الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (4/6)
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان :: ساحة التقارب السني الشيعي
صفحة 1 من اصل 1
الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (4/6)
القاعدة الثامنة عشرة :
اجتناب التكلف في التأول والتأويل إن باب التأويل باب واسع دخل منه الانحراف في العقيدة وفي الشريعة، لأنه يؤدي إلى تسويغ ما لا يستساغ، وتسهيل العظائم. وليس التأويل المضر هو ذلك المتعلق بالعقيدة فقط، كما يفهم البعض اليوم، بل إن باب التأول والتأويل يضر كل تعاليم الإسلام. وقد أفرد ابن القيم رحمه الله التأويل بحديث مستفيض بين فيه أضراره ومساوئه. فقال: »..وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية من باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل. فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل. وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟ وماالذي سفك دم علي رضى الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضى الله تعالى عنهم غير التأويل؟ وماالذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟ وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟« (254).
وفي دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم حري بالباحثين أن يتذكروا أثر التكلف في التأويل والتأول في طمس معالم المبادئ الإسلامية، وتمييع المعايير الشرعية، وهو أمر يقود إلى استسهال الناس الإتيان بكل الموبقات السياسية، من قتل الأنفس المحرمة، والاستبداد بالأمر، والإيثار والاستئثار بالسلطة والثروة، والتساهل مع الظلم والبغي، وتجاهل قيم الشورى والعدل في القَسْم والحكم..الخ بسبب التبرير الذي يقوم به البعض لأعمال بعض الأكابر والأصحاب، ممن استزلهم الشيطان في بعض المواقع، فلم يلتزموا بتعاليم الإسلام في بعض المواقف السياسية.
إن مكانة الأشخاص بمن فيهم الصحب الكرام لا يجوز اتخاذها ذريعة لطمس المبادئ الجليلة التي يستمد منها أولئك الأشخاص مكانتهم، وإلا وقعنا في تناقض، وخذلنا الإسلام من حيث أردنا أن ننصره.
وهنا تكمن ميزة ابن تيمية الذي استطاع أن يحافظ على قدر من التوازن، رغم أن الدافع لأغلب كتاباته السياسية هو الدفاع عن أشخاص الصحب الكرام. لكنه استطاع أن يجمع بين عمل المحامي وعمل القاضي، فلم يترك دفاعه يتحول إلى غض من المبادئ، أو تبرير للظلم السياسي، كما وقع لابن العربي وآخرين. وما نحتاحه اليوم هو الدفاع عن المبادئ أكثر، إذا أريد لهذه الأمة أن تستعيد شيئا من كرامتها، وتعيش طبقا لرسالتها الخالدة. * القاعدة التاسعة عشرة :
التدقيق في المفاهيم والمصطلحات إن من أعظم الحواجز التي تمنع المسلمين المعاصرين من دراسة حياة الصدر الأول دراسة اعتبار وتدبر وتقويم، القول بأن ذلك فيه سب للصحابة رضي الله عنهم، وطعن في عدالتهم، و"خوض" فيما امتنع أهل العلم من أهل السنة عن الخوض فيه. لكن كل هذه الحواجز عند التمحيص ترجع إلى لبس في الاصطلاح، وعدم فهم العديد من المسلمين اليوم لمدلول مصطلحات مثل: "عدالة الصحابة" و"السب" و"الخوض" .. في معناها الشرعي الأصلي، أو في معناها الاصطلاحي الذي قصده السالفون من علماء الإسلام. وفيما يلي توضيحات لبعض أوجه اللبس في هذه المصطلحات:
لقد سبق أن أوردنا قول الحافظ الذهبي في يزيد بن معاوية: "ويزيد ممن لا نسبه ولا نحبه..". ثم رأينا كيف أشفع ذلك بوصف يزيد بأنه: "كان ناصبيا فظا غليظا جلفا، يتناول المسكر ويفعل المنكر". فهل هذا تناقض من الحافظ الذهبي؟ وهل يوجد سب أفظع مما قاله في يزيد؟ الحق أنه ليس تناقضا، وإنما يرجع الأمر إلى مصطلح السب ومعناه كما كان يفهمه الحافظ الذهبي في سياق حديثه عن تاريخ صدر الإسلام.
إن مصطلحات "السب" و"الشتم" و"الذم" في سياق الفتن السياسية في صدر الإسلام لا تعني شيئا آخر غير اللعن، رغم أن هذه الألفاظ في وضعها اللغوي تشمل ما هو دون ذلك من أية أوصاف مستهجنة. وقد دخلت هذه المصطلحات – بمعنى اللعن - الفكر السياسي الإسلامي مع استيلاء معاوية على السلطة وتحويلها ملكا. وأوردنا من قبل جملة من النصوص التي تفيد ذلك. ومنها حديث سهل بن سعد »استُعمِل على المدينة رجل من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم عليا، قال: فأبى سهل، فقال له: أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب..« (255). فأنت ترى أن الأمير الأموي ما قصد بالشتم هنا إلا اللعن، ولذلك رجع فقال:" أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب". وفي قول ابن تيمية: »ويزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين« (256) دليل آخر على ترادف السب واللعن في عرف الناس يومذاك.
وحينما سمى ابن الجوزي كتابه: "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" لم يقصد بـ"ذم" يزيد سوى اللعن، فهو موضوع الخلاف بينه وبين الشيخ عبد المغيث ولذلك قال ابن تيمية عن الخلاف بين ابن الجوزي وعبد المغيث: »وأما أبو الفرَج بن الجوزي فله كتاب في إباحة لعنة يزيد، رد فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي، فإنه كان ينهى عن ذلك« (257).
فمدار الخلاف هنا هو اللعن، أما ذم يزيد بالمعنى اللغوي، وذكر قبائحه ومساوئه فهو أمر اتفق عليه لاعنوه والناهون عن لعنه. ولو كان المراد بالسب معناه اللغوي الوضعي، لما قال الحافظ الذهبي في يزيد ما قال، في حين يعلن إمساكه عن سبه.
ومن المصطلحات التي وقع فيها اللبس واستحالت حاجزا ذهنيا ونفسيا أمام دراسة تلك الحقبة مصطلح "عدالة الصحابة"، فقد خلط كثيرون بين عدالة الرواية – والمطلوب فيها هو الصدق والتدقيق في المروي – وعدالة السلوك بمعناها الفقهي القضائي التي تستلزم "اجتناب الكبائر وعدم الوقوع في الصغائر إلا نادرا، واجتناب المباح القادح في المروءة" كما يقول الفقهاء.
وعدالة الصحابة التي يتحدث عنها أهل الحديث ليست سوى عدالة الرواية، وإلا فقد وقع من بعضهم ما استدعى إقامة الحد عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، كما أصاب بعضهم ذنوبا ومعاصي مسطرة في صحاح الأحاديث، دون أن يعتبر ذلك قادحا في صدقه فيما ينقله من حديث.
لقد انطلق أهل الحديث من التسليم بعدالة الرواية لدى جميع الصحابة، دون حاجة إلى البحث في خلفياتهم، وقد أحسنوا في ذلك، لأن مجال الرواية مجال ظني، ويكفي من تحصيل الظن بالصدق هنا غلبة الخير على جيل الصحابة، واستعظام الناس للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الجيل، وقد سمى الحافظ العلائي ذلك "استصحاب الحال" أي الحكم بالغالب على أهل ذلك الجيل الخيِّر من صدق في الرواية وحذر من المجازفة في النقل، فقال: »..وبهذا يتبين أنه ليس المعني بعدالة كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن العصمة له ثابتة، والمعصية عليه مستحيلة، ولكن المعنيُّ بها أن روايته مقبولة وقوله مصدَّق، ولا يحتاج إلى تزكية، كما يحتاج غيره إليها، لأن استصحاب الحال لا يفيد إلا ذلك« (258). وقد أفرد الهيثمي بابا في مجمعه بعنوان: "باب لا تضر الجهالة بالصحابة لأنهم عدول" ثم أورد حديثا: »عن حُميد قال: كنا مع أنس بن مالك فقال: والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذِب بعضنا بعضا« (259). ثم أيد الاستقراء والتجربة هذا النقل، فقال ابن تيمية: »وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – ولله الحمد – أصدق الناس حديثا عنه، لا يُعرف فيهم من تعمد عليه كذبا، مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع، ولهم ذنوب وليسوا بمعصومين. ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان [=علماء الجرح والتعديل] أحاديثهم، واعتبروها بما تُعتبر به الأحاديث [من تمحيص] فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كِذبة« (260) وهذا أمر يشمل من سلكوا مسلكا سياسيا لا يصلح، مثل معاوية وغيره، فقد قال ابن عباس: »ما كان معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متهما« (261) وقال محمد بن سيرين: » وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم« (262) و»عن القاسم بن محمد عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "إن صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا" قال: فتعجب الناس من صدق معاوية« (263).
لكن بعض المتأخرين أساءوا فهم عدالة الصحابة، وفهموا من هذا المصطلح أن الصحابي لا يذنب إلا متأولا، وأن كل ما صدر عن بعضهم من اختلاف واقتتال مجرد اجتهاد، ولا مجال فيه للهوى والمطامح الدنيوية. وهذا غلو وتنكر لحقائق الشرع والتاريخ والطبيعة البشرية.
إن الذي يسوي بين عمار بن ياسر وبين قاتله أبي الغادية الجهني في العدالة وفي الاجتهاد المأجور صاحبه سواء أخطأ أم أصاب.. لهو ممن لا بصيرة لهم. علمًا بأن أبا الغادية صحابي، بالمعنى الاصطلاحي المتوسع الذي يأخذ به أهل الحديث. وقد ترجم الحافظ الذهبي لأبي الغادية في "سير أعلام النبلاء" تحت عنوان: "أبو الغادية الصحابي" (264) و»قال البخاري: له صحبة« (265) وقال مسلم: »له صحبة« (266) ومع ذلك قال الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي الغادية: »أبو الغادية الجهني: اسمه يسار بن سبع، سكن الشام ونزل واسط، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" روى عنه كلثوم بن جبر وغيره، وكان محبا لعثمان، وهو الذي قتل عمار بن ياسر، وكان إذا استأذن على معاوية وغيره يقول: "قاتل عمار بالباب" يتبجح بذلك. وانظر إلى العجب: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن القتل ثم يقتل مثل عمار« (267) وقد روى الإمام أحمد عن أبي الغادية حديث: »إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام« (268) قال ابن حجر: »فكانوا يتعجبون منه أنه سمع "إن دماءكم وأموالكم [عليكم] حرام" ثم يقتل عمارا« (269). وقد قال كلثوم بن جبر عن أبي الغادية، وهو الذي روى عنه تبجحه بقتل عمار: »لم أر رجلا أبْيَن ضلالة منه« (270).
فهل يصلح وضع عمار بن ياسر وأبي الغادية في سياق واحد بحجة الصحبة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: »من يعاد عمارا يعاده الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله« (271) فما بالك بمن سفك دم عمار باغيا عليه؟
إن جيل الصحابة لم يكن غير مجتمع بشري فيه الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله، و ليست غلبة الخير على أهل ذلك الجيل مسوغا كافيا للتعميم والإطلاق، وإضفاء صفات القدسية على كل فرد فيه، مما يناقض حقائق الشرع قبل حقائق التاريخ. وإذا كان لأهل الحديث مبررهم في قبول رواية كل الصحابة دون استثناء، فإن تحويل عدالة الرواية هنا إلى عدالة في السلوك يشمل كل الصحابة خلطٌ في الاصطلاح، وتنكر للحقيقة الساطعة لا يليق بالمسلم الذي يؤثر الحق على الخلق مهما سموْا.
ومن المصلحات المثيرة للبس في أذهان طلاب العلم وعامة المسلمين مصطلح "الكف عما شجر بين الصحابة" الذي تردد ذكره في كتب العقائد والمقولات والفرق، حتى أصبح يعد أصلا من أصول أهل السنة والجماعة. وقد ذكر اللالكائي من "اعتقاد أهل السنة": »الترحم على جميع أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] والكف عما شجر بينهم« (272).
ومرد اللبس هنا أيضا هو عدم فهم المصطلح في السياق الزمني الذي استخدمه علماء الإسلام فيه. فقد أراد أعلام الإسلام بهذا المصطلح معنيين: أولهما إلجام من لم يتسلح بتفاصيل تلك الأحداث ودقائقها من المصادر الموثوقة عن الخوض فيها أصلا، حذرا من المجازفة في النقل والكذب على الأصحاب، والثاني: النهي عن الخوض المؤدي إلى لعن الصحابة أو تكفيرهم.. مما اعتاد المبتدعة على فعله.
لكن الخلَف فهموا من كلام السلف هنا غير ما أرادوا، وأوَّلوه على أن المراد به الإمساك مطلقا عن الحديث في الموضوع أو تناوله، ولو لغرض التأصيل الشرعي والاعتبار التاريخي، فضيقوا واسعا، وألزموا الناس بما لا يلزم.
ولو أن أعلام الإسلام فهموا "الكف عما شجر بين الصحابة" كما يفهمه الناس اليوم، لما سودوا آلاف المجلدات في هذا الموضوع، لكنهم قضدوا قصدا آخر. فهذا الحافظ الذهبي مثلا يقول: »سبيلنا أن نستغفر للكل، ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم« (273) ويقول في موضع آخر:»سبيلنا الكف والاستغفار للصحابة، ولا نحب ما شجر بينهم، ونعوذ بالله منه، ونتولى أمير المؤمنين عليا« (274). ونحن نعلم أن الذهبي كتب آلاف الصفحات في تلك الحوادث، ولو جُمع ما كتبه عنها في كتابيه "تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" وحدهما لتحصَّلت من ذلك مجلدات ضخمة.. وما يصدق على الذهبي يصدق على ابن تيمية وعلى ابن كثير وآخرين غيرهم من أعلام أهل السنة. * القاعدة العشرون:
التمييز بين الخطإ والخطيئة، بين القصور والتقصير من أعظم أسباب الخلط في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم الخلط السائد بين الخطإ والخطيئة، والحكم على الأفعال بنتائجها لا بصورتها ومراميها.
ومن أمثلة ذلك أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه ارتكب بعض الأخطاء السياسية في تعامله مع أهل الجمل وصفين ومع الخوارج، وقد توصل كثيرون ممن درسوا تلك الحقبة التاريخية بأثر رجعي إلى أن عليا كان من الأفضل له أن لا يندفع في تتبع أهل الجمل، وأن الأولى به أن يجامل معاوية ويداريه بتثبيته على الشام حتى يستتب الأمر وتستقر النفوس بعد مقتل الشهيد عثمان، ثم يعمد إلى عزله بعد ذلك إن شاء. وأن يداري الخوارج ويخليهم وشأنهم وهو مهدد من طرف عدو أقوى منهم وأحسن تنظيما وتخطيطا، وأخطر على نظام الخلافة الذي كان الخوارج – على انحرافهم – يؤمنون به إيمانا راسخا.
وارتكب الحسين بن علي بعض الأخطاء بمبالغته في تقدير قوة أنصاره بالعراق، وعدم استيعابه للمعادلة السياسية والعسكرية القائمة هنا، وللتغيير الأخلاقي والنفسي الذي دخل على المجتمع مع اتساع الفتوح، مما جعل قلوب بعض الناس معه وسيوفهم عليه..
ومن أمثلة ذلك أيضا إساءة التقدير الذي وقع فيه أهل المدينة في ثورتهم على يزيد بن معاوية، والتي انتهت بفاجعة "الحرَّة"، واتخذها يزيد ذريعة ليعيث فسادا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ويستأصل بقية الصحابة..
ومن أمثلته تعويل عبد الله بن الزبير على قوة قوم سرعان ما انسحبوا من المعمعة، وتركوه في ثلة من أصحابه الأبطال يواجهون بطش الحجاج بن يوسف ودمويته، وانتهاكه لحرمات الإسلام وبيت الله الحرام.
وكان من أسباب كل هذه الأخطاء أن أهل المدينة والحجاز في مركز الخلافة اعتادوا على جيوش الجهاد، وهي جيوش تطوعٍ يدفعها الإيمان للقتال، وفي ظروف تكون الراية واضحة لا لبس فيها. وكان جيش الشام قد تحول مع الزمن إلى جيش نظامي، بعد أن أدخل معاوية النظام الإداري والعسكري الموروث عن الدولة البيزنظية في الشام. ثم أصبحت الراية أقل وضوحا لأن القتال الآن ليس بين مسلم وكافر، بل بين مسلم عادل ومسلم باغ.
ولم يكن جيش من المتطوعين في هذه الظروف ليستطيع هزيمة جيش نظامي، ولا كانت النفوس تجود بالقتل كما كانت أيام الفتوح والغزوات. ولعل أولئك السادة لم يستوعبوا تلك الحقيقة الجديدة، ابتداء من علي، مرورا بالحسين وأهل المدينة، وانتهاء بابن الزبير.
لكن الخلط المنهجي يدخل على بعض الباحثين هنا، حين يسوُّون بين الخطإ السياسي والعسكري الذي اجتهد صاحبه في طلب الحق، والتزم قواعد الشرع في مسعاه، وبين الخطيئة الشرعية والمبدئية التي لم يبذل صاحبها جهدا في طلب الحق، ولا التزم مبادئ الشرع في مسعاه..
فكون عليٍّ والحسين وأهل المدينة وابن الزبير أخطأوا التقدير السياسي أو العسكري لا يجعلهم مذنبين، بل هم اجتهدوا في طلب الحق ونصرته، بوسائل الحق وأدواته، فخطؤهم من النوع المرفوع الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم: »إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه« (275). بل هو من الاجتهاد الذي يؤجر صاحبه سواء أصاب أم أخطأ، كما قال صلى الله عليه وسلم »إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر« (276).
لقد قاتل علي والحسين وأهل المدينة وابن الزبير من أجل الحق والعدل، وقاتل خصومهم من أجل السلطة والثروة. فليس من الحق أو الإنصاف وضع الطرفين في سياق واحد، وتسوية خطإ أحدهما بخطيئة الآخر. ولذا قال الحافظ الذهبي إن "أهل المدينة قاموا لله" في ثورتهم على يزيد، وقد أوردنا كامل كلامه من قبل. وقال ابن العربي عن الحسين إنه ثار "غضبا للدين وقياما بالحق"، وسيأتي كلامه فيما بعد.
ومن المعلوم أن الخالق سبحانه لم يضمن النصر الدنيوي لكل من جاهدوا في سبيله، وإنما ضمن لهم إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
فالمعيار الصحيح في الحكم هو السعي إلى الحق، والتزام قواعد الشرع في ذلك المسعى، وليس النتيجة الدنيوية المترتبة على الفعل.
إن القرآن الكريم يعلمنا أن ارتكاب خطإ عملي لا يعني بالضرورة أن صاحبه آثم، ولا يترتب عليه نقص من جهده وجهاده في العاقبة. ففي ذلك التعقيب القرآني الجميل على غزوة أحد بين القرآن الكريم للمسلمين دون مواربة أنهم قصَّروا فأصيبوا: »قل هو من عند أنفسكم« (277) لكنه أعلن لهم دون لبس أن قتلاهم شهداء :»وليتخذ منكم شهداء« (278).
ومن أحسن الأمثلة على التمييز بين الخطإ والخطيئة بالمعنى الذي نقصده هنا، ما فعله العلامة ابن خلدون. فحينما تحدث ابن خلدون في مقدمته عن مقتل الشهيد الحسين رضي الله عنه في كربلاء ، بيَّن أن الحسين ارتكب خطأ في تقديره لاستعداد أتباعه في العراق وقوتهم ، لكن ابن خلدون لم يغفل التنبيه على أن ذلك »خطأ دنيوي، وليس دينيا« حسب تعبيره (279) أي أنه قصور في الخطة والأداء، وليس تقصيرا في الشرع والمبدإ، فهو خطأ لا خطيئة، بخلاف ما فعله أعداؤه، فهو جريمة وخطيئة منكرة.
وما قاله ابن خلدون عن الحسين يمكن قوله عن علي وأهل المدينة وابن الزبير وابن الأشعث، وكل من بذل دمه من أجل تثبيت أو استرداد الخلافة الراشدة في القرن الأول الهجري، ثم أخفق في ذلك أمام كثافة القوة وبطشها.
وهذه المعادلة التي تميز بين القصور والتقصير وبين الخطإ والخطيئة هي التي تعوز دارسي تاريخ الصدر الأول اليوم. * القاعدة الحادية والعشرون :
التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري لقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة حول الفتن، وما سيصيب هذه الأمة في تاريخها من بلايا ومصائب، وحروب داخلية، وتمزقات مذهبية وطائفية. ويكفي مطالعة أبواب "الفتن والملاحم" في كتب الحديث للاطلاع على ذلك.
لكن كثيرا من المسلمين – ومنهم علماء أجلة – فهموا هذه الأحاديث فهما جبريا، لأنهم لم يحسنوا التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدَري.
أما الخطاب الشرعي – في عرف الأصوليين – فهو الذي يتضمن أمرا ونهيا، وهو يتوجه إلى الضمير الخلقي لدى المؤمن، وينير له طريق حياته العملية. وأما الخطاب القدَري فهو يدخل في نطاق الغيبيات، ولا ينبني عليه فعل أو ترك، بل إيمان وتصديق.
ومن أمثلة الخطاب القدري ذات الصلة بموضوعنا هذا حديث عامر بن سعد عن أبيه »أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يُهلك أمتي بالغرَق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها« (280).
فحينما يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره أن هذه الأمة ستشهد اقتتالا وفتنا مريرة، فهذا خطاب قدري نؤمن بأنه سيقع. لكن يجب لا ننسى أن الخطاب الشرعي يطالبنا بأمر آخر أكثر من مجرد الإيمان بوقوع الفتن والاقتتال.. إنه يطالبنا بالإصلاح بين المؤمنين، والوقوف في وجه الباغي، والأخذ على يد الظالم: »وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ..« (281).
فإذا وقف المسلمون على الحياد، وقالوا: لا نصلح بين الإخوة، ولا نقاتل الباغي، لأن ما وقع هو مصداق لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم.. فلا شك أن هذا انحراف في فهم مقصود الشرع، وتخل عن المسؤولية الأخلاقية.
ومثل ذلك يقال في الأحاديث التي تنبأت بوقوع الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم، فالحياد الأخلاقي السائد في الفكر الإسلامي في تناول تلك الأحداث يرجع جزئيا إلى الخلط بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري. وهو حياد يحرِم المسلمين من الدراسة التقويمية للخلافات السياسية بين الصحابة، واستخلاص العبرة منها للمستقبل.
لذا فإن التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري أداة منهجية مهمة في دراسة تلك الحقبة التاريخية ورجالاتها. * القاعدة الثانية والعشرون :
الحكم بالظواهر والله يتولى السرائر وهذه القاعدة هي جماع الأمر كله وخلاصته، ولو التزمها المسلمون لوفرت عليهم الكثير من الجدل والمراء حول هذا الموضوع، ولمكنتهم من دراسة تاريخ الصدر الأول دراسة اعتبارية، تضمن لهم الحفاظ على مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ في ذات الوقت، وتفيد حاضرهم ومستقبلهم، وتقيهم مزالق الماضي وامتداداتها السلبية في الحاضر، وخطرها على المستقبل.
وقد انبنت شريعة الإسلام كلها على أخذ الناس بظاهر أمرهم، وإيكال سرائرهم إلى الله عز وجل. ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول: »إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة« (282). وليس مَن حاكَمَ الناس بظواهرهم بظالم لهم، حتى ولو أخطأ الحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي أعلن على الملإ: »إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذْه، فإنما أقطع له قطعة من النار« (283).
ولو أن الباحثين في الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم احتكموا إلى هذه القاعدة، دون تنقيب في السرائر، ودون تكلف في التأويل والتأول، لوفروا عليهم كثير وقت وجهد، ولأمكن استخلاص العبرة والخبرة من خلافات الصدر الأول بما يفيد حاضر الإسلام ومستقبله.
إن الذي يلتزم بقواعد الشرع في الحكم بالظواهر، يدرك أن التباينات السياسية بين الصحابة بدأت ليلة السقيفة، وتجلت أكثر ما تجلت في إحجام علَمين من أعلام الصحابة عن بيعة الصديق، هما علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة على نحو ما بينا وسنبينه فيما بعد، لكن ورع ذانك العلَمين وسلطة المجتمع الراشد في عهد الخلافة الراشدة، دفعت عليا إلى مراجعة الحق، كما دفعت سعدا إلى الاعتزال دون إثارة فتنة أو خلاف.
اجتناب التكلف في التأول والتأويل إن باب التأويل باب واسع دخل منه الانحراف في العقيدة وفي الشريعة، لأنه يؤدي إلى تسويغ ما لا يستساغ، وتسهيل العظائم. وليس التأويل المضر هو ذلك المتعلق بالعقيدة فقط، كما يفهم البعض اليوم، بل إن باب التأول والتأويل يضر كل تعاليم الإسلام. وقد أفرد ابن القيم رحمه الله التأويل بحديث مستفيض بين فيه أضراره ومساوئه. فقال: »..وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية من باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل. فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل. وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟ وماالذي سفك دم علي رضى الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضى الله تعالى عنهم غير التأويل؟ وماالذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟ وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟« (254).
وفي دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم حري بالباحثين أن يتذكروا أثر التكلف في التأويل والتأول في طمس معالم المبادئ الإسلامية، وتمييع المعايير الشرعية، وهو أمر يقود إلى استسهال الناس الإتيان بكل الموبقات السياسية، من قتل الأنفس المحرمة، والاستبداد بالأمر، والإيثار والاستئثار بالسلطة والثروة، والتساهل مع الظلم والبغي، وتجاهل قيم الشورى والعدل في القَسْم والحكم..الخ بسبب التبرير الذي يقوم به البعض لأعمال بعض الأكابر والأصحاب، ممن استزلهم الشيطان في بعض المواقع، فلم يلتزموا بتعاليم الإسلام في بعض المواقف السياسية.
إن مكانة الأشخاص بمن فيهم الصحب الكرام لا يجوز اتخاذها ذريعة لطمس المبادئ الجليلة التي يستمد منها أولئك الأشخاص مكانتهم، وإلا وقعنا في تناقض، وخذلنا الإسلام من حيث أردنا أن ننصره.
وهنا تكمن ميزة ابن تيمية الذي استطاع أن يحافظ على قدر من التوازن، رغم أن الدافع لأغلب كتاباته السياسية هو الدفاع عن أشخاص الصحب الكرام. لكنه استطاع أن يجمع بين عمل المحامي وعمل القاضي، فلم يترك دفاعه يتحول إلى غض من المبادئ، أو تبرير للظلم السياسي، كما وقع لابن العربي وآخرين. وما نحتاحه اليوم هو الدفاع عن المبادئ أكثر، إذا أريد لهذه الأمة أن تستعيد شيئا من كرامتها، وتعيش طبقا لرسالتها الخالدة. * القاعدة التاسعة عشرة :
التدقيق في المفاهيم والمصطلحات إن من أعظم الحواجز التي تمنع المسلمين المعاصرين من دراسة حياة الصدر الأول دراسة اعتبار وتدبر وتقويم، القول بأن ذلك فيه سب للصحابة رضي الله عنهم، وطعن في عدالتهم، و"خوض" فيما امتنع أهل العلم من أهل السنة عن الخوض فيه. لكن كل هذه الحواجز عند التمحيص ترجع إلى لبس في الاصطلاح، وعدم فهم العديد من المسلمين اليوم لمدلول مصطلحات مثل: "عدالة الصحابة" و"السب" و"الخوض" .. في معناها الشرعي الأصلي، أو في معناها الاصطلاحي الذي قصده السالفون من علماء الإسلام. وفيما يلي توضيحات لبعض أوجه اللبس في هذه المصطلحات:
لقد سبق أن أوردنا قول الحافظ الذهبي في يزيد بن معاوية: "ويزيد ممن لا نسبه ولا نحبه..". ثم رأينا كيف أشفع ذلك بوصف يزيد بأنه: "كان ناصبيا فظا غليظا جلفا، يتناول المسكر ويفعل المنكر". فهل هذا تناقض من الحافظ الذهبي؟ وهل يوجد سب أفظع مما قاله في يزيد؟ الحق أنه ليس تناقضا، وإنما يرجع الأمر إلى مصطلح السب ومعناه كما كان يفهمه الحافظ الذهبي في سياق حديثه عن تاريخ صدر الإسلام.
إن مصطلحات "السب" و"الشتم" و"الذم" في سياق الفتن السياسية في صدر الإسلام لا تعني شيئا آخر غير اللعن، رغم أن هذه الألفاظ في وضعها اللغوي تشمل ما هو دون ذلك من أية أوصاف مستهجنة. وقد دخلت هذه المصطلحات – بمعنى اللعن - الفكر السياسي الإسلامي مع استيلاء معاوية على السلطة وتحويلها ملكا. وأوردنا من قبل جملة من النصوص التي تفيد ذلك. ومنها حديث سهل بن سعد »استُعمِل على المدينة رجل من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم عليا، قال: فأبى سهل، فقال له: أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب..« (255). فأنت ترى أن الأمير الأموي ما قصد بالشتم هنا إلا اللعن، ولذلك رجع فقال:" أمَّا إذ أبيتَ، فقل: لعن الله أبا تراب". وفي قول ابن تيمية: »ويزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك، لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله، ولا يسبونه فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين« (256) دليل آخر على ترادف السب واللعن في عرف الناس يومذاك.
وحينما سمى ابن الجوزي كتابه: "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" لم يقصد بـ"ذم" يزيد سوى اللعن، فهو موضوع الخلاف بينه وبين الشيخ عبد المغيث ولذلك قال ابن تيمية عن الخلاف بين ابن الجوزي وعبد المغيث: »وأما أبو الفرَج بن الجوزي فله كتاب في إباحة لعنة يزيد، رد فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي، فإنه كان ينهى عن ذلك« (257).
فمدار الخلاف هنا هو اللعن، أما ذم يزيد بالمعنى اللغوي، وذكر قبائحه ومساوئه فهو أمر اتفق عليه لاعنوه والناهون عن لعنه. ولو كان المراد بالسب معناه اللغوي الوضعي، لما قال الحافظ الذهبي في يزيد ما قال، في حين يعلن إمساكه عن سبه.
ومن المصطلحات التي وقع فيها اللبس واستحالت حاجزا ذهنيا ونفسيا أمام دراسة تلك الحقبة مصطلح "عدالة الصحابة"، فقد خلط كثيرون بين عدالة الرواية – والمطلوب فيها هو الصدق والتدقيق في المروي – وعدالة السلوك بمعناها الفقهي القضائي التي تستلزم "اجتناب الكبائر وعدم الوقوع في الصغائر إلا نادرا، واجتناب المباح القادح في المروءة" كما يقول الفقهاء.
وعدالة الصحابة التي يتحدث عنها أهل الحديث ليست سوى عدالة الرواية، وإلا فقد وقع من بعضهم ما استدعى إقامة الحد عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، كما أصاب بعضهم ذنوبا ومعاصي مسطرة في صحاح الأحاديث، دون أن يعتبر ذلك قادحا في صدقه فيما ينقله من حديث.
لقد انطلق أهل الحديث من التسليم بعدالة الرواية لدى جميع الصحابة، دون حاجة إلى البحث في خلفياتهم، وقد أحسنوا في ذلك، لأن مجال الرواية مجال ظني، ويكفي من تحصيل الظن بالصدق هنا غلبة الخير على جيل الصحابة، واستعظام الناس للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الجيل، وقد سمى الحافظ العلائي ذلك "استصحاب الحال" أي الحكم بالغالب على أهل ذلك الجيل الخيِّر من صدق في الرواية وحذر من المجازفة في النقل، فقال: »..وبهذا يتبين أنه ليس المعني بعدالة كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن العصمة له ثابتة، والمعصية عليه مستحيلة، ولكن المعنيُّ بها أن روايته مقبولة وقوله مصدَّق، ولا يحتاج إلى تزكية، كما يحتاج غيره إليها، لأن استصحاب الحال لا يفيد إلا ذلك« (258). وقد أفرد الهيثمي بابا في مجمعه بعنوان: "باب لا تضر الجهالة بالصحابة لأنهم عدول" ثم أورد حديثا: »عن حُميد قال: كنا مع أنس بن مالك فقال: والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذِب بعضنا بعضا« (259). ثم أيد الاستقراء والتجربة هذا النقل، فقال ابن تيمية: »وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – ولله الحمد – أصدق الناس حديثا عنه، لا يُعرف فيهم من تعمد عليه كذبا، مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع، ولهم ذنوب وليسوا بمعصومين. ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان [=علماء الجرح والتعديل] أحاديثهم، واعتبروها بما تُعتبر به الأحاديث [من تمحيص] فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كِذبة« (260) وهذا أمر يشمل من سلكوا مسلكا سياسيا لا يصلح، مثل معاوية وغيره، فقد قال ابن عباس: »ما كان معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متهما« (261) وقال محمد بن سيرين: » وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم« (262) و»عن القاسم بن محمد عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: "إن صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا" قال: فتعجب الناس من صدق معاوية« (263).
لكن بعض المتأخرين أساءوا فهم عدالة الصحابة، وفهموا من هذا المصطلح أن الصحابي لا يذنب إلا متأولا، وأن كل ما صدر عن بعضهم من اختلاف واقتتال مجرد اجتهاد، ولا مجال فيه للهوى والمطامح الدنيوية. وهذا غلو وتنكر لحقائق الشرع والتاريخ والطبيعة البشرية.
إن الذي يسوي بين عمار بن ياسر وبين قاتله أبي الغادية الجهني في العدالة وفي الاجتهاد المأجور صاحبه سواء أخطأ أم أصاب.. لهو ممن لا بصيرة لهم. علمًا بأن أبا الغادية صحابي، بالمعنى الاصطلاحي المتوسع الذي يأخذ به أهل الحديث. وقد ترجم الحافظ الذهبي لأبي الغادية في "سير أعلام النبلاء" تحت عنوان: "أبو الغادية الصحابي" (264) و»قال البخاري: له صحبة« (265) وقال مسلم: »له صحبة« (266) ومع ذلك قال الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي الغادية: »أبو الغادية الجهني: اسمه يسار بن سبع، سكن الشام ونزل واسط، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" روى عنه كلثوم بن جبر وغيره، وكان محبا لعثمان، وهو الذي قتل عمار بن ياسر، وكان إذا استأذن على معاوية وغيره يقول: "قاتل عمار بالباب" يتبجح بذلك. وانظر إلى العجب: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن القتل ثم يقتل مثل عمار« (267) وقد روى الإمام أحمد عن أبي الغادية حديث: »إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام« (268) قال ابن حجر: »فكانوا يتعجبون منه أنه سمع "إن دماءكم وأموالكم [عليكم] حرام" ثم يقتل عمارا« (269). وقد قال كلثوم بن جبر عن أبي الغادية، وهو الذي روى عنه تبجحه بقتل عمار: »لم أر رجلا أبْيَن ضلالة منه« (270).
فهل يصلح وضع عمار بن ياسر وأبي الغادية في سياق واحد بحجة الصحبة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: »من يعاد عمارا يعاده الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله« (271) فما بالك بمن سفك دم عمار باغيا عليه؟
إن جيل الصحابة لم يكن غير مجتمع بشري فيه الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله، و ليست غلبة الخير على أهل ذلك الجيل مسوغا كافيا للتعميم والإطلاق، وإضفاء صفات القدسية على كل فرد فيه، مما يناقض حقائق الشرع قبل حقائق التاريخ. وإذا كان لأهل الحديث مبررهم في قبول رواية كل الصحابة دون استثناء، فإن تحويل عدالة الرواية هنا إلى عدالة في السلوك يشمل كل الصحابة خلطٌ في الاصطلاح، وتنكر للحقيقة الساطعة لا يليق بالمسلم الذي يؤثر الحق على الخلق مهما سموْا.
ومن المصلحات المثيرة للبس في أذهان طلاب العلم وعامة المسلمين مصطلح "الكف عما شجر بين الصحابة" الذي تردد ذكره في كتب العقائد والمقولات والفرق، حتى أصبح يعد أصلا من أصول أهل السنة والجماعة. وقد ذكر اللالكائي من "اعتقاد أهل السنة": »الترحم على جميع أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] والكف عما شجر بينهم« (272).
ومرد اللبس هنا أيضا هو عدم فهم المصطلح في السياق الزمني الذي استخدمه علماء الإسلام فيه. فقد أراد أعلام الإسلام بهذا المصطلح معنيين: أولهما إلجام من لم يتسلح بتفاصيل تلك الأحداث ودقائقها من المصادر الموثوقة عن الخوض فيها أصلا، حذرا من المجازفة في النقل والكذب على الأصحاب، والثاني: النهي عن الخوض المؤدي إلى لعن الصحابة أو تكفيرهم.. مما اعتاد المبتدعة على فعله.
لكن الخلَف فهموا من كلام السلف هنا غير ما أرادوا، وأوَّلوه على أن المراد به الإمساك مطلقا عن الحديث في الموضوع أو تناوله، ولو لغرض التأصيل الشرعي والاعتبار التاريخي، فضيقوا واسعا، وألزموا الناس بما لا يلزم.
ولو أن أعلام الإسلام فهموا "الكف عما شجر بين الصحابة" كما يفهمه الناس اليوم، لما سودوا آلاف المجلدات في هذا الموضوع، لكنهم قضدوا قصدا آخر. فهذا الحافظ الذهبي مثلا يقول: »سبيلنا أن نستغفر للكل، ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم« (273) ويقول في موضع آخر:»سبيلنا الكف والاستغفار للصحابة، ولا نحب ما شجر بينهم، ونعوذ بالله منه، ونتولى أمير المؤمنين عليا« (274). ونحن نعلم أن الذهبي كتب آلاف الصفحات في تلك الحوادث، ولو جُمع ما كتبه عنها في كتابيه "تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" وحدهما لتحصَّلت من ذلك مجلدات ضخمة.. وما يصدق على الذهبي يصدق على ابن تيمية وعلى ابن كثير وآخرين غيرهم من أعلام أهل السنة. * القاعدة العشرون:
التمييز بين الخطإ والخطيئة، بين القصور والتقصير من أعظم أسباب الخلط في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم الخلط السائد بين الخطإ والخطيئة، والحكم على الأفعال بنتائجها لا بصورتها ومراميها.
ومن أمثلة ذلك أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه ارتكب بعض الأخطاء السياسية في تعامله مع أهل الجمل وصفين ومع الخوارج، وقد توصل كثيرون ممن درسوا تلك الحقبة التاريخية بأثر رجعي إلى أن عليا كان من الأفضل له أن لا يندفع في تتبع أهل الجمل، وأن الأولى به أن يجامل معاوية ويداريه بتثبيته على الشام حتى يستتب الأمر وتستقر النفوس بعد مقتل الشهيد عثمان، ثم يعمد إلى عزله بعد ذلك إن شاء. وأن يداري الخوارج ويخليهم وشأنهم وهو مهدد من طرف عدو أقوى منهم وأحسن تنظيما وتخطيطا، وأخطر على نظام الخلافة الذي كان الخوارج – على انحرافهم – يؤمنون به إيمانا راسخا.
وارتكب الحسين بن علي بعض الأخطاء بمبالغته في تقدير قوة أنصاره بالعراق، وعدم استيعابه للمعادلة السياسية والعسكرية القائمة هنا، وللتغيير الأخلاقي والنفسي الذي دخل على المجتمع مع اتساع الفتوح، مما جعل قلوب بعض الناس معه وسيوفهم عليه..
ومن أمثلة ذلك أيضا إساءة التقدير الذي وقع فيه أهل المدينة في ثورتهم على يزيد بن معاوية، والتي انتهت بفاجعة "الحرَّة"، واتخذها يزيد ذريعة ليعيث فسادا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ويستأصل بقية الصحابة..
ومن أمثلته تعويل عبد الله بن الزبير على قوة قوم سرعان ما انسحبوا من المعمعة، وتركوه في ثلة من أصحابه الأبطال يواجهون بطش الحجاج بن يوسف ودمويته، وانتهاكه لحرمات الإسلام وبيت الله الحرام.
وكان من أسباب كل هذه الأخطاء أن أهل المدينة والحجاز في مركز الخلافة اعتادوا على جيوش الجهاد، وهي جيوش تطوعٍ يدفعها الإيمان للقتال، وفي ظروف تكون الراية واضحة لا لبس فيها. وكان جيش الشام قد تحول مع الزمن إلى جيش نظامي، بعد أن أدخل معاوية النظام الإداري والعسكري الموروث عن الدولة البيزنظية في الشام. ثم أصبحت الراية أقل وضوحا لأن القتال الآن ليس بين مسلم وكافر، بل بين مسلم عادل ومسلم باغ.
ولم يكن جيش من المتطوعين في هذه الظروف ليستطيع هزيمة جيش نظامي، ولا كانت النفوس تجود بالقتل كما كانت أيام الفتوح والغزوات. ولعل أولئك السادة لم يستوعبوا تلك الحقيقة الجديدة، ابتداء من علي، مرورا بالحسين وأهل المدينة، وانتهاء بابن الزبير.
لكن الخلط المنهجي يدخل على بعض الباحثين هنا، حين يسوُّون بين الخطإ السياسي والعسكري الذي اجتهد صاحبه في طلب الحق، والتزم قواعد الشرع في مسعاه، وبين الخطيئة الشرعية والمبدئية التي لم يبذل صاحبها جهدا في طلب الحق، ولا التزم مبادئ الشرع في مسعاه..
فكون عليٍّ والحسين وأهل المدينة وابن الزبير أخطأوا التقدير السياسي أو العسكري لا يجعلهم مذنبين، بل هم اجتهدوا في طلب الحق ونصرته، بوسائل الحق وأدواته، فخطؤهم من النوع المرفوع الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم: »إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه« (275). بل هو من الاجتهاد الذي يؤجر صاحبه سواء أصاب أم أخطأ، كما قال صلى الله عليه وسلم »إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر« (276).
لقد قاتل علي والحسين وأهل المدينة وابن الزبير من أجل الحق والعدل، وقاتل خصومهم من أجل السلطة والثروة. فليس من الحق أو الإنصاف وضع الطرفين في سياق واحد، وتسوية خطإ أحدهما بخطيئة الآخر. ولذا قال الحافظ الذهبي إن "أهل المدينة قاموا لله" في ثورتهم على يزيد، وقد أوردنا كامل كلامه من قبل. وقال ابن العربي عن الحسين إنه ثار "غضبا للدين وقياما بالحق"، وسيأتي كلامه فيما بعد.
ومن المعلوم أن الخالق سبحانه لم يضمن النصر الدنيوي لكل من جاهدوا في سبيله، وإنما ضمن لهم إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
فالمعيار الصحيح في الحكم هو السعي إلى الحق، والتزام قواعد الشرع في ذلك المسعى، وليس النتيجة الدنيوية المترتبة على الفعل.
إن القرآن الكريم يعلمنا أن ارتكاب خطإ عملي لا يعني بالضرورة أن صاحبه آثم، ولا يترتب عليه نقص من جهده وجهاده في العاقبة. ففي ذلك التعقيب القرآني الجميل على غزوة أحد بين القرآن الكريم للمسلمين دون مواربة أنهم قصَّروا فأصيبوا: »قل هو من عند أنفسكم« (277) لكنه أعلن لهم دون لبس أن قتلاهم شهداء :»وليتخذ منكم شهداء« (278).
ومن أحسن الأمثلة على التمييز بين الخطإ والخطيئة بالمعنى الذي نقصده هنا، ما فعله العلامة ابن خلدون. فحينما تحدث ابن خلدون في مقدمته عن مقتل الشهيد الحسين رضي الله عنه في كربلاء ، بيَّن أن الحسين ارتكب خطأ في تقديره لاستعداد أتباعه في العراق وقوتهم ، لكن ابن خلدون لم يغفل التنبيه على أن ذلك »خطأ دنيوي، وليس دينيا« حسب تعبيره (279) أي أنه قصور في الخطة والأداء، وليس تقصيرا في الشرع والمبدإ، فهو خطأ لا خطيئة، بخلاف ما فعله أعداؤه، فهو جريمة وخطيئة منكرة.
وما قاله ابن خلدون عن الحسين يمكن قوله عن علي وأهل المدينة وابن الزبير وابن الأشعث، وكل من بذل دمه من أجل تثبيت أو استرداد الخلافة الراشدة في القرن الأول الهجري، ثم أخفق في ذلك أمام كثافة القوة وبطشها.
وهذه المعادلة التي تميز بين القصور والتقصير وبين الخطإ والخطيئة هي التي تعوز دارسي تاريخ الصدر الأول اليوم. * القاعدة الحادية والعشرون :
التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري لقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة حول الفتن، وما سيصيب هذه الأمة في تاريخها من بلايا ومصائب، وحروب داخلية، وتمزقات مذهبية وطائفية. ويكفي مطالعة أبواب "الفتن والملاحم" في كتب الحديث للاطلاع على ذلك.
لكن كثيرا من المسلمين – ومنهم علماء أجلة – فهموا هذه الأحاديث فهما جبريا، لأنهم لم يحسنوا التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدَري.
أما الخطاب الشرعي – في عرف الأصوليين – فهو الذي يتضمن أمرا ونهيا، وهو يتوجه إلى الضمير الخلقي لدى المؤمن، وينير له طريق حياته العملية. وأما الخطاب القدَري فهو يدخل في نطاق الغيبيات، ولا ينبني عليه فعل أو ترك، بل إيمان وتصديق.
ومن أمثلة الخطاب القدري ذات الصلة بموضوعنا هذا حديث عامر بن سعد عن أبيه »أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يُهلك أمتي بالغرَق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها« (280).
فحينما يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره أن هذه الأمة ستشهد اقتتالا وفتنا مريرة، فهذا خطاب قدري نؤمن بأنه سيقع. لكن يجب لا ننسى أن الخطاب الشرعي يطالبنا بأمر آخر أكثر من مجرد الإيمان بوقوع الفتن والاقتتال.. إنه يطالبنا بالإصلاح بين المؤمنين، والوقوف في وجه الباغي، والأخذ على يد الظالم: »وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ..« (281).
فإذا وقف المسلمون على الحياد، وقالوا: لا نصلح بين الإخوة، ولا نقاتل الباغي، لأن ما وقع هو مصداق لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم.. فلا شك أن هذا انحراف في فهم مقصود الشرع، وتخل عن المسؤولية الأخلاقية.
ومثل ذلك يقال في الأحاديث التي تنبأت بوقوع الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم، فالحياد الأخلاقي السائد في الفكر الإسلامي في تناول تلك الأحداث يرجع جزئيا إلى الخلط بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري. وهو حياد يحرِم المسلمين من الدراسة التقويمية للخلافات السياسية بين الصحابة، واستخلاص العبرة منها للمستقبل.
لذا فإن التمييز بين الخطاب الشرعي والخطاب القدري أداة منهجية مهمة في دراسة تلك الحقبة التاريخية ورجالاتها. * القاعدة الثانية والعشرون :
الحكم بالظواهر والله يتولى السرائر وهذه القاعدة هي جماع الأمر كله وخلاصته، ولو التزمها المسلمون لوفرت عليهم الكثير من الجدل والمراء حول هذا الموضوع، ولمكنتهم من دراسة تاريخ الصدر الأول دراسة اعتبارية، تضمن لهم الحفاظ على مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ في ذات الوقت، وتفيد حاضرهم ومستقبلهم، وتقيهم مزالق الماضي وامتداداتها السلبية في الحاضر، وخطرها على المستقبل.
وقد انبنت شريعة الإسلام كلها على أخذ الناس بظاهر أمرهم، وإيكال سرائرهم إلى الله عز وجل. ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول: »إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة« (282). وليس مَن حاكَمَ الناس بظواهرهم بظالم لهم، حتى ولو أخطأ الحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي أعلن على الملإ: »إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذْه، فإنما أقطع له قطعة من النار« (283).
ولو أن الباحثين في الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم احتكموا إلى هذه القاعدة، دون تنقيب في السرائر، ودون تكلف في التأويل والتأول، لوفروا عليهم كثير وقت وجهد، ولأمكن استخلاص العبرة والخبرة من خلافات الصدر الأول بما يفيد حاضر الإسلام ومستقبله.
إن الذي يلتزم بقواعد الشرع في الحكم بالظواهر، يدرك أن التباينات السياسية بين الصحابة بدأت ليلة السقيفة، وتجلت أكثر ما تجلت في إحجام علَمين من أعلام الصحابة عن بيعة الصديق، هما علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة على نحو ما بينا وسنبينه فيما بعد، لكن ورع ذانك العلَمين وسلطة المجتمع الراشد في عهد الخلافة الراشدة، دفعت عليا إلى مراجعة الحق، كما دفعت سعدا إلى الاعتزال دون إثارة فتنة أو خلاف.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (4/6)
ثم بدأت خلافات أخرى من نوع جديد في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، راجعة إلى انحرافات سياسية، واستئثار وإيثار بالسلطة والثروة، لكن كبار الصحابة – رغم تململهم من سياسات عثمان رضي الله عنه – التزموا بعهد البيعة الذي في رقابهم للخليفة، وحاولوا إصلاح ما يمكن إصلاحه بالحسنى.. ثم ثارت ثائرة قوم لا خلاق لهم، ولا تربوا على التزام عهود الإسلام ومواثيقه، فاعتدوا على الخليفة الشهيد وقتلوه بغير حق شرعي، بعدما أعلن توبته وعزمه على الإصلاح، وعاضدهم في ذلك مواقف من بعض أقارب عثمان مثل مروان بن الحكم وغيره، ترفض الانصياع للحق، وتؤثر الدنيا على الدين.. وبايع الناس الخليفة الراشد الرابع في ظروف اضطراب، فخرج عليه أهل الجمل، وهم نفر من الأكابر ساءهم مقتل الخليفة الشهيد، واستعجلوا أمرهم دون التزام ما يلزم من إجراءات جنائية شرعية، تقتضي رفع الدعوى من طرف أولياء القتيل، والتقاضي لدى السلطة الشرعية..
ثم خرج على الخليفة الراشد أهل الشام وهم قوم مزجوا شبهة مقتل الخليفة الشهيد بشهوة الملك ومطامح الدنيا »وكان شبهة معاوية ومن معه الطلب بدم عثمان، وكان الواجب عليهم شرعا الدخول في البيعة، ثم الطلب من وجوهه الشرعية، وولي الدم في الحقيقة أولاد عثمان، مع أن قتلة عثمان لم يتعينوا« (284) فقاد معاوية ومن معه الأمة إلى حرب ضروس سقط فيها سبعون ألفا من خيار المسلمين.. والأسوأ من ذلك أنهم هدموا أركان الخلافة الراشدة. فلا هم التزموا قواعد الشريعة في التقاضي حول دم الخليفة الشهيد، ولا هم حفظوا للأمة منهاجها النبوي في السياسة والحكم بعدما استقر الأمر بأيديهم، بل ابتدعوا بدعة الملك، وهي أول البدع في الإسلام وأبعدها أثرا على الأمة والملة. ولأن الملك "مقتضٍ ترك بعض الدين الواجب" كما يقول ابن تيمية، فإن الذين ابتدعوه نقضوا به عروة من عرى الإسلام، وفتحوا به ثغرة في كيان الأمة لم تنسد حتى اليوم.. والله المستعان. * ملاحظات على منهج ابن تيمية: إن هذه القواعد المنهجية – وأكثرها من كتب ابن تيمية - تدل على فقه الرجل وعمق فهمه للشرع والتاريخ، وقدرته على الموازنة بين الدفاع عن مكانة رجالات الإسلام وقدسية مبادئ الإسلام في ذات الوقت. ويبقى أن نبين بعض المآخذ الجزئية، مما لم نجده منسجما مع الدليل، ولا مع التوجه العام لفقه الشيخ ومنهجه، كما أوضحته القواعد السالفة.
ونبدأ ببيان أمر على قدر من الأهمية، وهو أن ابن تيمية حين ألف كتبه حول الخلافات السياسية بين الصحابة، لم يهدف إلى التأصيل للفقه السياسي الإسلامي كما نهدف اليوم، بل ألفها منازلة للشيعة وردا على طعونهم في مكانة الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. فلا يعدم القارئ المتأمل ردود أفعال عنيفة أحيانا في كتابات شيخ الإسلام، بعضها يرجع إلى عنف التهمة وشناعتها، وبعضها يرجع إلى مزاج الشيخ وطبعه.
ورغم أن الشيخ حاول الحفاظ على توازنه، ونجح في ذلك في أغلب الأحيان، فإن بعض التكلف والاضطراب - والتناقض أحيانا - يظهر في بعض دفاعه عن قادة جيش الشام بصفين عموما، وعن معاوية خصوصا. فقد اضطرب تشخيص ابن تيمية لحرب صفين، فهو أحيانا يضع يده على عمق المسألة، ويصرح بأنها قتال بين أهل عدل وأهل بغي، فيقول: »وعلي هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين« (285) وأحيانا يتكلف فيقسِّم خروج أهل الشام على عليٍّ إلى مرحلتين: مرحلة ما بعد التحكيم، ومرحلة ما قبل التحكيم، فيقول: »الوجه الثاني أنها [يعني طائفة أهل الشام] صارت باغية في أثناء الحال، بما ظهر منها من نصب إمام، وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعْن إمام الحق ونحو ذلك، فإن هذا بغي بخلاف الاقتتال قبل ذلك [ أي قبل التحكيم]، فإنه كان قتال فتنة« (286). وبناء على هذا التقسيم المتكلف يتوصل ابن تيمية إلى أن أصحاب علي أخطأوا حينما قاتلوا معه قبل التحكيم – لأن القتال آنذاك كان قتال فتنة – وأخطأوا حينما لم يقاتلوا معه بعد التحكيم – لأن القتال أصبح قتالا بين أهل عدل وبغاة (287).
ولو أن ابن تيمية قال بعكس هذا لكان كلامه أدق وأكثر انسجاما مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم: فقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمارا تقتله الفئة الباغية، وقد قُتل عمار قبل التحكيم اتفاقا، فمتى يكون بغي أهل الشام إن لم يكن قبل التحكيم، حينما سلوا السيوف وقتلوا عمارا؟!
وهذا مجرد مثال على الاضطراب الذي يقع فيه الشيخ حين يتحدث عن حرب صفين، وهو اضطراب يظهر حتى في لغته وأسلوبه، ويدركه من اصطحب كتب الشيخ وتمرس بها.
ومن مظاهر هذا الاضطراب والتكلف تكرار ابن تيمية في "منهاج السنة" وغيره أن معاوية لم يسع إلى الخلافة في حياة علي، ولا نازع عليا الخلافة. وهو أحيانا يطلق، فيقول – مثلا - متحدثا عن علي: »..ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه« (288) وأحيانا يتحفظ بعض الشيء، فيصرح أن منازعة معاوية لعلي في الإمامة إنما حدثت بعد حكم الحكمين، فيقول: »..وكذلك معاوية لم يبايعه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمى بأمير المؤمنين، ولا سماه أحد بذلك، ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين« (289).
وكل هذا تكلف في التأول، يناقض نصوصا صحيحة صريحة.
إن الدلائل على مطامح الملك لدى معاوية أثناء الفتنة كثيرة وافرة، وهي كلها تدل على أن قصده من الخروج على الخليفة الرابع لم يكن مجرد الثأر للخليفة الثالث، بل كانت مطامح الملك حاضرة في سعيه منذ أول وهلة. فضلا عن أن أسلوب الثأر - دون تقاض - على طريقة عرب الجاهلية لم يعد له مكان في دولة الإسلام. ومن الدلائل على منازعة معاوية عليا في الخلافة، ومطامحه إلى أن يكون ملِكا ما يلي:
أولا: حديث البخاري في قصة التحكيم: »عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها [=ضفائرها] تنطف [=تقطر ماء]، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يُجعَل لي من الأمر شيء، فقالت: الحقْ فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعْه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ« (290) وفي رواية الطبراني: »عن ابن عمر قال: لما كان اليوم الذي اجتمع فيه علي ومعاوية بدومة الجندل، قالت لي حفصة: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمر بن الخطاب. فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم فقال من يطمع في هذا الأمر أويرجوه أو يمد له عنقه؟ قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، هممت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك على الاسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة ونعيمها فأعرضت عنه« (291) ورواية ابن سعد لهذه القصة أصرح من سابقتيْها: »عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: لما كان موعد علي ومعاوية بدومة جندل ما كان أشفق [=أخْوفَ] معاوية أن يخرج هو وعلي منها [= من الخلافة]، فجاء معاوية يومئذ على بختي فقال: ومن هذا الذي يطمع في هذا الأمر أو يمد إليه عنقه، قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا إلا يومئذ، فإني هممت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك عليه حتى أدخلكما فيه، ثم ذكرت الجنة ونعيمها وثمارها فأعرضت عنه« (292).
فهذه القصة تكفي دلالة على أن محل النزاع الجوهري بين معاوية وعلي لم يكن حول قتَلة عثمان، بل حول الخلافة والإمساك بزمام أمر المسلمين، وأن معاوية كان يخشى من قطع الطريق على محاولته انتزاع الخلافة، أكثر من خشيته على هروب القتلة بدم الخليفة الشهيد. ولذلك لم يحرك ساكنا ضد القتلة حينما استقر له الملك، وأمسك الدولة الإسلامية من أطرافها، باعتراف ابن تيمية نفسه في كلامه السابق والآتي.
ثانيا: »عن أبي بردة [بن أبي موسى الأشعري] عن أبي موسى: أن معاوية كتب إليه: أما بعد، فإن عمرو بن العاص قد بايعني على ما أريد، وأُقسِم بالله لئن بايعتني على الذي بايعني، لأستعملن أحد ابنيْك على الكوفة، والآخر على البصرة، ولا يُغلَق دونك باب، ولا تُقضى دونك حاجة، وقد كتبت إليك بخط يدي، فاكتب إليَّ بخط يدك. فكتب إليه [أبو موسى]: أما بعد، فإنك كتبتَ إليَّ في جسيم أمر هذه الأمة، فماذا أقول لربي إذا قدمتُ عليه. ليس لي فيما عرضتَ من حاجة، والسلام عليك« (293). وقد علق الذهبي على هذه المراسلة فقال: »قلت: كان أبو موسى صواما قواما زاهدا عابدا، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيرْه الإمارة، ولا اغتر بالدنيا« (294).
وتكشف هذه المراسلة عن الفرق بين تصور أبي موسى الأشعري لموضوع الخلافة، الذي اعتبره "جسيم أمر هذه الأمة" يخاف ربه إذا سأله عنه، وبين تصور معاوية الذي لم يكن يرى بأسا بالاستيلاء عليها بتوزيع العطايا والمناصب، وإشهار السيوف والرماح. كما تكشف الرسالة عدم دقة ابن تيمية في تأكيده على أن معاوية "لم يبايعه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة"!! فمعاوية نفسه يصرح هنا بأن عمرو بن العاص بايعه على ما يريد، فما الذي بايعه عمرو عليه؟ قد يقول بعض المتكلفين: إن عمْرا بايعه على الأخذ بدم عثمان!! لكن معاوية تخلى عن موضوع قتلة عثمان حالما أمسك بزمام الأمة، وكأن ذلك الموضوع لم يكن، باعتراف ابن تيمية نفسه الذي يقول: »فمعاوية رضي الله عنه الذي يقول المنتصر له: إنه كان مصيبا في قتال علي، لأنه كان طالبا لقتل قتلة عثمان، لما تمكَّن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان. فإن كان قتْلهم واجبا وهو مقدور له، كان فعله بدون قتال المسلمين أوْلى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك. ولو قتل معاوية قتلة عثمان، لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي صفين … ومن قال: إن قتْل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان، فقتْل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا. وهو لم يفعل ذلك لما تولى، ولم يقتل قتلة عثمان« (295).
ثم ما معنى وعد معاوية في رسالته لأبي موسى بتنصيب ولديه حاكميْن للبصرة والكوفة – وكلتا المدينتين كانت تحت إمرة عليٍّ يومذاك – سوى أن معاوية وعمْرا كانا ينازعان عليا الخلافة، ولا يرضيان بأقل منها؟
لقد أحسن الإمام الحسن البصري حين شخَّص الأمر في قضية التحكيم دون تكلف فقال: »كان الحكمان أبا موسى وعمراً، وكان أحدهما يبتغي الدنيا، والآخر يبتغي الآخرة« (296).
ثالثا: »عن ميمون [بن مهران] قال: دس معاوية عمرو بن العاص، وهو يريد أن يعلم ما في نفس [عبد الله] بن عمر، يريد القتال أم لا، فقال: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج فنبايعك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال: وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم إلا نُفيْر يسير، قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجَر لم يكن لي فيها حاجة. قال [ميمون]: فعلم أنه لا يريد القتال. قال: هل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أفٍّ لك! اخرجْ من عندي ثم لا تدخلْ عليَّ، ويحك! إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية« (297). فمحاولة شراء البيعة من عبد الله بن عمر، وهو المرشح لتولي الأمر بعد التحكيم – كما سنرى فيما بعد - لا يترك لبسا حول دوافع معاوية وعمرو يغفر الله لنا ولهما.
رابعا: استمرار معاوية – بمساعدة من عمرو - في شراء البيعة بالمال وسلوك مسالك في السياسة لا تصلح طوال فترة حكمه، وخلال توليته لابنه يزيد: »عن محمد [بن سيرين] قال: لما ورد معاوية الكوفة واجتمع عليه الناس، قال له عمرو بن العاص: إن الحسن مرتفع في الأنفس لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه حديث السن عييٌّ، فمره فليخطب، فإنه سيعيَى فيسقط من أنفس الناس، فأبى، فلم يزالوا به حتى أمره، فقام [الحسن] على المنبر دون معاوية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لو ابتغيتم بين جابلْقَ وجابرْسَ رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا معاوية بيعتنا ورأينا أن حقن الدماء خير، وما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار بيده إلى معاوية. فغضب معاوية، فخطب بعده خطبة عيِـيَّة فاحشة، ثم نزل وقال: ما أردتَ بقولك فتنة لكم ومتاع؟ قال: أردت بها ما أراد الله بها« (298) و»عن نافع أن معاوية أراد ابن عمر على أن يبايع ليزيد، فأبى وقال: لا أبايع لأميرين. فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدس إليه رجلا فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال [ابن عمر]: إن ذاك لذاك!! - يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة – إن ديني عندي إذن لرخيص« (299).
إن كل هذه النصوص تدل على أن معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول، وصرح بمطامحه في قيادة الأمة دون لبس. فالقول بعد ذلك إنه لم ينازع عليا الخلافة ولا سعى إليها.. تكلف بارد، كان الأوْلى بشيخ الإسلام ابن تيمية أن يتنزه عنه.
على أن دور معاوية أكبر من مجرد الخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله. فهو الذي أرسى نظام الملك بديلا عن دولة الخلافة، فسن في الإسلام تلك السنة السيئة، وفتح بها أبوابا من المظالم التي لم تتوقف، ومن الدماء التي لم تجف منذ أربعة عشر قرنا، وأخرج بناء السلطة من إطار مبادئ الشرع: كالشورى والبيعة والعدل.. إلى منطق القوة وقانون الغاب، وهو أمر لا يزال المسلمون يعيشون مساوئه إلى اليوم.
فسواء تأولنا لمعاوية في مواقفه خلال الفتنة أم لم نتأول، فإن سلوكه السياسي اللاحق ليس مما يمكن التأول له، وهو سلوك كان أبعد أثرا على الإسلام والمسلمين من الفتنة ذاتها، بل من أي حدث تاريخي خلال الأربعة عشر المنصرمة. فقد كانت الفتنة التي قادها معاوية هدما لأركان الخلافة الراشدة، لكن ما فعله معاوية بعد الفتنة من توريث السلطة لابنه بالترغيب والترهيب كان أسوأ أثرا، لأنه إرساء لبناء جديد منحرف على أنقاض تلك الخلافة، وسد لأبواب استردادها. فليتكلف المتكلفون ما شاءوا في تأولهم لما حدث أثناء الفتنة، لكنهم لن يجدوا ما يتأولون به لما حدث بعد ذلك، إذا كانوا حقا ممن يجعل قدسية المبادئ فوق مكانة الأشخاص.
لقد استاء النبي صلى الله عليه وسلم من الملك – كما رأينا من قبل - فلم لا نستاء نحن منه، ونستاء ممن أدخله على الإسلام وأهله؟ وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والعض عليها بالنواجذ، فلماذا لا نعض عليها كما أمرنا؟ ولماذا نتنازل عنها بجرة قلم تكلفا وتأولا لأشخاص ليسوا بمعصومين، وإهدارا لقدسية المبادئ الإسلامية حفاظا على مكانة أولئك الأشخاص؟
لقد نأى ابن تيمية بنفسه عن التكلف في التأول للسابقين من أمثال سعد بن عبادة – كما بينا من قبل - وفسر إحجام سعد عن بيعة الصديق بأن سعدا »بقي في نفسه بقيةُ هوىً« (300) كما فسر تأخر عليٍّ عن بيعة الصديق بأنه »كان يريد الإمرة لنفسه « (301). وقال عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهو من السابقين البدريين: »..كانت له سيئات معروفة، مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وإساءته إلى مماليكه« (302).
بل إن ابن تيمية لم يتأول للخليفتين الراشديْن عثمان وعلي، وصرح بأن كلا من عثمان وعلي ترخص بعض الترخصات، وعمل ما لا يُقتدى به فيه، فقال: »إن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد – الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص على رجحانه – وكان سبب افتراق الأمة، لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه، إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء. وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل في الدماء والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلَّب الرغبة وتأول في الأموال، وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء. فأبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في المال« (303) لكن المرء يدهش حين يجد التساهل والتكلف في الدفاع عن معاوية، ممن يقول هذا الكلام الصراح في الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين!!
فإذا كان سعد غير منزه عن الهوى، وعليٌّ غير منزه عن "التأول في الدماء"، وعثمان غير منزه عن "التأول في الأموال" بحسب تحليل ابن تيمية.. فلماذا لا نعترف أن معاوية وعمرا غير منزهين عن مطامح الملك، ولدينا من الدلائل على ذلك الكثير..
لقد كان حريا بابن تيمية هنا أن يعترف - كما فعل دائما – بالطبيعة المركبة للفتنة، وباختلاط الشبهات والشهوات فيها، ويقبل أن دوافع معاوية وعمرو لم تكن مجرد شبهة الاقتصاص للخليفة الشهيد، بل خالطتها شهوة الملك وحب الدنيا. وليس اتفاق أهل الجمل وصفين في الشعار – وهو المطالبة بدم عثمان – مبررا كافيا للمساواة بينهما في الدوافع، بعدما كشف أهل صفين عن مطامح الملك لديهم، وسعوا لها سعيها، على عكس أهل الجمل.
أعتقد أن ابن تيمية لو التزم بمقتضى منهجه لقال غير ذلك، ليكون منسجما مع طرحه العام وتحليلاته العميقة للخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم.
ومهما تكن المآخذ على منهج ابن تيمية، فإنه يظل أعمق وأوسع من درس الخلافات السياسات بين الصحابة، وتظل المآخذ على منهجه طفيفة جدا بالمقارنة مع أخطاء غيره، كما يتبين من بقية هذه الدراسة. * روابط ذات صلة :
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (6/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (5/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (3/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6) * الهوامش :
[254] ابن القيم: إعلام الموقعين 4/251-252
[255] مسلم 4/1874 و البيهقي 2/446
[256] مجموع الفتاوى 3/412
[257] منهاج السنة 4/574
[258] العلائي: تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شرف الصحبة ص 102
[259] مجمع الزوائد 1/153-154 وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح"
[260] منهاج السنة 2/457
[261] أحمد 4/95 والطبراني في الكبير 19/309 وانظر ابن كثير: جامع المسانيد والسنن 11/596-597
[262] أبو داود 4/67 وأحمد 4/93 والبخاري: التاريخ الكبير 7/327
[263] ابن أبي شيبة 2/115 والطبراني في الكبير 19/322 وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" انظر: مجمع الزوائد 2/67
[264] سير أعلام النبلاء 2/544
[265] نفس المصدر والجزء والصفحة
[266] مسلم: الكنى والأسماء 1/669
[267] ابن حجر: تعجيل المنفعة 1/509 ومثله عند الحسيني: الإكمال 1/541 وابن عبد البر: الاستيعاب 4/1725
[268] أحمد 4/76
[269] ابن حجر: الإصابة 7/311
[270] مجمع الزوائد 9/298 وقال الهيثمي: "رواه كله الطبراني وعبد الله باختصار ورجال أحد إسنادي الطبراني رجال الصحيح"
[271] أحمد 4/90 والنسائي: فضائل الصحابة 1/49 وسير أعلام النبلاء 1/415 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط "رجاله ثقات، وأخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي"
[272] أبو القاسم اللالكائي: اعتقاد أهل السنة 1/177
[273] سير أعلام النبلاء 7/370
[274] نفس المصدر 3/39
[275] ابن حبان 16/202 والبيهقي 6/84 وابن ماجه 1/659 والدارقطني 4/170 والحاكم 2/216 وقال: "صحيح على شرط الشيخين"
[276] البخاري 6/2676 ومسلم 3/1342 وابن حبان 11/447 وغيرهم
[277] سورة آل عمران ، الآية 165
[278] سورة آل عمران ، الآية 140
[279] مقدمة ابن خلدون ص 217
[280] مسلم 4/2216
[281] سورة الحجرات، الآية 9
[282] البخاري 2/934
[283] البخاري6/2622 ومسلم 3/1337 وغيرهما
[284] ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 1/212-213
[285] الفتاوى 4/444
[286] الفتاوى 4/443
[287] انظر نقاشه هذا في الفتاوى 4/434-452
[288] منهاج السنة 6/328
[289] منهاج السنة 6/330
[290] البخاري 4/1508
[291] مجمع الزوائد 4/208) وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات" وقارن مع سير أعلام النبلاء 3/224
[292] ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/182
[293] سير أعلام النبلاء 2/396 وقال محقق الكتاب الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح"
[294] سير أعلام النبلاء 2/392
[295] منهاج السنة 4/409
[296] سير أعلام النبلاء 2/401 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "رجاله ثقات"
[297] طبقات ابن سعد 4/164 وسير أعلام النبلاء 3/228 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "سنده صحيح"
[298] سير أعلام النبلاء 3/271 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح" وقد أخرج بعضه البيهقي 8/173 والطبراني في الكبير 3/87 وقال الهيثمي في حديث الطبراني: "رجاله رجال الصحيح" (مجمع الزوائد 4/207)
[299] فتح الباري 13/70 وسير أعلام النبلاء 3/225 وقال محققه شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح"
[300] منهاج السنة 8/335
[301] منهاج السنة 7/450
[302] مجموع الفتاوى 4/459-460
[303] الفتاوى 35/23
المصدر: خاص - الوحدة الإسلامية
ثم خرج على الخليفة الراشد أهل الشام وهم قوم مزجوا شبهة مقتل الخليفة الشهيد بشهوة الملك ومطامح الدنيا »وكان شبهة معاوية ومن معه الطلب بدم عثمان، وكان الواجب عليهم شرعا الدخول في البيعة، ثم الطلب من وجوهه الشرعية، وولي الدم في الحقيقة أولاد عثمان، مع أن قتلة عثمان لم يتعينوا« (284) فقاد معاوية ومن معه الأمة إلى حرب ضروس سقط فيها سبعون ألفا من خيار المسلمين.. والأسوأ من ذلك أنهم هدموا أركان الخلافة الراشدة. فلا هم التزموا قواعد الشريعة في التقاضي حول دم الخليفة الشهيد، ولا هم حفظوا للأمة منهاجها النبوي في السياسة والحكم بعدما استقر الأمر بأيديهم، بل ابتدعوا بدعة الملك، وهي أول البدع في الإسلام وأبعدها أثرا على الأمة والملة. ولأن الملك "مقتضٍ ترك بعض الدين الواجب" كما يقول ابن تيمية، فإن الذين ابتدعوه نقضوا به عروة من عرى الإسلام، وفتحوا به ثغرة في كيان الأمة لم تنسد حتى اليوم.. والله المستعان. * ملاحظات على منهج ابن تيمية: إن هذه القواعد المنهجية – وأكثرها من كتب ابن تيمية - تدل على فقه الرجل وعمق فهمه للشرع والتاريخ، وقدرته على الموازنة بين الدفاع عن مكانة رجالات الإسلام وقدسية مبادئ الإسلام في ذات الوقت. ويبقى أن نبين بعض المآخذ الجزئية، مما لم نجده منسجما مع الدليل، ولا مع التوجه العام لفقه الشيخ ومنهجه، كما أوضحته القواعد السالفة.
ونبدأ ببيان أمر على قدر من الأهمية، وهو أن ابن تيمية حين ألف كتبه حول الخلافات السياسية بين الصحابة، لم يهدف إلى التأصيل للفقه السياسي الإسلامي كما نهدف اليوم، بل ألفها منازلة للشيعة وردا على طعونهم في مكانة الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. فلا يعدم القارئ المتأمل ردود أفعال عنيفة أحيانا في كتابات شيخ الإسلام، بعضها يرجع إلى عنف التهمة وشناعتها، وبعضها يرجع إلى مزاج الشيخ وطبعه.
ورغم أن الشيخ حاول الحفاظ على توازنه، ونجح في ذلك في أغلب الأحيان، فإن بعض التكلف والاضطراب - والتناقض أحيانا - يظهر في بعض دفاعه عن قادة جيش الشام بصفين عموما، وعن معاوية خصوصا. فقد اضطرب تشخيص ابن تيمية لحرب صفين، فهو أحيانا يضع يده على عمق المسألة، ويصرح بأنها قتال بين أهل عدل وأهل بغي، فيقول: »وعلي هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين« (285) وأحيانا يتكلف فيقسِّم خروج أهل الشام على عليٍّ إلى مرحلتين: مرحلة ما بعد التحكيم، ومرحلة ما قبل التحكيم، فيقول: »الوجه الثاني أنها [يعني طائفة أهل الشام] صارت باغية في أثناء الحال، بما ظهر منها من نصب إمام، وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعْن إمام الحق ونحو ذلك، فإن هذا بغي بخلاف الاقتتال قبل ذلك [ أي قبل التحكيم]، فإنه كان قتال فتنة« (286). وبناء على هذا التقسيم المتكلف يتوصل ابن تيمية إلى أن أصحاب علي أخطأوا حينما قاتلوا معه قبل التحكيم – لأن القتال آنذاك كان قتال فتنة – وأخطأوا حينما لم يقاتلوا معه بعد التحكيم – لأن القتال أصبح قتالا بين أهل عدل وبغاة (287).
ولو أن ابن تيمية قال بعكس هذا لكان كلامه أدق وأكثر انسجاما مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم: فقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمارا تقتله الفئة الباغية، وقد قُتل عمار قبل التحكيم اتفاقا، فمتى يكون بغي أهل الشام إن لم يكن قبل التحكيم، حينما سلوا السيوف وقتلوا عمارا؟!
وهذا مجرد مثال على الاضطراب الذي يقع فيه الشيخ حين يتحدث عن حرب صفين، وهو اضطراب يظهر حتى في لغته وأسلوبه، ويدركه من اصطحب كتب الشيخ وتمرس بها.
ومن مظاهر هذا الاضطراب والتكلف تكرار ابن تيمية في "منهاج السنة" وغيره أن معاوية لم يسع إلى الخلافة في حياة علي، ولا نازع عليا الخلافة. وهو أحيانا يطلق، فيقول – مثلا - متحدثا عن علي: »..ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه« (288) وأحيانا يتحفظ بعض الشيء، فيصرح أن منازعة معاوية لعلي في الإمامة إنما حدثت بعد حكم الحكمين، فيقول: »..وكذلك معاوية لم يبايعه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمى بأمير المؤمنين، ولا سماه أحد بذلك، ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين« (289).
وكل هذا تكلف في التأول، يناقض نصوصا صحيحة صريحة.
إن الدلائل على مطامح الملك لدى معاوية أثناء الفتنة كثيرة وافرة، وهي كلها تدل على أن قصده من الخروج على الخليفة الرابع لم يكن مجرد الثأر للخليفة الثالث، بل كانت مطامح الملك حاضرة في سعيه منذ أول وهلة. فضلا عن أن أسلوب الثأر - دون تقاض - على طريقة عرب الجاهلية لم يعد له مكان في دولة الإسلام. ومن الدلائل على منازعة معاوية عليا في الخلافة، ومطامحه إلى أن يكون ملِكا ما يلي:
أولا: حديث البخاري في قصة التحكيم: »عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها [=ضفائرها] تنطف [=تقطر ماء]، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يُجعَل لي من الأمر شيء، فقالت: الحقْ فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعْه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ« (290) وفي رواية الطبراني: »عن ابن عمر قال: لما كان اليوم الذي اجتمع فيه علي ومعاوية بدومة الجندل، قالت لي حفصة: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمر بن الخطاب. فأقبل معاوية يومئذ على بختي عظيم فقال من يطمع في هذا الأمر أويرجوه أو يمد له عنقه؟ قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، هممت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك على الاسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة ونعيمها فأعرضت عنه« (291) ورواية ابن سعد لهذه القصة أصرح من سابقتيْها: »عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال: لما كان موعد علي ومعاوية بدومة جندل ما كان أشفق [=أخْوفَ] معاوية أن يخرج هو وعلي منها [= من الخلافة]، فجاء معاوية يومئذ على بختي فقال: ومن هذا الذي يطمع في هذا الأمر أو يمد إليه عنقه، قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا إلا يومئذ، فإني هممت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك عليه حتى أدخلكما فيه، ثم ذكرت الجنة ونعيمها وثمارها فأعرضت عنه« (292).
فهذه القصة تكفي دلالة على أن محل النزاع الجوهري بين معاوية وعلي لم يكن حول قتَلة عثمان، بل حول الخلافة والإمساك بزمام أمر المسلمين، وأن معاوية كان يخشى من قطع الطريق على محاولته انتزاع الخلافة، أكثر من خشيته على هروب القتلة بدم الخليفة الشهيد. ولذلك لم يحرك ساكنا ضد القتلة حينما استقر له الملك، وأمسك الدولة الإسلامية من أطرافها، باعتراف ابن تيمية نفسه في كلامه السابق والآتي.
ثانيا: »عن أبي بردة [بن أبي موسى الأشعري] عن أبي موسى: أن معاوية كتب إليه: أما بعد، فإن عمرو بن العاص قد بايعني على ما أريد، وأُقسِم بالله لئن بايعتني على الذي بايعني، لأستعملن أحد ابنيْك على الكوفة، والآخر على البصرة، ولا يُغلَق دونك باب، ولا تُقضى دونك حاجة، وقد كتبت إليك بخط يدي، فاكتب إليَّ بخط يدك. فكتب إليه [أبو موسى]: أما بعد، فإنك كتبتَ إليَّ في جسيم أمر هذه الأمة، فماذا أقول لربي إذا قدمتُ عليه. ليس لي فيما عرضتَ من حاجة، والسلام عليك« (293). وقد علق الذهبي على هذه المراسلة فقال: »قلت: كان أبو موسى صواما قواما زاهدا عابدا، ممن جمع العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيرْه الإمارة، ولا اغتر بالدنيا« (294).
وتكشف هذه المراسلة عن الفرق بين تصور أبي موسى الأشعري لموضوع الخلافة، الذي اعتبره "جسيم أمر هذه الأمة" يخاف ربه إذا سأله عنه، وبين تصور معاوية الذي لم يكن يرى بأسا بالاستيلاء عليها بتوزيع العطايا والمناصب، وإشهار السيوف والرماح. كما تكشف الرسالة عدم دقة ابن تيمية في تأكيده على أن معاوية "لم يبايعه أحد على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة"!! فمعاوية نفسه يصرح هنا بأن عمرو بن العاص بايعه على ما يريد، فما الذي بايعه عمرو عليه؟ قد يقول بعض المتكلفين: إن عمْرا بايعه على الأخذ بدم عثمان!! لكن معاوية تخلى عن موضوع قتلة عثمان حالما أمسك بزمام الأمة، وكأن ذلك الموضوع لم يكن، باعتراف ابن تيمية نفسه الذي يقول: »فمعاوية رضي الله عنه الذي يقول المنتصر له: إنه كان مصيبا في قتال علي، لأنه كان طالبا لقتل قتلة عثمان، لما تمكَّن وأجمع الناس عليه لم يقتل قتلة عثمان. فإن كان قتْلهم واجبا وهو مقدور له، كان فعله بدون قتال المسلمين أوْلى من أن يقاتل عليا وأصحابه لأجل ذلك. ولو قتل معاوية قتلة عثمان، لم يقع من الفتنة أكثر مما وقع ليالي صفين … ومن قال: إن قتْل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين علي كان صوابا منه لأجل قتل قتلة عثمان، فقتْل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابا. وهو لم يفعل ذلك لما تولى، ولم يقتل قتلة عثمان« (295).
ثم ما معنى وعد معاوية في رسالته لأبي موسى بتنصيب ولديه حاكميْن للبصرة والكوفة – وكلتا المدينتين كانت تحت إمرة عليٍّ يومذاك – سوى أن معاوية وعمْرا كانا ينازعان عليا الخلافة، ولا يرضيان بأقل منها؟
لقد أحسن الإمام الحسن البصري حين شخَّص الأمر في قضية التحكيم دون تكلف فقال: »كان الحكمان أبا موسى وعمراً، وكان أحدهما يبتغي الدنيا، والآخر يبتغي الآخرة« (296).
ثالثا: »عن ميمون [بن مهران] قال: دس معاوية عمرو بن العاص، وهو يريد أن يعلم ما في نفس [عبد الله] بن عمر، يريد القتال أم لا، فقال: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج فنبايعك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال: وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم إلا نُفيْر يسير، قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجَر لم يكن لي فيها حاجة. قال [ميمون]: فعلم أنه لا يريد القتال. قال: هل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أفٍّ لك! اخرجْ من عندي ثم لا تدخلْ عليَّ، ويحك! إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية« (297). فمحاولة شراء البيعة من عبد الله بن عمر، وهو المرشح لتولي الأمر بعد التحكيم – كما سنرى فيما بعد - لا يترك لبسا حول دوافع معاوية وعمرو يغفر الله لنا ولهما.
رابعا: استمرار معاوية – بمساعدة من عمرو - في شراء البيعة بالمال وسلوك مسالك في السياسة لا تصلح طوال فترة حكمه، وخلال توليته لابنه يزيد: »عن محمد [بن سيرين] قال: لما ورد معاوية الكوفة واجتمع عليه الناس، قال له عمرو بن العاص: إن الحسن مرتفع في الأنفس لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه حديث السن عييٌّ، فمره فليخطب، فإنه سيعيَى فيسقط من أنفس الناس، فأبى، فلم يزالوا به حتى أمره، فقام [الحسن] على المنبر دون معاوية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لو ابتغيتم بين جابلْقَ وجابرْسَ رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا معاوية بيعتنا ورأينا أن حقن الدماء خير، وما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار بيده إلى معاوية. فغضب معاوية، فخطب بعده خطبة عيِـيَّة فاحشة، ثم نزل وقال: ما أردتَ بقولك فتنة لكم ومتاع؟ قال: أردت بها ما أراد الله بها« (298) و»عن نافع أن معاوية أراد ابن عمر على أن يبايع ليزيد، فأبى وقال: لا أبايع لأميرين. فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدس إليه رجلا فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال [ابن عمر]: إن ذاك لذاك!! - يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة – إن ديني عندي إذن لرخيص« (299).
إن كل هذه النصوص تدل على أن معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول، وصرح بمطامحه في قيادة الأمة دون لبس. فالقول بعد ذلك إنه لم ينازع عليا الخلافة ولا سعى إليها.. تكلف بارد، كان الأوْلى بشيخ الإسلام ابن تيمية أن يتنزه عنه.
على أن دور معاوية أكبر من مجرد الخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله. فهو الذي أرسى نظام الملك بديلا عن دولة الخلافة، فسن في الإسلام تلك السنة السيئة، وفتح بها أبوابا من المظالم التي لم تتوقف، ومن الدماء التي لم تجف منذ أربعة عشر قرنا، وأخرج بناء السلطة من إطار مبادئ الشرع: كالشورى والبيعة والعدل.. إلى منطق القوة وقانون الغاب، وهو أمر لا يزال المسلمون يعيشون مساوئه إلى اليوم.
فسواء تأولنا لمعاوية في مواقفه خلال الفتنة أم لم نتأول، فإن سلوكه السياسي اللاحق ليس مما يمكن التأول له، وهو سلوك كان أبعد أثرا على الإسلام والمسلمين من الفتنة ذاتها، بل من أي حدث تاريخي خلال الأربعة عشر المنصرمة. فقد كانت الفتنة التي قادها معاوية هدما لأركان الخلافة الراشدة، لكن ما فعله معاوية بعد الفتنة من توريث السلطة لابنه بالترغيب والترهيب كان أسوأ أثرا، لأنه إرساء لبناء جديد منحرف على أنقاض تلك الخلافة، وسد لأبواب استردادها. فليتكلف المتكلفون ما شاءوا في تأولهم لما حدث أثناء الفتنة، لكنهم لن يجدوا ما يتأولون به لما حدث بعد ذلك، إذا كانوا حقا ممن يجعل قدسية المبادئ فوق مكانة الأشخاص.
لقد استاء النبي صلى الله عليه وسلم من الملك – كما رأينا من قبل - فلم لا نستاء نحن منه، ونستاء ممن أدخله على الإسلام وأهله؟ وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والعض عليها بالنواجذ، فلماذا لا نعض عليها كما أمرنا؟ ولماذا نتنازل عنها بجرة قلم تكلفا وتأولا لأشخاص ليسوا بمعصومين، وإهدارا لقدسية المبادئ الإسلامية حفاظا على مكانة أولئك الأشخاص؟
لقد نأى ابن تيمية بنفسه عن التكلف في التأول للسابقين من أمثال سعد بن عبادة – كما بينا من قبل - وفسر إحجام سعد عن بيعة الصديق بأن سعدا »بقي في نفسه بقيةُ هوىً« (300) كما فسر تأخر عليٍّ عن بيعة الصديق بأنه »كان يريد الإمرة لنفسه « (301). وقال عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهو من السابقين البدريين: »..كانت له سيئات معروفة، مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وإساءته إلى مماليكه« (302).
بل إن ابن تيمية لم يتأول للخليفتين الراشديْن عثمان وعلي، وصرح بأن كلا من عثمان وعلي ترخص بعض الترخصات، وعمل ما لا يُقتدى به فيه، فقال: »إن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد – الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص على رجحانه – وكان سبب افتراق الأمة، لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه، إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء. وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل في الدماء والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلَّب الرغبة وتأول في الأموال، وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء. فأبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في المال« (303) لكن المرء يدهش حين يجد التساهل والتكلف في الدفاع عن معاوية، ممن يقول هذا الكلام الصراح في الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين!!
فإذا كان سعد غير منزه عن الهوى، وعليٌّ غير منزه عن "التأول في الدماء"، وعثمان غير منزه عن "التأول في الأموال" بحسب تحليل ابن تيمية.. فلماذا لا نعترف أن معاوية وعمرا غير منزهين عن مطامح الملك، ولدينا من الدلائل على ذلك الكثير..
لقد كان حريا بابن تيمية هنا أن يعترف - كما فعل دائما – بالطبيعة المركبة للفتنة، وباختلاط الشبهات والشهوات فيها، ويقبل أن دوافع معاوية وعمرو لم تكن مجرد شبهة الاقتصاص للخليفة الشهيد، بل خالطتها شهوة الملك وحب الدنيا. وليس اتفاق أهل الجمل وصفين في الشعار – وهو المطالبة بدم عثمان – مبررا كافيا للمساواة بينهما في الدوافع، بعدما كشف أهل صفين عن مطامح الملك لديهم، وسعوا لها سعيها، على عكس أهل الجمل.
أعتقد أن ابن تيمية لو التزم بمقتضى منهجه لقال غير ذلك، ليكون منسجما مع طرحه العام وتحليلاته العميقة للخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم.
ومهما تكن المآخذ على منهج ابن تيمية، فإنه يظل أعمق وأوسع من درس الخلافات السياسات بين الصحابة، وتظل المآخذ على منهجه طفيفة جدا بالمقارنة مع أخطاء غيره، كما يتبين من بقية هذه الدراسة. * روابط ذات صلة :
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (6/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (5/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (3/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)
- الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6) * الهوامش :
[254] ابن القيم: إعلام الموقعين 4/251-252
[255] مسلم 4/1874 و البيهقي 2/446
[256] مجموع الفتاوى 3/412
[257] منهاج السنة 4/574
[258] العلائي: تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شرف الصحبة ص 102
[259] مجمع الزوائد 1/153-154 وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح"
[260] منهاج السنة 2/457
[261] أحمد 4/95 والطبراني في الكبير 19/309 وانظر ابن كثير: جامع المسانيد والسنن 11/596-597
[262] أبو داود 4/67 وأحمد 4/93 والبخاري: التاريخ الكبير 7/327
[263] ابن أبي شيبة 2/115 والطبراني في الكبير 19/322 وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" انظر: مجمع الزوائد 2/67
[264] سير أعلام النبلاء 2/544
[265] نفس المصدر والجزء والصفحة
[266] مسلم: الكنى والأسماء 1/669
[267] ابن حجر: تعجيل المنفعة 1/509 ومثله عند الحسيني: الإكمال 1/541 وابن عبد البر: الاستيعاب 4/1725
[268] أحمد 4/76
[269] ابن حجر: الإصابة 7/311
[270] مجمع الزوائد 9/298 وقال الهيثمي: "رواه كله الطبراني وعبد الله باختصار ورجال أحد إسنادي الطبراني رجال الصحيح"
[271] أحمد 4/90 والنسائي: فضائل الصحابة 1/49 وسير أعلام النبلاء 1/415 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط "رجاله ثقات، وأخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي"
[272] أبو القاسم اللالكائي: اعتقاد أهل السنة 1/177
[273] سير أعلام النبلاء 7/370
[274] نفس المصدر 3/39
[275] ابن حبان 16/202 والبيهقي 6/84 وابن ماجه 1/659 والدارقطني 4/170 والحاكم 2/216 وقال: "صحيح على شرط الشيخين"
[276] البخاري 6/2676 ومسلم 3/1342 وابن حبان 11/447 وغيرهم
[277] سورة آل عمران ، الآية 165
[278] سورة آل عمران ، الآية 140
[279] مقدمة ابن خلدون ص 217
[280] مسلم 4/2216
[281] سورة الحجرات، الآية 9
[282] البخاري 2/934
[283] البخاري6/2622 ومسلم 3/1337 وغيرهما
[284] ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 1/212-213
[285] الفتاوى 4/444
[286] الفتاوى 4/443
[287] انظر نقاشه هذا في الفتاوى 4/434-452
[288] منهاج السنة 6/328
[289] منهاج السنة 6/330
[290] البخاري 4/1508
[291] مجمع الزوائد 4/208) وقال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات" وقارن مع سير أعلام النبلاء 3/224
[292] ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/182
[293] سير أعلام النبلاء 2/396 وقال محقق الكتاب الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح"
[294] سير أعلام النبلاء 2/392
[295] منهاج السنة 4/409
[296] سير أعلام النبلاء 2/401 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "رجاله ثقات"
[297] طبقات ابن سعد 4/164 وسير أعلام النبلاء 3/228 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "سنده صحيح"
[298] سير أعلام النبلاء 3/271 وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح" وقد أخرج بعضه البيهقي 8/173 والطبراني في الكبير 3/87 وقال الهيثمي في حديث الطبراني: "رجاله رجال الصحيح" (مجمع الزوائد 4/207)
[299] فتح الباري 13/70 وسير أعلام النبلاء 3/225 وقال محققه شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح"
[300] منهاج السنة 8/335
[301] منهاج السنة 7/450
[302] مجموع الفتاوى 4/459-460
[303] الفتاوى 35/23
المصدر: خاص - الوحدة الإسلامية
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (3/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (5/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (6/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (5/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (6/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (1/6)
» الخلافات السياسية بين الصحابة : رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ (2/6)
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الحوار الموضوعي بين الأديان :: ساحة التقارب السني الشيعي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى