالية ص102 - 103 .
(32) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 276 وما بعدها .
(33) مهلهل : هو عدي بن ربيعة أخو كليب ، وهو خال امرئ القيس وهو جد عمرو بن كلثوم من قبل أمه ، وزهير جده من قبل أبيه .
(34) المفضليات ، رقم القصيدة (51) .
(35) المفضليات ، رقم القصيدة (128) .
(36) اختيارات الأعلم : ص 422 ، أ - يسر : الداخلون في الميسر ، ب - تفضل آراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخاف عند الروح بل نثبت ونتوقر ، ج - أي وجوهنا مشرقة ترتاح للكرم .
(37) المعلقات العشر شرح التبريزي ص 205 وما بعدها .
(38) الأصمعيات رقم القصيدة 18 ، أ - يقول : هات عذراً لحي عدوان فيما فعل بعضهم ببعض من القتل والتباعد بعدما ما كانوا حية الأرض التي يحذرها كل أحد ، ب - الإرعاء : الإبقاء على أخيك ،
ج - القرض : ما يتجازى به الناس من إحسان وإساءة .
(39) العصر الجاهلي : د/ شوقي ضيف ، ص 57 وما بعدها .
(40) انظر المصدر السابق والشعر الجاهلي : د يحيى الجبوري .
(41) اختيارات الأعلم القصيدة رقم (3) ص 202 .
(42) انظر الشعر والشعراء : 1/311 لابن قتيبة .
(43) انظر أيام العرب : يوم عين أباغ ص 51 محمد أحمد جاد المولى .
(44) الأغاني 21/126 ط ساسي ، والشعر والشعراء 1/394 لابن قتيبة ، والسدير قصر ازلملك ، وأسد خفية : الخفية غيضة يتخذها الأسد عرينة أو اسم علم لمأسدة بعينها .
(45) انظر يوم أوارة الأول ص 99 أيام العرب .
(46) مقتوينا : أي خدماً (المعلقة ص 252 شرح التبريزي) .
(47) ديوان النابغة ، والأعلم في اختياراته ص 196 .
(48) أيام العرب ، يوم أوارة الثاني ص 100 .
(49) الشعر والشعراء 1/21 لابن قتيبة .
(50) انظر الديوان (66/76) واختيارات الأعلم .
(51) انظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 49 وما بعدها .
(52) البداية والنهاية لابن كثير 2/205 وما بعدها .
(53) الحيوان للجاحظ 3/141 وصلاح هنا مكة .
(54) كتاب البلدان لابن الفقيه ، نقلاً عن كتاب العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(55) العصر الجاهلي .
(56) انظر آيام العرب : حروب الأوس والخزرج ص 62 - 85 .
(57) وانظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(58) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 230 وما بعدها ، والفروسية في الشعر الجاهلي الأول ، د محمد أحمد الحوفي ، والثاني د نوري القيسي .
(59) العقد الفريد : 5/201 .
(60) شرح الحماسة للتبريزي : 1/181 نقلاً عن الحياة العربية للحوفي .
(61) الكامل لابن الأثير 1/261 ، وأيام العرب ص 126 .
(62) ديوان سلامة بن جندل ص 21 ، نقلاً عن الفروسية في الشعر الجاهلي .
(63) شرح الحماسة للتبريزي 1/5 .
(64) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب : محمود شكري الألوسي 2/56 .
(65) العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 62 وما بعدها .
(66) ديوان زهير ص 102 ، والأعزل مفرد عزل : وهو من لا سلاح له ، فزعوا أغاثوا .
(67) المرزوقي 2/825 نقلاً عن العصر الجاهلي نلحمه : نطعمه اللحم الوتر : الثأر .
(68) المرزوقي 2/487 نقلاً عن العصر الجاهلي .
(69) الطرائف الأدبية ، شعر الأفوه الأودي ص 22 .
(70) الفروسية في الشعر الجاهلي ص 77 وما بعدها .
(71) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 245 ، وما بعدها يتذامرون : يحض بعضهم بعضاً .
(72) أشطان البئر : حباله (ويروى بثغرة نحره) .
(73) شرح القصائد العشر للتبريزي الضرب : الخفيف خشاش فيه قوة ومضاء بلت : ظفرت وتمكنت.
(74) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 151 .
(75) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 288 .
(76) المصدر السابق والثفال : خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن ، اللهوة : القبضة من الحب ، يبين : يظهر ، الوتر : الثأر ، نجذ : نقطع ويروى : نحز رؤوسهم في غير بر ، الأرجوان : صبغ أحمر .
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونصلي
ونسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد :
فإن الشعر الجاهلي ... شعر قديم متصل الحلقات يصور حياة العرب قبل
الإسلام ، فهو سجل العواطف والمفاخر ، سجل العصبيات والحروب ، فيه أيام
العرب ووقائعهم ، وتدوين لأصولهم وأنسابهم ، يقول أبو هلال العسكري [1] :
(لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارهم
فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها) .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه) [2] .
وللشعر منزلة عظيمة عند العرب وللشاعر مكانة لا تضاهى [3]، فإذا نبغ في القبيلة شاعر هنأتها القبائل ، وصنعت الأطعمة ، وأعلنت الأفراح ... لأنه حماية لأعراضهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم ، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج [4] .
وما تكاد القصيدة تلقى حتى تسير بها الرواة ، وتنشدها المجالس ، قال
المسيب بن علس [5] :
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
فقصيدته تنشر بين القبائل ويرددها الناس مستمعين لها ومتمثلين بأبياتها .
والأمثلة كثيرة لشعراء حموا أعراض قبائلهم ، ولشعراء تشفعوا لقبائلهم ، أو
لأفراد منها فشفعوا ، وشعراء رفعوا الوضيع ووضعوا الرفيع ...
فالأعشى يقدم مكة ويمدح المحلَّق ويذكر كرمه وشرفه وحسن صفاته بعد فقر
وخمول ذكر ... ثم تحدث عن بناته فقال :
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذيم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق
فما إن أتم قصيدته حتى انسل الناس إلى المحلق يهنئونه ، والأشراف من كل
قبيلة يخطبون بناته العوانس فلم تمس منهن واحدة إلا عصمة رجل أفضل من أبيها
ألف ضعف [6] .
وكان بنو أنف الناقة يأنفون من هذا اللقب حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
صار اسمهم شرفاً لهم .
ولقد كانت القبيلة تحرص على رواية شعرها فتعلم صغارها الشعر وحفظ
أشعار القبية خاصة ، كما كانت تفعل تغلب في تحفيظ أبنائها معلقة عمرو بن كلثوم ، فهجاها شاعر بكر بقوله :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... يروونها أبداً مذ كان أولهم
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ... يا للرجال لشعر غير مسلوم [7]
وفي الإسلام يأذن الرسول عليه الصلاة والسلام لحسان بن ثابت أن يهجو
كفار قريش ، وقال : « اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم
ثم اهجهم وجبريل معك » [8] .
وفي السيرة النبوية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان - رضي
الله عنه - : « لشعرك أشد عليهم من وقع النبل » ، مما يبين لنا أهمية الشعر
في الذب عن الدعوة وأصحابها .
وبعد هذه الشواهد ، والأمثلة في مصادر الشعر كثيرة ، يتبين لنا مدى اهتمام
العرب بالشعر ، فهو خير مصدر لتصوير حياتهم ، وهو ديوان العرب كما عرفنا ،
ولذلك يمكننا استخراج مفهوم الحياة الجاهلية ، في مختلف مظاهرها من هذا الشعر ، ثم من ردود القرآن الكريم على الانحراف حيناً لتقويمه وإنكار السلبيات المطلقة
حيناً آخر ...
ولقد حاولت الرجوع إلى المصادر الموثقة للشعر الجاهلي كالمفضليات
والأصمعيات والمعلقات وطبقات فحول الشعراء والشعر والشعراء ... وغيرها
لتكوين صورة واضحة لما كان عليه القوم في جاهليتهم من مصادر الشعر أولاً
وكتب السيرة والتاريخ التي وصفت لنا حياة أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم بنور
الإسلام .
وسترى بعونه تعالى أن كثيراً من مظاهر حياتنا الحديثة وما فيها من عادات
وتقاليد ما هي إلا امتداد لمفهوم الجاهلية العربية ... جاهلية ما قبل الإسلام ...
تحديد العصر الجاهلي :
قد يتبادر إلى الذهن أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب ،
ولكن البحث يظهر أن الأدب الجاهلي يعود إلى قرن ونصف قبل البعثة النبوية ،
يقول الجاحظ [9] :
(أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن ... فإذا استظهرنا الشعر
وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام ، وإذا استظهرنا بغاية
الاستظهار فمائتي عام) .
وما قبل هذا التاريخ قد يشوبه الغموض ولا يعطينا صورة واضحة عن الحياة
الجاهلية مثل إمارة الغساسنة ثم المناذرة ، ومملكة كندة في شمالي نجد ...
ومعلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة [10] .
والسيد محمود شكري الألوسي يحدد فترة الجاهلية بقوله : (وهي الزمن بين
الرسولين ، تطلق على زمن الكفر مطلقاً ، وعلى ما قبل الفتح وعلى ما كان بين
مولد النبي والبعث) [11] .
وعلى العموم فإن الفترة الجاهلية التي تعنينا هي فترة ما قبل بعثة الرسول -
عليه الصلاة والسلام- ، وهي لا تمتد أكثر من مائتي عام ، لأن ما وراء ذلك من
الزمن يشوبه الغموض ولم يصل إلينا من الشعر الجاهلي قبل تلك الفترة شيء
نطمئن إليه .. وفترة ما قبل الإسلام مباشرة هي الفترة التي ورثنا عنها الشعر
الجاهلي ... وهذا العصر هو الذي بزغت عيه شمس الإسلام ، وصور القرآن
الكريم وأحداث السيرة ، كثيراً من معالمه وصراع الحق مع الباطل وزيفه .
معنى الجاهلية :
أ - في كتب اللغة والأدب :
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مادة : جهل تعني الجهل الذي هو خلاف
العلم ... وقد جهل فلان جهلاً وجهلة .
وتجاهل : أي أرى من نفسه ذلك وليس به .
واستجهله : عده جاهلاً واستخفه أيضاً .
والمجهلة : الأمر الذي يحملك على الجهل .
والمجهل : المفازة لا أعلام فيها [12] .
وفي المعجم الوسيط : جهلت القدر جهلاً : اشتد غليانها ، وجهل على غيره
جهالة وجهلاً : قسا وتسافه ، وجاهله : سافهه .
وفي القرآن : [ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ] .
والجاهلية ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة .. والمجهلة :
ما يحمل الإنسان على الجهل وجاء في الحديث الشريف : « الولد مبخلة مجبنة
مجهلة » .
وهكذا (نتبين أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه ، إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة الإسلام
التي تدل على الخضوع والطاعة لله عز وجل وما يطوى فيها من سلوك خلقي
كريم) [13] .
وقد تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم وليس ضد العلم إلا أن
العصر الجاهلي عرف كثيراً من الناس عرفوا بالحلم والتسامح مثل قيس بن عاصم ، والأحنف بن قيس ، وغيرهما حتى ضربت بحلمهما الأمثال [14] ....
وجاء في معلقة عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي لا يتسافه أحد علينا ... وقد يتضمن البيت معنى الظلم والطيش .
ب - وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بهذا المعنى ، معنى
الحمية والطيش والغضب ، ففي سورة البقرة : [ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ] ، وفي سورة الأعراف : [ خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ] .
وفي الحديث الشريف : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال لأبي ذر ،
وقد عير رجلاً بأمه : « إنك امرؤ فيك جاهلية » . أي فيك روح الجاهلية وطيشها
تغضب فلا تحلم .
والذي يظهر لنا أن الجاهلية كانت تعني الجهل لمعنى تجاوز الحق وعدم
معرفته ، وتعني أيضاً الحمية حمية الجاهلية بما فيها من ثأر وطيش وحمق وسفه
وكبر .
وأصبحت تطلق على العصر السابق للإسلام مباشرة ، وكل ما فيه من وثنية
وأخلاق قوامها الحمية واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات [15] .
أما تعبير الجاهلية في كتاب الله فقد جاء في تفسير هذه العبارة في الآية : [ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ] [16] .
(ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي
عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها
الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان من أهل الجاهلية يحكمون به من
الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم) .
وجاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله - :
(فالجاهلية كما يصفها الله ويحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي
عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في
مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله) .
ثم يقول - رحمه الله - أيضاً :
(إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع
يوجد بالأمس ، ويجد اليوم ، ويوجد غداً ، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام ،
والمناقضة للإسلام ... فالعبودية لغير الله جرت أهل الجاهلية إلى كل الضلالات
السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد) [17] .
وهي بناء على ذلك تعني مفهوم الضلالات ، والسفه ، والطيش ، وتحكيم
العادات والتقاليد ، بعيداً عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة
الاجتماعية ، وتتلون بشعارات براقة كثيرة ، قد تخدع وتسيطر على العقول عندما
تضعف آصرة العقيدة ، والتوحيد وتحكيم شرع الله .
وسنتابع هذا المفهوم ، مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي يصور لنا حياة
العرب قبل الإسلام في حروبهم وثاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم وخرافاتهم ،
مما سنجمله في الفصول التالية بإذنه تعالى :
1-الأول : الحياة السياسية أو الصراع القبلي .
2-الثاني : الحياة الاجتماعية ، وما فيها من عادات وتقاليد .
3-الثالث : الحياة الدينية ، وما فيها من عقائد وتصورات وخرافات .
4-الرابع : الحياة الاقتصادية وأمور حياتهم ومعاشهم .
الفصل الأول
الحياة السياسية عند العرب
أو : الصراع القبلي
أ - لمحة موجزة عن حياة العرب قبل الإسلام :
إن العرب ينحدرون من أصلين كبيرين : قحطان وعدنان [18] .
1 - عرب الجنوب :
وكان موطن قحطان باليمن ثم تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان ، وكان منهم قبيلة حمير ومنها قضاعة ، ومنهم كهلان وأشهرهم
طيء وهمدان وكندة ولخم والأزد ، وأولاد جفنة ملوك صحراء الشام .
هاجرت هذه القبائل بعد انهيار مأرب عام (120ق . م) فسكنت الأزد المدينة ، وكان منها الأوس والخزرج ، ومنهم من نزل على ماء غسان في الشام وأسسوا
إمارة الغساسنة والموالية للروم ، أما لخم فقد سكنت الحيرة ، واصطفتهم فارس إلى
جوارها وبقي في اليمن كثير من قبائل حمير وكندة وغيرهم .
ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت غالباً جوار الأمم المتحضرة ويذكر
المؤرخون أن عرب الجنوب كانت لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل
وتشييد السدود وكانوا يؤلهون الكواكب والنجوم .
2- عرب الشمال :
وكان موطن عدنان مكة المكرمة وما جاورها من أرض الحجاز وتهامة ، وقد
تشعبت بطون هذا الفرع من نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل - عليه
السلام - .
ثم هاجرت بعض هذه البطون إلى مواطن الخصب والكلأ .. فنزلت ربيعة
شرقاً ، فأقامت عبد القيس في البحرين ، وحذيفة في اليمامة ، وأقامت سائر بكر بن
وائل ما بين البحرين واليمامة ، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة
بين دجلة والفرات ، وسكنت تميم في بادية البصرة .
وأما فرع مضر بن معد بن عدنان : فقد نزلت سُليم بالقرب من المدينة
وأقامت ثقيف في الطائف ، واستوطنت ساذر هوازن شرقي مكة المكرمة ، وسكنت
أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حورا[19].
وبقيت معيشة هذه القبائل صحراوية بدوية ، ولم تهيء لهم هذه الحياة
الاستقرار إلا في بعض الواحات في الحجاز .. ويظهر أن عرب الشمال لم ينجحوا
في وحدة سياسية قبل الميلاد ، فطبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق [20] .
3- القبائل العربية :
النظام القبلي :
وهكذا (استقرت القبائل العربية في الجزيرة وتجاور العدنانيون والقحطانيون ،
ولم يكن لهذه القبائل دولة تشمهم ، ولا نظام موحد يسودهم بل كانت كل قبيلة تكون
وحدة اجتماعية وسياسية مستقلة) .
(وكانت هذه القبائل متشابهة في تكوينها ونظامها ، فكل قبيلة تقوم على أساس
اشتراك أبنائها في الأصل الواحد والموطن الواحد . والرباط الأقوى في القبيلة هو
العصبية ، والعصبية كما يعرفها ابن خلدون في مقدمته : « النصرة على ذوي
القربى وأهل الأرحام أن ينالهم أو تصيبهم هلكة) .
(وأفراد القبيلة متضامنون كلهم في المصائب والمسرات فقالوا : في الحرب
تشترك العشيرة) .
(ثم نشأ عن طبيعة الجزيرة العربية وحتمية انتقال العرب وراء الماء وطلباً
للكلأ ، نشأ النظام القبلي كضرورة اجتماعية ، وحيوية حتى يتنقلوا في جماعات
عشائر توفر لأفرادها الحماية والأمن .. ولم يقتصر وجودها على البادية بل تعداها
إلى الحواضر على قلتها وتناثرها في الصحراء المترامية) [21] .
ولقد كانت هيمنة القبيلة هي الأساس في البادية والحاضرة حيث أن (هذه
القبائل لم تفقد صورتها القبلية فقد ظل لكل منها منازلها الخاصة ومعاقلها الصغيرة ،
وسيادتها وشئونها الخاصة ، ومرد ذلك إلى أن رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة
المدينة حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها) [22] .
فوحدة القبيلة كانت أمراً مقدساً ترتب عليه طائفة من التقاليد يحدد علاقة
الأفراد مع بعضهم .. وعلاقة الأفراد بقبائلهم لأن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي
عرفها المجتمع الجاهلي في البادية والمدن .. وكان أفراد القبيلة يؤلفون أسرة واحدة
قائمة بذاتها لا اختلاط فيها ، متجانسة لا تباين بين أفرادها .. يعمل الجميع في
سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها [23] .
العصبية :
وقد آمنت القبيلة بوحدتها وجعلت ذلك أمراً مقدساً ، ترتب عليه طائفة من
التقاليد الاجتماعية ، تحدد واجبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية ، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالماً أو مظلوماً .
ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون
الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة ، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل
اعتبار .
يقول دريد بن الصمة [24] :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فالشاعر يرى رأي قبيلته غزية ، بل يتنازل عن رأيه من أجل رأيها ، ولو
كان خطأً .. فغيه وضلاله ، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها ، وأمعن في ضلاله ، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه .
والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله [25] :
حدبت علي بطون ضبة كلها ... إن ظالماً فيهم وإن مظلوماً
وعلى الفرد أن يحترم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سبباً في تمزيق
وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق ، ولذلك اتخذت
القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفرادها إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض
أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم
للأخلاق آنذاك ، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي [26] .
شيخ القبيلة :
فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة
ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به ، وشيخ القبيلة
يكون عادة شيخاً مجرباً هو سيدها له حكمة وسداد رأي وسعة في الثروة .. وهو
الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها ، ويستقبل وفود القبائل الأخري ، ويعقد
الصلح والمحالفات ويقيم الضيافات ، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء
كليب التغلبي عندما بغى وطغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سبباً في
نشوب حرب البسوس المشهورة .
ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها ، كالشجاعة والحسب والكرم
والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة
وما تدفعه من ديات ، وغالباً يرث الشيخ سيادته عن آبائه [27] ، وإلى ذلك يشير
معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول [28] :
إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد ، لهم مجد أشم تليد
ألفوا أباهم سيداً وأعانهم ... كرم وأعمام لهم وجدود
نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها ، وتغفر ذنبها وتسود
وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به ، وإذا تعود نعود
ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفاً لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سيد
بني شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته [29] :
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية ، والصفايا جمع
صفية وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة ، والنشيطة ما أصابه
الجيش في طريقه قبل الغارة من فرس أو ناقة ، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو
الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام .
الاعتزاز بالأنساب والقوة :
ولقد آمنت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم
قبيلة أخرى ، وهم يفضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات ،
وهم أجدر الناس أن يكونوا خير الناس ، ولعل هذا ما يفسر لنا تلك المنافرات التي
امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي ، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد
شعرائه [30] .
ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب ، والفخر بالآباء ،
والأجداد [31] حيث يقول :
1- ورثت مهلهلاً [32] والخير منه ... زهيراً نعم ذخر الذاخرينا
2- وعتاباً وكلثوماً جميعاً ... بهم نلنا تراث الأكرمينا
3- ومنا قبله الساعي كليب ... فأي المجد إلا قد ولينا
ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول :
4- ونحن الحاكمون إذا أطعنا ... ونحن العازمون إذا عُصينا
5- ونحن التاركون لما سخطنا ... ونحن الآخذون لما رضينا
6- وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أتينا
7- وأنا الشاربون الماء صفواً ... ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون
بلا رادع حيث يقول :
8- لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حيث نبطش قادرينا
9- إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الخسف فينا
والمعلقة كلها ضجيج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها
الجاهلية المتغطرسة ، انظر إليه حيث يقول :
10 - إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له الجبابر ساجدينا
11 - ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا
12- ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق
البحر بسفنهم ؟ ! ، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجوداً ومذلة .
والشواهد كثيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن
جبروت الجاهلية وغطرستها .
فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول [33] :
هلا سألت بنا فوارس وائل ... فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ... ولنا فواضلها ومجدُ لوائها
ثم يفتخر بقوة قومه في الحروب ، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال
أجود ذوو مروءة ، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول [34] :
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآمية ... وخير ناد رآه الناس نادينا
فهم أصحاب حروب وقرى .
وطرفة بن العبد يفتخر بقبيلته بكر ويتحدث عن كرمها وقوتها وحسبها إذ
يقول [35] :
1- ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يُسُر
2- ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وُقر
3- ولقد تعلم بكر أننا ... صادقو البأس وفي المحفل غر
والشاعر لبيد بن ربيعة يفخر بأحساب قومه وشرفهم في معلقته ، فالمجد فيهم
قد سنَّه آباؤهم وعلموهم إياه فتبعه صغارهم بعد كبارهم إذ يقول [36] :
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سُنَّة وإمامها
فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
وكانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى لذلك يحزن الشاعر
ذو الإصبع العدواني على تفرق قومه بني عدوان واختلافهم بعد ائتلافهم واتحادهم
فيقول [37] :
1- عذير الحي من هذوا ... من كانوا حية الأرض
2- بغى بعضهم بعضاً ... فلم يُرعُوا على بعض
3- ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض
وعدوان من قيس عيلان بن مضر بن نزار ، كانوا من أعز العرب وأكثرهم
عدداً ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا .
إن الأنساب مهمة وأساسية في حياة العربي آمن بها إيماناً شديداً ، وصارت
علماً عندهم إذا رأوا فيه ما يراه الناس في الوطن الآن .
والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية ،
وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكاً شديداً ، الرابط
الوحيد بين أفرادها هو العصبية ، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن
إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه ، ولا سلطة يتحاكم إليها ، والعصبية قبلية ليس فيها
شعور واضح بالجنس العربي العام ، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة
ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية .. ولم ينفذ هؤلاء جميعاً إلى فكرة الأمة
العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد ، إنما كل ما
هنالك اتحاد قبلي له رئيس [38] ، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات .
وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد
القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيراً ما
تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب ... فكل قبيلة مستعدة دائماً
للحرب والإغارة وهلأ دائماً شاكية السلاح ، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم
الأعلى .
هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية .
الإمارات العربية في شمال الجزيرة [39] :
أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق ، في تخوم الشام حيث أسس
الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم
على أطراف بلاد فارس .. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا
درعاً واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية ، وكثيراً ما وقعت
الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم ، وبدوافع قبلية أخرى .
(1) لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة ، وكان قد
تنصر ثم خلفه ابنه المنذر ، ومن ملوكهم الحارث الأصغر ، وكانت جيوش
الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد ، وبني فزارة ، وقع كثير من أسرى
القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر ، فقصده النابغة الذبياني يمدحه
متوسلاً إليه في فكاكهم ، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول [40] :
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت - رضي الله عنه - ، وقد كان ينزل به
وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم [41] :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
(2) أما المناذرة : فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا ، حيث رحلت
قبائل لخم وتنوخ ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم ،
ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (514 - 554م) ، وامتد سلطانه على عدد
من قبائل نجد وكان له يومان : يوم نعيم ، ويوم بؤس ، وممن قتل في يوم بؤسه :
الشاعر عبيد بن الأبرص ، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ
عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه
الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج ، ثم سار
الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها [42] ، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند ،
وكان طاغية مستبداً ، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول [43] :
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته [44] :
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً ... متى كنا لأمك مقتوينا [45]
ومن ملوكهم : النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس ، وقد امتد سلطانه
إلى نجد والبحرين وعمان ، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سبباً في حروب
شغلت قبائل قيس ردحاً من الزمن ، ويقال : إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب
قتله عدي بن زيد العبادي .. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته
ومنها قوله [46] :
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد
وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار
بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب .
لقد أدت هاتان الإمارتان دورهما في خدمة سادتهما خير أداء ، فقد بطش
ملوكهم بقبائل العرب بطشاً مريعاً ففي يوم أوارة الأول مثلاً يبطش المنذر بن ماء
السماء بقبيلة بكر ؛ لأنها رفضت طاعته ، ويقتل منها خلقاً كثيراً بعد حرب دامية ،
ثم أسر منهم عدداً كبيراً وأمر بهم أن يذبحوا على جبل أوارة حتى جعل الدم يحمد
وأمر النساء أن يحرقن بالنار [47] .
وابنه عمرو بن هند وضع ابناً له عند سيد بني تميم زرارة بن عُدس ، وكان
صغيراً ، خرج يصطاد بعد أن أصبح رجلاً ، ومر بإبل لزوج ابنة زرارة وأمر
ببكرة منها فنُحرت ، وكان صاحب الإبل نائماً فلما انتبه ضربه بعصا ولم يعرفه
فمات .. فخرج سويد صهر زرارة هارباً إلى مكة المكرمة ، وهرب زرارة أيضاً
إلى أن قيل له : ائت الملك واصدقه .. فجاء الملك وأخبره الخبر فقال : جئني
بسويد ، قال : قد لحق بمكة ، قال : فعلي ببنيه ، فأتي ببنيه السبعة من ابنة زرارة
وهم غلمة بعضهم فوق بعض فأمر بقتلهم ، تناولوا أحدهم فضربوا عنقه ، فتعلق
الآخرون بزرارة ، فقال زرارة : يا بعضي سرّح بعضاً ، ثم قتلوا ، وآلى عمرو
ليحرقن من بني درام مائة رجل .. فبعث بجيش على مقدمته عمرو بن ملقط الطائي
فأخذ ثمانية وتسعين منهم - من بني دارم - ولحقه عمرو بن هند في الناس حتى
انتهى إلى أوارة وهو جبل من ناحية البحرين .. وأمر الملك بأخدود فخد لهم ثم
أضرم ناراً ثم قذف بهم في النار ، ومن هنا سمته العرب : محرقاً [48] .
وبقي أمر الحيرة مضطرباً بعد مقتل أبي قابوس ، حتى فتحها المسلمون ،
وأذعنت لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - .
- وهناك إمارة كندة : في شمال نجد في دومة الجندل ، ومن أشهر ملوكهم
حجر الملقب بآكل المرار ، وقد سيطر على القبائل الشمالية في نجد واليمامة ، ثم
جاء بعده حفيده الحارث الذي عين أبناءه على قبائل نجد ، منهم ابنه والد امرئ
القيس (حجر) الذي ساءت سيرته في بني أسد فقتلته بعد أن انهزمت كندة وغنمت
أسدٌ أموالهم وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص [49] :
هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين ! أينا
وأمضى امرؤ القيس بقية حياته مستعيناً بقبائل العرب من حمير وطيء يريد
أن يثأر من بني أسد ، ويستعيد ملك آبائه ، فلم يشتف ، واتجه إلى قيصر الروم
ولقي حتفه بينما كان راجعاً .. ومن شعره في ذلك [50] :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
مكة المكرمة وغيرها من مدن الحجاز [51] :
تقوم مكة المكرمة في منتصف الطريق المعبد بين اليمن والشام حيث تمسك
بزمام القوافل التجارية وتعتبر أكبر مركز ديني للوثنية عند العرب .
لقد كانت مسكناً لجرهم وبقايا الأمم البائدة ، ثم سكنها إسماعيل - عليه الصلاة
والسلام - وأصهر إلى قبيلة جرهم ، ثم أجلت قبيلة خزاعة قبيلة جرهم عن مكة
المكرمة .
ثم نزلها قصي ومعه قبيلة قريش وأصهر إلى خزاعة ، وأساءت هذه القبيلة
إلى البيت العتيق فأخرجها قصي ومن معه .
كان قصي بن كلاب مطاعاً في قومه ، سيداً رئيساً معظماً ، ولي البيت وأمر
مكة وجمّع قومه من منازلهم المتفرقة ، وتملك على قومه فملكوه ، وأقر العرب على
ما كانوا عليه من النسيء والإجازة من مزدلفة .. حتى جاء الإسلام فهدم به الله كل
ذلك .. وكانت إلى قصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء ، فجاز شرف
مكة كله ، وقطع مكة رباعاً بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة .
قال قائلهم في مدح قصي وشرفه [52] :
قصي لعمري كان يُدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
همو ملأوا البطحاء مجداً وسؤدداً ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر
لم تدن مكة لأي ملك أجنبي ، وفي ذلك يقول حرب بن أمية [53] :
أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش
وتنزل بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش
(ولم يؤد أهل مكة في الجاهلية إتاوة قط ، وفرضوا على العرب قاطبة أن
يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم ، وهم بعد أعز العرب فيتأمرون عليهم ... قاطبة) [54] .
وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم ، مما يؤكد زعامة قريش
ومكانتها عند العرب ، فمكة بيت كعبتهم ، وبيت تجارتهم ، أقاموا حولها الأسواق
التجارية ، كسوق عكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز ، وكان يعرض فيها الشعر والأدب
أيضاً ، وفيها - في مكة - دار الندوة ، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها
الدينية والتجارية ، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من
الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبلياً على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط
بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان
لعشيرة على عشيرة .
كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب
والعادة ، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية [55] .
وكانت الطائف مصيفاً جميلاً يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة
والخمرة الصافية ، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية ، وكانت حياتهم لا تختلف عن
حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من
الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة .
أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني
الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين ، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا
العربية لغة لهم في حياتهم اليومية ، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية ،
وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف .
بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس
والخزرج من اليمن ، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين ، وكانوا وثنيين يحجون إلى
مكة وأصنامها ، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون
على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة .
كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة
يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية ...
كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم
حاطب ويوم فارع ، والبقيع ، ويوم بُعاث وغيرها [56] .
وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم
برسوله ، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً .
وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء ، ومازالوا بها
حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الجزيرة كلها
وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصراً لامرئ
القيس .
ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعاً
ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها [57] .
هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في
القبائل والمدن ، لم نجد بينها فرقاً يذكر ، حيث إن النظام القبلي ، هو الذي كان
يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها .
وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب ، والأحلاف وعادات الثأر
والأسر والسبي والصلح والسلم ، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم .
الحروب في الجاهلية :
أ - أسبابها [58] :
إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية ، أو على
المحالفة والنصرة .
ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب ؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها ؟ لوجدنا
أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه
الأسباب ، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء
يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها [59] .
وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة ؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم
في رماحهم ، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم ،
وديدنهم في السلب والغارة [60] :
وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحياناً على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على
غزوهم :
(البسوا جلود النمر ، والثبات أفضل من القوة ، أهنأ الظفر كثرة الأسرى ،
وخير الغنيمة المال) [61] .
فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان
بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها .
يقول سلامة بن جندل : إن بقاؤه بعيداً عن الغزو ، سيؤخره عن جمع الإبل
التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها [62] :
تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً ... إلى الرّوع يوماً تاركي لا أبا ليا
دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا ... من الحدثان والمنية واقيا
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة ... ترى ساقييها يألان التراقيا
وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعياً وراء الشهرة والسيادة ،
فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالاً ، وإذا كان الحكم خبيراً بما سيجره
حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر
بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين .
وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالماً أو مظلوماً ، على الحقيقة
وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته ، وربما عير الشاعر قبيلته من
جراء تخليها عن نصرته ، قال قريط بن أنيف ، وكان بعض بني شيبان أغار على
إبله ، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم ... فأنجدوه [63] :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لهبّ لنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرساناً وركبانا
وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما
حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج .
وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض ، أو الأخذ بالثأر ، أو بسبب
المنافسة على رئاسة وزعامة ، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب
وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث
قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء ، التي استمرت أربعين
سنة ، بسبب سباق بين فرسين .
ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار ، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد
نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى .
ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول :
(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة ، وإما عدوان ، وإما غضب
لله ولدينه ، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده ، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل
المتجاورة والعشائر المتناظرة ، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم
الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا
أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم .. والثالث وهو المسمى في
الشريعة بالجهاد ، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين ... لطاعتها .. ) [64] .
ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف :
لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية ، أنها كانت حياة حربية تقوم على
سفك الدماء .. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم ، فهم دائماً قاتلون
مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم .
وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها ، بل
يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم [65] .
يقول زهير بن أبي سلمى [66] :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل[67]
فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم ... وكانوا قديماً من مناياهم القتل
فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم ، وتدور رحى الحرب
فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم ، يقول
دريد بن الصمة [68] :
وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيُشتفى ... بنا إن صبنا أو تُغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر
ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائماً واترون
موتورون .
وما كانوا يرهبون شيئاً مثل الموت حتف الأنف بعيداً عن ميادين القتال ،
ميادين الشرف والبطولة ، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع ، يقول ... الشنفري [69] :
فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أمّ عامر
فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية .
إن طبيعة العربي في باديته ، من حبه للحرية ، وتعشقه للقوة ، وتفضيله
الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم ، جعلت حياته حرباً ضروساً لا
تهدأ ، يقول الأفوه الأودي :
نقود ونأبى أن نقاد ولا نرى ... لقوم علينا في مكارمهم فضلاً
وكانت القبيلة تؤمن إيماناً كلياً بإخضاع القبائل الأخرى لمشيئتها سعياً وراء
المجد الرفيع مما يدفع القبائل إلى التناحر والتصادم [70] .
الفخر والحماسة :
ولقد وصفوا الحرب وصفاً مسهباً فيه فخر واعتزاز فهذا عنترة بن شداد
يصف وطأة الحرب وشدتها إذ يقول [71] :
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذا تقلّص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم [72]
يدعون عنترة والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم [73]
مازلت أرميهم بغرة وجهه ... ولبانه حتى تسربل بالدم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مُكلمي
نشوة عجيبة يحس بها عنترة وهو يخوض غمرات الموت ، فيسطر لنا
مشاعر الفخر والحماسة في معلقته هذه .
وكان الشعراء يمدحون الشجاع ويفتخرون بالقوة والشجاعة والفروسية . يقول
طرفة بن العبد في معلقته [74] :
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعاً إذا بلت بقائمة يدي
فالقوة وصليل السيوف ، والغارات المريعة ، هي قوام حياة العربي في باديته
ومجال فخرة وعزه ، حتى أصبحت حكمتهم المنشودة تدعو إلى الظلم حتى لا يُظلم ، ولا يجرؤ العدو على انتقاص حقك ، يقول زهير بن أبي سلمى [75] :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أي من لا يمنع عن عشيرته يذل ، ويشرح الأصمعي البيت الأول بقول : من
ملأ حوضه ثم لم يمنع منه غُشي وهدم وهو تمثيل أي من لان للناس ظلموه .
وعمرو بن كلثوم يقول في معلقته [76] :
نسمّى ظالمين وما ظلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمِينا
ثم نراه يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المشهورة من مثل قوله[77] :
متى ننقل إلى قوم رحانا ... يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا
نطاعن ما تراضى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا
نجذ رؤوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا
كأن ثيابنا منا ومنهم ... خُضبن بأرجوان أو طُلينا
__________
(1) الصناعتين : ص138 .
(2) طبقات فحول الشعراء 1/24 .
(3) انظر : الشعر الجاهلي : يحيى الجبوري ، والحياة العربية للحوفي .
(4) العمدة .
(5) المفضليات : ص62 .
(6) - العمدة 1/25 ، والسبح : الماء الجاري ، والجابية : الحوض الضخم .
(7) الشعر الجاهلي : يحيى الجبوري ص 136 .
(8) الأغاني : 4 .
(9) الحيوان للجاحظ : 1/74 .
(10) انظر العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص 39 .
(11) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 1/15 .
(12) الصحاح للجوهري .
(13) العصر الجاهلي : دكتور شوقي ضيف ص39 .
(14) انظر الشعر الجاهلي : د يحيى الجبوري .
(15) انظر المصدري السابقين : العصر الجاهلي ، والشعر الجاهلي .
(16) المائدة : 50 ، وانظر تفسير ابن كثير .
(17) في ظلال القرآن ص 904 ، المجلد الثاني / الآية 50 من سورة المائدة .
(18) انظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 39 ، والطريق إلى المدائن : أحمد عادل كمال ص40 وانظر أنساب العرب في أيام العرب لجاد المولى ص 408 وما بعدها .
(19) الطريق إلى المدائن : أحمد عادل كمال .
(20) الشعر الجاهلي : يحيى الجبوري ص 43 - 44 .
(21) الطريق إلى المدائن ص 47 .
(22) الطريق إلى المدائن ص 47 .
(23) الشعراء الصعاليك : يوسف خليف ص 87 .
(24) الأصمعيات : ص 107 .
(25) أشعار الشعراء الستة الجاهليين ، اختيارات الأعلم الشنتمري ص 236 ، وضية : قبيلة من عذرة ثم من قضاعة ، وحديث عطفت وأشفقت .
(26) انظر أسباب الخلع : كتاب الشعراء الصعاليك ص 91 وما بعدها .
(27) العصر الجاهلي : د شوقي ضيف ص 59 ، 60 بتصرف .
(28) المفضليات رقم القصيدة (104) ص 354 /355 ، والحشد : الذين يحتشدون ويجتمعون للملمات الثقل : الغرم والدية وغيرهما يقول : نفعل ذلك كلما سللنا مربة بعد مرة .
(29) الأصمعيات : رقم القصيدة (8) ص37 .
(30) شرح أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون ص37 .
(31) الشعراء الصعالية ص102 - 103 .
(32) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 276 وما بعدها .
(33) مهلهل : هو عدي بن ربيعة أخو كليب ، وهو خال امرئ القيس وهو جد عمرو بن كلثوم من قبل أمه ، وزهير جده من قبل أبيه .
(34) المفضليات ، رقم القصيدة (51) .
(35) المفضليات ، رقم القصيدة (128) .
(36) اختيارات الأعلم : ص 422 ، أ - يسر : الداخلون في الميسر ، ب - تفضل آراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخاف عند الروح بل نثبت ونتوقر ، ج - أي وجوهنا مشرقة ترتاح للكرم .
(37) المعلقات العشر شرح التبريزي ص 205 وما بعدها .
(38) الأصمعيات رقم القصيدة 18 ، أ - يقول : هات عذراً لحي عدوان فيما فعل بعضهم ببعض من القتل والتباعد بعدما ما كانوا حية الأرض التي يحذرها كل أحد ، ب - الإرعاء : الإبقاء على أخيك ،
ج - القرض : ما يتجازى به الناس من إحسان وإساءة .
(39) العصر الجاهلي : د/ شوقي ضيف ، ص 57 وما بعدها .
(40) انظر المصدر السابق والشعر الجاهلي : د يحيى الجبوري .
(41) اختيارات الأعلم القصيدة رقم (3) ص 202 .
(42) انظر الشعر والشعراء : 1/311 لابن قتيبة .
(43) انظر أيام العرب : يوم عين أباغ ص 51 محمد أحمد جاد المولى .
(44) الأغاني 21/126 ط ساسي ، والشعر والشعراء 1/394 لابن قتيبة ، والسدير قصر ازلملك ، وأسد خفية : الخفية غيضة يتخذها الأسد عرينة أو اسم علم لمأسدة بعينها .
(45) انظر يوم أوارة الأول ص 99 أيام العرب .
(46) مقتوينا : أي خدماً (المعلقة ص 252 شرح التبريزي) .
(47) ديوان النابغة ، والأعلم في اختياراته ص 196 .
(48) أيام العرب ، يوم أوارة الثاني ص 100 .
(49) الشعر والشعراء 1/21 لابن قتيبة .
(50) انظر الديوان (66/76) واختيارات الأعلم .
(51) انظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 49 وما بعدها .
(52) البداية والنهاية لابن كثير 2/205 وما بعدها .
(53) الحيوان للجاحظ 3/141 وصلاح هنا مكة .
(54) كتاب البلدان لابن الفقيه ، نقلاً عن كتاب العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(55) العصر الجاهلي .
(56) انظر آيام العرب : حروب الأوس والخزرج ص 62 - 85 .
(57) وانظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(58) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 230 وما بعدها ، والفروسية في الشعر الجاهلي الأول ، د محمد أحمد الحوفي ، والثاني د نوري القيسي .
(59) العقد الفريد : 5/201 .
(60) شرح الحماسة للتبريزي : 1/181 نقلاً عن الحياة العربية للحوفي .
(61) الكامل لابن الأثير 1/261 ، وأيام العرب ص 126 .
(62) ديوان سلامة بن جندل ص 21 ، نقلاً عن الفروسية في الشعر الجاهلي .
(63) شرح الحماسة للتبريزي 1/5 .
(64) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب : محمود شكري الألوسي 2/56 .
(65) العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 62 وما بعدها .
(66) ديوان زهير ص 102 ، والأعزل مفرد عزل : وهو من لا سلاح له ، فزعوا أغاثوا .
(67) المرزوقي 2/825 نقلاً عن العصر الجاهلي نلحمه : نطعمه اللحم الوتر : الثأر .
(68) المرزوقي 2/487 نقلاً عن العصر الجاهلي .
(69) الطرائف الأدبية ، شعر الأفوه الأودي ص 22 .
(70) الفروسية في الشعر الجاهلي ص 77 وما بعدها .
(71) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 245 ، وما بعدها يتذامرون : يحض بعضهم بعضاً .
(72) أشطان البئر : حباله (ويروى بثغرة نحره) .
(73) شرح القصائد العشر للتبريزي الضرب : الخفيف خشاش فيه قوة ومضاء بلت : ظفرت وتمكنت.
(74) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 151 .
(75) شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 288 .
(76) المصدر السابق والثفال : خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن ، اللهوة : القبضة من الحب ، يبين : يظهر ، الوتر : الثأر ، نجذ : نقطع ويروى : نحز رؤوسهم في غير بر ، الأرجوان : صبغ أحمر .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره :
انتهت المقالة الأولى إلى الكلام عن الحروب في الجاهلية ، فتحدث
الكاتب عن أسباب الحروب ، وعن أثرها على موضوعات الشعر المختلفة ، فبيّن أن الحرب وما يكتنفها من موضوعات كانت من أهم دواعي الشعر ، فالفخر نما في ظل الحروب والمعارك ، وآخر ما استشهد به على ذلك ، أبيات من معلقة عمرو ابن كلثوم وهاهو يستأنف بحثه حول ذلك .
( فالمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذي يرفع قبيلته تغلب على
كل قبائل نجد شرقيّها وغربيّها ، فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره
الهلاك والدمار ، ويقول : إن حياتهم سلسلة من الحروب .. واعترف لأعدائه
بشجاعتهم ، فهم يقتُلون ويقتل منهم من قومه ، فثيابهم جميعاً ملطخة بالدماء..)[1].
وهناك كثير من الشعراء وصفوا خصومهم بالشجاعة وتسمى قصائدهم
بالمنصفة .
المُنْصِفات من القصائد :
من ذلك قول المفَضَّل النُّكْري يصف موقعة بين عشيرته من بني نُكْرة ابن
عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف يقول : [2]
وكم من سيد منا ومنهم ... بذي الطَرْفاء منطقه شهيق
فأشبعنا السباع وأشبعوها ... فراحت كلها تِئِقٌ يفوقُ
فأبكينا نساءهم وأبكوْا ... نساءً ما يسوغ لهن ريقُ
وصف مثير للمعركة ، فيه إنصاف للخصوم ، ورجولة تبتعد عن الادعاء
الفارغ ، تعجز عن هذه الرجولة جعجعة الجاهلية الحديثة ، وفي كل شرٌ .
ومن المنصفات أيضاً قصيدة للعباس ابن مرداس يصف فيها حرباً شديدة
وقعت بين قومه بني سليم وبين قبيلة مراد ، وكان الشاعر رئيسهم عندما غزا مراداً
بقيادة عمرو بن معد يكرب ... وفيها إنصاف للخصوم وشجاعتهم منها : [3]
فلم أرَ مثل الحيِّ حياً مصبِّحاً ... ولا مِثْلَنا -لما التقينا- فوارسا
فإنْ يقتلوا منا كريماً فإننا ... أبأنا به قتلى تُذِل المعاطسا
وهذا الشعر الذي يشيد بالأمجاد والانتصارات ، جعل شعر الحماسة من أروع
الموضوعات ، ولعله استغرق كثيراً من القصائد الجاهلية ، فهم يتغنون ببطولتهم
وأنهم لا يرهبون الموت (ويرتفع هذا الغناء بل هذا الصياح في كل مكان بحيث
يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه ، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمي
مجموعته من أشعارهم وأشعار من خلفوهم باسم الحماسة .. فهي ديوانهم الذي
يسطر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم ومن قرأ الأصمعيات والمفضليات يجد هذا الفخر
وما يطوي فيه من حماسة يدور على كل لسان) [4] .
ونختم حديثنا عن المنصفات من خلال شعر الحماسة والفخر بقول الحصين
بن الحمام المري عندما يندد بخصمه ، ويصفه بالجبن ، ويحاول أن ينصفه ،
ويصور لنا المعركة ، وشدة البأس فيها ، وأنهم مع خصومهم كانوا يعزون بعضهم ،
وتسود بينهم المودة والوئام : [5]
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأنْ كان يوماً ذا كواكب مظلماً
يُفَلِّقْنَ هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
وجوه عدو والصدور حديثة ... بودٍ فأودى كل ود فأنعما
نطاردهم نستنقذ الجرد كالقنا ... ويستَنقذون السمهري القوّما
لقد كان هذا الشعر من فخر وحماسة ، يصور الذكريات الدامية ،
والانتصارات الغاضبة للعرب في جاهليتهم ، وكانت لذة النصر تحرك المشاعر ،
وشدة الغيظ والحقد تلهب النفوس .
الهجاء يشارك في المعارك :
ولقد حاول الشعراء أن يهاجموا خصومهم ، وأن يتهموهم بالجبن والفرار
والهزيمة ، ولم يسلم الأشراف ولا السادة من اتهامهم بالعار والخزي ، وكان تأثير
الهجاء عنيفاً على النفوس قوياً على المهجوّين ، وكثيراً ما بكى بعض السادة من ألم
الهجاء ، فقد بكى علقمة بن عُلاثة وعبد الله بن جدعان ، ومخارق بن شهاب وهم
من أشراف قومهم وسادة قبائلهم [6] .
وكان اللسان ينكأ بهجائه في الأعداء نكأ السيوف والرماح ، وكان المتحاربون
وكذلك الشعراء يتبارون في أيهم يكون أنفذ سهماً ، حتى لا تقوم للشريف وقبيلته
قائمة . ومن هنا اقترن الهجاء عند عبد قيس بن خُفَاف البُّرحُمِيِّ بالسيف والرمح إذ
يقول : [7]
فأصبحتُ أعددت للنائبا ... تِ عِرضاً بريئاً وعضباً صقيلاً
ووقع لسانٍ كحد السنان ... ورمحاً طويل القناة عسولا
وكأنما أصبح همّ الهاجي أن يضرب عدوه الضربة القاضية . بل لكأن مناقبه
كانت تؤذيهم فكانوا يلطخونه بالعارٍ ، ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا شاعراً يهجو
النعمان بن المنذر ، ويتهمه أنه لم يولد لِرِشدة ، وأنه ليس سليل المناذرة إنما هو
سليل صائغ بالحيرة ، يقول عبد قيس بن خفاف البرجمي أيضاً : [8]
لعن الله ثم ثنى بلعن اب ... ن الصائغ الظلوم الجهولا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا
الرثاء :
ولقد بكى الشعراء صرعى المعارك بكاء مراً ، وندبت النساء الثكلى ، وكن
مازلن ينحن على القتيل حتى يُثأر له ، والخنساء كانت تخرج إلى عكاظ تندب
أخويها ، وهند بنت عتبة كانت تنوح على أبيها . وكانت النسوة يشققن جيوبهن ،
ويلطمن الوجوه ، ويقرعن صدورهن ، ويعقدن مأتماً من العويل والبكاء ، ومن أكثر
النساء بكاءً ونشيجاً الخنساء حيث تبكي أخاها صخراً ، ومن رائع ما ندبته به وقد
قتل في إحدى المعارك : [9]
قدىً بعينك أم بالعين عُوّارُ ... أم ذرَّفَتْ أنْ خلت من أهلها الدارُ
كأن عيني لذكراه إذا خطرتْ ... فيضٌ يسيل على الخدين مِدْرار
تبكي خُناسُ وما تنفك ما عمرت ... لها عليه رنينٌ وهي مقتار
وإنَّ صخراً لتأتم الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
ويرثي أبو دؤاد الإيادي من أودى من شباب قبيلته وكهولهم فيقول في ... قصيدته : [10]
لا أُعِذُّ الإقتار عُدْماً ولكن ... فَقْدُ من قد رزئتهُ الإعدام
ويستمر يبكي فيهم الرؤوس العظام وخلالهم وصفاتهم ... ويقول : إنهم
أصبحوا هاماً وصدى ...
سلط الدهرُ والمنونُ عليهمْ ... فلهم في صدى المقابر هامُ
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سَقام
وأروع الرثاء ما ندب به الأبطال في حومات القتال ، لأن الشعراء في بكائهم
وفي تعداد مناقب الموتى يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم ويهيجون القبيلة للحرب
ويدعون إلى الأخذ بالثأر . [11]
فهذه أم ندبة ترثى ابنها وتلوم زوجها حذيفة على قبول الدية : [12]
حذيفة لا سلمت من الأعادي ... ولا وفيت شر النائبات
أتقتلُ نُدبةً قيسٌ وترضى ... بأنعام ونوق سارحات
أما تخشى إذا قال الأعادي : ... حذيفة قلبه قلب البنات
فخذ ثأراً بأطراف العوالي ... وبالبيض الحداد المرهفات
وإلا خلني أبكي نهاري ... وليلي بالدموع الجاريات
لعلّ منيتي تأتي سريعاً ... وترقبني سهام الحادثات
أحبّ إلى من بعل جبان ... تكون حياته أردا الحياة
والمهلهل بن ربيعة الذي عرف بمراثيه لكليب يعدد مناقب أخيه ويذكر عزته
وعزمه .. يندبه كقائد للخيل يوم المعركة : [13]
أضحت منازل بالسلان قد درست ... تبكي كليباً ولم تفزعْ أقاصيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهواً إذا الخيل لَجَّتْ في تعاديها
وشعر الرثاء الباكي كثير ، كثرة القتلى والمعارك الدامية . هذه هي الجاهلية
قتال ، وغزو وحرب ، وبكاء وحماس ومفاخر ومنافرة .
المنافرات :
مفردها منافرة ، وسميت هكذا لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة : إنا أعز نفراً .. ونافر معناه حاكم في النسب [14] . وقد كثرت المفاخرات والمنافرات في
الجاهلية ، إذ يزعم كل فريق أنهم أكثر عدداً وأعز نفيراً ، وكان غالب مفاخراتهم
منافراتهم بالشجاعة والكرم والوفاء وذكر سادتهم وشجعانهم وأشرافهم ، وقد ذكر
صاحب بلوغ الأرب نماذج كثيرة من هذه المنافرات كمنافرة يمن ومضر ، ومنافرة
الأوس والخزرج ، ومنافرة عامر ابن الطفيل مع علقمة بن عُلاثة ، ومنافرة هاشم
وأمية [15] .
ومن أشهر المنافرات منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة تنافرا على
رئاسة قومهما وذهبا إلى هرم بن قطبة الفزاري فقال لهما هرم :
إنكما قد تحاكمتا عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم [16] الفحل تقعان
الأرض وليس منكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم . ولم
يفضل واحداً منهما على صاحبه كيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين ونحر الجزر
وفرق على الناس .
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه فقال : يا هرم أى
الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت ؟ قال : لو قلت ذلك اليوم عادت جذعة ولبلغت
شَعَفات هجر . فقال أمير المؤمنين : نعم مستودَع السر أنت يا هرم مثلك فليستودع
العشيرة أسرارهم ، وقال فيه الأعشى :
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر [17]
وهكذا تجد أن هذه المنافرات تجسد لنا تلك العقلية التي تعتز بالعدد والكثرة ،
والشجاعة والكرم ، وأن المنافر وقبيلته أفضل القبائل . ومن هنا عاب القرآن هذا
الشأن فقال تعالى :
[ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ ] والله لا يحب كل مختال فخور .
طريقة المقاتلة وأدوات القتال :
لقد أسهب الشعر الجاهلي في وصف دقائق الحرب ، طرقها وأدواتها
وأوقاتها [18] .
وقد كان قتالهم بالكر والفر أحياناً ، وقد يتخذون وراءهم حواجز من الظعائن
أو الإبل يرجعون إليها ، وعرفرا أحياناً الحروب المنظمة . وكانت المبارزة تسبق
الحرب في بعض الحالات قال عنترة : [19]
سأخرج للبراز خَلَّي بالٍ ... بقلب قُدً من زُبَرِ الحديد
وفى غزوة أحد تقدم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالراية متحدياً
المشركين وخرج إليه أبو سعيد بن أبي طلحة ليبارزه فضربه علي وصرعه [20] .
وقد أغاروا بالليل والنهار ، وربما كان أكثر الغارات ليلاً والقوم رقود وكانوا
يمتنعون عن القتال في الأشهر الحرم وفي ذلك حكمة بالغة في أمة اعتادت شنَّ
الغارات ، واعتادت السطو والسلب ، حيث يتمكن العقلاء من محاولات الصلح حتى
لا يسترسلون في التفاني وليتمكن الإنسان من قضاء حاجاته وأمور معاشه .
كان العرب في جاهليتهم يحرصون على أدوات القتال ، يحملونها لا تفارقهم
وافتخروا بأنواعها ، وجودتها ، فبها يغيرون ، ويثأرون ويغنمون ، لقد تحدثوا في
شعرهم عن السيوف والرماح والدروع بأنواعها ، وعن السهام والقسي بأشكالها ،
وفاخروا بالخيول الأصيلة ، فهذا عنترة يفتخر بأن وسادَه درعه وسيفه ، وبأن مقيله
ظهر حصانه : [21]
أيا عبل ما كنت لولا هواك ... قليل الصديق كثير الأعادي
وحقك لازال ظهر الجواد ... مقيلي وسيفي ودرعي وسادي
ومن أهم وسائلهم الخيول إذ أعزوها إعزازاً عجيباً ، وافتخروا بها لأنها
وسيلة الكر والفر ، وعرف العرب بالمحافظة على أنسابها [22] ، وعدم الخلط بين سلالاتها ، وكان إطلاق الأسماء على الخيل عادة معروفة ؛ ليميزوا بين الأصيل والهجين ، وقد ذكر صاحب أنساب الخبل [23] أكثر من مائة فرس من أفراس الجاهلية والإسلام مع نسبتها إلى أصحابها من ذلك أعوج ، كان سيد الخيل المشهورة ، كان لملك من ملوك كندة ، والغرب والوجيه ولاحق والمذهب وكتوم .
قال طفيل الغنوي :
بنات الغرب والوجيه ولاحق ... وأعوج تنمي نسبة المتنسب
ومنها داحس والغبراء ، والسلس فرس لمهلهل بن ربيعة التغلبي .
وقد ذكرت المفضليات [24] عدداً منها مثل : العرادة للكلحبة والرحالة
فرس عامر بن الطفيل . والكلام يطول في إعزاز العرب للخيل والشعر فيها كثير وكان أشراف العرب يخدمونها بأنفسهم ، ويفتخرون بكثرة العناية بها فالأعرج المعنّى يعجب لأن زوجته تعيب عليه إيثار فرسه الورد عليها باللبن ويقول : إن فرسه أفضل من زوجته ساعة الفزع ووقت الغارة : [25]
أرى أم سهل ما تزال تَفَجَّعُ ... تلوم ولا أدري علامَ تَوَجَّعُ
تلوم على أن أعطِي الورد لِقْحةً [26] ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
ويلوم عنترة امرأته لاعتراضها على سقائه اللبن وإطعامه الطعام :
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتأوهي ما شئت ثم تحوبي [27]
أنذر عنترة زوجته أن يهجرها كأنها جرباء وأصر أن يكون اللبن شراب
فرسه في كل مساء وإن حزنت وتألمت .
لقد أكثر الشعراء من وصف الخيل وما ذلك إلا لأنهم أمة جلاد وكفاح فهي
أول عدتهم وهي حصونهم المنيعة [28] .
وقد ورد الثناء عليها في القرآن الكريم والحديث الشريف قال تعالى : [ ومِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ ] وفي الحديث : « الخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة » .
إن الحياة الحربية ، والغارات ، جعلت عرب الجاهلية يمجدون الأبطال
الشجعان ، والفرسان الكماة ، حتى كثر الفرسان المشهورون وضربت بهم الأمثال
وقد ترجم صاحب بلوغ الأرب لعدد كبير منهم [29] .
فربيعة بن مكدم فارس كنانة ، وكان بنو فراس بن كنانة أنجد العرب وفيهم
يقول علي - رضى الله عنه - لأهل الكوفة : « مَنْ فاز بكم فقد فاز بالسهم ... الأخيب .. ووددت -والله- أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم » .
وعنترة بن شداد العبسي ، وقد شُهد له في حروب داحس والغبراء وأخباره
مشهورة أضحت تشبه الأساطير .
وزيد الخيل وهو زيد بن مهلهل الطائي الذي أسلم وسماه رسول الله صلى الله
عليه وسلم زيد الخير ، وعامر بن الطفيل فارس بني عامر وكان عامر من أشهر
العرب بأساً ونجدة وأبعدها اسماً كما يذكر ابن الأنباري في شرح المفضليات .
ومنهم عمرو بن معد يكرب ينتهي نسبه إلى كهلان بن سبأ ، ودريد بن الصمة
من بني جشم ، وعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة التغلبي وهو أحد فُتّاك
العرب وهو الذي قتل عمرو ابن هند الملك .
والحارث بن عُباد من فرسان ربيعة المشهورين ، ومهلهل بن ربيعة التغلبي
وهو عدي بن ربيعة صاحب حرب البسوس الشهيرة .
ومن طرائف أخبار الحارث بن عُباد والمهلهل أن الأول كان قد اعتزل حرب
البسوس حتى قتل المهلهلُ ولدَه (وقيل ابن أخيه) واسمه بجير ، وقال عندما طعنه
بالرمح وقتله : (بؤ بشسع نعل كليب) .
وعندما علم الحارث بذلك غضب ودعا بفرسه النعامة فجزّ ناصيتها وقال[30] : ...
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حربُ وائل عن حيال
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحَرِّها اليوم صال
وقاد قبائل بكر وقاتل تغلب حتى هرَب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب .
وكان أول يوم شهده الحارث بن عباد هو يوم تحلاق اللمم ، وفيه أَسر الحارثُ
مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له : دلني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك فقال له :
عليك العهد بذلك إن دللتك عليه ، قال : نعم ، قال : فأنا عدي فجز ناصيته وتركه
وقال فيه :
لهف نفسي على عدىّ ولم أعِ ... رف عدياً إذ أمكنتني اليدان [31]
وهذا وفاء نادر ، ورجولة تستحق الإكبار ، وتتضاءل أمامها مواقف الرجال
من أتباع الجاهلية الحديثة .
ولم يتركوا وسيلة إلا حاربوا بها حتى الحجارة وكثيراً ما ساعدتهم نساؤهم بها
قال بعضهم :
فإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يُشترى بالدراهم
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجال حُلقت بالمواسم [32]
د- الأسرى والسبايا : [33]
للحروب نتائجها المريرة قديماً وحديثاً ، وطالما فخر شعراء الجاهلية بأخذ
الأسرى لأنه برهان على النصر ، وسوْق النساء والأطفال سبايا حرب ، فالمهلهل
يفتخر بأنهم أسروا أعداءهم وشفوا من ذلك الصدور : [34]
فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف
وافتخر عمرو بن كلثوم بعودتهم ظافرين معهم الأسلاب والسبايا والأسرى :
فآبوا بالنِّهاب وبالسبايا ... وأبْنا بالملوك مُصَفّدينا [35]
وقد يسخرون الأسرى عبيداً ، أو يوردونهم حتفهم ، وفى يوم أوارة الأول
أسر المنذر بن ماء السماء من بني كنانة أسرى كثيرة ثم أمر بهم فذبحوا على جبل أوارة وأمر بالنساء أن يحرقن [36] .
وقد يطلقون الأسير ويمنون عليه بذلك بَعد أن يجزوا ناصيته ، وكان حرصهم
على جز ناصية الشريف شديداً ذلةً له ، واعتزازاً بالعفو عنه بعد المقدرة ومن
أخبارهم أن زيد الخيل أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته ثم خلى سبيله [37] .
كان شعراء الجاهلية يفتخرون بجز الناصية بعد الاحتفاظ بها لإظهارها عند
اللزوم مباهاة وافتخاراً ، تقول الخنساء :
جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لن تُجَزَّا
وقالت في أخيها صخر :
رداد عادية في فكاك عانية ... كضيغم باسل للقَرن هصّار [38]
وقد يطلق الآسر أسيره جزاء مدحة يسمعها ، ويؤثرها على الفداء فقد أسر
صعصعة بن محمود أحمرَ بن جندل فبعث إليه سلامة بن جندل أبياتاً منها :
فإن شئت أهدينا ثناء ومدحةً ... وإن شئت عدّينا لكم مائة معاً
فأطلقه آسره وقال : المدحة والثناء أحب إلينا [39] .
وكان العرب أحياناً يفدون الأسرى وأكبر قيمة دفعت في الفداء ثلاثمائة بعير
دفعتها أم بسطام بن عبد الله فداء لابنها [40] .
وقيل إن الأشعث بن قيس الكندي غزا مذحجاً فأُسِر وفدى نفسه بألفي ... بعبر [41] .
وقد يستولدون السبايا ، ولكنّ العربية السبية ما كانت لتنسى قومها وإن طال
العهد ، ويروى أن عروة بن الورد كان قد أصاب في بعض غاراته امرأة من كنانة ، واتخذها لنفسه فأولدها وحج بها ، ولقيه قومها ، وقالوا : فادنا بصاحبتنا فإنا نكره
أن تكون سبية عندك قال : على شريطة أن نخيرها بعد الفداء .. وكان يرى أنها لا
تختار عليه ، فرضوا بذاك ، وفادوا بها ، فلما خيروها اختارت قومها ثم قالت : أمَا
إني لا أعلم امرأة ألقت ستراً على خير منك .. ولقد أقمت معك وما يوم يمضي إلا
والموت أحب إلي من الحياة فيه ، وذلك أني كنت أسمع المرأة من قومك تقول :
قالت أمَةُ عروة كذا ، وقالت أمته كذا والله لا نظرت في وجه غطفانية فأرجع راشداً
وأحسن إلى ولدك [42] .
وقال فيها قصيدة طويلة يتحسر عليها منها :
ولو كاليوم كان عليّ أمري ... ومَنْ لك بالتدبر في الأمور
إذن لملكتُ عصمة أم عمرو ... على ما كان من حَسَكِ الصدور [43]
وكثير من سادات العرب في الجاهلية كانوا أبناء سبايا مثل دريد بن الصمة
فأمه ريحانة بنت معد يكرب أسرها الصمة ثم تزوجها فأنجبت دريداً وإخوته وهي
التي يقول أخوها عمرو في حديث إسارها :
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوعُ
سباها الصمة الجُشَمِيُّ غصباً ... كأن بياض غرتها صديع
وحالت دونها فرسان قيس ... تَكَشُّفُ عن سواعدها الدروع [44]
وقد تلقي المرأة السبية بنفسها من على ظهر هودجها كما فعلت فاطمة بنت
الخرشب أم الربيع بن زياد العبسي .. عندما أسرت رمت بنفسها على رأسها من
البعير فماتت خوفاً من أن يلحق بنيها عار .
هـ - الدعوة إلى نبذ الحرب [45] :
إن القتال في الجاهلية يكاد لا يهدأ ، فالأرواح تُزهق والنساء ترمل ، والبيوت
تخرب ، والثأر يزيد الحروب اشتعالاً ، في أرض لا تعرف الهدوء ووسط صحراء
لا ترحم .
والشعر الجاهلي خير مصدر لتصوير هذه المعارك ، وتلك المخاوف ... والويلات ، فعامر بن الطفيل يفتخر ببطولته وبطولة قومه ثم يعدد ... انتصاراتهم [46] :
ونحن صبحنا حي أسماء بالقنا ... ونحن تركنا حيّ مُرة مأتما
بقرنا الحبالى من شنوءة بعدما ... خبطن بِعِنفِ الريح نهداً وخثعما
ونحن صبحنا حي نجران غارة ... تبيل حبالاها مخافتنا دما
كانت رعونة الجاهلية تجبر إليها من اعتزل القتال قسراً ، كما حصل في
موقف الحارث بن عُباده عندما اعتزل حرب البسوس وقد مرت قصته فيما سبق .
على أن هذا الصخب وذلك الضجيج الذي شمل الحياة بكل مظاهرها لم يمنع
الأصوات القليلة من المناداة بالرجوع إلى حياة الأمن والاستقرار ، ومن المعلوم أن
العرب يقبلون الصلح ويرضون بالديات إلا بعد تفاقم الأمر ، وبعد أن تأتي الحرب
على الحرث والنسل ، أما قبل ذلك فقد كانت سبة وعاراً عندهم .
من المواقف النادرة في مساعي الصلح ، ما قام به هرم بن سنان بن عوف من
بني مرة ، لأنهما تحملا القتلى من عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء التي
دامت أربعين سنة ، وكانت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاثة أعوام .. فمدحهما
زهير بن أبي سُلمى ، وخلد ذكرهما في معلقته : [47]
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
يميناً لنعم السيدان وُجِدْتُما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر مَنْشِم ...
وقد قلتما : إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم
هذه الحروب أتاحت لزهير أن يتأمل الحرب وويلاتها وأن يعظ وينصح ،
يقول في معلقته : [48]
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرَ إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كِشافاً ثم تحمل فتُتْئِم
فتنتج لكم غلمانَ أشأم كلّهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
هذه الأبيات أجاد فيها زهير للتنفير من الحرب ، فيقول : لقد جربتم الحرب
وذقتم ويلاتها ، والحرب لا تلد إلا الحرب لأن العداء تتوارثه الأجيال بعد الأجيال ،
والحرب تلد توأمين ، أي أن شرها يتضاعف ، ولن يكون المولود إلا موتوراً ناقماً
ولن تكون الأجيال المولودة إلا مشائيم ، كأن كلاً منهم أحمر عاد الذي عقر الناقة
فأهلك القوم .. فالإنتاج لن يكون إلا ما تكرهون ، لا كإنتاج وغَلة قرى العراق من
الحبوب والدراهم .
ولقد أنصف عنترة العبسي عندما قيل له صف لنا الحرب فقال : أولها شكوى
وأوسطها نجوى ، وأخرها بلوى .
كان الأشراف يتوسطون في الصلح كما عرفنا ، ويحتسبون دماء القتلى من
الطرفين ومن زاد قتلاهم أخذوا ديتهم : للصريح ديته وللحليف ديته وهي نصف دية
الصريح ، كما حدث عندما حكمت الأوس والخزرج (في حروب سُمير) ثابت بن
المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت -رضي الله عنه- [49] .
وكان تقسيمها ألفاً للملوك ومائة للصريح وخمسين للحليف ، وكانت تقدر
بالإبل .
للبحث صلة
__________
(1) العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(2) الأصمعيات : ص 199 (والظرفاء : موضع المعركة) - التئق : الممتلئ - يفوق : أي أخذه البهر.
(3) الأصمعيات رقم القصيدة (70) ص 204 - أباءه به : قتله به والبواء : الكفء - المعاطس : الأنوف .
(4) العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 202 .
(5) المفضل الضبي ص 64 رقم القصيدة (12) .
(6) الحيوان للجاحظ وانظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(7) المفضليات ص 386 رقم (117) - العضب : السيف القاطع - الصقيل : المصقول الحاد - العسول : اللين المضطرب للينه .
(8) الحيوان : 4 / 379 .
(9) ديوان الخنساء - (العوار : الرمد - مدرار : كثير - خناس : الخنساء - مقتار : ضعيفة - العلم: الجبل) .
(10) الأصمعيات : ص 185 رقم (65) - الإقتار : قلة المال وضيق العيش ، العدم والإعدام : الفقر- الهام : ج هامة وكانوا يزعمون أن عظام الميت أو روحه تعيدها هامة فتطير فحرم ذلك الإسلام ونفاه.
(11) الفروسية في الشعر الجاهلي : 265 وما بعدها .
(12) لويس شيخو : شعراء النصرانية 1/166 .
(13) المصدر السابق .
(14) بلوغ الأرب للالوسي 1/288 .
(15) انظر بلوغ الأرب للألوسي 1/278 - 307 .
(16) والجمل الأدرم : الذي سقطت أسنانه .
(17) بلوغ الأرب للألوسي : 1/278 - 307 .
(18) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي من 232 حتى ص 264 .
(19) الديوان ص 54 - قدّ : قطع - زبر الحديد : قطع الحديد .
(20) السيرة النبوية لابن هشام 3/19 .
(21) ديوان عنترة : ص 53 .
(22) الفروسية في الشعر الجاهلي : ص 139 وما بعدها وانظر بلوغ الأرب : خيل العرب المشهورة ص 104 وما بعدها .
(23) ابن الكلبي : أنساب الخيل .
(24) المفضليات ص 32-33 ، 37 .
(25) شرح ديوان الحماسة للمرزقي 1/349 نقلاً عن الحياة العربية .
(26) لقحة : لبن الناقة .
(27) ديوان عنترة : 19 - وانظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ، والتحوب : التوجع .
(28) انظر معلقة امرئ القيس في وصف الحصان والأصمعيات رقم 39 .
(29) بلوغ الأرب : الألوسي من ص 124 - 160 الجزء الثاني .
(30) الأصمعيات رقم 17 - ولقحت الحرب أي هاجت بعد سكون .
(31) بلوغ الأرب : 2/147 ، 156 .
(32) شرح الحماسة للمرزوقي : 1/118 والمواسم : مواسم الحج .
(33) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي : الحوفي من (264 - 272) .
(34) شعراء النصرانية 2/180 .
(35) معلقته : تبريزي ص 280 .
(36) أيام العرب : 99 يوم أوارة الأول .
(37) الأغاني 16/51 .
(38) الديوان : 145 ، 136 .
(39) ديوان سلامة بن جندل : ص 22 نقلاً عن الحياة العربية .
(40) أيام العرب : ص 200 .
(41) الميداني في مجمع الأمثال 2/11 .
(42) عن الشعر والشعراء 2/680 .
(43) المراد بمسك الصدور : الغل والعداوة .
(44) الأغاني : 9/2 ساسي .
(45) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 272 وما بعدها ، الفروسية للقيسي ص 106 وما بعدها.
(46) ديوان عامر بن الطفيل : 117 عن الفروسية في الشعر الجاهلي (وحي أسماء : يعني فزارة - وشنوءة ونهد وخيثم من القبائل اليمينة ، وتبيل : أي ترمي أولادها من مخافتنا) .
(47) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 135 ، 1- تبزل : تشقق ، 2- أي نعم السيدان وجدتما لأمر أبرمتماه أو لم تبرماه ولم تحكماه أي على كل حال من شدة الأمر وسهولته ، 3- منشم : امرأة عطارة تحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها ليتحرموا به ثم خرجوا إلى الحرب فقتلوا جميعاً فتشاءمت العرب بها) ، .
(48) المصدر السابق ص 140 - 142 .
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره :
انتهت المقالة الأولى إلى الكلام عن الحروب في الجاهلية ، فتحدث
الكاتب عن أسباب الحروب ، وعن أثرها على موضوعات الشعر المختلفة ، فبيّن أن الحرب وما يكتنفها من موضوعات كانت من أهم دواعي الشعر ، فالفخر نما في ظل الحروب والمعارك ، وآخر ما استشهد به على ذلك ، أبيات من معلقة عمرو ابن كلثوم وهاهو يستأنف بحثه حول ذلك .
( فالمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذي يرفع قبيلته تغلب على
كل قبائل نجد شرقيّها وغربيّها ، فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره
الهلاك والدمار ، ويقول : إن حياتهم سلسلة من الحروب .. واعترف لأعدائه
بشجاعتهم ، فهم يقتُلون ويقتل منهم من قومه ، فثيابهم جميعاً ملطخة بالدماء..)[1].
وهناك كثير من الشعراء وصفوا خصومهم بالشجاعة وتسمى قصائدهم
بالمنصفة .
المُنْصِفات من القصائد :
من ذلك قول المفَضَّل النُّكْري يصف موقعة بين عشيرته من بني نُكْرة ابن
عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف يقول : [2]
وكم من سيد منا ومنهم ... بذي الطَرْفاء منطقه شهيق
فأشبعنا السباع وأشبعوها ... فراحت كلها تِئِقٌ يفوقُ
فأبكينا نساءهم وأبكوْا ... نساءً ما يسوغ لهن ريقُ
وصف مثير للمعركة ، فيه إنصاف للخصوم ، ورجولة تبتعد عن الادعاء
الفارغ ، تعجز عن هذه الرجولة جعجعة الجاهلية الحديثة ، وفي كل شرٌ .
ومن المنصفات أيضاً قصيدة للعباس ابن مرداس يصف فيها حرباً شديدة
وقعت بين قومه بني سليم وبين قبيلة مراد ، وكان الشاعر رئيسهم عندما غزا مراداً
بقيادة عمرو بن معد يكرب ... وفيها إنصاف للخصوم وشجاعتهم منها : [3]
فلم أرَ مثل الحيِّ حياً مصبِّحاً ... ولا مِثْلَنا -لما التقينا- فوارسا
فإنْ يقتلوا منا كريماً فإننا ... أبأنا به قتلى تُذِل المعاطسا
وهذا الشعر الذي يشيد بالأمجاد والانتصارات ، جعل شعر الحماسة من أروع
الموضوعات ، ولعله استغرق كثيراً من القصائد الجاهلية ، فهم يتغنون ببطولتهم
وأنهم لا يرهبون الموت (ويرتفع هذا الغناء بل هذا الصياح في كل مكان بحيث
يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه ، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمي
مجموعته من أشعارهم وأشعار من خلفوهم باسم الحماسة .. فهي ديوانهم الذي
يسطر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم ومن قرأ الأصمعيات والمفضليات يجد هذا الفخر
وما يطوي فيه من حماسة يدور على كل لسان) [4] .
ونختم حديثنا عن المنصفات من خلال شعر الحماسة والفخر بقول الحصين
بن الحمام المري عندما يندد بخصمه ، ويصفه بالجبن ، ويحاول أن ينصفه ،
ويصور لنا المعركة ، وشدة البأس فيها ، وأنهم مع خصومهم كانوا يعزون بعضهم ،
وتسود بينهم المودة والوئام : [5]
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأنْ كان يوماً ذا كواكب مظلماً
يُفَلِّقْنَ هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
وجوه عدو والصدور حديثة ... بودٍ فأودى كل ود فأنعما
نطاردهم نستنقذ الجرد كالقنا ... ويستَنقذون السمهري القوّما
لقد كان هذا الشعر من فخر وحماسة ، يصور الذكريات الدامية ،
والانتصارات الغاضبة للعرب في جاهليتهم ، وكانت لذة النصر تحرك المشاعر ،
وشدة الغيظ والحقد تلهب النفوس .
الهجاء يشارك في المعارك :
ولقد حاول الشعراء أن يهاجموا خصومهم ، وأن يتهموهم بالجبن والفرار
والهزيمة ، ولم يسلم الأشراف ولا السادة من اتهامهم بالعار والخزي ، وكان تأثير
الهجاء عنيفاً على النفوس قوياً على المهجوّين ، وكثيراً ما بكى بعض السادة من ألم
الهجاء ، فقد بكى علقمة بن عُلاثة وعبد الله بن جدعان ، ومخارق بن شهاب وهم
من أشراف قومهم وسادة قبائلهم [6] .
وكان اللسان ينكأ بهجائه في الأعداء نكأ السيوف والرماح ، وكان المتحاربون
وكذلك الشعراء يتبارون في أيهم يكون أنفذ سهماً ، حتى لا تقوم للشريف وقبيلته
قائمة . ومن هنا اقترن الهجاء عند عبد قيس بن خُفَاف البُّرحُمِيِّ بالسيف والرمح إذ
يقول : [7]
فأصبحتُ أعددت للنائبا ... تِ عِرضاً بريئاً وعضباً صقيلاً
ووقع لسانٍ كحد السنان ... ورمحاً طويل القناة عسولا
وكأنما أصبح همّ الهاجي أن يضرب عدوه الضربة القاضية . بل لكأن مناقبه
كانت تؤذيهم فكانوا يلطخونه بالعارٍ ، ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا شاعراً يهجو
النعمان بن المنذر ، ويتهمه أنه لم يولد لِرِشدة ، وأنه ليس سليل المناذرة إنما هو
سليل صائغ بالحيرة ، يقول عبد قيس بن خفاف البرجمي أيضاً : [8]
لعن الله ثم ثنى بلعن اب ... ن الصائغ الظلوم الجهولا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا
الرثاء :
ولقد بكى الشعراء صرعى المعارك بكاء مراً ، وندبت النساء الثكلى ، وكن
مازلن ينحن على القتيل حتى يُثأر له ، والخنساء كانت تخرج إلى عكاظ تندب
أخويها ، وهند بنت عتبة كانت تنوح على أبيها . وكانت النسوة يشققن جيوبهن ،
ويلطمن الوجوه ، ويقرعن صدورهن ، ويعقدن مأتماً من العويل والبكاء ، ومن أكثر
النساء بكاءً ونشيجاً الخنساء حيث تبكي أخاها صخراً ، ومن رائع ما ندبته به وقد
قتل في إحدى المعارك : [9]
قدىً بعينك أم بالعين عُوّارُ ... أم ذرَّفَتْ أنْ خلت من أهلها الدارُ
كأن عيني لذكراه إذا خطرتْ ... فيضٌ يسيل على الخدين مِدْرار
تبكي خُناسُ وما تنفك ما عمرت ... لها عليه رنينٌ وهي مقتار
وإنَّ صخراً لتأتم الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
ويرثي أبو دؤاد الإيادي من أودى من شباب قبيلته وكهولهم فيقول في ... قصيدته : [10]
لا أُعِذُّ الإقتار عُدْماً ولكن ... فَقْدُ من قد رزئتهُ الإعدام
ويستمر يبكي فيهم الرؤوس العظام وخلالهم وصفاتهم ... ويقول : إنهم
أصبحوا هاماً وصدى ...
سلط الدهرُ والمنونُ عليهمْ ... فلهم في صدى المقابر هامُ
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سَقام
وأروع الرثاء ما ندب به الأبطال في حومات القتال ، لأن الشعراء في بكائهم
وفي تعداد مناقب الموتى يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم ويهيجون القبيلة للحرب
ويدعون إلى الأخذ بالثأر . [11]
فهذه أم ندبة ترثى ابنها وتلوم زوجها حذيفة على قبول الدية : [12]
حذيفة لا سلمت من الأعادي ... ولا وفيت شر النائبات
أتقتلُ نُدبةً قيسٌ وترضى ... بأنعام ونوق سارحات
أما تخشى إذا قال الأعادي : ... حذيفة قلبه قلب البنات
فخذ ثأراً بأطراف العوالي ... وبالبيض الحداد المرهفات
وإلا خلني أبكي نهاري ... وليلي بالدموع الجاريات
لعلّ منيتي تأتي سريعاً ... وترقبني سهام الحادثات
أحبّ إلى من بعل جبان ... تكون حياته أردا الحياة
والمهلهل بن ربيعة الذي عرف بمراثيه لكليب يعدد مناقب أخيه ويذكر عزته
وعزمه .. يندبه كقائد للخيل يوم المعركة : [13]
أضحت منازل بالسلان قد درست ... تبكي كليباً ولم تفزعْ أقاصيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهواً إذا الخيل لَجَّتْ في تعاديها
وشعر الرثاء الباكي كثير ، كثرة القتلى والمعارك الدامية . هذه هي الجاهلية
قتال ، وغزو وحرب ، وبكاء وحماس ومفاخر ومنافرة .
المنافرات :
مفردها منافرة ، وسميت هكذا لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة : إنا أعز نفراً .. ونافر معناه حاكم في النسب [14] . وقد كثرت المفاخرات والمنافرات في
الجاهلية ، إذ يزعم كل فريق أنهم أكثر عدداً وأعز نفيراً ، وكان غالب مفاخراتهم
منافراتهم بالشجاعة والكرم والوفاء وذكر سادتهم وشجعانهم وأشرافهم ، وقد ذكر
صاحب بلوغ الأرب نماذج كثيرة من هذه المنافرات كمنافرة يمن ومضر ، ومنافرة
الأوس والخزرج ، ومنافرة عامر ابن الطفيل مع علقمة بن عُلاثة ، ومنافرة هاشم
وأمية [15] .
ومن أشهر المنافرات منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة تنافرا على
رئاسة قومهما وذهبا إلى هرم بن قطبة الفزاري فقال لهما هرم :
إنكما قد تحاكمتا عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم [16] الفحل تقعان
الأرض وليس منكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم . ولم
يفضل واحداً منهما على صاحبه كيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين ونحر الجزر
وفرق على الناس .
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه فقال : يا هرم أى
الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت ؟ قال : لو قلت ذلك اليوم عادت جذعة ولبلغت
شَعَفات هجر . فقال أمير المؤمنين : نعم مستودَع السر أنت يا هرم مثلك فليستودع
العشيرة أسرارهم ، وقال فيه الأعشى :
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر [17]
وهكذا تجد أن هذه المنافرات تجسد لنا تلك العقلية التي تعتز بالعدد والكثرة ،
والشجاعة والكرم ، وأن المنافر وقبيلته أفضل القبائل . ومن هنا عاب القرآن هذا
الشأن فقال تعالى :
[ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ ] والله لا يحب كل مختال فخور .
طريقة المقاتلة وأدوات القتال :
لقد أسهب الشعر الجاهلي في وصف دقائق الحرب ، طرقها وأدواتها
وأوقاتها [18] .
وقد كان قتالهم بالكر والفر أحياناً ، وقد يتخذون وراءهم حواجز من الظعائن
أو الإبل يرجعون إليها ، وعرفرا أحياناً الحروب المنظمة . وكانت المبارزة تسبق
الحرب في بعض الحالات قال عنترة : [19]
سأخرج للبراز خَلَّي بالٍ ... بقلب قُدً من زُبَرِ الحديد
وفى غزوة أحد تقدم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالراية متحدياً
المشركين وخرج إليه أبو سعيد بن أبي طلحة ليبارزه فضربه علي وصرعه [20] .
وقد أغاروا بالليل والنهار ، وربما كان أكثر الغارات ليلاً والقوم رقود وكانوا
يمتنعون عن القتال في الأشهر الحرم وفي ذلك حكمة بالغة في أمة اعتادت شنَّ
الغارات ، واعتادت السطو والسلب ، حيث يتمكن العقلاء من محاولات الصلح حتى
لا يسترسلون في التفاني وليتمكن الإنسان من قضاء حاجاته وأمور معاشه .
كان العرب في جاهليتهم يحرصون على أدوات القتال ، يحملونها لا تفارقهم
وافتخروا بأنواعها ، وجودتها ، فبها يغيرون ، ويثأرون ويغنمون ، لقد تحدثوا في
شعرهم عن السيوف والرماح والدروع بأنواعها ، وعن السهام والقسي بأشكالها ،
وفاخروا بالخيول الأصيلة ، فهذا عنترة يفتخر بأن وسادَه درعه وسيفه ، وبأن مقيله
ظهر حصانه : [21]
أيا عبل ما كنت لولا هواك ... قليل الصديق كثير الأعادي
وحقك لازال ظهر الجواد ... مقيلي وسيفي ودرعي وسادي
ومن أهم وسائلهم الخيول إذ أعزوها إعزازاً عجيباً ، وافتخروا بها لأنها
وسيلة الكر والفر ، وعرف العرب بالمحافظة على أنسابها [22] ، وعدم الخلط بين سلالاتها ، وكان إطلاق الأسماء على الخيل عادة معروفة ؛ ليميزوا بين الأصيل والهجين ، وقد ذكر صاحب أنساب الخبل [23] أكثر من مائة فرس من أفراس الجاهلية والإسلام مع نسبتها إلى أصحابها من ذلك أعوج ، كان سيد الخيل المشهورة ، كان لملك من ملوك كندة ، والغرب والوجيه ولاحق والمذهب وكتوم .
قال طفيل الغنوي :
بنات الغرب والوجيه ولاحق ... وأعوج تنمي نسبة المتنسب
ومنها داحس والغبراء ، والسلس فرس لمهلهل بن ربيعة التغلبي .
وقد ذكرت المفضليات [24] عدداً منها مثل : العرادة للكلحبة والرحالة
فرس عامر بن الطفيل . والكلام يطول في إعزاز العرب للخيل والشعر فيها كثير وكان أشراف العرب يخدمونها بأنفسهم ، ويفتخرون بكثرة العناية بها فالأعرج المعنّى يعجب لأن زوجته تعيب عليه إيثار فرسه الورد عليها باللبن ويقول : إن فرسه أفضل من زوجته ساعة الفزع ووقت الغارة : [25]
أرى أم سهل ما تزال تَفَجَّعُ ... تلوم ولا أدري علامَ تَوَجَّعُ
تلوم على أن أعطِي الورد لِقْحةً [26] ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
ويلوم عنترة امرأته لاعتراضها على سقائه اللبن وإطعامه الطعام :
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتأوهي ما شئت ثم تحوبي [27]
أنذر عنترة زوجته أن يهجرها كأنها جرباء وأصر أن يكون اللبن شراب
فرسه في كل مساء وإن حزنت وتألمت .
لقد أكثر الشعراء من وصف الخيل وما ذلك إلا لأنهم أمة جلاد وكفاح فهي
أول عدتهم وهي حصونهم المنيعة [28] .
وقد ورد الثناء عليها في القرآن الكريم والحديث الشريف قال تعالى : [ ومِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ ] وفي الحديث : « الخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة » .
إن الحياة الحربية ، والغارات ، جعلت عرب الجاهلية يمجدون الأبطال
الشجعان ، والفرسان الكماة ، حتى كثر الفرسان المشهورون وضربت بهم الأمثال
وقد ترجم صاحب بلوغ الأرب لعدد كبير منهم [29] .
فربيعة بن مكدم فارس كنانة ، وكان بنو فراس بن كنانة أنجد العرب وفيهم
يقول علي - رضى الله عنه - لأهل الكوفة : « مَنْ فاز بكم فقد فاز بالسهم ... الأخيب .. ووددت -والله- أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم » .
وعنترة بن شداد العبسي ، وقد شُهد له في حروب داحس والغبراء وأخباره
مشهورة أضحت تشبه الأساطير .
وزيد الخيل وهو زيد بن مهلهل الطائي الذي أسلم وسماه رسول الله صلى الله
عليه وسلم زيد الخير ، وعامر بن الطفيل فارس بني عامر وكان عامر من أشهر
العرب بأساً ونجدة وأبعدها اسماً كما يذكر ابن الأنباري في شرح المفضليات .
ومنهم عمرو بن معد يكرب ينتهي نسبه إلى كهلان بن سبأ ، ودريد بن الصمة
من بني جشم ، وعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة التغلبي وهو أحد فُتّاك
العرب وهو الذي قتل عمرو ابن هند الملك .
والحارث بن عُباد من فرسان ربيعة المشهورين ، ومهلهل بن ربيعة التغلبي
وهو عدي بن ربيعة صاحب حرب البسوس الشهيرة .
ومن طرائف أخبار الحارث بن عُباد والمهلهل أن الأول كان قد اعتزل حرب
البسوس حتى قتل المهلهلُ ولدَه (وقيل ابن أخيه) واسمه بجير ، وقال عندما طعنه
بالرمح وقتله : (بؤ بشسع نعل كليب) .
وعندما علم الحارث بذلك غضب ودعا بفرسه النعامة فجزّ ناصيتها وقال[30] : ...
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حربُ وائل عن حيال
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحَرِّها اليوم صال
وقاد قبائل بكر وقاتل تغلب حتى هرَب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب .
وكان أول يوم شهده الحارث بن عباد هو يوم تحلاق اللمم ، وفيه أَسر الحارثُ
مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له : دلني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك فقال له :
عليك العهد بذلك إن دللتك عليه ، قال : نعم ، قال : فأنا عدي فجز ناصيته وتركه
وقال فيه :
لهف نفسي على عدىّ ولم أعِ ... رف عدياً إذ أمكنتني اليدان [31]
وهذا وفاء نادر ، ورجولة تستحق الإكبار ، وتتضاءل أمامها مواقف الرجال
من أتباع الجاهلية الحديثة .
ولم يتركوا وسيلة إلا حاربوا بها حتى الحجارة وكثيراً ما ساعدتهم نساؤهم بها
قال بعضهم :
فإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يُشترى بالدراهم
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجال حُلقت بالمواسم [32]
د- الأسرى والسبايا : [33]
للحروب نتائجها المريرة قديماً وحديثاً ، وطالما فخر شعراء الجاهلية بأخذ
الأسرى لأنه برهان على النصر ، وسوْق النساء والأطفال سبايا حرب ، فالمهلهل
يفتخر بأنهم أسروا أعداءهم وشفوا من ذلك الصدور : [34]
فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف
وافتخر عمرو بن كلثوم بعودتهم ظافرين معهم الأسلاب والسبايا والأسرى :
فآبوا بالنِّهاب وبالسبايا ... وأبْنا بالملوك مُصَفّدينا [35]
وقد يسخرون الأسرى عبيداً ، أو يوردونهم حتفهم ، وفى يوم أوارة الأول
أسر المنذر بن ماء السماء من بني كنانة أسرى كثيرة ثم أمر بهم فذبحوا على جبل أوارة وأمر بالنساء أن يحرقن [36] .
وقد يطلقون الأسير ويمنون عليه بذلك بَعد أن يجزوا ناصيته ، وكان حرصهم
على جز ناصية الشريف شديداً ذلةً له ، واعتزازاً بالعفو عنه بعد المقدرة ومن
أخبارهم أن زيد الخيل أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته ثم خلى سبيله [37] .
كان شعراء الجاهلية يفتخرون بجز الناصية بعد الاحتفاظ بها لإظهارها عند
اللزوم مباهاة وافتخاراً ، تقول الخنساء :
جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لن تُجَزَّا
وقالت في أخيها صخر :
رداد عادية في فكاك عانية ... كضيغم باسل للقَرن هصّار [38]
وقد يطلق الآسر أسيره جزاء مدحة يسمعها ، ويؤثرها على الفداء فقد أسر
صعصعة بن محمود أحمرَ بن جندل فبعث إليه سلامة بن جندل أبياتاً منها :
فإن شئت أهدينا ثناء ومدحةً ... وإن شئت عدّينا لكم مائة معاً
فأطلقه آسره وقال : المدحة والثناء أحب إلينا [39] .
وكان العرب أحياناً يفدون الأسرى وأكبر قيمة دفعت في الفداء ثلاثمائة بعير
دفعتها أم بسطام بن عبد الله فداء لابنها [40] .
وقيل إن الأشعث بن قيس الكندي غزا مذحجاً فأُسِر وفدى نفسه بألفي ... بعبر [41] .
وقد يستولدون السبايا ، ولكنّ العربية السبية ما كانت لتنسى قومها وإن طال
العهد ، ويروى أن عروة بن الورد كان قد أصاب في بعض غاراته امرأة من كنانة ، واتخذها لنفسه فأولدها وحج بها ، ولقيه قومها ، وقالوا : فادنا بصاحبتنا فإنا نكره
أن تكون سبية عندك قال : على شريطة أن نخيرها بعد الفداء .. وكان يرى أنها لا
تختار عليه ، فرضوا بذاك ، وفادوا بها ، فلما خيروها اختارت قومها ثم قالت : أمَا
إني لا أعلم امرأة ألقت ستراً على خير منك .. ولقد أقمت معك وما يوم يمضي إلا
والموت أحب إلي من الحياة فيه ، وذلك أني كنت أسمع المرأة من قومك تقول :
قالت أمَةُ عروة كذا ، وقالت أمته كذا والله لا نظرت في وجه غطفانية فأرجع راشداً
وأحسن إلى ولدك [42] .
وقال فيها قصيدة طويلة يتحسر عليها منها :
ولو كاليوم كان عليّ أمري ... ومَنْ لك بالتدبر في الأمور
إذن لملكتُ عصمة أم عمرو ... على ما كان من حَسَكِ الصدور [43]
وكثير من سادات العرب في الجاهلية كانوا أبناء سبايا مثل دريد بن الصمة
فأمه ريحانة بنت معد يكرب أسرها الصمة ثم تزوجها فأنجبت دريداً وإخوته وهي
التي يقول أخوها عمرو في حديث إسارها :
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوعُ
سباها الصمة الجُشَمِيُّ غصباً ... كأن بياض غرتها صديع
وحالت دونها فرسان قيس ... تَكَشُّفُ عن سواعدها الدروع [44]
وقد تلقي المرأة السبية بنفسها من على ظهر هودجها كما فعلت فاطمة بنت
الخرشب أم الربيع بن زياد العبسي .. عندما أسرت رمت بنفسها على رأسها من
البعير فماتت خوفاً من أن يلحق بنيها عار .
هـ - الدعوة إلى نبذ الحرب [45] :
إن القتال في الجاهلية يكاد لا يهدأ ، فالأرواح تُزهق والنساء ترمل ، والبيوت
تخرب ، والثأر يزيد الحروب اشتعالاً ، في أرض لا تعرف الهدوء ووسط صحراء
لا ترحم .
والشعر الجاهلي خير مصدر لتصوير هذه المعارك ، وتلك المخاوف ... والويلات ، فعامر بن الطفيل يفتخر ببطولته وبطولة قومه ثم يعدد ... انتصاراتهم [46] :
ونحن صبحنا حي أسماء بالقنا ... ونحن تركنا حيّ مُرة مأتما
بقرنا الحبالى من شنوءة بعدما ... خبطن بِعِنفِ الريح نهداً وخثعما
ونحن صبحنا حي نجران غارة ... تبيل حبالاها مخافتنا دما
كانت رعونة الجاهلية تجبر إليها من اعتزل القتال قسراً ، كما حصل في
موقف الحارث بن عُباده عندما اعتزل حرب البسوس وقد مرت قصته فيما سبق .
على أن هذا الصخب وذلك الضجيج الذي شمل الحياة بكل مظاهرها لم يمنع
الأصوات القليلة من المناداة بالرجوع إلى حياة الأمن والاستقرار ، ومن المعلوم أن
العرب يقبلون الصلح ويرضون بالديات إلا بعد تفاقم الأمر ، وبعد أن تأتي الحرب
على الحرث والنسل ، أما قبل ذلك فقد كانت سبة وعاراً عندهم .
من المواقف النادرة في مساعي الصلح ، ما قام به هرم بن سنان بن عوف من
بني مرة ، لأنهما تحملا القتلى من عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء التي
دامت أربعين سنة ، وكانت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاثة أعوام .. فمدحهما
زهير بن أبي سُلمى ، وخلد ذكرهما في معلقته : [47]
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
يميناً لنعم السيدان وُجِدْتُما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر مَنْشِم ...
وقد قلتما : إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم
هذه الحروب أتاحت لزهير أن يتأمل الحرب وويلاتها وأن يعظ وينصح ،
يقول في معلقته : [48]
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرَ إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كِشافاً ثم تحمل فتُتْئِم
فتنتج لكم غلمانَ أشأم كلّهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
هذه الأبيات أجاد فيها زهير للتنفير من الحرب ، فيقول : لقد جربتم الحرب
وذقتم ويلاتها ، والحرب لا تلد إلا الحرب لأن العداء تتوارثه الأجيال بعد الأجيال ،
والحرب تلد توأمين ، أي أن شرها يتضاعف ، ولن يكون المولود إلا موتوراً ناقماً
ولن تكون الأجيال المولودة إلا مشائيم ، كأن كلاً منهم أحمر عاد الذي عقر الناقة
فأهلك القوم .. فالإنتاج لن يكون إلا ما تكرهون ، لا كإنتاج وغَلة قرى العراق من
الحبوب والدراهم .
ولقد أنصف عنترة العبسي عندما قيل له صف لنا الحرب فقال : أولها شكوى
وأوسطها نجوى ، وأخرها بلوى .
كان الأشراف يتوسطون في الصلح كما عرفنا ، ويحتسبون دماء القتلى من
الطرفين ومن زاد قتلاهم أخذوا ديتهم : للصريح ديته وللحليف ديته وهي نصف دية
الصريح ، كما حدث عندما حكمت الأوس والخزرج (في حروب سُمير) ثابت بن
المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت -رضي الله عنه- [49] .
وكان تقسيمها ألفاً للملوك ومائة للصريح وخمسين للحليف ، وكانت تقدر
بالإبل .
للبحث صلة
__________
(1) العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(2) الأصمعيات : ص 199 (والظرفاء : موضع المعركة) - التئق : الممتلئ - يفوق : أي أخذه البهر.
(3) الأصمعيات رقم القصيدة (70) ص 204 - أباءه به : قتله به والبواء : الكفء - المعاطس : الأنوف .
(4) العصر الجاهلي : شوقي ضيف ص 202 .
(5) المفضل الضبي ص 64 رقم القصيدة (12) .
(6) الحيوان للجاحظ وانظر العصر الجاهلي : شوقي ضيف .
(7) المفضليات ص 386 رقم (117) - العضب : السيف القاطع - الصقيل : المصقول الحاد - العسول : اللين المضطرب للينه .
(8) الحيوان : 4 / 379 .
(9) ديوان الخنساء - (العوار : الرمد - مدرار : كثير - خناس : الخنساء - مقتار : ضعيفة - العلم: الجبل) .
(10) الأصمعيات : ص 185 رقم (65) - الإقتار : قلة المال وضيق العيش ، العدم والإعدام : الفقر- الهام : ج هامة وكانوا يزعمون أن عظام الميت أو روحه تعيدها هامة فتطير فحرم ذلك الإسلام ونفاه.
(11) الفروسية في الشعر الجاهلي : 265 وما بعدها .
(12) لويس شيخو : شعراء النصرانية 1/166 .
(13) المصدر السابق .
(14) بلوغ الأرب للالوسي 1/288 .
(15) انظر بلوغ الأرب للألوسي 1/278 - 307 .
(16) والجمل الأدرم : الذي سقطت أسنانه .
(17) بلوغ الأرب للألوسي : 1/278 - 307 .
(18) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي من 232 حتى ص 264 .
(19) الديوان ص 54 - قدّ : قطع - زبر الحديد : قطع الحديد .
(20) السيرة النبوية لابن هشام 3/19 .
(21) ديوان عنترة : ص 53 .
(22) الفروسية في الشعر الجاهلي : ص 139 وما بعدها وانظر بلوغ الأرب : خيل العرب المشهورة ص 104 وما بعدها .
(23) ابن الكلبي : أنساب الخيل .
(24) المفضليات ص 32-33 ، 37 .
(25) شرح ديوان الحماسة للمرزقي 1/349 نقلاً عن الحياة العربية .
(26) لقحة : لبن الناقة .
(27) ديوان عنترة : 19 - وانظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ، والتحوب : التوجع .
(28) انظر معلقة امرئ القيس في وصف الحصان والأصمعيات رقم 39 .
(29) بلوغ الأرب : الألوسي من ص 124 - 160 الجزء الثاني .
(30) الأصمعيات رقم 17 - ولقحت الحرب أي هاجت بعد سكون .
(31) بلوغ الأرب : 2/147 ، 156 .
(32) شرح الحماسة للمرزوقي : 1/118 والمواسم : مواسم الحج .
(33) انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي : الحوفي من (264 - 272) .
(34) شعراء النصرانية 2/180 .
(35) معلقته : تبريزي ص 280 .
(36) أيام العرب : 99 يوم أوارة الأول .
(37) الأغاني 16/51 .
(38) الديوان : 145 ، 136 .
(39) ديوان سلامة بن جندل : ص 22 نقلاً عن الحياة العربية .
(40) أيام العرب : ص 200 .
(41) الميداني في مجمع الأمثال 2/11 .
(42) عن الشعر والشعراء 2/680 .
(43) المراد بمسك الصدور : الغل والعداوة .
(44) الأغاني : 9/2 ساسي .
(45) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 272 وما بعدها ، الفروسية للقيسي ص 106 وما بعدها.
(46) ديوان عامر بن الطفيل : 117 عن الفروسية في الشعر الجاهلي (وحي أسماء : يعني فزارة - وشنوءة ونهد وخيثم من القبائل اليمينة ، وتبيل : أي ترمي أولادها من مخافتنا) .
(47) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 135 ، 1- تبزل : تشقق ، 2- أي نعم السيدان وجدتما لأمر أبرمتماه أو لم تبرماه ولم تحكماه أي على كل حال من شدة الأمر وسهولته ، 3- منشم : امرأة عطارة تحالف قوم فأدخلوا أيديهم في عطرها ليتحرموا به ثم خرجوا إلى الحرب فقتلوا جميعاً فتشاءمت العرب بها) ، .
(48) المصدر السابق ص 140 - 142 .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
(3)
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره :
في الحلقة السابقة عرض لنا الكاتب طرفاً من حياة العرب في الجاهلية ، من
خلال استعراض شعرهم الذي حفل بدقيق حياتهم وجليلها ، فذكر المصنفات من
القصائد ومشاركة الهجاء والرثاء في إذكاء نيران الحروب المشبوبة ، وكذلك ما
حفل به الشعر الجاهلي من وصف تفصيلي لطرق القتال وأدواته كالسيوف والرماح
والخيل ، وهو غالب أغراض شعر الشعراء الفرسان ، وفي هذا الجو كانت تكثر الأسرى والسبايا ، وكذلك وجد من الشعراء من يغلب عليه جانب الحكمة والأناة ،
فيضمن شعره الدعوة إلى نبذ الحروب ووصفها الوصف الذي ينفر الناس منها
ويجعلهم يطيلون التفكير قبل خوض غمارها .
4 - الأحلاف :
وفي هذه البيئة الحربية التي كان يشيع فيها الفزع والهول ، ويعم
فيها الاضطراب ، كان الفرد يبحث عن الأمن في ظل القبيلة ، وكانت هذه القبيلة تلجأ إلى التحالف مع القبائل الأخرى ، إذ تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد عنها العدوان .
وربما آثرت القبيلة بدافع المصلحة أو الجوار أو الضعف هذا الحلف ، بمجرد
أن تدخل القبيلة في حلف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق فهم ينصرونها على
أعدائها ، ويردون كيدهم عنها ، وكثيراً ما كنا نجد أحلافاً تضعف لتحل محلها
أحلاف أخرى ، وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف لقوتها وسميت لذلك باسم جمرات
العرب ، منها : بنو عامر بن صعصعة ، وبنو الحارث بن كعب ، وبنو ضبة ،
وبنو عبس ، فإذا تحالفت أطفئت [1] .
وكانت هذه القبائل تتفاخر بنفسها لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها لقوتها
وكثرة عددها .
وكانت بعض القبائل تشرك مواليها معها في حروبها كما فعلت مذحج في يوم
الكلاب ، وإلى ذلك يشير ربيعة بن مقروم في حرب مذحج مع تميم : [2]
وساقت لنا مذحج بالكُلاب ... مواليها كلها والصّميما
وكذلك فعلت قريش عندما فُتحت مكة المكرمة إذ استعانوا بالأحابيش لمعاونتها .
والأحلاف مأخوذة من الحلِف وهو اليمين ، إذا كانوا يوثقون هذا الحلف بالدم
أحياناً ليحل محل النسب ، ومن هؤلاء حلف لعقة الدم[3] .
وأحياناً كانوا يوثقون بالماء كما حصل في حلف الفضول [4] ، وسببه أن
رجلاً من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل ولم يعطه الثمن
فوقف على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس ونادى بأعلى صوته :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نأئي الدار والنفر
ومحرِمٌ أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجر
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان وتحالفوا
وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ، ثم مشوا
إلى العاص بن وائل وانتزعوا منه سلعه الزبيدي فدفعوها إليه .
وفي السيرة النبوية لابن هشام : أن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد شهدت في دار عبد الله
بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت )
ويعتبر هذا الحلف من خير أحلاف الجاهلية لأنه كان نصرة للمظلوم وردعاً
للظالم .
أما حلف المطيبين فقد غمسوا أيديهم بجفنة فيها طيب ، وهم القبائل
التي ناصرت بني عبد مناف ضد بني عبد الدار ومن حالفهم ، إلا أنهم اصطلحوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف ، وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الأمر على ذلك واستمر [5] .
وكانوا أحياناً يتحالفون على النار ، ولعل ذلك سرى إليهم من المجوسية
الفارسية ، ومن هؤلاء حلف المحاش ، كما فعلت قبائل مرة بن عوف الذبيانيين
حينما تحالفوا عند نار ودنوا منها حتى محشتهم فسموا بذلك [6] .
ونجد الشعر الجاهلي عند كبار الشعراء ، مخلداً هذه الأحلاف مبيناً أهميتها .
فالنابغة الذبياني يدافع عن حلف قومه ذبيان مع بني أسد ، إذ حاول عيينة ابن
حصن زعيم ذبيان أن ينقض هذا الحلف ويتعاون مع خصومهم من عبس فقال
النابغة قصيدة طويلة يخاطب فيها عيينة منها [7] :
إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لستُ منك ولستَ مني
ثم يمدح بني أسد ويعدد مآثرهم ويكون وفياً لحلفائه إذ يقول :
فهم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي
وهم ساروا لحِجرٍ في خميس ... وكانوا يوم ذلك عند ظني
إلى أن يقول :
ولو أني أطعتك في أمور ... قرعت ندامة من ذاك سنّي
وبشامة بن الغدير يحرض قومه بني سهم بن مرة على ألا يخذلوا حلفاءهم
الحْرقة وألا يتركوهم وحدهم أمام غطفان .. وأكد الحلف وشده الحصين بن الحمام
المري .. وذكر بشامة هذا الحلف في قصيدة منها [8] :
فإمّا هلكتُ ولم آتهم ... فأبلغ أماثلَ سهم رسولا
بأن قومكم خيروا خصلتين ... كلتاهما جعلوها عدولا
خزي الحياة وحرب الصديق ... وكلٌ أراه طعاماً وبيلا
ويعتبر الحصين بن الحمام المري من أوفياء العرب وكان سيد قومه وذا رأي
وقيادة .. وفي نصرته لحلفائه وجيرانه يقول [9] :
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأن كان يوماً ذا كواكبَ مظلما
صبرنا وكان الصبر فينا سجية ... بأسيافنا تَقطَعن كفاً ومِعصَما
يفلِّقن هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
لقد أعز العرب حلفاءهم ، إذ كان الحليف يعتبر من العشيرة حتى أن قريشاً
كانت تترفع عن تزويج بناتها من غيرها إلا إذا كان من حلفائها .
وافتخروا بحماية الجار حتى قالوا : فلان منيع الجار حامي الذمار [10] لأنها
دليل على القوة والرهبة . قال عبيد ابن الأبرص [11] :
نحمي حقيقتنا ونمنع جارنا ... ونلف بين أرامل الأيتام
ولم يكن من السهل أن ينقض حامٍ ذمة عقدها لجاره فإنهم كانوا إذا غدر فيهم
أحد رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به ، وفي ذلك يقول قطبة بن أوس بن
محصن (الحادرة) :
أسُمَيُّ ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع
إنا نعف فلا نُريب حليفنا ... ونكف شح نفوسنا في المطمع[12]
ويذكر الميداني أنهم كانوا يقولون : الدم الدم والهدم الهدم ، يعني أبايعك على
أن دمي دمك وهدمي هدمك [13] .
وهكذا كانت أحلافهم مظهراً من مظاهر الدفاع عن النفس ، في بيئة الحرب
والقتال ، وسط صحراء ملتهبة وقبائل متناحرة ، ونادراً ما كانت الأحلاف دفاعاً عن
المظلوم ، كما هي الحال في حلف الفضول .
5 - أيام العرب :
كان العرب يسمون حروبهم أياماً ، لأنهم يتحاربون نهاراً ، فإذا حل اليوم
الثاني عادوا إلى القتال ، وتسمى هذه الحروب والأيام غالباً بأسماء الأماكن التي
وقعت فيها مثل يوم الكلاب ، وعين أباغ ، وذي قار ، وبأسماء الأشخاص أو
الحوادث البارزة فيها ، كيوم البسوس ، ويوم حليمة ، وأيام داحس والغبراء ، أو
باسم الصفة التي تميزت فيها كيوم تحلاق اللمم ، ويوم الفجار .
وأيام العرب كثيرة بحيث يقال [14] : إن أبا عبيدة معمر بن المثنى
(توفي 211 هـ) ألف كتاباً جاء فيه ذكر مائتين وألف يوم ، ولم يصل إلينا هذا الكتاب ، ولكن كتابه شرح النقائض حفظ طائفة كبيرة من تلك الأيام ، وفي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الأول طائفة كثيرة منها وكذلك كتاب الأغاني والعقد الفريد .
(تعتبر هذه الأيام في الجاهلية مصدراً خصيباً من مصادر التاريخ ، وينبوعاً
صافياً من ينابيع الأدب ، ونوعاً طريفاً من أنواع القصص بما اشتملت عليه من
الوقائع والأحداث وما روي في أثنائها من نثر وشعر) .
(وهي مرآة صافية لأحوال العرب وعاداتهم ، وأسلوب الحياة الدائرة بينهم ..
في الحرب والسلم ، والاجتماع والفرقة والفداء والأسر) [15] .
لقد امتلأت كتب الأدب ، ودواوين الشعر ، بشعراء ندبوا الصرعى والقتلى
من أشرافهم ، وذبوا عن أحسابهم ، أو هجوا خصومهم ، كعنترة بن شداد ، وعامر
بن الطفيل ، والمهلهل بن ربيعة وغيرهم .
إن الحروب الدامية كانت سمة العصر الجاهلي ، وهي كثيرة ، وسوف نشير
إلى الأيام المشهورة بين قبائل العرب المختلفة ، كنماذج توضح لنا القصد ، وتجلو
لنا العبرة .
1 - فمن أيام العرب والفرس :
أ - يوم الصفقة [16] : (ويسمى أيضاً يوم المشقّر) .
وكان لكسرى على تميم ، حيث إن كسرى أصفق على بني تميم الباب في
حصن المشقّر ، وهو حصن في البحرين إذ خُدع الناس بالميرة وصاروا يدخلون
رجلاً رجلاً إلى عامل كسرى على البحرين (المكعبر) وهو فارسي ... حتى انتبه
أحد بني تميم وقال : يا قوم أين عقولكم فوالله ما بعد السلب إلا القتل وضرب بسيفه
سلسلة كانت على باب الحصن فقطعها وانفتح الباب ، وإذا الناس يُقتلون فثارت بنو
تميم وفي ذلك يقول الأعشى يمدح هوذة وهو رجل من بني حنيفة أشار على كسرى
بفكرة الميرة وحيلة الحصن [17] :
سائل تميماً به أيام صَفقَتهم ... لمّا أتوهُ أَسارى كلهم ضَرعَا
وسطَ المشَقَّر في عيطاءَ مظلمةٍ ... لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتَنَعا
أصابهم من عقاب الملك طائفةٌ ... [18] كل تميم بما في نفسه جُدِعا
وهي قصيدة طويلة يمدح فيها هوذة ابن علي الحنفي ، ويعتبر أنه خلص مائة
من خيارهم ... وذلك عندما علم هوذة بدخول بني تميم الحصن .
ب- يوم ذي قار [19] :
وهو من أهم الأيام بين العرب والفرس ، وذو قار ماء لبني بكر بن وائل
قريب من الكوفة ، ومن أسبابها : أن كسرى كان قد غضب على النعمان بن المنذر ، أمير الحيرة ، بسبب عدي بن زيد الذي قتله النعمان ، في قصة طويلة ثم فر
بعدها النعمان وحاول أن يلتجيء إلى قبائل العرب ، إلى أن استودع ودائع عند
العرب ، ووضع أهله وسلاحه ودروعه عند هانيء بن قبيصة بن هانيء بن
مسعود الشيباني ، ثم جاء رسول كسرى بالأمان على النعمان ، فخرج الأمير حتى
أتى كسرى في المدائن فأمر به فحبس فمات في حبسه ، أو قتل تحت أرجل الفيلة ،
وعين بدلاً منه على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي .
بعث كسرى إلى هانيء الشيباني : إن أموال عبدي النعمان عندك فابعث بها
إلى ، فاعتذر هانيء بأنها أمانة ولن يسلمها .
جهز كسرى عندها جيشاً عقد فيه للنعمان بن زرعة التغلبي على تغلب والنمر ، ولخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد ، وعقد لإياس بن قبيصة الطائي على
بقية العرب ، فكانت العرب ثلاثة آلاف ، وعقد للهافَرز على ألف من
الأساورة [20] .
وبعث كسرى معهم اللطيمة [21] ، وكانت تخرج بالبضائع ، وأمرهم إذا
شارفوا بلاد بكر ودنوا منها أن يبعثوا النعمان التغلبي يخيرهم بين ثلاث : إما أن
يعطوا السلاح وما بأيديهم ويحكم فيهم الملك بما شاء ، وإما أن يتركوا الديار ، أو أن
يأذنوا بحرب .
وكان كسرى قد أوقع ببني تميم يوم الصفقة والعرب خائفة منه وجلة .
اجتمعت قبائل بكر في بطحاء ذي قار ، وعينوا حنظلة بن ثعلبة العجلي قائداً على
حربهم ، وأخرجت الدروع وفرقت في القوم المحاربين .
ولما تقارب الزحفان قام حنظلة وقطع وضن الهوادج [22] فسقطن على
الأرض .. . وقال : ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته ، ثم ضرب على نفسه قبة في
بطحاء ذي قار ، وآلى لا يفر حتى تفر القبة .
ثم احتدم القتال بين العجم ومن معهم من العرب وبين قبائل بكر بن وائل
ومنهم بنو شيبان وبنو عجل وغيرهم . وقتل الحوفزانُ الهامرزَ مبارزة ، ثم أرسلت
قبيلة إياد إلى بكر تخيرها إما أن تهرب وتترك جيوش كسرى ، أو تفر حين ملاقاة
القوم ، فعندما التقى الناس انهزموا وفتوا في عضد الأعاجم ومن والاهم ، وانهزمت
الفرس وأحلافهم .
واتبعتهم بكر يقتلون بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا
السواد ثم دخلوه في طلب القوم .
وقد ذُكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه نبأ انتصار ربيعة
قال : ( اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا ) [23] .
وفي هذا اليوم يقول أعشى قيس مفتخراً [24] :
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكرٌ ، فينصرفوا
وجند كسرى غداةَ الحِنْو [25] صبحهم ... منا كتائبُ تزجي الموت فانصَرفُوا
لو أنّ كل مَعَدٍ كان شاركنا في يوم ذي قار ما أخطاهمُ الشرفُ
فالحرب إذن كانت قبلية ، لا عربية فارسية ، بكر بن ربيعة وليست قبائل معدّ
كلها التي ساهمت في هذا القتال وفي جانب الفرس كانت قبائل عربية كبيرة كتغلب
وطيء قد شاركت في هذا اليوم ، متزلفة لكسرى ، ومنتقمة من بكر العربية .
وقال الأعشى أيضاً يمدح بني شيبان لأنهم كانوا من أحسن الناس بلاء قصيدة
طويلة منها [26] :
فدى لبني ذهل بن شيبانَ ناقتي ... وراكُبها يومَ اللقاء وقَلّتِ [27]
همُ ضربوا بالحنو ، حنوِ قُراقر ... مقدمةَ الهامَرْز حتى تولّتِ [28]
تناهتْ بنو الأحرار إذ صبرتْ لهم ... فوارسُ من شيبانَ غُلبٌ فولَّتِ [29]
وفي الأصمعيات قصيدة طويلة قالها عمرو بن الأسود تحدث فيها عن ذي قار ، ووصف حومة الحرب وتساقط الفرسان ثم سرد أسماء القبائل المشتركة في هذه
الحرب [30] .
2- أيام القحطانيين فيما بينهم [31] :
أ- ما بين المناذرة والغساسنة :
كانت أيامهم كثيرة لأنهم صنائع للفرس والروم من جهة ، ولأنهم قبائل
متناحرة من جهة أخرى ، حسب النظام القبلي السائد بينهم آنذاك ، ومن أهمها :
يوم عين أُباغ :
وهي واد وراء الأنبار ، التقى فيه الحارث الأعرج بن جبلة ملك الغساسنة
بالمنذر بن ماء السماء ملك المناذرة في الحيرة ، حيث أن المنذر كان قد سار في
قبائل معدّ كلها ، إلى الحارث ، بعد أن أرسل إليه يطلب منه الفدية لينصرف بجنوده ، أو أن يأذن بحرب ، ثم التقى الجيشان ، وبدأت الحرب بالمبارزة إذ أخرج المنذر
وقدم علم الحارث بالخدعة ، وانهزم جيش المناذرة بعد أن قتل المنذر في هذا اليوم ، ثم سار الحارث وجيوشه إلى الحيرة فنهبها وأحرقها .
وقد وصف هذه الحرب عدىُّ بن رعْلاءَ الغساني إذ يقول :[32]
ربما ضربةٍ بسيفٍ صقيل ... دونَ بصرى وطعنة نجلاء [33]
وغموسٍ تضل فيها يدُ الآ ... سيِ ويعيا طبيبها بالدواء [34]
فصبرْن النفوس للطعن حتى ... جرتِ الخيلُ بيننا في الدّماء
إلى أن يقول في شأن من تركته الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل فحياته
ليست إلا موتاً ، وسار البيتان مسير الحكمة لكل حياة ذليلة رخيصة :
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء
إنما المَيْتُ من يعيشُ ذليلاً ... سيئاً بالهُ قليلَ الرجاءِ
حاول المنذر بن المنذر أن يثأر لأبيه فكان يوم حليمة ، وفي هذا اليوم ضرب
المثل : ما يوم حليمةَ بسرّ والتقى الجيشان في مرج حليمة ، ومكثت الحرب أياماً
ينتصف بعضهم من بعض إلى أن دعا الحارث ابنته واسمها حليمة وكانت من أجمل
النساء ، وأعطاها طيباً لتطيب مَنْ يمر بها من جنده ثم نادى : يا فتيان غسان من
قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي .. وانهزمت لخْم وجيش المنذر ، وقتل المنذر على يد
لبيد بن عمرو الغساني ثم قُتل هو أيضاً ، وانصرفت غسان بأحسن الظفر بعد أن
أسروا كثيراً ممن كانوا مع المنذر من العرب ، وكان منهم مائة من بني تميم فيهم
شأس بن عبدة ، ولما سمع أخوه علقمة الفحل وفد إلى الحارث الغساني مستشفعاً
وأنشده قصيدة . طويلة مطلعها [35] :
طحا بك [36] قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيْدَ الشبابِ عصر حان مشيبُ
ثم يمدح النعمان ويُنَوِّه بمواقفه في الحرب ، وذكر الشؤم الذي أصاب أعداءه
بسبب التقتيل والهزيمة ومن ثم طلب إنقاذ أخيه من الأسر يقول منها : فوالله لولا فارسَ الجَوْن منهم ... لآبوا خزايا ، والإياب حبيبُ [37] فقاتلتَهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروبُ [38] وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة ... فحُقَّ لشأس من نداك ذَنوبُ [39]
ولما بلغ قَولَه : فحق لشأس من نداك ذنوب .. . أمر الملك بإطلاق شأس
وسائر أسرى بن تميم .
ب- الحروب ما بين الأوس الخزرج :
كانت الحروب كثيرة بين هاتين القبيلتين ومن أهمها :
حرب سُمَيْر :
وسببها أن رجلاً من ذبيان اسمه كعب من بني ثعلبة نزل على مالك بن
العجلان الخزرجي وحالفه وأقام معه . ثم خرج كعب إلى سوق بني قينقاع فرأى
رجلاً من غطفان معه فرس وهو يقول : ليأخذ هذه الفرس أعز أهل يثرب . فقال
الناس فلان أو فلان حتى قال كعب : مالك بن العجلان أعز أهل يثرب ، وكثر
الكلام ، ثم قبل الرسول قول كعب الثعلبي ودفع الفرس إلى مالك بن العجلان
الخزرجي .. فقال كعب : ألم أقل لكم إن حليفي أفضلكم ؟ فغضب رجل من الأوس
يقال له : سمير بن يزيد وشتمه ثم افترقا :
قصد كعب سوقاً لهم بقباء فقصده سمير وقتله ..
طالب مالك بن العجلان بقتل سمير أو بدية حليفه .. رفضت الأوس أن تدفع
إلا دية الحليف وهي النصف .. حكموا بينهم عمرو بن امرئ القيس جد عبد الله بن
رواحة -رضي الله عنه- وهو خزرجي فقضى بنصف الدية .. رفض مالك
واستنصر قبائل الخزرج .. وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة
والنضير والتقوا قرب قباء واقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا ثم التقوا ثانية واقتتلوا
حتى حجز الليل بينهم وكان الظفر للأوس على الخزرج .
واستمرت الأوس والخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون
القتال ، وكثرت أيامهم ومواطنهم .. كيوم حاطب [40] ، ويوم كعب ، ويوم بعاث ،
وغيرها .
وأخيراً حكموا بينهم ثابت بن المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت - رضي
الله عنه- وحكم بأن يؤدي حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنُّة فيهم بعده ما
كانت عليه ؛ الصريح على ديته ، والحليف على ديته ، وأن تعد القتلى وتعطى
الديات لمن زاد قتلاهم فرضى مالك وسلمت الأوس وتفرقوا .
ومن أواخر أيامهم المشهورة :
يوم بُعاث :
وسببه أن سيد الخزرج وهو عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه : إن أباكم
أنزلكم منزلة سوء والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير ،
وأقتل رهنهم [41] وأرسل إلى يهود في ذلك ، وهموا بالخروج من ديارهم حتى
نهاهم كعب بن أسيد القرظي ، واعترض عبد الله بن أبي بن سلول على هذا الأمر
ثم التقت الأوس ومعها حلفاؤها من اليهود ، مع الخزرج ومعها حلفاؤها من أشجع
وجهينة ، وكان القتال شديداً دارت الدائرة فيه على الخزرج وأُحرقت دورهم
ونخيلهم من قبل الأوس وأجار سعد بن معاذ أموال بني سلمة جزاء معروف سابق
لهم يوم الرعل .
وفي هذا اليوم يقول أبو قيس بن الأسلت (وهو من شعراء الجاهلية المجيدين
وسيد الأوس وصاحب حربها في يوم بعاث) ، وقد عاد إلى امرأته بعد أن مكث في
الحرب أشهراً حتى شحب لونه وتغير فدق الباب ، ولما فتحت له زوجته أنكرته
وقال : أنا أبو قيس ، فقالت : والله ما عرفتك حتى تكلمت . قال قصيدة طويلة
منها [42] :
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت إسماعي [43]
أنكرته حين توسمِته ... والحربُ غولٌ ذاتُ أرجاعى [44]
لا نألمُ القتل ونجزي به ... الأعداء كيل الصاعِ بالصاعِ
ولقد سطر لنا الشعر حروب الأوس والخزرج ، ونظرة في جمهرة أشعار
العرب نجد أن المُذْهبات السبع لشعراء هاتين القبيليتين كلها قيل في هذه الحروب .
وفي حرب سُمَيْر قال مالك بن العجلان يعتب على قومه من بني الحارث
لأنهم رفضوا نصرته غضباً لرده قضاء عمرو بن امرئ القيس ويحرض بني
النجار على نصرته [46] :
إنّ سمُيراً أرى عشيرته ... قد جدبوا دونه وقد أنِفُوا
لكنّ موالَّي قد بدا لهمُ ... رأيٌ سوى ما لديّ أو ضعُفوا
ثم يفتخر بقوتهم في الحرب وبعزتهم إذ يقول :
نحن بنو الحرب حين تشتجرُ ال ... حربُ ، إذا ما يهابُها الكشُفُ [47]
ما قصرّ المجدُ دون محتدنا ... بل لم يزل في بيوتنا يكفُ [48]
إنّ سميراً عبدٌ بغى بطراً ... وأدركتهُ المنية التُّلَفُ [49]
ويشير قيس بن الخطيم شاعر الأوس إلى حرب حاطب ، وكذلك حرب بعاث
في قصيدة طويلة منها [50] :
دعوت بني عوف لحقْن دمائهم [51] ... فلما أبَوْا سامحتُ في حرب حاطب
ضربناكم بالبيض حتى لأنتمُ ... أذلُّ من السُّقبان بين الحلائب [52]
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفُنا [53] ... إلى حسبٍ في جذْمِ غسانَ ثاقب
رضينا لعوفٍ أن تقول نساؤهم ... ويهزأنَ منهم : ليتنا لم نحارب
ومما قاله حسان بن ثابت الخزرجي -رضي الله عنه- في هذه الحروب ،
ويرد على شاعر الأوس قيس بن الخطيم [54] :
فلا تعجلن يا قيسُ واربَعْ فإنما ... قصاراك أنْ تُلقى بكل مهندِ [55]
فقد لاقت الأوس القتالَ وطُرِّدتْ ... وأنتَ لدى الكنّاتِ في كل مَطْردِ [56]
فغنِّ لدى الأبيات حُوراً كواعباً ... وحجّرْ مآقيكَ الحسان بإثمِدِ [57]
ويقول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- ، وهو من الخزرج مفتخراً
وذاكراً حرب قومه مع الأوس (في قصيدة من المذهبات وهي الثانية) :
إذا ندعى لسيب أو لجارٍ ... فنحن الأكثرون بها عديدا
زعمتم أنما نلتم ملوكاً ... ونزعم أنما نلنا عبيدا
أي أن الأسرى من الأوس هم كالعبيد الأذلة بخلاف الأسرى من الخزرج .
هذه حالة الأوس والخزرج قبل الإسلام ، حروب وتناحر وانقسام ، وتفاخر
ومباهاة ، وضغائن يشترك في إشعالها اليهود ، تتحول بعد الهجرة إلى مدينة طيبة ،
ودار الهجرة ، إنه الإيمان الذي يصنع في النفوس الأعاجيب ، هو الذي جعل حسان
بن ثابت -رضي الله عنه- يقول قبل فتح مكة [58] :
وقال الله : قد أرسلتُ عبداً ... يقول الحقّ إن نفعَ البلاء
شهدتُ به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقومُ ولانشاء
فإن أبي ووالدَه وعرضي ... لعِرض محمدٍ منكم وقاءُ
وقوله :
هجوت محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاكَ الجزاء
يخاطب أبا سفيان بن الحارث وبقية قريش ، ويفدي الرسول -عليه أفضل
الصلاة والسلام- بنفسه وأهله وعرضه ، لقد ذابت العصبيات التي رأينا نماذج منها
في القصائد السابقة ، عند شعراء الأوس والخزرج قبل الإسلام .. ووقف حسان في
صف الإسلام والإيمان مع الأوس وقريش وبقية المؤمنين ضد معسكر الشرك وأهله.
__________
(1) العصر الجاهلي : د / شوقي ضيف 58 ، والفروسية في الشعر الجاهلي : د/ محمود القيسي 79.
(2) المفضليات ص 184 .
(3) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 286 للحوفي .
(4) البداية والنهاية لابن كثير 2/291-293 ، والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 133 .
(5) البداية والنهاية لابن كثير 2/209 ، وانظر بلوغ الأرب 1/277 .
(6) الشعر الجاهلي ص 46 د / يحيى الجبوري .
(7) اختبارات الأعلم ص 246 ، والفجور : الفساد ، المجن : الترس ، الخميس : الجيش ، النسار : يوم كانت فيه وقعة ، حجر : والله امرئ القيس .
(8) المفضليات رقم 10 ص 55 - 59 ، أماثلهم : خيارهم ، عدولاً : جوراً لأنهم عدلوا عن الحق ، خزي الحياة : ما يلحقهم من العار إذا خذلوا حلفاءهم ، الطعام الوبيل : غير المستمرأ .
(9) المفضليات رقم 12 ص 65 ، كان يوماً مظلماً : بسبب غبار الحرب حتى استبانت الكواكب ،
الهام : ج هامة الرأس ، أظلما : بدأونا بالظلم على اعزازنا إياهم .
(10) الحياة العربية للحوفي ص 290 وما بعدها .
(11) ديوان عبيد بن الأبرص ص 4 .
(12) المفضليات ص 45 رقم 8 ، لا نريب حليفنا : لا نغدر به ولا تأتيه منا ريبة .
(13) مجمع الأمثال : 1/243 .
(14) الفهرست لابن النديم .
(15) أيام العرب في الجاهلية ، محمد أحمد جاد المولى وصاحباه (المقدمة) .
(16) أيام العرب ص 2 - 5 ، والكامل لابن الأثير 1/275 .
(17) ديوان الأعشى ص 105 - 110 .
(18) وفي رواية أخرى : غبراء مظلمة .
(19) الكامل في التاريخ 1/285 - 293 ، وأيام العرب في الجاهلية ص 6 - 39 .
(20) الهامَرْز : كان على مسلحة كسرى بالسواد ، وهو لقب للقائد عند الفرس ، والأساورة : جمع أسوار وهو الجيد الرمي بالسهام .
(21) قافلة كانت تخرج من العراق محملة ، فيها البز والعطر والألطاف ، توصل إلى باذان عامل كسرى في اليمن .
(22) الوضين : نطاق عريض منسوج من سيور أو شعر ، وقيل لا يكون إلا من الجلد .
(23) ذكره الطبري في الجزء الثاني من تاريخه بصيغة وفد ذُكر بلا سند ولم نعثر على الحديث في كتب الحديث المشهورة .
(24) ديوان الأعشى ص 112 ، والأعشى من قيس بن ثعلبة وهم بطن من بطون بكر بن وائل بن ربيعة .
(25) الحنو : منعرج الوادي .
(26) ديوان الأعشى ص 33 - 34 .
(27) قلت : قل الشيء أي غلا .
(28) حنو قراقر : موضع قرب الكوفة ، والهامرز : القائد عند الفرس .
(29) بنو الأحرار : أي الفرس ، غلب : ج أغلب وهو غليظ العنق كناية عن القوة .
(30) الأصمعيات رقم 21 ص 79 .
(31) انظر الكامل في التاريخ 1/325 وما بعدها ، وأيام العرب في الجاهلية ص 51 حتى 84 .
(32) الأصمعيات ص 152 .
(33) بصرى : من أعمال دمشق وهي قصبة حوران .
(34) الغموس : الطعنة الواسعة ، الآسي : الطبيب .
(35) المفضليات رقم 119 .
(36) طحا بك : اتسع بك وذهب كل مذهب .
(37) الجون : فرس الحارث بن أبي شمر الغساني .
(38) كبشهم : أي ملكهم ورأسهم بعني المنذر .
(39) يقال : خبطه بخير أعطاه من غير معرفة بينهما ، الذنوب : الدلو ويقصد الحظ والنصيب .
(40) كانت الدائرة على الأوس .
(41) أربعون غلاماً من اليهود كانوا رهائن عند الخزرج بسبب الحروب السابقة ولمساعدة يهود الأوس ضد الخزرج .
(42) جمهرة أشعار العرب 2/665 ، تحقيق د محمد على الهاشمي .
(43) الخنا : الكلام الفاسد .
(44) أي شكت فيه ، حين توسمته : أي تثبتت من معرفته ، والغول ما اغتال الأشياء فذب بها .
(45) المعنى : أنه يطيل لبس السلاح ويقل النوم ، والبيضة : خوذة من الحديد ، حصنه : أذهبت شعره ، التهجاع : النوم الخفيف (الهامش غير مشار إليه في المقال - ماس -).
(46) جمهرة أشعار العرب 2/637 وهي الثالثة من المذهبات .
(47) تشتجر : تستوقد ، الكشف : الذين لا ترس معهم .
(48) المحتد : الأصل والطبع ، يكف : يسيل ويتقاطر (أي أن المجد ثابت مستهو لا ينقطع) .
(49) سمير : قاتل جار مالك .
(50) جمهرة أشعار العرب 2/645 ، وهي الرابعة من المذهبات .
(51) بنو عوف : من الخزرج ، سامحت : تابعت .
(52) السقبان : ج سقب وهو ولد الناقة .
(53) مضيء : غير خامل .
(54) المصدر السابق 2/621 ، وهي الأولى من المذهبات .
(55) اربع : أقم وكف نفسك .
(56) الكنات : ج كنّة وهي امرأة الابن أو الأخ .
(57) أي دعك مع النساء لاهياً وخذ زينتهن فأنت بهن أشبه .
(3)
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره :
في الحلقة السابقة عرض لنا الكاتب طرفاً من حياة العرب في الجاهلية ، من
خلال استعراض شعرهم الذي حفل بدقيق حياتهم وجليلها ، فذكر المصنفات من
القصائد ومشاركة الهجاء والرثاء في إذكاء نيران الحروب المشبوبة ، وكذلك ما
حفل به الشعر الجاهلي من وصف تفصيلي لطرق القتال وأدواته كالسيوف والرماح
والخيل ، وهو غالب أغراض شعر الشعراء الفرسان ، وفي هذا الجو كانت تكثر الأسرى والسبايا ، وكذلك وجد من الشعراء من يغلب عليه جانب الحكمة والأناة ،
فيضمن شعره الدعوة إلى نبذ الحروب ووصفها الوصف الذي ينفر الناس منها
ويجعلهم يطيلون التفكير قبل خوض غمارها .
4 - الأحلاف :
وفي هذه البيئة الحربية التي كان يشيع فيها الفزع والهول ، ويعم
فيها الاضطراب ، كان الفرد يبحث عن الأمن في ظل القبيلة ، وكانت هذه القبيلة تلجأ إلى التحالف مع القبائل الأخرى ، إذ تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد عنها العدوان .
وربما آثرت القبيلة بدافع المصلحة أو الجوار أو الضعف هذا الحلف ، بمجرد
أن تدخل القبيلة في حلف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق فهم ينصرونها على
أعدائها ، ويردون كيدهم عنها ، وكثيراً ما كنا نجد أحلافاً تضعف لتحل محلها
أحلاف أخرى ، وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف لقوتها وسميت لذلك باسم جمرات
العرب ، منها : بنو عامر بن صعصعة ، وبنو الحارث بن كعب ، وبنو ضبة ،
وبنو عبس ، فإذا تحالفت أطفئت [1] .
وكانت هذه القبائل تتفاخر بنفسها لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها لقوتها
وكثرة عددها .
وكانت بعض القبائل تشرك مواليها معها في حروبها كما فعلت مذحج في يوم
الكلاب ، وإلى ذلك يشير ربيعة بن مقروم في حرب مذحج مع تميم : [2]
وساقت لنا مذحج بالكُلاب ... مواليها كلها والصّميما
وكذلك فعلت قريش عندما فُتحت مكة المكرمة إذ استعانوا بالأحابيش لمعاونتها .
والأحلاف مأخوذة من الحلِف وهو اليمين ، إذا كانوا يوثقون هذا الحلف بالدم
أحياناً ليحل محل النسب ، ومن هؤلاء حلف لعقة الدم[3] .
وأحياناً كانوا يوثقون بالماء كما حصل في حلف الفضول [4] ، وسببه أن
رجلاً من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل ولم يعطه الثمن
فوقف على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس ونادى بأعلى صوته :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نأئي الدار والنفر
ومحرِمٌ أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجر
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان وتحالفوا
وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ، ثم مشوا
إلى العاص بن وائل وانتزعوا منه سلعه الزبيدي فدفعوها إليه .
وفي السيرة النبوية لابن هشام : أن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد شهدت في دار عبد الله
بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعي به في الإسلام لأجبت )
ويعتبر هذا الحلف من خير أحلاف الجاهلية لأنه كان نصرة للمظلوم وردعاً
للظالم .
أما حلف المطيبين فقد غمسوا أيديهم بجفنة فيها طيب ، وهم القبائل
التي ناصرت بني عبد مناف ضد بني عبد الدار ومن حالفهم ، إلا أنهم اصطلحوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف ، وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الأمر على ذلك واستمر [5] .
وكانوا أحياناً يتحالفون على النار ، ولعل ذلك سرى إليهم من المجوسية
الفارسية ، ومن هؤلاء حلف المحاش ، كما فعلت قبائل مرة بن عوف الذبيانيين
حينما تحالفوا عند نار ودنوا منها حتى محشتهم فسموا بذلك [6] .
ونجد الشعر الجاهلي عند كبار الشعراء ، مخلداً هذه الأحلاف مبيناً أهميتها .
فالنابغة الذبياني يدافع عن حلف قومه ذبيان مع بني أسد ، إذ حاول عيينة ابن
حصن زعيم ذبيان أن ينقض هذا الحلف ويتعاون مع خصومهم من عبس فقال
النابغة قصيدة طويلة يخاطب فيها عيينة منها [7] :
إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لستُ منك ولستَ مني
ثم يمدح بني أسد ويعدد مآثرهم ويكون وفياً لحلفائه إذ يقول :
فهم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي
وهم ساروا لحِجرٍ في خميس ... وكانوا يوم ذلك عند ظني
إلى أن يقول :
ولو أني أطعتك في أمور ... قرعت ندامة من ذاك سنّي
وبشامة بن الغدير يحرض قومه بني سهم بن مرة على ألا يخذلوا حلفاءهم
الحْرقة وألا يتركوهم وحدهم أمام غطفان .. وأكد الحلف وشده الحصين بن الحمام
المري .. وذكر بشامة هذا الحلف في قصيدة منها [8] :
فإمّا هلكتُ ولم آتهم ... فأبلغ أماثلَ سهم رسولا
بأن قومكم خيروا خصلتين ... كلتاهما جعلوها عدولا
خزي الحياة وحرب الصديق ... وكلٌ أراه طعاماً وبيلا
ويعتبر الحصين بن الحمام المري من أوفياء العرب وكان سيد قومه وذا رأي
وقيادة .. وفي نصرته لحلفائه وجيرانه يقول [9] :
ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأن كان يوماً ذا كواكبَ مظلما
صبرنا وكان الصبر فينا سجية ... بأسيافنا تَقطَعن كفاً ومِعصَما
يفلِّقن هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
لقد أعز العرب حلفاءهم ، إذ كان الحليف يعتبر من العشيرة حتى أن قريشاً
كانت تترفع عن تزويج بناتها من غيرها إلا إذا كان من حلفائها .
وافتخروا بحماية الجار حتى قالوا : فلان منيع الجار حامي الذمار [10] لأنها
دليل على القوة والرهبة . قال عبيد ابن الأبرص [11] :
نحمي حقيقتنا ونمنع جارنا ... ونلف بين أرامل الأيتام
ولم يكن من السهل أن ينقض حامٍ ذمة عقدها لجاره فإنهم كانوا إذا غدر فيهم
أحد رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به ، وفي ذلك يقول قطبة بن أوس بن
محصن (الحادرة) :
أسُمَيُّ ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع
إنا نعف فلا نُريب حليفنا ... ونكف شح نفوسنا في المطمع[12]
ويذكر الميداني أنهم كانوا يقولون : الدم الدم والهدم الهدم ، يعني أبايعك على
أن دمي دمك وهدمي هدمك [13] .
وهكذا كانت أحلافهم مظهراً من مظاهر الدفاع عن النفس ، في بيئة الحرب
والقتال ، وسط صحراء ملتهبة وقبائل متناحرة ، ونادراً ما كانت الأحلاف دفاعاً عن
المظلوم ، كما هي الحال في حلف الفضول .
5 - أيام العرب :
كان العرب يسمون حروبهم أياماً ، لأنهم يتحاربون نهاراً ، فإذا حل اليوم
الثاني عادوا إلى القتال ، وتسمى هذه الحروب والأيام غالباً بأسماء الأماكن التي
وقعت فيها مثل يوم الكلاب ، وعين أباغ ، وذي قار ، وبأسماء الأشخاص أو
الحوادث البارزة فيها ، كيوم البسوس ، ويوم حليمة ، وأيام داحس والغبراء ، أو
باسم الصفة التي تميزت فيها كيوم تحلاق اللمم ، ويوم الفجار .
وأيام العرب كثيرة بحيث يقال [14] : إن أبا عبيدة معمر بن المثنى
(توفي 211 هـ) ألف كتاباً جاء فيه ذكر مائتين وألف يوم ، ولم يصل إلينا هذا الكتاب ، ولكن كتابه شرح النقائض حفظ طائفة كبيرة من تلك الأيام ، وفي كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الأول طائفة كثيرة منها وكذلك كتاب الأغاني والعقد الفريد .
(تعتبر هذه الأيام في الجاهلية مصدراً خصيباً من مصادر التاريخ ، وينبوعاً
صافياً من ينابيع الأدب ، ونوعاً طريفاً من أنواع القصص بما اشتملت عليه من
الوقائع والأحداث وما روي في أثنائها من نثر وشعر) .
(وهي مرآة صافية لأحوال العرب وعاداتهم ، وأسلوب الحياة الدائرة بينهم ..
في الحرب والسلم ، والاجتماع والفرقة والفداء والأسر) [15] .
لقد امتلأت كتب الأدب ، ودواوين الشعر ، بشعراء ندبوا الصرعى والقتلى
من أشرافهم ، وذبوا عن أحسابهم ، أو هجوا خصومهم ، كعنترة بن شداد ، وعامر
بن الطفيل ، والمهلهل بن ربيعة وغيرهم .
إن الحروب الدامية كانت سمة العصر الجاهلي ، وهي كثيرة ، وسوف نشير
إلى الأيام المشهورة بين قبائل العرب المختلفة ، كنماذج توضح لنا القصد ، وتجلو
لنا العبرة .
1 - فمن أيام العرب والفرس :
أ - يوم الصفقة [16] : (ويسمى أيضاً يوم المشقّر) .
وكان لكسرى على تميم ، حيث إن كسرى أصفق على بني تميم الباب في
حصن المشقّر ، وهو حصن في البحرين إذ خُدع الناس بالميرة وصاروا يدخلون
رجلاً رجلاً إلى عامل كسرى على البحرين (المكعبر) وهو فارسي ... حتى انتبه
أحد بني تميم وقال : يا قوم أين عقولكم فوالله ما بعد السلب إلا القتل وضرب بسيفه
سلسلة كانت على باب الحصن فقطعها وانفتح الباب ، وإذا الناس يُقتلون فثارت بنو
تميم وفي ذلك يقول الأعشى يمدح هوذة وهو رجل من بني حنيفة أشار على كسرى
بفكرة الميرة وحيلة الحصن [17] :
سائل تميماً به أيام صَفقَتهم ... لمّا أتوهُ أَسارى كلهم ضَرعَا
وسطَ المشَقَّر في عيطاءَ مظلمةٍ ... لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتَنَعا
أصابهم من عقاب الملك طائفةٌ ... [18] كل تميم بما في نفسه جُدِعا
وهي قصيدة طويلة يمدح فيها هوذة ابن علي الحنفي ، ويعتبر أنه خلص مائة
من خيارهم ... وذلك عندما علم هوذة بدخول بني تميم الحصن .
ب- يوم ذي قار [19] :
وهو من أهم الأيام بين العرب والفرس ، وذو قار ماء لبني بكر بن وائل
قريب من الكوفة ، ومن أسبابها : أن كسرى كان قد غضب على النعمان بن المنذر ، أمير الحيرة ، بسبب عدي بن زيد الذي قتله النعمان ، في قصة طويلة ثم فر
بعدها النعمان وحاول أن يلتجيء إلى قبائل العرب ، إلى أن استودع ودائع عند
العرب ، ووضع أهله وسلاحه ودروعه عند هانيء بن قبيصة بن هانيء بن
مسعود الشيباني ، ثم جاء رسول كسرى بالأمان على النعمان ، فخرج الأمير حتى
أتى كسرى في المدائن فأمر به فحبس فمات في حبسه ، أو قتل تحت أرجل الفيلة ،
وعين بدلاً منه على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي .
بعث كسرى إلى هانيء الشيباني : إن أموال عبدي النعمان عندك فابعث بها
إلى ، فاعتذر هانيء بأنها أمانة ولن يسلمها .
جهز كسرى عندها جيشاً عقد فيه للنعمان بن زرعة التغلبي على تغلب والنمر ، ولخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد ، وعقد لإياس بن قبيصة الطائي على
بقية العرب ، فكانت العرب ثلاثة آلاف ، وعقد للهافَرز على ألف من
الأساورة [20] .
وبعث كسرى معهم اللطيمة [21] ، وكانت تخرج بالبضائع ، وأمرهم إذا
شارفوا بلاد بكر ودنوا منها أن يبعثوا النعمان التغلبي يخيرهم بين ثلاث : إما أن
يعطوا السلاح وما بأيديهم ويحكم فيهم الملك بما شاء ، وإما أن يتركوا الديار ، أو أن
يأذنوا بحرب .
وكان كسرى قد أوقع ببني تميم يوم الصفقة والعرب خائفة منه وجلة .
اجتمعت قبائل بكر في بطحاء ذي قار ، وعينوا حنظلة بن ثعلبة العجلي قائداً على
حربهم ، وأخرجت الدروع وفرقت في القوم المحاربين .
ولما تقارب الزحفان قام حنظلة وقطع وضن الهوادج [22] فسقطن على
الأرض .. . وقال : ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته ، ثم ضرب على نفسه قبة في
بطحاء ذي قار ، وآلى لا يفر حتى تفر القبة .
ثم احتدم القتال بين العجم ومن معهم من العرب وبين قبائل بكر بن وائل
ومنهم بنو شيبان وبنو عجل وغيرهم . وقتل الحوفزانُ الهامرزَ مبارزة ، ثم أرسلت
قبيلة إياد إلى بكر تخيرها إما أن تهرب وتترك جيوش كسرى ، أو تفر حين ملاقاة
القوم ، فعندما التقى الناس انهزموا وفتوا في عضد الأعاجم ومن والاهم ، وانهزمت
الفرس وأحلافهم .
واتبعتهم بكر يقتلون بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا
السواد ثم دخلوه في طلب القوم .
وقد ذُكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه نبأ انتصار ربيعة
قال : ( اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا ) [23] .
وفي هذا اليوم يقول أعشى قيس مفتخراً [24] :
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكرٌ ، فينصرفوا
وجند كسرى غداةَ الحِنْو [25] صبحهم ... منا كتائبُ تزجي الموت فانصَرفُوا
لو أنّ كل مَعَدٍ كان شاركنا في يوم ذي قار ما أخطاهمُ الشرفُ
فالحرب إذن كانت قبلية ، لا عربية فارسية ، بكر بن ربيعة وليست قبائل معدّ
كلها التي ساهمت في هذا القتال وفي جانب الفرس كانت قبائل عربية كبيرة كتغلب
وطيء قد شاركت في هذا اليوم ، متزلفة لكسرى ، ومنتقمة من بكر العربية .
وقال الأعشى أيضاً يمدح بني شيبان لأنهم كانوا من أحسن الناس بلاء قصيدة
طويلة منها [26] :
فدى لبني ذهل بن شيبانَ ناقتي ... وراكُبها يومَ اللقاء وقَلّتِ [27]
همُ ضربوا بالحنو ، حنوِ قُراقر ... مقدمةَ الهامَرْز حتى تولّتِ [28]
تناهتْ بنو الأحرار إذ صبرتْ لهم ... فوارسُ من شيبانَ غُلبٌ فولَّتِ [29]
وفي الأصمعيات قصيدة طويلة قالها عمرو بن الأسود تحدث فيها عن ذي قار ، ووصف حومة الحرب وتساقط الفرسان ثم سرد أسماء القبائل المشتركة في هذه
الحرب [30] .
2- أيام القحطانيين فيما بينهم [31] :
أ- ما بين المناذرة والغساسنة :
كانت أيامهم كثيرة لأنهم صنائع للفرس والروم من جهة ، ولأنهم قبائل
متناحرة من جهة أخرى ، حسب النظام القبلي السائد بينهم آنذاك ، ومن أهمها :
يوم عين أُباغ :
وهي واد وراء الأنبار ، التقى فيه الحارث الأعرج بن جبلة ملك الغساسنة
بالمنذر بن ماء السماء ملك المناذرة في الحيرة ، حيث أن المنذر كان قد سار في
قبائل معدّ كلها ، إلى الحارث ، بعد أن أرسل إليه يطلب منه الفدية لينصرف بجنوده ، أو أن يأذن بحرب ، ثم التقى الجيشان ، وبدأت الحرب بالمبارزة إذ أخرج المنذر
وقدم علم الحارث بالخدعة ، وانهزم جيش المناذرة بعد أن قتل المنذر في هذا اليوم ، ثم سار الحارث وجيوشه إلى الحيرة فنهبها وأحرقها .
وقد وصف هذه الحرب عدىُّ بن رعْلاءَ الغساني إذ يقول :[32]
ربما ضربةٍ بسيفٍ صقيل ... دونَ بصرى وطعنة نجلاء [33]
وغموسٍ تضل فيها يدُ الآ ... سيِ ويعيا طبيبها بالدواء [34]
فصبرْن النفوس للطعن حتى ... جرتِ الخيلُ بيننا في الدّماء
إلى أن يقول في شأن من تركته الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل فحياته
ليست إلا موتاً ، وسار البيتان مسير الحكمة لكل حياة ذليلة رخيصة :
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء
إنما المَيْتُ من يعيشُ ذليلاً ... سيئاً بالهُ قليلَ الرجاءِ
حاول المنذر بن المنذر أن يثأر لأبيه فكان يوم حليمة ، وفي هذا اليوم ضرب
المثل : ما يوم حليمةَ بسرّ والتقى الجيشان في مرج حليمة ، ومكثت الحرب أياماً
ينتصف بعضهم من بعض إلى أن دعا الحارث ابنته واسمها حليمة وكانت من أجمل
النساء ، وأعطاها طيباً لتطيب مَنْ يمر بها من جنده ثم نادى : يا فتيان غسان من
قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي .. وانهزمت لخْم وجيش المنذر ، وقتل المنذر على يد
لبيد بن عمرو الغساني ثم قُتل هو أيضاً ، وانصرفت غسان بأحسن الظفر بعد أن
أسروا كثيراً ممن كانوا مع المنذر من العرب ، وكان منهم مائة من بني تميم فيهم
شأس بن عبدة ، ولما سمع أخوه علقمة الفحل وفد إلى الحارث الغساني مستشفعاً
وأنشده قصيدة . طويلة مطلعها [35] :
طحا بك [36] قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيْدَ الشبابِ عصر حان مشيبُ
ثم يمدح النعمان ويُنَوِّه بمواقفه في الحرب ، وذكر الشؤم الذي أصاب أعداءه
بسبب التقتيل والهزيمة ومن ثم طلب إنقاذ أخيه من الأسر يقول منها : فوالله لولا فارسَ الجَوْن منهم ... لآبوا خزايا ، والإياب حبيبُ [37] فقاتلتَهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروبُ [38] وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة ... فحُقَّ لشأس من نداك ذَنوبُ [39]
ولما بلغ قَولَه : فحق لشأس من نداك ذنوب .. . أمر الملك بإطلاق شأس
وسائر أسرى بن تميم .
ب- الحروب ما بين الأوس الخزرج :
كانت الحروب كثيرة بين هاتين القبيلتين ومن أهمها :
حرب سُمَيْر :
وسببها أن رجلاً من ذبيان اسمه كعب من بني ثعلبة نزل على مالك بن
العجلان الخزرجي وحالفه وأقام معه . ثم خرج كعب إلى سوق بني قينقاع فرأى
رجلاً من غطفان معه فرس وهو يقول : ليأخذ هذه الفرس أعز أهل يثرب . فقال
الناس فلان أو فلان حتى قال كعب : مالك بن العجلان أعز أهل يثرب ، وكثر
الكلام ، ثم قبل الرسول قول كعب الثعلبي ودفع الفرس إلى مالك بن العجلان
الخزرجي .. فقال كعب : ألم أقل لكم إن حليفي أفضلكم ؟ فغضب رجل من الأوس
يقال له : سمير بن يزيد وشتمه ثم افترقا :
قصد كعب سوقاً لهم بقباء فقصده سمير وقتله ..
طالب مالك بن العجلان بقتل سمير أو بدية حليفه .. رفضت الأوس أن تدفع
إلا دية الحليف وهي النصف .. حكموا بينهم عمرو بن امرئ القيس جد عبد الله بن
رواحة -رضي الله عنه- وهو خزرجي فقضى بنصف الدية .. رفض مالك
واستنصر قبائل الخزرج .. وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة
والنضير والتقوا قرب قباء واقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا ثم التقوا ثانية واقتتلوا
حتى حجز الليل بينهم وكان الظفر للأوس على الخزرج .
واستمرت الأوس والخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون
القتال ، وكثرت أيامهم ومواطنهم .. كيوم حاطب [40] ، ويوم كعب ، ويوم بعاث ،
وغيرها .
وأخيراً حكموا بينهم ثابت بن المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت - رضي
الله عنه- وحكم بأن يؤدي حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنُّة فيهم بعده ما
كانت عليه ؛ الصريح على ديته ، والحليف على ديته ، وأن تعد القتلى وتعطى
الديات لمن زاد قتلاهم فرضى مالك وسلمت الأوس وتفرقوا .
ومن أواخر أيامهم المشهورة :
يوم بُعاث :
وسببه أن سيد الخزرج وهو عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه : إن أباكم
أنزلكم منزلة سوء والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير ،
وأقتل رهنهم [41] وأرسل إلى يهود في ذلك ، وهموا بالخروج من ديارهم حتى
نهاهم كعب بن أسيد القرظي ، واعترض عبد الله بن أبي بن سلول على هذا الأمر
ثم التقت الأوس ومعها حلفاؤها من اليهود ، مع الخزرج ومعها حلفاؤها من أشجع
وجهينة ، وكان القتال شديداً دارت الدائرة فيه على الخزرج وأُحرقت دورهم
ونخيلهم من قبل الأوس وأجار سعد بن معاذ أموال بني سلمة جزاء معروف سابق
لهم يوم الرعل .
وفي هذا اليوم يقول أبو قيس بن الأسلت (وهو من شعراء الجاهلية المجيدين
وسيد الأوس وصاحب حربها في يوم بعاث) ، وقد عاد إلى امرأته بعد أن مكث في
الحرب أشهراً حتى شحب لونه وتغير فدق الباب ، ولما فتحت له زوجته أنكرته
وقال : أنا أبو قيس ، فقالت : والله ما عرفتك حتى تكلمت . قال قصيدة طويلة
منها [42] :
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت إسماعي [43]
أنكرته حين توسمِته ... والحربُ غولٌ ذاتُ أرجاعى [44]
لا نألمُ القتل ونجزي به ... الأعداء كيل الصاعِ بالصاعِ
ولقد سطر لنا الشعر حروب الأوس والخزرج ، ونظرة في جمهرة أشعار
العرب نجد أن المُذْهبات السبع لشعراء هاتين القبيليتين كلها قيل في هذه الحروب .
وفي حرب سُمَيْر قال مالك بن العجلان يعتب على قومه من بني الحارث
لأنهم رفضوا نصرته غضباً لرده قضاء عمرو بن امرئ القيس ويحرض بني
النجار على نصرته [46] :
إنّ سمُيراً أرى عشيرته ... قد جدبوا دونه وقد أنِفُوا
لكنّ موالَّي قد بدا لهمُ ... رأيٌ سوى ما لديّ أو ضعُفوا
ثم يفتخر بقوتهم في الحرب وبعزتهم إذ يقول :
نحن بنو الحرب حين تشتجرُ ال ... حربُ ، إذا ما يهابُها الكشُفُ [47]
ما قصرّ المجدُ دون محتدنا ... بل لم يزل في بيوتنا يكفُ [48]
إنّ سميراً عبدٌ بغى بطراً ... وأدركتهُ المنية التُّلَفُ [49]
ويشير قيس بن الخطيم شاعر الأوس إلى حرب حاطب ، وكذلك حرب بعاث
في قصيدة طويلة منها [50] :
دعوت بني عوف لحقْن دمائهم [51] ... فلما أبَوْا سامحتُ في حرب حاطب
ضربناكم بالبيض حتى لأنتمُ ... أذلُّ من السُّقبان بين الحلائب [52]
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفُنا [53] ... إلى حسبٍ في جذْمِ غسانَ ثاقب
رضينا لعوفٍ أن تقول نساؤهم ... ويهزأنَ منهم : ليتنا لم نحارب
ومما قاله حسان بن ثابت الخزرجي -رضي الله عنه- في هذه الحروب ،
ويرد على شاعر الأوس قيس بن الخطيم [54] :
فلا تعجلن يا قيسُ واربَعْ فإنما ... قصاراك أنْ تُلقى بكل مهندِ [55]
فقد لاقت الأوس القتالَ وطُرِّدتْ ... وأنتَ لدى الكنّاتِ في كل مَطْردِ [56]
فغنِّ لدى الأبيات حُوراً كواعباً ... وحجّرْ مآقيكَ الحسان بإثمِدِ [57]
ويقول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- ، وهو من الخزرج مفتخراً
وذاكراً حرب قومه مع الأوس (في قصيدة من المذهبات وهي الثانية) :
إذا ندعى لسيب أو لجارٍ ... فنحن الأكثرون بها عديدا
زعمتم أنما نلتم ملوكاً ... ونزعم أنما نلنا عبيدا
أي أن الأسرى من الأوس هم كالعبيد الأذلة بخلاف الأسرى من الخزرج .
هذه حالة الأوس والخزرج قبل الإسلام ، حروب وتناحر وانقسام ، وتفاخر
ومباهاة ، وضغائن يشترك في إشعالها اليهود ، تتحول بعد الهجرة إلى مدينة طيبة ،
ودار الهجرة ، إنه الإيمان الذي يصنع في النفوس الأعاجيب ، هو الذي جعل حسان
بن ثابت -رضي الله عنه- يقول قبل فتح مكة [58] :
وقال الله : قد أرسلتُ عبداً ... يقول الحقّ إن نفعَ البلاء
شهدتُ به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقومُ ولانشاء
فإن أبي ووالدَه وعرضي ... لعِرض محمدٍ منكم وقاءُ
وقوله :
هجوت محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاكَ الجزاء
يخاطب أبا سفيان بن الحارث وبقية قريش ، ويفدي الرسول -عليه أفضل
الصلاة والسلام- بنفسه وأهله وعرضه ، لقد ذابت العصبيات التي رأينا نماذج منها
في القصائد السابقة ، عند شعراء الأوس والخزرج قبل الإسلام .. ووقف حسان في
صف الإسلام والإيمان مع الأوس وقريش وبقية المؤمنين ضد معسكر الشرك وأهله.
__________
(1) العصر الجاهلي : د / شوقي ضيف 58 ، والفروسية في الشعر الجاهلي : د/ محمود القيسي 79.
(2) المفضليات ص 184 .
(3) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 286 للحوفي .
(4) البداية والنهاية لابن كثير 2/291-293 ، والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 133 .
(5) البداية والنهاية لابن كثير 2/209 ، وانظر بلوغ الأرب 1/277 .
(6) الشعر الجاهلي ص 46 د / يحيى الجبوري .
(7) اختبارات الأعلم ص 246 ، والفجور : الفساد ، المجن : الترس ، الخميس : الجيش ، النسار : يوم كانت فيه وقعة ، حجر : والله امرئ القيس .
(8) المفضليات رقم 10 ص 55 - 59 ، أماثلهم : خيارهم ، عدولاً : جوراً لأنهم عدلوا عن الحق ، خزي الحياة : ما يلحقهم من العار إذا خذلوا حلفاءهم ، الطعام الوبيل : غير المستمرأ .
(9) المفضليات رقم 12 ص 65 ، كان يوماً مظلماً : بسبب غبار الحرب حتى استبانت الكواكب ،
الهام : ج هامة الرأس ، أظلما : بدأونا بالظلم على اعزازنا إياهم .
(10) الحياة العربية للحوفي ص 290 وما بعدها .
(11) ديوان عبيد بن الأبرص ص 4 .
(12) المفضليات ص 45 رقم 8 ، لا نريب حليفنا : لا نغدر به ولا تأتيه منا ريبة .
(13) مجمع الأمثال : 1/243 .
(14) الفهرست لابن النديم .
(15) أيام العرب في الجاهلية ، محمد أحمد جاد المولى وصاحباه (المقدمة) .
(16) أيام العرب ص 2 - 5 ، والكامل لابن الأثير 1/275 .
(17) ديوان الأعشى ص 105 - 110 .
(18) وفي رواية أخرى : غبراء مظلمة .
(19) الكامل في التاريخ 1/285 - 293 ، وأيام العرب في الجاهلية ص 6 - 39 .
(20) الهامَرْز : كان على مسلحة كسرى بالسواد ، وهو لقب للقائد عند الفرس ، والأساورة : جمع أسوار وهو الجيد الرمي بالسهام .
(21) قافلة كانت تخرج من العراق محملة ، فيها البز والعطر والألطاف ، توصل إلى باذان عامل كسرى في اليمن .
(22) الوضين : نطاق عريض منسوج من سيور أو شعر ، وقيل لا يكون إلا من الجلد .
(23) ذكره الطبري في الجزء الثاني من تاريخه بصيغة وفد ذُكر بلا سند ولم نعثر على الحديث في كتب الحديث المشهورة .
(24) ديوان الأعشى ص 112 ، والأعشى من قيس بن ثعلبة وهم بطن من بطون بكر بن وائل بن ربيعة .
(25) الحنو : منعرج الوادي .
(26) ديوان الأعشى ص 33 - 34 .
(27) قلت : قل الشيء أي غلا .
(28) حنو قراقر : موضع قرب الكوفة ، والهامرز : القائد عند الفرس .
(29) بنو الأحرار : أي الفرس ، غلب : ج أغلب وهو غليظ العنق كناية عن القوة .
(30) الأصمعيات رقم 21 ص 79 .
(31) انظر الكامل في التاريخ 1/325 وما بعدها ، وأيام العرب في الجاهلية ص 51 حتى 84 .
(32) الأصمعيات ص 152 .
(33) بصرى : من أعمال دمشق وهي قصبة حوران .
(34) الغموس : الطعنة الواسعة ، الآسي : الطبيب .
(35) المفضليات رقم 119 .
(36) طحا بك : اتسع بك وذهب كل مذهب .
(37) الجون : فرس الحارث بن أبي شمر الغساني .
(38) كبشهم : أي ملكهم ورأسهم بعني المنذر .
(39) يقال : خبطه بخير أعطاه من غير معرفة بينهما ، الذنوب : الدلو ويقصد الحظ والنصيب .
(40) كانت الدائرة على الأوس .
(41) أربعون غلاماً من اليهود كانوا رهائن عند الخزرج بسبب الحروب السابقة ولمساعدة يهود الأوس ضد الخزرج .
(42) جمهرة أشعار العرب 2/665 ، تحقيق د محمد على الهاشمي .
(43) الخنا : الكلام الفاسد .
(44) أي شكت فيه ، حين توسمته : أي تثبتت من معرفته ، والغول ما اغتال الأشياء فذب بها .
(45) المعنى : أنه يطيل لبس السلاح ويقل النوم ، والبيضة : خوذة من الحديد ، حصنه : أذهبت شعره ، التهجاع : النوم الخفيف (الهامش غير مشار إليه في المقال - ماس -).
(46) جمهرة أشعار العرب 2/637 وهي الثالثة من المذهبات .
(47) تشتجر : تستوقد ، الكشف : الذين لا ترس معهم .
(48) المحتد : الأصل والطبع ، يكف : يسيل ويتقاطر (أي أن المجد ثابت مستهو لا ينقطع) .
(49) سمير : قاتل جار مالك .
(50) جمهرة أشعار العرب 2/645 ، وهي الرابعة من المذهبات .
(51) بنو عوف : من الخزرج ، سامحت : تابعت .
(52) السقبان : ج سقب وهو ولد الناقة .
(53) مضيء : غير خامل .
(54) المصدر السابق 2/621 ، وهي الأولى من المذهبات .
(55) اربع : أقم وكف نفسك .
(56) الكنات : ج كنّة وهي امرأة الابن أو الأخ .
(57) أي دعك مع النساء لاهياً وخذ زينتهن فأنت بهن أشبه .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
(4)
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره :
ساق لنا الكاتب في الحلقة السابقة نبذة عن التحالفات القبلية التي كان عرب
الجاهلية يعقدونها فيما بينهم ، وضرب أمثلة ، من تلك الأحلاف ، ثم ذكر المعارك المشهورة التي وقعت بين العرب وغيرهم كالفرس ، وبين العرب أنفسهم والتي تسمى عندهم أياماً ، واستشهد على ذلك بأمثلة من شعر شعرائهم ، وها هو ذا في
هذه الحلقة يتابع الحديث عن بقية أيام العرب المشهورة .
3 - حرب البَسوس : [1]
وكانت بين قبائل ربيعة إذ اشتعلت الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب في أواخر
القرن الخامس الميلادي .
وكان سببها اعتداء كليب سيد تغلب على ناقة للبسوس ، اسمها سراب ،
وكانت البسوس خالة جساس بن مرة سيد بني بكر وكانت خالته من تميم نزلت
بجواره .
واسم كليب : وائل بن ربيعة ، لُقِّب بكليب لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو
كلب ، فإذا مر بروضة أو بموضع يعجبه ضرب الكلب ثم ألقاه وهو يصيح في ذلك
المكان ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنب ذلك الموضع ، وكان يقال له كليب
وائل ثم اختصروا فقالوا : كليب ، فغلب عليه .
وكان كليب قائد معدّ يوم خزازى ، ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد
قسم الملك وتاجه وطاعته ، وبقي زمان ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه ، حتى
أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ولا يورد أحد مع إبله .
وعندما رأى كليب ناقة البسوس رمى ضلعها بسهم فاختلط لبنها بدمها ، ولما
علم جساس بالأمر وسمع صياح البسوس وهي تصيح : واذلاه ! ، انتقم من كليب
وطعنه بالرمح وقتله على حين غِرَّة .
واشتدت الحرب بين الطرفين ، وقاد عدي بن ربيعة - الملقب بالمهلهل -
جموع تغلب ضد بني بكر بعد أن رفضت المساعي ، واستمرت رحى الحرب
أربعين سنة وكثرت أيامها مثل : يوم عنيزة ويوم واردات ، ويوم الحنو ويوم
القصيبات ويوم تحلاق اللمم الذي حضره الحارث بن عباد .
وقُتل في هذه الحروب جساس بن مرة وأخوه همام ، وبجير ولد الحارث بن
عباد ، وخلق كثير ، وملّ الناس الحرب ، ثم عرض المهلهل على قومه أن يغادرهم ، ونزل في حي من اليمن اسمه جنب ثم أجبره القوم على زواج ابنته وساقوا إليه
صداقها جلوداً من أدم فقال في ذلك [2] :
أنكحها فقدُها الأراقمَ في ... جنبٍ وكان الحباء من أَدَمِ [3]
لو بأبانَينِ جاء يخطبُها ... رُمِّلَ ما أنفُ خاطبٍ يدمِ [4]
ثم انحدر إلى قومه ، فلقيه عوف بن مالك - وهو أبو أسماء صاحبة المرقِّش
الأكبر - فأسره ومات في أسره .
قال المهلهل كثيراً من الشعر في هذه الحرب منها هذه القصيدة التي قالها بعد
أن أدرك بثأر أخيه [5] :
فإن يكُ بالذنائبِ طال ليلي ... فقد يُبكى من الليل القصيرِ [6]
فلو نُبشَ المقابرُ عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زيرِ [7]
فلولا الريحُ أسمعَ أهلَ حَجرٍ ... صليلَ البَيْضِ يُقرعُ بالذكورِ [8]
ومن جيد شعر المهلهل - بطل هذه المعارك - قصيدة ذكرها صاحب جمهرة
أشعار العرب واعتبرها من المنتقيات [9] .
وقد قالها يهدد بني بكر ، ويتوعدهم بالثأر لأخيه ، ويتحدث عن ظلم بني بكر
وجساس بن مرة ، وما كان من قتله لكليب (سيد العرب من معدّ) وقائدها يوم
خَزازى ضد جموع اليمن ، إذ قَهرتْ ربيعة ومضر أعداءها ، ثم يهددهم بالذبح ،
ذبح الشياه ومن هذه القصيدة :
جارت بنو بكر ، ولم يعدلوا ... والمرءُ قد يعرف قصد الطريقْ [10]
حطتْ ركابُ البغي من وائلٍ ... في رهطِ جساسٍ ثقال الوسوقْ [11]
يا أيها الجاني على قومه ... ما لم يكن كان له بالخليقْ [12]
جنايةً لم يدرِ ما كُنهها ... جانٍ ولم يصبح لها بالمطيقْ [13]
من عرفتْ يوم خزازى له ... عَلْيَا معدٍّ عند جذب الرتوق [14]
إن امرءاً ضرَّجتم ثوبه ... من عاتكٍ ، من دمِهِ كالخَلوقْ [15]
لم يكُ كالسيد في قومه ... بل ملكٌ ، دِينَ له بالحقوقْ [16]
إن نحن لم نثأرْ به فاشحذوا ... شفاركم منا لحزّ الحلوقْ [17]
ذبحاً كذبح الشاةِ لا تتقي ... ذابحَها إلا بشخْب العروقْ [18]
هذه الحروب بين بكر بن وائل وتغلب - وكلها قبائل من ربيعة - استمرت
عداوتها ، وطالما ذكرها شعراء القبيلتين في شعرهم وهو كثير . نذكر على سبيل
المثال عمرو بن كلثوم في معلقته - وهو من سادات تغلب - : [19]
إليكم يا بني بكر إليكم ... ألما تعرفوا منا اليقينا
ألما تعلموا منا ومنكم ... كتائب يطّعِنّ ويرتمينا
ومعلقة الحارث بن حلزة اليشكري التي يرد فيها على عمرو بن كلثوم وهى
طويلة وذلك أمام عمرو بن هند ملك الحيرة : [20]
أيها الناطق المرقشُ عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاءُ
ما أصابوا من تغلبي فمطلو ... لٌ عليه إذا تولى العفاءُ
4 - حرب داحس والغبراء : [21]
وهي من أيام قيس فيما بينها ، كانت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي
عبس وذبيان ، وسببها رهان على الخيل ، منها فرسان اسمهما داحس والغبراء ،
سميت الحرب باسمهما ، كان سيد بني عبس : قيس بن زهير قد اشتراهما من أهل
مكة .. بعد خلاف مع الربيع بن زياد (وهو من سادة عبس أيضاً) على درع
موصوفة لقيس اشتراها من المدينة المنورة ليحارب بني عامر ويثأر لأبيه .
نزل قيس بن زهير في جوار حذيفة بن بدر ، وأخيه حَمَل بن بدر من سادة
ذبيان .. وكان حذيفة يحسد قيساً على خيوله ويكتم ذلك في نفسه . استغل حذيفة بن
بدر غياب قيس للعمرة ، فراهن أحد بني عبس على السباق بين فرسين لقيس :
داحس والغبراء ، مقابل فرسين لحذيفة : الخطَّار والحنفاء .
ولما رجع قيس أراد فك الرهان فرفض حذيفة ، وكان على مائة من الإبل ،
ثم أجريا السباق ، وكمن رجل من بني أسد في الطريق ليرد داحساً إن جاء سابقاً ..
وفعلاً نفذ الأسدي خطة حذيفة ولطم وجه داحس فألقاه وفارسه في الماء ثم جاءت
الغبراء سابقة وتبعها الخطار ثم الحنفاء ثم داحس ، وندم الأسدي لما كان منه
واعترف بما صنع ، وأنكر حذيفة ذلك وطلب الرهان المضروب .. حاول الناس أن
يتوسطوا بالأمر ، ورضي بنو عبس بجزور واحدة يطعمونها أهل الماء ومَن حضر
وقالوا : إنا نكره القالة في العرب ، فأبى بنو فزارة (من ذبيان) وقال أحدهم : مائة
جزور وجزور واحدة سواء .
لجّ حذيفة في ظلمه وأرسل ابنه ندبة يطالب بالسبق ، هنا تناول قيس الرمح
وطعنه فقتله ، ورحل بمن معه من عبس ، وأرسل لأخيه مالك ليلحق به ، إلا أن
حذيفة بعث من يقتل مالك بن زهير ، وعلم الربيع بن زياد بذلك فجزع على مقتل
مالك وقال قصيدة منها : [22]
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأتِ نسوتنا بوجه نهارِ [23]
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطِمْن أوجهَهن بالأسمارِ [24]
يضربن حُرّ وجوههن على فتًى ... عفِّ الشمائلِ طيبِ الأخبارْ
واجتمعت عبس كلها على حرب ذبيان ، وأحلافها من أسد وتميم وكان قد
انضم إلى عبس بنو عامر . واستمرت الحرب - فيما يقال - أربعين عاماً . وكان
من أهمها وأشهرها : يوم المريقب وفيه قتل عنترة بن شداد ضمضماً والحارث بن
بدر وإلى هذا يشير في معلقته : [25]
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدرْ ... للحرب دائرة على ابني ضمضم [26]
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزَراً لخامعة ونسر قشعم [27]
ومنها يوم جفر الهباءة ، وفيه قُتّل حذيفة وحمل ابنا بدر ورثاهما قيس بن
زهير رثاءً حاراً ، وكنا قد أشرنا إلى ذلك خلال حديثنا عن الثأر .
وكانت عبس قد تعرضت لترحال كثير ، وحروب شديدة مع العديد من قبائل
العرب أمثال شيبان وأهل هَجَر ، وكلب ، وبني ضبة وتيم الرباب ، ومع بني عامر
حلفائهم السابقين . وكان عنترة العبسي من أبطال هذه الحروب وقد سجلها في
ديوانه [28] .
وكان قيس بن زهير قد قال لقومه بعد أن ملّ الحرب وأُنهكت عبس : ارجعوا
إلى قومكم فهم خير لكم .. فأما أنا فلا والله لا أجاور بيتاً غطفانياً أبداً ، فلحق بعُمان
وهلك بها .
ورجع الربيع وبنو عبس وقال في ذلك : [29]
حرّقَ قيس عليَّ البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما
جنيةُ حرب جناها فما ... تُفِرِّجُ عنه وما أُسْلِمَا
ولما تفانى الحيان عندها رغبت عبس في الصلح واستجاب لذلك سيدان من بيان هما الحارث بن عوف المري ، وهرم بن سنان ، وتحمل السيدان المذكوران
الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين . وفي هذه الحرب ووصفها ،تصوير شدتها وبشاعتها قال زهير بن أبى سُلمى معلقته الشهيرة ، وفيها يمدح
هذين السيدين ومن قوله : [30]
سعى ساعياً غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
عظيمين في عُليا معدّ هديتما ... ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم
هذه صورة موجزة عن حرب داحس والغبراء ، وقد عرفنا سببها وملابساتها ،
وقد تتكرر أمثال هذه الخلافات على رهان آخر على سباقات متنوعة ، وألعاب
تتلون بلون العصر الحاضر ، وظروفه من سباق السيارات ، ومباريات رياضية ،
تُشد إليها الأعصاب ، ويتحزب من أجلها الفرقاء .
5 - حروب الفجار : [31]
الفجار (بالكسر) معناه المفاجرة ، كالقتال والمقاتلة ، وذلك لأنها وقعت في
الأشهر الحرم ، وهي الشهور التي كان العرب يحرمون القتال فيها ، إلا أنهم فجروا
فيها بسبب هذه الحرب .
وهي فجاران : الفجار الأول ثلاثة أيام ، والفجار الثاني خمسة أيام في أربع
سنين ، وقد حضر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عكاظ مع أعمامه ، كان
يناولهم النبل ، وانتهت هذه الحروب سنة (589م) .
أيام الفجار الأول :
اليوم الأول : كان سببه أن بدر بن معشر الغفاري (ينتهي نسبه إلى كنانة) كان
رجلاً منيعاً يستطيل على مَن يرد سوق عكاظ ، وفي أحد المواسم جلس ومد رجله ،
وقال : أنا أعز العرب فمَن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف ! ، وثب رجل من
بني نصر من هوازن ، وضربه على ركبته بالسيف فخدشها خدشاً يسيراً ، واختصم
الناس ثم اصطلحوا .
وسبب اليوم الثاني : يقال : إن شباباً من قريش وكنانة قعدوا إلى امرأة من
بني عامر ، وكانت وضيئة عليها برقع ، وذلك في سوق عكاظ ، وقالوا لها :
أسفري عن وجهك ! ، فرفضت ، ثم قام غلام منهم وربط ذيل درعها إلى ظهرها
وهي لا تشعر ، فلما قامت انكشفت درعها عن ظهرها فضحكوا وقالوا : منعتِنا
النظر إلى وجهك ، وجدتِ لنا بالنظر إلى ظهرك ؟ ! ، نادت المرأة : يا بني عامر
فُضحت ، فساروا إليها وحملوا السلاح ، وحملته كنانة وقريش ، واقتتلوا ، ووقعت
بينهم دماء يسيرة ، ثم توسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر
عن مُثلة صاحبتهم [32] .
أما اليوم الثالث : فسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دَين لرجل من بني نصر
(من هوازن) ، جاء النصري سوق عكاظ بقرد وقال : من يبيعني مثل هذا بمالي
على فلان ، فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه ، ولما مر به رجل من كنانة ضرب
القرد بالسيف وقتله أنفة مما قال النصري ، عندها صرخ كل من الرجلين يا آل
كنانة ، يا آل هوازن تجمع الحيان ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم قتلى ، وأصلح
عبد الله بن جُدعان بين الناس .
أيام الفجار الثاني : [33]
هاجت الحرب بين قريش ومن معهم من كنانة ، وبين قيس عيلان وسببها :
أن عروة الرجال وهو من بني عامر كان قد أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ، ولما قال له البرّاض بن قيس الكنانى [34] : أتجيرها على كنانة ، قال : نعم وعلى
الخلق كلهم .
خرج في اللطيمة عروة الرجال ، وتبعه البراض يطلب غفلته ، وفي تيْمُن من أرض نجد ، غفل عروة ، فوثب عليه البراض وقتله في الشهر الحرام ، علمت
قريش بالخبر وهم في عكاظ ، وانسلت ، وهوازن لا تشعر بها ، ولما علمت هوازن تبعتهم وأدركتهم قبل أن يدخلوا الحرم واقتتل الفريقان حتى جاء الليل ودخلت قريش
الحرم وأمسكت عنها هوازن ، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً عدة ، منها يوم شمطة ،
ويوم العبلاء ، ويوم عكاظ وهو أشدها . ويذكر ابن هشام أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان قد شهد بعض أيامهم ؛ إذ أخرجه أعمامه معهم وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( كنت أنبل على أعمامي ) . أي أرد عليهم نبل عدوهم إذ رموهم بها . ...
كان حرب بن أمية قائد قريش وكنانة وكان الظفر في أول النهار لقيس على
كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة .
قال ابن إسحاق : هاجت حرب الفجار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ابن عشرين سنة .
ويروي ابن الأثير : أن الحيين بعد يوم عكاظ تداعوا إلى الصلح ، واصطلحوا على أن يعدوا القتلى وتدفع الديات ، ورهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان يومئذ في
ديات القوم حتى يؤديها ، ورهن غيره من الرؤساء ، ثم وضعت الحرب أوزارها . وقد ذكر الشعراء هذه الحروب مثل ضرار بن الخطاب الفهري : [35]
ألم تسأل الناس عن شأننا ... ولم يُثْبِتِ الأمر كالخابرِ
غداةَ عكاظ إذ استكملت ... هوازن في كفها الحاضرِ
ففرت سُليم ولم يصبروا ... وطارت شَعاعاً بنو عامرِ [36]
وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسرِ [37]
وفي يوم العبلاء يقول خداش بن زهير :
ألم يبلغك ما قالت قريش ... وحي بني كنانة إذ أُثيروا
دهمناهم بأرعن مكفهر ... فظل لنا بعقوتهم زئيرُ [38]
هذه الحروب كانت بين قريش وأحلافها ضد قبائل قيس عيلان من هوازن
وثقيف ، ومن قريش كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمهاجرون من
أصحابه ، وكانوا خير أمة أخرجت للناس ، حملوا مشعل الهداية والنور ، إلى العالم
كافة .
__________
(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج 1 ، ص 312-324 وانظر أيام العرب في الجاهلية ، ص 142 - 167 .
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/305 .
(3) الأراقم : أحياء من قومه .
(4) أبانان : جبلان ، رمل : لطخ بدم .
(5) الأصمعيات رقم 53 ، ص 154 .
(6) الذنائب : موضع به قبر كليب .
(7) أيْ : أيُّ زير أنا ؟ ، وهو الذي يخالط النساء ويريد حديثهن لغير شر .
(8) حَجر : مدينة باليمامة - الذكور : جود السيوف ، ويقرع : يضرب وفي البيت مبالغة : إذ لولا الريح لسمع أهل اليمامة صليل السيوف .
(9) جمهرة أشعار العرب 2/587 - 594 .
(10) قصد الطريق : استقامة الطريق .
(11) الوسوق : الأحمال .
(12) الخليق : الجدير بالشيء .
(13) كنهها : غايتها ونهايتها .
(14) (رواية أخرى أخذ الحقوق بدلاً من جذب الرتوق) وجذب الرتوق : أي عند تصدع الكلمة وانشقاق العصا ووقوع الحرب .
(15) عاتك : شديد الحمرة والخلوق : ضرب من الطيب .
(16) أي كان كليب ملكاً دان له الناس بالطاعة .
(17) شفرات السيوف : حدّها .
(18) شخب العروق : قطعها وسيلان الدم منها .
(19) شرح القصائد العشر للتبريزي .
(20) المصدر السابق ، ص299 ، والمرقش الذي يزين القول بالباطل ليقبل الملك منه باطله ، مطلوب عليه : أي لا يُدرك بثأره .
(21) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج1 ، 343-355 ، وأيام العرب في الجاهلية ، جاد المولى ، ص246-277 .
(22) القصيدة (348) من ديوان الحماسة لأبي تمام ، تحقيق العسيلان .
(23) أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياءً ، والآن ظهرن لا يعقلن من الحزن ! .
(24) أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياءً ، والآن ظهرن لا يعقلن من الحزن ! .
(25) المعلقة ، ص475 اختيارات الأعلم.
(26) ابنا ضمضم : كان عنترة قتل أباهما وهما يتواعدانه.
(27) الخامعة : الضبع ، والقشعم : من النسور الكبيرة ، وفي رواية التبريزي (جزر السباع ، وكل نسر قشعم ، ص251).
(28) انظر اختيارات الأعلم الشنتمري (من ص482 حتى ص517).
(29) ديوان الحماسة لأبي تمام ، رقم القصيدة (165) ، العسيلان.
(30) معلقة زهير (شرح القصائد العشر للتبريزي ، ص125 وما بعدها)، والأبيات قد مرت وشرحت في مناسبة سابقة.
(31) الكامل في التاريخ 1/359 ، وانظر أيام العرب في الجاهلية (ص 322) وما بعدها.
(32) (يروي ابن الأثير أنه لم يحصل قتال ورأوا أن الأمر يسير واصطلحوا).
(33) السيرة النبوية لابن هشام 1/184 ، وانظر الكامل في التاريخ.
(34) وكان رجلاً خليعاً فاتكاً.
(35) عن أيام العرب في الجاهلية ، ص335.
(36) - شعاعاً : متفرقين.
(37) لاتها : أى صنمها : (اللات).
(4)
محمد الناصر
ملخص ما سبق نشره :
ساق لنا الكاتب في الحلقة السابقة نبذة عن التحالفات القبلية التي كان عرب
الجاهلية يعقدونها فيما بينهم ، وضرب أمثلة ، من تلك الأحلاف ، ثم ذكر المعارك المشهورة التي وقعت بين العرب وغيرهم كالفرس ، وبين العرب أنفسهم والتي تسمى عندهم أياماً ، واستشهد على ذلك بأمثلة من شعر شعرائهم ، وها هو ذا في
هذه الحلقة يتابع الحديث عن بقية أيام العرب المشهورة .
3 - حرب البَسوس : [1]
وكانت بين قبائل ربيعة إذ اشتعلت الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب في أواخر
القرن الخامس الميلادي .
وكان سببها اعتداء كليب سيد تغلب على ناقة للبسوس ، اسمها سراب ،
وكانت البسوس خالة جساس بن مرة سيد بني بكر وكانت خالته من تميم نزلت
بجواره .
واسم كليب : وائل بن ربيعة ، لُقِّب بكليب لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو
كلب ، فإذا مر بروضة أو بموضع يعجبه ضرب الكلب ثم ألقاه وهو يصيح في ذلك
المكان ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنب ذلك الموضع ، وكان يقال له كليب
وائل ثم اختصروا فقالوا : كليب ، فغلب عليه .
وكان كليب قائد معدّ يوم خزازى ، ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد
قسم الملك وتاجه وطاعته ، وبقي زمان ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه ، حتى
أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ولا يورد أحد مع إبله .
وعندما رأى كليب ناقة البسوس رمى ضلعها بسهم فاختلط لبنها بدمها ، ولما
علم جساس بالأمر وسمع صياح البسوس وهي تصيح : واذلاه ! ، انتقم من كليب
وطعنه بالرمح وقتله على حين غِرَّة .
واشتدت الحرب بين الطرفين ، وقاد عدي بن ربيعة - الملقب بالمهلهل -
جموع تغلب ضد بني بكر بعد أن رفضت المساعي ، واستمرت رحى الحرب
أربعين سنة وكثرت أيامها مثل : يوم عنيزة ويوم واردات ، ويوم الحنو ويوم
القصيبات ويوم تحلاق اللمم الذي حضره الحارث بن عباد .
وقُتل في هذه الحروب جساس بن مرة وأخوه همام ، وبجير ولد الحارث بن
عباد ، وخلق كثير ، وملّ الناس الحرب ، ثم عرض المهلهل على قومه أن يغادرهم ، ونزل في حي من اليمن اسمه جنب ثم أجبره القوم على زواج ابنته وساقوا إليه
صداقها جلوداً من أدم فقال في ذلك [2] :
أنكحها فقدُها الأراقمَ في ... جنبٍ وكان الحباء من أَدَمِ [3]
لو بأبانَينِ جاء يخطبُها ... رُمِّلَ ما أنفُ خاطبٍ يدمِ [4]
ثم انحدر إلى قومه ، فلقيه عوف بن مالك - وهو أبو أسماء صاحبة المرقِّش
الأكبر - فأسره ومات في أسره .
قال المهلهل كثيراً من الشعر في هذه الحرب منها هذه القصيدة التي قالها بعد
أن أدرك بثأر أخيه [5] :
فإن يكُ بالذنائبِ طال ليلي ... فقد يُبكى من الليل القصيرِ [6]
فلو نُبشَ المقابرُ عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زيرِ [7]
فلولا الريحُ أسمعَ أهلَ حَجرٍ ... صليلَ البَيْضِ يُقرعُ بالذكورِ [8]
ومن جيد شعر المهلهل - بطل هذه المعارك - قصيدة ذكرها صاحب جمهرة
أشعار العرب واعتبرها من المنتقيات [9] .
وقد قالها يهدد بني بكر ، ويتوعدهم بالثأر لأخيه ، ويتحدث عن ظلم بني بكر
وجساس بن مرة ، وما كان من قتله لكليب (سيد العرب من معدّ) وقائدها يوم
خَزازى ضد جموع اليمن ، إذ قَهرتْ ربيعة ومضر أعداءها ، ثم يهددهم بالذبح ،
ذبح الشياه ومن هذه القصيدة :
جارت بنو بكر ، ولم يعدلوا ... والمرءُ قد يعرف قصد الطريقْ [10]
حطتْ ركابُ البغي من وائلٍ ... في رهطِ جساسٍ ثقال الوسوقْ [11]
يا أيها الجاني على قومه ... ما لم يكن كان له بالخليقْ [12]
جنايةً لم يدرِ ما كُنهها ... جانٍ ولم يصبح لها بالمطيقْ [13]
من عرفتْ يوم خزازى له ... عَلْيَا معدٍّ عند جذب الرتوق [14]
إن امرءاً ضرَّجتم ثوبه ... من عاتكٍ ، من دمِهِ كالخَلوقْ [15]
لم يكُ كالسيد في قومه ... بل ملكٌ ، دِينَ له بالحقوقْ [16]
إن نحن لم نثأرْ به فاشحذوا ... شفاركم منا لحزّ الحلوقْ [17]
ذبحاً كذبح الشاةِ لا تتقي ... ذابحَها إلا بشخْب العروقْ [18]
هذه الحروب بين بكر بن وائل وتغلب - وكلها قبائل من ربيعة - استمرت
عداوتها ، وطالما ذكرها شعراء القبيلتين في شعرهم وهو كثير . نذكر على سبيل
المثال عمرو بن كلثوم في معلقته - وهو من سادات تغلب - : [19]
إليكم يا بني بكر إليكم ... ألما تعرفوا منا اليقينا
ألما تعلموا منا ومنكم ... كتائب يطّعِنّ ويرتمينا
ومعلقة الحارث بن حلزة اليشكري التي يرد فيها على عمرو بن كلثوم وهى
طويلة وذلك أمام عمرو بن هند ملك الحيرة : [20]
أيها الناطق المرقشُ عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاءُ
ما أصابوا من تغلبي فمطلو ... لٌ عليه إذا تولى العفاءُ
4 - حرب داحس والغبراء : [21]
وهي من أيام قيس فيما بينها ، كانت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي
عبس وذبيان ، وسببها رهان على الخيل ، منها فرسان اسمهما داحس والغبراء ،
سميت الحرب باسمهما ، كان سيد بني عبس : قيس بن زهير قد اشتراهما من أهل
مكة .. بعد خلاف مع الربيع بن زياد (وهو من سادة عبس أيضاً) على درع
موصوفة لقيس اشتراها من المدينة المنورة ليحارب بني عامر ويثأر لأبيه .
نزل قيس بن زهير في جوار حذيفة بن بدر ، وأخيه حَمَل بن بدر من سادة
ذبيان .. وكان حذيفة يحسد قيساً على خيوله ويكتم ذلك في نفسه . استغل حذيفة بن
بدر غياب قيس للعمرة ، فراهن أحد بني عبس على السباق بين فرسين لقيس :
داحس والغبراء ، مقابل فرسين لحذيفة : الخطَّار والحنفاء .
ولما رجع قيس أراد فك الرهان فرفض حذيفة ، وكان على مائة من الإبل ،
ثم أجريا السباق ، وكمن رجل من بني أسد في الطريق ليرد داحساً إن جاء سابقاً ..
وفعلاً نفذ الأسدي خطة حذيفة ولطم وجه داحس فألقاه وفارسه في الماء ثم جاءت
الغبراء سابقة وتبعها الخطار ثم الحنفاء ثم داحس ، وندم الأسدي لما كان منه
واعترف بما صنع ، وأنكر حذيفة ذلك وطلب الرهان المضروب .. حاول الناس أن
يتوسطوا بالأمر ، ورضي بنو عبس بجزور واحدة يطعمونها أهل الماء ومَن حضر
وقالوا : إنا نكره القالة في العرب ، فأبى بنو فزارة (من ذبيان) وقال أحدهم : مائة
جزور وجزور واحدة سواء .
لجّ حذيفة في ظلمه وأرسل ابنه ندبة يطالب بالسبق ، هنا تناول قيس الرمح
وطعنه فقتله ، ورحل بمن معه من عبس ، وأرسل لأخيه مالك ليلحق به ، إلا أن
حذيفة بعث من يقتل مالك بن زهير ، وعلم الربيع بن زياد بذلك فجزع على مقتل
مالك وقال قصيدة منها : [22]
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأتِ نسوتنا بوجه نهارِ [23]
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطِمْن أوجهَهن بالأسمارِ [24]
يضربن حُرّ وجوههن على فتًى ... عفِّ الشمائلِ طيبِ الأخبارْ
واجتمعت عبس كلها على حرب ذبيان ، وأحلافها من أسد وتميم وكان قد
انضم إلى عبس بنو عامر . واستمرت الحرب - فيما يقال - أربعين عاماً . وكان
من أهمها وأشهرها : يوم المريقب وفيه قتل عنترة بن شداد ضمضماً والحارث بن
بدر وإلى هذا يشير في معلقته : [25]
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدرْ ... للحرب دائرة على ابني ضمضم [26]
إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزَراً لخامعة ونسر قشعم [27]
ومنها يوم جفر الهباءة ، وفيه قُتّل حذيفة وحمل ابنا بدر ورثاهما قيس بن
زهير رثاءً حاراً ، وكنا قد أشرنا إلى ذلك خلال حديثنا عن الثأر .
وكانت عبس قد تعرضت لترحال كثير ، وحروب شديدة مع العديد من قبائل
العرب أمثال شيبان وأهل هَجَر ، وكلب ، وبني ضبة وتيم الرباب ، ومع بني عامر
حلفائهم السابقين . وكان عنترة العبسي من أبطال هذه الحروب وقد سجلها في
ديوانه [28] .
وكان قيس بن زهير قد قال لقومه بعد أن ملّ الحرب وأُنهكت عبس : ارجعوا
إلى قومكم فهم خير لكم .. فأما أنا فلا والله لا أجاور بيتاً غطفانياً أبداً ، فلحق بعُمان
وهلك بها .
ورجع الربيع وبنو عبس وقال في ذلك : [29]
حرّقَ قيس عليَّ البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما
جنيةُ حرب جناها فما ... تُفِرِّجُ عنه وما أُسْلِمَا
ولما تفانى الحيان عندها رغبت عبس في الصلح واستجاب لذلك سيدان من بيان هما الحارث بن عوف المري ، وهرم بن سنان ، وتحمل السيدان المذكوران
الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين . وفي هذه الحرب ووصفها ،تصوير شدتها وبشاعتها قال زهير بن أبى سُلمى معلقته الشهيرة ، وفيها يمدح
هذين السيدين ومن قوله : [30]
سعى ساعياً غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
عظيمين في عُليا معدّ هديتما ... ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم
هذه صورة موجزة عن حرب داحس والغبراء ، وقد عرفنا سببها وملابساتها ،
وقد تتكرر أمثال هذه الخلافات على رهان آخر على سباقات متنوعة ، وألعاب
تتلون بلون العصر الحاضر ، وظروفه من سباق السيارات ، ومباريات رياضية ،
تُشد إليها الأعصاب ، ويتحزب من أجلها الفرقاء .
5 - حروب الفجار : [31]
الفجار (بالكسر) معناه المفاجرة ، كالقتال والمقاتلة ، وذلك لأنها وقعت في
الأشهر الحرم ، وهي الشهور التي كان العرب يحرمون القتال فيها ، إلا أنهم فجروا
فيها بسبب هذه الحرب .
وهي فجاران : الفجار الأول ثلاثة أيام ، والفجار الثاني خمسة أيام في أربع
سنين ، وقد حضر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عكاظ مع أعمامه ، كان
يناولهم النبل ، وانتهت هذه الحروب سنة (589م) .
أيام الفجار الأول :
اليوم الأول : كان سببه أن بدر بن معشر الغفاري (ينتهي نسبه إلى كنانة) كان
رجلاً منيعاً يستطيل على مَن يرد سوق عكاظ ، وفي أحد المواسم جلس ومد رجله ،
وقال : أنا أعز العرب فمَن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف ! ، وثب رجل من
بني نصر من هوازن ، وضربه على ركبته بالسيف فخدشها خدشاً يسيراً ، واختصم
الناس ثم اصطلحوا .
وسبب اليوم الثاني : يقال : إن شباباً من قريش وكنانة قعدوا إلى امرأة من
بني عامر ، وكانت وضيئة عليها برقع ، وذلك في سوق عكاظ ، وقالوا لها :
أسفري عن وجهك ! ، فرفضت ، ثم قام غلام منهم وربط ذيل درعها إلى ظهرها
وهي لا تشعر ، فلما قامت انكشفت درعها عن ظهرها فضحكوا وقالوا : منعتِنا
النظر إلى وجهك ، وجدتِ لنا بالنظر إلى ظهرك ؟ ! ، نادت المرأة : يا بني عامر
فُضحت ، فساروا إليها وحملوا السلاح ، وحملته كنانة وقريش ، واقتتلوا ، ووقعت
بينهم دماء يسيرة ، ثم توسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر
عن مُثلة صاحبتهم [32] .
أما اليوم الثالث : فسببه أن رجلاً من كنانة كان عليه دَين لرجل من بني نصر
(من هوازن) ، جاء النصري سوق عكاظ بقرد وقال : من يبيعني مثل هذا بمالي
على فلان ، فعل ذلك تعييراً للكناني وقومه ، ولما مر به رجل من كنانة ضرب
القرد بالسيف وقتله أنفة مما قال النصري ، عندها صرخ كل من الرجلين يا آل
كنانة ، يا آل هوازن تجمع الحيان ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم قتلى ، وأصلح
عبد الله بن جُدعان بين الناس .
أيام الفجار الثاني : [33]
هاجت الحرب بين قريش ومن معهم من كنانة ، وبين قيس عيلان وسببها :
أن عروة الرجال وهو من بني عامر كان قد أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ، ولما قال له البرّاض بن قيس الكنانى [34] : أتجيرها على كنانة ، قال : نعم وعلى
الخلق كلهم .
خرج في اللطيمة عروة الرجال ، وتبعه البراض يطلب غفلته ، وفي تيْمُن من أرض نجد ، غفل عروة ، فوثب عليه البراض وقتله في الشهر الحرام ، علمت
قريش بالخبر وهم في عكاظ ، وانسلت ، وهوازن لا تشعر بها ، ولما علمت هوازن تبعتهم وأدركتهم قبل أن يدخلوا الحرم واقتتل الفريقان حتى جاء الليل ودخلت قريش
الحرم وأمسكت عنها هوازن ، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً عدة ، منها يوم شمطة ،
ويوم العبلاء ، ويوم عكاظ وهو أشدها . ويذكر ابن هشام أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان قد شهد بعض أيامهم ؛ إذ أخرجه أعمامه معهم وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( كنت أنبل على أعمامي ) . أي أرد عليهم نبل عدوهم إذ رموهم بها . ...
كان حرب بن أمية قائد قريش وكنانة وكان الظفر في أول النهار لقيس على
كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة .
قال ابن إسحاق : هاجت حرب الفجار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ابن عشرين سنة .
ويروي ابن الأثير : أن الحيين بعد يوم عكاظ تداعوا إلى الصلح ، واصطلحوا على أن يعدوا القتلى وتدفع الديات ، ورهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان يومئذ في
ديات القوم حتى يؤديها ، ورهن غيره من الرؤساء ، ثم وضعت الحرب أوزارها . وقد ذكر الشعراء هذه الحروب مثل ضرار بن الخطاب الفهري : [35]
ألم تسأل الناس عن شأننا ... ولم يُثْبِتِ الأمر كالخابرِ
غداةَ عكاظ إذ استكملت ... هوازن في كفها الحاضرِ
ففرت سُليم ولم يصبروا ... وطارت شَعاعاً بنو عامرِ [36]
وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسرِ [37]
وفي يوم العبلاء يقول خداش بن زهير :
ألم يبلغك ما قالت قريش ... وحي بني كنانة إذ أُثيروا
دهمناهم بأرعن مكفهر ... فظل لنا بعقوتهم زئيرُ [38]
هذه الحروب كانت بين قريش وأحلافها ضد قبائل قيس عيلان من هوازن
وثقيف ، ومن قريش كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمهاجرون من
أصحابه ، وكانوا خير أمة أخرجت للناس ، حملوا مشعل الهداية والنور ، إلى العالم
كافة .
__________
(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج 1 ، ص 312-324 وانظر أيام العرب في الجاهلية ، ص 142 - 167 .
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/305 .
(3) الأراقم : أحياء من قومه .
(4) أبانان : جبلان ، رمل : لطخ بدم .
(5) الأصمعيات رقم 53 ، ص 154 .
(6) الذنائب : موضع به قبر كليب .
(7) أيْ : أيُّ زير أنا ؟ ، وهو الذي يخالط النساء ويريد حديثهن لغير شر .
(8) حَجر : مدينة باليمامة - الذكور : جود السيوف ، ويقرع : يضرب وفي البيت مبالغة : إذ لولا الريح لسمع أهل اليمامة صليل السيوف .
(9) جمهرة أشعار العرب 2/587 - 594 .
(10) قصد الطريق : استقامة الطريق .
(11) الوسوق : الأحمال .
(12) الخليق : الجدير بالشيء .
(13) كنهها : غايتها ونهايتها .
(14) (رواية أخرى أخذ الحقوق بدلاً من جذب الرتوق) وجذب الرتوق : أي عند تصدع الكلمة وانشقاق العصا ووقوع الحرب .
(15) عاتك : شديد الحمرة والخلوق : ضرب من الطيب .
(16) أي كان كليب ملكاً دان له الناس بالطاعة .
(17) شفرات السيوف : حدّها .
(18) شخب العروق : قطعها وسيلان الدم منها .
(19) شرح القصائد العشر للتبريزي .
(20) المصدر السابق ، ص299 ، والمرقش الذي يزين القول بالباطل ليقبل الملك منه باطله ، مطلوب عليه : أي لا يُدرك بثأره .
(21) الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج1 ، 343-355 ، وأيام العرب في الجاهلية ، جاد المولى ، ص246-277 .
(22) القصيدة (348) من ديوان الحماسة لأبي تمام ، تحقيق العسيلان .
(23) أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياءً ، والآن ظهرن لا يعقلن من الحزن ! .
(24) أي كانت نساؤنا يخبأن وجوههن عفة وحياءً ، والآن ظهرن لا يعقلن من الحزن ! .
(25) المعلقة ، ص475 اختيارات الأعلم.
(26) ابنا ضمضم : كان عنترة قتل أباهما وهما يتواعدانه.
(27) الخامعة : الضبع ، والقشعم : من النسور الكبيرة ، وفي رواية التبريزي (جزر السباع ، وكل نسر قشعم ، ص251).
(28) انظر اختيارات الأعلم الشنتمري (من ص482 حتى ص517).
(29) ديوان الحماسة لأبي تمام ، رقم القصيدة (165) ، العسيلان.
(30) معلقة زهير (شرح القصائد العشر للتبريزي ، ص125 وما بعدها)، والأبيات قد مرت وشرحت في مناسبة سابقة.
(31) الكامل في التاريخ 1/359 ، وانظر أيام العرب في الجاهلية (ص 322) وما بعدها.
(32) (يروي ابن الأثير أنه لم يحصل قتال ورأوا أن الأمر يسير واصطلحوا).
(33) السيرة النبوية لابن هشام 1/184 ، وانظر الكامل في التاريخ.
(34) وكان رجلاً خليعاً فاتكاً.
(35) عن أيام العرب في الجاهلية ، ص335.
(36) - شعاعاً : متفرقين.
(37) لاتها : أى صنمها : (اللات).
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
مفهوم الجاهلية في
الشعر الجاهلي
(5)
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة :
في الحلقة السابقة تحدث الكاتب عن بعض أيام العرب المشهورة كحرب
البسوس ، وحرب داحس والغبراء ، وحرب الفجار ، وما جرى في هذه الحروب
من ثارات وما قيل فيها من شعر ، وفي هذه الحلقة يدخل الفترة الإسلامية ، أثر
الإسلام في تلك البيئة .
التمهيد :
من خلال دراستنا للحياة السياسية في الشعر الجاهلي لا حظنا أن لهذه الحياة
مقومات أساسية نوجزها فيما يأتي :
1- القبيلة : هي البنية الاجتماعية والسياسية لتلك المجتمعات ، ففيها يجد
العربي الحماية والطمأنينة ، ولها يتعصب ، والرباط الأقوى فيها هو العصبية التي
تنسي أصحابها كل تعقل وتوازن ، فلا رأي ولا حرية للفرد أمام عادات القبيلة
وتقاليدها ، وإلا تعرض للخلع والطرد .
ولقد نفخت العصبية في أفرادها نيراناً لاهبة من اعتزاز بالنسب ، فهم أفضل
الناس ، وآباؤهم أشرف آباء ، حتى أن الشاعر كان ينسى نفسه ويتصور أنه وقومه
ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون بلا رادع ، وقد افتخروا بكثرة العدد والعدة ،
فكثرت المنافرات بينهم ، وبالقوة والشجاعة ، بل بالجبروت والغطرسة وهي من
أهم خصائص تلك الجاهلية ..
ولقد وجدنا خلال دراستنا للشعر الجاهلي شواهد كثيرة في هذا الشأن .
2- العادات والتقاليد : وكان للتقليد عندهم سطوة الدين والمعتقد ، فلا يستطيع
الفرد مهما أوتي من مكانة أن يخرج عليها ، لقد تاهوا في ضلالات الجهالة والتقليد ، وعطلوا فكرهم وعقولهم ، ولذلك سفه الإسلام أحلامهم وحاول تحرير عقولهم ،
حتى تمكن من تخليصهم من رواسبها .
3- التفرق والشتات : لم يعرف العرب وحدة سياسية في تاريخهم الجاهلي ،
حتى أن الإمارات التي تشكلت كانت لا تزيد عن كونها قبائل متصارعة مع أمثالها ،
ولم تنفذ إلى فكرة الأمة أو الجنس ، بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد ، إنما
اتخذت صورة اتحاد قبلي له رئيس ليس غير .
لقد كوَّن المناذرة والغساسنة إمارتين اصطنعتهما فارس والروم لضرب القبائل
العربية الأخرى في الجزيرة ، وكثيراً ما وقعت الحروب الطاحنة بين هاتين
الإمارتين . ولقد أدتا دورهما في خدمة سادتهما خير أداء من بطش بالقبائل ... العربية ، وقتل وتخريب ..
وفى مؤتة حارب مع الروم من قبائل العرب مثل : لخم وجذام وبلي وغيرهم
ما يزيد عن مائة ألف بالإضافة إلى مثلهم من الروم [1] .
أما إمارة كندة ، ومدن الحجاز ، فما كانت إلا تجمعات قبلية سكنت الحاضرة
ولم تخرج على عادات القبائل وصراعاتها .
4- الحروب والأيام : إن العربى في البادية شجاع ، يفضل الموت تحت
ظلال السيوف ، على حياة الذل والضيم ، فحياته حرب ضروس لا تهداً ، وقد
زخرت موضوعات الشعر في تصويرها كما مر معنا في الأعداد السابقة ، إذ مدح
الشعراء الشجاعة والشجعان ، والفروسية والفرسان ، والحياة للقوي ، وهذا ما عبر
عنه زهير إذ يقول :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وكثر الهجاء وشارك في المعارك مصوراً الفرار والهزيمة ، وبكى الشعراء
قتلاهم ، وندبت النساء الموتى ، وعرف الشعر العربى عدداً من أصحاب ... المراثي ..
آثار الحرب : وكان من آثارها كثرة الأسرى والسبايا ، وما رافق ذلك من
تأريث للعداوة ، ومحاولات مستمرة لتخليص الأسرى والسبايا .
أما عادة الثأر فقد كانت متأصلة في نفس العربي وكثيراً ما سببت حروباً لا
تنطفئ ، ولم تمنع القرابة من الثأر بين أفراد القبيلة الواحدة .
وقد تلجاً القبائل في هذه البيئة الحربية ، التي يشع فيها الفزع والهول ، إلى
التحالف مع القبائل الأخرى لترد عن نفسها العدوان .
ولقد صورت لنا أيام العرب هذه الحياة الحربية ، وذلك الصراع الدامي ، وإذا
تصفحت الجزء الأول من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير مثلاً يهولك هذا الجو
الصاخب من الحروب والضغائن .
إنها الجاهلية بكل مقوماتها ، انطلقت صاخبة لا تقف عند حد ، مادامت لا
تحتكم إلى دين ، وإنما تتبع ما وجدت عليه الآباء والأجداد ..
لقد كان العربي فيً وثنيته مستعبداً لعدد من الأرباب والمعبودات ، فبالإضافة
إلى عبادة الأصنام والكواكب كان الفرد ينصاع إلى استعباد القبيلة والعرف ، ... والعادة ، ثم إلى الهوى والشهوات ..
كلمة في المنهج :
فى القسم الأول من هذه الدراسة ، كنت قد اعتمدت على الشعر الجاهلي ؛ لأنه
خير مصدر لتصوير حياة العرب في تلك الفترة ، إذ قد اهتم به علماء اللغة تدويناً
ودراسة ، أكثر من اهتمام المؤرخين ، فدراستهم كانت ظنية تعتمد على الحدس
والتخمين ، أو دراسة الآثار ..
وفى هذا القسم كان اعتمادي على القرآن الكريم ؛ لأنه صور حياة الجاهلية
تصويراً دقيقاً ، حياً معبراً بالأحداث ، والسنة النبوية المطهرة -وصراع النخبة
المؤمنة مع ذويهم ومعاصريهم - حيث صورت هذا الصراع كتب السيرة والتراجم ، ثم شعراء الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام .
إننا نعيش الآن في غربة ، غربة جديدة للإسلام ، تجعل محاولة العودة صعبة
وشاقة ، وفيها عنصر الجدة .. لابد من عودة جادة إلى المنابع الأولى الصافية ،
منابع العقيدة ، ودراسة السنة وكيف ربى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
أصحابه .
قال - صلى الله عليه وسلم - : « بداً الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بداً ،
فطوبى للغرباء » أخرجه مسلم .
« لقد دار الزمن دورته وعاد الإسلام كما بداً ، كما أخبر بذلك الرسول -
صلى الله عليه وسلم - ، هذه الغربة تجعل محاولة العودة كأنها جولة جديدة ...
وسيتوفر لها عنصر الجدة ... فيكون حافزاً لها على بلوغ القمة » [2] .
وفي سبيل هذه العودة نتلمس المنهج في طريقة تربية الجماعة الأولى ،
جماعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت من الاستعلاء بإيمانها على
حياة التمزق والتيه والضياع ... إن حياة الإلف والعادة للمسلم قد تجعله ينقض عرى
الدين ، يروى أن عمر - رضي الله عنه - قال : « ينقضُ الإسلام عروة عروة ؛
إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية » .
ومن أجل خطوة في طريق التربية الإيمانية ، ومن أجل العبرة ، ومقارنة
الواقع بما فيه ، مع ماضي هذه الأمة الناصع ، بعد جاهلية مظلمة ، نقدم هذه
الدراسة ..
وسوف أركز الحديث حول المباحث التالية :
1 - التربية العقدية : ودورها في تربية الجماعة الأولى .
2- العصبية القبلية : وكيف عمل الإسلام على تذويبها .
3- وحدة الأمة : بعد التفرق و الشتات .
4 - اتباع التقاليد وتحكيم الأهواء .
5- الجهاد في سبيل الله : بعد الحروب الدامية .
أولاً - التربية العقدية :
كيف واجه الإسلام الجاهلية ؟ كيف انتشل العرب من أوضارها ؛ كيف رباهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينخلصوا من القيم التي كانوا يقدسونها
والعادات التي كانوا يخضعون إليها ؟ .
للإجابة على هذه الاستفسارات لابد من العودة إلى منهج التربية الذي ربى
عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فهو قدوتنا ، وواجب
علينا أن نتبع منهجه [ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] .
أ- طريقة الإسلام في التربية : (التوحيد الخالص) .
كانت البداية الأولى في التربية هي تصحيح العقيدة في الله ، ومنذ اللحظة
الأولى ، منذ أن يعلن المسلم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يصبح انتماء المسلم
لدينه ، ويتبرأ بعدها من كل معبود أو متبوع أو مطاع سوى الله [3] .
[ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى ] [البقرة :256] .
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها
بالآباء ، مؤمن تقي أو فاجر شقي ، أنتم بنو آدم وآدم من تراب ، ليدعن رجال
فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان
التي تدفع بأنفها النتن » [4] .
بهذا التصوير والتنفير ، بداً الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفر أصحابه
من رواسب الجاهلية ومفاخرها وعصبياتها
« لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته ماضيه في
الجاهلية ، كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام ، أنه بداً عهداً جديداً ،
منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية .. كان يقف منها موقف
المستريب الشاك الحذر المتخوف الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ،
وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام .. » [5] .
نعم هكذا كان مفهوم التوحيد يسيطر على مشاعر المسلم فيتحول إلى واقع حي
متحرك ، يملأ عليه شغاف قلبه ، بعيداً عن المفاهيم الذهنية المجردة ، والمعرفة
العقلية البحتة ، كما يحلو لبعض الناس أن يفهموا التوحيد في عصور التقهقر
والتبعية .
إنّ « المعرفة النظرية الذهنية الباردة الميتة شيء ، والمعرفة الحية التي تنبع
من الوجدان فتنفعل بها النفس كلها ، وتعطي تأثيراً معيناً في السلوك الواقعي شيء
آخر ، هي ما يطلبه الإسلام بالذات ويستنبته في قلوب المسلمين ليصبحوا ... مسلمين » .
« والحادث الآن في الأجيال القائمة هو هذه الجهالة بالمعنى الحقيقي للا إله
إلا الله .. وصلتها الوثيقة التي لا تنفصم بالحكم بما أنزل الله » .
« وعندما تستقر هذه الحقيقة في الأذهان ينبغي أن تعمل على تحويل حياتنا
كلها لتستقيم على منهج الله في كل شيء : في سياسة الحكم ، في سياسة المال ، في
سياسة المجتمع .. » [6] .
إن المسلم إذا تمكنت عقيدة التوحيد وحقيقة لا إله إلا الله من نفسه لابد أن
يتبرأ من المشركين وما هم عليه .
« إنه لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة
المشركين والتصريح لهم بالعداوة [7] ، كما قال تعالى : [ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ] [ المجادلة 22 ] .
وفي الصحيحين : » أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أمرت
أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ؛ إلا لحق
الإسلام وحسابهم على الله » .
قال أبو بكر - رضى الله عنه- : « إن الزكاة من حقها ، والله لو منعوني
عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه » [8] .
( إن بني حنيفة من أشهر أهل الردة وأعظمهم كفراً وهم مع هذا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤذنون ويصلون … ) [9] .
« ولو كانت كلمة لا إله إلا الله مجرد كلمة لقالتها قريش في الجاهلية ، إلا
أنها تعلم أن لها مقتضياتها .. فكفار مكة قد علموا مراد النبي - صلى الله عليه ... وسلم - من هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فأبوا واستكبروا ولم ينفعهم إيمانهم بأن الله واحد رازق محي مميت ( توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ) ولما قال لهم النبي : قولوا : لا إله إلا الله ، قالوا : [ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ] ... [ ص : 5 ] [10] .
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمل على اجتثاث نخوة الجاهلية وتعلق
قلوب العرب بها ، في أحاديثه الشريفة ، وخطبه الكريمة .. فها هو يضع بعد فتح
مكة كل مآثر الجاهلية تحت قدميه : » ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت ... قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .. « [11] .
وفي فصل لا إله إلا الله منهج حياة يتحدث المرحوم سيد قطب عن هذا
المفهوم إذ يقول : » ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها فلا تقوم هذه الحياة قبل
أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه ... القاعدة « [12] .
[ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ] [يوسف : 40] .
إن الإصرار على صفاء التوحيد ، ونقاء العقيدة ، مع انتزاع رواسب الجاهلية ، كان من أهم مقومات التربية المحمدية في دار الأرقم ، ومدينة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وما تزال هي الطريق الوحيدة ، لكل تربية جادة لا تريد العبث
واللهو والتسول على فتات الشرق والغرب ، باسم الإسلام ، وضغوط العصر
الحاضر ومدنيته المادية ..
ب - الحب في الله والبغض في الله :
لقد تشكل المجتمع الوليد في مكة المكرمة ، على أنقاض مجتمع الجاهلية ،
واكتملت صورة هذا المجتمع الإسلامي بعد الهجرة إلى المدينة المنورة ...
تشكل مجتمع العقيدة ، على الحب بين المؤمنين والأخوة بين المسلمين إن
الحب بين المؤمنين هو الذي كان » يحرك حياة المؤمن كلها .. هو مفتاح التربية
الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق « » والأخوة هنا .. حيث لم تكن
هناك - أي في الجاهلية - .. إنها الأخوة .. إنه الترابط الصادق .. كانت الخطوة
الأولى في التربية هي حب الله ورسوله ، والخطوة الثانية هي الالتقاء على حب الله
ورسوله « » يلتقي الناس على العقيدة في الله .. لأن كلاً منهم يحب الله ورسوله
فلا تكون ذواتهم بارزة .. إنما يكون الجانب البارز هو الحب .. بل إن الإنسان
المؤمن يحب أن يؤثر أخاه على نفسه .. وذلك من معجزات العقيدة ومعجزات
التربية على العقيدة [ ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ] [الحشر 9] .
« وكان يغيظ قريشاً ويثير عجبها محبة أصحاب محمد لمحمد حتى قال أبو
سفيان : » ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً « [13] .
إن هذه المحبة بين المؤمنين من لوازم لا إله إلا الله ، والبراء من المشركين
من لوازمها أيضاً [14] .
يقول تعالى : [ لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ] [ال عمران : 28] .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : » أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله
المعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله « [15] .
وما رواه الإمام إحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله بايعه على
أن : » تنصح للمسلم وتبرأ من الكافر « [16] .
وفي صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » المرء
مع من أحب « [17] .
» إن أصل الموالاة الحب ، وأصل المعاداة البغض ؛ وينشاً عنهما من أعمال
القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة .. كالنصرة والأنس
والمعاونة والجهاد والهجرة ونحو ذلك « [18] .
» ويتضح مما سبق أن الولاء في الله هو محبة الله ونصرة دينه ، ومحبة
أوليائه ونصرتهم ، والبراء هو البغض لأعداء الله ومجاهدتهم .. « [19] .
إن موالاة المشركين خطيرة ، ما كان الجيل الأول يقترب منها ، وإن موالاة
المؤمنين ومحبتهم من علامات الإيمان ، ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إن الله يقول يوم القيامة : أين
المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي « [20] .
دعوة الأنبياء :
وهذه هي دعوة الرسل جميعاً ، توحيد خالص ، كلمة واحدة يرددها كل ... رسول : » لا إله إلا الله اعبدوا الله ما لكم من إله غيره « .
وبراءة خالصة من الشرك في جميع أشكاله . وهذا أبو الأنبياء إبراهيم -
عليه الصلاة والسلام - يتبرأ من عبادة قومه :
[ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ] [سورة الممتحنة : 4] .
ولابد أن نتأسى بخاتم الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - : ... [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] [الأحزاب : 21] ، فرسول الله وإخوانه
الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - كانوا نماذج الهدى لجميع الناس في كل
أمر من أمور حياتهم ومماتهم ، وأوجب الله طاعتهم واتباع أوامرهم ، قال تعالى : ... [ ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ ] [النساء : 64] [21] .
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير : 4/243 .
(2) منهج التربية الإسلامية : 2/19 للأستاذ محمد قطب .
(3) انظر كتاب الولاء والبراء ط : أولى د محمد سعيد القحطاني ، ص 104 .
(4) سنن أبي داود كتاب الأدب ه /340 ، 5116 ، وأخرجه الترمذي في المناقب ، وقال : حدبث حسن .
(5) معالم في الطريق : سيد قطب ، ص 19 - 20 .
(6) منهج التربية الإسلامية : محمد قطب 2/28 ، 83 .
(7) انظر مجموعة التوحيد ، وستة مواضع من مقدمة مختصر السيرة النبوية للشيخ محمد بن عبدالوهاب .
(8) انظر مختصر السيرة النبوبة للشيخ محمد عبد الوهاب ص 30 ، 32 .
(9) انظر مختصر السيرة النبوبة للشيخ محمد عبد الوهاب ص 30 ، 32 .
(10) المرجع السابق .
(11) المرجع السابق ، ص 146 .
(12) معالم في الطريق ، ص 92 .
(13) منهج التربية الإسلامية ، ج 2 ، ص 37 ، 38 ، 41 ، 42 .
(14) انظر الولاء والبراء : د القحطاني ص40 ، 60 .
(15) انظر الجامع الصغير 2/343 ح 2536 ، وقال الألباني : حديث حسن .
(16) المسند للإمام أحمد ج4/ 357 .
(17) فتح الباري ، كتاب الأدب ، 10/557 ، ح 6168 .
(18) الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ نقلاً عن الولاء والبراء للدكتور محمد سعيد القحطاني ، ص 40 .
(19) انظر الولاء والبراء ، ص 43 وهو كتاب جيد في هذا الموضوع ، يحسن الرجوع إليه .
(20) صحيح مسلم ، كتاب البر ، ج 4 ، ح2566 .
الشعر الجاهلي
(5)
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة :
في الحلقة السابقة تحدث الكاتب عن بعض أيام العرب المشهورة كحرب
البسوس ، وحرب داحس والغبراء ، وحرب الفجار ، وما جرى في هذه الحروب
من ثارات وما قيل فيها من شعر ، وفي هذه الحلقة يدخل الفترة الإسلامية ، أثر
الإسلام في تلك البيئة .
التمهيد :
من خلال دراستنا للحياة السياسية في الشعر الجاهلي لا حظنا أن لهذه الحياة
مقومات أساسية نوجزها فيما يأتي :
1- القبيلة : هي البنية الاجتماعية والسياسية لتلك المجتمعات ، ففيها يجد
العربي الحماية والطمأنينة ، ولها يتعصب ، والرباط الأقوى فيها هو العصبية التي
تنسي أصحابها كل تعقل وتوازن ، فلا رأي ولا حرية للفرد أمام عادات القبيلة
وتقاليدها ، وإلا تعرض للخلع والطرد .
ولقد نفخت العصبية في أفرادها نيراناً لاهبة من اعتزاز بالنسب ، فهم أفضل
الناس ، وآباؤهم أشرف آباء ، حتى أن الشاعر كان ينسى نفسه ويتصور أنه وقومه
ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون بلا رادع ، وقد افتخروا بكثرة العدد والعدة ،
فكثرت المنافرات بينهم ، وبالقوة والشجاعة ، بل بالجبروت والغطرسة وهي من
أهم خصائص تلك الجاهلية ..
ولقد وجدنا خلال دراستنا للشعر الجاهلي شواهد كثيرة في هذا الشأن .
2- العادات والتقاليد : وكان للتقليد عندهم سطوة الدين والمعتقد ، فلا يستطيع
الفرد مهما أوتي من مكانة أن يخرج عليها ، لقد تاهوا في ضلالات الجهالة والتقليد ، وعطلوا فكرهم وعقولهم ، ولذلك سفه الإسلام أحلامهم وحاول تحرير عقولهم ،
حتى تمكن من تخليصهم من رواسبها .
3- التفرق والشتات : لم يعرف العرب وحدة سياسية في تاريخهم الجاهلي ،
حتى أن الإمارات التي تشكلت كانت لا تزيد عن كونها قبائل متصارعة مع أمثالها ،
ولم تنفذ إلى فكرة الأمة أو الجنس ، بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد ، إنما
اتخذت صورة اتحاد قبلي له رئيس ليس غير .
لقد كوَّن المناذرة والغساسنة إمارتين اصطنعتهما فارس والروم لضرب القبائل
العربية الأخرى في الجزيرة ، وكثيراً ما وقعت الحروب الطاحنة بين هاتين
الإمارتين . ولقد أدتا دورهما في خدمة سادتهما خير أداء من بطش بالقبائل ... العربية ، وقتل وتخريب ..
وفى مؤتة حارب مع الروم من قبائل العرب مثل : لخم وجذام وبلي وغيرهم
ما يزيد عن مائة ألف بالإضافة إلى مثلهم من الروم [1] .
أما إمارة كندة ، ومدن الحجاز ، فما كانت إلا تجمعات قبلية سكنت الحاضرة
ولم تخرج على عادات القبائل وصراعاتها .
4- الحروب والأيام : إن العربى في البادية شجاع ، يفضل الموت تحت
ظلال السيوف ، على حياة الذل والضيم ، فحياته حرب ضروس لا تهداً ، وقد
زخرت موضوعات الشعر في تصويرها كما مر معنا في الأعداد السابقة ، إذ مدح
الشعراء الشجاعة والشجعان ، والفروسية والفرسان ، والحياة للقوي ، وهذا ما عبر
عنه زهير إذ يقول :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وكثر الهجاء وشارك في المعارك مصوراً الفرار والهزيمة ، وبكى الشعراء
قتلاهم ، وندبت النساء الموتى ، وعرف الشعر العربى عدداً من أصحاب ... المراثي ..
آثار الحرب : وكان من آثارها كثرة الأسرى والسبايا ، وما رافق ذلك من
تأريث للعداوة ، ومحاولات مستمرة لتخليص الأسرى والسبايا .
أما عادة الثأر فقد كانت متأصلة في نفس العربي وكثيراً ما سببت حروباً لا
تنطفئ ، ولم تمنع القرابة من الثأر بين أفراد القبيلة الواحدة .
وقد تلجاً القبائل في هذه البيئة الحربية ، التي يشع فيها الفزع والهول ، إلى
التحالف مع القبائل الأخرى لترد عن نفسها العدوان .
ولقد صورت لنا أيام العرب هذه الحياة الحربية ، وذلك الصراع الدامي ، وإذا
تصفحت الجزء الأول من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير مثلاً يهولك هذا الجو
الصاخب من الحروب والضغائن .
إنها الجاهلية بكل مقوماتها ، انطلقت صاخبة لا تقف عند حد ، مادامت لا
تحتكم إلى دين ، وإنما تتبع ما وجدت عليه الآباء والأجداد ..
لقد كان العربي فيً وثنيته مستعبداً لعدد من الأرباب والمعبودات ، فبالإضافة
إلى عبادة الأصنام والكواكب كان الفرد ينصاع إلى استعباد القبيلة والعرف ، ... والعادة ، ثم إلى الهوى والشهوات ..
كلمة في المنهج :
فى القسم الأول من هذه الدراسة ، كنت قد اعتمدت على الشعر الجاهلي ؛ لأنه
خير مصدر لتصوير حياة العرب في تلك الفترة ، إذ قد اهتم به علماء اللغة تدويناً
ودراسة ، أكثر من اهتمام المؤرخين ، فدراستهم كانت ظنية تعتمد على الحدس
والتخمين ، أو دراسة الآثار ..
وفى هذا القسم كان اعتمادي على القرآن الكريم ؛ لأنه صور حياة الجاهلية
تصويراً دقيقاً ، حياً معبراً بالأحداث ، والسنة النبوية المطهرة -وصراع النخبة
المؤمنة مع ذويهم ومعاصريهم - حيث صورت هذا الصراع كتب السيرة والتراجم ، ثم شعراء الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام .
إننا نعيش الآن في غربة ، غربة جديدة للإسلام ، تجعل محاولة العودة صعبة
وشاقة ، وفيها عنصر الجدة .. لابد من عودة جادة إلى المنابع الأولى الصافية ،
منابع العقيدة ، ودراسة السنة وكيف ربى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
أصحابه .
قال - صلى الله عليه وسلم - : « بداً الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بداً ،
فطوبى للغرباء » أخرجه مسلم .
« لقد دار الزمن دورته وعاد الإسلام كما بداً ، كما أخبر بذلك الرسول -
صلى الله عليه وسلم - ، هذه الغربة تجعل محاولة العودة كأنها جولة جديدة ...
وسيتوفر لها عنصر الجدة ... فيكون حافزاً لها على بلوغ القمة » [2] .
وفي سبيل هذه العودة نتلمس المنهج في طريقة تربية الجماعة الأولى ،
جماعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت من الاستعلاء بإيمانها على
حياة التمزق والتيه والضياع ... إن حياة الإلف والعادة للمسلم قد تجعله ينقض عرى
الدين ، يروى أن عمر - رضي الله عنه - قال : « ينقضُ الإسلام عروة عروة ؛
إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية » .
ومن أجل خطوة في طريق التربية الإيمانية ، ومن أجل العبرة ، ومقارنة
الواقع بما فيه ، مع ماضي هذه الأمة الناصع ، بعد جاهلية مظلمة ، نقدم هذه
الدراسة ..
وسوف أركز الحديث حول المباحث التالية :
1 - التربية العقدية : ودورها في تربية الجماعة الأولى .
2- العصبية القبلية : وكيف عمل الإسلام على تذويبها .
3- وحدة الأمة : بعد التفرق و الشتات .
4 - اتباع التقاليد وتحكيم الأهواء .
5- الجهاد في سبيل الله : بعد الحروب الدامية .
أولاً - التربية العقدية :
كيف واجه الإسلام الجاهلية ؟ كيف انتشل العرب من أوضارها ؛ كيف رباهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينخلصوا من القيم التي كانوا يقدسونها
والعادات التي كانوا يخضعون إليها ؟ .
للإجابة على هذه الاستفسارات لابد من العودة إلى منهج التربية الذي ربى
عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فهو قدوتنا ، وواجب
علينا أن نتبع منهجه [ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] .
أ- طريقة الإسلام في التربية : (التوحيد الخالص) .
كانت البداية الأولى في التربية هي تصحيح العقيدة في الله ، ومنذ اللحظة
الأولى ، منذ أن يعلن المسلم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يصبح انتماء المسلم
لدينه ، ويتبرأ بعدها من كل معبود أو متبوع أو مطاع سوى الله [3] .
[ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى ] [البقرة :256] .
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها
بالآباء ، مؤمن تقي أو فاجر شقي ، أنتم بنو آدم وآدم من تراب ، ليدعن رجال
فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان
التي تدفع بأنفها النتن » [4] .
بهذا التصوير والتنفير ، بداً الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفر أصحابه
من رواسب الجاهلية ومفاخرها وعصبياتها
« لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته ماضيه في
الجاهلية ، كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام ، أنه بداً عهداً جديداً ،
منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية .. كان يقف منها موقف
المستريب الشاك الحذر المتخوف الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ،
وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام .. » [5] .
نعم هكذا كان مفهوم التوحيد يسيطر على مشاعر المسلم فيتحول إلى واقع حي
متحرك ، يملأ عليه شغاف قلبه ، بعيداً عن المفاهيم الذهنية المجردة ، والمعرفة
العقلية البحتة ، كما يحلو لبعض الناس أن يفهموا التوحيد في عصور التقهقر
والتبعية .
إنّ « المعرفة النظرية الذهنية الباردة الميتة شيء ، والمعرفة الحية التي تنبع
من الوجدان فتنفعل بها النفس كلها ، وتعطي تأثيراً معيناً في السلوك الواقعي شيء
آخر ، هي ما يطلبه الإسلام بالذات ويستنبته في قلوب المسلمين ليصبحوا ... مسلمين » .
« والحادث الآن في الأجيال القائمة هو هذه الجهالة بالمعنى الحقيقي للا إله
إلا الله .. وصلتها الوثيقة التي لا تنفصم بالحكم بما أنزل الله » .
« وعندما تستقر هذه الحقيقة في الأذهان ينبغي أن تعمل على تحويل حياتنا
كلها لتستقيم على منهج الله في كل شيء : في سياسة الحكم ، في سياسة المال ، في
سياسة المجتمع .. » [6] .
إن المسلم إذا تمكنت عقيدة التوحيد وحقيقة لا إله إلا الله من نفسه لابد أن
يتبرأ من المشركين وما هم عليه .
« إنه لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة
المشركين والتصريح لهم بالعداوة [7] ، كما قال تعالى : [ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ] [ المجادلة 22 ] .
وفي الصحيحين : » أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أمرت
أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ؛ إلا لحق
الإسلام وحسابهم على الله » .
قال أبو بكر - رضى الله عنه- : « إن الزكاة من حقها ، والله لو منعوني
عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه » [8] .
( إن بني حنيفة من أشهر أهل الردة وأعظمهم كفراً وهم مع هذا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤذنون ويصلون … ) [9] .
« ولو كانت كلمة لا إله إلا الله مجرد كلمة لقالتها قريش في الجاهلية ، إلا
أنها تعلم أن لها مقتضياتها .. فكفار مكة قد علموا مراد النبي - صلى الله عليه ... وسلم - من هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فأبوا واستكبروا ولم ينفعهم إيمانهم بأن الله واحد رازق محي مميت ( توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ) ولما قال لهم النبي : قولوا : لا إله إلا الله ، قالوا : [ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ] ... [ ص : 5 ] [10] .
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمل على اجتثاث نخوة الجاهلية وتعلق
قلوب العرب بها ، في أحاديثه الشريفة ، وخطبه الكريمة .. فها هو يضع بعد فتح
مكة كل مآثر الجاهلية تحت قدميه : » ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت ... قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .. « [11] .
وفي فصل لا إله إلا الله منهج حياة يتحدث المرحوم سيد قطب عن هذا
المفهوم إذ يقول : » ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها فلا تقوم هذه الحياة قبل
أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه ... القاعدة « [12] .
[ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ] [يوسف : 40] .
إن الإصرار على صفاء التوحيد ، ونقاء العقيدة ، مع انتزاع رواسب الجاهلية ، كان من أهم مقومات التربية المحمدية في دار الأرقم ، ومدينة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وما تزال هي الطريق الوحيدة ، لكل تربية جادة لا تريد العبث
واللهو والتسول على فتات الشرق والغرب ، باسم الإسلام ، وضغوط العصر
الحاضر ومدنيته المادية ..
ب - الحب في الله والبغض في الله :
لقد تشكل المجتمع الوليد في مكة المكرمة ، على أنقاض مجتمع الجاهلية ،
واكتملت صورة هذا المجتمع الإسلامي بعد الهجرة إلى المدينة المنورة ...
تشكل مجتمع العقيدة ، على الحب بين المؤمنين والأخوة بين المسلمين إن
الحب بين المؤمنين هو الذي كان » يحرك حياة المؤمن كلها .. هو مفتاح التربية
الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق « » والأخوة هنا .. حيث لم تكن
هناك - أي في الجاهلية - .. إنها الأخوة .. إنه الترابط الصادق .. كانت الخطوة
الأولى في التربية هي حب الله ورسوله ، والخطوة الثانية هي الالتقاء على حب الله
ورسوله « » يلتقي الناس على العقيدة في الله .. لأن كلاً منهم يحب الله ورسوله
فلا تكون ذواتهم بارزة .. إنما يكون الجانب البارز هو الحب .. بل إن الإنسان
المؤمن يحب أن يؤثر أخاه على نفسه .. وذلك من معجزات العقيدة ومعجزات
التربية على العقيدة [ ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ] [الحشر 9] .
« وكان يغيظ قريشاً ويثير عجبها محبة أصحاب محمد لمحمد حتى قال أبو
سفيان : » ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً « [13] .
إن هذه المحبة بين المؤمنين من لوازم لا إله إلا الله ، والبراء من المشركين
من لوازمها أيضاً [14] .
يقول تعالى : [ لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ] [ال عمران : 28] .
وقال - عليه الصلاة والسلام- : » أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله
المعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله « [15] .
وما رواه الإمام إحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله بايعه على
أن : » تنصح للمسلم وتبرأ من الكافر « [16] .
وفي صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : » المرء
مع من أحب « [17] .
» إن أصل الموالاة الحب ، وأصل المعاداة البغض ؛ وينشاً عنهما من أعمال
القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة .. كالنصرة والأنس
والمعاونة والجهاد والهجرة ونحو ذلك « [18] .
» ويتضح مما سبق أن الولاء في الله هو محبة الله ونصرة دينه ، ومحبة
أوليائه ونصرتهم ، والبراء هو البغض لأعداء الله ومجاهدتهم .. « [19] .
إن موالاة المشركين خطيرة ، ما كان الجيل الأول يقترب منها ، وإن موالاة
المؤمنين ومحبتهم من علامات الإيمان ، ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إن الله يقول يوم القيامة : أين
المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي « [20] .
دعوة الأنبياء :
وهذه هي دعوة الرسل جميعاً ، توحيد خالص ، كلمة واحدة يرددها كل ... رسول : » لا إله إلا الله اعبدوا الله ما لكم من إله غيره « .
وبراءة خالصة من الشرك في جميع أشكاله . وهذا أبو الأنبياء إبراهيم -
عليه الصلاة والسلام - يتبرأ من عبادة قومه :
[ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ] [سورة الممتحنة : 4] .
ولابد أن نتأسى بخاتم الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - : ... [ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] [الأحزاب : 21] ، فرسول الله وإخوانه
الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - كانوا نماذج الهدى لجميع الناس في كل
أمر من أمور حياتهم ومماتهم ، وأوجب الله طاعتهم واتباع أوامرهم ، قال تعالى : ... [ ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ ] [النساء : 64] [21] .
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير : 4/243 .
(2) منهج التربية الإسلامية : 2/19 للأستاذ محمد قطب .
(3) انظر كتاب الولاء والبراء ط : أولى د محمد سعيد القحطاني ، ص 104 .
(4) سنن أبي داود كتاب الأدب ه /340 ، 5116 ، وأخرجه الترمذي في المناقب ، وقال : حدبث حسن .
(5) معالم في الطريق : سيد قطب ، ص 19 - 20 .
(6) منهج التربية الإسلامية : محمد قطب 2/28 ، 83 .
(7) انظر مجموعة التوحيد ، وستة مواضع من مقدمة مختصر السيرة النبوية للشيخ محمد بن عبدالوهاب .
(8) انظر مختصر السيرة النبوبة للشيخ محمد عبد الوهاب ص 30 ، 32 .
(9) انظر مختصر السيرة النبوبة للشيخ محمد عبد الوهاب ص 30 ، 32 .
(10) المرجع السابق .
(11) المرجع السابق ، ص 146 .
(12) معالم في الطريق ، ص 92 .
(13) منهج التربية الإسلامية ، ج 2 ، ص 37 ، 38 ، 41 ، 42 .
(14) انظر الولاء والبراء : د القحطاني ص40 ، 60 .
(15) انظر الجامع الصغير 2/343 ح 2536 ، وقال الألباني : حديث حسن .
(16) المسند للإمام أحمد ج4/ 357 .
(17) فتح الباري ، كتاب الأدب ، 10/557 ، ح 6168 .
(18) الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ نقلاً عن الولاء والبراء للدكتور محمد سعيد القحطاني ، ص 40 .
(19) انظر الولاء والبراء ، ص 43 وهو كتاب جيد في هذا الموضوع ، يحسن الرجوع إليه .
(20) صحيح مسلم ، كتاب البر ، ج 4 ، ح2566 .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
(6)
الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة :
في الحلقة السابقة خلص الكاتب إلى العصر الإسلامي ، بعد أن أوجز القول
مرة أخرى في مقومات الحياة السياسية من خلال الشعر الجاهلي ، وبدأ في الحديث
عن ملامح ومقومات تلك الفترة الفضلى مبتدئاً بمنهج التربية الإسلامية .
ج- آثار هذه التربية :
وكان من فضائل هذه التربية العقدية ، أن تخرج عليها جيل فريد من الصحابة ، ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية ، وأصبح ولاؤهم لمجتمع العقيدة ، سواء في مكة
المكرمة حيث التعذيب والابتلاء والصبر ، وتعميق أسس البنيان المبارك ، أم في
المدينة المنورة حيث الأخوة والإيثار والجهاد في سبيل الله .
إنها تربية واقعية ، طبقت ، وتحقق بسببها ميلاد جيل جديد من البشر ، ترى
ماذا لو فكر الدعاة في عصرنا الحاضر في تطبيقها ، وغرسها من جديد في نفوس
الناشئة ، أفلا يتخلصون مما هم فيه من خلل واضطراب؟ ألا يعيدون للمسلمين
واقعاً حياً نظيفاً ؟
وحتى لا نتكلم في فراغ فلنستعرض بعض النماذج من سيرة السلف الصالح ،
وكتب السيرة ممتلئة بعطرها الفواح ، عسى أن تكون لأجيال اليوم نبراساً يضيء
لها ظلمة الطريق .
كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من السابقين الأولين للإسلام ،
وكان باراً بأمه حمنة بنت أبي سفيان ، قالت له أمه : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟
والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه ، أو أموت فتعير بذلك أبد
الدهر ، يقال : يا قاتل أمه ! ، وبعد يومين وليلتين من امتناعها عن الطعام
والشراب جاء إليها سعد وقال : يا أماه : لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ،
ما تركت ديني ، فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ،
فأنزل الله هذه الآية : [ وإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ] [سورة لقمان : 15] .
وأمر بعدم طاعتهما في الشرك : « لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية ... الخالق » [1] .
لقد ارتفع سعد - رضي الله عنه - بإيمانه رغم بره بأمه ، وضحى بها لو
ماتت جوعاً وعطشاً على أن يساوم على عقيدته ..
وأبو بكر -رضي الله عنه- خير نموذج لتربية دار الأرقم ، يرد جوارَ ابن
الدغنة ليبقى في جوار ربه ، ويكاد يشرف على الموت ، إذ ضرب ضرباً شديداً
وتكلم آخر النهار فقال : ما فعل رسول الله ؟ ورفض الطعام والشراب حتى يطمئن
على رسول الله ، وعندما رآه -عليه الصلاة والسلام- صحيحاً معافى في دار الأرقم
اطمأنت نفسه [2] .
رجل يشرف على الموت مثخناً بالجراح ، يرفض الطعام والشراب حتى
يطمئن على حياة رسول الله ..
وأبو سفيان زعيم قريش وسيدها : ( قدم على ابنته أم حبيبة ، أم المؤمنين ،
رضي الله عنها ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه ، فقال :
يابنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو
فراش رسول الله ، عليه الصلاة والسلام وأنت رجل مشرك نجس ، فقال : والله لقد
أصابك يا بنية بعدي شر ) [3] .
هكذا تتبرأ أم المؤمنين من أبيها ، وتقول له بكل صراحة : إنك مشرك نجس .. !
ما أجدر بنات اليوم ، وأمهات الأجيال المعاصرة ، بالقدوة ومفاصلة الشرك
وأهله . وقصة الصحابي الجليل عبد الله ابن حذافة السهمي وموقفه من ملك الروم
حيث أغراه بمشاطرة ملكه فرفض ، وهدده بالقتل والحرق ، فأبى أن يتنصر وهو
الأسير المجاهد .. كل ذلك بسبب عزة الإيمان ، في تلك النفوس العظيمة [4] .
ما الذي جعل هذا الصحابي الجليل يتعالى على ملك الروم ، وقد كان
(بالأمس) كل عربي يتمنى أن يحظى بالدخول إليه ؟
وموقف أبي عبيدة أعجب وأعظم ، لقد قتل أباه في بدر ، كان كافراً محارباً لله
ورسوله ، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه من ولائه ونصرته لله ورسوله والمؤمنين ،
وفيه نزلت الآية الكريمة : [ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ ورَسُولَهُ ] [5]
إن الصبر والابتلاء كان سمة الفترة المكية ، وما التعذيب الذي لقيه خباب ،
وصهيب ، وبلال ، وآل ياسر ( رضي الله عنهم جميعاً ) عن أذهاننا ببعيد ..
والمقاطعة في الشِّعب وحصار المسلمين ومَنْ ناصرهم من بني هاشم .. عبر آلام
وتضحيات لحمتها التربية القرآنية ، وحب الله ورسوله ..
هذا الجيل كان منهجه التلقي من الكتاب والسنة للتنفيذ والعمل ، أما منهج
التلقي للدراسة والمتاع فهو الذي خرج الأجيال اللاهية المتخاذلة .
بهذه الصورة تكونت قاعدة صلبة من المؤمنين ، حتى استطاعت أن تقاوم
الجاهلية بكل أوضارها وتفاهاتها ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة ، وهذه الدروس
(في العقيدة) لحمة التربية فيها ..
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار : [6]
وفي المدينة المنورة ، استقبل الأنصار المهاجرين وشاطروهم الديار
والأموال ، وبذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله ، وقد أصبح حب الأنصار ... من عقيدة الإسلام وبغضهم نفاق ؛ ففي الحديث الصحيح : « آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار » . قال تعالى : [ والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ] [الحشر9] .
لقد تكون المجتمع الإسلامي في العهد المدني ، فمن الهجرة إلى المؤاخاة ، إلى
قيام الدولة المسلمة ، إلى الجهاد في سبيل الله وهيمنة الشرعية الإسلامية .
بهذه الأخوة تكون المجتمع المسلم ، وضرب مثلاً رائعاً في التكافل الاجتماعي ، وبناء الجماعة المسلمة .
( ولقد أبدى الأنصار كرماً وسخاء في معاملتهم للمهاجرين ، وكانت المؤاخاة ...
رباطاً قوياً متيناً جمع المهاجرين والأنصار بما يترتب على ذلك من حقوق ... وصلت بل تساوت مع حقوق الأخوة في النسب ) [7] .
( هكذا نلاحظ أن الإسلام صنع من العرب نماذج فريدة ، أنكر الفرد نفسه ، ...
وقطع صلته بأبيه وبابنه ، وهجر المال والمتاع ، وأصبح له طريق جديد ووجهة
جديدة ، أصبح يسعى لتوه بالافتراق عن مجتمعه الجاهلي ، أو أنه يسير في طريقه
المحدد والمجتمع يهيم في غير طريق ، وتنقطع الأواصر بينه وبين ذاك المجتمع
ولو كانت أواصر القربى ، ويتجه قلبه لتوه إلى كيان آخر يلتصق به ويحس أنه
أصبح قطعة منه ، ذلك هو رسول الله والقلة المؤمنة « [8] .
د- شعر الدعوة الإسلامية :
وقد ساهم الشعراء في هذا العصر في شعرهم بمعانٍ وقيم مستمدة من التصور
الجديد ، ولتعاليم الدعوة الإسلامية ، مسخرين مواهبهم للدفاع عن قيم هذا المجتمع
الوليد ..
إن أغراض الشعر من فخر وهجاء ورثاء وحماسة ، تغير مفهومها ، وسمت
قيمها ..
فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفتخر بالسبق إلى الإسلام [9] :
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيراً ما بلغت أوان حِلمي
ويفتخر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بأنه أول من رمى بسهم في
الإسلام [10] :
ألا هل أتى رسولَ الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذياداً ... بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رامٍ في عدوٍٍ ... بسهم يا رسول الله قبلي
ويصبح فخر حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بالإسلام ونبيه ووحيه ،
وبكتيبة المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، يقول قبل فتح مكة [11] :
عدمنا خيلنا إنْ لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح ... القدس ليس له كفاء [12]
والهجاء يتحول نحو المشركين ، دفاعاً عن رسول الإسلام وصحابته الكرام ،
فيقول حسان -رضي الله عنه- يهجو أبا سفيان بن الحارث وهو من قريش .. من
بني هاشم ، لأنه من الشعراء المشركين ، وقد اشترك في هجاء الرسول -صلى الله
عليه وسلم- :
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخِبٌ هواء [13]
بأن سيوفنا تركتك عبداً ... وعبد الدار سادتها الإماء [14]
هجوتَ محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مباركاً براً حنيفاً ... أمين الله شيمته الوفاء [15]
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعِرض محمد منكم وقاء
رضي الله عن حسان ، لقد كان شاعر الخزرج في الجاهلية يدافع عن أحساب
قومه ، وهاهو يفدي نبيه بالنفس والعرض والأهل ..
أبو سفيان هذا أسلم ، وحسن إسلامه ، ثم ندم على ما فرط في جاهليته، ... فقال [16] :
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلبَ خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي
إن الإسلام يجبُّ ما قبله ، إلا أنه الشعور بثقل الماضي ، ورهافة حس
الشعراء ..
والرثاء : بكى فيه شعراءُ الدعوة الإسلامية شهداءَ المجتمع الجديد ، مجتمع
العقيدة ، ولنستمع إلى أبيات من قصيدة كعب بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه-
يرثي فيها شهداء مؤتة ، إذ يقول [17] :
نام العيون ودمع عينك يهمل سحا ... ً كما وكفَ الطِّبابُ المخْضَلُ [18]
في ليلة وردتْ عليّ همومها ... طوراً أخِنُّ وساعة أتململُ [19]
واعتادني حزْنٌ فبتُّ كأنني ... ببنات نعشٍ والسّمال موكلُ
وجداً على النفر الذين تتابعوا ... يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صبروا بمؤتةَ للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
الرثاء للقادة ، للشهداء جميعاً وبألم وحزن ، لأن المصاب واحد ، والمشاعر
واحدة ، لقد أصبح » المثل الأعلى للرجل المسلم في عصر صدر الإسلام هو السبق
إلى الإسلام والهجرة ، وملازمة المصطفى وصحبته والتقوى والورع .. ثم الشجاعة
والذياد عن حياض الإسلام « [20] .
وأخيراً : تبين لنا أن التربية الإيمانية أساس كل تغيير ، ولابد من تطبيقها ،
وليس لدينا خيار في هذا الأمر ، لابد من العودة العميقة ، والمعايشة الحية مع إخوة
الإيمان .. إن هذه التجربة ، صنعت المعجزات ، صنعت الجيل الأول ، الذي
تخلص من جاهلية جائرة ، واستعلى على ضغوط المجتمع وأعراف الآباء والأجداد .
ما أجدر الدعاة اليوم أن يتعالَوْا على أعراف فرقت ومزقت وليس لهم فيها سَنْدُ
شرعي !
ما أجدرهم أن يهتموا بتربية دار الأرقم ، ومدينة الرسول الكريم -عليه
الصلاة والسلام - ، وأن يعلموا ثقل المسؤولية ، وعظم الأمانة في هذا العصر .
إن مسلم اليوم ( مهمته خطيرة ؛ لأنه لا يطلب منه أن يكون مجرد مسلم عادي ، إنما يطلب منه أن يكون نموذجاً يحتذى .. يلزمه تدريب من نوع خاص ، يتعود
فيه على التخفف من جواذب الأرض .. والمطلوب لدور البناء والتأسيس : أن
يكون المسلم على الدرجة العليا من الإيمان .. المطلوب نماذج فائقة من البشر ..
تستطيع أن تتجرد لله ، وأن تحتمل المشقة في سبيل الله ) [21] .
إن هذه التربية ، وهذا الإيمان ، هو الذي خلص العرب من الشرك واستعباد
القبيلة ، وحرر عقولهم من الهوى والخرافة ، وجعل منهم خير أمة أخرجت للناس ،
وقد غيرت مجرى التاريخ .
__________
(1) حديث صحيح : مشكاة المصابيح ح 3696/2 : 1092 ، والقصة وردت في تفسير البغوي :
5/188 .
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثبر 3 / 30 .
(3) السيرة النبوية لابن هشام 2/396 .
(4) انظر الإصابة لابن حجر 2/288 .
(5) المصدر السابق 2 /244 .
(6) انظر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في سيرة ابن هشام 1/ 501 وما بعدها ، والولاء والبراء ص 193 د : محمد سعيد القحطاني .
(7) تطور الفكر السياسي في الإسلام 2 /76-77 د فتحية البزاوي و د محمد نصر مهنا .
(8) منهج التربية الإسلامية 2 / 46 -بتصرف يسير .
(9) شعر الدعوة الإسلامية : جمع وتحقيق عبد الله الحامد .
(10) الإصابة 2 / 32 .
(11) ديوان حسان بن ثابت : ص 209 .
(12) نظير .
(13) مجوف ، نخب هواء : أي : جبان لا قلب له .
(14) عبد الدار : بطن من قريش .
(15) الحنيف : الذي يدين بالحق .
(16) ابن سلام ص 206 ، طبقات الشعراء .
(17) انظر العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الثاني ص385 ، وشعراء الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين : عبد الله الحامد ، ويحسن الرجوع إليه ؛ ففيه شواهد كثيرة (مطبوعة الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية 1971م) .
(18) الطباب : سير بين خرزتين في المزادة ، والمخضل : الرطب المبتل .
(19) الخنين : حنين ببكاء ، وهنالك رواية (أَحِنُّ) .
(20) الشعر الجاهلي في صدر الإسلام ، د/ عبد الله الحامد .
(6)
الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
ملخص الحلقة السابقة :
في الحلقة السابقة خلص الكاتب إلى العصر الإسلامي ، بعد أن أوجز القول
مرة أخرى في مقومات الحياة السياسية من خلال الشعر الجاهلي ، وبدأ في الحديث
عن ملامح ومقومات تلك الفترة الفضلى مبتدئاً بمنهج التربية الإسلامية .
ج- آثار هذه التربية :
وكان من فضائل هذه التربية العقدية ، أن تخرج عليها جيل فريد من الصحابة ، ارتفعوا فوق جواذب الجاهلية ، وأصبح ولاؤهم لمجتمع العقيدة ، سواء في مكة
المكرمة حيث التعذيب والابتلاء والصبر ، وتعميق أسس البنيان المبارك ، أم في
المدينة المنورة حيث الأخوة والإيثار والجهاد في سبيل الله .
إنها تربية واقعية ، طبقت ، وتحقق بسببها ميلاد جيل جديد من البشر ، ترى
ماذا لو فكر الدعاة في عصرنا الحاضر في تطبيقها ، وغرسها من جديد في نفوس
الناشئة ، أفلا يتخلصون مما هم فيه من خلل واضطراب؟ ألا يعيدون للمسلمين
واقعاً حياً نظيفاً ؟
وحتى لا نتكلم في فراغ فلنستعرض بعض النماذج من سيرة السلف الصالح ،
وكتب السيرة ممتلئة بعطرها الفواح ، عسى أن تكون لأجيال اليوم نبراساً يضيء
لها ظلمة الطريق .
كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من السابقين الأولين للإسلام ،
وكان باراً بأمه حمنة بنت أبي سفيان ، قالت له أمه : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟
والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه ، أو أموت فتعير بذلك أبد
الدهر ، يقال : يا قاتل أمه ! ، وبعد يومين وليلتين من امتناعها عن الطعام
والشراب جاء إليها سعد وقال : يا أماه : لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ،
ما تركت ديني ، فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ،
فأنزل الله هذه الآية : [ وإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ] [سورة لقمان : 15] .
وأمر بعدم طاعتهما في الشرك : « لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية ... الخالق » [1] .
لقد ارتفع سعد - رضي الله عنه - بإيمانه رغم بره بأمه ، وضحى بها لو
ماتت جوعاً وعطشاً على أن يساوم على عقيدته ..
وأبو بكر -رضي الله عنه- خير نموذج لتربية دار الأرقم ، يرد جوارَ ابن
الدغنة ليبقى في جوار ربه ، ويكاد يشرف على الموت ، إذ ضرب ضرباً شديداً
وتكلم آخر النهار فقال : ما فعل رسول الله ؟ ورفض الطعام والشراب حتى يطمئن
على رسول الله ، وعندما رآه -عليه الصلاة والسلام- صحيحاً معافى في دار الأرقم
اطمأنت نفسه [2] .
رجل يشرف على الموت مثخناً بالجراح ، يرفض الطعام والشراب حتى
يطمئن على حياة رسول الله ..
وأبو سفيان زعيم قريش وسيدها : ( قدم على ابنته أم حبيبة ، أم المؤمنين ،
رضي الله عنها ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه ، فقال :
يابنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو
فراش رسول الله ، عليه الصلاة والسلام وأنت رجل مشرك نجس ، فقال : والله لقد
أصابك يا بنية بعدي شر ) [3] .
هكذا تتبرأ أم المؤمنين من أبيها ، وتقول له بكل صراحة : إنك مشرك نجس .. !
ما أجدر بنات اليوم ، وأمهات الأجيال المعاصرة ، بالقدوة ومفاصلة الشرك
وأهله . وقصة الصحابي الجليل عبد الله ابن حذافة السهمي وموقفه من ملك الروم
حيث أغراه بمشاطرة ملكه فرفض ، وهدده بالقتل والحرق ، فأبى أن يتنصر وهو
الأسير المجاهد .. كل ذلك بسبب عزة الإيمان ، في تلك النفوس العظيمة [4] .
ما الذي جعل هذا الصحابي الجليل يتعالى على ملك الروم ، وقد كان
(بالأمس) كل عربي يتمنى أن يحظى بالدخول إليه ؟
وموقف أبي عبيدة أعجب وأعظم ، لقد قتل أباه في بدر ، كان كافراً محارباً لله
ورسوله ، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه من ولائه ونصرته لله ورسوله والمؤمنين ،
وفيه نزلت الآية الكريمة : [ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ ورَسُولَهُ ] [5]
إن الصبر والابتلاء كان سمة الفترة المكية ، وما التعذيب الذي لقيه خباب ،
وصهيب ، وبلال ، وآل ياسر ( رضي الله عنهم جميعاً ) عن أذهاننا ببعيد ..
والمقاطعة في الشِّعب وحصار المسلمين ومَنْ ناصرهم من بني هاشم .. عبر آلام
وتضحيات لحمتها التربية القرآنية ، وحب الله ورسوله ..
هذا الجيل كان منهجه التلقي من الكتاب والسنة للتنفيذ والعمل ، أما منهج
التلقي للدراسة والمتاع فهو الذي خرج الأجيال اللاهية المتخاذلة .
بهذه الصورة تكونت قاعدة صلبة من المؤمنين ، حتى استطاعت أن تقاوم
الجاهلية بكل أوضارها وتفاهاتها ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة ، وهذه الدروس
(في العقيدة) لحمة التربية فيها ..
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار : [6]
وفي المدينة المنورة ، استقبل الأنصار المهاجرين وشاطروهم الديار
والأموال ، وبذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله ، وقد أصبح حب الأنصار ... من عقيدة الإسلام وبغضهم نفاق ؛ ففي الحديث الصحيح : « آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار » . قال تعالى : [ والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ] [الحشر9] .
لقد تكون المجتمع الإسلامي في العهد المدني ، فمن الهجرة إلى المؤاخاة ، إلى
قيام الدولة المسلمة ، إلى الجهاد في سبيل الله وهيمنة الشرعية الإسلامية .
بهذه الأخوة تكون المجتمع المسلم ، وضرب مثلاً رائعاً في التكافل الاجتماعي ، وبناء الجماعة المسلمة .
( ولقد أبدى الأنصار كرماً وسخاء في معاملتهم للمهاجرين ، وكانت المؤاخاة ...
رباطاً قوياً متيناً جمع المهاجرين والأنصار بما يترتب على ذلك من حقوق ... وصلت بل تساوت مع حقوق الأخوة في النسب ) [7] .
( هكذا نلاحظ أن الإسلام صنع من العرب نماذج فريدة ، أنكر الفرد نفسه ، ...
وقطع صلته بأبيه وبابنه ، وهجر المال والمتاع ، وأصبح له طريق جديد ووجهة
جديدة ، أصبح يسعى لتوه بالافتراق عن مجتمعه الجاهلي ، أو أنه يسير في طريقه
المحدد والمجتمع يهيم في غير طريق ، وتنقطع الأواصر بينه وبين ذاك المجتمع
ولو كانت أواصر القربى ، ويتجه قلبه لتوه إلى كيان آخر يلتصق به ويحس أنه
أصبح قطعة منه ، ذلك هو رسول الله والقلة المؤمنة « [8] .
د- شعر الدعوة الإسلامية :
وقد ساهم الشعراء في هذا العصر في شعرهم بمعانٍ وقيم مستمدة من التصور
الجديد ، ولتعاليم الدعوة الإسلامية ، مسخرين مواهبهم للدفاع عن قيم هذا المجتمع
الوليد ..
إن أغراض الشعر من فخر وهجاء ورثاء وحماسة ، تغير مفهومها ، وسمت
قيمها ..
فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفتخر بالسبق إلى الإسلام [9] :
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيراً ما بلغت أوان حِلمي
ويفتخر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بأنه أول من رمى بسهم في
الإسلام [10] :
ألا هل أتى رسولَ الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذياداً ... بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رامٍ في عدوٍٍ ... بسهم يا رسول الله قبلي
ويصبح فخر حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بالإسلام ونبيه ووحيه ،
وبكتيبة المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، يقول قبل فتح مكة [11] :
عدمنا خيلنا إنْ لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل أمين الله فينا وروح ... القدس ليس له كفاء [12]
والهجاء يتحول نحو المشركين ، دفاعاً عن رسول الإسلام وصحابته الكرام ،
فيقول حسان -رضي الله عنه- يهجو أبا سفيان بن الحارث وهو من قريش .. من
بني هاشم ، لأنه من الشعراء المشركين ، وقد اشترك في هجاء الرسول -صلى الله
عليه وسلم- :
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخِبٌ هواء [13]
بأن سيوفنا تركتك عبداً ... وعبد الدار سادتها الإماء [14]
هجوتَ محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مباركاً براً حنيفاً ... أمين الله شيمته الوفاء [15]
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعِرض محمد منكم وقاء
رضي الله عن حسان ، لقد كان شاعر الخزرج في الجاهلية يدافع عن أحساب
قومه ، وهاهو يفدي نبيه بالنفس والعرض والأهل ..
أبو سفيان هذا أسلم ، وحسن إسلامه ، ثم ندم على ما فرط في جاهليته، ... فقال [16] :
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلبَ خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أُهدى وأهتدي
إن الإسلام يجبُّ ما قبله ، إلا أنه الشعور بثقل الماضي ، ورهافة حس
الشعراء ..
والرثاء : بكى فيه شعراءُ الدعوة الإسلامية شهداءَ المجتمع الجديد ، مجتمع
العقيدة ، ولنستمع إلى أبيات من قصيدة كعب بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه-
يرثي فيها شهداء مؤتة ، إذ يقول [17] :
نام العيون ودمع عينك يهمل سحا ... ً كما وكفَ الطِّبابُ المخْضَلُ [18]
في ليلة وردتْ عليّ همومها ... طوراً أخِنُّ وساعة أتململُ [19]
واعتادني حزْنٌ فبتُّ كأنني ... ببنات نعشٍ والسّمال موكلُ
وجداً على النفر الذين تتابعوا ... يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صبروا بمؤتةَ للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
الرثاء للقادة ، للشهداء جميعاً وبألم وحزن ، لأن المصاب واحد ، والمشاعر
واحدة ، لقد أصبح » المثل الأعلى للرجل المسلم في عصر صدر الإسلام هو السبق
إلى الإسلام والهجرة ، وملازمة المصطفى وصحبته والتقوى والورع .. ثم الشجاعة
والذياد عن حياض الإسلام « [20] .
وأخيراً : تبين لنا أن التربية الإيمانية أساس كل تغيير ، ولابد من تطبيقها ،
وليس لدينا خيار في هذا الأمر ، لابد من العودة العميقة ، والمعايشة الحية مع إخوة
الإيمان .. إن هذه التجربة ، صنعت المعجزات ، صنعت الجيل الأول ، الذي
تخلص من جاهلية جائرة ، واستعلى على ضغوط المجتمع وأعراف الآباء والأجداد .
ما أجدر الدعاة اليوم أن يتعالَوْا على أعراف فرقت ومزقت وليس لهم فيها سَنْدُ
شرعي !
ما أجدرهم أن يهتموا بتربية دار الأرقم ، ومدينة الرسول الكريم -عليه
الصلاة والسلام - ، وأن يعلموا ثقل المسؤولية ، وعظم الأمانة في هذا العصر .
إن مسلم اليوم ( مهمته خطيرة ؛ لأنه لا يطلب منه أن يكون مجرد مسلم عادي ، إنما يطلب منه أن يكون نموذجاً يحتذى .. يلزمه تدريب من نوع خاص ، يتعود
فيه على التخفف من جواذب الأرض .. والمطلوب لدور البناء والتأسيس : أن
يكون المسلم على الدرجة العليا من الإيمان .. المطلوب نماذج فائقة من البشر ..
تستطيع أن تتجرد لله ، وأن تحتمل المشقة في سبيل الله ) [21] .
إن هذه التربية ، وهذا الإيمان ، هو الذي خلص العرب من الشرك واستعباد
القبيلة ، وحرر عقولهم من الهوى والخرافة ، وجعل منهم خير أمة أخرجت للناس ،
وقد غيرت مجرى التاريخ .
__________
(1) حديث صحيح : مشكاة المصابيح ح 3696/2 : 1092 ، والقصة وردت في تفسير البغوي :
5/188 .
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثبر 3 / 30 .
(3) السيرة النبوية لابن هشام 2/396 .
(4) انظر الإصابة لابن حجر 2/288 .
(5) المصدر السابق 2 /244 .
(6) انظر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في سيرة ابن هشام 1/ 501 وما بعدها ، والولاء والبراء ص 193 د : محمد سعيد القحطاني .
(7) تطور الفكر السياسي في الإسلام 2 /76-77 د فتحية البزاوي و د محمد نصر مهنا .
(8) منهج التربية الإسلامية 2 / 46 -بتصرف يسير .
(9) شعر الدعوة الإسلامية : جمع وتحقيق عبد الله الحامد .
(10) الإصابة 2 / 32 .
(11) ديوان حسان بن ثابت : ص 209 .
(12) نظير .
(13) مجوف ، نخب هواء : أي : جبان لا قلب له .
(14) عبد الدار : بطن من قريش .
(15) الحنيف : الذي يدين بالحق .
(16) ابن سلام ص 206 ، طبقات الشعراء .
(17) انظر العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الثاني ص385 ، وشعراء الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين : عبد الله الحامد ، ويحسن الرجوع إليه ؛ ففيه شواهد كثيرة (مطبوعة الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية 1971م) .
(18) الطباب : سير بين خرزتين في المزادة ، والمخضل : الرطب المبتل .
(19) الخنين : حنين ببكاء ، وهنالك رواية (أَحِنُّ) .
(20) الشعر الجاهلي في صدر الإسلام ، د/ عبد الله الحامد .
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» خطأ تاريخى / عمر لم يئد بنته في الجاهلية
» من طرائف الشعر
» مفهوم الموافقة
» الخيال في الشعر العربي
» مفهوم السُنّة العقائدي
» من طرائف الشعر
» مفهوم الموافقة
» الخيال في الشعر العربي
» مفهوم السُنّة العقائدي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى