الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
بقلم: محمد الشبة
الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
مساهمة في دراسة العقل الأصولي الأشعري
تقديم:
بالإضافة إلى عرض المادة الأصولية، سنحاول من خلال هذه الدراسة القيام بنوع من المقاربة الابيستمولوجية التي بموجبها سنعمل على تسجيل بعض الملاحظات التي ستتوخى بالأساس رصد عمل عقل المجتهد، كما ينظر له أبو حامد الغزالي في المستصفى، للكشف عن بعض مكوناته وآلياته المعرفية والسمات المميزة له كعقل يريد أن ينتج المعرفة تحت سقف النص الديني، مادام ” عمل العقل في أصول الفقه، هو النظر في الشريعة على نحو يقصد استخلاص معاني الأدلة الشرعية فيها والأسس التي تنهض عليها مبادئها وكلياتها وطرق التشريع فيها”. (1)
إن محاولة كهاته تطرح الكثير من الصعوبات المتعلقة أساسا بطبيعة النص الأصولي الفقهي؛فآليات اشتغال العقل وميكانيزمات التفكير تختفي وتتوارى خلف المصطلحات والجزئيات الفقهية الأكثر تفصيلا. مما يجعل الأمر يقتضي تفكيك واستنطاق العبارة والمصطلح الدالين بشكل أفضل على مكونات العقل وطريقته في النظر.
ومعالجة موضوع الاجتهاد عند الغزالي له أهمية كبرى حسب تقديرنا الشخصي،في تناول العقل الأصولي بالتحليل والدراسة،نظرا لما لمبحث الاجتهاد من مكانة حساسة داخل أصول الفقه من حيث ارتباطه بالتشريع للأحكام وتدبير شؤون الفرد والمجتمع.فالعقل الأشعري الأصولي-ما دمنا نتحدث عن أصولي وأشعري كبير كالغزالي-يجد محكه ونقطة اختباره في هذا القطب بالذات،ما دام يجد نفسه دوما أمام نوازل جديدة ووقائع مستجدة تفرضها حركية المجتمع وتعاقب أحداث التاريخ.وهكذا فعملية إنتاج المعرفة،أو استخلاص الأحكام،تتم داخل طبيعة العلاقة التي تربط بين عناصر ثلاثة رئيسية:المجتهد(العقل)،والنص الديني (الأصل)،والواقعة الجديدة (الفرع).ومن أجل الكشف عن بعض السمات العامة والأساسية التي تميز الاجتهاد وعمل المجتهد داخل هذه الشبكة من العلاقات،ارتأينا أن نقسم هذه الدراسة إلى فصلين اثنين: عنونا الأول ب:الاجتهاد : حدود المجال وإشكالية الحكم.
وتناولنا خلاله الاجتهاد كما يعرفه الغزالي، ثم الشروط التي تؤهل المجتمع إلى بلوغ مرتبة الاجتهاد،كما تناولنا فيه الفضاء العام الذي يتحرك داخله عمل المجتهد؛بأن رسمنا الحدود وبينا المواضع التي يطالها فعل الاجتهاد ،لنصل في الأخير إلى الكيفية التي ينتج بها الحكم وطبيعة هذا الحكم وعلاقته بذات المجتهد.
وقد عملنا من خلال مواضيع هذا الفصل ،بين الفينة والأخرى،على رسم بعض الملاحظات ذات الطبيعة الإبستيمولوجية،أي تلك التي تتعلق بخصائص العقل وآليات إنتاجه للمعرفة وللأحكام.
أما الفصل الثاني فقد سرنا فيه على درب الفصل الأول من حيث الرؤية المؤطرة والطريقة المتبعة؛ فحاولنا فيه، هو الآخر، تحديد بعض ما عثرنا عليه من السمات المميزة للموقف من الاجتهاد وممارسته، وبالتالي تسجيل بعض الملاحظات على طبيعة العقل الأصولي لدى المجتهد. وقد حاولنا ذلك من خلال تناولنا لمفهومين يحتلان مكانة هامة داخل قطب الاجتهاد، نظرا لما يثيرانه من أفكار ولما ينجم عنهما من مواقف لها علاقة عضوية بثوابت العقل الأصولي الأشعري عموما، وبطبيعة عقل المجتهد كما ينظر له صاحب المستصفى على وجه الخصوص؛ ويتعلق الأمر بالتقليد من جهة، وبالترجيح من جهة أخرى.
كما نود أن نشير إلى أننا تجنبنا العمل المقارن، فلم نعمد إلى مقارنة فكر الغزالي حول الاجتهاد والمجتهد بفكر باقي الأصوليين من أشاعرة أو غيرهم. ليس لأننا لا نؤمن بجدوى المقارنة، بل على العكس من ذلك إننا نؤمن بأهمية العمل المقارن باعتباره يمكن من تحديد نقط الارتجاج والاختلال، ويبين حدود وتاريخية الفكر، ولكننا مع ذلك تركنا عملا كهذا خارج إطار هذه الدراسة.
_______________
1- سعيد بنسعيد،الخطاب الأشعري؛مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي،بيروت- لبنان الأولى1992.ص148.
الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
مساهمة في دراسة العقل الأصولي الأشعري
تقديم:
بالإضافة إلى عرض المادة الأصولية، سنحاول من خلال هذه الدراسة القيام بنوع من المقاربة الابيستمولوجية التي بموجبها سنعمل على تسجيل بعض الملاحظات التي ستتوخى بالأساس رصد عمل عقل المجتهد، كما ينظر له أبو حامد الغزالي في المستصفى، للكشف عن بعض مكوناته وآلياته المعرفية والسمات المميزة له كعقل يريد أن ينتج المعرفة تحت سقف النص الديني، مادام ” عمل العقل في أصول الفقه، هو النظر في الشريعة على نحو يقصد استخلاص معاني الأدلة الشرعية فيها والأسس التي تنهض عليها مبادئها وكلياتها وطرق التشريع فيها”. (1)
إن محاولة كهاته تطرح الكثير من الصعوبات المتعلقة أساسا بطبيعة النص الأصولي الفقهي؛فآليات اشتغال العقل وميكانيزمات التفكير تختفي وتتوارى خلف المصطلحات والجزئيات الفقهية الأكثر تفصيلا. مما يجعل الأمر يقتضي تفكيك واستنطاق العبارة والمصطلح الدالين بشكل أفضل على مكونات العقل وطريقته في النظر.
ومعالجة موضوع الاجتهاد عند الغزالي له أهمية كبرى حسب تقديرنا الشخصي،في تناول العقل الأصولي بالتحليل والدراسة،نظرا لما لمبحث الاجتهاد من مكانة حساسة داخل أصول الفقه من حيث ارتباطه بالتشريع للأحكام وتدبير شؤون الفرد والمجتمع.فالعقل الأشعري الأصولي-ما دمنا نتحدث عن أصولي وأشعري كبير كالغزالي-يجد محكه ونقطة اختباره في هذا القطب بالذات،ما دام يجد نفسه دوما أمام نوازل جديدة ووقائع مستجدة تفرضها حركية المجتمع وتعاقب أحداث التاريخ.وهكذا فعملية إنتاج المعرفة،أو استخلاص الأحكام،تتم داخل طبيعة العلاقة التي تربط بين عناصر ثلاثة رئيسية:المجتهد(العقل)،والنص الديني (الأصل)،والواقعة الجديدة (الفرع).ومن أجل الكشف عن بعض السمات العامة والأساسية التي تميز الاجتهاد وعمل المجتهد داخل هذه الشبكة من العلاقات،ارتأينا أن نقسم هذه الدراسة إلى فصلين اثنين: عنونا الأول ب:الاجتهاد : حدود المجال وإشكالية الحكم.
وتناولنا خلاله الاجتهاد كما يعرفه الغزالي، ثم الشروط التي تؤهل المجتمع إلى بلوغ مرتبة الاجتهاد،كما تناولنا فيه الفضاء العام الذي يتحرك داخله عمل المجتهد؛بأن رسمنا الحدود وبينا المواضع التي يطالها فعل الاجتهاد ،لنصل في الأخير إلى الكيفية التي ينتج بها الحكم وطبيعة هذا الحكم وعلاقته بذات المجتهد.
وقد عملنا من خلال مواضيع هذا الفصل ،بين الفينة والأخرى،على رسم بعض الملاحظات ذات الطبيعة الإبستيمولوجية،أي تلك التي تتعلق بخصائص العقل وآليات إنتاجه للمعرفة وللأحكام.
أما الفصل الثاني فقد سرنا فيه على درب الفصل الأول من حيث الرؤية المؤطرة والطريقة المتبعة؛ فحاولنا فيه، هو الآخر، تحديد بعض ما عثرنا عليه من السمات المميزة للموقف من الاجتهاد وممارسته، وبالتالي تسجيل بعض الملاحظات على طبيعة العقل الأصولي لدى المجتهد. وقد حاولنا ذلك من خلال تناولنا لمفهومين يحتلان مكانة هامة داخل قطب الاجتهاد، نظرا لما يثيرانه من أفكار ولما ينجم عنهما من مواقف لها علاقة عضوية بثوابت العقل الأصولي الأشعري عموما، وبطبيعة عقل المجتهد كما ينظر له صاحب المستصفى على وجه الخصوص؛ ويتعلق الأمر بالتقليد من جهة، وبالترجيح من جهة أخرى.
كما نود أن نشير إلى أننا تجنبنا العمل المقارن، فلم نعمد إلى مقارنة فكر الغزالي حول الاجتهاد والمجتهد بفكر باقي الأصوليين من أشاعرة أو غيرهم. ليس لأننا لا نؤمن بجدوى المقارنة، بل على العكس من ذلك إننا نؤمن بأهمية العمل المقارن باعتباره يمكن من تحديد نقط الارتجاج والاختلال، ويبين حدود وتاريخية الفكر، ولكننا مع ذلك تركنا عملا كهذا خارج إطار هذه الدراسة.
_______________
1- سعيد بنسعيد،الخطاب الأشعري؛مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي،بيروت- لبنان الأولى1992.ص148.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
الفصل الأول: الاجتهاد: حدود المجال وإشكالية الحكم
حينما يتم الحديث عن الاجتهاد في أصول الفقه، فإنه يتم ربطه أساسا ببذل الطاقة من طرف الفقيه وتحمله للجهد والمكابدة من أجل صياغة حكم “شرعي”، بصدد واقعة أو نازلة من النوازل. هكذا يصبح الاجتهاد عامة، كما نجد في عبارة “المستصفى”، هو “عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد، فيقال اجتهد في حمل حجر الرحى ولا يقال اجتهد في حمل خردلة”.(1)
هكذا فاللغة حاضرة بقوة كسلطة معرفية تحدد معالم الفكر وترسم له آفاقه وتعريفاته؛ فالمعنى الأصولي-الفقهي للاجتهاد سيستمد عند أبي حامد مضمونه ومحتواه من معنى سابق يشكل مرجعية بالنسبة له. ذلك هو المعنى الموجود في اللغة العربية. وهو ما يجعلنا نسجل منذ البدىء بأن المضامين التي تتيحها عبارات اللغة العربية – لغة الأعرابي كما يقول الجابري – مستبطنة بهذه الكيفية أو تلك من خلال الممارسة الأصولية للغزالي كفقيه أشعري.
وقد نسمح لأنفسنا بالحديث عما يمكن تسميته ب “السلف اللغوي”، ذلك الذي يقبع دوما خلف كل ممارسة فكرية أو إنتاج معرفي يقوم به الأصولي الأشعري.
وإذا رجعنا إلى التعريف السابق، وجدناه في أساسه هو عين المضمون الذي نجده في معجم “لسان العرب”. يقول صاحب هذا المعجم: “والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود. وفي حديث معاذ: اجتهد رأي الاجتهاد؛ بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد الطاقة،…”(2)
فهاهنا نجدنا أمام فعل الجهد وبذل الوسع والطاقة من جهة، وأمام فعل الطلب من جهة أخرى. وهو ما يتضح في عبارة أبي حامد حينما يخصص التعريف؛ فيصبح الاجتهاد عنده “مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة”.(3) وهو ما جعل الغزالي يقرر بأن الاجتهاد لا يكون تاما إلا إذا بلغ المجتهد حدا في الطلب لا يقوى فيه على المزيد. والطلب هنا هو طلب للمعنى الموجود في النص، باعتبار أن النص يشكل المرجعية الأساس بالنسبة للتفكير الديني داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية. وهو ما تنبه إليه أحد الباحثين حينما اعتبر أن كلمة الطلب في عبارة الغزالي هي أساسا “التنقيب عن النصوص والمطالبة بها”.(4)
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
1- شروط المجتهد:
يشترط الغزالي في المجتهد شرطين أساسيين:
أ- أن يكون محيطا بمدارك الشرع.
ب- أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي.
وواضح أن الشرط الثاني ذو طبيعة أخلاقية، إذ يشترط في المجتهد أن يكون معروفا بالسلوك الفاضل والسيرة الحسنة. غير أن هذا الشرط غير كافي لتأهيل صاحبه للقيام بالاجتهاد، وإن كان ضروريا لقبول فتواه. ومن ثم يكون الحديث عن الشرط الأول، الذي هو شرط تقني، حديثا في حاجة إلى شيء من التفصيل.
إن المجتهد لا يمكن أن يتصف بهذه الصفة إلا إذا كان عارفا بمدارك الشرع، وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهذا من جهة، وأن يكون ملما بالتقنيات التي تمكن من استنباط الأحكام واستثمارها، وهذا من جهة ثانية.
أما بخصوص القرآن فيشترط في المجتهد:
أ- أن يكون عارفا بالآيات المتعلقة بالأحكام، وليس ضروريا أن يكون عارفا بكل القرآن
وحافظا لكل آياته.
ب- أن يكون عالما بمواضع الآيات المتعلقة بالأحكام وهي خمسمائة آية، بحيث
يستثمرها عند الحاجة. وليس ضروريا أيضا أن يحفظها عن ظهر قلبه.
وأما السنة فيشترط في المجتهد:
أ- أن يكون عارفا بالأحاديث المتعلقة بالأحكام. وليس ضروريا أن يكون عارفا
بالأحاديث المتعلقة بالمواعظ وأحكام الآخرة مثلا.
ب- أن يتوفر على ” أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام”(5)، وليس عليه
إن لم يكن يحفظها عن ظهر قلب، بل يكفي أن يكون عارفا بالمواضع والأبواب التي
تندرج تحتها.
وأما بخصوص الإجماع، فعلى المجتهد:
أ- أن يكون عارفا بالنصوص حتى لا تكون فتواه مخالفة لأحكامها.
ب- أن لا يكون بالضرورة عالما بكل مواقع الإجماع، بل يكفيه أن يعلم أن المسألة التي
أفتى فيها غير مخالفة للإجماع، وأنها موافقة لأحد مواقعه أو أنها متولدة لم يسبق
فيها إجماع.
وأما العقل فهو ” مستند النفي الأصلي للأحكام “(6)، فهو يجعل كل فعل مباح إلا ما قضى الشرع/النص بتحريمه، ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة.
بالإضافة إلى كل هذا، فطرق الاستثمار تعرف من خلال المعرفة الدقيقة باللغة والنحو، والمعرفة بالأدلة وشروطها.
وهكذا يقسم الغزالي الأدلة إلى ثلاثة أصناف:
أ- الأدلة العقلية؛ وهي التي دلالتها كامنة فيها بحيث يعتمد على العقل ومبادئه
لاستخراج الأحكام المتعلقة بها.
ب- الأدلة الشرعية؛ وهي التي جعلها الشرع كذلك.
ج- ما يسميه صاحب “المستصفى” بالأدلة الوضعية؛ وهي تلك الخاصة بعبارات اللغة
والأساليب الموضوعة فيها.
فإذا لم يعرف المجتهد الأدلة وشروطها، لم يتمكن من معرفة حقيقة الشرع والغاية من الأحكام. ومن الشروط التي يجب أن تتوفر في المجتهد كذلك، إيمانه بالرسل وبالمعجزات التي أجراها الله على أيديهم، وليس عليه أن يملك البرهنة العقلية على ذلك ما دام قد تقرر ذلك في علم الكلام وتكفل المتكلم بالقيام به. فلا يشترط في المجتهد أن يكون عارفا بأساليب المتكلمين ومختلف البراهين التي يستعملونها في الحجاج والجدال وتقرير الحقائق.
شرط آخر إذا ينضاف إلى باقي شروط المجتهد؛ وهو الذي يعمد أبو حامد إلى تلخيصه في شرط الإسلام الذي يعني أساسا الإيمان والتصديق بالمبادئ الأساسية للعقيدة الدينية.
إن معرفة المجتهد بأحكام القرآن والسنة تقتضي أيضا معرفته بالناسخ والمنسوخ، على الأقل فيما يتعلق بالآيات والأحاديث التي تهم المسألة المجتهد فيها؛ إذ ضروريا أن يعرف أن تلك الآيات والأحاديث ليست من المنسوخ.
إذا أردنا أن نجمل مختلف الشروط التي يجب أن تتوفر في المجتهد، أمكننا القول، مع أبي حامد، بأن منصب الاجتهاد لا يتأتى إلا لمن كان ملما بهذا القدر أو ذاك، بثلاثة علوم أساسية:
- علم الحديث.
- علم اللغة.
- علم أصول الفقه.
أما الكلام والفروع الخاصة بالفقه فليست ضرورية لتقلد منصب الاجتهاد، وإنما بالاجتهاد تحصل فروع الفقه؛ فهو شرط لها وليس هي بشرط له.
والغزالي من القائلين بإمكانية التجزيء في الاجتهاد؛ أي أن يكون المجتهد عارفا بالحكم الذي يهمه في المسألة التي يريد أن يجتهد فيها، أما الأحكام الأخرى فليس ضروريا أن يكون عالما لها. وهذا ما يستدعي من المجتهد التوقف عند المسائل التي ليست له دراية بها، وهو ما يعني كذلك وجود اختلافات ومراتب في “العملية الاجتهادية” المتعلقة بالأحكام المتضمنة في النصوص الدينية. ويكون الاختلاف والدرجة بحسب سعة المجتهد واطلاعه على علوم الحديث واللغة وأصول الفقه، وكذا توظيفه الجيد للتقنيات الخاصة بتأويل النصوص من جهة، والخاصة بقراءة الظرف الذي يحيط بالواقعة الجديدة المراد إيجاد حكم شرعي لها من جهة أخرى.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
2- مجال الاجتهاد:
يذهب الغزالي إلى أن الفقهاء اختلفوا في الواقعة الجديدة التي لا نص فيها؛ فذهب فريق إلى أن فيها حكم معين هو مقصود الله ويطلب من المجتهد الوصول إليه، بينما ذهب الفريق الآخر إلى أن الحكم المتعلق بالواقعة الجديدة رهين باجتهاد المجتهد وغالب الظن الذي يصل إليه. فليس هناك بالمعنى الأخير حكم معين واحد، بل الحكم هو ما غلب على ظن المجتهد. وهذا ما يذهب إليه الغزالي أيضا إذ يقول: ” والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه، أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى “.(7)
ويرى أبو حامد أن المجتهد يكون مخطئا وآثما إذا حصل منه تقصير في النص الذي بالإمكان بلوغ الحكم المتضمن فيه، أما إذا تعلق الأمر بالنص الذي يتعذر بلوغ معناه بسبب عائق من العوائق، فلا يكون المجتهد مخطئ حقيقة بل قد يسمى مخطئا مجازا.
إن المجتهد يريد الوصول إلى حكم شرعي بصدد مسألة ليس فيها دليل قطعي، ذلك أن التعارض ينتفي في الأدلة القطعية، بينما قد يقوم في الأدلة الظنية دليلان متعارضان حول مسألة واحدة. وهو ما يجعلنا نتحدث، مع حجة الإسلام، عما يسميه ب “المجتهد فيه” والذي هو ” كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي”.(8)
وهكذا فقد حصر أبو حامد مجال الاجتهاد في الشرعيات التي لا يكون المخطئ فيها آثما، أما العقليات ومسائل الكلام فالمخطئ فيها آثم. ويميز في الشرعيات بين ما يجب الاجتهاد فيه وبين ما لا يجب كالصلوات الخمس وغيرها. وهو ما سيجعله يقسم “النظريات” إلى قسمين: ظنية وقطعية. الأولى لا تحتمل الإثم والخطأ، أما الثانية فتحتمل الإثم ذلك أن المخطئ فيها آثم.
أما القطعيات فهي ثلاثة أقسام: كلامية وأصولية وفقهية. فالمخطئ في قضايا علم الكلام، التي هي قضايا عقلية محضة يتوصل إليها بالنظر، آثم. بيدأنه مع ذلك لا يصل إلى درجة الكفر. ومن الملاحظ أن الآثم/المخطئ هنا هو كل مخالف ومعارض للقضايا المقررة في علم الكلام الأشعري كمسألة الرؤية وخلق الأفعال مثلا.
أما فيما يخص القطعيات الأصولية، فنذكر منها حجية كل من الإجماع والقياس وخبر الواحد. في حين تكون الصلوات الخمس والزكاة…الخ، من القطعيات الفقهية التي يلزم أن يكون المخالف في بعضها كافرا ” وهي ما علم ضرورة من مقصود الشارع “، وفي البعض الآخر آثما وهو ما ” علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة “.(9)
وهكذا فالاجتهاد لا يكون في القطعيات من علم الكلام وعلم الأصول وعلم الفقه، والمصيب فيها يكون واحدا، أما المخالف فهو آثم في مواضع وكافر في مواضع أخرى.إن المجتهد المصيب واحد في العقليات وكل مخالف له فهو مخطئ آثم،أما في الظنيات التي ليس فيها دليل قاطع أو حكم معين فالاختلاف فيها مشروع ومبرر ولا تأثيم فيه. من هنا يذهب الغزالي إلى أن “انتقاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ونفي التكليف ينتج نفي الإثم”.(10) وهو يزكيه أيضا اختلاف الصحابة في الكثير من الأمور الفرعية المتعلقة بالفرائض و الأحكام. فقد كان الاختلاف واقعا بين السلف في العصر الواحد وكان كل واحد يعمل باجتهاده في الأمور الظنية ويأمر العوام بذلك، ومع هذا لم يكفر بعضهم بعضا، وذلك معلوم بالتواتر الذي يوجب العلم والعمل ولا يترك أي مجال للشك كما يقرر الغزالي ذلك.
إن غلبة الظن في نفس المجتهد أو القائس تختلف ب “اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات”،فيميل إلى ما يناسبه من الأدلة والأمارات، وهذه الأخيرة تغدو والحالة هذه “كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها”.(11)
هكذا فوظيفة المجتهد لا تتعدى المقاربة و”التعليل في الفقه…إنما يقوم على الجواز لا على الوجوب”.(12) وهو لا يبتدئ حكما بشكل مطلق بل يبقى مرتبطا بالنص، خصوصا إذا علمنا أن ” النص في الإيبستيمولوجيا البيانية هو، كما نعرف، السلطة المرجعية الأساس “.(13) بيدأن تحصيل المجتهد للحكم انطلاقا من النص يبقى تحصيلا ظنيا وليس يقينيا، كما أنه لا يلزم لزوما ضروريا من النص بل يبقى مرتبطا بقدرات المجتهد /القائس وإمكانياته الاستقرائية، حيث يميل في آخر المطاف إلى ما غلب الظن على الأخذ به. وهذا بخلاف الأدلة العقلية الاستنباطية التي لا تقبل الظن ولا تحتمل الترجيح.
إن حقيقة الدليل في الظنيات يتضح بشكل جلي في عبارة صاحب المستصفى إذ يقول: ” لا دليل في الظنيات على التحقيق، وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز وبالإضافة إلى ما مالت نفسه إليه “.(14) وهكذا يمكن القول مع الجابري إن ” العلاقة بين الدليل والمدلول ليست ضرورية، بمعنى أنها لا تخضع لمبدأ السببية ” والضرورة العقلية، بل تؤول في آخر المطاف إلى المشابهة والمقايسة والمقاربة.
فلنسجل إذا أن “الدليل” في الممارسة الأصولية (كما في الممارسة الكلامية) لعمل المجتهد، لا يخضع للضرورة والحتمية لا بالمعنى التجريبي ولا بالمعنى العقلي، وإنما هو تابع من جهة إلى ما رجحته نفس المجتهد وخاضع من جهة أخرى لمبدأ التجويز.
يذهب الغزالي إلى أن الفقهاء اختلفوا في الواقعة الجديدة التي لا نص فيها؛ فذهب فريق إلى أن فيها حكم معين هو مقصود الله ويطلب من المجتهد الوصول إليه، بينما ذهب الفريق الآخر إلى أن الحكم المتعلق بالواقعة الجديدة رهين باجتهاد المجتهد وغالب الظن الذي يصل إليه. فليس هناك بالمعنى الأخير حكم معين واحد، بل الحكم هو ما غلب على ظن المجتهد. وهذا ما يذهب إليه الغزالي أيضا إذ يقول: ” والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه، أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى “.(7)
ويرى أبو حامد أن المجتهد يكون مخطئا وآثما إذا حصل منه تقصير في النص الذي بالإمكان بلوغ الحكم المتضمن فيه، أما إذا تعلق الأمر بالنص الذي يتعذر بلوغ معناه بسبب عائق من العوائق، فلا يكون المجتهد مخطئ حقيقة بل قد يسمى مخطئا مجازا.
إن المجتهد يريد الوصول إلى حكم شرعي بصدد مسألة ليس فيها دليل قطعي، ذلك أن التعارض ينتفي في الأدلة القطعية، بينما قد يقوم في الأدلة الظنية دليلان متعارضان حول مسألة واحدة. وهو ما يجعلنا نتحدث، مع حجة الإسلام، عما يسميه ب “المجتهد فيه” والذي هو ” كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي”.(8)
وهكذا فقد حصر أبو حامد مجال الاجتهاد في الشرعيات التي لا يكون المخطئ فيها آثما، أما العقليات ومسائل الكلام فالمخطئ فيها آثم. ويميز في الشرعيات بين ما يجب الاجتهاد فيه وبين ما لا يجب كالصلوات الخمس وغيرها. وهو ما سيجعله يقسم “النظريات” إلى قسمين: ظنية وقطعية. الأولى لا تحتمل الإثم والخطأ، أما الثانية فتحتمل الإثم ذلك أن المخطئ فيها آثم.
أما القطعيات فهي ثلاثة أقسام: كلامية وأصولية وفقهية. فالمخطئ في قضايا علم الكلام، التي هي قضايا عقلية محضة يتوصل إليها بالنظر، آثم. بيدأنه مع ذلك لا يصل إلى درجة الكفر. ومن الملاحظ أن الآثم/المخطئ هنا هو كل مخالف ومعارض للقضايا المقررة في علم الكلام الأشعري كمسألة الرؤية وخلق الأفعال مثلا.
أما فيما يخص القطعيات الأصولية، فنذكر منها حجية كل من الإجماع والقياس وخبر الواحد. في حين تكون الصلوات الخمس والزكاة…الخ، من القطعيات الفقهية التي يلزم أن يكون المخالف في بعضها كافرا ” وهي ما علم ضرورة من مقصود الشارع “، وفي البعض الآخر آثما وهو ما ” علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة “.(9)
وهكذا فالاجتهاد لا يكون في القطعيات من علم الكلام وعلم الأصول وعلم الفقه، والمصيب فيها يكون واحدا، أما المخالف فهو آثم في مواضع وكافر في مواضع أخرى.إن المجتهد المصيب واحد في العقليات وكل مخالف له فهو مخطئ آثم،أما في الظنيات التي ليس فيها دليل قاطع أو حكم معين فالاختلاف فيها مشروع ومبرر ولا تأثيم فيه. من هنا يذهب الغزالي إلى أن “انتقاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ونفي التكليف ينتج نفي الإثم”.(10) وهو يزكيه أيضا اختلاف الصحابة في الكثير من الأمور الفرعية المتعلقة بالفرائض و الأحكام. فقد كان الاختلاف واقعا بين السلف في العصر الواحد وكان كل واحد يعمل باجتهاده في الأمور الظنية ويأمر العوام بذلك، ومع هذا لم يكفر بعضهم بعضا، وذلك معلوم بالتواتر الذي يوجب العلم والعمل ولا يترك أي مجال للشك كما يقرر الغزالي ذلك.
إن غلبة الظن في نفس المجتهد أو القائس تختلف ب “اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات”،فيميل إلى ما يناسبه من الأدلة والأمارات، وهذه الأخيرة تغدو والحالة هذه “كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها”.(11)
هكذا فوظيفة المجتهد لا تتعدى المقاربة و”التعليل في الفقه…إنما يقوم على الجواز لا على الوجوب”.(12) وهو لا يبتدئ حكما بشكل مطلق بل يبقى مرتبطا بالنص، خصوصا إذا علمنا أن ” النص في الإيبستيمولوجيا البيانية هو، كما نعرف، السلطة المرجعية الأساس “.(13) بيدأن تحصيل المجتهد للحكم انطلاقا من النص يبقى تحصيلا ظنيا وليس يقينيا، كما أنه لا يلزم لزوما ضروريا من النص بل يبقى مرتبطا بقدرات المجتهد /القائس وإمكانياته الاستقرائية، حيث يميل في آخر المطاف إلى ما غلب الظن على الأخذ به. وهذا بخلاف الأدلة العقلية الاستنباطية التي لا تقبل الظن ولا تحتمل الترجيح.
إن حقيقة الدليل في الظنيات يتضح بشكل جلي في عبارة صاحب المستصفى إذ يقول: ” لا دليل في الظنيات على التحقيق، وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز وبالإضافة إلى ما مالت نفسه إليه “.(14) وهكذا يمكن القول مع الجابري إن ” العلاقة بين الدليل والمدلول ليست ضرورية، بمعنى أنها لا تخضع لمبدأ السببية ” والضرورة العقلية، بل تؤول في آخر المطاف إلى المشابهة والمقايسة والمقاربة.
فلنسجل إذا أن “الدليل” في الممارسة الأصولية (كما في الممارسة الكلامية) لعمل المجتهد، لا يخضع للضرورة والحتمية لا بالمعنى التجريبي ولا بالمعنى العقلي، وإنما هو تابع من جهة إلى ما رجحته نفس المجتهد وخاضع من جهة أخرى لمبدأ التجويز.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
3- إشكالية الحكم في عمل المجتهد:
يذهب الغزالي إلى ” أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال المكلفين “، من هنا فليس هناك تناقض إذا ما كان نفس الشيء حلالا على شخص وحراما على آخر، وإنما التناقض يظهر إذا اجتمع ” التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد. فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض “.(16)
نحن هنا أمام خاصية أساسية من خصائص العقل الأصولي الأشعري، كما نلمسها في عبارة المستصفى، وهي المتعلقة بخاصية التجويز أو الجواز. وبموجب هذه الخاصية أو هذا المبدأ
- مبدأ التجويز- يكون للشارع كل الأحقية والسلطة لكي يحرم الشيء ويحلله في الآن نفسه ولا تناقض، اللهم إلا في حالة واحدة هي التي وصفها الغزالي في النص أعلاه. إن تعريف الحكم عند الغزالي يأتي منسجما مع الثوابت والمبادئ الأساسية التي قررت في علم الكلام. وهو ما يصطلح عليه بإجراء الأصول في الفروع؛ فحقيقة الشيء لا تكمن فيه نفسه –أي في حد ذاته- بل إن حقيقته هي ما يجعلها الشارع كذلك. وهذا بخلاف الثابت المعتزلي الذي يقضي بربط الحكم بحقائق الأشياء ذاتها. وهكذا فحكم شارب الخمر بالنسبة للأصولي الأشعري لا يتعلق بالخمر في حد ذاته بل بفعل الشرب. هذا الفعل الذي لا يحرم استنادا إلى العقل بل استنادا إلى النص الديني، مما يجعل النقل في مرتبة أشرف من العقل وأسبق منه.
إننا هنا مع الغزالي – في مجال الفقهيات- أمام أحكام ظنية، وتتعدد بحسب الحالات وفعل الاجتهاد. ولا يؤدي التعدد إلى أي تناقض ما دام تعددا في أحوال مختلفة. وهو ما يجعل الغزالي يدافع في صفحات عديدة من “المستصفى” عن شرعية الاختلاف في الاجتهاد، ويرد على منكري الاجتهاد والقائلين بأن الحق واحد لا يلزم معه اجتهاد، فيذهب إلى تقرير أن الاختلاف المنهي عنه هو ” الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والأئمة “.(17) أما حينما يتعلق الأمر بمصالح الحرب وغيرها من الأمور الدنيوية، فإن الاختلاف فيها مبرر ومشروع. وهو مبرر كذلك، بل وضروري، في كل الأمور الحادثة التي ليس فيها نص قاطع. أما إذا كان هناك دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع، كان الحكم ظاهرا وثابتا يمتنع معه الظن والاجتهاد.
حسب الغزالي إذا، الاجتهاد في الظنيات واجب بل وضروري حتى لو كان الاجتهاد سيؤدي في الكثير من الأحوال إلى الخطأ، ذلك أن المجتهد الذي تتوفر فيه شروط الاجتهاد يؤجر حتى على الخطأ. ويكون الاجتهاد غير مصيب في المواطن التالية:
1- أن يكون الاجتهاد صادرا عن غير أهله.
2- أن يكون الاجتهاد ناقصا غير مستوفي لتمام النظر.
3- أن يكون الاجتهاد حول مسألة فيها دليل قاطع.
4- أن تكون النتيجة المتوصل إليها مخالفة لدليل قاطع.
لكن مع توفر كل الشروط التي تجعل الاجتهاد صحيحا، وهي الشروط المعاكسة للمواضع الأربعة المذكورة أعلاه، فإن إمكانية الخطإ لا تنتفي بل تثبت في كثير من الأحوال، إلا أنه ” مع ذلك كله يثبت اسم الخطإ بالإضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب “.(18) فالطلب هو طلب إنساني يعتريه الخطأ، ويكون العقل خلاله يخوض “مغامرة” فكرية في تشريعه للناس والمجتمع؛ فيصيب تارة ويخطئ أخرى، أما الواجب فهو واجب إلهي، مصدره النص الديني، لاسيما إذا كان واضحا بما فيه الكفاية وقاطعا في دلالته. تلك إذا إحدى الثوابت الأساسية لدى العقل عند الغزالي كأحد أقطاب الفكر الأصولي الأشعري.
إن الخطأ يغازل دوما فعل الذات وهي تشتغل تحت سقف النص الديني، هذا النص الذي قد لا يفصح عن نفسه بسهولة وفي كل الأحوال. وهو ما يطرح على الذات ضرورة البحث عن آليات وأدوات للاشتغال، سواء من حيث العمل الاستنباطي المتعلق بالنص الديني أو من حيث العمل الاستقرائي المتعلق بالوقائع المجتهد فيها. كما أنه يثير من جهة أخرى، إشكالية الذات/المجتهد والمرجع/ النص في علاقتهما نحو تقرير الحكم، المطابق لمقصود الشرع أو القريب منه على الأقل، بصدد الموضوع المجتهد فيه.
وهكذا يجعل الغزالي المسائل اثنين:
1- المسائل التي فيها نص، ولا يكون الحكم المتضمن فيها حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه. وهو مطالب بذلك، وإن لم يفعل فهو آثم. أما إذا كان هناك عائق يمنع المجتهد من بلوغ النص، فيبقى أن حكم النص في حق المجتهد هو حكم بالقوة لا بالفعل.
وواضح هنا حضور مفهوم “الطلب” الذي أشرنا إليه آنفا حينما كنا بصدد مناقشة التعريف الذي وضعه الغزالي للاجتهاد، وهذا من جهة، وحضور المصطلح الفلسفي في الخطاب الأصولي لدى أبي حامد حتى في تفاريعه الأكثر تعقيد وخصوصية، وهذا من جهة أخرى.
2- المسائل التي لا نص فيها وهي مسائل لا حكم فيها، ولا يوجد خطاب مسموع أو مدلول عليه يثبت فيها حكما. ومن ثمة فهي من الظنيات التي يكون باب الاجتهاد مفتوحا فيها على مصراعيه. والحكم هنا يكون بالإضافة؛ أي تابعا لظن المجتهدين وليس ثابتا وقارا.
وهكذا يذهب الغزالي إلى أن الواقعة التي لا نص فيها ولا خطاب إنما يطلب فيها غلبة الظن، ويرسم عن ذلك صورة رائعة حيث يجعل المجتهد في هذه الحالة ” كمن كان على ساحل البحر وقيل له: إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب، وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب، وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله، فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم “.(19)
يمكن القول إذا، أن المجتهد إما أن يجد نفسه أمام نص قاطع فلا يملك إلا أن يطأطئ الرأس أمامه، وإما أن ينتفي النص القاطع فيترك المجال للمجتهد كي يشرع ويدبر تبعا “للمصلحة” أو الشبه المفترض بين الفرع والأصل.
ومفهوم “المصلحة” هذا، يشكل متنفسا حقيقيا أمام العقل الأصولي الأشعري كي يمارس بعض “حريته” في التشريع للمجتمع والتدبير لشؤون الأمة. وفي هذا الصدد يلاحظ سعيد بنسعيد أنه حينما تصل لعبة الاجتهاد والترجيح ” حدا من النظر والإمكان لا يمكنها فيه أن تخطو خطوات أخرى على درب النظر الأصولي المجرد، فنحن نجد أن مفهوم “المصلحة” من جهة أولى، ومفهوم “العلة” من جهة ثانية، يجدان في التشريع العملي ملجأ وملاذا يحتميان به ويتنفسان في مناخه “.(20)
يذهب الغزالي إلى ” أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال المكلفين “، من هنا فليس هناك تناقض إذا ما كان نفس الشيء حلالا على شخص وحراما على آخر، وإنما التناقض يظهر إذا اجتمع ” التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد. فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض “.(16)
نحن هنا أمام خاصية أساسية من خصائص العقل الأصولي الأشعري، كما نلمسها في عبارة المستصفى، وهي المتعلقة بخاصية التجويز أو الجواز. وبموجب هذه الخاصية أو هذا المبدأ
- مبدأ التجويز- يكون للشارع كل الأحقية والسلطة لكي يحرم الشيء ويحلله في الآن نفسه ولا تناقض، اللهم إلا في حالة واحدة هي التي وصفها الغزالي في النص أعلاه. إن تعريف الحكم عند الغزالي يأتي منسجما مع الثوابت والمبادئ الأساسية التي قررت في علم الكلام. وهو ما يصطلح عليه بإجراء الأصول في الفروع؛ فحقيقة الشيء لا تكمن فيه نفسه –أي في حد ذاته- بل إن حقيقته هي ما يجعلها الشارع كذلك. وهذا بخلاف الثابت المعتزلي الذي يقضي بربط الحكم بحقائق الأشياء ذاتها. وهكذا فحكم شارب الخمر بالنسبة للأصولي الأشعري لا يتعلق بالخمر في حد ذاته بل بفعل الشرب. هذا الفعل الذي لا يحرم استنادا إلى العقل بل استنادا إلى النص الديني، مما يجعل النقل في مرتبة أشرف من العقل وأسبق منه.
إننا هنا مع الغزالي – في مجال الفقهيات- أمام أحكام ظنية، وتتعدد بحسب الحالات وفعل الاجتهاد. ولا يؤدي التعدد إلى أي تناقض ما دام تعددا في أحوال مختلفة. وهو ما يجعل الغزالي يدافع في صفحات عديدة من “المستصفى” عن شرعية الاختلاف في الاجتهاد، ويرد على منكري الاجتهاد والقائلين بأن الحق واحد لا يلزم معه اجتهاد، فيذهب إلى تقرير أن الاختلاف المنهي عنه هو ” الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والأئمة “.(17) أما حينما يتعلق الأمر بمصالح الحرب وغيرها من الأمور الدنيوية، فإن الاختلاف فيها مبرر ومشروع. وهو مبرر كذلك، بل وضروري، في كل الأمور الحادثة التي ليس فيها نص قاطع. أما إذا كان هناك دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع، كان الحكم ظاهرا وثابتا يمتنع معه الظن والاجتهاد.
حسب الغزالي إذا، الاجتهاد في الظنيات واجب بل وضروري حتى لو كان الاجتهاد سيؤدي في الكثير من الأحوال إلى الخطأ، ذلك أن المجتهد الذي تتوفر فيه شروط الاجتهاد يؤجر حتى على الخطأ. ويكون الاجتهاد غير مصيب في المواطن التالية:
1- أن يكون الاجتهاد صادرا عن غير أهله.
2- أن يكون الاجتهاد ناقصا غير مستوفي لتمام النظر.
3- أن يكون الاجتهاد حول مسألة فيها دليل قاطع.
4- أن تكون النتيجة المتوصل إليها مخالفة لدليل قاطع.
لكن مع توفر كل الشروط التي تجعل الاجتهاد صحيحا، وهي الشروط المعاكسة للمواضع الأربعة المذكورة أعلاه، فإن إمكانية الخطإ لا تنتفي بل تثبت في كثير من الأحوال، إلا أنه ” مع ذلك كله يثبت اسم الخطإ بالإضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب “.(18) فالطلب هو طلب إنساني يعتريه الخطأ، ويكون العقل خلاله يخوض “مغامرة” فكرية في تشريعه للناس والمجتمع؛ فيصيب تارة ويخطئ أخرى، أما الواجب فهو واجب إلهي، مصدره النص الديني، لاسيما إذا كان واضحا بما فيه الكفاية وقاطعا في دلالته. تلك إذا إحدى الثوابت الأساسية لدى العقل عند الغزالي كأحد أقطاب الفكر الأصولي الأشعري.
إن الخطأ يغازل دوما فعل الذات وهي تشتغل تحت سقف النص الديني، هذا النص الذي قد لا يفصح عن نفسه بسهولة وفي كل الأحوال. وهو ما يطرح على الذات ضرورة البحث عن آليات وأدوات للاشتغال، سواء من حيث العمل الاستنباطي المتعلق بالنص الديني أو من حيث العمل الاستقرائي المتعلق بالوقائع المجتهد فيها. كما أنه يثير من جهة أخرى، إشكالية الذات/المجتهد والمرجع/ النص في علاقتهما نحو تقرير الحكم، المطابق لمقصود الشرع أو القريب منه على الأقل، بصدد الموضوع المجتهد فيه.
وهكذا يجعل الغزالي المسائل اثنين:
1- المسائل التي فيها نص، ولا يكون الحكم المتضمن فيها حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه. وهو مطالب بذلك، وإن لم يفعل فهو آثم. أما إذا كان هناك عائق يمنع المجتهد من بلوغ النص، فيبقى أن حكم النص في حق المجتهد هو حكم بالقوة لا بالفعل.
وواضح هنا حضور مفهوم “الطلب” الذي أشرنا إليه آنفا حينما كنا بصدد مناقشة التعريف الذي وضعه الغزالي للاجتهاد، وهذا من جهة، وحضور المصطلح الفلسفي في الخطاب الأصولي لدى أبي حامد حتى في تفاريعه الأكثر تعقيد وخصوصية، وهذا من جهة أخرى.
2- المسائل التي لا نص فيها وهي مسائل لا حكم فيها، ولا يوجد خطاب مسموع أو مدلول عليه يثبت فيها حكما. ومن ثمة فهي من الظنيات التي يكون باب الاجتهاد مفتوحا فيها على مصراعيه. والحكم هنا يكون بالإضافة؛ أي تابعا لظن المجتهدين وليس ثابتا وقارا.
وهكذا يذهب الغزالي إلى أن الواقعة التي لا نص فيها ولا خطاب إنما يطلب فيها غلبة الظن، ويرسم عن ذلك صورة رائعة حيث يجعل المجتهد في هذه الحالة ” كمن كان على ساحل البحر وقيل له: إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب، وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب، وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله، فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم “.(19)
يمكن القول إذا، أن المجتهد إما أن يجد نفسه أمام نص قاطع فلا يملك إلا أن يطأطئ الرأس أمامه، وإما أن ينتفي النص القاطع فيترك المجال للمجتهد كي يشرع ويدبر تبعا “للمصلحة” أو الشبه المفترض بين الفرع والأصل.
ومفهوم “المصلحة” هذا، يشكل متنفسا حقيقيا أمام العقل الأصولي الأشعري كي يمارس بعض “حريته” في التشريع للمجتمع والتدبير لشؤون الأمة. وفي هذا الصدد يلاحظ سعيد بنسعيد أنه حينما تصل لعبة الاجتهاد والترجيح ” حدا من النظر والإمكان لا يمكنها فيه أن تخطو خطوات أخرى على درب النظر الأصولي المجرد، فنحن نجد أن مفهوم “المصلحة” من جهة أولى، ومفهوم “العلة” من جهة ثانية، يجدان في التشريع العملي ملجأ وملاذا يحتميان به ويتنفسان في مناخه “.(20)
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
هوامش الفصل الأول:
1- الغزالي،المستصفى من علم الأصول،الجزء الثاني، دار الفكر ،ص350.
2- ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الثالث، دار الفكر-بيروت، ص135.
3- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني ،نفس المعطيات السابقة،ص 350.
4- بنسالم حميش، الغزالي بين فكر القطعيات وسياسة الإقطاع،موجود في : أبو حامد الغزالي :دراسات في فكره وعصره وتأثيره،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط ،سلسلة ندوات ومناظرات رقم9 ، 1988،ص36.
5- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني،ص351.
6- نفس المرجع والصفحة.
7- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني، ص364.
8- نفسه،ص354.
9- نفسه،ص358.
10- نفسه،ص362.
11- نفسه،ص365-366.
12- محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء/ المغرب ، الطبعة الأولى،
1986،ص 172.
13- نفسه، ص 144.
14- الغزالي،المستصفى الجزء الثاني،ص366 .
15- الجابري ،بنية العقل العربي،ص223.
16- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني ،ص367.
17- نفسه، ص374.
18- نفسه،ص371.
19- نفسه،ص377.
20- سعيد بنسعيد، الخطاب الأشعري.
1- الغزالي،المستصفى من علم الأصول،الجزء الثاني، دار الفكر ،ص350.
2- ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الثالث، دار الفكر-بيروت، ص135.
3- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني ،نفس المعطيات السابقة،ص 350.
4- بنسالم حميش، الغزالي بين فكر القطعيات وسياسة الإقطاع،موجود في : أبو حامد الغزالي :دراسات في فكره وعصره وتأثيره،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط ،سلسلة ندوات ومناظرات رقم9 ، 1988،ص36.
5- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني،ص351.
6- نفس المرجع والصفحة.
7- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني، ص364.
8- نفسه،ص354.
9- نفسه،ص358.
10- نفسه،ص362.
11- نفسه،ص365-366.
12- محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء/ المغرب ، الطبعة الأولى،
1986،ص 172.
13- نفسه، ص 144.
14- الغزالي،المستصفى الجزء الثاني،ص366 .
15- الجابري ،بنية العقل العربي،ص223.
16- الغزالي، المستصفى الجزء الثاني ،ص367.
17- نفسه، ص374.
18- نفسه،ص371.
19- نفسه،ص377.
20- سعيد بنسعيد، الخطاب الأشعري.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
الفصل الثاني: خصائص الممارسة الاجتهادية عند الغزالي.
سوف نحاول من خلال هذا الفصل تلمس الموقف العام الذي نجده عند الغزالي من الاجتهاد كمحدد أساسي للأنا المعرفي وكممارسة تحمل في طياتها الموقف الحقيقي من الآخر،المناوئ على صعيدي المعرفة والسلوك.
وسنسعى لتحديد هذا الموقف من خلال حديثنا عن “التقليد” و”الترجيح”. ففضلا عن المكانة الهامة التي يحتلها حين الحديث عن الاجتهاد في أصول الفقه الأشعري عموما وفي المستصفى خصوصا،فإنهما يساعدان على تحقيق بعض الغرض الذي نرسمه.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
1- الموقف من التقليد
يعرف الغزالي التقليد فيقول:”التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع”.(1)
إن في طيات هذا التعريف دفاع عن “العقل”وعن ممارسة النظر و الاجتهاد كفعلين عقليين. والخطاب مصاغ كذلك بشكل يفند دعاوي الحشوية والتعليمية اللذين يجعلون من التقليد وسيلة أساسية لحصول المعرفة”الحقة”،أما الاستدلال والنظر فهما فعلان محرمان لا يقودان سوى إلى الخطأ والتناقض.
لن نفهم الغزالي إذا، والحالة هذه ،إلا إذا قابلنا ما يقوله بالأطروحة الأساسية لدى الخصم الباطني القاضية بتعطيل عمل العقل وتقديم استقالته لصالح “الإلهام” و”العصمة”…وما إلى ذلك.ويورد الغزالي مجموعة من الردود والاستدلالات لإبطال دعوى الخصم حيث يذهب إلى أن التقليد هو”قبول قول بلا حجة” وحيث “لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بديل فالإتباع فيه اعتماد على الجهل “.(2) أضف إلى ذلك أن إيجاب التقليد عند الحشوية والتعليمية لا يعتمد على نظر أو دليل بل لا يبقى إلا أن يكون إيجاب التقليد عندهم بالتحكم حسب عبارة أبي حامد. ولن يكون هذا “التحكم”سوى وضع سياج مغلق أمام انطلاق العقل ومغامرته لمعانقة الخطأ والصواب ؛تلك القضية التي جند الأشاعرة طاقاتهم الفكرية للدفاع عنها. يمكن في هذا الإطار إذن، تسجيل ملاحظة أساسية وهي أن العقل الأشعري في كثير من جوانبه وفي تناوله لهذه المسألة أو تلك، يحدد بالسلب أي بمقابلته بالأفكار والدعاوي التي ينادي بها الخصم الباطني (الشيعي بالخصوص).
ومع كل ما ذكرناه، فإن دفاع الأشعرية هو دفاع عن عقل ذي طبيعة خاصة؛ ليس أبدا عقلا محضا منطقيا (بالمعنى الفلسفي) بل هو ذو خاصية وطبيعة “بيانية”(3) حيث ” الكلمة الفصل تكون للنقل وتؤول إليه. بل إن النقل هو الذي يعين للعقل ماهيته وطبيعته ويعين له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإن شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتم فيه “.(4)
إن الغزالي يدعو إلى التسلح بالعلم وممارسة النظر(بالمعنى الأشعري)، وعدم التقليد إلا بحجة ظاهرة من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. والمجتهد إذا وصل في اجتهاده حول مسألة ما إلى حكم معين، فلا يجوز له أن يقلد مجتهدا آخرا مخالفا له، بل عليه أن يعمل بما غلب ظنه عليه ما لم يخالف نصا أو دليلا قاطعا. هذا بالرغم من “ضرورة الوقت” اقتضت في زمن الغزالي، أن يحكم بتنفيذ حكم المقلدين كما يصرح بذلك أبي حامد نفسه.(5)
أما العامي أو المجتهد العاجز عن الاجتهاد في مسألة ما لجهل بعلم من العلوم، لا مندوحة عنه في تحصيل الحكم، فيجوز لهما التقليد وترك الاجتهاد. بيدأنه لا يعني تقليد أي كان بل تقليد مجتهد استوفى كل شروط الاجتهاد. من هنا فإنتاج المعرفة أو إصدار الحكم، لا يخرج عن دائرة العقل كما يضبطه الخطاب الأصولي ويقنن له ثوابته وموجهاته المحورية.
وتقوم التفرقة بين العالم- المجتهد والعامي- الجاهل على أساس معرفي، ذلك أن العامي هو في منزلة العاجز عن العلم وعن الظن بنفسه، ومن ثم وجب عليه التقليد، أما المجتهد فلا يجوز له التقليد لأنه وإن كان عاجزا عن العلم فهو غير عاجز عن الحكم بظنه. فهو – أي المجتهد – قادر بنفسه على التوصل بصدد بعض المسائل إلى اليقين، وبصدد البعض الآخر إلى الظن. وظنه أولى بظن غيره، لذا لم ” يجز له اتباع ظن غيره “، كما ” لا يجب على المجتهد اتباع المجتهد “.(6)
إن الاجتهاد إذا يقوم لدى الغزالي على أساس ظني، ونتائجه نسبية. وهو ما يفسر بالذات دفاع أبي حامد عن اللاتقليد بين المجتهدين وعن شرعية الاختلاف بينهم. أما العوام من المسلمين فيجب عليهم اتباع العلماء واستفتائهم، ولا يجوز لهم الاجتهاد من غير علم ولا توفر لشرط الاجتهاد. وذلك معلوم من إجماع الصحابة؛ فقد ” كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد “.(7) وحيث أن اشتغال كل الناس بممارسة العلم والحصول على رتبة الاجتهاد هو من المحال، ومما يمكن أن تتعطل به أمور الدنيا ومعاش الناس، وجب على العوام اتباع ما يفتي به المفتي. ولا يكون ذلك تقليدا لأن التقليد قبول قول بلا حجة، وليس كذلك اتباع المفتي فإنه مما انعقد الإجماع عليه بالحجة والدليل. وهكذا يميز الغزالي بين التقليد والاستفتاء؛ فالأول يقوم على الجهل واللاحجة، بينما الثاني فهو كخبر الواحد لا يعدم أن يكون مستندا إما على أدلة سمعية أو عقلية.
وإذا كان على العوام اتباع العالم المفتي، فلا يكون ذلك إلا حينما يتأكدون من حسن خلقه وتمام علمه، فالعلم والعدالة شرطان أساسيان لقبول الفتوى من المفتي. وهذا ما أثبتناه أيضا عند حديثنا عن شروط الاجتهاد؛ إذ لاحظنا اقتران الأساس المعرفي بالأساس الأخلاقي أثناء التنظير والتشريع للممارسة الاجتهادية، وهو ما يستدعي في نظرنا ضرورة البحث عن مكانة الأخلاق وعن العلاقة بين الأخلاقي والمعرفي داخل المنظومة الفكرية الأشعرية.
يعرف الغزالي التقليد فيقول:”التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع”.(1)
إن في طيات هذا التعريف دفاع عن “العقل”وعن ممارسة النظر و الاجتهاد كفعلين عقليين. والخطاب مصاغ كذلك بشكل يفند دعاوي الحشوية والتعليمية اللذين يجعلون من التقليد وسيلة أساسية لحصول المعرفة”الحقة”،أما الاستدلال والنظر فهما فعلان محرمان لا يقودان سوى إلى الخطأ والتناقض.
لن نفهم الغزالي إذا، والحالة هذه ،إلا إذا قابلنا ما يقوله بالأطروحة الأساسية لدى الخصم الباطني القاضية بتعطيل عمل العقل وتقديم استقالته لصالح “الإلهام” و”العصمة”…وما إلى ذلك.ويورد الغزالي مجموعة من الردود والاستدلالات لإبطال دعوى الخصم حيث يذهب إلى أن التقليد هو”قبول قول بلا حجة” وحيث “لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بديل فالإتباع فيه اعتماد على الجهل “.(2) أضف إلى ذلك أن إيجاب التقليد عند الحشوية والتعليمية لا يعتمد على نظر أو دليل بل لا يبقى إلا أن يكون إيجاب التقليد عندهم بالتحكم حسب عبارة أبي حامد. ولن يكون هذا “التحكم”سوى وضع سياج مغلق أمام انطلاق العقل ومغامرته لمعانقة الخطأ والصواب ؛تلك القضية التي جند الأشاعرة طاقاتهم الفكرية للدفاع عنها. يمكن في هذا الإطار إذن، تسجيل ملاحظة أساسية وهي أن العقل الأشعري في كثير من جوانبه وفي تناوله لهذه المسألة أو تلك، يحدد بالسلب أي بمقابلته بالأفكار والدعاوي التي ينادي بها الخصم الباطني (الشيعي بالخصوص).
ومع كل ما ذكرناه، فإن دفاع الأشعرية هو دفاع عن عقل ذي طبيعة خاصة؛ ليس أبدا عقلا محضا منطقيا (بالمعنى الفلسفي) بل هو ذو خاصية وطبيعة “بيانية”(3) حيث ” الكلمة الفصل تكون للنقل وتؤول إليه. بل إن النقل هو الذي يعين للعقل ماهيته وطبيعته ويعين له دوره ويرسم له حدوده، وبالتالي فإن شرح العقل وتبيان معناه يكون في النقل ويتم فيه “.(4)
إن الغزالي يدعو إلى التسلح بالعلم وممارسة النظر(بالمعنى الأشعري)، وعدم التقليد إلا بحجة ظاهرة من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. والمجتهد إذا وصل في اجتهاده حول مسألة ما إلى حكم معين، فلا يجوز له أن يقلد مجتهدا آخرا مخالفا له، بل عليه أن يعمل بما غلب ظنه عليه ما لم يخالف نصا أو دليلا قاطعا. هذا بالرغم من “ضرورة الوقت” اقتضت في زمن الغزالي، أن يحكم بتنفيذ حكم المقلدين كما يصرح بذلك أبي حامد نفسه.(5)
أما العامي أو المجتهد العاجز عن الاجتهاد في مسألة ما لجهل بعلم من العلوم، لا مندوحة عنه في تحصيل الحكم، فيجوز لهما التقليد وترك الاجتهاد. بيدأنه لا يعني تقليد أي كان بل تقليد مجتهد استوفى كل شروط الاجتهاد. من هنا فإنتاج المعرفة أو إصدار الحكم، لا يخرج عن دائرة العقل كما يضبطه الخطاب الأصولي ويقنن له ثوابته وموجهاته المحورية.
وتقوم التفرقة بين العالم- المجتهد والعامي- الجاهل على أساس معرفي، ذلك أن العامي هو في منزلة العاجز عن العلم وعن الظن بنفسه، ومن ثم وجب عليه التقليد، أما المجتهد فلا يجوز له التقليد لأنه وإن كان عاجزا عن العلم فهو غير عاجز عن الحكم بظنه. فهو – أي المجتهد – قادر بنفسه على التوصل بصدد بعض المسائل إلى اليقين، وبصدد البعض الآخر إلى الظن. وظنه أولى بظن غيره، لذا لم ” يجز له اتباع ظن غيره “، كما ” لا يجب على المجتهد اتباع المجتهد “.(6)
إن الاجتهاد إذا يقوم لدى الغزالي على أساس ظني، ونتائجه نسبية. وهو ما يفسر بالذات دفاع أبي حامد عن اللاتقليد بين المجتهدين وعن شرعية الاختلاف بينهم. أما العوام من المسلمين فيجب عليهم اتباع العلماء واستفتائهم، ولا يجوز لهم الاجتهاد من غير علم ولا توفر لشرط الاجتهاد. وذلك معلوم من إجماع الصحابة؛ فقد ” كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد “.(7) وحيث أن اشتغال كل الناس بممارسة العلم والحصول على رتبة الاجتهاد هو من المحال، ومما يمكن أن تتعطل به أمور الدنيا ومعاش الناس، وجب على العوام اتباع ما يفتي به المفتي. ولا يكون ذلك تقليدا لأن التقليد قبول قول بلا حجة، وليس كذلك اتباع المفتي فإنه مما انعقد الإجماع عليه بالحجة والدليل. وهكذا يميز الغزالي بين التقليد والاستفتاء؛ فالأول يقوم على الجهل واللاحجة، بينما الثاني فهو كخبر الواحد لا يعدم أن يكون مستندا إما على أدلة سمعية أو عقلية.
وإذا كان على العوام اتباع العالم المفتي، فلا يكون ذلك إلا حينما يتأكدون من حسن خلقه وتمام علمه، فالعلم والعدالة شرطان أساسيان لقبول الفتوى من المفتي. وهذا ما أثبتناه أيضا عند حديثنا عن شروط الاجتهاد؛ إذ لاحظنا اقتران الأساس المعرفي بالأساس الأخلاقي أثناء التنظير والتشريع للممارسة الاجتهادية، وهو ما يستدعي في نظرنا ضرورة البحث عن مكانة الأخلاق وعن العلاقة بين الأخلاقي والمعرفي داخل المنظومة الفكرية الأشعرية.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
2- الأدلة والترجيح:
بخصوص مراتب الأدلة بالنسبة للمجتهد، يجعل الغزالي الإجماع في المرتبة الأولى؛ فهو أول شيء يجب أن ينظر فيه المجتهد لأنه لا يقبل النسخ بينما الكتاب والسنة يقبلانه. فهو بهذا المعنى ” دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ “.(8) هكذا نلمس الحضور القوي لفكرة الإجماع أثناء فعل الاجتهاد، وهو الحضور الذي يتأسس على ما يسميه الجابري ب “سلطة السلف” الذي هو ” سلطة جميع العصور السابقة، سلطة الماضي “العادة”…”.(9) أما في المرتبة الثانية فنجد الكتاب والسنة المتواترة معا، ذلك أن كل منهما يفيد العلم القاطع. وفي المرتبة الثالثة عمومات الكتاب وظواهره. ثم أخيرا نجد أخبار الآحاد والأقيسة، وهو ما ينعته أبو حامد بمخصصات العموم.
هكذا فالعقل الأصولي الأشعري، كما نجده لدى الغزالي، يستند على العموم ويحكم به ما لم تأت حالة من الحالات فتعمل على تخصيصه. كما أنه يستند على “الظاهر” ما لم ينتف فيلجأ بعدها إلى “الباطن”‘ باطن النص عبر العملية التأويلية التي تخضع لشروط وضوابط الفكر الأشعري.
وفي الأحوال كلها نجد أن الإجماع ” هو الذي يؤسس “الخبر” متواترا كان أو غير متواتر. فهو –أي الإجماع- يمنح خبر التواتر إيجاب العلم والعمل، كما يمنح خبر الآحاد سلطة إيجاب العمل به…”.(10) ويستند الغزالي على الإجماع في تأكيد وجوب الترجيح بين الظنين، فلا يجوز التوقف أو التخيير مع وجود إمكانية الترجيح بينهما. وهكذا فقد عمد السلف الصالح إلى الترجيح بأن قدموا ” بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم “.(11) ويسوق الغزالي على ذلك أمثلة كثيرة؛ منها تقديمهم خبر أزواج النبي على غيرهن من النساء، وتقوية أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، وغير ذلك من الأمثلة.
والترجيح لا يكون بين نصين قاطعين بل يكون بين نصين ظنيين. فالظنيات تتفاوت فيما بينها من حيث الضعف والقوة، أما القطعيات فلا ترجيح كما لا تعارض بينها وإنما يقدم بعضها عن الآخر بالنسخ، فيكون المتأخر منها ناسخا للمتقدم.
وفي حالة الجهل بالتاريخ يصبح صدق الراوي مظنونا حينما يتعلق الأمر بأخبار الآحاد، فيقدم ” الأقوى في نفوسنا ” ، أما إذا تعلق الأمر بالقواطع و ” أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما “.(12) من هنا فالتعارض بين خبرين قاطعين محال، لأن التعارض يعني التناقض فلابد أن يكون أحدهما كاذبا. وحيث الكذب محال في الخبر القاطع، فالتعارض لا يمكن أن يكون إلا فيما هو ظني أو من الظنيات. وفي حالة التعارض يستحيل الجمع بين الحكمين، فلا بد من:
- أن يكون أحدهما كاذبا.
- أو أن يكون أحدهما ناسخا للآخر.
- أو أن يجمع بينهما القرآن على حالتين بأن يوجب مثلا الصلاة في حالة القدرة ولا يوجبها في حالة العجز.
ويؤكد الغزالي أنه إذا تعارض دليلان وكان الترجيح بينهما صعبا، لزم التباحث والتناظر بشكل حثيث حتى الوصول إلى الترجيح. وإذا كان هذا الأخير ميؤوسا منه مع كثرة المباحثة اختار المجتهد الدليل الذي شاء، ” فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة “.(13)
والترجيح عند الغزالي، فيما يخص تعارض خبرين أو أكثر، يستند على معايير ترجع إما إلى المتن والسند أو إلى أمور خارجة عنهما. أما تلك التي تتعلق بالمتن والسند فيحصرها أبو حامد في سبعة عشر، نذكر منها:
- أن يكون الراوي معروفا باليقظة وقلة الغلط.
- أن يكون الخبر منسوبا نصا وقولا، فذلك أقوى.
- أن يكون الراوي صاحب الواقعة التي بموجبها يتم الترجيح.
- أن يكون الخبر مطابقا لعمل أهل المدينة.
وفيما يتعلق بكثرة الرواة فإنها تقوي الظن وتبعث على الترجيح، وإن كان بالإمكان أن يكون الراوي الواحد أكثر تيقظا وضبطا من الرواة الكثر، فذلك متروك أمره إلى غلبة الظن عند المجتهد.
أما فيما يتعلق بالأمور الخارجة عن المتن والسند، والتي يعتمد عليها في الترجيح بين خبرين، فيجعلها الغزالي خمسة، نسوقها كما يلي:
أ- أن يحسن ” كيفية استعمال الخبر في محل الخبر؛ كقوله لا نكاح إلا بولي مع قوله الأيم أحق بنفسها من وليها، لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الإذن لا في العقد “(14) وإن كان اللفظ يعمهما معا.
ب- أن يكون أحد الخبرين يمس أحد الصحابة بسوء، فيكون ذلك مدعاة لضعفه مما يلزم إبعاده وترجيح الخبر الثاني.
ج- أن يكون ” أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه “(15)، فيكون الأول أضعف والثاني مرجح الأخذ به.
د- أن يكون أحد الخبرين منصبا حول الحكم المتنازع فيه والآخر أبعد عن ذلك بقليل أو كثير، فيكون الأول أقوى.
ه- وأخيرا، يتم ترجيح الخبر الذي يحوز إثباتات أكثر وأقوى، إثباتات يؤكدها الواقع وتدعمها التجربة.
هكذا نجد لدى الغزالي تأكيدا واضحا على ضرورة الترجيح بل ووجوبه عند تعارض الأدلة، ولا يمتنع عنه إلا بعد بذل أقصى الجهود للوصول إلى ذلك. أما حينما يتعذر الترجيح لدى المجتهد بعد استفراغ الجهد، فيلزمه اللجوء إلى التخيير والعمل بأي الدليلين شاء.
ومن هنا فالعقل الأصولي ينتهي إلى تقديم “استقالته” لصالح النقل؛ فهو إذ يلجأ إلى التخيير فإنما يتساوى عنده الخبران المتعارضان فيقضي بتجويز أحدهما على الآخر، وهو ” إذ ينتهي إلى إعلان فتح باب الاحتمال والتجويز، متى تعارض دليلان أو أكثر واستفرغ المجتهد وسعه وما قصر، فهو إنما يفعل ذلك لكي ينهي الرحلة كلها ويقفل الدائرة، دائرة النظر التشريعي، بالرجوع إلى عين النتيجة التي قررها المتكلم في رحلته الأولى أي الرجوع إلى النقل مصدرا والسمع طريقا “.(16)
تلك كانت النتيجة المعرفية التي انتهينا إليها من خلال رصد أهم المعطيات المتعلقة بالترجيح الخاص بالعلل، وإن كنا نرى أن الفعل المعرفي في كليهما هو نفسه، يفضي إلى نفس الخلاصات الإيبستمولوجية؛ تلك المتعلقة أساسا بمسيرة العقل الأصولي وآليات عمله حيال ما يرد عليه من معارف وأخبار نقلية.
يحدد الغزالي العوامل التي من أجلها تقدم علة على أخرى في خمسة عناصر، يمكن تلخيصها في ثلاثة رئيسية:
أ- ما يرجع إلى الأصل.
ب- ما يرجع إلى العلة نفسها.
ج- ما يرجع إلى الطريق الذي تثبت به العلة، كالنص أو الإجماع أو الأمارة.
وهذه العناصر جميعها يقسمها الغزالي إلى قسمين رئيسيين:
أ- ما يرجع إلى قوة الأصل.
ب- ما لا يرجع إلى قوة الأصل.
بخصوص القسم الثاني، المتعلق بالترجيح الذي لا يرجع إلى الأصل، نجد أبا حامد يحصره في قرابة عشرين وجه يرجع أغلبها إما إلا العلة ذاتها وإما إلى أمور خارجة عنها. فأما التي ترجع إلى العلة نفسها فكأن تكون لازمة فترجح على التي تختفي في بعض الأحوال، أو تكون موجبة لحكم وزيادة فترجح على التي لا زيادة فيها، أو تكون موجبة لحكم أخف فترجح على التي توجب حكما شاقا أو العكس…الخ،وأغلبها يعلق عليها الغزالي بأنها ترجيحات ضعيفة.(17)وأما التي ترجع إلى أمور خارجة عن العلة فأهمها الترجيحات الأربعة التالية:
- قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون، فيعتبر والحالة هذه موجبا للترجيح عند من لا يرى ذلك إجماعا. أما من يرى ذلك إجماعا فيسقط الترجيح، لأن الإجماع ملزم للقطع ولا ترجيح في القطعيات. أما إذا لم يكن قول الصحابي قد انتشر فهو موجب للترجيح عند البعض وغير ملزم عند البعض الآخر.
- الترجيح العائد إلى العلم بوجود العلة، ” فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة “(18).والغزالي يقرن هنا بين العلم و الظن ويسوي بينهما ولا غرابة في ذلك ،إذ أن الترجيح في جوهره فعل ظني/ تقريبي.
- الشبه الواقع بين حكم العلة وحكم موجود في الأصل، فإنه يصلح لترجيح العلة الأكثر شبها للأصل عن تلك البعيدة عنه.ومفهوم الشبه هذا يذكرنا بالاستدلال بالمثل ،ذلك الذي نجده عند المتكلم الأشعري. وهو ما يؤكد المبدأ المعروف عند الأصوليين،أعني مبدأ إجراء الأصل في الفروع.
- الترجيح اعتمادا على الموافقة مع الخبر المرسل أو مع خبر قال به بعض العلماء. ويشترط فيه أن لا يكون قاطعا بل أن يكون مما يجوز الاجتهاد فيه.
أما القسم الأول،المتعلق بالترجيح الذي يرجع إلى قوة الأصل، فيؤكد فيه الغزالي على ثابت أساسي لدى العقل الأصولي وهو الذي سبقت الإشارة إليه من حيث أن الترجيح لا يكون في القطعيات بل في الظنيات،وبموجبه يشير الغزالي إلى أن الترجيح يكون هنا بين علتين مظنونتين وليس بين أصلين معلومين.
وما يرجع إلى الأصل من الترجيح الخاص بالعلل،يمكن تلخيص مختلف المعايير التي يستند عليها من خلال المفاضلة الحاصلة بين حدي الأزواج التالية:
- الضرورة والنظر. - الناسخ والمنسوخ. - الخبر والقياس.
- التواتر والآحاد. - العام والخاص. - المتفق والمختلف.
- الكثرة والقلة. - الظاهر و الباطن. - النقل و العقل.
وهكذا إذا شئنا التفضيل قلنا : إن العقل الأصولي وهو يخوض “مغامرة” الترجيح يجد نفسه أمام مجموعة من المصادر المتعارضة التي يكشف عن نفسه من خلال تفضيله لإحداها على الأخرى. وهو ما يجعل هذا التفضيل أو الميل ذا دلالة ابستيمولوجية قصوى، من حيث هو يرسم للعقل حدوده ويبين عن مصادر المعرفة التي يستقي منها مبادئه.
وإذا كان الكلام هو أحد المصادر الأساسية التي يقوم عليها علم أصول الفقه،بالإضافة- إلى اللغة والفقه،وهو ما يجمع الأصوليين جميعا – أشعرية وغيرهم- على القول به، فإن حضور الأسس و المبادئ التي تقررت في علم الكلام- وهو العلم الكلي من العلوم الدينية كما يقول الغزالي نفسه –(19) هو حضور قوي. مما يجعلنا نستخلص مع الأستاذ بنسعيد ب”أن العقل في أصول الفقه لا يزال يحضر و يفعل على غرار ما فعله في أصول الدين وحضر به : فحضوره حضور رديف للنقل ومتأخر عنه، وما قام به من تأجيل لقواعد وتأسيس لمبادئ كلية هو”يجريه” في الفرع “.(20) يتضح ذلك في تقديم الغزالي للعلة الثابتة بعلم ضروري على تلك التي تثبت عن طريق النظر والاستدلال،وهو الأمر الذي تقرر في الكلام قبلا؛ ذلك أن العلم الضروري موجب للتكفير بينما العلم النظري غير موجب لذلك (وإن كان موجبا للإثم). ثم عن الخبر المتواتر أقوى من خبر الآحاد،” فإن العمل بخبر واحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي‘ والآخر (الخبر المتواتر) حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة”.(21)
أما باقي الترجيحات، فنجد الأصل الذي لا يقبل النسخ مقدما على الأصل الذي يحتمله، والعام الذي لا يقبل التخصيص مقدما على العام الذي يدخله التخصيص، كما أن كثرة الرواة موجبة للترجيح على قلتهم لمن يظن ذلك. وإذا كان الخطاب ظاهرا /صريحا كان أولى الأخذ به من الخطاب الذي يحتاج في إثباته إلى دليل، والذي اتفق على تعليله يقدم على ما لم يتفق على تعليله بأن تطرق إليه الاختلاف.أضف إلى ذلك أن الخبر يقدم على القياس على الخبر، وهو ما يفضي في كل الأحوال إلى نتيجة حتمية هي تقديم النقل أو ما يقوم مقامه على العقل وإمكانياته الذاتية.
إن هذه الأسبقية تجعل العقل يقضي بما أقره النص وأثبته ولو على الظاهر، كما أنه –أي العقل- يتكيف مع معطيات النقل ويجيز كل ما أتى به. بل إن العلة ذاتها لا تثبت إلا عن طريق السمع، فهي لا تعدو أن تكون أمارة نصبها الله علامة على الحكم؛ فهي غير موجبة في ذاتها ما دامت أفعال الله غير معللة ولا يجب عليه شيء. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: ” أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها، فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها، إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة، وذلك وضع من الشارع، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل؛ فليس إيجابها لذاتها “.(22)
وإذا كانت العلة علامة، فهي ” غير مصرح بها. بل إنما يلتمسها المستدل فيما قد يكون هناك من أمارات يعتقد أن الشارع أناط الحكم بها “، ومن ثم ف” التعليل في الفقه … إنما يقوم على الجواز لا على الوجوب. وبالتالي فوظيفته لا تتعدى المقاربة “.(23) والمقاربة إذا كانت تعني شيئا، فإنما تعني إمكانية الاختلاف في التعليل مادامت الأمارة رمز قد يفسر بهذه الكيفية أو تلك. وقد نلمس هذه الإمكانية أيضا في زوج “المتفق والمختلف” الذي أشرنا إليه سابقا حين حديثنا عن الترجيح الذي يرجع إلى الأصل، ذلك أن العقل الأصولي وإن كان يميل إلى “الاتفاق” والمتفق فيه ويرجحه فهو يبقي على إمكانية للاختلاف والمختلف فيه.
إن مقاربة الأصولي تقوم على منطق خاص تنتفي فيه الضرورة المنطقية (بالمعنى الفلسفي)، فيبقى المجال واسعا أمام الترجيح والتجويز، مما يجعل ” التعليل، عند الأصولي الأشعري، هو في عمقه قول بالتجويز. والقول بأن الأخذ بالترجيح، حين تكافؤ دليلين، إنما هو قول بالتجويز (جواز كل منهما) “.(24) وهو ما يجعل هذا المبدأ، مبدأ الجواز أو التجويز، المبدأ الرئيس داخل النظام المعرفي الذي يتحرك داخله العقل الأصولي الأشعري عامة والعقل الأصولي لدى الغزالي بصفة خاصة.
بخصوص مراتب الأدلة بالنسبة للمجتهد، يجعل الغزالي الإجماع في المرتبة الأولى؛ فهو أول شيء يجب أن ينظر فيه المجتهد لأنه لا يقبل النسخ بينما الكتاب والسنة يقبلانه. فهو بهذا المعنى ” دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ “.(8) هكذا نلمس الحضور القوي لفكرة الإجماع أثناء فعل الاجتهاد، وهو الحضور الذي يتأسس على ما يسميه الجابري ب “سلطة السلف” الذي هو ” سلطة جميع العصور السابقة، سلطة الماضي “العادة”…”.(9) أما في المرتبة الثانية فنجد الكتاب والسنة المتواترة معا، ذلك أن كل منهما يفيد العلم القاطع. وفي المرتبة الثالثة عمومات الكتاب وظواهره. ثم أخيرا نجد أخبار الآحاد والأقيسة، وهو ما ينعته أبو حامد بمخصصات العموم.
هكذا فالعقل الأصولي الأشعري، كما نجده لدى الغزالي، يستند على العموم ويحكم به ما لم تأت حالة من الحالات فتعمل على تخصيصه. كما أنه يستند على “الظاهر” ما لم ينتف فيلجأ بعدها إلى “الباطن”‘ باطن النص عبر العملية التأويلية التي تخضع لشروط وضوابط الفكر الأشعري.
وفي الأحوال كلها نجد أن الإجماع ” هو الذي يؤسس “الخبر” متواترا كان أو غير متواتر. فهو –أي الإجماع- يمنح خبر التواتر إيجاب العلم والعمل، كما يمنح خبر الآحاد سلطة إيجاب العمل به…”.(10) ويستند الغزالي على الإجماع في تأكيد وجوب الترجيح بين الظنين، فلا يجوز التوقف أو التخيير مع وجود إمكانية الترجيح بينهما. وهكذا فقد عمد السلف الصالح إلى الترجيح بأن قدموا ” بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم “.(11) ويسوق الغزالي على ذلك أمثلة كثيرة؛ منها تقديمهم خبر أزواج النبي على غيرهن من النساء، وتقوية أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، وغير ذلك من الأمثلة.
والترجيح لا يكون بين نصين قاطعين بل يكون بين نصين ظنيين. فالظنيات تتفاوت فيما بينها من حيث الضعف والقوة، أما القطعيات فلا ترجيح كما لا تعارض بينها وإنما يقدم بعضها عن الآخر بالنسخ، فيكون المتأخر منها ناسخا للمتقدم.
وفي حالة الجهل بالتاريخ يصبح صدق الراوي مظنونا حينما يتعلق الأمر بأخبار الآحاد، فيقدم ” الأقوى في نفوسنا ” ، أما إذا تعلق الأمر بالقواطع و ” أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما “.(12) من هنا فالتعارض بين خبرين قاطعين محال، لأن التعارض يعني التناقض فلابد أن يكون أحدهما كاذبا. وحيث الكذب محال في الخبر القاطع، فالتعارض لا يمكن أن يكون إلا فيما هو ظني أو من الظنيات. وفي حالة التعارض يستحيل الجمع بين الحكمين، فلا بد من:
- أن يكون أحدهما كاذبا.
- أو أن يكون أحدهما ناسخا للآخر.
- أو أن يجمع بينهما القرآن على حالتين بأن يوجب مثلا الصلاة في حالة القدرة ولا يوجبها في حالة العجز.
ويؤكد الغزالي أنه إذا تعارض دليلان وكان الترجيح بينهما صعبا، لزم التباحث والتناظر بشكل حثيث حتى الوصول إلى الترجيح. وإذا كان هذا الأخير ميؤوسا منه مع كثرة المباحثة اختار المجتهد الدليل الذي شاء، ” فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة “.(13)
والترجيح عند الغزالي، فيما يخص تعارض خبرين أو أكثر، يستند على معايير ترجع إما إلى المتن والسند أو إلى أمور خارجة عنهما. أما تلك التي تتعلق بالمتن والسند فيحصرها أبو حامد في سبعة عشر، نذكر منها:
- أن يكون الراوي معروفا باليقظة وقلة الغلط.
- أن يكون الخبر منسوبا نصا وقولا، فذلك أقوى.
- أن يكون الراوي صاحب الواقعة التي بموجبها يتم الترجيح.
- أن يكون الخبر مطابقا لعمل أهل المدينة.
وفيما يتعلق بكثرة الرواة فإنها تقوي الظن وتبعث على الترجيح، وإن كان بالإمكان أن يكون الراوي الواحد أكثر تيقظا وضبطا من الرواة الكثر، فذلك متروك أمره إلى غلبة الظن عند المجتهد.
أما فيما يتعلق بالأمور الخارجة عن المتن والسند، والتي يعتمد عليها في الترجيح بين خبرين، فيجعلها الغزالي خمسة، نسوقها كما يلي:
أ- أن يحسن ” كيفية استعمال الخبر في محل الخبر؛ كقوله لا نكاح إلا بولي مع قوله الأيم أحق بنفسها من وليها، لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الإذن لا في العقد “(14) وإن كان اللفظ يعمهما معا.
ب- أن يكون أحد الخبرين يمس أحد الصحابة بسوء، فيكون ذلك مدعاة لضعفه مما يلزم إبعاده وترجيح الخبر الثاني.
ج- أن يكون ” أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه “(15)، فيكون الأول أضعف والثاني مرجح الأخذ به.
د- أن يكون أحد الخبرين منصبا حول الحكم المتنازع فيه والآخر أبعد عن ذلك بقليل أو كثير، فيكون الأول أقوى.
ه- وأخيرا، يتم ترجيح الخبر الذي يحوز إثباتات أكثر وأقوى، إثباتات يؤكدها الواقع وتدعمها التجربة.
هكذا نجد لدى الغزالي تأكيدا واضحا على ضرورة الترجيح بل ووجوبه عند تعارض الأدلة، ولا يمتنع عنه إلا بعد بذل أقصى الجهود للوصول إلى ذلك. أما حينما يتعذر الترجيح لدى المجتهد بعد استفراغ الجهد، فيلزمه اللجوء إلى التخيير والعمل بأي الدليلين شاء.
ومن هنا فالعقل الأصولي ينتهي إلى تقديم “استقالته” لصالح النقل؛ فهو إذ يلجأ إلى التخيير فإنما يتساوى عنده الخبران المتعارضان فيقضي بتجويز أحدهما على الآخر، وهو ” إذ ينتهي إلى إعلان فتح باب الاحتمال والتجويز، متى تعارض دليلان أو أكثر واستفرغ المجتهد وسعه وما قصر، فهو إنما يفعل ذلك لكي ينهي الرحلة كلها ويقفل الدائرة، دائرة النظر التشريعي، بالرجوع إلى عين النتيجة التي قررها المتكلم في رحلته الأولى أي الرجوع إلى النقل مصدرا والسمع طريقا “.(16)
تلك كانت النتيجة المعرفية التي انتهينا إليها من خلال رصد أهم المعطيات المتعلقة بالترجيح الخاص بالعلل، وإن كنا نرى أن الفعل المعرفي في كليهما هو نفسه، يفضي إلى نفس الخلاصات الإيبستمولوجية؛ تلك المتعلقة أساسا بمسيرة العقل الأصولي وآليات عمله حيال ما يرد عليه من معارف وأخبار نقلية.
يحدد الغزالي العوامل التي من أجلها تقدم علة على أخرى في خمسة عناصر، يمكن تلخيصها في ثلاثة رئيسية:
أ- ما يرجع إلى الأصل.
ب- ما يرجع إلى العلة نفسها.
ج- ما يرجع إلى الطريق الذي تثبت به العلة، كالنص أو الإجماع أو الأمارة.
وهذه العناصر جميعها يقسمها الغزالي إلى قسمين رئيسيين:
أ- ما يرجع إلى قوة الأصل.
ب- ما لا يرجع إلى قوة الأصل.
بخصوص القسم الثاني، المتعلق بالترجيح الذي لا يرجع إلى الأصل، نجد أبا حامد يحصره في قرابة عشرين وجه يرجع أغلبها إما إلا العلة ذاتها وإما إلى أمور خارجة عنها. فأما التي ترجع إلى العلة نفسها فكأن تكون لازمة فترجح على التي تختفي في بعض الأحوال، أو تكون موجبة لحكم وزيادة فترجح على التي لا زيادة فيها، أو تكون موجبة لحكم أخف فترجح على التي توجب حكما شاقا أو العكس…الخ،وأغلبها يعلق عليها الغزالي بأنها ترجيحات ضعيفة.(17)وأما التي ترجع إلى أمور خارجة عن العلة فأهمها الترجيحات الأربعة التالية:
- قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون، فيعتبر والحالة هذه موجبا للترجيح عند من لا يرى ذلك إجماعا. أما من يرى ذلك إجماعا فيسقط الترجيح، لأن الإجماع ملزم للقطع ولا ترجيح في القطعيات. أما إذا لم يكن قول الصحابي قد انتشر فهو موجب للترجيح عند البعض وغير ملزم عند البعض الآخر.
- الترجيح العائد إلى العلم بوجود العلة، ” فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة “(18).والغزالي يقرن هنا بين العلم و الظن ويسوي بينهما ولا غرابة في ذلك ،إذ أن الترجيح في جوهره فعل ظني/ تقريبي.
- الشبه الواقع بين حكم العلة وحكم موجود في الأصل، فإنه يصلح لترجيح العلة الأكثر شبها للأصل عن تلك البعيدة عنه.ومفهوم الشبه هذا يذكرنا بالاستدلال بالمثل ،ذلك الذي نجده عند المتكلم الأشعري. وهو ما يؤكد المبدأ المعروف عند الأصوليين،أعني مبدأ إجراء الأصل في الفروع.
- الترجيح اعتمادا على الموافقة مع الخبر المرسل أو مع خبر قال به بعض العلماء. ويشترط فيه أن لا يكون قاطعا بل أن يكون مما يجوز الاجتهاد فيه.
أما القسم الأول،المتعلق بالترجيح الذي يرجع إلى قوة الأصل، فيؤكد فيه الغزالي على ثابت أساسي لدى العقل الأصولي وهو الذي سبقت الإشارة إليه من حيث أن الترجيح لا يكون في القطعيات بل في الظنيات،وبموجبه يشير الغزالي إلى أن الترجيح يكون هنا بين علتين مظنونتين وليس بين أصلين معلومين.
وما يرجع إلى الأصل من الترجيح الخاص بالعلل،يمكن تلخيص مختلف المعايير التي يستند عليها من خلال المفاضلة الحاصلة بين حدي الأزواج التالية:
- الضرورة والنظر. - الناسخ والمنسوخ. - الخبر والقياس.
- التواتر والآحاد. - العام والخاص. - المتفق والمختلف.
- الكثرة والقلة. - الظاهر و الباطن. - النقل و العقل.
وهكذا إذا شئنا التفضيل قلنا : إن العقل الأصولي وهو يخوض “مغامرة” الترجيح يجد نفسه أمام مجموعة من المصادر المتعارضة التي يكشف عن نفسه من خلال تفضيله لإحداها على الأخرى. وهو ما يجعل هذا التفضيل أو الميل ذا دلالة ابستيمولوجية قصوى، من حيث هو يرسم للعقل حدوده ويبين عن مصادر المعرفة التي يستقي منها مبادئه.
وإذا كان الكلام هو أحد المصادر الأساسية التي يقوم عليها علم أصول الفقه،بالإضافة- إلى اللغة والفقه،وهو ما يجمع الأصوليين جميعا – أشعرية وغيرهم- على القول به، فإن حضور الأسس و المبادئ التي تقررت في علم الكلام- وهو العلم الكلي من العلوم الدينية كما يقول الغزالي نفسه –(19) هو حضور قوي. مما يجعلنا نستخلص مع الأستاذ بنسعيد ب”أن العقل في أصول الفقه لا يزال يحضر و يفعل على غرار ما فعله في أصول الدين وحضر به : فحضوره حضور رديف للنقل ومتأخر عنه، وما قام به من تأجيل لقواعد وتأسيس لمبادئ كلية هو”يجريه” في الفرع “.(20) يتضح ذلك في تقديم الغزالي للعلة الثابتة بعلم ضروري على تلك التي تثبت عن طريق النظر والاستدلال،وهو الأمر الذي تقرر في الكلام قبلا؛ ذلك أن العلم الضروري موجب للتكفير بينما العلم النظري غير موجب لذلك (وإن كان موجبا للإثم). ثم عن الخبر المتواتر أقوى من خبر الآحاد،” فإن العمل بخبر واحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي‘ والآخر (الخبر المتواتر) حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة”.(21)
أما باقي الترجيحات، فنجد الأصل الذي لا يقبل النسخ مقدما على الأصل الذي يحتمله، والعام الذي لا يقبل التخصيص مقدما على العام الذي يدخله التخصيص، كما أن كثرة الرواة موجبة للترجيح على قلتهم لمن يظن ذلك. وإذا كان الخطاب ظاهرا /صريحا كان أولى الأخذ به من الخطاب الذي يحتاج في إثباته إلى دليل، والذي اتفق على تعليله يقدم على ما لم يتفق على تعليله بأن تطرق إليه الاختلاف.أضف إلى ذلك أن الخبر يقدم على القياس على الخبر، وهو ما يفضي في كل الأحوال إلى نتيجة حتمية هي تقديم النقل أو ما يقوم مقامه على العقل وإمكانياته الذاتية.
إن هذه الأسبقية تجعل العقل يقضي بما أقره النص وأثبته ولو على الظاهر، كما أنه –أي العقل- يتكيف مع معطيات النقل ويجيز كل ما أتى به. بل إن العلة ذاتها لا تثبت إلا عن طريق السمع، فهي لا تعدو أن تكون أمارة نصبها الله علامة على الحكم؛ فهي غير موجبة في ذاتها ما دامت أفعال الله غير معللة ولا يجب عليه شيء. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: ” أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها، فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها، إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة، وذلك وضع من الشارع، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل؛ فليس إيجابها لذاتها “.(22)
وإذا كانت العلة علامة، فهي ” غير مصرح بها. بل إنما يلتمسها المستدل فيما قد يكون هناك من أمارات يعتقد أن الشارع أناط الحكم بها “، ومن ثم ف” التعليل في الفقه … إنما يقوم على الجواز لا على الوجوب. وبالتالي فوظيفته لا تتعدى المقاربة “.(23) والمقاربة إذا كانت تعني شيئا، فإنما تعني إمكانية الاختلاف في التعليل مادامت الأمارة رمز قد يفسر بهذه الكيفية أو تلك. وقد نلمس هذه الإمكانية أيضا في زوج “المتفق والمختلف” الذي أشرنا إليه سابقا حين حديثنا عن الترجيح الذي يرجع إلى الأصل، ذلك أن العقل الأصولي وإن كان يميل إلى “الاتفاق” والمتفق فيه ويرجحه فهو يبقي على إمكانية للاختلاف والمختلف فيه.
إن مقاربة الأصولي تقوم على منطق خاص تنتفي فيه الضرورة المنطقية (بالمعنى الفلسفي)، فيبقى المجال واسعا أمام الترجيح والتجويز، مما يجعل ” التعليل، عند الأصولي الأشعري، هو في عمقه قول بالتجويز. والقول بأن الأخذ بالترجيح، حين تكافؤ دليلين، إنما هو قول بالتجويز (جواز كل منهما) “.(24) وهو ما يجعل هذا المبدأ، مبدأ الجواز أو التجويز، المبدأ الرئيس داخل النظام المعرفي الذي يتحرك داخله العقل الأصولي الأشعري عامة والعقل الأصولي لدى الغزالي بصفة خاصة.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
هوامش الفصل الثاني:
1- الغزالي؛ المستصفى، الجزء الثاني، ص 387.
2- نفس المصدر والصفحة.
3- بالمعنى الذي استخدمه الجابري في ” نقد العقل العربي “.
4- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1992. ص148.
5- الغزالي؛ المستصفى ،ج2، صص 383-384.
6- نفسه، ص385.
7- نفسه، ص 389.
8- نفسه، ص 392.
9- محمد عابد الجابري؛ بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986،ص 132.
10- نفسه، صص 123-124.
11- الغزالي؛ المستصفى، ج2، ص 394.
12- نفسه، صص 393-394.
13- نفسه، ص 371.
14- نفسه، ص 397.
15- نفس المصدر والصفحة.
16- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري… نفس المعطيات السابقة.
17- الغزالي؛ المستصفى، ج2، ص 406.
18- نفسه، صص 400-401.
19- نفسه، ص 5.
20- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري، نفس المعطيات السابقة، ص 172.
21- الغزالي؛ المستصفى… ص 399.
22- نفسه، ص 280.
23- الجابري؛ بنية العقل العربي… ص 173.
24- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري… ص 319.
1- الغزالي؛ المستصفى، الجزء الثاني، ص 387.
2- نفس المصدر والصفحة.
3- بالمعنى الذي استخدمه الجابري في ” نقد العقل العربي “.
4- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1992. ص148.
5- الغزالي؛ المستصفى ،ج2، صص 383-384.
6- نفسه، ص385.
7- نفسه، ص 389.
8- نفسه، ص 392.
9- محمد عابد الجابري؛ بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986،ص 132.
10- نفسه، صص 123-124.
11- الغزالي؛ المستصفى، ج2، ص 394.
12- نفسه، صص 393-394.
13- نفسه، ص 371.
14- نفسه، ص 397.
15- نفس المصدر والصفحة.
16- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري… نفس المعطيات السابقة.
17- الغزالي؛ المستصفى، ج2، ص 406.
18- نفسه، صص 400-401.
19- نفسه، ص 5.
20- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري، نفس المعطيات السابقة، ص 172.
21- الغزالي؛ المستصفى… ص 399.
22- نفسه، ص 280.
23- الجابري؛ بنية العقل العربي… ص 173.
24- سعيد بنسعيد العلوي؛ الخطاب الأشعري… ص 319.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
رد: الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي
خاتمة:
خلال تناولنا لأهم الموضوعات التي يتمحور حولها الحديث عن الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي، قمنا بعمل مزدوج هو ذلك الذي أبنا عنه في مقدمة هذه الدراسة، ويتعلق الأمر أساسا بمهمتين رئيسيتين:
· أولا: التركيز الشديد والدقيق على النص، باعتباره شكل الأرضية التي اشتغلنا عليها وانطلقنا منها. وهكذا تجنبنا كل قراءة خارجية أو تأويل ينوب عنا في قراءة النص، وقمنا فقط بإجراء بعض المفاهيم والمبادىء من خلال الفحص عن فعاليتها داخل تضاعيف النص وعباراته.
· ثانيا: حاولنا، في حدود معينة، القيام بالمقاربة الإيبستمولوجية التي توخينا من خلالها الكشف عن طبيعة العقل الأصولي، على الأقل في تناولنا لموضوع الاجتهاد، فعثرنا بالفعل على مبادئ محددة تؤسس للعقل فعله المعرفي وترسم له آفاقه واستشرافاته.
ويجدر بنا في هذه الخاتمة أن نلم الشتات، ونقوم بتلخيص مركز لتلك المبادئ والسمات العامة المميزة للعقل الأصولي عند الغزالي أثناء تناوله لمبحث له أهميته داخل أصول الفقه الأشعري، وهو المتعلق بالاجتهاد وعمل المجتهدين.
وسنسوق أهم تلك المبادئ والمحددات دون التفصيل فيها مادام قد تكفل العرض الذي قمنا به بتبيانها والبرهنة عليها في الكثير من المواضع. ويمكن تقديمها كما يلي:
1- حضور اللغة كسلطة معرفية قوية في عمل الأصولي/المجتهد. وهو ما يجعل عمل العقل ينطلق من اللفظ إلى المعنى وليس العكس.
2- صعوبة الفصل بين المعرفي والأخلاقي عند المجتهد؛ حيث نجد أن للفعل الأخلاقي ثقله وحضوره القوي كشرط من شروط ممارسة الاجتهاد.
3- حضور النص كسلطة معرفية أساسية، ذلك أن عمل المجتهد ينصب على النص ويتم بتوجيه منه.
4- يكون العقل في تناوله للعديد من المسائل تابعا للنقل ورديفا له.
5- الإجماع والخبر من أهم المصادر التي يرتكز عليها عمل المجتهد.
6- عمل المجتهد ينشد في آخر المطاف الدلالة الشرعية، وليس أبدا الدلالة العقلية المطلقة.
7- وهو ما يجعل النتائج التي يصل إليها يغلب عليها الطابع الظني.
8- كما يعبر الترجيح والاختيار –اللذان ينتهي إليهما المجتهد عند تعارض الأدلة- على انتفاء الحتمية والضرورة (بالمعنى المنطقي) في الاجتهاد، وميل العقل إلى الترجيح والتجويز.
9- ومبدأ التجويز/الجواز ينتج عنه مبدأ التبرير حينما يتعلق الأمر بالتشريع والتدبير للعمل والواقع، لاسيما حينما يعمل المجتهد على التركيز على مفاهيم من مثل “المصلحة” و”ضرورة الوقت” وغيرهما. وهو الأمر الذي يفسر‘ في نظرنا، حضور الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في تفكير الغزالي حتى في الأمور الأكثر “فقهية”. ولا غرابة في ذلك، فالغزالي نفسه يجعل الفقيه عالما ” بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات… وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة “.(1)
10- إن الغزالي المتكلم كان حاضرا في أصول الفقه؛ يفسر ذلك حضور الكثير من المبادئ والكليات التي تقررت في علم الكلام أثناء مزاولة العمل الفقهي الأصولي، وفد أشرنا إلى بعضها في مواضع من هذه الدراسة.
11- ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن الكثير من المبادئ التي يصدر عنها عقل المجتهد والعديد من القضايا التي يدافع عنها، يمكن تحديدها بالسلب وذلك من خلال مقابلتها بما يصدر عنه “الآخر” ويدافع عنه؛ والمتمثل أساسا في الخصم الباطني من جهة، والمعتزلي من جهة أخرى.
هوامش الخاتمة:
1- أبو حامد الغزالي؛ إحياء علوم الدين، دار المعرفة، د.ت، بيروت، الجزء الأول، صص
17-19.
قائمة المراجع:
- ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الثالث، دار الفكر، بيروت.
- بنسعيد سعيد العلوي، الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي.
- الجابري محمد عابد، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986.
- الغزالي أبو حامد، المستصفى من علم الأصول، دار الفكر.
- الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
- الغزالي: دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط
سلسلة ندوات ومناظرات رقم 9، 1988.
خلال تناولنا لأهم الموضوعات التي يتمحور حولها الحديث عن الاجتهاد والمجتهد عند الغزالي، قمنا بعمل مزدوج هو ذلك الذي أبنا عنه في مقدمة هذه الدراسة، ويتعلق الأمر أساسا بمهمتين رئيسيتين:
· أولا: التركيز الشديد والدقيق على النص، باعتباره شكل الأرضية التي اشتغلنا عليها وانطلقنا منها. وهكذا تجنبنا كل قراءة خارجية أو تأويل ينوب عنا في قراءة النص، وقمنا فقط بإجراء بعض المفاهيم والمبادىء من خلال الفحص عن فعاليتها داخل تضاعيف النص وعباراته.
· ثانيا: حاولنا، في حدود معينة، القيام بالمقاربة الإيبستمولوجية التي توخينا من خلالها الكشف عن طبيعة العقل الأصولي، على الأقل في تناولنا لموضوع الاجتهاد، فعثرنا بالفعل على مبادئ محددة تؤسس للعقل فعله المعرفي وترسم له آفاقه واستشرافاته.
ويجدر بنا في هذه الخاتمة أن نلم الشتات، ونقوم بتلخيص مركز لتلك المبادئ والسمات العامة المميزة للعقل الأصولي عند الغزالي أثناء تناوله لمبحث له أهميته داخل أصول الفقه الأشعري، وهو المتعلق بالاجتهاد وعمل المجتهدين.
وسنسوق أهم تلك المبادئ والمحددات دون التفصيل فيها مادام قد تكفل العرض الذي قمنا به بتبيانها والبرهنة عليها في الكثير من المواضع. ويمكن تقديمها كما يلي:
1- حضور اللغة كسلطة معرفية قوية في عمل الأصولي/المجتهد. وهو ما يجعل عمل العقل ينطلق من اللفظ إلى المعنى وليس العكس.
2- صعوبة الفصل بين المعرفي والأخلاقي عند المجتهد؛ حيث نجد أن للفعل الأخلاقي ثقله وحضوره القوي كشرط من شروط ممارسة الاجتهاد.
3- حضور النص كسلطة معرفية أساسية، ذلك أن عمل المجتهد ينصب على النص ويتم بتوجيه منه.
4- يكون العقل في تناوله للعديد من المسائل تابعا للنقل ورديفا له.
5- الإجماع والخبر من أهم المصادر التي يرتكز عليها عمل المجتهد.
6- عمل المجتهد ينشد في آخر المطاف الدلالة الشرعية، وليس أبدا الدلالة العقلية المطلقة.
7- وهو ما يجعل النتائج التي يصل إليها يغلب عليها الطابع الظني.
8- كما يعبر الترجيح والاختيار –اللذان ينتهي إليهما المجتهد عند تعارض الأدلة- على انتفاء الحتمية والضرورة (بالمعنى المنطقي) في الاجتهاد، وميل العقل إلى الترجيح والتجويز.
9- ومبدأ التجويز/الجواز ينتج عنه مبدأ التبرير حينما يتعلق الأمر بالتشريع والتدبير للعمل والواقع، لاسيما حينما يعمل المجتهد على التركيز على مفاهيم من مثل “المصلحة” و”ضرورة الوقت” وغيرهما. وهو الأمر الذي يفسر‘ في نظرنا، حضور الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في تفكير الغزالي حتى في الأمور الأكثر “فقهية”. ولا غرابة في ذلك، فالغزالي نفسه يجعل الفقيه عالما ” بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات… وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة “.(1)
10- إن الغزالي المتكلم كان حاضرا في أصول الفقه؛ يفسر ذلك حضور الكثير من المبادئ والكليات التي تقررت في علم الكلام أثناء مزاولة العمل الفقهي الأصولي، وفد أشرنا إلى بعضها في مواضع من هذه الدراسة.
11- ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن الكثير من المبادئ التي يصدر عنها عقل المجتهد والعديد من القضايا التي يدافع عنها، يمكن تحديدها بالسلب وذلك من خلال مقابلتها بما يصدر عنه “الآخر” ويدافع عنه؛ والمتمثل أساسا في الخصم الباطني من جهة، والمعتزلي من جهة أخرى.
هوامش الخاتمة:
1- أبو حامد الغزالي؛ إحياء علوم الدين، دار المعرفة، د.ت، بيروت، الجزء الأول، صص
17-19.
قائمة المراجع:
- ابن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، المجلد الثالث، دار الفكر، بيروت.
- بنسعيد سعيد العلوي، الخطاب الأشعري: مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي.
- الجابري محمد عابد، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986.
- الغزالي أبو حامد، المستصفى من علم الأصول، دار الفكر.
- الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
- الغزالي: دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط
سلسلة ندوات ومناظرات رقم 9، 1988.
صفحتي على الفيس بوك
الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر
مواضيع مماثلة
» الأزهر والشيخ أبو حامد الغزالي
» لماذا الاجتهاد مفتوح في الدين؟
» الاجتهاد مقال قيم للأستاذ عبدالعزيز كحيل !!
» سلسلة بحوث أصولية نظرات تاصيلية فى الاجتهاد فى الشريعة الاسلامية ..!!
» قراءة في كتاب: فقه الواقع وأثره في الاجتهاد تأليف: ماهر حسين حصوة
» لماذا الاجتهاد مفتوح في الدين؟
» الاجتهاد مقال قيم للأستاذ عبدالعزيز كحيل !!
» سلسلة بحوث أصولية نظرات تاصيلية فى الاجتهاد فى الشريعة الاسلامية ..!!
» قراءة في كتاب: فقه الواقع وأثره في الاجتهاد تأليف: ماهر حسين حصوة
شبكة واحة العلوم الثقافية :: الساحات العلمية والثقافية والحوارية :: ساحة الفقه والعلوم والحوارات الشرعية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى