شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)

اذهب الى الأسفل

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)  Empty الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس نوفمبر 11, 2010 9:44 am

إلى الذين يُؤْثِرون المبدأَ على الشخص والوحيَ على التاريخ

* * *

"لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" سورة الحديد، الآية 25

* * *

"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.. اهدني لما اختُلف فيه من الحق، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" صحيح ابن حبان 6/335

* * *

"إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال . والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال" ابن تيمية

* * *

"إن الظالم يظلم فيُبتَلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلِم، فيعجز عن ردها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداء، فإنه كان يزول سبب الفتنة" ابن تيمية

* * *

هداك الله يا تاريخ !!

هداك الله يا تاريـخ *** يا شيـخ الأضاليلِ
فما أقدر كفيــك *** على نسج الأباطيلِ
تحابي الـحي أو *** تظلــم يا تاريخ أحيـانا
فما مثلك مأمـون *** على أخبار موتـانا
(محمد الأسمر) * * * * * * * * * * * * * * * بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم
بقلم / الشيخ راشد الغنوشي على قلة ما يصدر من كتب في بلاد العرب (ما يصدر في جميعها لا يتجاوز ما ينشر في بلد أوروبي صغير) فإن ما يقرأ منها قليل، وما هو جدير بالقراءة أقل. ولست أرتاب في أن كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة" لمؤلفه الأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي هو في الخط الأمامي منها. لقد كان من بين الكتابات القليلة التي وجدت في قراءتها متعة ظلت تشدني الى استئناف ومتابعة القراءة، كلما قطعتني مشاغل الحياة عنها.

بدأتُ القراءة قياما بواجب الأخوة، استجابة لطلب كريم من الأستاذ المؤلف، إذ اختصني بشرف تقديم مؤلَّفه إلى القراء، ولكني ما إن مضيت في القراءة بضع صفحات - مستصحبا نية القيام بالواجب - حتى تحولت القراءة مقصدا بذاتها، أو قل لما تسكبه في النفس من لذة روحية مع كل صفحة، بل مع كل فقرة ترتشفها من هذا المعين المعرفي الصافي، وأنت تتابع نظمه الدقيق العميق للقواعد الاثنتين والعشرين التي استخلصها منهاجا في التعامل مع مرحلة التأسيس لحضارة الإسلام منذ يوم السقيفة، يوم انتقلت مهمة هداية البشرية من طور النبوة المعصومة إلى طور خلافة البشر الخطائين، وقد أزف زمن تجسيم وصية القائد عليه السلام وهو يودع أمته عن: "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" < متفق عليه>.

إنه كما وفق الشيخ البنا في صياغة الاسلام ومنهج الوصول الى حقائقه في عشرين مسألة غاية في الوضوح والدقة، فقد وفق سليل العائلة الشنقيطية ذات الأيادي البيضاء في خدمة هذا الدين - علومه وآدابه وجهاده - إلى تناول مرحلة التأسيس لحضارة الاسلام في كل أبعادها، تلك المرحلة التي تَشطّر فيها الضمير الإسلامي والاجتماع الإسلامي، ولا يزال الجرح مفتوحا، ولا يزيده كرّ الزمان إلا عمقا، لا سيما مع ما تحمله هذه الأيام ضروب الإحياء الديني من بشائر، لا تخلو من نذر الغلو والتشدد، تأجيجا لما خمد من نيران الفتن والهرج، حتى تحول - أو كاد - خير القرون والأدنى إلى مثاليات الاسلام إلى حقل منازعات من دون نهاية، ومصدر هدر غير محدود لطاقات الإسلام، وأساسا لتمزيق أبدي للاجتماع الإسلامي.. بدل أن يمثّل قاعدة للإجماع، وقبلة تهدي الحائرين. وما ذاك إلا بسبب المناهج الخاطئة التي تناولت خلافات الأصحاب بالتأريخ والسرد ثم بالتأويل، خدمة لأغراض أو انسياقا مع جهالات، وذلك بعيدا عما أوجبه الإسلام على المسلم من التزامٍ بنهج العلم والعدل معا.

ولقد تبدو الإثارة المتجددة لما حدث من منازعات بين الأصحاب رضوان الله عنهم- مهما كان المنهج والقصد- نوعا من نكء الجراح، أو بحثا متجددا عن نصرة مذهب أو حزب، أو الإساءة الى آخر، وهو ما يحمل النفوس الطيبة على العزوف عن الخوض مطلقا في هذه المخاضة، لما يشغلها من هموم مواجهة التحديات الراهنة ما يكفيها ويغنيها، وقد ترى فيها نوعا من الملهيات والصوارف عن مواجهة الراهن، والتورط في لجج فتن لم نخرج منها بطائل غير نكء الجراح ومزيد من التمزقات.. بما يبدو معه الموقف الأسلم هو طيّ صفحة تلك المرحلة من تاريخنا بخيرها وشرها، مكتفين بشمل الجميع بالترضي أو التّرحّم: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" (البقرة 134).

ومع أن الكف مطلقا عن الخوض أو التفكير فيما حصل هو من قبيل الافتراض النظري المتعذر، إذ كيف تُصرف أمة عن تناول مرحلة التأسيس فيها، وعصرها الذهبي، فإنه حتى ولو كان ذلك ممكنا- وما هو بالممكن - فليس هو بحال نافعا، لما يورثه من عُقد وأخلال فادحة في بنية الشخصية الحضارية للأمة. بل هو غير جائز أصلا، فنحن مأمورون بالتأسي "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"< أخرجه الترمذى وصححه وابن حبان والحاكم، وضعّفه ابن القطان الفاسى >

إن التناول لوقائع التأسيس لا مناص منه، بل نحن مأمورون به لما يحمله لنا في كل حين من قربات ومنافع، إذا ما توفَّقنا إلى المنهجية العلمية القويمة التي تجمع بين قاعدتي العلم والعدل، والإحاطة التامة بموضوع البحث، وخلوص القلب من الأغراض غير غرض درك الحق والتمسك به. وهو ما تحقق فيه للأستاذ الشنقيطي شأو بعيد من التوفيق في هذه الكتاب الصغير حجما العظيم فائدة ومؤونة.

لقد قدم الأستاذ الشنقيطي خدمة مهمة جدا لأجيال الحركة الاسلامية المعاصرة من خلال إعادة قراءة وقائع الاختلاف بين الأصحاب، الذي لوَّن تاريخنا ولا يزال بصبغته الخاصة، حسب نوع القراءة الأيديولوجية له. وإذا كانت القراءات الخِداج بسبب ما خانها من علم أو عدل أو منهما معا قد أسهمت الى حد بعيد في النيل من قوة تماسك الأمة وعزتها، حتى في زمن لم يكن أعداؤها قد مالت موازين القوة لجانبهم، فكيف وقد مالت كفتهم ميلانا عظيما، فاستطالوا علينا، وضربوا في القلب من دار الإسلام، وذرّت قرون التهديد والوعيد لكل متعلقات الأمة العقدية والفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبلغت استطالتهم حد تكثيف الضغط على مؤسسات طباعة المصحف، وعلى مؤسسات التعليم الديني، والإعلان عن ميزانيات لفرض مناهج العلمنة، كل ذلك وسيف الاحتلال فوق الرؤوس..

وبدل أن تفشو في مثل هذه المناخات ثقافة الإجماع ورص الصفوف، لمواجهة خطر وجودي يتهدد الأمة بكل مكوناتها وفِرَقها، تنبعث وتستطير في أوساط من صحوة الإسلام - المعول عليها بعد الله في التصدي لتلك الأخطار - دعوات ومناهج الغلو والتكفير، تأسيسا لاستباحة الدماء والأموال المعصومة، وإفشاءً للرعب والتقاتل بين المسلمين، واستعداءً للأمم عليهم.. في ذهول عن أراض محتلة يستغيث أهلها إخوانهم لدعم جهادهم التحريري، و ذهول كذلك عن حقوق مضيعة في الأمة وشرائع معطلة، ما يوجب بذل الوسع في وحدة وتراص صفوف المقاتلين، مما جاء الوحي بالثناء والتحريض عليه: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص"<الصف 4>.

وليس إلى ذلك من سبيل غير إعادة بناء ثقافة الإجماع. وبدهي أن الغلو أبعد ما يكون عن النهوض بهذه المهمة، بل هو النقيض لها من كل وجه، بما يشيعه من ثقافة التكفير والإقصاء، واحتكار النطق باسم السماء، بعيدا عن المنهج الوسطي القادر وحده على صناعة الإجماع، من أجل مواجهة فعالة لما يتهدد الأمة من جسيم الأخطار والتحديات الخارجية والداخلية.

لقد توفق الأستاذ الشنقيطي في تناوله بالبحث والتحليل لما نجم من خلافات بين الأصحاب الى الالتزام بقواعد منهجية واضحة ودقيقة ومؤصلة، مثل "الفصل بين الشخص والمبدإ وبين الوحي والتاريخ ترجيحا لقدسية المبادئ على مكانة الأشخاص مع الاعتراف بفضل السابقين في حدود ما تسمح به المبادئ".. بما يرفع الحرج عن المؤمنين من تناول وقائع تلك المرحلة تأثما، كما يمنع التوظيف السياسي انتصارا لحزب غلاة التشيع، في مقابل "التسنن الشيعي" الذي انتهجه قوم من السنة بدافع رد الفعل على غلو التشيع، فلجُّوا في الخصام، وركبوا مركبا صعبا في الدفاع عن الظلم والاستبداد والردة السياسية، وترسيخ التفسير التآمري للتاريخ، على أنقاض الحقيقة التاريخية الموثقة، ومقاصد الإسلام في العدل والشورى..

توفق الأستاذ الشنقيطي أيما توفيق في تصحيح تصورات الأجيال الإسلامية الجديدة عن مرحلة التأسيس، بما يقدم خدمة كبيرة للنظرية السياسية الإسلامية، تأكيدا لسلطان الأمة على حكامها، باعتبارها المستخلفة عن الله ورسوله في إقامة الدين.

والجديد الأهم في ذلك هو اعتماده منهج المحدثين في التعامل مع الروايات الواردة حول وقائع الاختلاف، بما أتاح له الفرز بين الصحيح والسقيم. وتتمثل أهمية ذلك في أنه كثيرا ما تسلح الغلو والتشدد في عصرنا بالاعتزاء إلى علماء السلف، حتى احتكروا هذا الوصف، مستظهرين على مخالفيهم بشيخ الإسلام وتلاميذه من العلماء والمحدثين، لا يترددون في رمي المخالف بكل نقيصة مثل التغرب أو التقليد أو أن بضاعته في علوم الحديث مزجاة، بما يهز الثقة في كل مقالته ولو صحت، منتصرين لمقالتهم وإن جانبت الصواب، أكان ذلك من جهة سندها أم من جهة صحة الاستنتاج.

هذا الكتيب الصغير في حجمه، الكبير في مدلولاته، يسد هذه الثغرة بحرصه على صرامة التحقيق الروائي، كحرصه على الاعتماد شبه الكامل على تناول مسائل الاختلاف بين الأصحاب من خلال تراث شيخ الاسلام ابن تيمية وبالخصوص في موسوعته القيمة "منهاج السنة".

ورغم أن شيخ الاسلام رحمه الله وجزاه الله كل خير عن الاسلام وأهله أهلٌ للتنويه والتقدير في أبواب كثيرة تفرد في الإبداع فيها، ومنها مسائل الاختلاف بين الأصحاب والأئمة، إلا أنه أخذ يداخلني بعض الحرج من شدة تكثيف التمركز حول تراثه، وكأنه في كفة وبقية علماء الاسلام أولهم وآخرهم في كفة، وقد يرجحهم ..!! وهي مبالغة قد تكون مفيدة للغرض الذي ابتغاه الأستاذ الشنقيطي في تجريد الغلو والتشدد من أهم أسلحته التي يستطيل بها على الأمة: سلاح علم الرواية وتراث شيخ الاسلام ابن تيمية. فأن يُجرَّد التشدد والتكفير والتفسير التآمري للتاريخ وشرعنة الاستبداد من هذين السلاحين، خدمةً للإجماع والاعتدال والوسطية والشورى والديمقراطية، فذلك فضل يُحسب للأستاذ الشنقيطي إذ هُديَ إليه: "يوتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولوا الالباب"

راشد الغنوشي
لندن في 15 رمضان 1424 هـ * * * * * * * * * * * * * * * بسم الله الرحمن الرحيم

* مقدمة المؤلف: هذه رسالة خفيفة الوزن، كثيفة المادة، تستهدف تجديد القول في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم، والخروج من دائرة الجدل والمناظرة في قضايا المفاضلة بين الصحابة وشرعية خلافة الخلفاء الراشدين – وهي قضايا نظرية استنزفت العقل المسلم في غير طائل - إلى دائرة التأصيل والتحليل والاعتبار. ويتحكم في هذه الرسالة همُّ الفصل بين الشخص والمبدإ، بين الوحي والتاريخ. وهي في خلاصتها دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمنهج جديد، يمنح قدسية المبادئ رجحانا على مكانة الأشخاص، مع الاعتراف بفضل السابقين ومكانتهم في حدود ما تسمح به المبادئ التي استمدوا منها ذلك الفضل وتلك المكانة.

وليست هذه الرسالة سردا للخلافات السياسية بين الصحابة أو خوضا في تفاصيلها، بل هي جملة قواعد منهجية مقترحة للتعاطي مع تلك الخلافات، بما يعين على استخلاص العبرة منها لمستقبل أمة الإسلام وآتي أيامها. وليس فيها من تفاصيل تلك الأحداث إلا ما كان ضربا لمثَل، أو دعما لتحليل. ولعل هذه القواعد تكون دليلا لمن هم أحسن تأهيلا وأوسع معرفة بدقائق التاريخ الإسلامي، ليدلوا بدلوهم في إعادة قراءة ذلك التاريخ.

على أن الرسالة تنتمي إلى الفقه السياسي أكثر مما تنتمي إلى علم التاريخ، وهي بمثابة المقدمة المنهجية لكتابيْ "السنة السياسية" و"الشرعية السياسية" اللذيْن نستعين الله في إتمامهما، ونستجديه قبولهما، وقبول هذه الرسالة.. ووصولَها.

وقد حرصنا هنا على انتهاج نهج علماء الجرح والتعديل، لا في تثبتهم في الرواية والنقل فحسب، بل في منطلقهم الفكري الذي تأسس على الإيمان برجحان المبدإ على الشخص، على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه، من أنه "ليس من الغِيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة". كما حرصنا على صياغة الرأي طبقا للوقائع، لا صياغة الوقائع في قوالب الآراء، كما هو شائع في أكثر الكتابات حول الموضوع.

لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي متكيفا مع واقع القهر والاستبداد الذي خلفته حرب "صفِّين"، ولم يقتصر هذا التكيف على تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، بل تجاوزها إلى النظرية السياسية الإسلامية، وهو ما يجعل المهمة اليوم عسيرة. ولا بد للدارس للفقه السياسي والتاريخ الإسلامي من الانتباه لهذه الظاهرة، والاجتهاد في البحث والتنقيب لبناء صورة دقيقة لما حدث في صدر الإسلام من فتن وخلافات سياسية لا تزال تلقي بظلالها على الأمة حتى اليوم. فالبحث في هذا المجال أقرب إلى عمل علماء الآثار الذين يدرسون أطلالا دارسة عبثت بها أيدي الزمان.

ومما يزيد في عسر المهمة الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية، وهو أمر سائد في الفكر الإسلامي اليوم، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته وعبرته، وتقصيرٍ في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط.

إن الذي يتأمل نصوص الشرع ومصائر الأمم يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوإ الأدواء الفكرية والعملية. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنته بإطلاق، لأنه معصوم: "عليكم بسنتي.."، ثم أمرنا باتباع سنة الخلفاء من بعده، لكنه قيدها بالرشد: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". وفي ذلك درس ثمين في التمييز بين الشخص والمبدإ، حتى ولو كان ذلك الشخص أحد الخلفاء الراشدين. لكن داء تجسيد المبادئ في الأشخاص ساد – بكل أسف - في قراءتنا لحياة السلف، حتى الذين هم غير راشدين منهم، فاستحال الدفاع عن الصحابة إلى دفاع عن الظلم السياسي، وتبريرٍ للجبرية والخنوع.

ومن هنا حرصنا في هذه الدراسة على تبني فكرة الإمكان التاريخي، وهي فكرة تنطلق من أن الصيرورة التاريخية – بما هي فعل بشري إرادي – حبلى بالاحتمالات دائما. وما يتحقق في واقع الحياة، ليس هو كل الممكن، بل هو جانب من إمكانات شتى، رجَّحت ظروف الفعل البشري ظهوره. وبذلك تكون فكرة الإمكان التاريخي أداة منهجية فعالة، يتبين من خلالها الفارق بين ما كان، وما هو ممكن، ويصبح التقييم متاحا، استنادا إلى ذلك الفارق.

لكن "الجبرية الأموية" و"الكربلائية الشيعية" لا تزالان سائدتين في دراسة تاريخ صدر الإسلام، وهما وجهان لفلسفة واحدة، تنطلق من أن ما كان هو حدود الإمكان، وأن لا مجال للنقد أو المراجعة. وبسيادة هذين المنهجين ضيع الفكر الإسلامي فكرة الإمكان التاريخي، وعطل العقل المسلم نفسه في دراسة تاريخه.

إن الانفعال السائد في الدفاع عن السلف قد أهدر قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص، واستحال ردا للغلو بغلو، مع تعميم وتهويل يساوي بين عثمان وكاتبه مروان، وبين عمار وقاتله أبي الغادية. وقد بدا لنا أن الشباب الإسلامي المعاصر وقع ضحية لمنهج ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" ثم لمدرسة "التشيع السني" المعاصرة التي يقودها محقق كتاب "العواصم" الشيخ محب الدين الخطيب وتلامذته. ولذلك ختمنا هذه الرسالة بمناقشة ضافية لمنهج تلك المدرسة وبعض مزالقها.

إن ثقافتنا التاريخية العليلة جزء من محنتنا الراهنة. والعلاقة بين الثقافة العليلة والاستبداد السياسي علاقة وجودية، ولذلك لا عجب أنْ كان السحر ثقافة المصريين أيام الفراعنة. وقد أثمرت ثقافتنا التاريخية العليلة مفارقات غريبة، من مظاهرها أن ضحايا الاستبداد في العالم الإسلامي اليوم هم أقوى المدافعين عنه فكريا، وأشد المبررين له أخلاقيا.. وهم لا يشعرون!!

لقد انتصر المجتمع الإسلامي الأول على الردة الاعتقادية التي ثارت في أطرافه، لكنه انهزم أمام الردة السياسية التي نبعت من قلبه. والردة – كما يقول ابن تيمية - قد تكون عن الدين كله، أو عن بعض الدين. وتلك الردة السياسية المتمثلة في تحويل الخلافة إلى ملك هي التي رسمت صيرورة الحضارة الإسلامية ومآلها، ولا تزال تتحكم في حياة المسلمين حتى اليوم.

ولئن كانت الأولوية عند بعض علماء السنة في الماضي هي كشف "فضائح الباطنية" و"الرد على الشيعة والقدرية"، لأن المبتدعة كانت لهم صولة ودولة يومذاك، تكاد تطبق على مشرق العالم الإسلامي ومغربه.. فإن الأولوية اليوم هي كشف فضائح المستبدين، وتجريدهم من أي شرعية أخلاقية أو تاريخية. إضافة إلى أن البدع السياسية لا تقل خطورة عن بدع الاعتقاد، كما تشهد به عبرة أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام.

لكن كشف فضائح المستبدين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسية التي بدأت في عصر الصحابة مطبوع بطابع التبرير والدفاع، لا بطابع الدراسة المجردة الهادفة إلى الاعتبار، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسية يتحكم فيه فقه التحفظ، لا فقه التقويم. ذلك أن من طبيعة المبدإ الأخلاقي العموم والاطراد، فليس من الممكن تحريم الظلم السياسي على الخلف، وإباحته للسلف، دون وقوع في تناقض فكري وأخلاقي.

لقد كان التحرج من الخوض في الخلافات السياسية بين الصحابة واضحا وشائعا لدى علماء الأمة وصلحائها، لكن ذلك لم يمنعهم من الخوض فيه لغاية التعليم والتأصيل والاعتبار. وقد أفرد الحافظ الهيثمي في مجمعه بابا بعنوانٍ ذي دلالة، فقال: »باب فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الإمام أحمد رحمه الله وأصحاب هذه الكتب أخرجوه ما أخرجته« وهو يقصد بـ"أصحاب هذه الكتب" أصحاب المسانيد التي جمعها الهيثمي في كتابه، كالطبراني والبزار وأبي يعلى.. فالهيثمي يلخص هنا الإشكال: لا ينبغي التخوض في هذا الموضوع لمجرد التسلية وتزجية الوقت، لكن الحديث فيه يكون أحيانا ضرورة علمية وعملية. وليس هو بالبدعة المستحدثة، بل سبق إليه أكابر من أهل السنة والحديث، كالإمام أحمد وغيره.

ومهما يعترضْ معترض أو يجادلْ مجادل بأن الكتابة في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة نكءٌ لجراح الماضي السحيق، وجدل نظري في غير طائل، وفتح لباب التطاول على الأكابر.. فإن الأمة لن تخرج من أزْمتها التاريخية إلا إذا أدركت كيف دخلت إليها.

لا أحد يطرب بالحديث عن الاقتتال الذي نشب بين الرعيل الأول من المسلمين، ولا أحد يستمتع بنكء جراح الأمة، لكن الطبيب قد يوصي بالدواء الـمُـرِّ، ويستخدم مِبْضَعه وهو كاره.. وتلك أحيانا هي الطريقة الوحيدة لاستئصال الداء.

والله الموفق لكل خير والهادي إلى سواء السبيل محمد بن المختار الشنقيطي
01 رمضان المبارك 1424 هـ الموافق 27 أكتوبر 2003م
لباك – تكساس – الولايات المتحدة الأمريكية * مدخل:
التأصيل الشرعي والوعي التاريخي يعتبر الوعي التاريخي جزءا أساسيا من ثقافة أية أمة حريصة على بناء مستقبلها ضمن قيمها الخاصة. وتتأكد قيمته في أمتنا الإسلامية، نظرا لارتباط حضارتها بالوحي، ونظرا لإرثها التاريخي الضخم. وبالوعي التاريخي الصحيح يتوصل أبناء الأمة إلى تحقيق أمور ثلاثة:

- وضع حد فاصل بين الوحي والتاريخ، بحيث يتم التقيد بالوحي المنزل كتابا وسنة، ويتم الاعتبار بالتجربة التاريخية، دون اتخاذها أصلا يُبنىَ عليه، أو معيارا تتم المحاكمة على أساسه.

- وضع حد فاصل بين المبادئ ووسائل تجسيدها التاريخية. بحيث يصبح الباب مفتوحا أمام تجديد الوسائل دون تحريف للمبادئ، ولا يتم الجمود على وسائل معينة، حتى ولو أثبتت جدواها في الماضي.

- وضع حد فاصل بين مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ. فالأشخاص يستمدون مكانتهم من خدمة المبدإ، فإذا تحول الحفاظ على تلك المكانة إلى غض من المبدإ، أو عدم وضوحه في أذهان الناس، فقد انحرف عن قصده.

وتمتاز فترة التأسيس في تاريخ أية أمة بأهميتها الخاصة، ويصبح الوعي التاريخي بها ضرورة لازمة، نظرا لتداخل المبادئ والوسائل والأشخاص في هذه المرحلة. فالغالب أن مرحلة التأسيس تتحول في أذهان الأجيال التالية إلى "مرحلة تقديس": ليس تقديسا للمبادئ فقط – فهذا أمر لازم – بل تقديس لوسائل تلك المرحلة ورجالها.

تأسيسا على كل هذا، تهدف هذه الرسالة إلى المساعدة على بناء وعي تاريخي متزن بالخلافات السياسية بين أهل الصدر الأول – وخصوصا الصحابة رضي الله عنهم – مع التركيز على ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث في هذا الشأن. وقد اجتذبتني للكتابة في هذا الموضوع عدة اعتبارات، منها:

- أن جيل الصحابة رضي الله عنهم يمثل جيل التأسيس في تاريخ الإسلام، فهو الجيل الذي عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره، وهو الجيل الذي أرسى دولة الإسلام الأولى وبسط حدودها. فكل ما صدر عن ذلك الجيل أخذ صبغة الأساس - صراحة أو ضمنا - عند من تلاهم من أجيال الإسلام. فلصوابهم قيمته التأسيسية، ولخطئهم خطره الخاص، نظرا لميل الناس إلى استسهال تقليد الأكابر في كل شيء .

- أن الخلافات السياسية التي ثارت بين الصحابة رضي الله عنهم ألقت بظلالها على جميع مراحل التاريخ الإسلامي، بل صاغت الحضارة الإسلامية وطبعتها بطابع خاص، منذ القرن الأول الهجري حتى اليوم. فهي – بحق - مفتاح التاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي . وقد عبر عن ذلك ابن تيمية بقوله: ».. وذلك الشجار بالألسنة والأيدي أصل لما جرى بين الأمة بعد ذلك، فليعتبر العاقل بذلك«(1).

- أن فهم تلك المرحلة التاريخية الحساسة عبر دراستها دراسة استقصائية تقويمية هو الذي يمكن من تجاوز مضاعفاتها التي لا تزال تتحكم في فكر وواقع الأمة اليوم. ولن يتم الاعتبار الذي يدعو إليه ابن تيمية هنا إلا بدراسة تلك المرحلة التاريخية دراسة دقيقة في ضوء المبادئ الإسلامية الهادية، وكيف يتم الاعتبار بما نجهل حقيقته، ونكمم الأفواه عن الحديث فيه.

- أن كثيرين ممن تصدوا لدراسة تلك الفترة لم يسلكوا منهج عدل وسط يجمع بين قدسية المبادئ ومكانة الأشخاص. بل تحكمت فيهم ردود الأفعال، فوقعوا في الغلو. ولست أعني غلو الشيعة – فهذا واضح وضوح الشمس، وقد تصدى له كثيرون - بل أعني غلو بعض من ردوا عليهم من أهل السنة، وهو غلو خفي دقيق، لأنه صدر باسم الدفاع عن الصحب الكرام. * جدلية المثَل والمِثال:

إن الصلة بين التأصيل الشرعي والوعي التاريخي أوثق مما يتصور كثيرون، فكل إنسان يحمل صورة ذهنية يسترشد بها في حياته، مركبة من ثلاثة أجزاء:

- مثَل أعلى في صورة مبادئ مجردة يطمح إلى الالتزام بها والنسج على منوالها.

- ومثال في صورة أشخاص استطاعوا الاقتراب من تلك المبادئ، يطمح إلى الاقتداء بهم.

- ووسائل أفلح أولئك الأشخاص في إعمالها بنجاح في خدمة المثَل، يميل إلى اعتمادها.

ولم يعرف التاريخ البشري - ولن يعرف - تحول المثَل إلى مثال بشكل مطلق، لأن ذلك في غير مستطاع البشر. وحتى حين يوجد الأنبياء - وهم قمة الكمال البشري - فإن حدود الزمان والمكان لا تسمح لهم بتحويل المثل إلى مثال في مجتمعاتهم، والارتفاع بمستوى التدين إلى مستوى الدين بشكل مطلق، لأن الدين هداية إلهية كاملة، والتدين كسب بشري ناقص. ولعل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتطلع إلى إقامة البيت على قواعد إبراهيم نموذج لذلك. أما غير الأنبياء فإن أخطاءهم وذنوبهم تزيد الفجوة بين الدين والتدين اتساعا، إذ هم غير معصومين.

لكن ليس كل الناس يملكون مستوى من التجريد يمكنهم من التفريق بين المبدإ وحامله، وبين المبدإ ووسائل التعبير عنه زمنيا. وهنا يدخل داء "التجسيد": فتصبح المبادئ مجسَّدة في أشخاص مهما يكونوا عظماء فهم غير معصومين، وفي وسائل مهما تكن ناجحة أيام التأسيس فهي محدودة بزمانها ومكانها.

ويتولد عن داء التجسيد داءان: الجبرية الجمود. أما الجبرية فهي إيمان بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ونظرٌ إلى أحداث الماضي على أنها ضربة لازب لم يكن منها بد، بما يترتب على ذلك من الخضوع لامتدادات الماضي في الحاضر، وسد لأبواب الطموح إلى الاستدراك والتصحيح. وأما الجمود فهو تبلد وانكفاء على وسائل نجحت في الماضي، لكنها لم تعد مناسبة في الحاضر، ولا مجدية في المستقبل، مما يؤدي إلى تخلف المبادئ عن الحياة، وقد كانت مرشدها وحاديها.

أما العلاج فهو الوعي التاريخي الذي يُدخل فكرة الزمن في دراسة المبادئ، فيتضح التمايز بين المثَل والمثال: بين المبدإ وحامله، وبين المبدإ ووسائل خدمته، فتنفتح أبواب التقييم الصحيح للماضي، المرشد إلى سلامة البناء في المستقبل.

وهكذا فإن التأصيل لمبادئ الإسلام في السياسة والحكم – مثلا - لن يكون كافيا، إذا ورد في صيغة حديث مجرد عن الشورى والبيعة والعدل …الخ دون تحليل تاريخي لمراحل المد والجزر والاقتراب والابتعاد من هذه المبادئ في تاريخ الأمة، وخصوصا في مرحلة التأسيس التي يتخذها الجميع أصلا ومرجعا. ومهما يرهق الباحث نفسه في تأصيل العدل في الحكم والقسْم، فسيجد من المصابين بداء التجسيد مَن يحتج عليه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين آثروا أقاربهم بالولايات والأموال. ومهما يرهقْ نفسه في الحديث عن حق الأمة في اختيار قادتها، فسيجد من يحاججه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين ورَّثوا أبناءهم السلطة.

وليس من حل لهذه الأزمة الفكرية والعملية سوى التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه بـ"قول الحق وإن كان مرا" (2)، وتسمية الأخطاء بأسمائها دون مواربة، وخصوصا أخطاء الأكابر الذين هم محل القدوة والأسوة من أجيال الأمة.

لقد أفضى أولئك الأكابر إلى ما قدموا من خدمات جليلة لرسالة الإسلام، فأجرهم على الله تعالى، وعذرهم عنده سبحانه. أما المبادئ فهي حية خالدة، فالحفاظ عليها واجب، ووضوحها في أذهان الناس ضرورة. وحاجة الناس إلى المثَل الأعلى أكبر من حاجتهم إلى أي مثال بشري مهما سما، بعد أن أغناهم الله بالأنبياء المعصومين عمن سواهم. * عبرة من قصص القرآن :

لقد درج كثير من علماء المسلمين في الماضي والحاضر على الكتابة عن حياة الصحابة وتاريخ السلف بمنهج سرد المناقب والفضائل فقط، محكومين بالجدل مع القادحين في الصحابة رضي الله عنهم، والذين لم يعترفوا لهم بفضل السبق. ورغم فائدة هذا المنهج في استنهاض الهمم الراكدة، وفي الرد على الطوائف المعاندة، إلا أنه يشتمل على جوانب قصور منهجية، أهمها أنه يسلخ حياة الصحابة والسلف الأول من طبيعتها البشرية: طبيعة الصراع بين المثَل والواقع، والمعاناة النفسية في سبيل الارتفاع إلى مستوى المبدإ، ومظاهر السقوط والنهوض، والذنب والتوبة، والغفلة والإنابة.. وهذا هو جوهر التجربة المؤمنة في كل عصر، فإذا فقدها التاريخ استحال من تاريخ حي نابض، إلى تاريخ جامد مقدس، يثير الحماس لكنه لا يمنح الخبرة، يحرك الهمة لكنه لا يقدم العبرة، يُظهر تقصير الخلف لكنه يُقْنطهم من الاقتداء بالسلف ..

ولم يكن هذا نهج القرآن الكريم في عرض قصص الأولين، وحياة السالفين. فحتى حينما تحدث القرآن الكريم عن الأنبياء المعصومين بالوحي المستدرِك، قدم الصورة مكتملة، متضمنة نقاط القوة والضعف، حتى يستوعب المتدبر العبرة، ويظل التاريخ تاريخ بشر من لحم ودم، لا تاريخ ملائكة جبلوا على الطاعة دون جهد أو معاناة. واقرأ قول الله عز وجل عن آدم عليه السلام: »وعصى آدم ربه فغوى« (3) وعن نوح عليه السلام: »قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم« (4) وعن داود عليه السلام: »وظن داود أن ما فتناه« (5) وعن سليمان عليه السلام: »ولقد فتنا سليمان« (6) وعن يوسف عليه السلام: »ولقد همت به وهمَّ بها« (7) وعن موسى عليه السلام: »قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي« (8) ثم أخيرا عن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأكرم الخلق على الحق سبحانه: »عبس وتولى أن جاءه الأعمى« (9) »عفا الله عنك لم أذنت لهم« (10).

وهذا المنهج القرآني هو الذي يجعل الصورة مكتملة، والحجة قائمة، وإلا فما لنا وللاقتداء ببشر تجردوا من صفة البشرية؟! إن الخالق الحكيم العدل لم يكلفنا بذلك، ولذلك بعث إلينا بشرا رسولا، لا ملَكا رسولا، عن قصد وحكمة: »قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا« (11).

وخلاصة العبرة من هذا المنهج القرآني أن دراسة تاريخ الأولين - صحابة أو غير صحابة - ينبغي أن تحرص على تقديم الصورة كاملة، بجوانبها المضيئة والقاتمة، فلا يوجد تاريخ كله مناقب أو مثالب، والعبرة من الخطإ والتقصير تساوي العبرة من الصواب والنهوض، بل قد تفوقها أحيانا. وفي حياة كل المؤمنين عبرة، سواء من كان منهم ظالما لنفسه، أو مقتصدا، أو سابقا بالخيرات بإذن الله. * درس بليغ من عمار :

إن المنهج الذي ندعو إليه في هذه الدراسة، ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث خيرَ من نظَّر له وطبقه، هو منهج قائم على التوازن بين احترام مكانة الأشخاص والتقيد بقدسية المبادئ. وهو يراعي الترجيح الذي يصبح ضرورة شرعية وعملية أحيانا، حين لا يكون الجمع بين الأمرين متاحا، فيتحيز للمبادئ دون لجلجة.

وقد وجدنا أبلغ الدروس في هذا الشأن درسا من عمار بن ياسر رضي الله عنه أيام حرب الجمل: »عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي، فقدما الكوفة، فصعدا المنبر في أعلاه، وقام عمار أسفل من الحسن، فاجتمعنا إليه، فسمعت عمارا يقول: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي« (12) وفي رواية: ».. فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها« (13) وفي رواية أخرى »إن عائشة لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكنه بلاء ابتليتم« (14) وفي أخرى: »فقال عمار: إن أمير المؤمنين بعثنا إليكم لنستنفركم، فإن أمنا قد سارت إلى البصرة … « (15) »وفي لفظ ثابت : "أشهد بالله إنها لزوجته.. « (16). و»عن عمرو بن غالب: أن رجلا نال من عائشة عند عمار، فقال [عمار]: اغربْ مقبوحا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟« (17).

قال الحافظ ابن حجر: »ومراد عمار بذلك أن الصواب في تلك القصة كان مع علي، وأن عائشة مع ذلك لم تخرج عن الإسلام، ولا أن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. فكان ذلك يعد من إنصاف عمار وشدة ورعه وتحريه قول الحق« (18) »وقال ابن هبيرة: في هذا الحديث أن عمارا كان صادق اللهجة، وكان لا تستخفه الخصومة إلى أن ينتقص خصمه، فإنه شهد لعائشة بالفضل التام مع ما بينهما من الحرب« (19).

على أن أهم ما ينبغي إبرازه هنا هو صياغة عمار لموقفه الحرج تلك الصياغة الدقيقة التي لا يستطيعها إلا الذين استوعبوا معادلة العلاقة بين الشخص والمبدإ. فبدأ ببيان فضل عائشة رضي الله عنها إقرارا بمكانتها ونصحا للسامعين، وانتهى بالدعوة إلى دفعها، إنصافا للمبدإ وبيانا لرجحانه على مكانة أي شخص، حتى ولو كان شخص أم المؤمنين عائشة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: »فقد شهد لها عمار بأنها من أهل الجنة، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا دعا الناس إلى دفعها بما يمكن من قتال وغيره« (20). والأهم من ذلك أن عمارا بيّن لسامعيه أن الأمر ابتلاء، يحتاج المؤمن المتبصر إلى إدراكه وأخذ العدة له، وهو ابتلاء يجعل الجمع بين الحفاظ على قدسية المبادئ (إياه تطيعون) ومكانة الأشخاص (أم هي) أمر ممتنع أحيانا، ويجعل الاختيار والترجيح أمرا لازما، بعد أن انحصر الأمر بين "إما" و"أمْ"، وأصبحت طاعة المخلوق مقابلة لطاعة الخالق. ولله در الحافظ ابن الجوزي إذ يقول: »… فإنه لا يُقلَّد في الأصول لا أبو بكر ولا عمر. فهذا أصل يجب البناء عليه ، فلا يهولنَّك ذكر معظَّم في النفوس« (21).

ولو أن الباحثين الذين يدرسون الخلافات السياسية بين الصحابة نظروا إلى الأمر من هذه الزاوية – زاوية الابتلاء – لنجحوا في منهج التناول. لأنهم في هذه الحالة سيحافظون على مكانة الأشخاص في حدود ما تسمح به المبادئ، لكنهم سيجعلون المبدأ هو الحاكم والمعيار في نهاية المطاف، دون سقوط في داء التجسيد.

ولا يستمد درس عمار أهميته الخاصة من مجرد شهادة أهل العلم له بالفقه والإنصاف والورع، بل من شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه على الحق في تلك الخلافات، كما سنرى فيما بعد. بل لقد شهد لعمار خصومه في تلك الأحداث، بمن فيهم عائشة رضي الله عنها. قال ابن حجر: »أخرج الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال: قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من [حرب] الجمل: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عُهد عليكم، يشير إلى قوله تعالى: "وقرن في بيوتكن"، فقالت: أبا اليقظان؟ قال: نعم، قالت: والله إنك ما علمتُ لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانكِ« (22).

إن منهج شيخ الإسلام ابن تيمية لا يعدو أن يكون امتدادا لدرس عمار هذا، ولذلك كانت أعظم خاصية لمنهجه في هذا الشأن هي خاصية الاتزان والاعتدال الذي يحرص على إعطاء الرجال حقهم، وإعطاء الحق حقه، وجعل الحق فوق الرجال مهما سموا. وقد شرح منهجه في هذه العبارة البليغة، فقال: » .. ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويثاب ويُعاقَب، ويُحَبُّ من وجه ويُبغَض من وجه« (23). * لماذا ابن تيمية؟ :

لقد ركزنا في هذه الدراسة على الاستمداد مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية وأهل الحديث حول الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم. ولعل سؤالا يثار عن السر في اختيار ابن تيمية دون غيره من أعلام الإسلام الذين تناولوا هذا الموضوع، وكتبوا فيه مجلدات. وأُجمل الجواب على ذلك فيما يلي:

- أن جهد شيخ الإسلام متميز من حيث الكم. فهو كتب في مناقشة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم ما لم يكتبه غيره. ولا نعلم أيا من علماء الإسلام كتب في هذا الموضوع كتبا بحجم "منهاج السنة النبوية " بمجلداته التسعة، أو في حجم المجلدات العديدة من "الفتاوى" التي خصصها ابن تيمية لهذا الموضوع، فضلا عن الكتب والرسائل الأخرى والفصول الكثيرة المنثورة في ميراثه العلمي الضخم.

- وهو متميز – كذلك - من حيث الكيف. فقد استطاع شيخ الإسلام إلى حد كبير أن يجمع بين الدفاع عن مكانة الصحب الكرام رضي الله عنهم، والدفاع عن قدسية المبادئ الإسلامية الجليلة. وهذه معادلة أعيت كثيرين: فإما أنهم أنصفوا المبادئ على حساب الأشخاص، أو أنهم أنصفوا الأشخاص على حساب المبادئ، وهو الأكثر.

- أن كثيرين ممن ينتسبون إلى مدرسة شيخ الإسلام – في هذه الأيام - ويعلنون تبني منهجه في هذا الشأن، لم يدرسوا ما كتبه في هذا الأمر دراسة استقرائية مستوعبة، ولم يدركوا خاصية الاتزان والاعتدال التي اتسم بها منهجه. فاشتط بعضهم في مجادلاته مع الشيعة، ودافعوا عن الحق بباطل حينا، وقدموا صورة شوهاء للمبادئ السياسية الإسلامية أحيانا، حرصا منهم على الدفاع عن أشخاص الصحب الكرام.

- أن شيخ الإسلام نفسه حذر من هذا الأسلوب في المناظرة، وانتقد الذين استفزتهم الخصومة مع الشيعة »فقابلوا باطلا بباطل ، وردوا بدعة ببدعة« (24) وأدرك مخاطر هذا المنهج على الحق وأهله من خلال متابعاته للجدل الدائر بين المسلمين وأهل الكتاب، فقال: »إن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم … وكثيرا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل، ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم، ولا يبين حجة الله التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة« (25).

- أن ابن تيمية ميز بين الخلافة والملك بوضوح لم يسبقه إليه أحد، وأعلن أن »خبره [صلى الله عليه وسلم] بانقضاء خلافة النبوة فيه الذم للملك والعيب له« (26) وأن الملك » متضمن ترك بعض الدين الواجب« (27) ورفَض تفسير الاستخلاف الذي وقع من أبي بكر وعمر بما يخدم فكرة توريث السلطة كما سنرى فيما بعد.. وذلك هو الفصل بين المبدإ والشخص وبين الوحي والتاريخ الذي نقصده. * ولماذا أهل الحديث؟ :

ويرد نفس التساؤل حول السبب في اختيار أهل الحديث دون غيرهم، والاستمداد من فقههم دون سواهم في هذه المسألة. ونوجز الجواب عن هذا التساؤل في نقاط ثلاث:

- أن المحققين من أهل الحديث اعتادوا على منهج الجرح والتعديل. وعلم الجرح والتعديل علم يتأسس على اعتبار قدسية المبادئ الشرعية فوق مكانة الأشخاص مهما سموا. ولذلك لا يجد أهل الحديث غضاضة في الكشف عن كذب الكذابين ووصفهم بشتى النعوت حماية للسنة من شرهم، ولا يترددون في الكشف تدليس المدلسين وتخليط المخلطين، ومنهم أكابر في العبادة والزهد. وهو ما عبر عنه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بالقول: »باب: بيان أن الإسناد من الدين، وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة« (28).

- أن أهل الحديث أشد تدقيقا من غيرهم في تلقي الأخبار التاريخية. وفي تاريخ الصحابة رضي الله عنهم، يتعين الاعتماد على علم الحديث، لأن علم التاريخ "غير مأمون على أخبار موتانا" كما قال – بحق – الشاعر محمد الأسمر في أبياته التي صدرنا بها هذه الرسالة. كما أن العديد من أهل الحديث الذين اعتمدنا تحليلاهم هنا – كالذهبي وابن حجر - جهابذة في علم التاريخ أيضا، جمعوا بين الصنعتين وأحاطوا بالعلمين. فهم أهل للاستناد إليهم والاعتماد عليهم.

- وأخيرا الانطباع الشائع بأن أهل الحديث عموما – وابن تيمية منهم خصوصا - ملتزمون بمنهج التحفظ والتبرير في حديثهم عن الفتن والخلافات السياسية بين الصحابة، وأن كلامهم في الموضوع لا يتجاوز السرد أو الدفاع دون تقويم أو تحليل. فهذه الرسالة تقدم للقارئ البرهان على عكس هذا الانطباع الخاطئ. وسيجد القارئ النبيه من خلال كلام المحدثين الوارد هنا ما يدحض هذا الرأي، ويبين أن العديد من المحدثين تحدثوا عن هذا الموضوع بإسهاب وجرأة وجدارة، وأن شيوع هذا الانطباع مجرد أثر من الآثار السلبية العديدة لعدم الاطلاع الكافي على تراث ابن تيمية وأهل الحديث. * منهج العلم والعدل :

وقد بين ابن تيمية منهجه في تناول مسائل الخلاف التي مزقت الأمة ، وهو منهج أساسه العلم والعدل. ودعا المسلمين إلى انتهاج هذا النهج. ولم يكن ليخفى على شيخ الإسلام – وقد عايش خلافات الأمة طويلا وخاض غمارها – أن آفة الخائضين في هذه الخلافات دائما تنحصر في أمرين اثنين:

- الجهل بموضوع الخلاف، والتفريط في بحثه واستقرائه استقراء كافيا، يحرر نقطة النزاع، ويتحرى الصدق في الرواية، وينقب عن خلفيات الوقائع وبواعثها. والخوض مع الجهل مخالفة لتحذير الخالق سبحانه: »ولا تقف ما ليس لك به علم« (29) كما هو مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حول القضاة الثلاثة، حيث جعل القاضي بجهلٍ في النار (30).

- الظلم لأحد الطرفين المختلفين، تعصبا ضده وتجاوزا، أو إغضاء عن الطرف الآخر ومجاملة، رغم أن الله تعالى حذرنا من أن نندفع مع غريزة العداء، أو أن تستخفنا الخصومة، فنتجاوز حدود بيان الحق و الأخذ به، إلى الظلم والتعدي على المخالفين. كما أمرنا بالشهادة بالقسط، ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، فقال تعالى: »ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى« (31) وقال جل من قائل: »يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا« (32).

تلك هي المعاني التي استصحبها ابن تيمية، فأوصى أن لا يخوض في هذا الموضوع إلا من تسلح بالعلم والعدل، وإلا فليترك الأمر لأهله، ويفوض الخلافات إلى رب العباد الحكَم العدل. ولم يجعل ابن تيمية مسألة "الكف عما شجر بين الصحابة" مسألة اعتقادية –كما فعل بعض من لا يميزون بين الوحي والتاريخ – وإنما بين أن جماع الأمر كله هو العلم والعدل، فلا مانع عنده أن يخوض المسلم في ذلك »إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل، وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله« (33).

وقد ألح شيخ الإسلام على تحري العلم والعدل في هذا الموضوع في أكثر من كتاب من كتبه:

- فأعلن أن »الدين كله العلم والعدل« (34) وأن »الله يحب الكلام بعلم وعدل، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتنزيل الناس منازلهم« (35) وقد صدق في ذلك وأحسن، فبالعلم والعدل ومن أجلهما أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل يعلَّمون الناس الكتاب والحكمة، ويدلونهم على منهج القيام بالقسط، قال تعالى: »هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة« (36) وقال جل من قائل: »لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط« (37).

- وأن السنة مبناها العلم والعدل، وذلك هو منهج المنتسبين إليها صدقا لا ادعاء، فقال: »وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله. فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه، ويعتصم بحبل الله، فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله« (38) وقال: »..وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل، ولا من أهل الأهواء، ويتبرأون من طريقة الروافض والنواصب جميعا، ويتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم، ولا يرضون بما فعله المختار [بن أبي عبيد] ونحوه من الكذابين، ولا بما فعله الحجاج [بن يوسف] ونحوه من الظالمين« (39) وهكذا فإن »أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل، ويعطون كل ذي حق حقه« (40). وابن تيمية يتحدث هنا عما ينبغي أن يكون، أما ما كان بالفعل، فإن بعض المنتسبين إلى السنة لم يلتزموا ذلك، كما سنوضحه في هذه الدراسة من خلال كلام ابن تيمية نفسه، ومن خلال الأمثلة التي نوردها في نهاية البحث.

- وأن العلم والعدل إذا كانا مطلوبين في الفروع الجزئية، فهما في "المقالات" – ذات الصلة بأصول الدين وكليات الشريعة - أولى، والناس إليهما أحوج، فقال:»فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار" . فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه، وأمره ووعده ووعيده« (41). وفي هذا موعظة للمجترئين على الخوض في هذه الموضوعات بغير علم ولا عدل، والمطلقين الكلام فيها على عواهنه دون تحر أو تدقيق.

- وأن هذا هو منهج الراسخين في العلم من أعلام الأمة، فقال: »ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يُثنى عليه ويُحمَد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهو الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بُعَداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس« (42).

- وأن المناظرة العلمية في أمور الخلاف لا تصلح بغير هذين المبدأين، وتلك هي »المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل، لا بجهل وظلم« (43). ومن لم يلتزم بذلك فهو إلى البدعة أقرب منه إلى السنة مهما كانت التسميات، لأن السنة طريق ومنهاج، وليست شعارا وادعاء، فقال: »والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع« (44).

- وأن تحري العلم والعدل في الحديث عما شجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم أمر لا مناص منه، وهو أولى وأحرى من تحري ذلك في الحديث عن خلافات غيرهم من عموم المسلمين، قال: »والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر الصحابة أظهر« (45). »ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم. فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال« (46).




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)  Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28717
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)  Empty رد: الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس نوفمبر 11, 2010 9:49 am

- وأخيرا أن الذب عن الصحب الكرام ليس مبررا للخروج عن هذين المبدأين، بل »إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل« (47). فلا بد من التأكد أن كلام الخصم قدح بباطل، ولا بد أن يكون دفاعنا محكوما بقاعدتي العلم والعدل، وإلا فهو جهل وظلم، ورد لباطل بباطل. * أصول منهجية:

إن ما نطمح إليه في هذه الدراسة ليس حصر كلام ابن تيمية وتحليله للخلافات السياسية بين الصحابة – فذلك أمر خارج عن اهتمامنا – وإنما نطمح إلى استقراء بعض القواعد المنهجية التي ذكرها ابن تيمية في كتاباته تصريحا، أو أمكن استنباطها تلميحا من خلال تحليلاته لتلك الخلافات. فهذا البحث يتعلق بالأصول المنهجية الكلية في التعامل مع تلك الخلافات، لا بتفاصيل تلك الخلافات وجزئياتها. وقد دعا إلى ذلك ما عايشناه ورأيناه من انحرافات منهجية عند بعض الخائضين في الموضوع والمتناظرين فيه، أخرجتهم عن حدود العلم والعدل، رغم حسن النيات وسلامة القصد في الغالب. وقد بين ابن تيمية أهمية تلك الأصول الكلية والمبادئ المنهجية العامة في التزام العلم والعدل، فقال: »لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فسيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم« (48).

هذه الكليات المنهجية هي أثمن ما قدمه ابن تيمية في هذا المجال حسبما نرى، وهي كليات لا يستغني عنها الباحث في التاريخ الإسلامي والفقه السياسي الإسلامي.

أما التحليلات الجزئية التي قدمها ابن تيمية فقد اشتملت على بعض الأخطاء الخفيفة في الرواية أو التحليل، سنبين نماذج منها في ثنايا هذه الدراسة. فلسنا نتمذهب بحروف أقوال الشيخ، ولا نرى غضاضة في رفض بعضها، إذا تبين ضعف في سندها، أو تكلف في تقديمها، وهو أمر نادر في كل الأحوال.

ومهما يكن فإن هذه الرسالة ليست دراسة وافية للخلافات السياسية بين الصحابة، ولا حشدا لكل ما كتبه ابن تيمية في الموضوع، بل مجرد قواعد منهجية حاولنا استنباطها من كتاباته السياسية، وقد أنعم الله بصحبتها زمنا. وربما نزيد أحيانا تحليلات لبعض علماء الحديث، كالحافظين الجليلين الذهبي وابن حجر. وهي قواعد نرجو أن يكون فيها ما يساعد الباحث عن الحق، الطامح إلى فهم أبعاد تلك الخلافات وخلفياتها، المقتنع بأهمية ذلك الفهم لبناء مستقبل الأمة. * روابط ذات صلة :

- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (6/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (5/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (4/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (3/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6) * الهوامش :

[1] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 35/51
[2] مجمع الزوائد 7/265 وقال الهيثمي : "رواه الطبراني في الصغير، والكبير بنحوه … ورجاله رجال الصحيح غير سلام أبي المنذر، وهو ثقة، ورواه البزار"
[3] سورة طه، الآية 121
[4] سورة هود، الآية 47
[5] سورة ص، الآية 24
[6] سورة ، ص الآية 34
[7] سورة يوسف ، الآية 24
[8] سورة القصص ، الآية 16
[9] سورة عبس ، الآيتان 1-2
[10] سورة التوبة ، الآية 43
[11] سورة الإسراء، الآية 95
[12] البخاري 6/2600
[13] البخاري 3/1375 وأحمد 4/265
[14] البخاري : التاريخ الصغير 1/83 وانظر أيضا: نعيم بن حماد: كتاب الفتن 1/86
[15] فتح الباري 13/58
[16] الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/178
[17] سير أعلام النبلاء 2/179 وقال الذهبي :"صححه الترمذي وفي بعض النسخ : هذا حديث حسن"
[18] فتح الباري13/58
[19] فتح الباري 13/59
[20] منهاج السنة 6/258
[21] ابن الجوزي : صيد الخاطر ص 89
[22] فتح الباري 13/ 59
[23] منهاج السنة 4/544
[24] مجموع الفتاوى 4/513
[25] مجموع الفتاوى 35/190
[26] مجموع الفتاوى 35/21
[27] مجموع الفتاوى 35/24
[28] صحيح مسلم 1/14
[29] سورة الإسراء – الآية 36
[30] سيأتي تخريج الحديث قريبا
[31] سورة المائدة – جزء من الآية 8
[32] سورة النساء – الآية 135
[33] منهاج السنة 6/254
[34] الفتاوى 28/179
[35] الفتاوى12/205
[36] سورة الجمعة – الآية 2
[37] سورة الحديد – الآية 25
[38] الفتاوى 3/409
[39] منهاج السنة 2/71
[40] منهاج السنة 4/358
[41] ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل 8/409 ، وحديث "القضاة ثلاثة .." رواه بألفاظ مختلفة : الحاكم 4/101 والبيهقي في الكبرى 10/117 وفي الشعب 6/73 والترمذي 3/613 والطبراني في الأوسط 7/39 وفي الكبير 2/21
[42] الفتاوى 11/43
[43] منهاج السنة 2/343
[44] منهاج السنة 4/337
[45] منهاج السنة 5/133
[46] منهاج السنة 5/126
[47] منهاج السنة 6/254
[48] منهاج السنة 5/83 وانظر نفس المعنى في الفتاوى 19/203

المصدر: خاص - الوحدة الإسلامية




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)  Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28717
السٌّمعَة : 23
العمر : 45
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى