شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شبكة واحة العلوم الثقافية
أسعدتنا زيارتك و أضاءت الدنيا بوجودك

أهلا بك فى شبكة واحة العلوم الثقافية

يسعدنا تواجدك معنا يدا بيد و قلبا بقلب

لنسبح معا فى سماء الإبداع

ننتظر دخولك الآن
شبكة واحة العلوم الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:53 pm

ألكسندر بيرزين، ١٩٩٦ م
روجع بشكل بسيط في يناير سنة ٢٠٠٣ م وديسمبر سنة ٢٠٠٦ م
مقدِّمة: التحيُّز في كتابة التاريخ
النظر إلى المسلمين على أنهم قوى الشيطان له تاريخ طويل في الغرب المسيحي، فقد بدأ ذلك في نهاية القرن الحادي عشر ب.م. مع الحروب الصليبية التي أرادت انتزاع الأرض المقدسة من المسلمين، وتواصل الأمر مع سقوط مركز المسيحية الأرثوذكسية الشرقية في القسطنطينية على أيدي الأتراك في أواسط القرن الخامس عشر، ثم تجدد بسبب الهزيمة الساحقة التي ألحقها الأتراك بالبريطانيين والأستراليين في شبه جزيرة غاليبولي خلال الحرب العالمية الأولى. وغالبًا ما يصوِّر الإعلام الشعبي الأوربي الشخصيات الدينية الإسلامية بأنها "ملالي مجانين"، ويخلعُ على الزعماء المسلمين مثل العقيد القذافي وصدام حسين وعيدي أمين وآية الله الخميني وياسر عرفات الصورةَ الشيطانيَّة، ويصوِّر العديد من الغربيين جميع المسلمين إرهابيين متعصبين، ويشكُّون دائمًا بوجود يد إسلامية أصولية خلف أية أحداث عنف وحشية؛ مثل تفجير المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما عام ١٩٩٥ م. وفي المقابل ينظر المسلمون - ردًّا على انعدام الاحترام لقادتهم ودينهم وثقافتهم - إلى الغرب على أنها بلاد الشيطان التي تهدد قيمهم وأماكنهم المقدسة، وتُمثل هذه المواقف من الارتياب المتبادَل عائقًا كبيرًا أمام التفاهم والتعاون بين العالم غير المسلم وبين العالم الإسلامي.

وانتقل هذا الارتياب والتحامل نحو المسلمين إلى الطرح الغربي لتاريخ آسيا، وخصوصًا فيما يتعلق بالتفاعل بين المسلمين والبوذيين خلال نشر الإسلام في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، وبصورةٍ موازيةٍ لقيام الصحافة الغربية بالكتابة عن المسلمين بشكلٍ أساسيٍّ، بخصوص حضور عنصرهم التعصبيِّ في الأعمال الإرهابيَّة – وكأنه يمثل عالم الإسلام بأكمله - فإن السجلات التاريخية الغربية الشائعة حول هذه الفترة تدور حول تدمير الأديرة البوذية، والمجازر ضد الرهبان الذين لم يعتنقوا الإسلام؛ لذا يتلقى الناس الانطباع المشوَّه بأن التفاعل بين المسلمين والبوذيين كان سلبيًّا وعنيفًا فقط، وذلك من خلال التشديد على الأحداث الوحشية التي وقعت فعلاً.

وأحد مصادر التشويه كان الأجندة الخفيَّة لدى العديد من مؤرِّخي الإدارة البريطانيَّة خلال الاستعمار البريطاني للهند، خصوصًا خلال القرن التاسع عشر. فمن أجل حشد ولاء الهنود الذين يسيطرون عليهم، وجعل الحكم الاستعماري شرعيًّا حاول العديد من أولئك المؤرخين إظهار كيفية كون الحكم البريطاني أكثرَ إنسانية، وسياسته الضريبية أكثرَ عدالة من أية سلالة مسلمة حاكمة سابقة. وحينما كان علماء الآثار يجدون بعض المعابد تحت الأنقاض فقد كانوا يفسرون هذا بأن المتعصبين المسلمين دمروها، وحينما تُفقَد بعض التماثيل أو أية كنوز أخرى كانوا يستنتجون أن غزاة مسلمين قد نهبوها، أو أن البوذيين قد أخفوها خوفًا من النهب الإسلامي، ولو أعطى الحكام المسلمون ترخيصًا لترميم المعابد كانوا يفترضون أن الجيوش الإسلامية سبق أن دمرتها. ومن خلال إلغاء الدوافع الاقتصادية أو الجغرافية، والخلط بين السياسة العسكرية وبين السياسة الدينية أشاعوا فكرة أن الرغبة في نشر الإسلام وهداية الكفار بالسيف شكَّلت الدافع لجميع غزوات الجيوش الإسلامية، فلقد ساووا بين الغزو واعتناق الإسلام وبين التمرد اللاحق مع الرغبة في التخلص من الإسلام.

لقد أيَّد المبشرون البريطانيون - بشكل خاص - هذه الرؤية، من خلال التشديد على عدم تسامح المسلمين، وذلك بغية عرض أنفسهم بصورة أفضل. وهكذا فإن العديد من المؤرخين البريطانيين جمعوا بين الغزو العربي والتركي - على اختلافه - والمنغولي لشبه القارة الهندية، وصوروه كله على أنه غزو إسلامي، بدلاً من كونه غزوات (هذه الغزوات قامت بها كيانات سياسية منفردة، وليس غزوًا لهذه الكيانات) لكيانات سياسية منفردة تختلف بشكل كبير عن بعضها البعض، وهناك مؤرخون غربيون آخرون حذوا حذوهم أيضًا. وحتى في أيامنا هذه أيضًا عادةً ما نجد زعماء سياسيين ووسائل إعلام يتحدثون عن إرهابيين مسلمين، وليس عن مسيحيين أو يهود أو هندوس أبدًا.

ليس التاريخ الغربي وحده من يعرض صورة أُحادية الجانب، فالتاريخ الديني الإسلامي والبوذي للتقاليد التبتية والمنغولية والعربية والفارسية والتركية فسَّر - في معظم الحالات - العلاقات المتبادَلة بين دول آسيا الوُسطى جميع هذه الأحداث بأنها كانت بسبب الرغبة في نشر الدين والدفاع عنه. وقدَّم التاريخ الديني البوذي صورة عنيفة لهذا الأمر، ووصف اعتناق الأديان كما لو أنه كان بالقوة فقط. ومن جهته عرض التاريخ الديني الإسلامي صورة سِلمية أفضل؛ فقد سعى إلى تفسير دخول البوذيين الإسلام بسبب تفوق الإيمان الإسلامي، أو بالرغبة في التخلص من القمع الهندوسي، والافتراض هو أن الميزة الحاسمة للطغاة الهنود كانت ديانتهم الهندوسيَّة، وليست سياساتهم السياسية والاقتصادية.

كان للتاريخ الصينيِّ للسلالات الحاكمة أولويات أخرى، وهي تصوير التفوق الأخلاقي للأسرة الحاكمة الصينية، وخضوع جميع الثقافات الأجنبية لها، وقد شوَّهت هذه الأجندة الخفيَّة – أيضًا - الصورة التي عرضوها للعلاقات الدولية والعلاقات بين الأديان.

فهناك بعض النصوص بها أحداث من الماضي البعيد أدَّت إلى سوء طرح العلاقة بين البوذية والإسلام. فقد شرح رشيد الدين الكاتب المسلم الكشميري من أوائل القرن الرابع عشر - على سبيل المثال - في كتابه "حياة بوذا وتعاليمه" الذي ظل بالعربية والفارسية أن سكان مكة والمدينة كانوا بوذيين جميعًا قبل عهد النبيِّ، وقد عبدوا أوثانًا في الكعبة على هيئة بوذا.

وحتى النبوءات المستقبلية لم تسلم من التحيُّز الديني، فالبوذيون والمسلمون على السواء مَثلاً يتحدَّثون عن قدوم قائد روحي عظيم، سوف يهزم قوى الشر في حرب نهائية، والتصوُّر البوذي مشتق من "التانترا كلاتشاكرا"، وهو نص ظهر في الهند بين أواخر القرن العاشر ومطلع القرن الحادي عشر، وهو شائع جدًّا في صفوف التبتيين والمنغوليين. ومن خلال التحذير من غزو مستقبلي تنفذه قوات تدعي ولاءها لمكة وبغداد ضد بلاد بها خليط من السكان البوذيين والهندوس، يضع هذا النص الملك البوذي رادراتشاكرين في مواجهة آخر أنبياء المسلمين وهو المهدي، فالنص يصف الأخير على أنه قائد لقوات بربرية غير هندية ستحاول إخضاع الكون وتدمير الروحانية، ومن خلال تسمية رادراتشاكرين حاكم "كالكي" يضم النص الهندوسَ أيضًا إلى هذه الرؤية الطائفية للمستقبل. و"كالكي" هو التجسُّد العاشر والأخير للإله الهندوسي فيشنو، الذي سيحارب أيضًا في الحرب النهائية.

وطوَّرَت العلاقة التاريخيَّة بين المناطق المسلمة مثل بالطستان شمال باكستان، وبين المناطق ذات الثقافة البوذية التبتية – بدورها – رواية أخرى للحرب النهائية. ويُعرَّف فيها الدجَّال - عدوُّ المهدي - بكونه الملك غيسار، بطل آسيا الوسطى الأسطوري، والذي يعد في نظر الشعوب البوذيَّة على امتداد القرون تجليًا لجنكيز خان نفسه، وليس للملك رودراتشاكرا فقط.

[.يُنظر: عرض "الكالاتشاكرا" لأنبياء الغزاة غير الهنود.]

ولكن حين ينظر المرء إلى التاريخ بتعمُّق أكبر فسوف يجد العديد من الأدلة على التفاعل والتعاون الودِّيينِ بين البوذيين والمسلمين في آسيا الوسطى والجنوبيَّة في المجالات السياسية والاقتصادية والفلسفية. فقد كان هناك العديد من التحالفات وقدر واسع من التجارة وتبادل كبير للمناهج الروحية من أجل التطور الذاتي. ولا ينكر هذا حقيقة أن عددًا من الحوادث السلبية قد وقعت بين الشعبين، ولكن الدوافع الجغرافية-السياسية، والرغبة في التوسع الاقتصادي والجغرافي فاق العناصر الدينية بكثير في تحريك معظم هذه الصراعات، على الرغم من وجود زعماء متعصبين في الوقت نفسه قد استخدموا الدعوة إلى حرب مقدسة بغرض تحريك الجيوش. زيادة على ذلك فقد فاق عدد الحكام العقلانيين والمسئولين بكثير عددَ الحكام المتعصبين في كلا الطرفين، فيما يخص صياغة السياسات والأحداث.

ولا يزال المسلمون والبوذيون يشكِّلون نسبة عالية من السكان، وخصوصًا في مركز آسيا. وتناول تاريخ العلاقات بين الديانتينِ والشعبينِ بشكل أكثر نزاهة أمر حيوي، ليس لغرض المعرفة غير المنحازة فحسب، وإنما من أجل التطور السِّلمي المستقبلي للمنطقة.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:54 pm

القسم الأول: الخِلافة الأمويَّة (٦٦١ - ٧٥٠ م)
١ انتشار البوذيَّة في آسيا الوسطى والمناطق المجاورة قبل مجيء العرب
قبل أن يأتي العرب بالإسلام إلى آسيا الوسطى بوقتٍ طويل، وفي منتصف القرن السابع الميلادي، كانت البوذيَّة قد ازدهرت هناك مئات السنين. وكان ذلك بارزًا - على وجه الخصوص - على طول طريق الحرير، التي حملت التجارة بين الهند والصين الهانيَّة، وامتدت منهما إلى بيزنطة والإمبراطوريَّة الرومانيَّة. دعونا نُلخِّص باختصار الانتشار الأَوليَّ للبوذية في هذا الجزء من العالم، علَّنا نُعطي الخلفية التاريخية التي واجهها الإسلام حقَّ قدرها.

الجغرافيا
من حيث المناطق الجغرافية الحاليَّة ضمَّت الأقاليم البوذية الأولى في آسيا الوسطى وفي مختلف الأزمان ما يلي:

(١) كشمير الهنديَّة بإدارة باكستانيّة.

(٢) السهول الجبليَّة الباكستانيَّة الشماليَّة، مثل:

(٣) بنجاب الباكستانية، بما في ذلك وادي سوات وأفغانستان الشرقية غرب جبال هندو كوش.

(٤) وادي نهر جيحون شمالَ هندو كوش، بما في ذلك كلٌّ من تركستان الأفغانية جنوبَ جيحون وجنوب تركستان الغربية - جنوب شرق أوزبكستان وجنوب طاجيكستان - إلى شمال النهر.

(٥) شمال شرق إيران وجنوب تركمانستان.

(٦) المنطقة الواقعة بين نهريْ جيحون وسيحون، أي: تركستان الغربيّة الوسطى- شرق أوزباكستان وغرب طاجيكستان.

(٧) المنطقة الشمالية من سير داريا، أي شمال تركستان الغربيَّة - قرجستان وشرق كزاخستان.

(٨) جنوب شينجيانغ في جمهوريَّة الصين الشعبيَّة، أي جنوب تركستان الشرقية، شمال صحراء تاكلاماكان وجنوبها حول المنطقة المحيطة بحوض تاريم.

(٩) شمال شينجيانغ، بين جبال التيانشان وجبال ألطاي.

(١٠) منطقة التبت المستقلة: تشينغهاي وجنوب شرق قانسو وغرب سيتشوان وشمال غرب يونَّان، وكلها في جمهورية الصين الشعبية.

(١١) منغوليا الداخليَّة في جمهوريّة الصين الشعبيّة، وجمهورية منغوليا (خارج منغوليا)، وجمهورية بورياتيا في سيبيريا وروسيا.

[ شاهد الخريطة الأولى: آسيا الوسطى الحالية.]

كانت الأسماء التاريخية لهذه المناطق على النحو التالي:

١. كشمير، وعاصمتها سرينغار.

٢. جيلجيت.

٣. غندهارا ومُدُنها الكُبرى، تكشاشيلا على جانب بنجاب الباكستانية من ممرِّ خيبر، وكابوُل على الجانب الأفغانيِّ، وسوات التي سُميَّت أوديانا.

٤. باكتريا التي تمتدُّ لتشمل وادي نهر جيحون ومدينة بلخ في وسطها، بالقرب من مدينة مزار شريف الحالية.

٥. بارثيا المعروفة سابقًا بخُراسان، ومدينتها الرئيسة في مرو، وأحيانا نصيبها في جنوب تركمانستان، المعروفة باسم مارغيانا.

٦. صغديا، وهي ما وراء النهر حاليًّا، تقع بين نهريْ شيحون وسيحون، مع مراكزها الرئيسة، وتمتد تقريبًا من الغرب حتى الشرق في: بخارى وسمرقند وطشقند وفرغانة.

٧. ليس هناك اسم محدَّد لهذه المنطقة، لكنها مع مركزها الرئيس في سُياب شمال بحيرة إيسيك كول.

٨. ليس هناك اسم محدَّد لهذه المنطقة، لكنها مع دويلات مدن الواحات الرئيسة، على طول ضفَّة حوض تاريم، وتمتدُّ المدن التالية من الغرب إلى الشرق: كاشغار ويركاند وخوتان ونييا. وعلى طول الضفَّة الشمالية تمتدُّ مُدن: كوتشا وقراشاهر وتورفان (كوتشو)، وتمتد مع الطريقيْن اللذيْن يتَّحدان في الشرق عند دونهوانغ،

٩. جونغاريا، مع المدينة الرئيسة عند منفذها الشرقيِّ عبر جبال تيانشان، من توربان هناك: بشباليق، بالقرب من أورومتشي الحالية.

١٠. التبت، وعاصمتها في لاسا.

١١. منغوليا.

[ شاهد الخريطة الثانية: آسيا الوسطى القديمة.]

رغم أنَّ بعض هذه الأسماء قد تغيّرت عدَّة مرات عبر التاريخ، إلا أنَّنا سنضع أنفسنا ضمن إطار هذه المجموعة الواحدة لتفادي البلبلة. كما أننا سنُشير إلى منطقة جمهوريَّة الصين الشعبية مستثنين قانسو ومنغوليا الداخليّة والمناطق التبتية الإثنيَّة ومنشوريا والمناطق القبلية جنوب التلِّ مثل "الصين الهانيَّة"، والموطن الإثني لشعب الهان. وسنستخدم مصطلح "شمال الهند" للإشارة - بشكلٍ أوليٍّ - إلى سهل الغانج، دون أن يشمل ذلك جمو وكشمير وهيماتشال براديش وبنجاب الهنديّة وراجاستان، أو أيًّا من ولايات جمهورية الصين شرق بنغال الغربيَّة. وبالنسبة لمصطلح "إيران" فإننا نعني المناطق التي تقع حاليًّا ضمن حدود جمهورية إيران الإسلامية. وأمَّا بالنسبة لمصطلح "العرب" فإننا نعني به كلَّ شعب شبه الجزيرة العربيَّة وجنوب العراق.

تركستان الغربيَّة والشرقيَّة
رغم الاختلاف في تاريخ وجود شاكياموني بوذا، إلا أنَّ معظم الباحثين الغربيِّين يُرجِّحون الرأي القائل بأنه عاش بين عاميْ ٥٥٦ و٤٨٦ ق.م. فلقد علَّم – أساسًا - في الجزء المركزي من سهل الغانج في الهند الشرقيَّة، ثم نشر أتباعُه رسالتَه تدريجيًّا في المناطق المحيطة؛ حيث ظهرت المجموعات الرهبانيَّة من الرهبان والراهبات بعد فترة وجيزة. وبهذه الطريقة تطوَّرت البوذية حتى صارت ديانةٍ منظَّمة، تحفظ تعاليم بوذا وتنقلها شفاهيًّا.

وقد انتشرت البوذيّة مبدئيًّا من شمال الهند إلى غندهارا وكشمير في منتصف القرن الثالث ق.م. وذلك بجهود الملك الماروي أشوكا (حَكَم من سنة ٢٧٣ إلى ٢٣٢ ق.م.) وبعد قرنيْن من الزمن حقَّقت البوذية انتشارَها الأول في كلٍّ من تركستان الغربية والشرقية (تركستان)، وذلك عندما امتدَّت من غندهارا إلى باكتريا ومن كشمير إلى خوتان خلال القرن الأول قبل الميلاد، كما أنها كانت قد انتشرت كذلك – في ذلك الوقت - من كشمير إلى جيلجيت، ومن شمال الهند إلى السِّند الحالية وبلوشستان في جنوب باكستان عبرَ شرق إيران، وصولاً إلى بارثيا. واعتمادًا على التواريخ البوذية المعروفة فقد كان هناك تاجران من باكتريا، وهم من تلاميذ شاكياموني بوذا الأساسيِّين. ولكن ليس هناك دليل على أنَّهما أقاما البوذية في وطنهم في تلك المرحلة المبكِّرة.

[ شاهد الخريطة الثالثة: انتشار البوذيَّة في آسيا الوسطى.]

ومع حلول القرن الأول الميلادي كانت البوذيَّة قد ثبَّتت أقدامها في تركستان الغربيَّة، كما أنها كانت تواصل انتشارها من باكتريا إلى صغديا. وخلال ذلك القرن امتدَّت البوذيَّة كذلك بشكلٍ أكبر على طول الضفَّة الجنوبية من حوض تاريم، مارَّةً من غندهارا وكشمير إلى كاشغار، ومن غندهارا وكشمير وخوتان إلى مملكة كروراينا في نييا. وكانت كرورانيا معزولة في الصحراء في القرن الرابع، ثم انتقل سكانها للعيش في خوتان.

وخلال القرن الثاني الميلادي وصلت البوذية أيضًا إلى شمال ضفة حوض تاريم، ممتدةً من باكتريا إلى شعب توخاريا في كوتشا وتورفان. واعتمادًا على بعض المصادر فقد كان التوخاريون هناك ينحدرون من نسل اليويجي، وهو شعب قوقازيٌّ يتكلم لغةً هندو-أوربية غربية قديمة. وفي القرن الثاني قبل الميلاد هاجرت إحدى مجموعات يويجي - التي عُرفت لاحقًا باسم التوخاريين - غربًا، وسكنت في باكتريا. وبالتالي أصبحت باكتريا الشرقية تُعرف باسم "تخارستان". ولكن - وبصرف النظر عن تقاسمهم المكان نفسه - لم توجَد هناك علاقات سياسية بين التوخاريين في باكتريا الشرقية والتوخاريين كوتشا وتورفان.

كان هناك حضورٌ للثقافة الإيرانية في كثير من المناطق التابعة لتركستان الغربية والشرقية، وعلى وجه الخصوص في باكتريا وصغديا وخوتان وكوتشا، وبالتالي أصبحت البوذية في آسيا الوسطى ذات ملامح زرادشتية، ولكن بدرجات متفاوتة. فقد كانت الزرادشتية هي الديانة القديمة لإيران. ونرى مظاهر هذه الديانة في كل من النموذج البوذي في هينايانا المسمى سارفاستيفادا الذي انتعش في باكتريا وصغديا وكوتشا، والنموذج الآخر للبوذية الذي سيطر على خوتان ويطلق عليه بوذية ماهايانا.

الصين الهانيَّة
حافظ الصينيون الهانيٌّون على حاميات عسكرية في دويلات مدن واحات حوض تاريم من القرن الأول قبل الميلاد، حتى القرن الثاني بعد الميلاد. غير أن البوذية لم تنتشر في الصين الهانيَّة إلا بعد استعادة هذه المستعمَرات استقلالَها.

بدايةً من منتصف القرن الثاني الميلادي وصلت البوذية إلى الصين الهانيَّة من بارثيا، ثم وسَّع الرهبان - لاحقًا - انتشارها في بلاد بوذية أخرى في آسيا الوسطى، وشمال الهند وكشمير كذلك. وقد ساعد رهبان آسيا الوسطى وشمال الهند الآسيويين الأوسطيين أنفسهم الذي فضلوا في البداية هذه النماذج الهندية الأصلية لمصلحتهم الشخصية. ومع احتكاكهم المستمر بالعربات الدولية التي تزورهم على طول طريق الحرير لم يجد معظمهم مشكلةً مع اللغات الأجنبية. ولكن أثناء عمل ترجمتهم للصينيين الهانييين لم ينقل الآسيويون الأوسطيون أبدًا عناصر زرادشتية، غير أن البوذية التي ينتمي إليها الصينيون الهانيون رحَّبَت بالكثير من الخصائص الثقافية الطاوية والكنفشيوسية.

خلال فترة السلالات الحاكمة الست (٢٢٠ – ٥٨٩ م)، انقسمت الصين الهانية إلى عدة ممالك قصيرة الأمد، مجزأة تقريبًا بين الشمال والجنوب. وهذه السلالات الحاكمة المتعاقبة التي لم تكن في الغالب صينية هانية - وهم الأسلاف الأولون للأتراك التبتيين والمنغول والمانشو - قد غزت الشمال وحكمته، في حين حافظ الجنوب على حضارةٍ صينيةٍ هانية تقليدية بصورة أكبر، وكانت البوذية في الشمال موجهةً بإخلاص نحو نزوات السلطة الحاكمة، في حين أنها في الجنوب كانت مستقلة ومشددة على الطلب الفلسفي.

نتيجةً لتأثير غيرة الكهنة الطاويين والكنفشيوسيين في دعم الحكومة للأديرة البوذية عانت الديانة الهندية من الاضطهاد في مملكتيْن من الممالك الصينية بين عاميْ ٥٧٤ و٥٧٩ م. لكن ويندي - الذي أعاد توحيد الصين الهانية بعد ثلاثة قرون ونصف من التشتت، وأوجَد سلالة أخرى للحكم غير السلالة الحاكمة - أعلنَ نفسه إمبراطورًا كونيًّا بوذيًّا. من خلال إعلانه أن هذا القانون (٥٨٩ – ٦٠٥ م) سيحول الصين إلى جنة "أرض نقية" تدينُ بالبوذية، وأعاد إحياء العقيدة الهندية بمستويات جديدة، رغم أن العديد من الأباطرة الأولين لسلالة تانج الحاكمة (٦١٨ – ٩٠٦ م) فضلوا الطاوية، إلا أنهم تابعوا كذلك دعمهم للبوذية.

الإمبراطوريتان التركيتان الشرقية والغربية
منذ بداية القرن الخامس حكم شعب الرون-روان إمبراطورية مترامية الأطراف، مركزها في منغوليا، وتمتد من كوتشا حتى حدود كوريا، وقد اعتمدوا على خليط من النماذج البوذية والتوخارينية المتأثرة بإيران، وقدموها إلى منغوليا. أما الأتراك القدامى - الذين يعيشون في قانسو ضمن الحدود الرون-روانية - فقد أسقطوا الأخيرة عام ٥٥١ م. وقد انقسمت الإمبراطورية التركية القديمة إلى قسميْن: شرقي وغربي. وذلك خلال سنتيْن.

حكم الأتراك الشرقيون منغوليا، واستمروا في اعتماد النموذج الخوتاني/التوخاريني من البوذية الذي وُجدَ هناك، ودمجوا معه عناصر صينية هانية شمالية، وترجموا العديد من النصوص البوذية إلى اللغة التركية القديمة من مختلف الألسن البوذية بمساعدة رهبان من شمال الهند: غندهارا، والصين الهانية، ولكن بشكلٍ خاص من المجتمع الصغدياني في تورفان. وبصفتهم التجار الأساسيين على طريق الحرير فقد خرج من الصغديانيبن رهبانٌ كانوا يتكلمون لغات متعددة بصورةٍ طبيعية.

إن ما كان يميز البوذية التركية القديمة بشكلٍ أساسي هو مخاطبتها لعامة الشعب؛ حيث أدخلت ضمن حاشية بوذا الكثير من الآلهة الشعبية المعبودة محليًّا، بما في ذلك كل من الآلهة: الشامانية والتنغرية والزرادشتية. فقد كانت التنغرية هي الديانة التي دانت بها شعوب البوادي المغولية قبل البوذية.

حكم الأتراك الغربيون في البداية جونغاريا وشمال تركستان الغربية عام ٥٦٠ م، ثم استولوا على الجزء الغربي من طريق الحرير من أيدي الهون البيض (الهياطلة)، وهاجروا تدريجيًّا إلى كاشغار وصغديا وباكتريا؛ وذلك ليؤسسوا حضورًا ملحوظًا في غندهارا الأفغانية. وأثناء توسعهم اعتنق الكثير من شعبهم البوذية بنماذجه التي وُجدت في المناطق التي احتلوها على وجه الخصوص.

حالة البوذية في تركستان الغربية عند وفود الأتراك الغربيين
طوال قرونٍ سبقت هجرة الأتراك الغربيين كانت البوذية آخذةً بالازدهار في مركز تركستان الغربية وجنوبها، في ظل الحُكم المتعاقب لليونانيين-الباكتريايين والشاكيين والكوشانيين والساسانيين الفُرس والهون البيض. وقد كتبَ الحاج الصيني الهاني إلى الهند فاشيان، الذي ارتحل في هذه المنطقة بين عاميْ ٣٩٩ م و٤١٥ م، أن تلك المنطقة كانت مليئة بالأديرة النشِطة، ولكن عندما وصل الأتراك الغربيون إلى هذه المنطقة بعد قرنٍ ونصف وجدوا أن البوذية في حالة مستضعَفة، خاصةً في صغديا، ويبدو أن البوذية قد انحسرت خلال فترة حكم الهون البيض.

فقد كان الهون البيض عامة يدعمون البوذية بشكلٍ ثابت. ففي عام ٤٦٠ م، على سبيل المثال، أرسل حاكمهم خرقة من ثوب بوذا بوصفها قطعة أثرية من كاشغار إلى إحدى البلاطات الصينية الشمالية. ولكن في عام ٥١٥ م حرَّض ملك الهون البيض ميهيراكولا على اضطهاد البوذية، وذلك - على ما يبدو - تحت تأثيرٍ من المذهبيْنِ المنافسين: المانوية والمسيحية النسطورية في بلاطه، وكان الضرر الأكثر سوءًا في غندهارا وكشمير والجزء الغربي من شمال الهند، إلا أنه امتد كذلك حتى طال باكتريا وصغديا لكن بدرجة أقل.

وفى عام ٦٣٠ م تقريبًا عندما زار الحاج الصيني الهاني البارز التالي إلى الهند شوانزانغ سمرقندَ، وهي العاصمة التركية الغربية في صغديا، وجد أن أتباع الزرادشتية المحليين يعادون البوذية، وذلك رغم وجود العديد من أتباع البوذية العَلمانيين. كان الديران البوذيان الرئيسان خاوييْن ومغلقيْن. لكن في عام ٦٢٢ م، وقبل عدة سنواتٍ من زيارة شوانزانغ إلى سمرقند، اعتنق حاكمها التركي الغربي تونغشيهو خاقان البوذية بصورة رسمية تحت إرشاد براباكاراميترا الراهب الزائر من شمال الهند، وشجع شوانزانغ الملك على إعادة فتح الأديرة المهجورة قرب المدينة، وبناء المزيد منها كذلك.

اتبع الملك وخلفاؤه نصيحة الراهب الصيني، وبنوا عدة أديرة جديدة في صغديا، ليس في سمرقند فحسب، وإنما في وادي فرغانة وغرب طاجيكستان الحالية كذلك. إضافةً إلى أنهم نشروا نماذج مختلطة من بوذية صغديا وكاشغار في شمال تركستان الغربية، وبنوا هناك أديرة جديدة في وادي نهر طلاس في جنوب كازاخستان الحالية ووادي نهر تشو في قرغيزستان، وفي سيميريتشية في جنوب شرق كازاخستان قرب ألماأتي الحالية.

وعلى النقيض من صغديا كتب شوانزانغ عن ازدهار كثير من الأديرة البوذية في كاشغار وباكتريا، وهما المنطقتان الرئيستان اللتان يحكمها الأتراك الغربيون. وتحتوي كاشغار على مئات الأديرة وعشرة آلاف راهب، في حين كان العدد في باكتريا أقل. كان دير نافا فيهارا أضخم ديرٍ في المنطقة كلها، ومقره بلخ المدينة الرئيسة في باكتريا، حيث اعتُبرَ مركزًا رئيسًا للدراسات البوذية العُليا لكل آسيا الوسطى، إلى جانب أديرةٍ فرعية في باكتريا وبارثيا، التي سُمِّيت كذلك أديرة نافا فيهارا.

بما أن إدارته شبيهة بإدارة الجامعة لم يقبل دير نافا فيهارا إلا الرهبان الذين قدموا أبحاثًا من قبل، وقد ذاع صيته نتيجةً لما يحتويه من تماثيل لبوذا تسلُب اللُّبَّ بجمالها، مكسوة بأثواب حريرية فاخرة، ومزينة بزخارف بهية من المجوهرات الكثيرة، وحسب التقاليد الزرادشتية المحلية كان الدير يتمتع بعلاقات مقربة، بشكلٍ خاص، مع خوتان، التي أرسل إليها الكثير من المعلمين. وبحسب شوانزانغ كانت خوتان تحتوي في تلك الفترة على مئة دير وخمسة آلاف راهب.

تراجع الأتراك الغربيين
ومع حلول منتصف القرن السابع بدأ حكم الأتراك الغربيين لهذه المناطق في تركستان الغربية والشرقية بالاضمحلال؛ حيث خسر الأتراك بدايةً باكتريا من الشاهيين الأتراك، وهم شعب بوذي تركي آخر، كان قد حكم غندهارا. وقد وجد شوانزانغ أن حالة البوذية في غندهارا أسوأ مما كانت عليه في باكتريا، بصرف النظر عن كون الأتراك الغربيين قد بنوا دير كابيشا فيها عام ٥١٩ م، وهو لا يبعُد عن شمال كابول، والدير الرئيس على الجانب التابع لكابُول من ممر خيبر ناغارا فيهارا، وهو جنوب جلال أباد الحالية، وقد حوى رفات جمجمة بوذا، وكان من أقدس مواقع الحجيج في العالم البوذي، لكن رهبانه أصبحوا ماديين، وباتوا يطلبون عملة ذهبية واحدة من كل حاج لمشاهدة الرفات. وفي الوقت ذاته لم تكن هناك مراكز للدراسة في المنطقة بأسرها.

أما على الجانب البنجابي فقد حافظ الرهبان على القواعد الرهبانية من الانضباط فقط، ونادرًا ما يتمتعون بأي فَهمٍ للتعاليم البوذية. في وادي سوات (أوديانا) - على سبيل المثال - وجد شوانزانغ الكثير من الأديرة قد دُمِّرَت، أما بالنسبة لتلك التي كانت لا تزال قائمة فقد مارس الرهبان الطقوس لاكتساب الحماية والقوى من الكائنات العلوية، ولم يعد هناك أي تقليدٍ للدراسة أو التأمل.

زار أحد الرحَّالة الصينيين الهانيين واسمه سونغيون سوات عام ٥٢٠ م بعد خمس سنوات من اضطهاد ميهيراكولا. وكتب عن الأديرة أنها كانت لا تزال مزدهرة في ذلك الوقت. فإن حاكم الهون البيض لم يطبق بشكل كبير سياسته المناهضة للبوذية في المناطق البعيدة عن مملكته. فكان الانحسار اللاحق للأديرة في سوات نتيجةً لعدة هزات أرضية وفيضانات عنيفة حدثت خلال القرن الذي فصل بين زيارتَي الحاجَّيْن الصينييْن. ومع إفقار الوادي الجبلي، وقَطْع الطريق التجاري من جيلجيت إلى تركستان الشرقية خسرت الأديرة تقريبًا كل دعمها المادي، وعلاقتها مع الثقافات البوذية الأخرى. وحينها اختلطت الاعتقادات الخيالية المحلية والمُمارَسات الشامانية مع ما تبقى من الفهم البوذي.

في عام ٦٥٠ م تقلصت رقعة الإمبراطورية التركية الغربية أكثر فأكثر؛ إذ خضعت كاشغار للصينيين الهانيين، الذين كانوا يوسعون إمبراطوريتهم منذ تأسيس سلالة التانغ الحاكمة عام ٦١٨ م. وقبل فرض سيطرتها على كاشغار انتزعت قوات تانغ منغوليا من الأتراك الشرقيين، وبعدها دويلات المدن، إلى جانب الضفة الشمالية من حوض تاريم. ومع التهديد المتزايد من الهانيين، وعدم قدرة الأتراك الغربيين الضعفاء عن الدفاع عنها، استسلمت مدينتيْ كاشغار وخوتان المستقلة على الضفة الجنوبية دون قتال.

التبت
خلال الربع الثاني من القرن السابع وحَّد التبتيُّون دولتهم؛ حيث أسس الملك سونغتسين-غامبو (حَكَم من سنة ٦١٧ إلى ٦٤٩ م) إمبراطوريةً امتدت من شمال بورما إلى حدود الصين الهانية وخوتان، وضمَّت نيبال دولةً تابعة لها، وكانت في ذلك الوقت محدودة ضمن وادي كاتماندو. بعد تأسيس إمبراطوريته قدم سونغتسين-غامبو البوذية إلى دولته في نهاية عام ٦٤٠ م. غير أن ذلك كان بصورة محدودة جدًّا؛ إذ اختلطت وجهات نظر متعددة من الصين الهانية ونيبال وخوتان. ومع توسيع التبتيين لمنطقتهم استولوا على كاشغار من الصين التانغية عام ٦٦٣ م، وأسسوا في السنة نفسها مملكتهم في جيلجيت ومضيق واخان الذي يصل بين غرب التبت وشرق باكتريا.

الهند الغانجية
تعايشت البوذية بانسجام مع الهندوسية والجاينية في سهل الغانج التابع لشرق الهند في العصور القديمة. ومنذ القرن الرابع الميلادي اعتبر الهندوس بوذا أحد التجليات العشرة لإلههم الأعلى فيشنو. وعلى المستوى الشعبي رأى الكثير من الهندوس في بوذا نموذجًا آخر من دياناتهم الخاصة. فتولَّى أباطرة الفترة الغوبتية الأولى (٣٢٠ – ٥٠٠ م) حماية المعابد والأديرة والمعلِّمين من كِلا المعتقَديْن بشكلٍ مستمر. وبنوا عددًا كبيرًا من الجامعات الرهبانية البوذية، في الوقت الذي ازدهرت فيه المناظرات الفلسفية. وكانت أشهر تلك الجامعات هي نالاندا في وسط بيهار الحالية. كما أنهم أجازوا للدول البوذية الدخول إلى مواقع الحجيج ضمن مملكتهم. وسمح الإمبراطور سامودراغوبتا - على سبيل المثال - لملك سريلانكا ميغافانا (حكم من سنة ٣٦٢ إلى ٤٠٩ م) ببناء دير الماهابودي في فاجراسانا (بود غايا الحالية)، وهو المكان الذي نال بوذا التنوير فيه.

حكم الهون البيض غندهارا والجزء الغربي من شمال الهند نحو ستة قرون كاملة. وقد امتد تدمير ميهيراكولا للأديرة حتى كوشامبي – على بعد مسافة قصيرة غربَ الله أباد الحالية في أوتر براديش - ومع بداية الفترة الغوبتية الثانية (أواخر القرن السادس – ٧٥٠ م)، جاهد الأباطرة في إصلاح الأضرار التي لحقت بالأديرة، غيرَ أن شوانزانغ استمر في العثور على أديرة مُدمرة غربًا من كوشامبي أثناء زيارته، وذلك في الوقت الذي لا تزال الأديرة الموجودة في ماجدا شرقًا، مثل نالاندا وماهابودي مزدهرةً.

احتفظ الإمبراطور هارشا (حكم من سنة ٦٠٦ إلى ٦٤٧ م) أقوى أنصار البوذية في الفترة الغوبتية بألف راهبٍ من نالاندا في بلاطه الملكي. فلقد كان يبجِّل البوذية ليصل بها إلى مستوًى عالٍ، لدرجةٍ جعلته – كما ذكرت المصادر - يلمس قدميْ شوانزانغ حسب التقليد الهندوسي مبالغة في إظهار الاحترام، وذلك عندما قابله لأول مرة مع الراهب الصيني الهاني.

وفي عام ٦٤٧ م أطاح أرجونا الوزيرُ المناهض للبوذية بهارشا، واستولى على حُكم غوبتا. وعندما أساء معاملة أحد الحجاج الصينيين الهانيين، وهو وانغ شوانتسي، وقتل معظم مجموعته وسلبَها، هرب الراهب الذي كان كذلك رسولَ الإمبراطور التانغي تايزونغ (حكم من سنة ٦٢٧ إلى ٦٥٠ م) إلى نيبال، وهناك طلب المساعدة من الإمبراطور التبتي سونغتسين-غامبو، الذي كان قد تزوج عام ٦٤١ م من ابنة الإمبراطور التانغي الأميرة وينتشينغ، فحارب الحاكم التبتي بمساعدة أتباعه النيباليين أرجونا وأطاح به، واسترد غوبتا مرة أخرى، وبهذا ظلت البوذية تمتع بمكانةٍ عظيمة في شمال الهند.

كشمير ونيبال
ازدهرت البوذية في كشمير ونيبال، وفي شمال الهند كذلك، وفي ولايات هندوسية بشكلٍ أساسي. وقد كتب شوانزانغ عن البوذية أنها قد تعافت في كشمير من اضطهاد ميهيراكولا، خاصةً مع دعم مؤسس سلالة كاركوتا الحاكمة الجديدة الحالية (٦٣٠ – ٨٥٦ م).

من جهة أخرى لم تقع نيبال تحت حكم الهون البيض. فقد حافظ حكام سلالة ليتشافي الحاكمة (٣٨٦ – ٧٥٠ م) على دعمهم غير المنقطع للبوذية. وفي عام ٦٤٣ م أطاح الإمبراطور التبتي سونغتسين-غامبو بفيشناغوبتا الغاصب في نظر هذه السلالة الحاكمة، وأعاد الملك ناريندراديفا الذي كان يطالب بعرش نيبال إلى عرشه، وهو الذي كانت لاجئًا في التبت. ولكن هذا لم يكن له أثر كبير على حالة البوذية النيبالية في وادي كاتماندو. وقد تزوج سونغتسين-غامبو لاحقًا الأميرةَ بريكوتي ابنة الملك ناريندراديفا؛ ليعزِّز العلاقات بين البلديْن.

ملخص
إذن كانت البوذية موجودة في كل أقسام آسيا الوسطى تقريبًا عند قدوم العرب المسلمين في منتصف القرن السابع الميلادي. فقد كانت الأقوى في باكتريا وكشمير وحوض تاريم، وكانت مقبولة على المستوى الشعبي، لكنها لم تقبل بشكل كبير في غندهارا ومنغوليا، وكانت قد دخلت التبت حديثًا، وكانت تمر بعملية إحياءٍ مستحدَثة بصغديا. ولكنها لم تكن العقيدة الوحيدة في المنطقة، فقد كانت هناك عقائد زرادشتية وهندوسية ومسيحية نسطورية ويهودية ومانوية، وشامانية وتنغرية، إضافةً إلى عقائد أصلية ولكنها غير منظمة. وكانت البوذية الموجودة في آسيا الوسطى أقوى في الصين الهانية ونيبال وشمال الهند؛ حيث عاش معتنقوها بسلام مع الطاويين والكنفشيوسيين والهندوس والجاينيين.

بعد وصول العرب المسلمين إلى وسط آسيا كان الشاهيون الأتراك يحكمون غندهارا وباكتريا، وفي الوقت الذي كان الأتراك الغربيون يحكمون صغديا وأجزاء من شمال تركستان الغربية احتفظ التبتيون بجيلجيت وكاشغار، في حين حكمت الصين التانغية ما تبقى من حوض تاريم، إضافةً إلى منغوليا. وكان أتراك منغوليا الشرقيون معلقين مؤقتًا خلال فترة انتقالية قصيرة لحُكم الصينيين الهانيين.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:54 pm

القسم الأول: الخِلافة الأمويَّة (٦٦١ - ٧٥٠ م)
٢ سغديا وباختريا قبيل الفترة الأمويَّة
بما أنَّ صغديا وباكتريا كانتا منطقتيْن هامّتيْن نشَر العربُ فيهما الإسلام في آسيا الوسطى، فدعونا نلقِ نظرة أقرب على الخلفيَّة الدينيَّة لسكَّانها، فإن ذلك سيساعدنا على فهم تجاوبهم الأوليِّ للعقيدة الإسلاميَّة.

علاقات الزرادشتية بالبوذية
كان معظم سكان صغديا وباكتريا زرادشتيين، في الوقت الذي كان فيه البوذيون والمانويون والمسيحيون النسطوريون واليهود أقليات مهمة. وقد انتشرت البوذية في المنطقة خلال حكم الكوشان منذ نهاية القرن الثاني قبل الميلاد حتى سنة ٢٢٦ م. إلا أنها لم تحل محلَّ الزرادشتية من حيث الشعبية. فقد كانت البوذية أضعف الديانات في صغديا، وهذا أمر طبيعي، نتيجةً لوجودها بعيدًا عن مراكز القوة الكوشانية في كشمير وغندهارا وأوديانا وكابول.

حكَم الساسانيون الفرس (٢٢٦ – ٦٣٧ م) صغديا وباكتريا وكاشغار وأجزاء من غندهارا حتى استيلاء الهون البيض على المنطقة في بداية القرن الخامس، الأمر الذي جعلهم ينسحبون إلى إيران، رغم أن الساسانيين كانوا من سلالة حاكمة وطنية مؤيدة جدًّا للزرادشتية، وكان حكامهم الأكثر تزمتًا يضطهدون بقوة أي مذهبٍ زرادشتي يعتبرونه هرطقةً، إلا أنهم كانوا متسامحين بدرجة كبيرة مع الديانات الأخرى، فقد سمحوا لهم بالمحافظة على دياناتهم، وفرضوا على كل رجل بالغ دفع الجزية.

كان الاستثناء الوحيد لهذه النزعة خلال النصف الثاني من القرن الثالث عندما تسلم كرتير - الكاهن الزرادشتي الأعلى - الرئاسة السياسة الدينية للإمبراطورية، وبحماس شديد وإخلاص أشد للزرادشتية رغب كرتير في إزالة كل صوَر الآلهة في المملكة، وفي جعْل النار المقدسة وحدها مركزًا للتعبد، فأمر بتدمير الكثير من الأديرة البوذية، خصوصًا في باكتريا. وكان ذلك نتيجةً لدمج العديد من العناصر الزرادشتية في تماثيل بوذا ولوحات الحائط التي تُظهره، فكثيرًا ما تُصوَّر تماثيل بوذا – مثلاً - وهي محاطة بهالة من ألسنة اللهب، يُرافقها إدخال زخرفات جدارية، مُشار إليها بـ"بوذا-مازدا". عندها تبين للكاهن الأعلى أن البوذية الباكترية هرطقة زرادشتية. لكن البوذية قد انتعشت مرة أخرى بعد اضطهاد كرتير.

الزورفانية
كانت الزورفانية مذهبًا زرادشتيًّا فضله الأباطرة الساسانيون في أوقاتٍ معينة، وفي أوقاتٍ أخرى رفضه الحكام المتزمتون لكونه هرطقةً يجب استئصالها. وذلك رغم العثور على مواقع زورفانية في الإمبراطورية الساسانية، كان منها بلخ، وهي مسقط رأس زرادشت. وكانت المنطقة الرئيسة التي توجه إليها الزورفانيون هي صغديا، وربما كان ذلك بسبب بُعدها.

كان زورفانيُّو صغديا أكثر المجموعات الزرادشتية عداءً تجاه الديانات الأخرى، وأكثر عدائية من إخوانهم الزورفانيين في باكتريا. ولعل توجههم العنيف كان بسبب وضعية الدفاع التي نبعت من كونهم هدفا للتحامل في إيران، إلى جانب الثقة النفسية التي وفرها تمركز أعدادهم في صغديا. وأدى تحاملهم إلى نزوح الكثير من البوذيين والمانويين والمسيحيين النسطوريين الصغديانيين من موطنهم والاستقرار في الشرق على طول طريق الحرير في الولايات التابعة لحوض التاريم، وعلى وجه الخصوص تورفان، واشتغلوا هناك تجَّارًا. وبما أن توخاريي تورفان كانوا في الأساس مجتمعًا مهاجرًا قادمًا من الغرب، فقد نال اللاجئون السوغدانيون – غالبًا – تعاطف التوخاريين.

حُكم الهون البيض وما تلاه في صغديا
كان الهون البيض الذين استولوا على صغديا من الساسانيين عامةً يدعمون البوذية بشكلٍ ثابت. ولم تقتصر سيطرة الهون على أملاك الساسانيين السابقين في وسط آسيا فحسب، بل سيطروا على أجزاء من شمال الهند وكشمير وخوتان كذلك. وكما أشرنا سابقًا فإن فاشيان قد كتب عن البوذية أنها كانت قوية في صغديا عندما زارها في بداية القرن الخامس. ولكن غالبية الناس هنا - الذين كانوا لا يزالون زورفانيين - لم يعجبهم انتعاش البوذية.

وفي عام ٥١٥ م اضطهد ملك الهون البيض ميهيراكولا البوذية زمنًا قصيرًا، لكنه كان مدمرًا، حتى قيل إن عساكره قد دمَّروا ألفًا وأربعمائة دير. أما الضرر الأسوأ فكان في سهول غندهارا وكشمير وشمال غرب الهند، وهي مراكز القوة. ولكن اضطهاد ميهيراكولا للبوذية لم يصل إلى المناطق البعيدة جدًّا عن إمبراطوريته، مثل سوات، لكنه أثَّر بلا شك على بعضها، فأديرة سمرقند - على سبيل المثال - لم تُدمر، ولكنها أُخليَت تمامًا من الرهبان.

لا شك أن عداوة الزورفانيين المحليين تجاه البوذية قد حالت دون إعادة افتتاح هذه الأديرة الصغديانية. لعل ارتيابهم قد انتشر بقوة أكبر نتيجةً لإعادة التأكيد الصارم من قبل الزرادشتية المتزمتة في إيران واضطهاد المذاهب المهرطِقة، التي مارسها بعد فترة قصيرة الإمبراطور الساساني كسرى الأول (حكم من سنة ٥٣١ إلى ٥٧٨ م). وبالتالي وجد الأتراك الغربيون البوذية ضعيفةً في صغديا عام ٥٦٠ م، وكتب شوانزانغ عام ٦٣٠ م عن الأديرة في سمرقند أنها كانت لا تزال مغلقة، وأن المجتمع "الزرادشتي" المحلي كان معاديًا للبوذية.

كتب شوانزانغ أن في إيران نفسها يوجد ثلاثة أديرة بوذية متبقية في بارثيا السابقة شمال شرق البلاد، ووفقًا لرواية البيروني - وهو المؤرخ المسلم في القرن الحادي عشر - فقد كان هناك في السابق عددٌ كبير من الأديرة تمتد على طول الطريق حتى حدود سوريا، ويبدو أن الساسانيين قد دمروا ما تبقى منها.

باكتريا
وجد شوانزانغ أن البوذية تنتعش في باكتريا، خصوصًا في دير نافا فيهارا في بلخ، رغم أن بلخ كانت أقدس مدينة في العقيدة الزرادشتية، وغالبية سكانها يتبعون تلك العقيدة، بما في ذلك المذهب الزورفاني، إلا أنهم كانوا متسامحين تجاه البوذية. ولعل ذلك يعود إلى أن عدد اللاجئين الزورفانيين من إيران لديهم كان أقل بكثير من عددهم في صغديا، وكانوا أقل تمسُّكًا بديانتهم. ويبدو أنهم خلال وجودهم في المدينة الروحية لدى العالَم الزرادشتي لم يشعروا بالتهديد عند حضورهم لمعهد التعليم الرهباني البوذي. إن هذا الجو الآمن - إضافةً إلى حقيقة أن المعيار الأعلى للتثقيف والبحث في نافا فيهارا قد اكتسب دعمًا وطلابًا للتعلُّم من المجتمعات البوذية عبر آسيا الوسطى - قد ضمِنَا للبوذية بقاءها المستمر وازدهارها، وذلك بصرف النظر عن أي ضرر قد يصيبه خلال اضطهاد ميهيراكولا القصير.

غندهارا
رغم أن العرب الأوائل في آسيا الوسطى كانوا عاجزين عن الوصول إلى غندهارا، دعونا، من أجل الإحاطة بالموضوع، نحلل حالة البوذية هناك. كتب شوانزانغ عن الأديرة الغندهارية أنها كانت تعمل بمستوًى روحي منخفضٍ جدًّا. وكانت منطقة كابول وسهول بنجابي التابعة لغندهارا قد أصابها ضرر كبير من قوات ميهيراكولا. وعاش البوذيون هناك - خصوصًا في غندهارا - في بيئةٍ هندوسية كبيرة كانت تؤكد على أهمية الممارسة التعبدية، والتي قبلَت بوذا إلهًا هندوسيًّا. وعلى الرغم من عدم وجود مراكز تعليم ضخمة، فلا عجب أن الأديرة ركزت على رغبات الحجاج التعبدية، وليس لدراسة البوذية، رغم أنها كانت لا تزال مفتوحة. واختصارًا فإن أديرة غندهارا لم تتعافَ بشكلٍ تامٍّ أبدًا من الدمار الذي ألحقه بها ميهيراكولا.

ملخص
وبعد هذا العرض نستطيع أن نعرف أن الأغلبية الزورفانية والأقلية البوذية في صغديا ما كانت لتقبَل الإسلام في البداية، فقد مرَّ الزورفانيون بتجربةٍ مريرة لكونهم طائفةً صغيرة يزدريها الزرادشتيون المتزمتون الأقوياء في إيران، كما مر بوذيو صغديا بتجربةٍ مماثلة على أيدي الزورفانيين. وبالتالي لم تكن لدى غالبيتهم أية صعوبة في تقبل ما جاءهم مع الحكم العربي، أي التمتع بحالةٍ من الحماية بوصفهم رعايا من الطبقة الثانية، وهم غير المسلمين، ويدفعون الجزية المفروضة عليهم للمحافظة على ديانتهم. وفي باكتريا كان كلٌّ من الزورفانيين والبوذيين أقوياء وواثقين في عقائدهم، ولذلك سيتمسكون بها مهما كان الثمن.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:55 pm

القسم الأول: الخِلافة الأمويَّة (٦٦١ - ٧٥٠ م)
٣ المواجهة الأولى بين المسلمين والبوذيِّين في آسيا
الحضور البوذيُّ السابق للإسلام في شمال إفريقيا وغرب آسيا
إن للهند وغرب آسيا تاريخًا طويلاً في التجارة البرية والبحرية المتبادَلة. فقد بدأت العلاقات التجارية بين الهند وبلاد ما بين النهرين في وقتٍ مبكر يعود إلى ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، وبين الهند ومصر منذ ١٠٠٠ سنة قبل الميلاد، وذلك عبر موانئ اليمن المتوسطة. فنص الـبافيرو جاتاكا - وهو أحد فصول النصوص البوذية الأولى حول الفترات السابقة في حياة بوذا - يشير إلى التجارة البحرية مع بابل.

وفي عام ٢٥٥ ق.م أرسل الإمبراطور الماوري أشوكا (حكم من سنة ٢٧٣ إلى سنة ٢٣٢ ق.م.) رهبانًا بوذيين سُفراءَ يساعدون في بناء علاقات مع ملك سوريا وآسيا الغربية أنطيوخوس الثاني ثيوس، وبطليموس الثاني فيلادلفوس ملك مصر، وماجاس القوريني وأنتيجونوس جوناتاس ملك مقدونيا، والإسكندر ملك كورينث. وبالتالي استقرت مجتمعات التجار الهنود والهندوسيين والبوذين في بعض الموانئ البحرية والنهرية المهمة التابعة للأناضول وشبه الجزيرة العربية ومصر. وما لبث أن تبعهم هنودٌ أصحاب حرَفٍ مختلفة. وقد كتب زينوب غلاك الكاتب السوري عن مجتمعٍ هندي متكامل مع معابده الدينية الخاصة، في أعلى نهر الفرات في تركيا الحالية، وغرب بحيرة فان خلال القرن الثاني قبل الميلاد، إضافةً إلى المغتربين اليونانيين. كما ذكر ديون كريسستوم (٤٠ – ١٢١ م) مجتمعًا مشابهًا في الإسكندرية. وكما أثبتت بقايا الآثار فقد كانت هناك تجمعات سكنية بوذية جنوب بغداد، وأسفل نهر الفرات في الكوفة، وعلى الساحل الإيراني الشرقي في زير راح، وفي مدخل خليج عدن على جزيرة سقطرى.

ومع انحسار الحضارتيْن البابلية والمصرية في منتصف الألفية الأولى بعد الميلاد، ومع تقلص الملاحة البيزنطية في البحر الأحمر في الوقت نفسه، جاءت معظم التجارة بين الهند والغرب عن طريق شبه الجزيرة العربية، واستمرت بعد ذلك برًّا عبر الوسطاء العرب. فأصبحت مكة - مكان ولادة النبي محمد (٥٧٠ – ٦٣٢ م) - مركزًا تجاريًّا مهمًّا، التقى فيه التجار من الشرق والغرب. وقد استقر المزيد من المجتمعات الهندية في المنطقة الثقافية العربية، وكان شعب الجات هو الأبرز بين هذه المجتمعات، وقد استقر كثير من الجات في البحرين وأُلبا، بالقرب من مدينة البصرة الحالية في القسم العلوي من الخليج الفارسي. وقد عالج طبيب جاتي زوجة النبي عائشة في إحدى المرات، وبذلك كان النبي بلا شك على دراية بالثقافة الهندية.

[ شاهد الخريطة الرابعة: التجمعات السكانية الهندية الأولى في غرب آسيا وشمال إفريقيا.]

وهناك دليل إضافي، فقد أشار الباحث حميد عبد القادر في منتصف القرن العشرين، في كتابه "بوذا الأكبر حياته وفلسفته"، إلى أن النبي ذا الكِفل الذي ذُكرَ مرتيْن في القرآن بصفته حليمًا وصالحًا، إنما يُقصَد به بوذا، رغم أن الكثيرين يؤكدون له أن المقصود هو حيزقيال. وحسَب هذه النظرية فإن كلمة "كِفل" هي التصوير العربي لكلمة "كاباليفاستو" مكان ولادة بوذا. ويقترح هذا الباحث أيضًا أن الإشارة القرآنية إلى شجرة التين إنما تعود إلى بوذا الذي حصل على التنوير عند جذع إحداها.

يتحدث "تاريخ الطبري" - الذي ألفه محمد بن جرير الطبري (٨٣٨ – ٩٣٢ م) في القرن العاشر في بغداد، والذي يُعيد صياغة التاريخ المبكر للإسلام - عن حضور مجموعةٍ هندية أخرى في شبه الجزيرة العربية، تُعرف باسم الأحمريين أو "الشعب الملتحف بالأحمر" من السند، وكان أولئك دون شكٍّ رهبانًا بوذيين متشحين باللباس الزعفراني اللون، وكان ثلاثةٌ منهم - كما ذكرت الأخبار - يعلمون العرب الفلسفةَ خلال السنوات الأولى القليلة للإسلام. وبذلك كان بعض الحكام المسلمين على الأقل يعرفون البوذية قبل نشرهم الإسلامَ خارج شبه الجزيرة العربية.

تأسيس الخلافة الأموية
بعد وفاة النبي اختير أبو بكر الصديق (تولى الخلافة من سنة ٦٣٢ إلى ٦٣٤ م) خليفةً للمسلمين، ومن بعده عمر بن الخطاب (تولى الخلافة من سنة ٦٣٤ إلى ٦٤٤ م) خليفة أيضًا. وخلال حُكم عمر فتح العرب سوريا وفلسطين ومصر وجزءًا من شمال إفريقيا، وبدءوا هجومهم على إيران. بعدها عرض مجلسٌ مؤلف من ستة رجال الخلافةَ على علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره، لكن بشروط لم يستطع قبولها. فانتقلت الخلافة إلى عثمان بن عفان (تولى الخلافة من سنة ٦٤٤ إلى ٦٥٦ م)، الذي تابع الإطاحة بالساسانيين في إيران عام ٦٥١ م، وظهرت فرقة المرجِئة داخل الإسلام، التي تقول: إن غير العرب يمكن أن يصبحوا مسلمين إذا أطاعوا الشريعة الإسلامية ظاهريًّا وقبِلوا حُكم الخليفة، والله وحده هو من يعلم سرائرهم وإيمانهم.

ثم اغتالت عثمانَ في نهاية الأمر الطائفة التي ناصرت عليًّا، لتنشأ بذلك حربٌ أهلية راح ضحيتها عليٌّ نفسه في البداية، ومن بعده ابنه الأكبر الحسن، بعد فترة وجيزة من خلافته، وانتصر معاوية بن أبي سفيان - أخ زوج النبي - بعدما قاد مناصري عثمان، وأخيرًا أعلن نفسه الخليفةَ الأول (حكم من سنة ٦٦١ إلى ٦٨٠ م) للسلالة الأموية (٦٦١ – ٧٥٠ م). فنقل العاصمة من مكة إلى دمشق، وقد طالب المنافسون أن تكون الخلافة لابن علي الأصغر وهو الحسين، فحدثت اتصالات بين العرب المسلمين والبوذيين في آسيا الوسطى بعد فترة قصيرة.

[ شاهد الخريطة الخامسة: آسيا الوسطى، أوائل الفترة الأموية.]

هجوم الأمويين على باكتريا
عام ٦٦٣ م أطلق العرب في إيران هجومهم الأول نحو باكتريا، واستولت القوات الغازية من الشاهيين الأتراك على المنطقة المحيطة ببلخ، بما في ذلك دير نافا فيهارا، مما جعل الشاهيين الأتراك ينسحبون جنوبًا إلى حصنهم في وادي كابول، بعدها بفترة وجيزة استطاع العرب بسط سلطتهم في الشمال، ليغيروا بعد ذلك على صغديا من خلال انتزاع بخارى من الأتراك الغربيين.

وقد اعتمدت السياسة العسكرية العربية على قتل كل من يقاوم، ولكنها منحت الأمان لأولئك الذين استسلموا بهدوء، وأخذت منهم الجزية، سواء أكان ذلك بالمال أم بالبضائع، لقد ضمنوا مسألة الجزية عبر عقد معاهدة شرعية مع أية مدينة تستلم بحسب المعاهدة، وتبعًا للشريعة الإسلامية فإنه فور تقديم المعاهدة أو العَقد يُعتبر الأمرُ مُلزِمًا وغير قابل للتبديل، فاكتسب العرب ثقة رعاياهم الجدد، لذا كانت مقاومة احتلالهم أقل.

وتبعا للسياسة العسكرية اتجهت السياسة الدينية لأولئك الذين قبلوا الحُكم العربي حسب المعاهدة، وسُمَح لهم بالاحتفاظ بدياناتهم بعد دفع الجزية. أما أولئك الذين قاوموا فيختارون إما الإسلام وإما السيف. غير أن الكثيرين قبِلوا الإسلام طواعيةً، ورغب الكثيرون في تفادي دفع الجزية، في حين وجد الآخرون ومنهم التجارُ والحرفيون منافع اقتصادية إضافية ستأتي بعد اعتناق الإسلام.

ورغم أن بعض البوذيين في باكتريا - حتى رئيس دير نافا فيهارا نفسه - اعتنق الإسلام، إلا أن البوذيين في المنطقة قبِلوا الدخول تحت حماية المسلمين بوصفهم رعايا غير مسلمين داخل الدولة الإسلامية، ودفعوا الجزية التي فُرضت على غير المسلمين. وقد بقي دير نافا فيهارا مفتوحًا وفعالاً. وقد ذكر الحاج الصيني الهاني يجينغ الذي زار نافا فيهارا مع انقضاء القرن الثامن أن الدير لا يزال مزدهرًا.

وقد كتب المؤلف العربي الأموي عمر بن الأزرق الكرماني بحثًا مفصلاً عن نافا فيهارا في بداية القرن الثامن، وحُفظ هذا البحث في كتابٍ يعود إلى القرن العاشر الميلادي عنوانه "كتاب البُلدان"، ألفه ابنُ الفقيه الهمذاني. وقد وصف فيه الديرَ؛ من حيث تقبل المسلمين لمركزه، وذلك عندما قارنوه بالكعبة في مكة، فأوضحَ أن المعبد الرئيس كان يحتوي على حجرٍ مربع الشكل في الوسط، تحيط به منصة انتصب فوقها نصب ستوبا لحفظ الذخائر المقدسة الموجودة في مركز المعابد التوخارية والباكترية. أما القماش الملفوف به فكان - تبعًا للتقليد الإيراني - لإظهار الوقار، الذي طُبق - بنحوٍ متساوٍ - على كلٍّ من تماثيل بوذا ونصب ستوبا ، وكان الطواف هو الأسلوب البوذي الشائع في العبادة. ورغم ذلك يُشير وصف الكرماني إلى توجه مفتوح ومحترَم مارسه العرب الأمويُّون حتى يفهموا الديانات الأخرى، مثل البوذية التي واجهوها في منطقتهم التي فتحوها حديثًا.

التجربة الأموية السابقة مع غير المسلمين في إيران
تشاور الأمويون حول حالة الحماية وقيمة الجزية المفروضة على الرعايا الزرادشتيين والمسيحيين النسطوريين واليهود والبوذيين في إيران وذلك قبل غزوهم باكتريا. لكن بعض المسئولين العرب كانوا أقل تسامحًا من البعض الآخر. ففي بعض الأحيان كان على الرعايا الذميين ارتداء ملابس أو شارات خاصة تُميزهم، كما أهينوا لاحقًا من خلال تلقي صفعة على الرقبة لدى انحنائهم بإذعان في كل مرةٍ يدفعون فيها الجزية المفروضة عليهم. ورغم أن الرعايا الذميين كانوا يتمتعون بحرية العبادة فقد حرَّم بعض المسئولين المتشددين عليهم بناء أية معابد أو كنائس. ومن جهة أخرى كان أولئك الذين يأتون إلى صلاة الجمعة في الجامع يحصلون أحيانًا على مكافأة مالية، وفي وقت لاحق كان أي فردٍ من أفراد عائلةٍ غير مسلمة يدخل الإسلام يرث كل أملاك العائلة، بالإضافة إلى ذلك فكثيرًا ما اتخذ المسئولون العدائيون الأجانبَ - وخاصة الأتراك – عبيدًا لهم، غير أنهم كانوا يعرضون عليهم الحرية إذا اعتنقوا الإسلام.

وبالطبع فإن الرغبة في تفادي مثل هذه القيود أو الإهانات والحصول على منافع مادية واجتماعية قد جعلت الكثيرين يتركون ديانتهم ويقبلون الديانة الجديدة. وهكذا رفض الكثير من الزرادشتيين في إيران حالة الحماية في نهاية الأمر، واعتنقوا الإسلام. فهل حذا البوذيون في باكتريا وبخارى حذو الزرادشتيين أم لا؟ هذا ليس واضحًا تمامًا، لكنه أمر وارد الحدوث.

كانت مسيرة اعتناق الإسلام أولاً مسألة خارجية في ذلك الوقت، وذلك حسب عقيدة المرجِئة؛ إذ كان على المرء ببساطة أن يُعلن قَبوله الأركان الرئيسة الخاصة بالعقيدة الإسلامية، وتنفيذ المناسك الدينية الأساسية؛ من الصلاة خمس مرات في اليوم، إلى دفع الزكاة لفقراء المسلمين، فصيام شهر رمضان، ثم الحج إلى مكة مرةً واحدة في العمر. وفوق كل ذلك على المرء الخضوع للحُكم الأموي؛ لأن النقطة الأساسية المطلوبة كانت اتجاهًا سياسيًّا، أكثر منه ولاءً روحيًّا. أما أولئك الذين خالفوا الشريعة الإسلامية فحاكمتهم الدولة في دار القضاء الأموية وعاقبتهم، لكنهم بقوا مواطنين مسلمين، يتمتعون رسميًّا بكل الامتيازات المدنية. والله وحده يعرف من كان مخلصًا لمعتقداته الدينية.

طُبِّق مثل هذا التقليد من أجل كسب رعاية قد يكونوا مخلصين وطائعين للحُكم العربي. وقد جذب الأمر أولئك الذين قد يعتنقون الإسلام لمنفعة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، في الوقت الذي يظلون فيه باطنيا على عقيدتهم الخاصة، غير أن أبناء هؤلاء المسلمين الجدد وأحفادهم الذين يكبرون ولهم معرفة ظاهرية بالإسلام يصبحون أكثر إخلاصًا من أهلهم وأجدادهم في تقبل العقيدة الجديدة. وبهذه الطريقة بدأت المجموعة السكانية الإسلامية في آسيا الوسطى تنمو تدريجيًّا بأسلوبٍ غير عنيف.

تقدم الأمويين البطيء إلى جنوب صغديا
لم يكن احتلال الأمويين لما تبقى من صغديا مسألةً سهلة، فقد كانت هناك ثلاث قوى تتنافس كذلك على انتزاع السلطة من الأتراك الغربيين بغية التحكم بطريق الحرير التجاري المُربح الذي يمر عبرها، وكانت تلك القوى هي: التبتيون من كاشغار، والقوات الصينية التانغية المتمركزة فيما تبقى من ولايات حوض تاريم، وآخرهم الأتراك الشرقيون من منغوليا. أصبح النضال الذي نشأ نتيجة لذلك معقدًا جدًّا. ليس من الضرورة تقديم كل التفاصيل، فدعونا نلخص ببساطة أهم الأحداث التي جرت خلال القسم الثاني من القرن السابع، والعقد الأول من القرن الثامن، علَّنا نوفي المنافسة التي واجهها العرب حق قدرها.

[ شاهد الخريطة السادسة: صراعات القوة في آسيا الوسطى، نهاية القرن السابع.]

بدايةً وفي عام ٦٧٠ م استولى التبتيون على ما تبقى من دويلات مدن حوض تاريم من الصين التانغية، بدءًا بخوتان والعديد من المقاطعات شمال كاشغار. فإن القوات التانغية قد انسحبت ممَّا تبقى من حوض تاريم تدريجيًّا أمام التهديد العسكري التبتي حتى تورفان، فملأ التبتيون الفراغ الذي تركوه. وبعد ذلك نجا الجيش التانغي من التبتيين من خلال عبور جبال تيانشان من تورفان إلى بشباليق، والتقدم نحو الغرب، لإقامة قواعد عسكرية في سُياب شمال تركستان الغربية، عام ٦٧٩ م. غير أن ذلك كان استثناءً بالنسبة للاتجاه العام للانحسار في الصين التانغية. وفى عام ٦٨٢ م تمرَّد الأتراك في منغوليا ضد حُكم التانغ، وأسسوا الإمبراطورية التركية الشرقية الثانية، وفي عام ٦٨٤ م حدث انقلاب فأطاح بأسرة التانغ الحاكمة نفسها، ولم تستعد الأسرة الحاكمة ملكها حتى عام ٧٠٥ م، ولم تستقر حتى عام ٧١٣ م.

وخلال هذه المدة بدأت سيطرة العرب على باكتريا في التراجع. وفى عام ٦٨٠ م في بداية حُكم الخليفة يزيد (حكم من سنة ٦٨٠ إلى ٦٨٣ م) قاد الحسين بن علي - وهو ابنه الأصغر - ثورة غير ناجحة ضد الأمويين، حيث قُتل فيها خلال معركة كربلاء في العراق، حوَّل هذا الصراع انتباه الخليفة بعيدًا عن آسيا الوسطى، وبالتالي فقد الأمويون مع نهاية حُكم يزيد السيطرة على معظم دويلات المدن المستقلة في باكتريا، لكنهم حافظوا على حيازة بخارى في صغديا. وخلال السنوات التالية ساهمت ذكرى استشهاد الحسين في بلورة المذهب الشيعي في الإسلام في مواجهة الطائفة السنية التي نشأت من حركة المرجئة التابعة للسلالة الأموية.

كان الإمبراطور التبتي آنذاك مشغولاً بصراع داخلي مع قبيلةٍ منافِسة. ولذلك خسر التبتيون سيطرتهم القوية على ولايات حوض تاريم عام ٦٩٢ م، رغم أنهم استمروا في الحفاظ على تقليدٍ طويلٍ من العلاقات التجارية مع هذه الولايات في معقلهم في تورفان، التي يُشير إليها المؤرخون الصينيون بـ"بعثات دفع الضرائب". وهكذا، ورغم أن الصين التانغية أصبحت الآن القوة الأجنبية المهيمنة على معظم حوض تاريم وما بعد تورفان، كان ذلك أحد أسس التجارة التي ليس لها أي صبغة سياسية أو عسكرية، خصوصًا في الولايات الجنوبية.

وفي عام ٧٠٣ م شكل التبتيون تحالفًا مع الأتراك الشرقيين ضد القوات التانغية في أقصى شرق حوض تاريم، لكنهم فشلوا في طردهم من تورفان، كما أن الأتراك الغربيين وضعوا أنفسهم ضد العساكر التانغيين، ولكن على الجبهة الغربية، فنجحوا في طردهم من سُياب. عندها عيَّن الأتراك الغربيون الأتراكَ الترغيشيين - وهم قبيلة ثانوية - حُكامًا على شمال تركستان الغربية، فقد كان الوطن الترغيشي هو المنطقة المحيطة بسُياب نفسها.

تحالف التبتيون أنفسهم الآن مع الشاهيين الأتراك في غندهارا، وحاولوا عام ٧٠٥ م إجبار القوات الأموية الضعيفة حاليًّا على الخروج من باكتريا. وأثناء ذلك كان العرب قادرين على المحافظة على موقعهم. لكن عام ٧٠٨ م وخلال حُكم الخليفة الوليد الأول (حَكَم من سنة ٧٠٥ إلى ٧١٥ م) طرد الأمير الشاهي التركي نازاكتار خان الأمويين من باكتريا، وأقام حُكمًا بوذيا متعصبًا لعدة سنوات، حتى إنه أمر بقطع رأس رئيس دير نافا فيهارا السابق الذي اعتنق الإسلام.

ورغم خسارتهم باكتريا بقيت بخارى في صغديا تحت سيطرة القوات الأموية، أما الترغيشيون فقد استحوذوا من خلال زحفهم نحو الشمال على ما تبقى من صغديا، وتوسعوا خارجها ليستولوا على كاشغار وكوتشا غرب حوض تاريم. عندها دخل الأتراك الشرقيون - وهم حليفٌ تبتي آخر - صراع القوة إلى صغديا، وهاجموا الترغيشيين من الشمال قادمين من جونغاريا، ليستولوا في النهاية على موطن الترغيشيين في سُياب. ومع تركيز الترغيشيين على جبهتهم الشمالية استغل العساكر الأمويون الفرصة، واستولوا على سمرقند أقصى جنوب امتدادات النطاق الترغيشي متقدمين من بخارى.

ملخص
لم تكن سيطرة العرب الأمويين على باكتريا قوية بالقدر الكافي، وبالتالي كان تقدمهم نحو صغديا بطيئًا للغاية، فقد كانت تنقصهم القوة للهجوم متى شاءوا، فكان عليهم انتظار حدوث أي اضطراب عسكري بين القوى العظمى الأخرى المتنافسة على صغديا من أجل إحراز أي تقدم. فلم يكونوا مشاركين - بكل تأكيد - في حربٍ مقدسة ليحاولوا نشر الإسلام عبر آسيا الوسطى، بل كانوا مجرد واحد من أصحاب النفوذ الكثيرين المناضلين من أجل مكسب سياسي وإقليمي. وقد بنى القائد العربي قتيبة المسجدَ الأول لصغديا في بخارى عام ٧١٢ م، ويشير تاريخ بناء المسجد الثاني في عام ٧٧١ م إلى مدى بُطء انتشار الإسلام.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:56 pm

القسم الأول: الخِلافة الأمويَّة (٦٦١ - ٧٥٠ م)
٤ غزوة المسلمين الأولى على شبه القارة الهندية
وضع الطرق التجارية بين الشرق والغرب
إن طريق الحرير البرية من الصين إلى الغرب مرت من تركستان الشرقية إلى تركستان الغربية، ممتدةً عبر صغديا وإيران، وصولاً إلى بيزنطة وأوربا. في حين مرت الطريق البديلة من تركستان الغربية عبر باكتريا إلى أجزاء من غندهارا التابعة لكابول وبنجاب، وبعدها عن طريق الشحن البحري أسفل نهر السند إلى السند، ممتدةً عبر بحر العرب والبحر الأحمر، ومن غندهارا استمرت التجارة الصينية والآسيوية الوسطى حتى شمال الهند.

[ شاهد الخريطة السابعة: طريق الحرير.]

زَيَّنت الأديرة البوذية طريق الحرير من الصين إلى موانئ السند؛ حيث وفرت أماكن للراحة، وقروضًا كبيرة للتجار. بالإضافة إلى ذلك فإنها أوَت الحِرَفيين البوذيين الذين يلجئون إلى المبيت، والذين كانوا يقصون الأحجار شبه الكريمة التي كانوا يحضرونها معهم من الصين، وقد ساهم هؤلاء التجار والحِرَفيون البوذيون في توفير الدعم المادي الرئيس للأديرة. وهكذا كانت التجارة أمرًا جوهريًّا لرفاهية المجتمع البوذي.

وقبل فتح العرب لإيران فرض الساسنيون – وهم حكامُ إيران - ضرائب باهظة على أية عملية لنقل البضائع برًّا تمر عبر منطقتهم، وعليه فقد فضَّلت بيزنطة التجارة من خلال الطريق البحري الأقل تكلفة، الذي يمر بالسند حتى أثيوبيا، ثم نقلها برًّا. لكن في عام ٥٥١ م نشأت ظاهرة تربية دودة الحرير في بيزنطة، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجع الطلب على الحرير الصيني. وقد منعت الحملات العسكرية العربية التبادل التجاري في القرن السابع بشكلٍ أكبر، حتى أُمِّنت الطريق التجارية البرية التي تمر عبر إيران. ومع بزوغ فجر القرن الثامن كتب الحاج الصيني الهاني يجينغ عن التبادل التجاري من الصين إلى السند أنه قد تقلص بصورة كبيرة في آسيا الوسطى؛ نتيجةً للحرب المتواصلة بين الأمويين والصينيين التانغيين، والتبتيين والأتراك الشرقيين، والشاهيين الأتراك والترغيشيين. وبالتالي لجأ الحجاج الصينيون في البداية إلى السفر بحرًا عبر مضيق ملقة وسريلانكا، وكذلك فعلت البضائع الصينية. وهكذا كانت المجتمعات البوذية في السند تعيش أوقاتًا صعبة بعد الغزو الأموي.

غزو السند
وخلال السنوات الأولى لخِلافة الأمويين حاولوا غزو شبه القارة الهندية مرات عدة، وكان أحد أهدافهم الرئيسة بلا شك هو فرض السيطرة على فرع الطريق التجاري الذي كان يمر أسفل وادي نهر السند إلى موانئ السند البحرية. وبما أنهم لم ينجحوا أبدًا في انتزاع غندهارا من أيدي الشاهيين الأتراك، فلم يكونوا يستطيعون أبدًا المرور عبر منطقتهم لدخول شبه القارة من خلال ممر خيبر. فكان البديل الوحيد هو ترك غندهارا والاستيلاء على السند حتى جنوبها، والهجوم على غندهارا من جبهتيْن.

[ شاهد الخريطة الثامنة: الحملات الأموية ضد السند وباكتريا.]

وقد فشلت أول محاولتيْن للاستيلاء على السند، ولكن في عام ٧١١ م - في الوقت نفسه الذي استولوا فيه على سمرقند تقريبًا - استطاع العرب في النهاية تحقيق هدفهم. وكان الحَجاج بن يوسف الثقفي في ذلك الوقت حاكمًا على أقصى شمال ولايات الإمبراطورية الأموية، التي اشتملت على ما يُعرف اليوم بشرق إيران وبلوشستان (مكران) وجنوب أفغانستان، وقد قرر الحجاجُ إرسال ابن أخيه وصهره القائد محمد بن القاسم مع عشرين ألف جندي، لغزوٍ السند غزوًا مزدوجًا برًّا وبحرًا. وكان الهدف الأوليُّ هو مدينة ديبل الساحلية القريبة من كراتشي الحالية.

وكان شعب السند آنذاك خليطًا سكانيًّا من الهندوس والبوذيين والجاينيين. فقد ذكر شوانزانغ أن هناك أكثر من أربعمئة ديرٍ بوذي، وستة وعشرين ألفَ راهب. وقد شكل البوذيون غالبية الطبقة المدنية التجارية والحِرَفية، في حين كان الهندوس غالبًا مزارعين ريفيين. وكانت المنطقة تحت حُكم تشاتش، وهو كاهن هندوسي ذو أصل ريفي، كان قد اغتصب سلطة الحكومة، وكان يدعم الزراعة، ولم يكن مهتمًّا بحماية التجارة.

وكان لدى الهندوس طبقة من المحاربين التي حاربت القوة الأموية الهائلة إلى جانب زعمائها السياسيين والدينيين. ومن جهة أخرى كان البوذيون - الذين لم يكن لديهم أي فكر حربي أو طبقة عسكرية، وغير الراضين عن سياسات تشاتش - على استعداد لتفادي الدمار والاستسلام بهدوء. وانتصر جنود القائد ابن القاسم، وذبحوا - حسبما ذُكر - عددًا ضخمًا من السكان المحليين، ليوقعوا بذلك ضررًا بالغًا على المدينة؛ عقابًا لمقاومتهم الصلبة. ويصعب معرفة مدى مبالغة ذلك الخبر. وفي النهاية رغب العرب في المحافظة على سِندٍ حيوية اقتصاديًّا؛ من أجل تعزيز التجارة التي مرت عبرها، والاستفادة منها. ورغم ذلك هدم الأمويون المعبد الهندوسي، وأقاموا مسجدًا مكانه.

وبعد ذلك انطلقت القوات الأموية تجاه نيرون (حيدر أباد الباكستانية حاليًّا)، وقد استسلم حاكم المدينة البوذي طواعيةً. ولكن بنى المسلمون المنتصرون مسجدًا هناك أيضًا مكان الدير البوذي الرئيس، ولم يمسوا باقي القرية. وهذا مثال آخر.

تعاون كل من البوذيين والهندوس مع العرب، رغم أن مشاركة البوذيين كانت أكبر من تلك التي قدَّمها الهندوس. وهكذا استسلم ثلثا قرى السند بسلام لغزاتهم، وكتبوا معهم اتفاقيات ومعاهدات، فأما أولئك الذين قاوموا فقد هاجمهم الأمويون وعاقبوهم، وأما الذين استسلموا أو تعاونوا فقد أعطوهم الأمان وحرية العبادة.

احتلال السند
وقد اتبع القائد ابن القاسم سياسة التسامح بموافقةٍ من الحَجاج الحاكم؛ حيث مُنح البوذيون والهندوس منزلة الرعايا المحميين (ذميون) طالما أنهم حافظون على ولائهم للخليفة الأموي، ويدفعون الجزية، وسُمح لهم بالبقاء على عقيدتهم، والمحافظة على أرضهم وممتلكاتهم. لكنَّ كثيرًا من التجار والحِرَفيين البوذيين قد اعتنق الإسلام طواعيةً، ومع ارتفاع المنافَسة بين الأحياء المسلمة، رأى الكثير من هؤلاء التجار والحرفيين فائدة اقتصادية في تغيير دياناتهم ودفع ضريبة أقل. وبالإضافة إلى الجزية كان على التجار الذميين دفع ضريبةٍ مزدوجة عن كل البضائع.

من جهة أخرى، ورغم أن القائد كان مهتمًّا في توسيع دائرة الإسلام، فإن ذلك لم يكن همه الرئيس، فهو بالتأكيد قد فرح بنشر الإسلام ودخول الناس فيه، لكن انشغاله الأولي كان المحافظة على السلطة السياسية، وقد أراد تجميع ما أمكنه من الثروة لرد المال إلى الحَجاج، ليعوِّض التكلفة الباهظة التي استنفذتها حملته، وكل حالات الفشل العسكرية السابقة.

وقد حقق القائد العربي هدفه بضريبة الحج التي فرضها على البوذيين والهندوس مقابل زيارة أضرحتهم المقدسة الخاصة، بالإضافة إلى الجزية والأرض وضرائب التجارة، ولعل ذلك يشير إلى أن رهبان السند البوذيين - مثل أقرانهم في غندهارا شمالاً - كان يتبعون كذلك التقليد الفاسد آنذاك في فرض ضريبة على الحُجاج للسماح لهم بدخول معابدهم، كما يشير ذلك إلى أن الأمويين قد استولوا على المدخول لا غير. وهكذا فإن المسلمين لم يدمروا أية معابد بوذية أو هندوسية أخرى في السند بشكل عام، وكذلك الصوَر والآثار المقدسة المحفوظة داخلها،؛ لأنها جذبت الحُجاج وجلبت الربح.

البعثة إلى سوراشترا
كان فالابي – أضخم مركز للنشاط البوذي في غرب الهند آنذاك – مُقامًا على ساحل شرق سوراشترا في غوجارات الحالية، وقد خضعت المنطقة لحُكم سلالة الميتراكا (٤٨٠ – ٧١٠ م) التي انفصلت عن الإمبراطورية الغوبتية الأولى خلال سنواتها الأخيرة من الانحسار قبل أن يحتلها الهون البيض. وبحسب رواية شوانزانغ فقد كان هناك ما يزيد عن مئة دير في المنطقة وستة آلاف راهب.

كان دير مجمع دودا فيهارا أضخم هذه المعاهد، وهو عبارة عن جامعة رهبانية رحبة، تلقَّى فيها الرهبان ثقافةً واسعة لم تشتمل على العلوم الدينية البوذية فحسب، بل اشتملت كذلك على علوم الطب والعلوم الدنيوية. وقد توجه الكثيرون من خريجيها إلى الخدمة الحكومية في ظل حُكم أسرة الميتراكا؛ حيث منح ملوكُها كل دير عدة قرى لدعمهم. وعندما زار الحاج الصيني الهاني يجينغ مركز فالابي في السنوات الأخيرة لحُكم ميتراكا أكد تفوق هذه الجامعة وعظمتها.

وفي عام ٧١٠ م، أي قبل سنة واحدة من غزو الأمويين للسند، تفككت مملكة ميتراكا مع استيلاء أسرة الراشتراكوتا (٧١٠ – ٧٧٥ م) على السلطة في معظم المملكة. وقد تابع الحُكام الجدد سلفهم في رعاية الأديرة البوذية؛ ولذلك لم تتأثر برامج التدريب في دير دودا فيهارا.

وبعد فترة وجيزة أرسل القائد ابن القاسم بعثات إلى سوراشترا، حيث عقدت قواته معاهدات سلمية مع حُكام راشتراكوتا، ومرت تجارة الهند الوسطى إلى بيزنطة وأوربا عبر موانئ سوراشترا، وقد رغب العرب في فرض ضريبة على التجارة أيضًا، خاصة إذا حاول الهنود تحويل التجارة هناك من غندهارا لتجنب الموانئ السندية.

لم يوقِع الجنود المسلمون أي ضرر بالمعاهد البوذية في فالابي في ذلك الوقت، بل تابعت تلك المعاهد ازدهارها واحتواءها للرهبان اللاجئين الذين رُحِّلوا من السند. وفي السنوات التالية أُضيفَ العديد من الأديرة في فالابي لاستيعاب التدفق الكبير للرهبان.

تقييم الحملة السندية
يبدو أن تدمير الأمويين للأديرة البوذية في السند كان حدثًا نادرًا وأوليًّا أثناء احتلالهم، فقد أمر القادة الفاتحون بذلك لمعاقبة المعارضة أو قمعها، لم تكن تلك هي القاعدة. وعندما استسلمت مناطق مثل سوراشترا بسلام لم يمسَّ الأمويون الأديرة بسوء، ولو كان في نية العرب المسلمين القضاء على البوذية لما تركوا فالابي في ذلك الوقت. وهكذا يمكننا أن نستنتج أن أعمال العنف التي مورسَت ضد الأديرة البوذية كانت بشكلٍ عام سياسيًّة، وليست ذات دوافع دينية. وبالتأكيد قد يكون للمشاركات الفردية في الأحداث دوافعها الشخصية الخاصة.

وبعد قضاء ثلاث سنواتٍ في السند عاد القائد ابن القاسم إلى بلاط الحَجاج، تاركًا لأتباعه مُهمة تطبيق سياسته النفعية في استغلال العواطف الدينية البوذية والهندوسية لتعزيز الربح. ولكن بعد فترةٍ قصيرةٍ جدًّا من مغادرته استعاد الحُكام الهندوس المحليون السيطرة على معظم مناطقهم، تاركين العربَ في بضعة مدنٍ سِندية فقط.

استرداد العرب لباكتريا
وفي عام ٧١٥ م أرسل الحاكم الحَجاج - مدفوعًا بنجاح ابن أخيه في السند - القائد قتيبة لاسترداد باكتريا من خلال الهجوم من شمال شرق إيران، وقد نجح القائد، وتقدم فأحدث ضررًا جسيمًا في دير نافا فيهارا، عقابًا على التمرد السابق. وقد هرب كثيرٌ من الرهبان شرقًا إلى كشمير وخوتان، وبنى الملك الكاركوتي لاليتاديتيا (حكم من سنة ٧٠١ إلى ٧٣٨ م) العديد من الأديرة الجديدة في كشمير، بتشجيعٍ من وزيره البوذي الباكتري؛ لاستيعاب تدفق اللاجئين المتعلمين. وقد ساهم ذلك في رفع مستوى البوذية الكشميرية بشكلٍ كبير.

أعيد ترميم دير نافا فيهارا سريعًا، وسرعان ما عاد إلى عمله سابقًا، وهو الأمر الذي يشير إلى أن الضرر الذي ألحقه المسلمون بالأديرة البوذية في باكتريا لم يكن بدافعٍ ديني، ولو كان كذلك لَما سمحوا بإعادة بناء مثل هذا المعهد.

وبعد الانتصار الأموي في باكتريا على الشاهيين الأتراك وحلفائهم التبتيين، غيَّر التبتيون موقفهم، وتحالفوا الآن - لمنفعةٍ سياسية - مع العرب. وبما أنهم فشلوا في حلفهم لاستعادة مدن الواحات التابعة لتركستان الشرقية، التي خسروها قبل اثنين وعشرين عامًا، فلا شك أن التبتيين بتحالفهم مع الأمويين طمعوا في احتلال طريق الحرير ومشاركتهم السلطة حينها، ويبدو أن الفوارق الدينية قد ذابت عندما وصل الأمر إلى توسيع السلطة وزيادة خزائن الولاية.

وقد انتزع القائد قتيبة بعدها فرغانة من أيدي الترغيشيين بمساعدة التبتيين، ولكنه قُتل في المعركة أثناء تجهيزه إطلاق حملة فتوحات إضافية على كاشغار التي كانت في أيدي الترغيشيين أيضًا. ولم يجد العرب أية فرصة أخرى للتقدم إلى تركستان الشرقية.

المحاولات الأولى لنشر الإسلام
رغم الميل العام إلى التسامح الديني من قبَل الخلفاء الأمويين السابقين فإن عمر الثاني (حكم من سنة ٧١٧ إلى ٧٢٠ م) قد انتهج سياسة نشر الإسلام من خلال إرسال معلمين روحيين إلى البلاد البعيدة، لكن موقفه كان ضعيفًا، ولم يستطع فرض سياسته بشكلٍ صارم. فعلى سبيل المثال افترض الخليفة أن الزعماء المحليين يستطيعون حُكم السند إذا اعتنقوا الإسلام فقط. ولكن منذ أن فقد الأمويون سلطتهم السياسية المؤثرة في السند آنذاك تُرِك هذا الرأي غالبًا، ولم يفرض عمر رأيه بالقوة. وقد عاش المسلمون الجدد بانسجام مع البوذيين والهندوس والسنديين، وهو أمر استمر حتى بعد انحسار الحُكم الأموي. وقد أشارت نقوش أسرة بالا الحاكمة (٧٥٠ – أواخر القرن الثاني عشر الميلادي) في شمال الهند خلال القرون اللاحقة إلى وجود الرهبان البوذيين في السند.

وافترض عمر الثاني كذلك أن كل حلفاء الأمويين سيتبعون الإسلام، وهكذا أرسل البلاط الملكي التبتي موفَدًا يطلب معلِّمًا يأتي إلى بلاده داعيا إلى الإسلام. فأرسل الخليفةُ سليطَ بن عبد الله الحنفي. وهذا المعلم لم يحظَ بأي نجاحٍ مسجل في اكتساب أتباع جدد للإسلام في التبت، مما يؤكد حقيقة أن الأمويين لم يكونوا مصرِّين في محاولتهم لنشر دينهم. وفي الحقيقة كانت القبلية العربية أهم بكثير بالنسبة للأمويين من تأسيس مجتمع إسلامي متعدد الثقافات، فحيثما كانت الفتوحات في آسيا الوسطى نجدهم قد رسخوا دينهم وثقافتهم بدايةً لأنفسهم.

كانت هناك أسبابٌ أخرى كذلك بالنسبة لعدم تقبل التبتيين للمعلِّم المسلِّم. غير أن تلك الأسباب تكاد تتعلق بالعقيدة الإسلامية نفسها. فدعونا ننظر بشكلٍ أعمق إلى الخلفية السياسية لهذه المواجهة الأولى بين الإسلام والبوذية في التبت.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:56 pm

القسم الأول: الخِلافة الأمويَّة (٦٦١ - ٧٥٠ م)
٥ التبت بعد وصول أول معلِّم مسلم
عندما وصل سليط بن عبد الله الحنفي إلى التبت كان هناك دينيان أساسيان يرعاهما البلاط الملكي: الديانة المدعوة "بون"، والبوذية. حيث كانت الأولى هي العقيدة الأصلية للتبت، في حين كانت الأخيرة قد أدخلها إمبراطور التبت الأول: سونغتسين-غامبو (حكم من سنة ٦١٧ إلى ٦٤٩ م). وبحسب المصادر التبتية التقليدية كان هناك تنافس كبير بين الديانتيْن، لكن البحث العصري يطرح وضعًا أكثر تعقيدًا.

ديانة البون المنظمة والتقليد التبتي الأصلي
لم تصبح البون ديانةً منظمة إلا مع انقضاء القرن الحادي عشر، حيث كانت تشترك في ذلك الوقت مع البوذية في كثير من الملامح. وقبل ذلك في البداية كانت الديانة السابقة للبوذية في التبت - الذي سُميت خطأً "بون" - تضمن طقوسًا بشكل أساسي لدعم الطائفة الملكية؛ مثل: تجهيز الأضحيات للجنازات الملكية، وتوقيع المعاهدات، وكذلك أنظمة من العِرافة والتنجيم، وطقوس الشفاء لاسترضاء الأرواح المؤذية، وطب الأعشاب.

في الأدبيات التاريخية خرجت ديانة البون من شينراب؛ حيث إن معلمًا من بلاد أولمو لونغرينغ الأسطورية القائمة على الطرف الشرقي من تاغزيغ، جاء بها إلى شانغ شُنغ منذ زمن بعيد، وكانت شانغ-شُنغ مملكة غابرة، وعاصمتها التبت الغربية بالقرب من جبل كيلاش المقدس. ويربط بعض الباحثين الروس المعاصرين أولمو-لونغرينغ مع عيلام في إيران الغربية القديمة، اعتمادًا على تحليل اللغات، ويربطون بين تاغزيغ وطاجيك، في إشارةٍ إلى باكتريا. إذا قبلوا تأكيد البون على أن جوانبها الشبيهة بالبوذية تسبق سونغتسين-غامبو، فإن هؤلاء الباحثين يفترضون بأن الدافع الأصلي للنظام إنما جاء به المعلم البوذي من باكتريا أثناء زيارته لشانغ-شُنغ، ربما عبر خوتان أو جيلجيت وكشمير، في وقت ما خلال بداية الألفية الأولى بعد الميلاد. وتتمتع شانغ شُنغ تاريخيًّا بعلاقات اقتصادية وثقافية وطيدة مع كل من تلك المنطقتيْن المجاورتيْن، ومن خلال اتفاقهم مع رواية البون يوضح الباحثون أن هذا المعلم الذي زار شانغ شُنغ في إحدى المرات قد دمج الكثير من الملامح الشبيهة بالبوذية مع الممارسات الطقسية الأصلية.

ويرى باحثون آخرون أنه قد أُقحِمت رواية البون لمصدرها الذي يتعلق باندماج العديد من العوامل في القرن الرابع عشر. إن نشر أولمو-لونغرينغ ديانة البون في شرقها الذي يوازي إحضار البوذية إلى منغوليا وتاغزيغ - التي تعني حرفيًّا "بلاد النمور والفهود" - سيكون مؤلفًا من بلاد المنغول القوية، إضافة إلى الخوتانيين في وقتٍ سابق.

لكن "تاغزيغ" (التي تُلفَظ "تازي" أو "تازيغ") كانت الترجمة الصوتية للمصطلح السنسكريتي "تاي"، وهو اسمٌ يُستخدم للغزاة غير الهنود الوارد ذكرهم في أدبيات الكلاتشاكرا. في حين أن المصطلح السنسكريتي "تاي"، هو عبارة عن نسخ صوتي للمصطلح العربي والآرامي طيِّئ (جمعه: طيايا، طيايي) أو صيغته الفارسية الحديثة "تازي". كانت الطيايا أقوى القبائل العربية السابقة للإسلام، حيث استُخدم الاسم بالسريانية والعبرية "طائيون"، وفي النهاية استخدم "طيايا" اسمًا عامًّا يُشار به إلى عرب القرن الأول الميلادي. أما الصيغة الفارسية الحديثة "تازي" فكانت المصطلح الذي استُخدمه الحاكم الساساني الأخير يزدجيرد الثالث (حكم من سنة ٦٣٢ إلى ٦٥١ م) للإشارة إلى غزاة إيران العرب، وهو الحاكم الذي عاصر الإمبراطور سونغتسين-غامبو.

يمكن المحاججة أن شانغ-شُنغ مشتقة من الصيغة "تاغزيغ" من الاسم "تازيغ" في اللغة الفارسية الوسطى، التي استُخدَمت في المرحلة المبكر من الإمبراطورية الساسانية (٢٢٦ – ٦٥٠ م)، والتي لم تمتد إلى إيران فحسب، بل إلى باكتريا كذلك. وفي النهاية كان الساسانيون زرادشتيين متزمتين، وكانت بلخ في باكتريا هي مكان ولادة زرادشت. بالإضافة إلى ذلك تسامح الساسانيين مع البوذية في باكتريا التي كانت مؤسسة جيدًا لعدة قرون. وبما أن للبون الأولى ملامح كثيرة شبيهة بالثنائية الزرادشتية والبوذية فإن تأكيدها على أن جوانبها الشبيهة بالبوذية تسبق الإمبراطور سونغتسين-غامبو ومشتقة من تاغزيغ يبدو معقولاً.

لكن يبدو غريبًا أن شانغ-شُنغ السابقة لسونغتسين-غامبو قد تكون اعتمَدت الكلمة التي استخدمها الساسانيون للإشارة إلى العرب بالنسبة للمناطق التي حكمها الساسانيون. فاحتمال أن تكون شانغ-شُنغ استخدمت الاسم "تاغزيغ" للإشارة إلى العرب أنفسهم احتمال مستبعد. وفي النهاية لم يستولِ الأمويون العرب على إيران من الساسانيين حتى عام ٦٥١ م، ولا على باكتريا حتى عام ٦٦٣ م، أما بخارى في صغديا فقد فُتِحت بعد بضع سنوات. وهكذا إذا كان الاسم "تاغزيغ" قد استُخدم في شانغ-شُنغ السابقة لسونغتسين-غامبو، واستُعِير لاحقًا في التبت، فيمكن أن يكون قد استُخدم فقط للإشارة إلى المناطق الحضارية الإيرانية التي حكمها العرب لاحقًا، أو التي حارب فيها التبتيون العربَ في وقتٍ لاحق. وذلك ليس مُحتملاً.

ومن المرجح أنه في أوائل القرن الثامن، عندما كان للتبتيين اتصالات فعلية مع العرب في باكتريا، أن يكونوا قد تعرفوا على الاسم "تاغزيغ" منهم، وأن تكون طائفة البون في البلاط التبتي قد استعارت الاسم وطبقته بأثر رجعي على منطقة الباكتريايين التي نشأت منها ديانتهم. ومثل هذه النظرية لا تنفي التأكيد على أن ديانة البون نشأت من مصادر باكترياية.

[انظر: نبذة تاريخية عن البوذية والإسلام في أفغانستان.]

بالإضافة إلى ذلك، لو كانت نظرية منشأ الاسم "تاغزيغ" صحيحة لكان اعتماد هذا المصطلح في التبت قد سبق استخدامه لترجمة المصطلح السنسكريتي "تاي" في أدبيات الكلاتشاكرا السنسكريتية. والترجمات الأولى لأدبيات الكلاتشاكرا من السنسكريتية إلى التبتية لم توجد إلا في منتصف القرن الحادي عشر؛ في حين أن الترجمات التبتية الأولى في إطار الأدبيات التي احتوت على المصطلح "تاغزيغ" لم تُقدم إلى التبت إلا مع حلول عام ١٠٦٤ م.

[ شاهد الخريطة التاسعة: التبت في عهدها المبكر.]

علاقة سونغتسين-غامبو بشانغ-شُنغ
كان سونغتسين-غامبو الحاكم الثاني والثلاثين ليارلونغ ، وهي مملكة صغيرة في التبت الوسطى. وأثناء توسيعه لمنطقته، وتأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف، امتدت من حدود باكتريا حتى حدود الصين الهانية، ومن نيبال حتى حدود تركستان الشرقية، احتل الحاكم شانغ-شُنغ، وحسب مصادرها التاريخية كانت شانغ-شُنغ تمتد عبر هضبة التبت كلها، ولكن عند هزيمتها لم تضم إلا التبت الغربية فقط.

دعونا نترك جانبًا مسائل توسعات حدود شانغ-شُنغ الإضافية وحضور الملامح الشبيهة بالبوذية في شانغ-شُنغ في ذروة إمبراطوريتها، ومناشئها المحتملة. مع ذلك، يمكننا الافتراض، إلى حد معقول، من خلال الدلائل التي وُجدَت في قبور ملوك يارلونغ السابقين لسونغتسين-غامبو أن نظام شانغ-شُنغ في طقوس البلاط، على الأقل، كان شائعًا في منطقة الإمبراطور الداخلية، وفي البلاد التي احتلها كذلك في التبت الغربية. وعلى عكس البوذية لم تكن طقوس شانغ-شُنغ نظامًا أجنبيًّا في الممارسة والعقيدة، بل جزءًا لا يتجزأ من الموروث التبتي الشامل.

وقد تزوج سونغتسين-غامبو أميراتٍ عدة من شانغ-شُنغ بدايةً، وبعدها من الصين التانغية، ومن نيبال، في فترةٍ لاحقةٍ من حكمه؛ لترسيخ تحالفاته السياسية وموقف السلطة الخاص به. وبعد زواجه من أميرة شانغ-شُنغ اغتال والدها ليغ- نييهيا، آخر ملوك شانغ-شُنغ. وأتاح له ذلك تحويل تركيز الدعم الطقسي الأصلي الخاص بالطائفة الملكية إليه نفسه، وإلى دولته المتنامية بشكلٍ سريع.

تقديم البوذية
قدم سونغتسين-غامبو البوذية إلى التبت بتأثيرٍ من زوجاته الصينيات الهانيات والنيباليات، ولكنها لم تترسخ أو تنتشر لدى عامة الناس في وقته. ويشكك بعض الباحثين المعاصرين في صحة وجود الزوجات النيباليات، لكن الدليل المعماري من تلك الفترة يشير إلى نسبة معينة، على الأقل، من التأثير الثقافي النيبالي في حينه.

كان الظهور الرئيس للعقيدة الأجنبية عبارة عن مجموعة مؤلفة من ثلاثة عشر معبدًا بوذيًّا كان الإمبراطور قد بناها في مناطق هندسية مُختارة بشكلٍ خاص في أنحاء مملكته، بما في ذلك بوتان. فمع تصوير التبت بأنها شيطانة تستلقي على ظهرها اختيرت الأماكن بعناية، وذلك حسب قواعد وخز الإبر الصينية المطَبقة على جسم الشيطانة. وبذلك رغب سونغتسين-غامبو أن يخمِدَ أي معارضة لحُكمه من السكان المحليين الحاقدين عليه.

ومن بين المعابد البوذية الثلاثة عشر بُنِي المعبد الأكبر على بُعد ثمانين ميلاً من العاصمة الملكية، في مكانٍ باتَ يُعرَف لاحقًا بــ ("لاسا"، مكان الآلهة). وكان يُدعى في ذلك الوقت ("راسا"، مكان الماعز). ويخمن الباحثون الغربيون أن الإمبراطور قد أُقنِع بعدم بناء المعبد في العاصمة؛ وذلك كي لا يُسيء إلى الآلهة التقليدية. ولا يتضح لنا من كان يسكن هذه المعابد البوذية، ولكن من المحتمل أنهم كانوا من الرهبان الأجانب. ولم تحدث السيامة الرهبانية الأولى إلا بعد نحو قرنٍ ونصف.

رغم أن التواريخ الرهبانية تصور الإمبراطور مثلاً أعلى للعقيدة البوذية، ورغم أن الطقوس البوذية كانت بلا شك تُمارَس لصالحه، إلا أنها لم تكن الصيغة الوحيدة للاحتفال الديني الذي يرعاه البلاط الملكي. فقد حافظ سونغتسين-غامبو على كهنة بلاطه من التقليد الأصلي وعلى طبقتهم النبيلة الداعمة، وأمرَ ببناء تماثيل للآلهة الأصلية؛ لتوضع إلى جانب التماثيل البوذية في المعبد الرئيس في راسا. ومثل سابقيه فقد دُفنَ هو وجميع من خَلفه في يارلونغ، وذلك حسب الشعائر التبتية القديمة السابقة للبوذية. ومثل جنكيز خان بعد نحو ستة قرون لم يرحب الإمبراطور التبتي بتقاليده الأصلية فحسب، بل بالديانة الجديدة كذلك، أي البوذية، التي يمكنها أن توفر طقوسًا لتعزيز نفوذه، والانتفاع من إمبراطوريته.

ملاءمة النص الخوتاني المكتوب
هناك دليلٌ إضافي على اعتماد سونغتسين-غامبو سياسةَ استخدام ابتكارٍ أجنبي لتعزيز نفوذه السياسي، وهو جعل اللغة التبتية لغة الكتابة. وباستغلاله تاريخ شانغ-شُنغ الطويل من العلاقات الثقافية والاقتصادية مع خوتان وجيلجيت وكشمير، أرسل الإمبراطور بعثة ثقافية يقودها تونمي سامبوتا إلى المنطقة، والتقت البعثة في كشمير مع المعلم الخوتاني لي تشين (لي هي الكلمة التبتية التي تعني خوتان، وتشير بوضوح إلى دولة المنشأ الخاصة بالمعلم). وقد ابتكرت البعثة بمساعدته أبجديةً لكتابة اللغة التبتية اعتمادًا على الملاءمة الخوتانية للنص الغوبتي العمودي الهندي. وتخلِط المصادر التاريخية التبتية مكان كتابة النص الجديد مع مكان أصل النمط الخاص به، لتوضح بذلك أن التبتية المكتوبة ترتكز على الأبجدية الكشميرية.

واكتشف الباحثون التبتيون المعاصرون وجود نص مكتوب لشانغ-شُنغ، قبل هذه التطور، وأن هذا النص كان أساس الأحرف التبتية المتصلة، لكن نمط نص شانغ-شُنغ سيصبح هو نفسه الأبجدية الخوتانية أيضًا.

وهناك زعم بأن سونغتسين-غامبو استخدم النص الجديد لترجمةٍ أمرَ بها للنص البوذي السنسكرتي الذي وصل يارلونغ هديةً من الهند قبل قرنين. غير أن نشاط الترجمة الأساسي آنذاك كان خاصًّا بالتنجيم الصيني وبالنصوص الطبية الصينية والهندية، وكان ذلك على نطاقٍ محدودٍ جدًّا. فقد وظَّف الإمبراطور نظام الكتابة في البداية لإرسال رسائل عسكرية سرية إلى القادة في الميدان، وكان ذلك تبعًا للتقليد الشانغ-شُنغي في استخدام رسائل مكتوبة مشفرة لمثل هذه الأهداف.

ما يُدعى بالطائفة المعارضة للـ"بون"
كانت هناك طائفةٌ واحدة في البلاط الملكي التبتي تعارض دعم سونغتسين-غامبو ورعايته للبوذية، ولا شك بأنهم كان وراء قراره بعدم بناء المعبد البوذي الرئيس في العاصمة الملكية، أو حتى في وادي يارلونغ. وتطلق عليهم التواريخ التبتية اللاحقة اسم: معارضي ديانة الـ"بون". لما يزيد عن قرن، بما في ذلك الوقت الذي حدثت فيه زيارة سليط بن عبد الله الحنفي، شكَّلت تلك الطائفة معارضةً قوية للسياسة الملكية. وفي هذا السياق يجب أن يفهم فشل العالم المسلم. ولكن مَن كان أولئك التابعون للـ"بون" الذين عارضوا البوذية، وبلا شك كانوا المسئولين لاحقًا عن الاستقبال البارد للإسلام؟ وما كانت أسباب عدائيتهم؟

وكما ذكر الباحثون التبتيون فإن كلمة بون تعني تعويذة تُستخدم للسيطرة على القوى الروحية، وتشير إلى نظامٍ مؤلف من اثني عشر جزءًا، تشمل: التبصير والتنجيم وطقوس الشفاء وطب الأعشاب.

وقبل أواخر القرن الحادي عشر لم تكن البون ديانةً منظمة. ويذكر الباحثون أن كلمة بون التبتية لم تكن قد استُخدمَت حتى، آنذاك، للإشارة إلى النظام الأصلي السابق للبوذية، من الاعتقادات والطقوس التي ضمت الفنون التقليدية الأربعة: العِرافة والتنجيم وشعائر الشفاء وطب الأعشاب. ولم تُطبق إلا على طائفةٍ معينة في البلاط الملكي. ورغم أن طائفة البون هذه ضمت كهنة معينين من التقليد الأصلي والطبقة النبيلة الخاصة المرتبطة بهم، إلا أن تحديد خصائص المجموعة لم تكن إيمانها الديني، بل، بشكلٍ أولي، كان موقفها السياسي. كان هناك أتباع للتقاليد الأصلية من التنجيم وما إلى ذلك داخل البلاط وخارجه، ويشمل ذلك الإمبراطور نفسه، ولم يُسمَّوْا بـ"مؤيدي البون". وكانت هناك طبقة نبيلة من الـ"بون" في البلاط لم يعتمدوا بالضرورة على هذه الفنون التقليدية الأربعة، ولم يكن كل كاهنٍ من التقليد الأصلي جزءًا من هذه الطائفة. فعلى سبيل المثال، كان داخل البلاط أولئك الذين يمارسون الطقوس لدعم الطائفة الملكية، وعند وفاة الإمبراطور كانوا يقومون بشعائر الجنازة الملكية التقليدية. أما خارج البلاط كان يمارسون التنجيم وطقوس الشفاء للتغلب على الأرواح المؤذية، ولم يُعتبَر أي منهم "عضوًا في ديانة البون".

كانت مجموعة الـ"بون" آنذاك تطلق على طائفةٍ مناهضة للملكية، محافظة، وفوق كل شيء كارهة لكل ما هو أجنبي، لديها أحزابٌ في البلاط لخدمة مصالحها الذاتية. وكانت طائفة معارضةٍ رغبت في الاستيلاء على السلطة بنفسها. وكونهم ضد الإمبراطور جعلهم بشكلٍ طبيعي ضد أي شيء يمكنه تعزيز النفوذ الملكي، خصوصًا إذا كان ابتكارًا أجنبيًّا. وهكذا لا تُعتبر العدائية تجاه الطقوس والمعتقدات الأجنبية تجسيدًا للتعصب الديني فقط، كما سيشير إلى ذلك المؤرخون البوذيون التبتيون اللاحقون. رغم أنهم قد يكونون استعانوا بأسس دينية لتبرير توصيات سياستهم المناهضة للبوذية - على سبيل المثال، فالحضور البوذي سيُثير غضب الآلهة التقليدية ويجيء بالويلات - إلا إن ذلك لا يُشير إلى أنهم دعموا بالضرورة العقيدة الدينية الأصلية الكاملة. وفي النهاية لم تضم طائفة الـ"بون" الكهنة الذين مارسوا الطقوس الأصلية لدعم الإمبراطور.

ولم يكن الميل إلى مناهضة البوذية لما يُدعى طائفة الـ"بون" إشارةً إلى تمرد شانغ-شُنغ. فقد كان الكهنة والطبقة الأرستقراطية الداعمين الذين شكلوا المعارضة من التبت الوسطى بلا شك، وليسوا من خارج شانغ-شُنغ. فقد كانت الأخيرة منطقة محتلة، وليست مقاطعة سياسية متحدة بالإمبراطورية، ومن غير المحتمل أن يكون قادتها قد خدموا بوصفهم أعضاء أصحاب ثقة في البلاط الملكي.

باختصار إن ما يُدعى طائفة الـ"بون" المناهضة للبوذية، التي ساهمت لاحقًا في تصوير زيارة العالِم المسلم على أنها عديمة الأهمية، لم تكن مجموعةً دينية ولا إقليميةً محددة، بل كانت مؤلفةً من معارضي الحُكم الملكي في يارلونغ، مدفوعين بمنطق سياسة النفوذ. ولقد قاوموا وعرقلوا أي روابط أجنبية قد تعزز من المواقف السياسية للإمبراطور التبتي، وتضعف موقفهم، وتهين آلهتهم التقليدية. وحتى بعد وفاة سونغتسين-غامبو استمرت كراهية هذه الطائفة لكل ما هو أجنبي تتزايد.

عهود حُكم الإمبراطوريْن التبتيين التاليَيْن
تبينَ أن هاجس الطائفة الكارهة لكل ما هو أجنبي في البلاط التبتي متأصل بقوة، وذلك خلال السنوات الأولى من عهد حكم الإمبراطور التبتي التالي مانغسونغ-مانغتسين، (حكم من سنة ٦٤٩ إلى ٦٧٦ م)، عندما غزت الصين التانغية التبت. وقد وصلت القوات الصينية الهانية ما أمكنها حتى راسا وألحقت أضرارًا جسيمة قبل أن تهزم.

وخلال السنوات التابعة لحُكم مانغسونغ-مانغتسين وقع تحت سيطرة وزيرٍ قوي من طائفةٍ أخرى، أراد توسيع الإمبراطورية أكثر، فغزا هذا الوزير تويوهون، وهي المملكة البوذية الواقعة شمال شرق التبت، والتي اتبعت النمط الخوتاني من البوذية، وكاشغار الداخلة كذلك ضمن المجال الثقافي الخوتاني. وفي عام ٦٧٠ م غزا خوتان نفسها، وسيطر على ما تبقى من ولايات الواحات التابعة لحوض تاريم غير تورفان. وقد هرب الملك الخوتاني إلى البلاط الملكي التانغي، حيث عرض عليه الإمبراطور الصيني أن يساعده، بعدما أثنى على مقاومته للتبتيين.

وحسب المصادر الخوتانية ألحق التبتيون دمارًا كبيرًا خلال غزو ولاية الواحات، بما في ذلك الأديرة والأضرحة البوذية. لكن بعد ذلك بوقتٍ قصير ندموا على أفعالهم، وأبدوا اهتمامًا كبيرًا بالعقيدة البوذية. غير أن هذا التاريخ الرهباني قد يكون تقليدًا لنموذج الملك أشوكا، الذي دمر الكثير من المعابد والتماثيل البوذية قبل ندمه واعتناقه البوذية. رغم ذلك يربط بعض الباحثين الغربيين بداية انخراط التبت بشكل جادٍّ في البوذية بهذه النقطة، فلو كانت البوذية قوية أصلاً بين التبتيين لبجلوا الأديرة الخوتانية وما دمروها.

وقد بدأ التبتيون الآن بإدخال بعض النصوص البوذية الخوتانية المختارة وترجمتها، وذلك بعد تبنيهم الأسلوبَ الخوتاني في تصوير المفردات التقنية البوذية، من خلال ابتكار مصطلح لكل مقطع لفظي. وتشعب الاتصال الثقافي إلى كِلا الاتجاهيْن عندما ترجم الباحثون عملاً طبيًّا هنديًّا إلى الخوتانية، قد ترجم سابقًا من السنسكريتية إلى التبتية. وبعد ترسيخ البلاط الملكي لمثل هذه الروابط الأجنبية القوية بدأ القلق حيال المعارَضة الكارهة لكل ما هو أجنبي بالنمو مرة أخرى.

فالصراع الذي نشأ بين الإمبراطور التبتي اللاحق تري دوسونغ-مانغجي، (حكم من سنة ٦٧٧ إلى ٧٠٤ م) وعشيرة وزيره السابق على السلطة أضعف بلاط يارلونغ بشكلٍ كبير، وخسرت التبت سيادتها العسكرية والسياسية على ولايات تاريم، رغم حفاظها على حضورٍ ثقافي في واحاتها الجنوبية. لكن الإمبراطورية التبتية كانت لا تزال طَموحة؛ حيث تحالفت التبت مع الأتراك الشرقيين عام ٧٠٣ م ضد الصين التانغية.

حُكم الإمبراطورات
خلال تلك الفترة قادت الإمبراطورة وو (حكمت من سنة ٦٨٤ إلى ٧٠٥ م) انقلابًا مؤقتًا للإطاحة بأسرة تانغ الحاكمة من خلال إعلان نفسها مايتريا، أي البوذا المستقبلي. كانت الملكة التبتية الأم تريما لو والدة الإمبراطور تري دوسونغ-مانغجيي تنتمي إلى عشيرة قوية في شمال شرق التبت، ولم تكن لديها عواطف بوذية خوتانية فقط بسبب التأثيرٍ التويوهوني، بل علاقات وطيدة مع الصين التانغية، وكانت على تواصل مع الإمبراطورة وو، وعندما توفي ابنها الإمبراطور التبتي عام ٧٠٤ م خلعت حفيدها، وحكمت البلاد في صورة إمبراطورة أرملة غنية حتى وفاتها عام ٧١٢ م، ونسقت مع الإمبراطورة وو أن تأتي الأميرة الصينية الهانية تشينغ جين، إلى التبت عروسًا لابن حفيدها مي-أغتسوم، المعروف كذلك بـ تري ديتسوغتين، الذي كان رضيعًا آنذاك، وكانت الأميرة تشينغ جين بوذية متدينة، وجاءت براهبٍ صيني هاني معها لتعليم السيدات في البلاط التبتي.

أصبحت طائفة الكهنة وطبقة النبلاء الكارهة لكل ما هو أجنبي هائجةً للغاية جراء هذا التطور، فتأثيرهم على البلاط يواجه تحديًّا مرة أخرى مع الرهبان البوذيين الصينيين الهانيين، كما حدث في أيام سونغتسين-غامبو. لكن التهديد هذه المرة كان أكثر جدية؛ لأن الأجانب كانوا حاضرين في العاصمة نفسها، ومع دعوة القوى الخارقة للطبيعة لهذه الديانة الغريبة، ومن أجل تعزيز النفوذ الملكي، خافوا من انتقام آلهتهم الأصلية كما حدث ذلك قبل ستين سنة عند الغزو التانغي للتبت الوسطى. أما الآن فلم يعد بوسع طائفة الـ"بون" سوى انتظار ساعتها.

وقد أبعدت الإمبراطورة دواجر تريما لو ذات العلاقة الودية مع البلاط الصيني الطموحات العسكرية التبتية الآن عن ذلك الاتجاه، وشكلت تحالفًا عام ٧٠٥ م مع الشاهيين الأتراك في غندهارا وباكتريا ضد العرب الأمويين، وفي هذه المرة عند وفاة الإمبراطورة دواجر عام ٧١٢ م، وصعود مي-أغتسوم إلى العرش (حكم من سنة ٧١٢ إلى ٧٥٥ م)، وكان لا يزال قاصرًا، مارست الإمبراطورة تشينغ جين بعد ذلك، مثل الإمبراطورة دواجر السابقة، تأثيرًا قويًّا على البلاط التبتي.

التحالف الأموي-التبتي
وفي تلك الأثناء استمر صراع السلطة على تركستان الغربية، وفي عام ٧١٥ م، وبعد أن استرد القائد قتيبة باكتريا من الشاهيين الأتراك، بدلت التبت موقفها، وتحالفت مع القوات الأموية التي كانت تحاربها منذ وقتٍ قصير. عندها ساعد العساكر التبتيون القائد العربي في الاستيلاء على فرغانة من أيدي الترغيشيين، والتجهيز لهجوم إضافي ضد كاشغار التي كانت في يد الترغيشيين. ولا شك أن تحالف التبتيين مع الشاهيين الأتراك، ثم الأمويين لاحقًا، كان ذريعةً للمحافظة على مكان لهم في باكتريا، مع الأمل في إعادة بناء جيشهم واقتصادهم وحضورهم السياسي في حوض تاريم. وكانت الضريبة المفروضة على طريق الحرير التجارية المُربِحة هي الإغراء الدائم الحضور، الذي يغذي أعمالهم.

قد يخالج المرءَ التفكيرُ بأن التحالف التبتي السابق مع الشاهيين الأتراك للدفاع عن باكتريا ضد الأمويين كان نتيجةً لربط ما يُدعى طائفة الـ"بون" مع تاغزيغ موطن البون، ورغبتهم في الحيلولة دون تدنيس ديرها الرئيس: نافا فيهارا، لكن هذا الاستنتاج ليس سليمًا، حتى لو صدَّق المرء الفرضيتيْن الخاطئتيْن: أن البون آنذاك كانت ديانةً منظمة، وأن طائفة البون كانت مجموعة محددةً دينيًّا. حتى لو كان من المحتمل وجود أصول بوذية باكترياية لبعض جوانب العقيدة البوذية، فإن أتباع البون لم يعتبروا هذه الملامح بوذية. وفي الحقيقة ادعى الأتباع اللاحقون للبون أن البوذيين في التبت قد سرقوا منهم الكثير من تعاليمهم.

لذلك لم تكن طائفة البون في البلاط التبتي تقود "حربًا مقدسة" في باكتريا. بالإضافة إلى ذلك لم يكن البوذيون كذلك يقودون حربًا مقدسة، كما أشارت الحقيقة القائلة أنه بعد خسارة باكتريا وخراب دير نافا فيهارا لم يستمر التبتيون في الدفاع عن البوذية في باكتريا، بل بدلوا تحالفاتهم وانضموا إلى العرب المسلمين. وكانت القوى الأولية الدافعة وراء السياسة الأجنبية التبتية هي المصالح الذاتية السياسية والاقتصادية، وليست الدينية.

تحليل البعثة الإسلامية إلى التبت
وافق البلاط التبتي عام ٧١٧ م على دعوة معلمٍ مسلم، رضوخًا لإلحاح الخليفة عمر الثاني؛ حتى لا يثير استياءَ حلفائه الأمويين ويعرض علاقته معهم للخطر. ولكن لم يكن ذلك ناتجًا عن اهتمامٍ فعلي بالعقائد الإسلامية. ففي أحسن الأحوال كان من الممكن أن تكون الإمبراطورة تشنيغ جين قد رأت في الأمر ما رآه الإمبراطور سونغتسين-غامبور، أصلاً، أن في البوذية مصدرًا آخر لقوة خارقة للطبيعة قد تُعزز الموقف الملكي. ومن جهة أخرى لكان الكهنة المحافظين، وطبقة النبلاء في البلاط التبتي، عدائيين تجاه رجال الدين العرب. ولكانوا خافوا تأثيرًا أجنبيًّا آخر كذلك، وتلك الطقوس التي قد تعزز الطائفة الملكية أكثر وأكثر، وتضعف نفوذهم الخاص، وتجلب الكارثة على التبت.

كان الاستقبال البارد للمعلم المسلم في التبت نتيجةً للجو العام من انتشار كراهية كل ما هو أجنبي من قِبَل طائفة المعارَضة في البلاط التبتي. ولم يكن ذلك إشارةً إلى صراع ديني إسلامي-بوذي أو إسلامي-بوني. ولسبعين سنة تقريبًا، قد وُجِّهت هذه العدائية الطائفية نحو البوذية، واستمرت في ذلك الاتجاه. ولتقدير كيفية ملاءمة موقفهم من الإسلام داخل هذا النمط من الخوف من كل ما هو أجنبي، دعونا نلقِ نظرة على الأحداث التي جاءت لاحقًا في التبت بصورةٍ مختصرة.

الرهبان اللاجئون من خوتان في التبت
استعادت أسرة التانغ الحاكمة حُكمَها عام ٧٠٥ م مع تنازل الإمبراطورة وو عن العرش، لكن الوضع لم يستقر حتى حلول عهد حفيد الإمبراطورة شوانزونغ، (حكم من سنة ٧١٣ إلى ٧٥٦ م)، وقد اتبع هذا الإمبراطور الجديد القوي سياسةً مناهِضة للبوذية، في محاولةٍ منه لإضعاف دعم حركة جدته. وفي عام ٧٢٠ م ساعد أحد المتعاطفين المناهِضين للبوذية إمبراطور التانغ في خلع الملك البوذي المحلي لخوتان واستولى على العرش، ونشأ عن ذلك الكثير من الاضطهاد الديني، ما أدى إلى هروب الكثير من البوذيين. وبما أن السيل العارم من الرهبان الباكتريايين اللاجئين قد وصل إلى خوتان قبل خمس سنوات نتيجةً للضرر الذي ألحقه الأمويون بدير نافا فيهارا، فمن الممكن الشك في أنهم قد يكونون أول من هرب إلى خوتان، خوفًا من تكرار تجربتهم المؤلمة في باكتريا.

وفي عام ٧٢٥ م نسقت الإمبراطورة تشينغ جين حصول اللاجئين من الرهبان البوذيين من خوتان والصين الهانية على حق اللجوء في التبت، وبنت لهم سبعة أديرة، بما فيها ديرٌ في راسا. فجعلت هذه الخطوة وزراء البلاط الملكي الكارهين لكل ما هو أجنبي أكثر هياجًا من ذي قبل. وعندما توفيت الإمبراطورة عام ٧٣٩ م بوباء الجدري استغلوا تلك المناسبة لترحيل جميع الرهبان الأجانب في البلاد إلى غندهارا، التي يحكمها الحليف البوذي التقليدي للتبت الشاهيون الأتراك. وقد أعلن الوزراء أن حضور الأجانب وشعائرهم الدينية في التبت، قد كان السبب وراء انتشار الوباء؛ وذلك باقتناعهم أن آلهتهم قد أُهينت من جديد، وأنها قد نالت العقاب اللازم. وكانت غندهارا وِجهة معقولةً للرهبان؛ لأن الشاهيين الأتراك كانوا حُكام باكتريا كذلك، التي لقي فيها بلا شك الكثير من الرهبان ترحيبًا. وفي النهاية سكن عددٌ كبيرٌ منهم في المناطق الجبلية من بالتيستان حتى شمال مقاطعة أوديانا في غندهارا.

وبلغت ذروة قوة هذه الطائفة الكارهة لكل ما هو أجنبي طوال ستة عشر سنة لاحقة عندما اغتالوا عام ٧٥٥ م الإمبراطور مي-أغتسوم بسبب ميوله القوية نحو الصين التانغية ونحو البوذية. وقبل أربع سنوات، وفي السنة نفسها التي هُزمت فيها القوات التانغية بشكلٍ هائل، وطُردوا من تركستان الغربية، أرسل الإمبراطور بعثةً تبتية إلى الصين الهانية للتعرف أكثر على البوذية، وكان يرأسها با سانغشي وهو ابن المبعوث التبتي السابق إلى البلاط التانغي. وعندما خُلِع الإمبراطور التانغي شوانزونغ إبان ثورةٍ عام ٧٥٥ م كانت طائفة الـ"بون" مقتنعة بأنهم إن لم يضعوا حدًّا لحماقة مي-أغتسوم المستمرة، وكجزءٍ لاحقٍ من هذه البعثة، بلا شك من دعوة المزيد من الرهبان الصينيين الهانيين إلى البلاط الملكي، فلن يخسروا سلطتهم فحسب، وإنما سيجلب ذلك كارثةً جديدة على الدولة بكل تأكيد، كما حدث في الصين التانغية. وعليه فبعد قتلهم الإمبراطورَ اضطهدوا البوذية في التبت طوال ست سنوات. إن عدم تقبل التبت للإسلام في حينها، بصرف النظر عن دعوة معلم مسلم من قبَل البلاط الملكي، لم تكن إلا واقعةً أخرى في تاريخ هذا الصراع السياسي-الديني الداخلي التبتي.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:57 pm

القسم الأول: الخِلافة الأمويَّة (٦٦١ - ٧٥٠ م)
٦ التوسع الأموي اللاحق في تركستان الغربية
شهد ما تبقى من الفترة الأموية تغيرًا متكررًا ومذهلاً للحلفاء، وذلك خلال السنوات اللاحقة للنصف الأول من القرن الثامن؛ نتيجةً لدخول قوى إضافية كذلك إلى الصراع على سلطة تركستان الغربية وطريق الحرير. ومن خلال مراجعة الأحداث الرئيسة سيكون من الواضح أن العرب الأمويين لم يكونوا متطرفين دينيين متعصبين، يديرون حملةً لنشر الإسلام إلى بحرٍ من الكفار، بل إنهم كانوا فحسب أحد الشعوب الطموحة الكثيرة التي تحارب لمكسبٍ سياسي أو اقتصادي. فإن كل القوى - بمن فيهم الأمويين – قد عقدوا تحالفات ونقضوها، وهذا ليس ارتكازًا على الدين، بل على أسس نفعية وعسكرية.

تحول التحالفات والسيطرة على المناطق
مع حلول منتصف عهد حُكم عمر الثاني (حكم من سنة ٧١٧ إلى ٧٢٠ م) سيطر الأمويون على باكتريا ومدن بخارى وسمرقند وفرغانة في صغديا. وكان حلفاؤهم حينذاك التبتيين. في حين سيطر الأتراك الترغيشيون على باقي صغديا، وخاصة طشقند، إضافةً إلى كاشغار وكوتشا غرب حوض تاريم. وكانت القوات الصينية التانغية موجودة في تورفان في أقصى شرق حوض تاريم وفي بشباليق عبر جبال تيانشان، وحتى شمال تورفان. وسيطر الأتراك الشرقيون على باقي تركستان الغربية شمال صغديا، بما في ذلك سُياب، في حين حافظ التبتيون على حضورهم على طول جنوب طريق تاريم. وكان أحد المتعاطفين مع التانغ على عرش خوتان. أما الشاهيون الأتراك فكانوا محصورين في غندهارا. وباستثناء العرب الأمويين كانت جميع القوى الأخرى في آسيا الوسطى تدعم البوذية بدرجات متفاوتة، لكن لا يبدو أن ذلك كان له تأثيرٌ على الأحداث اللاحقة.

[ شاهد الخريطة العاشرة: آسيا الوسطى، نحو ٧٢٠ م.]

كانت القوات التانغية أول من تحرك استغلالاً لوفاة القائد الأموي قتيبة؛ حيث انطلقوا من حاميتهم في تورفان، وعبروا تركستان الشرقية شمال جبال التيانشان، وانتزعوا كوتشا وكاشغار من الترغيشيين؛ إذ هاجموهم من المؤخرة، بعد مرورهم من أقصى السلسلة الغربية من جبال التيانشان نحو تركستان الغربية، واستولوا على سُياب من الأتراك الغربيين، وعلى فراغانة من الأمويين، وعلى طشقند كذلك من الترغيشيين.

عند ذلك وضع الترغيشيون أنفسهم تحت إمرة قائدٍ آخر، لتدخل مجموعةٌ تركية جديدة إلى الساحة وهم القارلوق في جونغاريا، الذين كانوا أيضًا رعاةً للبوذية. واستبدل القارلوق الأتراك الشرقيين في منطقة شمال تركستان الغربية فما بعد سُياب التي يحوزها التانغيون، وتحالفوا مع الصين الهانية، فانضم الترغيشيون إلى التحالف العربي-التبتي، وعندها استعاد التورغانيون موطنهم في سُياب، واسترد الأمويون كذلك فرغانة. وأصبحت طشقند مستقلةً بشكلٍ مؤقت، وتُركَت القوات التانغية مسيطرة على كاشغار وكوتشا فقط.

[ شاهد الخريطة الحادية عشرة: آسيا الوسطى، نحو ٧٢٥ م.]

إعادة التأكيد على حُكم الأمويين في السند
في عام ٧٢٤ م أرسل الخليفة الأموي الجديد هشام (حكم من سنة ٧٢٤ إلى ٧٤٣ م) القائد جُنيْدًا إلى الجنوب؛ لإعادة تثبيت السلطة في السند. فنجحت القوات التي يقودها العرب في السند، لكنها فشلت في محاولتها الاستيلاء على غوجارات وبنجاب الغربية. وبصفته حاكم السند استمر القائد جُنيْد في السياسة الأموية السابقة في فرض جزيةٍ على الهندوس والبوذيين، إضافةً إلى فرض ضريبة على حجاج الأماكن المقدسة من هاتيْن الديانتيْن.

ورغم أن حُكام براتيهارا الهندوس في بنجاب الغربية كانت لديهم القوة على طرد القوات الأموية من السند، إلا أنهم أحجموا عن فعل ذلك. فقد هدد المسلمون بتدمير الأضرحة والصور الهندوسية الرئيسة إذا هاجمَهم البراتيهاريون، فاعتبر البراتيهاريون أن الحفاظ على أماكنهم المقدس أكثر أهميةً من استعادة السيطرة على المنطقة التقليدية. وفي ذلك إشارة أخرى إلى أن العرب الأمويين اعتبروا أن تدمير الأماكن الدينية غير الإسلامية ليس إلا تحركات أولية للصراع على السلطة.

خسارة الأمويين صغديا واستعادتها
في تلك الأثناء أنهى الترغيشيون - الذين ازدادت ثقتهم بعودة موطنهم في سُياب - تحالفهم القصير الأمد مع الأمويين، مستغلين انتشار قسمٍ كبيرٍ من قوات العرب في السند، فانقلب الترغيشيون على الأمويين، وطردوهم من فرغانة والمناطق المجاورة من صغديا، وتبع التبتيون القيادة الترغيشينية، واستبدلوا موقفهم كذلك. وعندها انقلب التحالف الترغيشيني-التبتي على الأمويين، ومع حلول عام ٧٢٩ م طردوهم ممَّا تبقى من صغديا وباكتريا، ولم يُترك من معاقل العرب إلا سمرقند.

في ذلك الوقت تحالف الأمويون - بصورةٍ مؤقتة - مع الصين التانغية لمواجهة التحالف الترغيشيني-التبتي القوي، فهزموا الترغيشيين في سُياب عام ٧٣٦ م، ومع وفاة ملكهم بعد سنتيْن تفككت القبائل الترغيشينية، وأصبحت ضعيفةً جدًّا. فاحتفظ الصينيون الهانيون بسُياب، واستمروا في حروبهم ضد التبتيين، في حين تراجع الأمويون نحو باكتريا وباقي صغديا. فدفع ذلك بالتبتيين إلى العودة إلى تحالفهم مع الشاهيين الأتراك، من خلال زيارة الإمبراطور التبتي إلى كابُل عام ٧٣٩ م للاحتفال بتحالف بين كابُل وخوتان عن طريق المصاهرة.

بدأ البلاط التانغي الآن سياسةَ دعمٍ للمنشقين في المُدن التي في أيدي الأمويين في صغديا، وفي إحدى المراحل وصل بهم الأمر إلى الارتداد عن سُياب ونهب طقشند، التي سبق أن كانت في حوزتهم لفترةٍ قصيرة، فأصبحت العلاقات الصغديانية-العربية متوترة، إلا أن الصراع لم يكن يرتكز على أسس دينية، بل كان مدفوعًا بمصالح سياسية محضة. فدعونا نعاين ذلك عن قرب.

[ شاهد الخريطة الثانية عشرة: آسيا الوسطى، نحو ٧٤٠ م .]

تحليل هجمات التانغ على صغديا التي في حوزة الأمويين
من خلال استكشاف بعض سياسات شوانزونغ الإمبراطور الصيني التانغي في ذلك الوقت، يمكننا - وبشكلٍ أكثر وضوحًا - فهم أن الأمويين اللاحقين لم يكونوا يسعون بعدوانية إلى اكتساب أتباع للإسلام، وأن دعم الإمبراطور للمنشقين المناهِضين للأمويين في صغديا لم يكن نتيجة النفور البوذي من الإسلام.

هناك حدثانِ مهدا لسياسات الإمبراطور: أولاً: عندما أطاحت جدة شوانزونغ - الإمبراطورة وو - بأسرة تانغ الحاكمة، من خلال اللجوء إلى الحُكم الألفي البوذي، أعفت جميع الرهبان البوذيين من الضرائب لتكسب دعمهم. ثانيًا: وبعد فترةٍ وجيزة من صعود الإمبراطور إلى العرش توافد عدد كبير من الصغديانيين الذين سكنوا في منغوليا إلى الصين الهانية. وفي النهاية أدت ردود الإمبراطور على هذين التطورين إلى أفعاله في صغديا.

غزو الصغديانيين لمنغوليا واستردادهم اللاحق لها
رغم وجود تجار صغديانيين على طول طريق الحرير في الصين التانغية لقرونٍ سابقة إلا أن عددًا كبيرًا من المهاجرين الصغديانيين قدِموا إلى المنطقة في منتصف القرن السادس، وكان تدفقهم ناتجًا عن اضطهادهم الديني من قبَل الإمبراطور الساساني كسرى الأول (حكم من سنة ٥٣١ إلى ٥٧٨ م). وخلال فترة الإمبراطورية التركية الشرقية الأولى (٥٥٣ – ٦٣٠ م) حظي هؤلاء الصغديانيون بمكانةٍ رفيعة لدي الأتراك الشرقيين؛ حيث دُعي الكثير منهم إلى منغوليا من مجتمعهم في تورفان، وكانوا مساهمين في ترجمة النصوص البوذية إلى اللغة التركية القديمة، واستخدمت الحكومة اللغة والنص الصغديانييْنِ لمصالحها التجارية الاقتصادية. ولكن خلال فترة الأتراك الشرقيين الثانية (٦٨٢ – ٧٤٤ م) تولى الوزير القوي طونيوقوق القيادة بأسلوبٍ مناهِضٍ للبوذية.

وألقى طونيوقوق أسباب انتصار التانغيين على الأسرة الحاكمة التركية الشرقية الأولى إلى تأثير البوذية السلبي على الأتراك. فقد علَّمت البوذية التسامح والبعد عن العنف، وهو الأمر الذي سلَبَ الأتراك روحَهم العسكرية، فدعا إلى العودة إلى الطائفة التركية الموحدة من المحاربين الرُّحَّل، راغبًا في استخدام روح شعبها القوية لتوحيد كل القبائل التركية خلفه ومحاربة الصين الهانية.

وكان الأتراك الشرقيون مستحوذين على أوتوكان، الجبل المنغولي المقدس لدى جميع الأتراك حسب دياناتهم التنغرية والشامانية السابقتيْن للبوذية. ولذلك زعم طونيوقوق بأن الحُكام الذين خدمهم كانوا مُلزَمين أخلاقيًّا بدعم الثقافة والقيَم التركية. وبربطه بين الصغديانيين والبوذية والصينيين الهانيين أثر طونيوقوق على خابقان خاقان (حكم من سنة ٦٩٢ إلى ٧١٦ م) حتى يستغني عن اللغة الصغديانية، ويستخدم اللغة التركية القديمة المكتوبة بخط ذي نمطٍ روني بدلاً منها لأهدافٍ إدارية. وبما أن السكان الصغديانيين في منغوليا باتوا غير مرغوب فيهم بشكلٍ متزايد، هاجروا مجموعةً واحدة إلى شمال الصين عام ٧١٣ م، واستقروا - بشكلٍ خاص - في تشانغآن وفي لويانغ، وهما آخر مدينتيْن على طريق الحرير.

[ شاهد الخريطة الثالثة عشرة: الهجرات الصغديانية.]

العامل المانوي
لم يكن المجتمع الصغدياني في منغوليا بوذيًّا فقط، فقد اتبع غالبيتهم المانويةَ في الحقيقة. وكانت هذه الديانة المانوية، التي نشأت في بابل على يد ماني (٢١٧ – ٢٧٦ م) إيمانًا انتقائيا تبنَّى كثيرًا من ملامح الاعتقادات المحلية التي واجهها أثناء انتشاره. ولهذه الديانة شكلان مهمان: شكلٌ غربي في الأناضول يتوافق مع الزرادشتية والمسيحية، وشكلٌ شرقي على طول طريق الحرير، يتبنى العناصر البوذية القوية. وكانت السريانية، ومن بعدها البارثية، هما اللغتيْن الرسميتيْن للشكل الأول، في حين كان للصغديانية دور مشابه بالنسبة للشكل الثاني.

كان للمانوية الشرقية في الصين الهانية فيما مضى حركة دعوية قوية وأتباعٌ صغديانيون، ادعوا بأنها شكلٌ من أشكال البوذية من أجل اكتساب أتباع جدد، وقدموها بهذا النمط إلى الإمبراطورة وو في البلاط الملكي الصيني عام ٦٩٤ م، وبعد هجرتهم من منغوليا قدموها من جديد إلى البلاط عام ٧١٩ م، كان ذلك بعد اغتصاب الحُكم الألفي البوذي عبر الإطاحة بالإمبراطورة، وإعادة استقرار الحُكم التانغي. لكن في عام ٧٣٦ م أصدر الإمبراطور شوانزونغ مرسومًا يحظر فيه على الصينيين الهانيين اتباع المانوية، ويمنع الديانة عن الرعايا غير الهانيين والأجانب. وكان السبب وراء ذلك هو أن المانوية كانت تقليدًا سطحيًّا للبوذية، وكانت تنتشر بوصفها عقيدة مدعية أساسها كذبة.

لكن إمبراطور التانغ لم يكن متعاطفًا مع البوذية، ولم يكن هذا الانتقاد تحقيقًا لرغبته في دعم التعاليم البوذية الخالصة عبر تطهيرها من الهرطقة. كان هناك كثيرٌ من الصينيين الهانيين الذين لم يكونوا راضين عن حملات الإمبراطور الطموحة في آسيا الوسطى؛ بسبب الطلب المرتفع لاحقًا على صعيديْ فرض الضرائب والخدمة العسكرية. وبدون شك كان شوانزونغ سيرغب بتفادي وجود ديانة أجنبية شبه بوذية، تكون متاحة للصينيين الهانيين، الذين استطاعوا العمل بوصفهم نقطة حشد للقوات لتركيز انشقاقهم، وإشعال ثورةٍ محتمَلة.

خلعَت جدة الإمبراطور السلالة التانغية من خلال التودد إلى طائفة المايتريا بوذا، وبما أن ماني رُبِط مرارًا وتكرارًا في النصوص الصغديانية بمايتريا، إضافةً إلى أن جدة الإمبراطور كانت قد حسمت الأمر لصالح المانوية، فلا شك أن المخاوف من ثورةٍ ألفيةٍ مشابهةٍ تكون موجهةً نحوه قد دفعت الإمبراطور إلى التحرك ضد الديانة الإيرانية.

ومن بين الديانات الثلاث للتجار الصغديانيين في الصين الهانية: المانوية والمسيحية النسطورية والبوذية، كانت الأولى حتى تلك اللحظة أكثر الديانات عنفًا لاكتساب أتباع جدد. وقبل عدة عقود بدأ التجار العرب والمسلمون الإيرانيون السفر إلى الصين الهانية، وقد وصلوا إلى هناك في البداية بحرًا وليس برًّا عبر طريق الحرير، وسكنوا في المدن الساحلية لجنوب شرق الصين. وكان أحد المعلمين المسلمين سعد بن أبي وقاص (الذي توفي عام ٦٨١ م) قد جاء معهم. ومع ذلك لم يُصدر شوانزونغ أبدًا مرسومًا مشابهًا يمنع فيه الصينيين الهانيين من اتباع الإسلام. وفي الحقيقة لم يفعل ذلك أي من الأباطرة الصينيين اللاحقين، سواء أكانوا بوذيين أم غير ذلك، طالما اتبعوا سياسة التسامح الدينية مع الإسلام. إن ذلك يُشير إلى أن الجهد المبذول للمسلمين الأوائل في الصين الهانية في محاولة نشر دينهم لم يكن جهدًا كبيرًا، ولم يُعتبَر تهديدًا أبدًا.

طرد الرهبان البوذيين غير الهانيين من الصين التانغية
مع مرور السنوات أصبحت الحكومة التانغية بحاجةٍ متزايدة إلى الموارد المالية لتمويل حملات الإمبراطور الكثيرة في آسيا الوسطى، فوَضْعُ الإعفاء من الضرائب الخاص بالأديرة البوذية منذ عهد اغتصاب الإمبراطورة وو للعرش قد حدَّد بشكلٍ جدِّيٍّ دَخْل الحكومة. لذلك في عام ٧٤٠ م حوَّل شوانزونغ دعمه بقوة أكبر نحو الطاوية؛ ليعيد فرض الضرائب على الأديرة البوذية، ويحدد بشدة عدد الرهبان والراهبات الصينيين الهانيين في مملكته، كما أنه طرد جميع الرهبان البوذيين غير الهانيين، باعتبارهم استنزافًا ماديًّا للشعب، ولا ضرورة له.

إن دعم شوانزونغ للمنشقين المناهِضين للأمويين في صغديا آنذاك كان بدافعٍ سياسي واقتصادي واضح، وليس له أية علاقة بالعلاقات الإسلامية-البوذية. فالإمبراطور لم يكن بوذيًّا، وكان من الواضح أن ترحيله للرهبان الصغديانيين من الصين الهانية لم يكن خطوةً لإعادتهم إلى صغديا من أجل تعزيز الحركة المناهِضة للإسلام بين البوذيين الصغديانيين، فقد طرد الرهبان أصحاب القوميات غير الهانية الأخرى، وليس الصغديانيين فقط. وكانت الصين التانغية وحدها مهتمةً باكتساب المزيد من المناطق في آسيا الوسطى على حساب الأمويين، والسيطرة على المزيد من تجارة طريق الحرير المربِحة.

آخر أحداث الفترة الأموية
كان الحدث المركزي الأخير في الفترة الأموية، ذو الأهمية الشديدة للعلاقات المستقبلية بين الإسلام والهندوسية في وسط آسيا، قد وقع عام ٧٤٤ م، فقد عاش الأتراك الأويغوريين أصلاً في جبال شمال غرب منغوليا، وبعض قبائلهم ترتحل حتى أقصى منطقة تورفان التي تقع تحت حكم التوخاريين، وصولاً إلى الجنوب ومنطقة بحيرة بايكال التابعة لصربيا نحو الجهة الشمالية الشرقية. وكانوا حلفاءَ تقليديين للصينيين الهانيين ضد الأتراك الشرقيين الذين سيطروا على المناطق المنغولية المحصورة بينهما.

[ شاهد الخريطة الرابعة عشرة: القبائل التركية، ونهاية الفترة الأموية .]

في عام ٦٠٥ م، عندما انتقل الصينيون الهانيون الأوائل إلى حوض تاريم عبر ما يزيد عن أربعة قرون، قدم الإمبراطور السوي الصيني ويندي مساعدته للأويغوريين في احتلال تورفان، مركز بوذية الأتراك القدامى. وسرعان ما اعتنق الأويغوريون العقيدة البوذية، خصوصًا على ضوء إعلان ويندي نفسه إمبراطورًا عالميًّا بوذيًّا. وفي عام ٦٢٩ م اتخذت الأميرة الأويغورية الأولى الاسم البوذي: "بوديساتفا"، وهو لقبٌ استخدمه الحُكام الدينيون من الأتراك الشرقيين كذلك. وخلال الثلاثينيات من القرن السابع الميلادي استولت الصين التانغية على تورفان من أيدي الأويغوريين، ولكن الأويغوريين كانوا لا يزالون يساعدون الصين الهانية في وضع حدٍّ للأسرة الحاكمة التركية الشرقية الأولى بعد وقتٍ قصير.

وبعد قرنٍ ونصف احتلت الأسرة الحاكمة التركية الشرقية الثانية موطن الأويغوريين بسياستها العسكرية ذات الفِكر التركي الموحد بشكلٍ عنيف. ولكن في عام ٧١٦ م، وبعد فترةٍ قصيرة من هروب الصغديانيين إلى منغوليا، نال الأويغوريون استقلالهم. وبالتالي استمروا في مساعدة حلفائهم الصينيين الهانيين في مضايقة الأتراك الشرقيين. والآن، وفي عام ٧٤٤ م، وبمساعدةٍ من القارلوق في جونغاريا وشمال تركستان الغربية، هاجم الأويغوريون الأتراك الشرقيين وهزموهم، وأسسوا إمبراطورية الأورخون الخاصة بهم في منغوليا.

وقد هاجرت قبيلة الأوغوز من الأتراك الشرقيين، الذين يُعرفون بالأتراك ذوي الرداء الأبيض، في تلك الفترة من منغوليا الحالية إلى الضاحية الشمالية الشرقية من صغديا، بالقرب من فرغانة. وسرعان ما كان لهم دور مهم في التطورات المعقدة في صغديا، في بداية الفترة العباسية. بالإضافة إلى ذلك، وفور توليهم السلطة، حارب الأويغوريون مع أتباعهم القارلوق كثيرًا، وورث الأويغوريون والقارلوق الآن أدوارَ القادة المتنافسين على الفرعيْن الشرقي والغربي من القبائل التركية، لكن السيادة كانت للأويغوريين؛ لأنهم كانوا يسيطرون على أوتوكان جبل الأتراك المقدس في منغوليا الوسطى، بالقرب من عاصمة أورخون: أوردوباليق. فتنافس هذيْن الشعبيْن التركييْن مهد الطريق كذلك لتطورات مستقبلية.

وهكذا انتهت الحقبة الأموية عام ٧٥٠ م مع خسارة العرب لباكتريا وصغديا، واستردادهما بعد ذلك، لكن سيطرتهم على المنطقة كانت مزعزعةً، وعلاقاتهم مع البوذيين - الذين يكونون أحيانًا رعاياهم، وأحيانًا حلفاءهم، وأحيانًا أخرى أعدائهم - كانت ترتكزُ غالبًا على المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية، كما كانت سابقًا.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:58 pm

القسم الثاني: الفترة العباسية في عهدها المبكر (٧٥٠ - منتصف القرن التاسع بعد الميلاد)
٧ صعود العباسيين وانحسار الصين التانغية
السياق الإقليمي
قبل مناقشة التطورات التاريخية خلال الخلافة العباسية في عهدها المبكر، دعونا نراجع باختصار الوضع السياسي في آسيا الوسطى قُبيل بزوغ هذه الفترة. فقد حكم الأمويون صغديا وباكتريا، في حين احتل الجيش الصيني التانغي المنطقة الشمالية والغربية في سُياب وكاشغار وكوتشا، مهددين بالاجتياح. وسيطرت القوات التانغية كذلك على تورفان وبشباليق. وكان الأتراك الأوغوز - ذوو الرداء الأبيض - قد هاجروا حديثًا من جنوب منغوليا إلى أقصى الجهة الشمالية الشرقية من صغديا. بينما كان ما تبقى من شمال تركستان الغربية ودزونغريا تحت سيطرة القارلوق، وكانت منغوليا قد خضعت حديثًا لسيطرة الأويغوريين.

كانت الصين والأويغوريون حليفيْن، وكان التبتيون في موقف ضعيف، لكنهم حافظوا على وجودهم في جنوب ولايات تاريم، رغم أن الملك الخوتاني كان يفضل البلاط التانغي. وكان الحلفاء التبتيون السابقون - وهم الترغيشيون - مهمَلين بشكلٍ فعلي. فكان الحلفاء الوحيدون أمام التبتيين هم الشاهيون الأتراك في غندهارا، وكانوا متحالفين مع خوتان شكليًّا بسبب المصاهرة.

[ شاهد الخريطة الخامسة عشرة: آسيا الوسطى، عشية الفترة العباسية.]

نشوء الخلافة العباسية
رغم أن الملتيْن الإسلاميتيْن الرئيستيْن: السنة والشيعة، لم تتكونا رسميًّا حتى القرن الحادي عشر، فدعونا - تسهيلاً للمناقشة - نتحدث عن منابع هاتيْن الملتيْن، مستخدمين هذه المصطلحات. كانت حركة المرجِئة التي يؤيدها الأمويون هي منشأ السُّنة، فقد دعمت تسلسل خط الخلافة من معاوية - أخو زوج النبي، وأول خليفةٍ أموي- في حين نشأ المذهب الشيعي من الطائفة المعارِضة، التي ادعت بأن شرعية التسلسل تبدأ من علي، ابن عم النبي وصهره. وبما أن غالبية العرب دعمت الأمويين، أي الإسلامَ السُّني، فإن معظم المسلمين من غير العرب فضلوا المذهب الشيعي.

كان الخلفاء الأمويون عربًا قادمين من شبه الجزيرة العربية، فضلوا العربَ المسلمين في كل شيء على المسلمين الأجانب بشكلٍ عام، فقد حظروا على الجنود المسلمين غير العرب – مثلاً - تقاسُم الغنائم التي كانوا يحصلون عليها عند انتصارهم في إحدى المعارك. ومن جهة أخرى تمتع العرب غير المسلمين، مثل المسيحيين واليهود القادمين من شبه الجزيرة العربية، بثقةٍ تفوق تلك التي مُنحت للمسلمين غير العرب، حتى إنه قد عُيِّن بعضهم حُكامًا على المناطق غير العربية داخل الخلافة. وقد سببت هذه السياسة المُتحزبة استياءً عارمًا، خاصة بين المسلمين الفرس الذين اعتبروا أنفسهم أرفع مقامًا وأعلى ثقافة من العرب.

كان أبو مسلم الخراساني مسلمًا شيعيًّا باكتريا، من بلخ، وقد أصبح رفيقًا لأبي العباس، ذي الأصل العربي من العباس عم النبي، أثناء سجنهما معًا في باكتريا (خُراسان) بتهمة النشاطات المعارضة للأمويين. وقد قاد أبو مسلم لاحقًا ثورةً أطاحت بالأمويين عام ٧٥٠ م نتيجة عدم رضاه عنهم، وكذلك عزله في إيران وآسيا الوسطى. وبعد تحرير دمشق العاصمة الأموية أصبح أبو العباس، الذي يُعرف أيضًا بالسفاح (حكم من سنة ٧٥٠ إلى ٧٥٤ م)، الخليفة الأول للسلالة العباسية. ومكافأةً لأبي مسلم عيَّنه السفاحُ حاكمًا على باكتريا، واستمرت الخلافة العباسية حتى عام ١٢٥٨ م، لكنها حكمت باكتريا وصغديا حتى منتصف القرن التاسع فقط.

وبسبب كون الخلفاء العباسيين عربًا من مناطق ثقافية إيرانية فقد لاقوا دعمًا أوليًّا من المسلمين الإيرانيين والوسط آسيويين لانتزاعهم السلطة. فكون العباسيين بعيدين لدرجةٍ كافية عن شبه الجزيرة العربية، فلا يكون لهم التحيز العنصري الذي كان للأمويين، جعل المسلمين الإيرانيين يأملون ألا تعاملهم الأسرة الحاكمة الجديدة مواطنين من الدرجة الثانية.

هزيمة الصين التانغية وتمرد آن لوشان
ضم أبو العباس عام ٧٥١ م قواته إلى قوات القارلوق، وتحرك ضد القوات الصينية التانغية التي كانت تهدد كلا الجانبين، فهزموا الجيش التانغي على مقربةٍ من نهر طلاس الموجود حاليًّا في جنوب كازاخستان، واضعين حدًّا، وبشكلٍ نهائي، للوجود الصيني الهاني في تركستان الغربية. وقد شكل ذلك علامةً فارقة في تحول الصراع بعد الاضمحلال التدريجي للاحتلال الصيني الهاني، وحكمه لتركستان الشرقية، ونهايته كذلك.

فالهزيمة التانغية، والتكلفة الباهظة لكل حملات شوانزونغ التي تبدو بلا فائدةٍ تُذكر، في آسيا الوسطى، بلغت حدها بالنسبة للمجموعة السكانية الصينية؛ إذ لم يعودوا قادرين على تحملها أكثر من ذلك. وفي عام ٧٥٥م قاد آن لوشان وهو ابن لجندي صغدياني في الخدمة التانغية، وأم تركية شرقية، تمردًا شعبيًّا في العاصمة التانغية: تشانغآن. ورغم استدعاء الإمبراطور الكثير من العساكر من كاشغار وكوتشا وبشباليق وتورفان، تاركين وراءهم قوةً هيكلية لا غير، وتلقيه دعمًا عسكريًّا من ملك خوتان، لم يكن باستطاعته قمع التمرد. فاضطر إلى الهرب جارًّا أذيال العار إلى جبال سيتشوان. وأخيرًا لم تنجح القوات التانغية إلا في التوجه إلى الأويغوريين في منغوليا طلبًا للنجدة.

وأثناء محاربة المتمردين في تشانغآن ولويانغ سلَبَ الأويغوريون كِلتا المدينتيْن ودمروهما فعليًّا، بما في ذلك المعابد والأديرة البوذية الموجودة في كلٍّ منهما. ومع ذلك، ونتيجةً للاتصال بين مجتمعات التجار الصغديانيين هناك، اعتنق الإمبراطور الأويغوري بوغو خاقان العقيدة المانوية التي حملها إليه معظم هؤلاء التجار. ليُعلن لاحقًا عام ٧٦٢ م أن المانوية هي ديانة دولة أمة الأويغوريين. رغم أن آن لوشان كان نصف صغدياني إلا أن المتمردين كانوا غالبًا هانيين صينيين كما يبدو، وليسوا من أبناء مجتمع غير هاني. ولولا ذلك لحارب بوغو خاقان ضد الصغديانيين كذلك، ولما تقبل بالتالي ديانتهم.

وعلى مدار القرون المختلفة بدَّل الأويغوريون ديانة دولتهم من الشامانية بدايةً، إلى البوذية، فالمانوية، ثم عادوا إلى البوذية، وأخيرًا الإسلام. وكان الأتراك الشرقيون من قَبلِهم قد بدلوا الشامانية بالبوذية، ثم ارتدوا إلى الشامانية. ودعونا نعاين بعض الأسباب المحتمَلة لهذه التبديلات في الديانة بين هذين الشعبيْن التركييْن، فقد يساعدنا ذلك بشكلٍ أفضل على فهم الأسباب وراء اعتناق معظم القبائل التركية فيما بعد الإسلامَ بعد البوذية أو الشامانية.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الخميس أكتوبر 18, 2012 11:59 pm

القسم الثاني: الفترة العباسية في عهدها المبكر (٧٥٠ - منتصف القرن التاسع بعد الميلاد)
٨ المعتقدات الدينية للأتراك الشرقيين
الاتصال الأول مع البوذية
بعد سقوط الأسرة الهانية الحاكمة عام ٢٢٠ م أصبحت البوذية قوية في شمال الصين، ذلك الجزء الذي اقتطعته وحكمته سلسلة متوالية من الشعوب والولايات الصينية غير الهانية. وكانت أسرة وي الشمالية التوباوية الحاكمة (٣٦٨ – ٥٣٥ م) هي الراعي الأقوى للبوذية، وهي التي امتدت حتى منغوليا الداخلية وشمال الصين الهانية.

[ شاهد الخريطة السادسة عشرة: منغوليا في عهدها المبكر.]

برز الأتراك القدامى - أول مجموعةٍ مسجلة تكلمت اللغة التركية على صفحات التاريخ - طبقةً من عمال الحديد الذين يعيشون في مدن مملكة توبا. ولكنهم نشئوا بلا شك قبيلةً متنقلة من البوادي حتى الشمال؛ لأن جبلهم المقدس أوتوكان كان موجودًا في منغوليا الوسطى على الجانب الآخر من صحراء جوبي، في الأراضي التي تقع تحت سيطرة توبا.

واتبع الأتراك القدامى تقليدًا دينيًّا خلطوا فيه الشامانية بما أسماه العلماء الغربيون "التنغرية"، وهو دين عبادة السماء بصفتها الإله الأسمى، وتبجيل بعض الجبال بصفتها مقاعد القوة. ولم تكن التنغرية قطُّ ديانةً منظمة، وظهرت بأشكال مختلفة عند جميع شعوب بوادي آسيا الوسطى تقريبًا: الأتراك والمنغول والتانغوتيون، بشكلٍ متساوٍ. وبشكلها التركي دعمَت البنية الاجتماعية التركية، التي كانت مبنية على أسس التسلسل الهرمي الخاص بالقبائل؛ بحيث تتمتع إحدى القبائل بالهيمنة، ويكون زعيمها هو مصدر سلسلةٍ هرميةٍ من الحكام بالنسبة للجميع.

فالشكلُ التركي للتنغرية يَعتبر أن أي زعيمٍ تركي يسيطر على أوتوكان هو الحاكم الأسمى على كل القبائل التركية، وتجسيدًا للحظ الطيب للمجتمع، فإذا تراجع حظ المجتمع خضع الخاقان للمحاسبة، ويمكن أن يُذبَح على أنه قُربان، وعندها ينتقل المُلكُ إلى ابنه.

في ظل نظامٍ إيماني كهذا واجه الأتراكُ البوذيةَ أولاً في مدن توبا، وكان ذلك يؤكد على تفاني العامة، وانصياع الكهنة للدولة، خاصة في شكله الصيني الشمالي. وقد ناسب هذا النمط الاجتماعي للبوذية بشكلٍ مريح الأفكار التنغرية التركية للسلسلة الهرمية القبلية.

وبحكم كونهم غير راضين عن حُكم توبا انتقل معظم الأتراك إلى غرب قانسو، التي تقع تحت سيطرة ولاية رورن-روان (٤٠٠ – ٥٥١ م). وقد حكم الرورن-روانيون الصحاري والمراعي الخضراء ومناطق الغابات، من كوتشا حتى حدود كوريا، بما في ذلك جزء كبير من منغوليا. وعندما اعتنقت روران روان تدريجيًّا التوخارية والخوتانية، بوصفهما صورتين من البوذية المتبعة في مدن واحات تركستان الشرقية التي سيطروا عليها، ونشروا فيها البوذية عبر ممكلتهم، التقى الأتراكُ القدامى مع هذا الشكل من البوذية ذي الأثر الإيراني كذلك؛ حيث تحول بوذا في الأوساط الزرادشتية إلى "ملك الملوك" و"إله الآلهة".

وأطاح بومين خان بالرون-روان عام ٥٥١ م، بادعائه الوصاية على جبل أوتوكان، وأعلن نفسه خاقانًا، وأسس الإمبراطورية التركية القديمة. وبعد سنتيْن انقسمت الإمبراطورية إلى قسميْن: شرقي وغربي.

إن الإمبراطورية التركية الشرقية الأولى (٥٥٣ – ٦٣٠ م)، التي أسسها ابنه موهان خاقان (حكم من سنة ٥٥٣ إلى ٥٧١ م)، وتمركزت في منغوليا، قد ورثت الموروث الروحي للشامانية والتنغرية. وبما أن هذا التقليد الديني كانت تنقصه بنية منظمة، فقد كان ضعيفًا في توفير قوة موحدة لبناء أمة جديدة. وبالنظر إلى نماذج مثل ولايات رون-روان وتوبا ويي أدرك الخاقان أن البوذية كانت قادرة على تنفيذ المَهمة. وبما أن الأتراك كانوا في الأساس على معرفةٍ بالأشكال الصينية الشمالية والتوخارية/الخوتانية للبوذية، لذلك كان الخاقان شديد الحماس لإيجاد مزيد من التواصل مع هذه العقيدة، وملاءمتها داخل غشاء العقيدة التركية التقليدية. فتمامًا كما كان يصلي الرهبان البوذيون من أجل رفاهية الولايات البوذية الصينية الشمالية، أمكنهم كذلك فعل الأمر نفسه بالنسبة للإمبراطورية التركية الشرقية. وبالإضافة إلى ذلك، مثلما توسعت حاشية بوذا لتشمل الآلهة الزرادشتيين، ومع كون بوذا ملكهم فيمكن توسيع الدائرة لتشمل العدد الكبير من الآلهة التركية كذلك.

وبعد انفصال إمبراطورية وي الشمالية استمرت ولاياتها اللاحقة الصغيرة في تأييدها للبوذية الصينية الشمالية؛ حيث تحولت اثنتان منهما: تشي الشمالية (٥٥٠ – ٥٧٧ م)، وجو الشمالية (٥٥٧ – ٥٨١ م) إلى ولايتيْن تدفعان الجزية للأتراك الشرقيين. ودليلاً على الصداقة بنى وزير تسي الشمالية معبدًا بوذيًّا على الطراز الصيني الشمالي للآلاف الستة من الأتراك، الذين كانوا يعيشون في تشانغآن. وقد استجاب موهان خاقان لتلك الخطوة بسرور، من خلال دعوة عدة رهبان صينيين هانيين شمالاً إلى حاميته في منغوليا لتعليم شعبه.

تبني اللغة الصغديانية للاستخدام العَلماني
حكم الأتراك الشرقيون واحات تورفان التوخارية بوصفهم وَرَثة للرون-روانيين، فالكثير من مجموعات الشعوب الإثنية السابقة المتنقلة من البوادي المنغولية، أو من أطراف الصحراء، مثل التوبا وي، قد تبنت الثقافة الصينية الهانية، فخسرت هويتها لاحقًا. ولأن موهان خاقان كان مدركًا لهذه السابقة فهو لم يرغب في أن يحدث ذلك لشعبه أيضًا. لذلك بعد تأسيس إمبراطوريته التركية الشرقية بوقتٍ قصير توجه إلى مجتمع التجار الصغديانيين في تورفان ليمنحه لغة مكتوبة غير صينية، وتكون خاصة بالأهداف الإدارية والمالية.

اختار خاقان الصغديانية؛ لأنها كانت اللغة الوسط آسيوية الوحيدة في حوض تاريم آنذاك، وكانت مكتوبة، وكان استخدامها مقتصرًا على الوسط العَلماني في مجال الأعمال التجارية في الأصل، ولم تُستخدَم في تورفان فحسب، وإنما على طول طريق الحرير كذلك. وكانت اللغات المحلية، مثل: التوخارية والخوتانية، لا تزال منتشرة بشكل شفهي في ذلك الوقت.

الاضطهاد الديني في الصين الهانية وصغديا
بين عاميْ ٥٧٤ و٥٧٩ م خلال ولاية الخاقان التركي الشرقي الثاني، تابار (حكم من سنة ٥٧٢ إلى ٥٨١ م)، بدأت ولايتا تسي الشمالية وجو الشمالية، المفروض عليهما دفع الجزية في الإمبراطورية التركية الشرقية، باضطهاد البوذية. كان ذلك في البداية نتيجةً لتأثير الوزراء الطاويين الغيورين من دعم الحكومة للأديرة، فهرب المزيد من الرهبان الصينيين الهانيين وأربعة مترجمين بوذيين غندهاريين قادمين في زيارةٍ من كابول، يقودهم جيناغوبتا (٥٢٨ – ٥٨١ م)، من تشانغآن إلى البلاط التركي الشرقي. وانضم إليهم هناك عشرة رهبان صينيين هانيين، عادوا لتوهم من الهند، ومعهم مئتان وستون نصًّا بوذيًّا لترجمتهم، وكانوا أيضًا لاجئين مثلهم.

في الوقت الذي نشأ فيه هذا التطور في الصين الهانية تقريبًا كان الإمبراطور الساساني كسرى الأول (حكم من سنة ٥٣١ إلى ٥٧٨ م) يضطهد المانوية بشدة، وما سمَّاه طوائف زرادشتية مهرطِقة، في إيران وصغديا. وقد أدى ذلك إلى موجة جديدة من هجرة اللاجئين الدينيين إلى مدن واحات تركستان الشرقية. ونتيجةً لجهود الواعظ المانوي مار شاد أوهرمزد (توفي عام ٦٠٠ م)، الذي رافق المهاجرين، بدأ الصغديانيون - الذين في تورفان خاصةً - للمرة الأولى بترجمة النصوص المانوية إلى لغتهم من النسَخ البارثية والسريانية الأصلية المُستخدَمة في وطنهم؛ وقد خطوا هذه الخطوة غالبًا لأنهم كانوا مقتنعين بضرورة استقلال مجتمعهم الديني عن التقلبات السياسية في الوطن، والتمتع بالاكتفاء الذاتي.

الترجمات الأولى المكتوبة للنصوص البوذية إلى اللغة التوخارية
كانت النصوص البوذية في تركستان الشرقية، وحتى وقتنا هذا، تُكتب وتُدرس وتُنشَد باللغتيْن الهنديتيْن الأصليتيْن: السنسكريتية أو البراكرتية الغندهارية، أو بالترجمة الصينية أحيانًا. وليس هناك دليل على أن النصوص البوذية المقدسة قد تُرجمَت إلى لغات وسط آسيا حتى الآن، ناهيك عن الالتزام بكتابتها. ولم تظهر العلامات الأولى لمثل هذا النشاط إلا الآن في منتصف القرن السادس.

وتعود أقدم الوثائق التوخارية المكتوبة إلى هذه الفترة، وهي ترجمات للنصوص البوذية من السنسكريتية إلى اللغة التورفانية. ولعل بوذيي تورفان التوخاريين قد تأثروا بالصغديانيين المانويين وسط غمرتهم للقيام بهذه الخطوة؛ وذلك لضمان استقلالهم، وكذلك ضمان هويتهم الثقافية الفردية. رغم أن بعض المعلمين البوذيين التوخاريين مثل كوماراجيفا (٣٤٤ – ٤١٣ م) قد شاركوا بشكلٍ فعال في ترجمة النصوص الهندية إلى الصينية، إلا أن التوخاريين استمروا في الحفاظ على شكلهم الخاص من البوذية اعتمادًا على النصوص السنسكريتية المقدسة، ومسألة الحفاظ على هوية ثقافية مستقلة ستكون هامةً بالنسبة إليهم؛ لأنهم كانوا يطلون على الواحة على طول الحافة الشمالية لحوض تاريم بصفته موطنهم، ولم تكن لهم اتصالات مع جذورهم الأوربية الأصلية، ولأن مدنهم وقعت تحت حُكم وارثٍ لأسرةٍ أجنبية حاكمة. ولا شك في أن اضطهاد البوذية في الصين الهانية زاد من تصميمهم على كتابة لغتهم وترجمة نصوصهم المقدسة.

تخلي الصغديانيين عن ترجمة النصوص البوذية إلى لغتهم الخاصة في هذا الوقت
لكن المجتمع البوذي الصغدياني في تورفان لم يتبع المثال المانوي الصغدياني أو البوذي التوخاري في ترجمة نصوصه المقدسة إلى لغته والالتزام بكتابتها، ولم يقوموا بهذه الخطوة إلا بعد قرن من الزمن نتيجةً لمجموعةٍ معقدة من الأسباب المحتمَلة. فدعونا نطرح بعضًا منها.

أولاً: كان أهل صغديان تركستان الشرقية تجارًا ومقايضين، على عكس التوخاريين، وعلى الأرجح أنهم لم يشعروا بأي انتماء خاص إلى دويلات المدن المستقلة التي عاشوا فيها. ولم يُشيروا إليها يومًا على أنها وطنهم، بل تطلعوا بالأحرى إلى صغديا. إذًا لم يكن أمرُ بناء هوية فردية لوطنٍ واقعٍ تحت احتلال يعيشون فيه الآن وثيقَ الصلة بالنسبة إليهم.

ثانيًا: إن نفي المجتمع الصغدياني في تركستان الشرقية كان متعدد الديانات، وقد وحَّدتهم مهنتهم ولغتهم المكتوبة التي استخدموها في تجارتهم. وعلى عكس التوخاريين لم يكونوا بحاجةٍ إلى استخدام الديانة لمقاصدهم. بالإضافة إلى ذلك استطاع بوذيو صغديا في تورفان التطلع نحو الصين الهانية، على عكس الصغديانيين المانويين الذين لم تكن لهم وُجهة محددة يلجئون إليها للدعم الديني غير صغديا وباقي الإمبراطورية الساسانية. إذًا يبدو أنهم لم يكونوا مرتبطين - بشكلٍ خاص - بلغة نصوصهم الدينية. ويبدو أنهم شعروا بالاطمئنان مع النُّسَخ السنسكريتية والبراكرتية الغندهارية المُستخدمة في وطنهم، إضافةً إلى الترجمات الصينية التي ساعدت كذلك على التجهيز. وبصرف النظر عن اضطهاد البوذية في الصين الهانية، والوضع الديني المضطرب في صغديا، ويبدو أنهم لم يروا أيَّ سبب يجعلهم يترجمون نصوصهم إلى لغتهم الخاصة في ذلك الوقت.

ولو رغبَ البوذيون الصغديانيون في تركستان الشرقية في الابتعاد عن عدم الأمان الديني في وطنهم لكان بإمكانهم استخدام المزيد من المفردات الصينية في ممارستهم الدينية. ومن جهة أخرى، عندما واجه إخوتهم المانويون وضعًا مشابهًا، لم يكن أمامهم خيار إلا تأسيس تقليدٍ خاص بلغتهم الأم. ويبدو أن البوذيين الصغديانيين، ومن خلال استخدامهم اللغة الصينية لتحقيق أهدافهم الدينية، لم يشعروا بأن هويتهم الثقافية مهددة؛ لأن تلك الهوية كانت ترتكز على ركائز من حياتهم العَلمانية. وفي الحقيقة إن ميول بوذيي صغديا في تركستان الشرقية إلى الاعتماد بقوة أكبر على اللغة والثقافة الصينيتيْن في حياتهم الدينية، قد تلقى دافعًا كبيرًا - على الأرجح – من قدوم موجة من اللاجئين الصغديانيين المانويين في غمرتهم. وقد رفض القادمون الجدد اللغات الدينية التي نشئوا عليها.

ترجمة النصوص البوذية إلى التركية القديمة
لكن كانت لتابار خاقان أولويات مختلفة عن الصغديانيين، فبصفته حاكمًا لإمبراطورية حديثة التأسيس لم يشأ أن تعتمد رعيته من الشعب التركي الشرقي على اللغة الصينية بأية حالٍ من الأحوال. واتبع سَلَفه سياسة استخدام لغةٍ أجنبية في الإطار العَلماني، من خلال تبني كلٍّ من اللغة الصغديانية المنطوقة والمكتوبة. وبما أنه لم يكن للصغديانيين دولة خاصة بهم فلم يكن هناك ما يثير التهديد في هذه الخطوة. لكن مع تدفق الرهبان الصينيين الهانيين اللاجئين إلى هذه المملكة شعر تابار الآن بالحاجة الملحة إلى بناء هوية لشعبه، تكون مستقلةً عن الهوية الصينية الهانية في الإطار الديني؛ لذلك اختار خليطًا من الأشكال الهندية والشمالية الصينية والتوخارية/الخوتانية من البوذية التي انتشرت لتشمل الأوجه التنغرية. وكان الاضطهاد في شمال الصين للبوذية مؤشرًا كافيًا لاضطهاد المانوية في صغديا؛ لإقناعه باتباع المثاليْن: البوذية التورخانية والصغديانية المانوية في تورفان. لذلك أسَّس مكتبًا للترجمة في عاصمته في منغوليا؛ ليحوِّل النصوص البوذية إلى صيغةٍ وسط آسيوية، بشكلٍ لم يسبق له مثيل.

وقد رغب الخاقان في استخدام اللغة الصغديانية للمقاصد الدينية كذلك؛ لكي يكون منصفًا مع المجال العَلماني، ويؤسس ثقافة عُليا موحدة لشعبه. ولكن النصوص البوذية المكتوبة باللغة الصغديانية لم تكن موجودةً في ذلك الوقت. وكان الصغديانيون يعتمدون على النُّسَخ الصينية بصورةٍ متزايدة لاستخدامهم الشخصي. ولو لم يستطع الخاقان توفير النصوص البوذية باللغة الصغديانية، ولو كان استخدام الترجمات التوخارية الجديدة سيقود إلى تعقيداتٍ إضافية في جعل شعبه يتعلم لغةً أجنبية أخرى، فإن الحل الأمثل لتأسيس وحدة ثقافية كان ترجمة النصوص البوذية إلى اللغة التركية القديمة، ولكن بكتابتها بخط عَلماني صغدياني. لذلك دعا المزيد من الصغديانيين إلى منغوليا، وطلب منهم تكييف أبجديتهم مع الحاجات العينية للمشروع، ومساعدة الرهبان الصينيين الهانيين اللاجئين في مكتب الترجمة على تنفيذ مُهمتهم.

استطاع المعلم الغندهاري جيناغوبتا الذي قدِم مع الصينيين الهانيين، ورَأَس المكتب بشكلٍ أولي، تقديرَ قرار الخاقان بسهولة؛ لأن له خبرةً طويلةً سابقة في خوتان، وهو بذلك لم يكن مرتبطًا بالأشكال الصينية الهانية الصارمة. إذًا فقد خلطت الترجمات التركية القديمة بين العناصر البوذية الشمالية الصينية والتوخارية/الحوتانية بجوانب تنغرية، وهي رغبَة الخاقان. وكان المشروع ناجحًا جدًّا، وسرعان ما أصبحت البوذية شعبية بين الناس العاديين، حتى لدى جنود المملكة التركية الشرقية.

تحليل وملخص
إن أحد الملامح المشتركة في التاريخ الوسط آسيوي هو تبني مؤسسي الأسَر الحاكمة الجديدة ديانةً أجنبية جيدة الرسوخ والتنظيم، وتحويلها إلى الديانة الرسمية للدولة؛ من أجل توحيد شعوبهم. وحدث ذلك بشكلٍ متكرر عندما كانت تقاليدهم الدينية الأصلية لامركزية بالكامل، أو ترْأسُها طوائف محافظة مؤثرة تُعارض الحُكم الجديد. لكن القوة الأجنبية التي تبنت ديانتها لم تستطع أن تكون شديدة التأثير، ولولا ذلك لكان على الأسرة الحاكمة الجديدة أن تواجه تهديد خسارة هويتها واستقلالها.

وهكذا توجه الأتراك الشرقيون إلى الصغديانيين، وليس إلى الصينيين الهانيين؛ لمساعدتهم في توحيد إمبراطوريتهم. وهناك سببٌ آخر لهذا الخيار، هو أن التجار الصغديانيين المتمدنين قد فسروا لأتراك البوادي المتنقلين أهمية منطقة طريق الحرير التي احتلوها، وأقنعوهم بأهميتها. وسرعان ما أدرك الحكام الأتراك أن الاندماج مع الصغديانيين سيعود عليهم بفائدةٍ اقتصادية كبيرة.

وبالإضافة إلى ذلك، ورغم أن المانوية كانت الديانة الرئيسة للصغديانيين وليست البوذية، إلا أن الأتراك الشرقييين توجهوا إلى الأخيرة، وليس إلى الأولى، بصفتها ديانةً موحدة. كان ذلك - على الأرجح - بسبب أن البوذية كانت الديانة الأقوى في المنطقة آنذاك، وبصرف النظر عن نكستها المؤقتة في شمال الصين الهانية خلال العقد السابع من القرن السادس الميلادي.

وفي عام ٥٨٩ م كانت الحكمة في اختيار الإمبراطورية التركية الشرقية دياناتٍ جديدة، وذلك عندما نجح ويندي مؤسس أسرة سوي الحاكمة في إعادة توحيد الصين الهانية، من خلال عَزوِه النصرَ إلى لواء البوذية. وبذلك أظهرت الديانة الهندية قوتها الخارقة للطبيعة في تحصين بيت حاكمٍ جديدٍ آخر. إن حكمة الأتراك في قرار ممارسة هذه الديانة بلغتهم الخاصة وباللغة الصغديانية المكتوبة قد تأكدت من جديد، وعندما نجحوا في عدم الانصهار داخل جمهور عسكر السوي عبر شمال الصين الهانية.

وعندما أقنَع طونيوقوقُ خاقان الإمبراطورية التركية الشرقية الثانية بعد أكثر من مائة سنة بترك البوذية، والعودة إلى الأعراف والممارسات التنغرية، والتقليد الشاماني التركي، وكان السبب الرئيس وراء ذلك هو أن البوذية قد أثبتت ضعفَها بسماحها للصين التانغية وضع حدٍّ للأسرة الحاكمة التركية الشرقية الأولى، في العقد الرابع من القرن السادس الميلادي. إذًا، ويبدو أن النجاح في توفير قوة خارقة للمنفعة العسكرية والسياسية كان هو المعيار الرئيس الذي استخدمه الأتراك والشعوب التركية والمنغولية اللاحقة في اختيار الديانة.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:00 am

القسم الثاني: الفترة العباسية في عهدها المبكر (٧٥٠ - منتصف القرن التاسع بعد الميلاد)
٩ التحولات الدينية للأويغوريين
الخيار الأولي للبوذية
استخدم الأويغوريُّون المعيار نفسه في تطويع الديانات الأجنبية كما فعل الأتراك الشرقيون؛ حيث اختاروا البوذية بدايةً ديانةً رسمية للدولة عندما ساعدت قوات السوي الصينية في فتح تورفان عام ٦٠٥ م. ويبدو أنهم كانوا معجبين - مثل الأتراك الشرقيين - بالنجاح العسكري السوي في توحيد الصين الهانية، في ظل الحماية الروحية التي وفرتها البوذية. وبعد أن نصَّبَ المؤسس السوي نفسه إمبراطورًا كونيًّا بوذيًّا، سمَّى كلٌّ من القادة الأويغوريِّين والأتراك الشرقيين أنفسهم "أمراءَ بوديساتفا". ولكن الأويغوريِّين - مثل الأتراك الشرقيين أيضًا - تبنوا بشكلٍ أولي، نموذجًا من وسط آسيا وليس صينيًّا هانيًّا، وذلك تفاديًا لذوبانهم في الحضارة الصينية الهانية. وقد اتبعوا - في الأساس - نموذجًا توخاريًّا/خوتانيًّا من البوذية نشأ في تورفان، وهو نموذجٌ خلط عناصر تركية تقليدية وعناصر الصينية الشمالية بالبوذية، تمامًا كما فعل الأتراك الشرقيون.

حلَّت سلالة التانغ الحاكمة (٦١٨ – ٩٠٦) مكان السوي بعد تسعٍ وعشرين سنة فقط من حُكمهم. رغم أن أوائل الأباطرة التانغيين أعادوا تنصيب نظام الاختبار الكونفشيوسي بالنسبة للخدمة الحكومية، وفضلوا الطاوية، إلا أنهم دعموا البوذية كذلك. وفي الحقيقة كانت أواخر الفترة السوية وأوائل الفترة التانغية تشكل الأوج في تطور وانتشار معظم المذاهب البوذية الصينية الهانية. ورغم أن الأتراك الشرقيين اعتبروا البوذية مسئولةً عن خسارة سلالتهم الحاكمة الأولى، إلا أن الأويغوريِّين آنذاك لم يعتبروا أن استسلام السوي للصين الهانية عام ٦١٨ م، أو خسارتهم تورفان لصالح القوى التانغية في الثلاثينيات من القرن السابع الميلادي كذلك، كان خطأ البوذية. فقد بقوا حلفاءَ تانغيين مخلصين، واستمروا في اعتناقهم البوذية.

شكوك حول البوذية في وجه التطورات في الصين الهانية والتبت
منذ أن استولت الإمبراطورة وو على عرش السلالة التانغية الحاكمة، بين عاميْ ٦٨٤ و٧٠٥ م، تناقصت القوة العسكرية التانغية بصورةٍ مستمرة، رغم نجاحها بامتياز في عدة أوجه، نتيجةً لعجز شوانزونغ في سحب الرهبان البوذيين إلى الخدمة العسكرية، أو فرض الضرائب على الأديرة للمساعدة في تمويل حملاته. وفي عام ٧٤٠ م وضع الإمبراطور حدودًا على عدد الرهبان الصينيين الهانيين، وطرد جميع الرهبان من الصين الهانية، وألغى الإعفاء من الضرائب الخاص بالأديرة. ورغم هذه الخطوات هُزمت القوات التانغية عند نهر طلاس في تركستان الغربية عام ٧٥١ م، وفي عام ٧٥٥ م أطاح تمرد آن لوشان بحُكم شوانزونغ.

ورث الحاكمُ الأويغوري بوغو خاقان دورَ المُحافظ على أمان جبل الأتراك المقدس، أوتوكان، وذلك من خلال إطاحته بالأتراك الشرقيين عام ٧٤٤ م، وبالتالي كان وضعه مختلفًا تمامًا عن وضع الزعماء الأويغوريِّين السابقين. فباعتباره المسئول أخلاقيًّا الآن عن جميع القبائل التركية، وكان الخاقان - بلا شك - على علمٍ بنقد التونيوقوق للبوذية بصفتها مسببًا لخسارةٍ حتمية للقيَم الحربية للقومية التركية. وكان هذا النقد للبوذية مثبتًا بصورةٍ مضاعفة من خلال الهزائم المُهينة التي تكبدها شوانزونغ في تركستان الغربية، وفي عاصمته تشانغآن. ولم يبذل إمبراطور التانغ حسب وجهة النظر التركية أقصى جهده للقضاء على المصدر البوذي الذي أضعف جيشه.

بالإضافة إلى ذلك، وقبل بضعة أشهر من تمرد آن لوشان، تعرض الإمبراطور التبتي مي-أغتسوم للاغتيال؛ بسبب تعاليمه المؤيدة للبوذية. فدخلت التبت القوة الرئيسة الأخرى في المنطقة في فترة اضطهادٍ للبوذية. ولذلك لم يكن بإمكان بوغو خاقان، من خلال اختياره ديانةً لتوحيد شعبه، أن يختار البوذية، وأن يتمتع بأي نوعٍ من المصداقية بوصفه زعيمًا لجميع الأتراك. ومن جهة أخرى عجز عن اختيار المزج بين التنغرية والشامانية التركية كذلك؛ لأن ذلك المزيج كان معتقَدَ الأتراك الشرقيين الذين هزمَهم ليكسب مركزه. ومن الواضح أن الديانة التقليدية لم تتمتع بالقوة اللازمة للحفاظ على أمةٍ ذات جيشٍ قوي.

أسباب اختيار المانوية: الرغبة في الحفاظ على علاقات ودية مع الصين التانغية
كان الأويغوريُّون - إلى حد ما - حلفاءَ للصين الهانية على مدى قرنٍ ونصف. وقد أظهروا تفوقهم العسكري أمام القوات التانغية من خلال إخماد تمرد آن لوشان، في الوقت الذي فشلت فيه الأخيرة في إخماده. ورغم ذلك كان الخاقانات الأويغوريُّون يرغبون آنذاك بالحفاظ على علاقات ودية مع الصين الهانية. وقد رغب البلاط التانغي بالشيء نفسه، بصرف النظر عن نهب الأويغوريِّين لتشانغآن ولويانغ.

وفي عام ٧١٣ م أقنع الوزير التركي الشرقي صاحب النفوذ تونيوقوق خابقان خاقان (حكم من سنة ٦٩٢ إلى ٧١٦ م) بترحيل المجتمع السغدياني من منغوليا، في الوقت الذي كان يقود فيه الإمبراطورية نحو إحياء تقاليدها الشامانية والتنغرية. وضم المجتمع بوذيين ومانويين، وقد سمح لهم البلاط التانغي أن ينضموا إلى السغديانيين الذين يسكنون أساسًا في تشانغآن ولويانغ. ولكن منع شوانزونغ عام ٧٣٢ م أي صيني هاني من اتباع المانوية، ووضع عليها حدودًا بالنسبة للمجتمع الأجنبي. وبعد مرور ثماني سنوات أجلى جميع الرهبان البوذيين الأجانب، رغم كونهم غرباء محمولين في الصين الهانية التي قبلَت بالرهبانية المانوية. ولو أراد الأويغوريُّون تبني هذه الديانة الأخيرة لأمكنهم الحفاظ على علاقات ودية مع الصين الهانية، دون الإساءة إلى سياساتها الدينية. ولكن كانت هناك أسباب إضافية لاتخاذ هذا القرار.

الفوائد الاقتصادية والجغرافيا السياسية
كان في نية الأويغوريِّين أن يوسعوا منطقتهم توسيعًا إضافيًّا، خاصة نحو حوض تاريم؛ حيث يمكنهم السيطرة على تجارة طريق الحرير المربحة. لم يكن للصين الهانية سوى حضورٌ ضعيف في تورفان وبشباليق، وعلى طول الفرع الشمالي للطريق في كوتشا وكاشغار. كما أن حضور التبتيين كان ضعيفًا على طول الفرع الشمالي من طريق الحرير، ولكن التجار السغديانيين كانوا متواجدين في كل دويلات مدن الواحات خاصة تورفان.

أصبح الأويغوريُّون الآن الأبطال الذين لا مُنازع لهم، وذلك بعد انتصارهم على تمرد آن لوشان، وفي الوقت الذي أُرغِمَ فيه الإمبراطور التانغي على الفرار مكلَّلاً بالعار، فالحكومة التانغية لم تخسر كرامتها فحسب، بل كانت في حال أضعف من الحال التي كانت عليها قبل ممارسة السيطرة الفعالة على تورفان، أو على أي مكان آخر في حوض تاريم. ورغم أن الصين التانغية منحت السغديانيين حق اللجوء السياسي عام ٧١٣ م، إلا أنها بلا شك، ومن خلال طردها الرهبان البوذيين من البلاد، خسرت ثقة المجتمع السغدياني، ولو أراد الأويغوريُّون تبني ديانة سغديانية مهمة لقُبِلت بسهولة بوصفهم حماة وأسيادًا لسغديانيي تورفان. وإن من شأن ذلك أن يمنحهم موطئ قدم في حوض تاريم لتوسع إضافي وسيطرةٍ ممكنة على طريق الحرير.

اعتناق المانوية
ومع وجود مثل هذه الأفكار لدى بوغو خاقان لا شك أنه أعلن المانوية ديانةً رسمية لدولة الأويغوريِّين عام ٧٦٢ م؛ لأن البوذية لم تكن بديلاً يمكن تطبيقه في ذلك الوقت، بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال تشديدها على انتصار قوى النور على قوى الظلام، أعطت البوذية انطباعًا بأنها أكثر ملاءَمةً من البوذية بالنسبة لأمة حربية. وبعد استخلاص العبَر من السلالتيْن الحاكمتيْن للأتراك الشرقيين استعار الخاقان الأبجدية السغديانيية، وليس اللغة السغديانية، وجعلها ملائمة لكتابة اللغة الأويغورية، فقد استخدمها لأهداف إدارية ودينية، ووظف السغديانيين لترجمة النصوص المانوية إلى اللغة الأويغورية.

بعد اكتسابهم الخبرة من ترجمة النصوص البوذية التركية القديمة بدأ السغديانيون بتحويل النصوص البوذية المقدسة إلى لغتهم خلال الفترة الانتقالية (٦٣٠ – ٦٨٢ م) للسلالتيْن الحاكمتيْن للأتراك الشرقيين: الأولى والثانية. وكانت تلك الفترة التي احتلت الصين الهانية فيه منغوليا وتورفان بالإضافة إلى حوض تاريم كاملاً. واستخدم المترجمون السغديانيون بدايةً المصادر الصينية الهانية، والتقليد واللغة اللتيْن كانوا ملمين بهما أكثر من غيرهما. ومع تمتع الصين التانغية بمكانةٍ سياسية مهيمنة شعر البوذيون السغديانيون بأن هويتهم مهددة بشكلٍ كافٍ؛ ليتخذوا هذه الخطوة من أجل إبعاد أنفسهم عن الانغماس المحتمَل في الحضارة الصينية الهانية. وبما أن نشاط الترجمة البوذية هذا كان مستمرًّا في الوقت الذي كلَّفَ فيه الأويغوريُّون المترجمين السغديانيين بتحضير النصوص المانوية باللغة الأويغورية، وبما أن السغديانيين قد سبق أن تعاملوا مع اللغة التركية القديمة التي كانت لها صِلة مع اللغة الأويغورية، فقد استعار السغديانيون - بشكلٍ طبيعي - مجموعة كبيرةً من المصطلحات البوذية لإنجاز مُهمتهم الجديدة.

مقاومة شعبية لاعتناق البوذية
اعتنق كثير من البوذيين النموذج التركي الشرقي من البوذية، وخاصة المحاربين والعوام، وذلك نتيجةَ حُكم الأويغوريِّين لتورفان من عام ٦٠٥ م حتى الثلاثينيات من القرن السابع الميلادي. ولكن بعد إخماد الأويغوريِّين تمرُّدَ آن لوشان قاد بوغو خاقان رجاله إلى تدمير كل الأديرة والمعابد البوذية أثناء نهْب تشانغآن ولويانغ، وأمرَ لاحقًا بتدميرٍ الأديرة البوذية البعيدة في مناطق أخرى من مملكته، حتى وصل الدمار إلى سيميريتشيّة وتركستان الغربية. وبعمله ذلك كان يحاول أن يعيد التأكيد على التقليد الحربي التركي الشامل، وأن يبرر اختياره المانوية عبر إبراز النقاط الضعيفة في البوذية.

ولكن مما لا شك فيه أن عددًا كبيرًا من الجنود الأويغوريِّين كانوا يتبعون مزيجًا من البوذية والتنغرية والشامانية في ذلك الوقت. وهناك حقيقة تُشير إلى ذلك وهي أن الخاقان اضطر إلى إجبار شعبه على قبول المانوية؛ فقد جعلهم مجموعات منفصلة، كل مجموعة مؤلفة من عشرة، وهناك شخص واحد مسئول عنها، وظيفته هي المراقبة الدينية لكل مجموعة. ورغم ذلك لم تنتشر هذه الديانة السغديانية الرئيسة بين الأويغوريِّين أبدًا. فقد كانت في البداية محصورة على الطبقة النبيلة الأرستقراطية، التي انجذبوا إليها بسبب إبرازها نخبة دينية نظيفة وطاهرة، كانوا متفوقين على ما يُدعى بـ"الجُموع القذرة". ولا شك أن البوذية استمرت بين هؤلاء "الجموع القذرة" خلال فترة حُكم الأويغوريِّين لمنغوليا.

بالإضافة إلى ذلك لم تكن طبقة الأويغوريِّين النبيلة ملتزمةً بالمانوية بشكلٍ كامل، فبعد عشرين عامًا من تحول الدولة الرسمي للمانوية اغتال ألب قوتلوغ (حكم من سنة ٧٨٠ إلى ٨١٩ م) بوغو خاقان لتجاوزاته المالية في دعم هذه الديانة الجديدة. وقد طلب من البطريرك تيموثاوس (حكم من سنة ٧٨٠ إلى ٨١٩ م) أن يعين مطرانًا مسيحيًّا نسطوريًّا على مملكته، وذلك بعد اكتسابه لقب خاقان. لكن هذا النموذج من المسيحية - مثل المانوية - لم يكن في الأساس إلا معتقدًا سغديانيًّا. وقد توافقت رعايته بشكلٍ منطقي مع الإستراتيجية الأويغورية العامة في اكتساب ولاء شعب حوض تاريم، كما أن التجار السغديانيين قد قادوهم اقتصاديًّا.

ملخص نمط آسيا الوسطى في التحول الديني
إذن توضح هذه الأمثلة للتحولات الدينية لدى الأتراك الشرقيين والأويغوريِّين ظاهرة تبديل الأمم التركية في آسيا الوسطى لدياناتها. وعندما كان الحكام يغيرون هذه الديانات بشكلٍ تطوعي، كان ذلك غالبًا جزءًا من إستراتيجية سياسية محسوبة لاكتساب السلطة والدعم أو الفائدة الاقتصادية، أكثر من كونه قرارًا دينيًّا.

لكن يجب ألا يسخر المرء من إسناد الدوافع المانوية كلها إلى هذه التحولات الدينية، ويجب أن يرفض بشكل تام أية اعتبارات دينية. ولا بد من وجود عناصر في الديانة التي تُتخذ تكون منسجمة مع عقلية الحضارة المحلية، ولولا ذلك لما كان بإمكان أحدهم أن يتجاوب مع المعتقَد. ورغم ذلك يجب ألا يكون المرء مثاليًّا في اعتقاده بأن حُكام آسيا الوُسطى، الذين يحكمون شعوبًا ذات تقاليد حربية قوية، اتخذوا قراراتهم في هذه المسائل معتمدين تمامًا على التعقيدات الميتافيزيقية الراقية لديانةٍ ما على ديانةٍ أخرى، وكانوا مبهورين بصورةٍ أكبر عندما وفرت الديانة لهم السلطة القاهرة للطبيعة، التي أدت إلى انتصار عسكري، وبدلوا الديانة القومية ناشدين دعمًا مشابهًا لجهودهم التوسعية الخاصة.

وكان ذلك صحيحًا في هذه الحالات مع الأتراك الشرقيين والأويغوريين، بالإضافة إلى مسألة اهتمام الإمبراطور التبتي سونغتسين-غامبو بالبوذية في منتصف القرن السابق. ويشرح ذلك أيضًا سبب انفتاح البلاط التبتي المحيط بالإمبراطور الشاب مي-أغتسوم على النظر إلى الإسلام بعين الاعتبار في بداية القرن التاسع؛ لأنه قد يساعدهم على اكتساب المزيد من المناطق من خلال تحالفهم مع العباسيين، ويشرح كذلك سبب التخلي الكامل عن اهتمامهم بالمعتقَد الإسلامي عند عدم اقتراب الحصول على مثل هذه الميزة.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:01 am

القسم الثاني: الفترة العباسية في عهدها المبكر (٧٥٠ - منتصف القرن التاسع بعد الميلاد)
١٠ النزاعات الطائفية الإسلامية وإعلان الجهاد
الانقسام الطائفي داخل الإسلام في أوائل الفترة العباسية
نجح العباسيون في طرد القوات الصينية التانغية من تركستان الغربية، وكان تمرد آن لوشان في الصين الهانية قد أضعف بشكل كبير سيطرة التانغ على كاشغر وكوتشا وتورفان وبشباليق. ورغم ذلك لم يستغل العرب الفراغ في السلطة، بل استغله القارلوق والتبتيون. فقد انتقل القارلوق إلى الجنوب، واستولوا على سياب وفرغانة وكاشغر في النهاية. في حين أكَّد التبتيون سيطرتهم على دويلات مدن حوض تاريم الجنوبية، خاصة خوتان التي أعادوا الاستيلاء عليها عام ٧٩٠ م. قطع التبتيون كل اتصال بين الأسرة الملكية الخوتانية والبلاط التانغي، لكن التانغ حافظت على قواعد أمامية في كوتشا، وخاضت حربًا طويلة الأمد على ثلاث جبهات مع التبتيين والأويغوريين على تورفان وبشباليق.

[شاهد الخريطة السابعة عشرة: آسيا الوسطى، أواخر القرن الثامن.]

لم يكن بمقدور العباسيين أبدًا أن ينتشروا في المناطق التي سبق أن خضعت لسيطرة التانغ في تركستان الغربية؛ لأن سرعان ما تورطوا في الاقتتال الطائفي الإسلامي في صغديا. وفور صعود الخليفة الثاني المنصور (حكم من سنة ٧٥٤ إلى ٧٧٥ م) إلى العرش قتل أبا مسلم الشيعي الباكتري الذي ساعد العباسيين في تأسيس سلالتهم الحاكمة أعاد ترسيخ مبدأ الأولوية الأموية في تفضيل العرب الإثنيين والخط السني من الإسلام، رغم أن سلفه أبا العباس كان قد أعطى وعدًا بمعاملة الرعايا غير العرب معاملةً غير عنصرية، وبالتالي حوَّل الخصوم الصغديانيون للحُكم العباسي أبا مسلم بعد موته إلى المدافع عن حضارتهم الإيرانية في وجه الهيمنة العربية، وقد استغلوا استشهاده لحشد متمرديهم بغية الانتقام لمماته، حتى جعل أبا مسلم في النهاية بمنزلة الأنبياء.

وكان أبو مسلم قد استخدم في البداية علَمًا أسودَ، رايةً له يمثل من خلالها البيت العلوي، وقد تبع العباسيون هذه السابقة، واستخدموا الأسود رايةً ولباسًا. وتبنى متمردو أبي مسلم في احتجاجهم اللون الأبيض لراياتهم ولباسهم، الذي صادف كونه اللون المقدس عند المانويين الذين استخدموه لأثوابهم. كان اللقب السرياني للمانوية هو "أصحاب الثياب البيضاء".

كان للمانوية أشكالٌ مختلفة ممزوجة بالزرادشتية والمسيحية أو البوذية؛ لتتلاءم مع الشعوب التي تنتمي إلى حضارات مختلفة، وقد جذبت أفكارها الراقية الكثير من المسئولين المثقفين في البلاط العباسي، الذين أنشئوا طائفةً إسلامية تمزج المانوية بالفكر الشيعي الإسلامي. فرأت السلطات العباسية - بصفتها حارسة العقيدة - في نهاية الأمر أن الطائفة الشيعية المانوية تمثل تهديدًا لها، وبعد أن وصفوها بالزندقة شكُّوا في أن تعاطف أتباعها غير العباسيين يشبه تعاطف متمردي أبي مسلم في صغديا، فاضطهدوهم. رغم أن المانوية الشيعية لم تنجُ كطائفة إسلامية منفصلة، إلا أن الكثير من أتباعها لجئوا لاحقًا إلى الطائفة الإسماعيلية من الشيعة، التي تحولت في نهاية الأمر إلى هدفٍ لاضطهادٍ شديد مارسَهُ العباسيون.

وخلال فترة حُكم الخليفة التالي: المهدي (حكم من سنة ٧٧٥ إلى ٧٨٥ م) وقع معظم الصغديانيين تحت سيطرة المتمردين أصحاب الثياب البيضاء، الذين قادهم المقنع: "مدعي النبوة"، أحد مساعدي أبي مسلم، كما أن الأتراك الأوغوز الذين ارتدوا الأبيض قدموا مساعدتهم العسكرية للمتمردين، رغم عدم اعتناقهم بالإسلام أبدًا. وفي ذلك الوقت اتبع المتمردون الصغديانيون طائفةً إسلامية جديدة تسمى "المسيلمية" التي ذهبت بالكثير من التقاليد الأصلية، مثل: الصلاة خمس مرات في اليوم. وهكذا تحولت الحملات العباسية لسحق المتمردين الصغديانيين وحلفائهم الأتراك الأوغوز إلى حملات للحفاظ على طهارة الإسلام أيضًا.

وفي عام ٧٨٠ م أخمد العباسيون التمرد في بخارى، ثم انشغل العباسيون بإخماد ثورات أخرى، من خلال الحفاظ على طهارة الإسلام من طائفتي المسيلمية والشيعة المانوية. ولعل إلحاحهم وقسوتهم في التعامل مع الزندقة التي تنطوي على عناصر مانوية قد شجعهم عليه الكهنةُ الزرادشتيون السابقون الذين اعتنقوا الإسلام، فقد نصحوا الحكومة أن يحذوا حذو التسلط الساساني في المسائل الدينية.

تدمير العباسيين لفالابي
في بداية الثمانينيات من القرن الثامن الميلادي هاجم الحُكام العباسيون سوراشترا في السند، ودمروا المبنى الضخم للأديرة البوذية في فالابي. وبعد سقوط سلالة راشتراكوتا الحاكمة عام ٧٧٥ م أصبحت هذه المعاهد الدينية بلا رعاية ملكية، وعُرضة للتدمير بشكلٍ كبير، غير أن هذا التدمير يَجبُ أن يُفهَم في إطار الثورات التي اندلعت في صغديا والاضطهاد الذي لحق بحركتي المسيلمية والشيعة المانوية.

لم تكن فالابي مركزًا للدراسات البوذية فحسب، وإنما أحد أقدس الأماكن في طائفة شفيتامبارا الجاينية؛ حيث ضمت عددًا ضخمًا من المعابد الجاينية، وليس المعابد البوذية فقط. غير أن الجنود العباسيين هدموها كذلك. ويُرجح في الحقيقة أن المعابد الجاينية كانت هدفهم العسكري الرئيس. ويعني الاسم "شفيتامبارا" – "المرتدون البياض"؛ لأن الرهبان في هذه الطائفة الجاينية كانوا يرتدون ثيابًا بيضاء. ولا شك في أن الخطأ في تحديد أعضاء هذه الطائفة الجاينية بوصفهم حلفاء للفئة الملتحفة البياض التابعة لمتمردي جماعة أبي مسلم ولمؤيديهم الأتراك الأورغوز، وللمتشيعين المانويين، جعل الجنود العرب السنديين - بشكلٍ طبيعي - يعتقدون أن هؤلاء تهديد لهم، ويجب القضاء عليهم. وفور وصولهم إلى فالابي لم يميزوا بين المعابد الجاينية والأديرة البوذية، وبالتالي دمروا كل شيء.

وبما أن التاريخ الشعبي كثيرًا ما يصور الدمار الذي لحق بفالابي مثالاً للتعصب الإسلامي تجاه العقائد الأخرى، فدعونا نعاين السياسة الدينية العباسية كليةً؛ من أجل تقييم حُكم المؤرخين بموضوعية أكبر.

الفرق بين سياسة التعامل مع المانوية والديانات غير الإسلامية الأخرى
رغم حربهم المقدسة ضد المسيلميين والمتشيعين المانويين، وحربهم في سوراشترا ضد الجاينيين والبوذيين الذين خلطوا بينهم غالبًا وبين مؤيدي تلك الطوائف، تابع أوائل الخلفاء العباسيين السياسة الأموية في التسامح مع الديانات غير الإسلامية؛ إذ منحوا حالة الحماية (الذمة) لرعاياهم من البوذيين والزرادشتيين والمسيحيين النسطوريين واليهود، أما الطائفة الوحيدة غير المسلمة التي تعرضت للاضطهاد كانت المانوية.

ومن غير قصد كان العرب يتابعون سياستهم المناهضة للمانوية، التي اتبعها أسلافهم في صغديا، والساسانيون الإيرانيون، والصينيون التانغيون. ولكن لأسبابٍ مغايرة: أولاً: لا شك أن المانويين كانوا في تصور العرب مرتبطين مع الشيعة المانويين. ثانيًا: كانت المانوية تتحدى الاحتكام إلى الإسلام التقليدي بين المسلمين المثقفين في البلاط العباسي، وذلك مع حركة تبشيرها القوية، ودعوتها للتفوق على ظلمة هذا العالم وقذاراته. لذلك فأي مسلم يميل نحو المانوية لأسباب روحية كان يتهم بالتشيع المانوي. أو بتعبير آخر كان يُعد متمردًا مناهضًا للعباسيين.

اهتمام العباسيين الشديد بالحضارة الهندية
لم يمنح العباسيون الأوائل حالة الحماية لرعاياهم من غير المانويين وغير المسلمين في مملكتهم فحسب، وإنما كان لديهم اهتمام كبير بالحضارة الأجنبية، خاصة الهند. ورغم أن العرب والهنود كانوا يتمتعون بقدرٍ وافرٍ من الاتصال الاقتصادي والحضاري منذ أيام الجاهلية، وذلك من خلال التجار والمستوطنين من كل مجموعة تعيش في منطقة الآخر، أثار الغزو الأموي والفتح اللاحق للسند تبادلاً تجاريًّا بصورةٍ أكبر. فعلى سبيل المثال في عام ٧٦٢ م أكمل الخليفة المنصور (حكم من سنة ٧٥٤ إلى ٧٧٥ م) بناء مدينة بغداد، العاصمة العباسية الجديدة. ولم يتوقف الأمر على أن معماريين ومهندسين هنودًا قد صمموا المدينة، بل إنهم منحوها اسمَها من اللغة السنسكريتية والذي يعني "هِبة الله".

وفي عام ٧٧١ م أحضرت إحدى البعثات السياسية من الهند كتبًا هندية حول عِلم الفلك إلى بغداد، وهو الأمر الذي يشير إلى بداية الاهتمام العربي بالموضوع. فقد أدرك الخليفة العباسي أهمية الحسابات الفلكية والجغرافية الدقيقة لأهداف دينية، أي من أجل تحديد القِبْلة ووقت ظهور الهلال بشكلٍ دقيق. كما أنه قدرَ أن الحضارة الهندية كانت تتمتع بأعلى مستوى من التطور العلمي في المنطقة، وليس في تلك العلوم فقط، بل في الرياضيات والطب كذلك. وهذه العلوم، وإن كانت قد تطورت لدى غير المسلمين، فلم تمنع العرب من الانفتاح عليها.

أما الخليفة التالي: المهدي (حكم من سنة ٧٧٥ إلى ٧٨٥ م)، الذي دمرت قواته فالابي، فقد أسسَ مكتبًا للترجمة (بالعربية: بيتُ الحكمة) عمل فيه عُلماءُ من كل الحضارات الإقليمية والديانات، من أجل تحويل المؤلفات - خاصة المؤلفات العلمية - إلى اللغة العربية. ونسبةٌ كبيرة من هذه الأعمال كانت هندية المنشأ، ولم يكن مترجموها السنديون مسلمين كلهم، بل كان الكثير منهم هندوسًا وبوذيين. ومن الواضح أن العباسيين كانوا عمليين ومهتمين بالمعرفة، وأنهم - وبصورةٍ جوهرية - لم يعارضوا الديانات الأجنبية الهندية، أو الديانات غير المانوية. ويبدو أن خلفاءهم قد اتخذوا الوصية في حديث النبي "اطلبوا العِلمَ ولو في الصين" بصورةٍ جدية.

لم تكن السياسة المنفتحة وغير الطائفية لطلب المعرفة مجرد حركة عابرة، بل تابعها الخليفة التالي: هارون الرشيد (حكم من سنة ٧٨٦ إلى ٨٠٩ م) الذي نشرها على نطاقٍ أوسع، فقد كان وزيره يحيى بن برمك – مثلاً - حفيدًا مسلِمًا لأحد الرؤساء الإداريين البوذيين لدير نافا فيهارا، وبتأثيرٍ منه دعا الخليفة الكثير من العلماء والمعلمين إلى بغداد من الهند، ومن البوذيين بشكلٍ خاص. ولا شك أن العلماء البوذيين هناك قد أصبحوا على عِلمٍ بالتوجه نحو الشيعة المانويين بين المثقفين في البلاط العباسي، وبالتهديد الذي تصورته السلطات حولهم.

بدأ مكتب الترجمة الآن، بعد أن كان مختصًّا بالمؤلفات العلمية سابقًا، في إنتاج أعمالٍ حول الطبيعة الدينية كذلك. فعلى سبيل المثال ظهرت نُسخة عربية في ذلك الوقت عن أعمار بوذا السابقة، "كِتاب البد" ، اعتمادًا على نصيْن باللغة السنكريتية، كتاب "سبحة حباتها مشاهد من حياة سابقة" و"أعمال بوذا" لأشفاغوشا. وقد ألحقت أجزاء منه في الكتاب الملحمي: "كتاب بلوهر وبوذاسف" الذي ألفه أبان اللاحقي (٧٥٠ – ٨١٥ م) وهو شاعرٌ بغدادي. رغم أن نُسخته لم تعد موجودة فقد نسخ الكثير منها لاحقًا بعدة لغات، أما النسخة العربية المتبقية فهي التي خطها ابن بابويه القمي (توفي ٩٩١ م). وانتقل هذا العمل من المصادر الإسلامية إلى الأدب المسيحي واليهودي مثل أسطورةِ برلعام ويهوشفاط، التي لا تزال تحتفظ بالكثير من التعاليم البوذية. وهناك مثالٌ آخر عن الانفتاح العباسي نحو البوذية هو كِتابُ "الفِهرِست"، وهو دليلٌ لمؤلفات مسلمة وغير مسلمة قد أُعِدت في ذلك الوقت، وضمت في داخلها قائمةً بالأعمال البوذية.

انتشار الإسلام بين غير المسلمين في تركستان الغربية
كان هارون الرشيد أعظم الخلفاء العباسيين وأكثرهم ثقافةً، فقد ازدهر الشعر العربي والأدب والفلسفة والعلوم والطب والفن في ظل حُكمه. فقد كان للحضارة الإسلامية المرموقة في عهده عنصرُ جذبٍ ينمو بالنسبة للأرستقراطيين أصحاب الأراضي، وسكان المدن غير العرب وغير المسلمين في تركستان الغربية، الذين كانت عقلياتهم تختلف تمامًا عن عقلية المحاربين المتنقلين بين السهول. وبالتالي اعتنق مثل هؤلاء الأشخاص تدريجيًّا العقيدة الإسلامية بأعدادٍ كبيرةٍ جدًّا. أما الديانات غير الإسلامية المحمية - مثل البوذية - فحافظت على قوتها غالبًا بين طبقات الفلاحين الفقراء في الضواحي، الذين اتبعوا مثل تلك الديانات بتشدد أكثر من السابق؛ لأنهم بدءوا يتحولون إلى أقليات إثنية ودينية. وتوافدوا بشكلٍ خاص إلى الأضرحة الدينية ليتعبَّدوا فيها.

تقييم تدمير فالابي
إذًا في إطار هذه الصورة الأوسع لا بُد من النظر إلى التدمير الذي ألحقه العباسيون بالأديرة البوذية في فالابي. فقد كان الإسلام يكسب أتباعًا من صغديا وباكتريا في ذلك الوقت، من خلال عنصر الجذب الذي كانت تتمتع به حضارته وعِلمه، وليس بالسيف. ولم تكن البوذية تفتقد بالطبع إلى المعرفة والثقافة، ولكن كان يحتاج المرء أن يدخل الدير من أجل أن ينهل منها، رغم أن دير نافا فيهارا كان يمارس نشاطه خلال تلك الفترة، إلا أنه كان ينحسر بصورةٍ بارزة، ولم يكن إلا معهدًا للتعلم فحسب. كان هناك الكثير من البوذيين، أما أعظم الجامعات الرهبانية البوذية في أيامها، مثل نالاندا، فكانت بعيدةً جدًّا في الجزء الأوسط من الهند الشمالية. وهكذا كلما صار من السهل التوجه إلى الحضارة الإسلامية المرموقة ودراساتها في آسيا الوسطى، تفوقت بذلك على البوذية بين الطبقات المدنية العليا والمتعلمة. وكان ذلك فوق كل شيء آليةً سِلمية.

كان الدمار الذي لحق بفالابي إذًا استثناءً للتيارات الدينية العامة، والسياسات الرسمية في الفترة العباسية المبكرة. وهناك تفسيران معقولان لما حصل: إما أن يكون ذلك قد حصل نتيجةَ أعمالِ قائدٍ متعصبٍ محارِب يتصرف على هواه. وإما أن يكون ذلك عمليةً أسيءَ فهمُها بسبب خلط العرب بين الجاينيين "أصحاب الثياب البيضاء" المحليين ومؤيدي أبي مُسلم، وبالتالي عدم قدرتهم على التمييز بين البوذيين والجاينيين . ولم يكن ذلك جزءًا من جِهادٍ محددٍ ضد البوذية.

تعني الكلمة العربية "جِهاد" بصورةٍ حرفية "السعي بجهد"، أي: لخدمة الله. وهي لا تعني حربًا مقدسة تهدُف إلى تحويل الكفار إلى العقيدة المستقيمة بالقوة، وإنما هي عبارة عن عمل عسكري للدفاع عن الأخوة المسلمين الذين يتعرضون للهجوم، بسبب اتباعهم الإسلام الصحيح، أو منعهم بطريقةٍ ما من ممارسة حياتهم الروحية. ولم يكن بوذيو فالابي يشكلون تهديدًا للإسلام؛ ولذلك كانوا رعايا أُسيءَ تحديد هويتهم من أجل جِهادٍ مبرر.

[انظر: الحروب المقدسة في البوذية والإسلام: أسطورة شامبالا.]

الغزو العباسي لغندهارا
رغم أن القارلوق والعباسيين ألحقوا الهزيمة بالصين التانغية عند نهر طلاس عام ٧٥١ م، إلا أن القارلوق، الذين استولوا على سياب وفرغانة وكاشغر كذلك، سرعان ما نقضوا حِلفهم مع العرب، وانضموا إلى التبتيين وأتباعهم الشاهيين الأتراك شاهي في كابول، وانضم إليهم كذلك الأوغوز أصحاب الثياب البيضاء، الذين كانوا يدعمون متمردي أبي مُسلم، وذلك في بذل جهدٍ متضافر للسيطرة على صغديا وباكتريا العباسيتيْن؛ ولذلك دعم التحالفُ متمردين من أمثال أبي مُسلم ضد العباسيين، مثل ذلك التمرد الذي نشبَ في سمرقند، وقاده رافع بن ليث بين عامي ٨٠٦ و٨٠٨ م، حتى إن قواتهم المتحالفة حاصرت سمرقند لمساندة المتمردين.

توفي الخليفة الرشيد عام ٨٠٨ م وهو في طريقه لإخماد التمرد، فانقسمت الإمبراطورية بعد وفاته بين ابنيْه حسب وصيته. ولكنَّ الأخوين عقدَا سلامًا مؤقتًا مع التبتيين وحلفائهم؛ ليتمكنا من خوض حربٍ أهلية من أجل السيطرة على الدولة العباسية كلها، وقد انتصر المأمون، وأصبح الخليفة التالي (حكم من سنة ٨١٣ إلى ٨٣٣ م).

ومع حلول عام ٨١٥ م حاز العباسيون النصرَ، وأُجبِرَ حاكم الشاهيين الأتراك، المعروف بشاهِ كابول، إلى المثول بين يدي الخليفة في مرو، فاعتنق الإسلام الصحيح. وبصفته رمزًا لاستسلام دولته أرسل تمثالاً ذهبيًّا لبوذا إلى مكة؛ حيث احتُفِظ به في خزينة الكعبة سنتيْن، وعُرِض على الناس ليعلموا أن الله قد هدى ملك التبت إلى الإسلام. وقد خلط العربُ بين ملك التبت وأتباعه الشاهيين الأتراك في كابول. وفي عام ٨١٧ م صهر العربُ تمثال بوذا في الكعبة لصك نقودٍ ذهبية.

وبعد انتصارهم على الشاهيين الأتراك هاجم العباسيون منطقة جيلجيت التي تقع تحت سيطرة التبتيين، وخلال فترة قصيرة استولوا عليها أيضًا. فأرسلوا إلى بغداد أحد القادة التبتيين المأسورين وهو ذليل. ولم يُكمل القادة العرب انتصاراتهم نحو الشرق أو الشمال أبدًا، رغم انتصارهم على التبتيين، والاستيلاء على فرغانة من القارلوق كذلك. وكان ذلك نتيجةً لأن العباسيين قد بدءوا يفقدون سيطرتهم على تركستان الغربية وإيران الشرقية بشكلٍ سريع؛ نتيجةً لاستيلاء القادة العسكريين المحليين على السلطة في هذه البلاد وجعلها إماراتٍ إسلاميةٍ مستقلة.

كانت باكتريا أول منطقة تعلن حُكمًا ذاتيًّا؛ حيث أسس القائد طاهر السلالةَ الطاهرية الحاكمة (٨١٩ – ٨٧٣ م). وبعد أن انسحب العباسيون من كابول وجيلجيت، محولين اهتمامهم إلى هذه المشاكل التي لها الأولوية، استعاد التبتيون والشاهيون الأتراك أملاكهم السابقة. ورغم التحولات الدينية الإجبارية لقادة تلك البلاد لم يضطهد العباسيون البوذيين هناك. وفي الحقيقة قد حافظ العرب على التجارة مع التبتيين في ذلك الوقت، مستوردين المِسك بصورةٍ أساسية. حتى إن المسلمين والبوذيين قد رسخوا روابط حضارية فيما بينهم. وعلى سبيل المثال ترجم فضل الله الأعمال الكلاسيكية الفارسية "روضة الورد" و"البستان" إلى التبتية.

تحليل الحملة العباسية وانتصارها
أعلن الخليفة المأمون حملته جهادًا ضد التحالف التبتي-الشاهيين الأتراك-القارلوقي-الأوغوزي، أي حربًا مقدسةً. كان يدافع بذلك عن رعاياه المسلمين ضد المتعصبين الزنادقة الذين كانوا يشوهون ممارستهم للإيمان القويم بحملات من الإرهاب والتمرد. وعندما حقق انتصاره لم يكن إصراره على تحويل شاه كابول إلى الإسلام الصحيح هو السبب الوحيد، بل إرسال تمثال بوذا ليُعرَض في الكعبةِ دليلاً على انتصار الإسلام.

لكن التفكير فيمن أوحى للعباسيين بتدمير فالابي بلا شك يُشير إلى أن المأمون غالبًا أخطأ في تحديد هوية أعدائه الذين احتلهم، وذلك من خلال اعتبارهم خطأً من أعضاء الطائفتيْن: المسيلمية والشيعة المانوية. وكان جهادهُ ضدهم ببساطة امتدادًا لحملات أبيه المحلية السابقة. ولكن بالرغم من أن أعضاء التحالفات الأجنبية دعمت متمردي أبي مُسلم إلا أنهم لم يتبعوا - بأي شكلٍ من الأشكال - عقيدتهم أو عقيدة الشيعة المانوية. ولو كانوا فعلوا ذلك لَما كان معقولاً - في تلك الفترة - أن يدخل أيضًا التبتيون والقارلوقُ في حرب مع الأويغوريين أبطال العالم المانوي الصغدياني.

لا شك في أن التبتيين كانوا يجهلون المضامين الدينية الإسلامية للمتمردين الصغديانيين. بالإضافة إلى ذلك، ومثل الجهود الصينية التانغية قبل ستين سنةً، لم تكن محاولة التبتيين في زعزعة استقرار الحُكم العباسي جزءًا من مخطط لكسب أتباع جدد للبوذية. فقد كان الأمر تحركًا سياسيًّا واقتصاديًّا بصورة كاملة لحيازة السلطة والأرض والضرائب من التجارة على طريق الحرير. وكان القادة التبتيون في ذلك الوقت مشغولين بجعل البوذية مستقرة داخل حدودهم، والحفاظ عليها خاليةً من الفساد الداخلي والسلطة العَلمانية. ورغم أن هؤلاء القادة قد شاركوا في الحكومة إلا أن نطاق تأثيرهم لم يتجاوز الشئون العسكرية. وكان همهم في العلاقات الخارجية مركزًا بصورةٍ كاملة على العلاقات الحضارية مع الهند البالية والصين الهانية تجاه مستقبل البوذية في التبت.

كان العباسيون هم أيضًا يجهلون العقائد الدينية للتبتيين والشاهيين الأتراك. فإن ما رأوه كان ببساطة قوات أجنبية تدعم طائفة أو متمردين متعصبين متدينين، ولم يتدخلوا في ممارسة رعاياهم للإسلام فحسب، ولعل ما يفوق ذلك أهمية هو محاولتهم عزلهم عن السلطة السياسية. كان الجهاد في الحقيقة موجهًا نحو سياسات الشاهيين الأتراك والتبتيين، وليس تجاه ديانتهم البوذية.

وبأي حالٍ من الأحوال لم يكن المأمون متعصبًا لدينه محدودَ التفكير، بل كان مثل أبيه هارون الرشيد يتمتع بانفتاحٍ حضاري، واستمر في رعاية ترجمة المؤلفات الهندية، ولم يشهد عهده أفقًا جديدة في العصر العلمي للعباسيين فحسب، بل شهد انتشارًا واسعًا للمعلومات الإيجابية حول الحضارة الهندية بين العرب ورعاياهم المسلمين. وفي عام ٨١٥ م – مثلاً - وهي السنة نفسها التي هزمَ فيها الخليفةُ شاه كابول، نشَرَ الجاحظ (ولد عام ٧٧٦ م) في بغداد كتاب "فخرُ السودان على البيضان"، الذي مجَّد الإنجازات الحضارية العظيمة للهند. فكانت هناك إذًا مشاعر إيجابية تجاه الهند عند العباسيين في ذلك الوقت، وكان ذلك يشمل - بلا شك - الهنود من كل الديانات، بما فيها البوذية.

لو كان جهاد المأمون ضد البوذية نفسها لما كان عليه أن يحارب التحالف التبتي-الشاهيين الأتراك-القارلوقي-الأوغوزي فقط، بل شبه القارة الهندية كذلك؛ حيث كانت البوذية بارزةً بصورةٍ أكبر وراسخةً جدًّا. ولكن قوات الخليفة هاجمت جيلجيت وفرغانة، ولم تهاجم أوديانا. وذلك بعد تحقيق الانتصار في كابول. فقد كان لهم أهداف أخرى.

دعونا نمعن النظر في وضع التبت قُبيل انتصارات المأمون في غندهارا وجيلجيت؛ حتى نعطي الوضع حقه كاملاً، فإن من شأن ذلك أن يساعدنا أيضًا على فهم السبب وراء التأثير الطفيف لاستسلام شاه كابول والقائد العسكري التبتي على انتشار الإسلام في التبت أو في ولاياتها التابعة لها.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:01 am

القسم الثاني: الفترة العباسية في عهدها المبكر (٧٥٠ - منتصف القرن التاسع بعد الميلاد)
١١ المناورات السياسية-الدينية التبتية في نهاية القرن الثامن الميلادي
العلاقات التبتية مع الصين
وبعد قرنٍ من الزمن كان الإمبراطور مي-أغتسوم مهتمًّا ببوذية الصين الهانية بشكلٍ خاص. وكان ذلك بلا شك بسبب تأثير زوجته البوذية الصينية الهانية الإمبراطورة جين تشينغ. وعلى الرغم من المكانة الضعيفة التي وصلت إليها البوذية في الصين التانغية بعد فرض القيود عليها من قبَل شوانزونغ عام ٧٤٠ م، أرسل مي-أغتسوم بعثةً إلى هناك عام ٧٥١ م للتعرف أكثر على تلك الديانة، فالاهتمام الذي أظهره ابنه الصغير - الإمبراطور التبتي فيما بعد - تري سونغديتسين (٧٤٢ – ٧٩٨ م) ظهر أيضًا من خلال تشجيعه لإرسال وفد لهذه المهمة. وقد قاد الوفدَ با سانغشي ابن المندوب التبتي السابق لدى سلالة تانغ الصينية.

وفي عام ٧٥٥ م اغتال وزراء المعارَضة - المهووسون بكراهية كل ما هو أجنبي - الإمبراطورَ مي-أغتسوم، وكانت تلك المجموعة نفسها هي التي طردت قبل ستة عشر عامًا الرهبانَ الصينيين والخوتانيين من التبت، وهم الرهبان الذين كانت الإمبراطورة الصينية الهانية الإثنية جين تشينغ قد دعتهم سابقًا. ووقعت عملية الاغتيال في السنة نفسها التي حدث فيها تمرد آن لوشان، وكما حدث سابقًا يبدو أن الوزراء خافوا غالبًا من ميول الإمبراطور نحو البوذية والصين الهانية، وأنها قد تجلب كارثة على التبت. ولعل العباسيين أطاحوا بالخلافة الأموية عام ٧٥٠ م كذلك، وأيَّد تحركهم الجريء هذا تمرد آن لوشان. فالهجوم الذي قاده آن لوشان ضد بوذية الصين الهانية قد حرض الوزراء على قمع البوذية في التبت، وهو قمعٌ دامَ ستة عشر عامًا، لكن من المرجح أن الاضطهاد كان المقصود به أنصار التانغيين في البلاط الملكي.

دعوة شانتاراكشيتا إلى التبت
عاد الوفد الذي رأَسَه با سانغشي من الصين إلى التبت عام ٧٥٦ م، وهو يحمل معه كتبًا بوذية. وقد أخفى با سانغشي تلك الكتب بصورةٍ مؤقتة؛ وذلك بسبب موجة العداء للبوذية آنذاك، لكنه شجَّع تري سونغديتسين على التقرب من البوذية، وهو لا يزال شابًّا في ذلك الوقت.

بلغ سونغديتسين سن الرشد عام ٧٦١ م، وأعلن نفسه بوذيًّا بصورةٍ رسمية بعد جلوسه على العرش. حينئذٍ أرسل وفدًا إلى إمبراطورية بالا الحديثة التأسيس (٧٥٠ – نهاية القرن الثاني عشر الميلادي) في شمال الهند، وقد عهِدَ بالبعثة إلى سيلنانغ ليرأسها، ثم يدعو المعلم البوذي شانتاراكشيتا رئيس دير نالاندا إلى التبت أول مرة.

وبعد فترة قصيرة من وصول رئيس الدير انتشر وباء الجدري في التبت، فأرجعت العصبة المهووسة بكراهية كل ما هو أجنبي سبب الوباء إلى الراهب الأجنبي، وطردوه من التبت، مثلما فعلوا من قبل مع الرهبان الصينيين الهانيين والخوتانيين في التبت عندما تفشى وباء مماثل عام ٧٣٩ م.

لم يفشل تري سونغديتسين عندما نوَى تقوية البوذية في مملكته؛ فقد كان قائدًا شديد القوة والطموح، وخلال فترة حكمه اعتمدت التبت سياسةً توسعية عنيفة، فقد استولى مرة أخرى على أجزاء شاسعة من شمال شرق التبت التي سبق للصين التانغية أن استحوذت عليها، وذلك عندما استغل الضعف الذي لحق بتانغ بعد تمرد آن لوشان، حتى إنه أحكم قبضته على تشانغآن - عاصمة تانغ - فترة وجيزة عام ٧٦٣ م، وهي السنة اللاحقة لاعتناق الخاقان الأويغوري بوغو المانوية.

[ شاهد الخريطة الثامنة عشرة: التبت بداية القرن التاسع.]

انتقل تري سونغديتسين بعد ذلك إلى ممر قانسو، فمنع بذلك دخول الصين التانغية بشكل مباشر إلى طريق الحرير، الفرع الشمالي الأساسي الواقع بين المواقع الأمامية للتانغيين في تورفان وكوتشا. وأرغم ذلك التجارَ الصينيين على الالتفاف حول المنطقة التي تقع تحت سيطرة التبتيين، من خلال العبور إلى الشمال عبر الأراضي الأويغورية في منغوليا الداخلية. ساعتها دخل التبتيون حربًا طويلة الأمد على ثلاث جبهات ضد الأويغوريين والصين الهانية للسيطرة على تورفان وبشباليق؛ حيث حافظت الحكومة التانغية على تكلفة ضئيلة فحسب. وهكذا حُوِّل طريق التجارة الصينية إلى منغوليا الداخلية، وكان يجب عليها أن تمر عبر هاتيْن المدينتيْنِ لتصل إلى الشمال الرئيس من طريق الحرير.

أرسل تري سونغديتسين مرةً أخرى سيلنانغ إلى الهند لدعوة شانتاراكشيتا من جديد، مدفوعًا بالانتصارات العسكرية التي عززت من ثقته وقوته، ولكن في هذه المرة أحضر معه رئيسًا لدير الهندي وهو بادماسامبافا (غورو رينبوتشي)، لترويض القوى الروحية في التبت التي كانت عدائية تجاه ترسيخ البوذية.

بناء دير سمياي
تمتعت الجامعات الرهبانية الهندية الضخمة في بيهار، مثل نالاندا المعهد الأساسي الذي خرج منه شانتاراكشيتا، بدعمٍ كبير من الدولة عدةَ قرون، حتى أثناء التغيرات التي مرت بها الأسَر السياسية الحاكمة. وقد دعم الإمبراطور هارشا (٦٠٦ – ٦٤٧ م) من سلالة الغوبتا الحاكمة السابقة ألف راهبٍ من نالاندا في بلاطه، حتى بلغ به الحال أن لمس أقدام الراهب الصيني الهاني شوانزونغ، دلالةً على الاحترام.

كانت سلالة بالا الحاكمة تدعم البوذية بصورةٍ أكبر؛ إذ أنشأ إمبراطورها الأول غوبالا ( حكم من سنة ٧٥٠ إلى ٧٧٠ م) جامعة أودانتابوري الرهبانية البوذية، في حين أسَّس إمبراطورها الثاني دارمابالا (٧٧٠ – ٨١٠ م) فيكراماشيلا وسومابورا. ورغم أن دارامبالا قد وسَّع إمبراطوريته لتصل إلى حدود غندهارا في الغرب والبنغال في الشرق، إلا أنه لم يشمل الأديرة البوذية في التقلبات السياسية والعسكرية التي مرت بها الدولة، ولم يحاول تنظيمها. وهكذا تمتعت أديرة شمال الهند بحرِّية تامة لمتابعة التدريب الديني.

في عام ٧٦٦ م منح تري سونغديتسين الذي تأثَّر بنموذج غوبالا الإمبراطور الهندي تفويضًا لبناء دير سمياي على نمط أودانتابوري، وبذلك يكون أول دير بوذي في البلاد يخصص لاستخدام التبتيين بشكل أساسي. وأثناء عملية بنائه جرت سيامة أول سبعة تبتيين رهبانًا، ولدى الانتهاء من بنائه عام ٧٧٥ م انضم ما يزيد عن ثلاث مئة مواطن إلى صفوفهم. وقبل ذلك لم توجد المعابد البوذية إلا في التبت وبعض المرافق الرهبانية الصغيرة، التي بُنِيت للرهبان الأجانب، من أمثال اللاجئين الخوتانيين والصينيين الهانيين عام ٧٢٠ م.

ورغم سيامة الرهبان التبتيين ضمن التقليد الهندي، فقد اتبع تري سونغديتسين سياسة من التوليف الحضاري. لكن كان من أسباب اعتماد هذه السياسة ربما كان الرغبة في كسب منفعةٍ سياسية. فلقد كان بحاجة إلى موازنة مطالب ثلاث مجموعات متنافسة في بلاطه، وهم: التبتيون الأصليون، والموالون الهنود، والموالون الصينيون. وهكذا بنى المعبد الرئيس في سمياي، وجعل له ثلاث طبقات؛ حيث صُمِّمت كل طبقة حسب الطراز المعماري للحضارات التبتية والهندية الشمالية والصينية الهانية. وتُحيي الأولى ذكرى مؤسس هذه السلالة سونغتسين-غامبو، في محاولةٍ لجلب توازن مشابه من خلال الزواج من أميرات الشانغ-شُنغ والصين الهانية لأهداف سياسية.

العلاقات الحضارية مع الصين
رغم أن تري سونغديتسين قد حارب ضد الصين حتى يسيطر على الجهة الغربية من طريق الحرير، غير أنه كما يبدو كان يفتقر إلى الميل الحضاري المضاد للصين الهانية، وخاصة المعادي للبوذية، ولذلك كانت دوافعه العسكرية سياسيةً واقتصاديةً بشكلٍ أساسي.

وبعد إخماد تمرد آن لوشان واستعادة الحكم الملكي لم يرفع أباطرة التانغ اللاحقون القيودَ التي فرضها الإمبراطور شوانزونغ على البوذية فحسب، بل إنهم أيَّدوا الديانة نفسها. ولكن على عكس ما حدث في الهند البالية فإن البوذيين الصينيين الهانيين قد فعلوا مثلهم، أي أنهم ساندوا الدولة. وليس من الواضح إن كان ذلك نتيجةً لمبادرةٍ خاصة من البوذيين، أم من سياسة الدولة في استغلالٍ منها لشعبية البوذية، من أجل ترسيخ دعائم حكمها. ويبدو أن الاحتمال الأخير هو الأرجح؛ وذلك إذا ما نظرنا إلى أفعال مؤسس سلالة السوي الحاكمة الذي أعلن نفسه إمبراطورًا كونيًّا، والإمبراطورة التانغية وو التي أعلنت نفسها مايتريا بوذا.

وفي عام ٧٦٦ م أنشأ الإمبراطور دايزونغ (حكم من سنة ٧٦٣ إلى ٧٨٠ م) ديرًا جديدًا في ووتايشان يُدعى "معبد الفسطاط الذهبي الذي يحمي من القوى الداخلية ويدافع عن الأمة". ولما ظهر نص بوذي صيني هاني شعبي جديد، وهو "سوترا ملك بوديساتفا الذي يدافع عن الأمة". عاد الإمبراطور التانغي إلى اضطهاد المانوية من جديد من عام ٧٦٨ إلى ٧٧١ م؛ للدفاع عن "نقاء" البوذية من هذه الديانة الموصومة بالتقليد الكاذب.

اعتمدت هذه التطورات نمط البوذية الصينية الشمالية خلال فترةٍ شهدت تعاقب ست سلالات حاكمة (٢٨٠ – ٥٨٩ م). في ذلك الوقت أحكم حُكَّام شمال الصين من غير الهانيين السيطرة على الأديرة البوذية، وساعدوها في ممارسة الشعائر لتحقيق نجاحهم العسكري. أمَّا الرهبان الذين طلبوا حماية ملكية للنجاة في أوقات الخطر فقد أُرغِموا على الاعتراف بهؤلاء الحُكام على أنهم بوذيُّون، وعلى خدمة حكوماتهم، وعلى فَهم نقاء التعاليم البوذية بغرض الموافقة على السياسات الصارمة التي اعتمدها معظم هؤلاء الحُكام.

كان تري سونغديتسين مهتمًّا بمعرفة المزيد عن هذه التطورات الأخيرة في الصين، وذلك حسب سياسته التي تعتمد توليفًا حضاريًّا للعادات التبتية والهندية والصينية. وهكذا في نهاية الستِّينيَّات من القرن الثامن لم يوفد با سانغشي فحسب، بل سيلنانغ أيضًا في بعثة ثانية إلى الصين الهانية. وفور عودتهما بنى الإمبراطور المعبد البوذي نانغ لهاكانغ في دراغمار، وكان موقعه قريبًا من البلاط الملكي، وقريبًا من دير سمياي الذي كان لا يزال قيد الإنشاء. وقد صُمِّم المعبد تيمُّنًا بـ"الفسطاط الذهبي الذي يحمي من القوى الداخلية ويدافع عن الأمة". وكانت النتيجة أن احتلت البوذية مركزًا ثانويًّا في الدولة، كما هي الحال في الصين الهانية، وحكم عليها بالالتزام بخدمة مصالح السلطة الملكية التبتية التي تزداد باستمرار.

إنهاء بناء دير سمياي
اكتمل بناء دير سمياي عام ٧٧٥ م، وعيَّن الإمبراطورُ شانتاراكشيتا أول رئيس له، لكن بادماسامبافا غادر بُعيْد إكماله، فقد شعر بأن التبتيين لم يكونوا جاهزين بعدُ لتلقِّي تعاليم بوذا، خاصة تلك المتعلقة بالدجوغتشين، أي (الكمال العظيم). لذلك أخفى النصوص المتعلقة بالموضوع في جدران الدير وأعمدته، واكتُشِفت في وقتٍ لاحقٍ قد يكون مناسبًا لفهمها بعمق.

وفي هذه الأثناء دُعِيَ كلٌّ من المعلميْنِ: الهندي والصيني الهاني إلى سمياي؛ حتى يساعدا في ترجمة الكتب البوذية وتعليمها. ولكن سمياي لم يكن في الأساس محيطًا بالبوذية فقط، بل بمجالات أوسع من الثقافة. كما حضر معلمو التقاليد الأصلية التبتية الشاملة كذلك لترجمة الكتب من لغة الشانغ-شُنغ إلى التبتية، وفي هذا المجال أيضًا عكس الدير الأصلي السياسة الملكية للتوليف الحضاري.

وفي عام ٧٧٩ م أعلن الإمبراطور البوذيةَ ديانةَ رسمية للتبت، وأعفى بعض العائلات الثرية من الضرائب، وكلفهم بدلاً من ذلك بدعم المجتمع الرهباني السريع النمو ماليًّا، فشكَّلت مئتا عائلة موردًا لتقدِمات المعبد الرئيس في لاسا، في حين تبرعت ثلاث عائلات بالمؤن لدعم كل راهب.

ولعل تري سونغديتسين قد اتخذ هذه الخطوة أسوةً بالملك شيفاديفا الثاني (٧٠٤ – ٧٥٠ م) من سلالة ليتشافي النيبالية الحاكمة. وفي عام ٧٤٩ م كلَّف هذا الملك النيبالي - رغم أنه لم يعلن البوذية ديانة رسمية - قريةً كاملة بدعم ديره الشخصي شيفاديفا فيهارا. ورغم أن ملكيْ ميتراكا وراشتراكوتا من سوراشترا اعتمدا سياسةً مشابهة لدعم أديرة فالابي، إلا أن احتمال أن تري سونغديتسين كان على عِلمٍ بهذه السابقة هو احتمالٌ ضعيف.

السلام مع الصين وتأسيس المجلس الديني التبتي
وفي عام ٧٨١ م طلب الإمبراطور التبتي الذي كان يسعى لتحقيق توليفٍ حضاري من الإمبراطور التانغي الجديد دايزونغ (حكم من سنة ٧٨٠ إلى ٨٠٥ م) إرسال راهبيْن مرة كل سنتين من الصين الهانية إلى سمياي لتعليم التبتيين، وبعد سنتيْن وفي عام ٧٨٣ م وقعت الصين الهانية والتبت معاهدةَ سلامٍ بينهما، بعد عقودٍ من الحرب على تورفان وبشباليق، تاركيْن المدينتيْنِ التركستانيتيْن الشرقيتين تحت تصرف القوات التانغية.

وتوفي شانتاراكشيتا الرئيس الهندي لدير سمياي بعد فترة وجيزة عام ٧٨٣ م. وقد حذَّر قبل وفاته تري سونغديتسين من أن التعاليم البوذية ستنحسر مستقبلاً في التبت بسبب تأثير الصين الهانية، ونصح الإمبراطور أن يدعو تلميذه كامالاشيلا من الهند لحل هذه المشكلة.

وعيَّن تري سونغديتسين سيلنانغ خلفًا لشانتاراكشيتا، بصفته الرئيس التبتي الأول لدير سمياي. وفي السنة نفسها، أي ٧٨٣ م، أسَّس الإمبراطور مجلسًا دينيًّا يرأسه رئيس دير سمياي، للبت في كل الشئون الدينية. وكان ذلك بدايةَ النموذج التبتي للحكومة التي ضمت في النهاية وزراء متساويين عاديين، ووزراء تمت سيامتهم. وإذا فهمنا تطور هذا النموذج في إطار سياسة ذلك الوقت ساعدنا هذا على فهم سبب عدم انتشار الإسلام في التبت، أو في ولاياتها التابعة بعد استسلام شاه كابول وقائد الجيش التبتي للعباسيين قبل ثلاثة عقود.

تحليل لسياسة المجلس الديني التبتي
كانت هناك ثلاث مجموعات في البلاط الملكي التبتي في ذلك الوقت: مؤيدو الهند، ومؤيدو الصين الهانية، والمهووسون بكراهية كل ما هو أجنبي. وكل واحدة من هذه المجموعات تدعمها عشائر خاصة. وكان سيلنانغ عضوًا في عشيرةٍ رأَست المجموعة المؤيدة للهند، ولكونه رئيسًا لبعثات ملكية إلى كلٍّ من الهند البالية والصين الهانية فقد كان يعرف مدى تفضيل حالة البوذية في الماضي، مقارنةً بالحاضر. فقد حصلت الأديرة في الهند البالية على رعاية الدولة، وتمتعت باستقلالية تامة، دون أية التزامات نحو الدولة. كما أنها لم تدخل في علاقات مع بعضها البعض. بالإضافة إلى ذلك بدأ الأباطرة الباليون يرسلون دفعات الجزية إلى البلاط التبتي منذ زيارة سيلنانغ الأخيرة، رغم أن هذا الوصف قد يكون كناية كذلك عن إرسال وفود التجارة. ورغم ذلك لعلَّ الأمل كان موجودًا في أن تدعم دولة بالا المعاهد البوذية في التبت. ومن جهة أخرى لم تحصل الأديرة البوذية في الصين التانغية على دعم الدولة إلا مقابل الخضوع لسلطة الحكومة.

ولطالما كانت البوذية تحظى برعاية الحكومة في الصين الهانية- خاصة في الشمال – وحكم مشترك. ولم تتمتع الديانة غالبًا باستقرار مطمئن؛ وذلك بسبب أن الأسر الحاكمة كانت تواجه خطر التعرض للإطاحة في كثيرٍ من الأحيان. فعلى سبيل المثال كان لسلالة وي الشمالية التوباوية (٣٨٦ – ٥٣٥ م) مكتبٌ لإدارة الأديرة البوذية في المملكة، مع راهبٍ رئيس يختاره الإمبراطور، وكان هذا المكتب يتمتع بصلاحية نفي الرهبان الفاسدين من الأديرة، ممن تكبروا على المنهج الرهباني وأساءوا لمركزهم. وقد مارس المكتب غالبًا وظائفه التنظيمية حسب القانون، ولكن عندما سيطر الوزراء الغيورون من التفضيل الملكي للبوذية على الحُكومة، حُلَّ هذا المكتب؛ لتتبع ذلك اضطهادات واسعة النطاق ضد البوذين عام ٤٤٦ م.

لعل تري سونغديتسين، ومن خلال تأسيسه مجلسًا دينيًّا، كان يعتمد النمط الصيني الهاني، لكنه خلط بعض العناصر الهندية والتبتية معًا. ووفقًا للسوابق الهندية-النيبالية يتوجب على الدولة دعم الأديرة من خلال إعفاء عائلات معينة من الضريبة، وتكليفها بالمقابل بتوفير مؤَن للأديرة والرهبان. وكانت الأديرة تمارس شعائر معينة لصالح الدولة مثل الذي كان في الصين الهانية أيضًا. وكان ذلك يتوافق أيضًا مع التقليد التبتي طويل الأمد في خدمة كهنة التقليد الأصلي السابق للبوذية للبلاط الملكي، من خلال ممارسة الشعائر. وكما كان الحال في نمط الصين الهانية كان المكتب يُنظِّم العلاقات البوذية الداخلية، ولكن الأديرة قد تمتعت باستقلالية عن الأنظمة الحكومية كما كانت الأديرة في النمط الهندي.

إن سيلنانغ - بصفته عضوًا في الشعائر الرئيسة لتأييد الهند في البلاط الملكي، وأول رئيس للمجلس الديني - قد فضَّل ترسيخ علاقاته مع الهند بصورة متقاربة، وإضعاف علاقاته مع الصين الهانية بشكلٍ طبيعي. بالإضافة إلى ذلك كان مهتمًّا بشكل خاص بتفادي سلطة حكومية هانية على النمط الصيني أو اضطهادٍ البوذية. ولكن تري سونغديتسين كان قد أحنى رأسه أمام الصين الهانية على الجبهة السياسية؛ حيث عزَّز ذلك قبضةَ المجموعة المؤيدة للصين في البلاط الملكي. فلقد كان الوضع مواتيًا بالنسبة لهذه المجموعة؛ كي تدفع الإمبراطور لتطبيق سياسة سلطة حكومية على النمط الصيني الهاني تجاه الأديرة. كما أن الوضع كان مناسبًا بالنسبة للمهووسين بكراهية كل ما هو أجنبي في البلاط للرد على العلاقة القوية التي عُقِدت مع الصين الهانية، وتجديد نقائها من التأثيرات الأجنبية، بما في ذلك البوذية.

كان على سيلنانغ والمجلس الديني التصرف بشكلٍ سريع وحاسم، فكان الحل هو تقوية مكانة المجلس؛ بحيث لا يكون مستقلاًّ بذاته فقط، بل يكون له كذلك تأثير قوي على الحكومة نفسها. وهكذا أقنع سيلنانغ تري سونغديتسين بالسماح لأعضاء المجلس الديني بالحضور إلى كل الاجتماعات الوزارية، وأن يتمتعوا بالسلطة لصد هيمنة وزرائه. وفي ظل الإرشاد الأولي لرئيس الدير التبتي سرعان ما اشتدت قوة المجلس الديني أكثر من مجلس وزراء الإمبراطور نفسه.

التخلص من المهووسين بكراهية كل من هو أجنبي
كانت الخطوة الأولى في عام ٧٨٤ م عندما بدأ المجلس الديني في التخلص من المحافظين المهووسين بكراهية كل ما هو أجنبي، من خلال إرسال قادتهم إلى المنفى في جيلجيت ونانجاو شمال غرب مقاطعة ينان الحالية في جمهورية الصين الشعبية. وبما أن هذه المجموعة كانت قد اغتالت والد الإمبراطور قبل تسعةٍ وعشرين عامًا، وحرضت طوال ست سنوات على اضطهاد البوذية، وكان من الواضح أنها شكلت التهديد الأكبر.

وتعد المصادرُ التاريخية البوذية التبتية التي تعود إلى القرن الثاني عشر الحدثَ اضطهادًا لكهنة البون الذين كانوا يعارضون البوذية. ورغم أن الحضور اللاحق لتابعي البون المنظمين في جيلجيت ونانجاو يشير إلى أن كثيرين من الذين نُفوا كانوا يتبعون التقليد التبتي السابق للبوذية. وكان التخلص منهم في الأساس سياسيًّا بطبيعته، فلم يكن يرتكز على فوارق عقائدية دينية. وقبل نهاية القرن الحادي عشر لم تكن البون في نهاية المطاف ديانةً منظمة؛ حيث يُشير المصطلح "بون" إلى هذه المعارضة فقط، وهي مجموعة المهووسين بكراهية كل ما هو أجنبي في البلاط الملكي.

تعاون معلمو البوذية والمعلمون التبتيون الأصليون على ترجمة نصوصهم الخاصة بهم في دير سمياي حتى ذلك الوقت. وبسبب الوضع السياسي الذي لم يكن مستقرا أبدًا في تلك الفترة أَخْفَى درينبا-نامكا، القائد الروحي الرئيس للنظام الأصلي في دير سمياي نسخًا من معظم نصوص تقليده؛ بغرض الحفاظ عليها في الشقوق داخل جدران الأديرة. وتذكر المصادر التاريخية البونية التبتية اللاحقة التي تدعم ما جاء حول الاضطهاد الديني أنه ادعى قبوله البوذية؛ من أجل الحفاظ على دير سمياي وحماية تلك النصوص. ولكن بصرف النظر عن دوافعه كان من الواضح أن هذا المعلم الأصلي قد بقيَ في الدير فعلاً بعد عملية التطهير، وقد علَّم معلمين تبتيين مشهورين من أمثال المترجِم فايروتشانا مزيجًا من تقليده والبوذية.

وكثيرًا ما تصور المصادر التاريخية الدينية للبونيين التبتيين والبوذيين الأحداثَ على ضوء أجنداتها السياسية. ولكن ليس هناك مصدر تبتي يذكر أن أيًّا من درينبا-نامكا، أو أحد ممارِسي التقليد الأصلي من أتباعه، قد أُرغِموا على إنكار تقاليدهم ومعتقدَاتهم واعتناق البوذية. ومن المرجح جدًّا أن يكون قد مُزِج التقليد الأصلي التبتي والبوذية معًا حتى عهد الإمبراطور سونغتسين-غامبو على الأقل؛ حيث كان الإمبراطور التبتي الأول قد أمر بممارسة شعائر كِلا التقليديْن، فما كان من درينبا-نامكا إلا أن يتابع هذا التوجه، بل ربما طوَّره بعد ذلك. إن التأثير المتبادَل لكل نظامٍ ديني على الآخر سيحدث وينمو في كل الأحوال بشكلٍ طبيعي، نتيجةً لحضور معلمين روحيين من كِلا النظاميْن في دير سمياي.

إن معظم أفراد المجموعة السياسية المهووسة بكراهية كل ما هو أجنبي - إن لم يكن كلهم - والذين أُبعِدوا عن البلاط الملكي، ربما اتبعوا التقليد الأصلي التبتي. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل ممارِسي شعائر التقليد أو عناصر من نظامه قد نفوا من التبت، كما يظن البعض اعتمادا على المصادر التاريخية الدينية. ففي عام ٨٢١ م أبرمت معاهدة سلام ثانية مع الصين الهانية تراعى فيها الشعائر الكاملة من التقليد الأصلي، بما في ذلك ذبح الأضاحي من الحيوانات. إن مؤسسي ديانة البون ومنظميهم ومعلمي البون/البوذيين المُختارين في بداية القرن الحادي عشر اكتشفوا النصوص التي أخفاها درينبا-نامكا. وتُشير هاتان الحقيقتان بشكلٍ واضح إلى أن المجلس الديني التبتي لم يطبق سياسةَ فرض اعتناق البوذية. كما أنهما تشيران إلى أن التسامح مع المعتقَد الأصلي قد استمر في التبت الوسطى بعد التخلص من تلك المجموعة في عام ٧٨٤ م.

إذا كانت تلك هي حال المعتقَد التبتي الأصلي والتبتيين أنفسهم فيمكننا الاستنتاج بطمأنينة أن المجلس لم يضغط على الحكومة التبتية خلال العقود اللاحقة من أجل دعم المتمردين في صغديا بغية اضطهاد ديانةٍ أجنبية، وهي الإسلام، وتحويل غير التبتيين إلى البوذية.

محايدة المجموعة المؤيدة للصين الهانية
بعد عملية النفي التي حدثت عام ٧٨٤ م بقيت الحكومة التبتية مع مجموعتيْن معارضتيْن: فبعض الوزراء من عشيرة قوية من شمال شرق التبت فضَّلت الصين الهانية، ومن العشيرة التي جاءت منها الإمبراطورة دواغر تريما لو. أما المجموعة الأخرى التي كان سيلنانغ ينتمي إليها فقد جاءت من عشيرة منافِسة من وسط التبت. وكانت مرتابةً بشأن البلاط التانغي، ومؤيدة لاستمرار الحرب ضده، ورغبت في بناء علاقات أقوى مع الهند البالية، وفي الحفاظ على مجلسٍ ديني قوي.

وفي عام ٧٨٦ م انتهى السلام الذي دام ثلاثة أعوامٍ مع الصين الهانية، فقد ساند الأويغوريون تمرد جيوتسو (٧٨٣ – ٧٨٤) ضد البيت التانغي الحاكم، وساعد التبتيون القوات التانغية على هزيمتهم. وقد وعد البلاط التانغي بتسليم تورفان وبشباليق للتبتيين مكافأةً لهم على مساعدتهم، ولكن عندما لم يفِ الإمبراطور التانغي بوعده هاجمهم التبتيون.

خلال السنوات الخمس اللاحقة استولى التبتيون على دونهوانغ من الصين التانغية، وأزالوا القوات التانغية من المنافسة مع الأويغوريين على تورفان وبشباليق، وأعادوا التأكيد على قبضتهم القوية التي تسيطر على ولايات حوض تاريم الجنوبية، خاصة خوتان. وقد استغل الأويغوريون الوضع، فطردوا أتباعهم المزورين والقارلوق من جونغاريا وأجزاء من شمال تركستان الغربية، وانتزعوا على كوتشا كذلك من أيدي الصين التانغية.

خلال هذا التحول في العلاقات الصينية التبتية عقد الإمبراطور التبتي تري سونغديتسين المناظرة الشهيرة في دير سمياي (٧٩٢ – ٧٩٤ م)؛ حيث هزَمَ فيها ممثلو بوذية شمال الهند الرهبانَ البوذيين الصينيين الهانيين. وقد نتج عن ذلك قرار حاسم وهو أن النموذج الأساسي من البوذية الذي يجب اتباعه في التبت هو نموذج شمال الهند، وليس نموذج الصين الهانية. وقد عقدت مناظرة مشابهة وكانت نتيجتها تتعلق بالنظام الطبي الذي سيُعتمَد هناك، لكن هذا التطور لم يكن انتصارًا كبيرًا للنظرة السياسية لدى المجموعة المناهضة للصين الهانية، كما هي الحال بالنسبة للعقائد الفلسفية البوذية الهندية وممارسة الطب. بالإضافة إلى ذلك فكَوْن سيلنانغ هو المترجم الفوري لنسبة كبيرة من المناظرة حقيقة تشير إلى فرصته في التأثير في النتيجة.

ملخص السياسة التبتية في صغديا
توفي الإمبراطور تري سونغديتسين عام ٧٩٧ م، فورثه ابنه ميوني-تسينبو (حكم من سنة ٧٩٧ إلى ٨٠٠ م)، ثم ورثه ابنه تري ديسونغديتسين (حكم من سنة ٨٠٠ إلى ٨١٥ م)، الذي عُرف أيضًا بـ سايناليغ. خلال عهد الأخير، كان هناك ما يبرر تمامًا للخليفة المأمون النظر إلى التبت على أنها أمةً قوية تشكل تهديدًا له، خاصة عندما كانت التبت وحلفاؤها يهددون صغديا ويدعمون التمرد، ولكن تحليله لدوافع التبت، ثم إعلانه بعد ذلك أن الصراعَ بينهم حربٌ مقدسة، كانا خاطئين.

كانت التبت بالطبع ترغب في توسيع منطقتها حتى تركستان الغربية، وذلك بعد إعادة سيطرتها على تركستان الشرقية. ولذلك حاولت أن تزعزع استقرار حُكم أعدائها، ولكن التبت لم تكن مهتمة بتقويض ديانة عدوها، فقد كان المجلس الديني للرهبان مهووسًا جدًّا باكتساب قوة داخلية بالتزكية داخل التبت لضمان نمو البوذية في الدولة. وفور تخلص المجلس من حكومة المجموعات التي قد تعارضه، أو تحاول السيطرة عليه، كان نشاطه الرئيس هو تجميع قاموس يحتوي على ترجمات موحدة من السنسكريتية إلى التبتية، وتنظيم النص المُختار للترجمة، بحيث تُفهَم البوذية بأفضل طريقة ممكنة، وتحافظ على بقائها نقية. لم يكن لذلك علاقة بالديانات الأخرى، أو بنشر البوذية، سواء أكان داخل التبت أم خارجها.

بالإضافة إلى أن التبت لم تكن تظهر امتنانها لطوائف الإسلام المسيلمية والشيعة المانوية الصغديانيين الدينية، وذلك من خلال دعمها لأتباع تلك الطوائف في تمردهم المناهض للعباسيين. فالمراسم التي أداها الإمبراطور تري سونغديتسين، التي تتعلق باختيار البوذية الهندية بصفتها الدعامة الأساسية للتبت، قد رفضتها المانوية علانيةً. وهم يكررون النقد الذي وجهه الإمبراطور الصيني الهاني شوانزونغ، وهو أن المانوية تقليدٌ سطحي للبوذية، وأنها تقوم على كذبة.

الإمبراطور تري ريل........ين
أحد الأسباب الرئيسة التي مكنت العباسيين من هزيمة التابع التبتي شاه كابول عام ٨١٥ م، وجعلتهم يتوغلون أكثر داخل جيلجيت الواقعة تحت سيطرة تبتية على امتداد السنوات اللاحقة، وكانت وفاة تري سونغديتسين في العام نفسه، فأصبح ابنه تري ريلباتشين (حكم من سنة ٨١٥ إلى ٨٣٦ م) الإمبراطور التبتي الجديد، وكان شابًّا صغيرًا، ولم تكن لدى التبت قيادة قوية في ذلك الحين، ولكن بعد ذلك بلغ تري ريل........ين سن الرشد، وأصبح شديد القوة، وعزز من مكانة البوذية كثيرًا جدًّا.

وقد انسحب العباسيون من كابول وجيلجيت عام ٨١٩ م مع تأسيس الدولة الطاهرية. وفي عام ٨٢١ م وقعت التبت اتفاقية سلامٍ ثانية مع الصين الهانية، وفي السنة التالية توصلت إلى اتفاقية شبيهة مع الأويغوريين، حافظ التبتيون على ممر قانسو ودونهوانغ، إضافةً إلى تورفان وبشباليق. وتبدلت السيطرة على المدينتيْن الأخيرتيْن بين التبتيين والأويغوريين عدة مرات خلال العقود الثلاثة السابقة.

وقد بنى الإمبراطور تري ريلباتشين مستندًا على انتصاراته الكثير من المعابد البوذية الجديدة احتفالاً بالسلام، ونقل عاصمته من وادي يارلونغ إلى لاسا موقع الضريح البوذي الرئيس في التبت. ووفقًا للمصادر التاريخية الدينية التبتية أنشأ تري ريلباتشين مكتبَ ترجمة لوضع قاموس سنسكريتي-تبتي، وتوحيد مصطلحات ترجمة النصوص البوذية وأساليبها. وفي الحقيقة كانت هذه المشروعات قد بدأت في عهد أبيه تري ديسونغتسين. لكن المصادر التاريخية نسَبَتها إليه لتعزيز تحديدهم لسونغتسين-غامبو وتري سونغديتسين وتري ريل........ين بصفتهم الأوصياء الأساسيين على البوذية في ذلك الوقت، وبالتالي تقمَّص رموز بوذا فاجراباني ومانجوشري وأفالوكيتيشفارا. ويتردد في هذه المصادر صدى رموز بوذا الثلاثة كما تجلت في التبت والصين ومانشو ومنغوليا على التوالي، ومؤسس جيلوغ تسونغخابا ، (١٣٥٧ – ١٤١٩ م) بوصفه تجسدًا للثلاثة معًا.

لكن تحول الإمبراطور تري ريل........ين إلى شخصٍ متعصبٍ بعض الشيء بسبب حماسه الديني هو أشبه برمز فاجراباني القاسي؛ إذ إنه لم يكتف برفع عدد العائلات التي كلفها بدعم كل راهب من ثلاث عائلات إلى سبع، واضعًا عبئًا جديدًا على اقتصاد الدولة، بل إنه فرض عقوبة على كل شخص يشير بإصبعه إلى أي راهب سخريةً منه تكون بقطع إصبعه. ومع تمتع البوذية بهذه المكانة القوية، وتحوُّل أنظار العباسيين إلى مكانٍ آخر، كان لاعتناق شاه كابول الإسلامَ تأثير ضئيل على انتشار الإسلام في التبت، أو ولاياتها التابعة في كابل وجيلجيت.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:02 am

القسم الثاني: الفترة العباسية في عهدها المبكر (٧٥٠ - منتصف القرن التاسع بعد الميلاد)
١٢ تأسيس الأويغوريين للممالك البوذيَّة
غزو القرغيز لمنغوليا
كان القرغيز في الأساس شعبًا منغوليًّا من غابات جبال مقاطعتيْ ألطاي وتوفا الحاليّتيْن في جنوب سيبيريا شمال جونغاريا، وقد عاشت بعض قبائلهم كذلك في الروافد الغربية لسلسلة جبال تيانشان حتى جنوب جونغاريا. وقد ضمت الإمبراطورية التركية الشرقية مناطق ألطاي التقليدية للقرغيز، وعندما استولى الأويغوريون على الإمبراطورية احتلوها ودمروها عام ٧٥٨ م. فظل القرغيز والأويغوريون بعد ذلك أعداءً إلى الأبد، ثم انتقل الكثير من القرغيز إلى منطقة غرب تيانشان؛ حيث تحالفوا مع القارلوق والتبتيين والعباسيين ضد الأويغوريين والصين التانغية.

ومنذ النصف الثاني من القرن الثامن كانت التجارة التبتية-العربية تمر من غرب التبت عبر ممر واخان، وصولاً إلى غرب باكتريا وصغديا. لكن التجارة كانت تمر كذلك عبر طريقٍ ثانٍ من شمال شرق التبت، عبر المستعمرات التبتية في ممر قانسو، إلى المناطق الحساسة في تورفان وبشباليق، التي يتنازع عليها التبتيون والأويغوريون والصين الهانية، حتى استقر الأمر لصالح التبتيين عام ٨٢١ م. ثم تابعت طريقها بعد ذلك عبر جنوب جونغاريا مرورًا بالسهول الغربية لجبال تيانشان، وصولاً إلى شمال غرب تركستان، التي كانت كلها تحت سيطرة القارلوق حتى التسعينيات من القرن الثامن الميلادي، ثم تحت سيطرة الأويغوريين، ثم انتقلت في النهاية إلى صغديا التي تقع تحت سيطرة العرب. وكان قاطعو الطرق الأويغوريون يسكنون في جزءٍ من الطريق التي كانت تمر عبر جبال تيانشان، وكان للقرغيز دور مهمٌّ في محاربتهم، والمحافظة على طريق التجارة مفتوحًا وآمنًا.

[ شاهد الخريطة التاسعة عشرة: طريق التجارة التبتية-العربية.]

كان التجار التبتيون على هذا الطريق بوذيين، كما تدل على ذلك المانترات البوذية (المقاطع المقدسة)، التي حفروا نصها التبتي على صخورٍ عُثِرَ عليها بالقرب من بحيرة إيسيك كول في شرق قرغيزستان الحالية. ولم يكونوا عُرضةً للاضطهاد أو التقييد الديني في الأراضي المسلمة في الحد الغربي من طريق الحرير في آسيا الوسطى. ولولا ذلك لما كانوا خاطروا بالمرور فيه في رحلاتهم. وهذا مؤشر آخر على أن الجهاد الذي أعلنه الخليفة المأمون عام ٨١٥ م ضد الحلف التبتي-الشاهي التركي-القارلوقي-الأوغوزي كان موجهًا لأهداف سياسية، وليس من أجل دعوة جماعية إلى الإسلام بالقوة لأناس كانوا في نظره كُفَّارًا.

وبعد معاهدات السلام مع التبتيين والصين الهانية عام ٨٢١ م أصبح الأويغوريون تدريجيًّا في حالة من الضعف نتيجةً للنزاع الداخلي، والصعوبات التي فرضها التدخل التبتي في تقسيم مناطقهم في منغوليا وجونغاريا. وفي عام ٨٤٠ م - بعد شتاءٍ عصيبٍ، وثلوجٍ كثيرة جدًّا قضت على القطيع الأويغوري - أطاح القرغيز بإمبراطورية أورخون في منغوليا وجونغاريا والجزء الشرقي من شمال تركستان الغربية، حينئذ حكم القرغيز المنطقة التي تمتد من قاعدتهم في جبال ألطاي، إلى أن استُبدلوا هم أنفسهم بالخيتانيين (خيتان) عام ٩٢٤ م.

هجرة الأويغوريين إلى تركستان وممر قانسو
نتيجةً لاستيلاء القرغيز على إمبراطوريتهم هاجر معظم الأويغوريين الأورخونيين نحو الجنوب، فذهب معظمهم إلى تورفان (قوتشو) وبشباليق وكوتشا. وكانت ولايات المدن المستقلة هذه على طول الحوض الشمالي لحوض تاريم أو على جانبيه مع الحضارة التوخارية، إضافةً إلى الأقليات الكثيرة في صغديا والصين الهانية، هي الوُجهات الطبيعية التي قصدوها.

وقد حافظ الأويغوريون على حضورٍ صغير في تورفان منذ القرن الرابع بعد الميلاد على الأقل، وحكموها فترةً قصيرة من عام ٦٠٥ إلى الثلاثينيَّات من القرن السابع الميلادي. وقد سيطروا عليها وعلى بشباليق كذلك بشكل دوري من تسعينيات القرن الثامن إلى عام ٨٢١ م. وقد وقعوا على معاهدة سلامٍ مع التبتيين الذين كانوا يحكمون دُوَيلتَي المدن المستقلتين آنذاك. وإضافة إلى ذلك كان لهم حضورٌ في كوتشا منذ تسعينيَّات القرن الثامن الميلادي بعد أن استولوا عليها من الصين التانغية.

كانت كوتشا كذلك مصدر نزاعٍ للقارلوق من كاشغار والتبتيين من تورفان، وليس واضحًا حقيقةً مَن كان يحكمها آنذاك. ولكن حتى لو كان القارلوق هم من حكموا فقد كانوا تابعين ظاهريًّا للأويغوريين، رغم معاركهم المتواصلة تقريبًا معهم عبر القرن الأخير. ولم يطرد القارلوق الأويغوريين، ولم يحرموا عليهم الدخول من جديد. وهكذا لم يكن صعبًا بالنسبة للاجئين الأويغوريين الانتقال إلى هناك، والانتقال من نمط حياة السهول المتنقلة، وذلك مع الإلمام الطويل بالحضارة المدنية لولايات هذه الواحات.

كانت هناك ثلاث فرَق أخرى أصغر حجمًا من الأويغوريين الأورخون، لم تُقِم في دويلات المدن المستقلة في شمال تاريم. هاجرت أكبر هذه الفرَق إلى دويلات المدن المستقلة في ممر قانسو التي حكمها التبتيون، والذين باتوا يُعرَفون لاحقًا باليوغوريين الصفر. أما الفرقتان المتبقيتان فقد هاجرت إحداهما إلى الغرب من المناطق الشرقية التي يحكمها الأويغوريون في شمال تركستان الغربية، ومكثت عند القارلوق في وادي نهر تشو في شمال قرغيزستان، في حين مكثت الفرقة الأخرى بين القارلوق في كاشغار، واتجهت مجموعة صغيرة منهم إلى الشرق من منشوريا، وذابت بسرعة هناك ولم تظهر في التاريخ من جديد.

[ شاهد الخريطة العشرين: تشتت الأويغوريين الأورخون من منغوليا وجونغاريا.]

اعتنقت المجموعات الأربع كلها البوذيةَ بعد الهجرة؛ حيث اعتنق الذين أقاموا على الحافة الشمالية من حوض تاريم النموذجَ التوخاري/الصغدياني/الصيني الهاني المتداول في تورفان وكوتشا، أما الذين أقاموا في ممر قانسو فاعتنقوا النموذج الذي يمزج بين النوعين: الصيني الهاني والتبتي، في حين اعتنق الذين أقاموا في وادي تشو النمطَ الصغدياني التركستاني الغربي، في الوقت الذي اعتنق فيه المقيمون في كاشغار النموذجَ الكاشغاري. وباستثناء اليوغوريين الصفر، تحولت جميع فروع الأويغوريين في نهاية المطاف إلى الإسلام بعد قرنٍ واحد، ولفهم آلية التحول الديني بشكل أفضل بين الأتراك دعونا نعاين مرةً أخرى الأسباب التي دفعت الأويغوريين إلى تبديل ديانتهم من المانوية إلى البوذية، هذه المرة سنركز نقاشنا على أكبر مجموعتيْنِ: الأويغوريين القوتشو، واليوغوريين الصفر.

إلمام الأويغوريين السابق بالبوذية
قبل تحوُّل طبقة النبلاء الأويغوريين الأورخون إلى المانوية كان الأويغوريون قد اعتنقوا البوذية عندما حكموا تورفان في أوائل القرن السابع، وقد حافظ محاربو الأويغوريين وعامة الشعب على مستوى معين من الإخلاص للبوذية خلال فترة إمبراطورية الأويغوريين الأورخون، وتدل على ذلك الخطابات المناهضة للبوذية لبعض خاقانات الأويغوريين المتأخرين. ورغم ذلك ضمت النصوص المانوية للأويغوريين في هذه الفترة عناصر بوذية قوية نتيجةً لخلفية المترجمين الصغديانيين. بالإضافة إلى ذلك فلم تكن الطبقة الأرستقراطية وحدها هي من اعتنقت المانوية، فقد تبع الكثيرون أيضًا العقيدة المسيحية النسطورية، في حين قَبِلَ بعضهم البوذية دينًا له، ويدل على ذلك الأمر الذي أصدره الإمبراطور التبتي تري ريل........ين بإعداد ترجمات متعددة لنصوصٍ بوذية من التبتية إلى لغة الأويغوريين بعد فترة وجيزةٍ من معاهدة السلام التي وُقِّعت عام ٨٢١ م. لكن كانت هناك أسبابٌ غير معروفة ساهمت بلا شك في تبديل الأويغوريين لدياناتهم.

انهيار الإمبراطورية التبتية
في عام ٨٣٦ م - قبل أربع سنوات من استيلاء القرغيز على مملكة الأويغوريين الأورخون - اغتال إمبراطورَ التبت ريلباتشين أخوه لانغدارما (حكم من سنة ٨٣٦ إلى ٨٤٢ م). وبادعائه الحق في العرش شرع الإمبراطور الجديد في اضطهاد البوذية بقوة في أنحاء التبت، وكان الهدف من ذلك هو إنهاء تدخل المجلس الديني في السياسة، واستنزاف الموارد الاقتصادية الناتجة عن سياسة تري ريل........ين التي كانت لزيادة الدعم الشعبي الكبير للأديرة، وأغلق لانغدارما الأديرة كلها، وأرغم الرهبان على خلع ثياب الرهبانية، لكنه لم يدمر هذه البنايات أو مكتباتها. حتى بدون الدخول في الأدب الديني كانت البوذية موجودة بقوة بين الكثير من أتباعها العلمانيين التبتيين.

وفي عام ٨٤٢ م اغتال لانغدارما راهبٌ كان – كما ذكر أحد الباحثين - الرئيسَ المخلوع للمجلس الديني، والرئيس السابق لدير ساميي، ثم نشبت حربٌ أهلية عقب الخلاف على العرش، مما أدى إلى انهيار الإمبراطورية التبتية. وخلال العقديْن التالييْن انسحبت التبت تدريجيًّا من مستعمراتها في قانسو وتركستان الشرقية، وتحولت بعضها إلى ولاياتٍ سياسية مستقلة: أولها دونهوانغ، التي باتت تُعرف بدولة غوييجيون، (٨٤٨ – العقد الرابع من القرن التاسع الميلادي) التي حكمتها عشيرة صينية هانية محلية، ثم خوتان (٨٥١ – ١٠٠٦ م) التي حكمتها سلالتها الحاكمة التي لم تنقطع. وفي ولايات أخرى استولى الصينيون الهانيون المحليون على السلطة مبدئيًّا، ولكنهم لم يؤسسوا حُكمًا قويًّا مثل تورفان بدءًا من عام ٨٥١ م. ولكن مع حلول عام ٨٦٦ م أصبحت مجتمعات المهاجرين الأويغوريين في هذه المستعمرات التبتية السابقة قوية بما فيه الكفاية لتأسيس حُكمها الخاص.

الانقسام السياسي اللاحق لتركستان الشرقية وقانسو
في البداية ضمت مملكة القوتشو أويغور (٨٦٦ – ١٢٠٩ م) المنطقةَ الواقعة بين تورفان وبشباليق، ثم امتدت أخيرًا عبر شمال حافة حوض تاريم وصولاً إلى كوتشا. وأصبح الجزء الشرقي من الحافة الغربية حتى حدود خوتان منطقةً محايدة، تخلفت فيها بضعة قبائل تبتية، فركدت فيها التجارة بين الصين الهانية وخوتان وفي الغرب منها كذلك، وبقيَت كاشغار في قبضة القارلوق.

[ شاهد الخريطة الحادية والعشرين: آسيا الوسطى، منتصف القرن التاسع.]

احتلت مملكة اليوغوريين الصفر (٨٦٦ – ١٠٢٨ م) ممر قانسو، وقد ساعدت غوييجيون المهاجرين الأويغوريين على تأسيسها، بدعمها عسكريًّا لطرد البقية المتبقية من الحُكم التبتي. وقد فر الكثير من التبتيين جنوبًا إلى منطقة كوكونور؛ حيث تعود أصول معظمهم إليها، وحيث بزغ فجر مملكة التسونغكا. وفي النهاية سرعان ما انقلب اليوغوريون الصُّفْر على حلفائهم في غوييجيون، وسيطروا عليها في التسعينيَّات من القرن التاسع الميلادي.

عاشت مجموعة أخرى في المنطقة، وهم التانغوتيُّون، الذين سرعان ما تحولوا إلى قوة لا يُستهان بها في التطور التاريخي. وكانت لهم صلة قرابة بينهم وبين التبتيين، وفصلت منطقتهم في شرق قانسو اليوغوريين الصفر عن الصين الهانية في تشانغآن. وفي منتصف القرن السابع فر التانغوتيُّون من موطنهم في منطقة كوكونور؛ نتيجةً للهجمات المستمرة من التبت الوسطى، ولجئوا إلى شرق قانسو تحت حماية تانغية، وهناك عرفوا البوذية أول مرة. وبعد قرنٍ من الزمن ارتفعت منزلتهم بعد فرار المزيد من اللاجئين التانغوتيين من النشاطات العسكرية التبتية في المنطقة بعد تمرد آن لوشان.

تتميز جميع هذه المناطق في قانسو وتركستان الشرقية التي انتشرت فيها الحضارة التبتية بعدم وصول اضطهاد لانغدارما للبوذية لهم. وفي الحقيقة طلب الكثير من اللاجئين البوذيين التبتيين حق اللجوء هناك، وهو الأمر الذي أدى إلى ازدهار البوذية في هذه المناطق عند وصول الأويغوريين الأورخون. غير أن البوذية بنمطها الصيني الهاني كانت النموذج السائد هناك، لكن التأثيراتٍ التبتية فيها كانت قوية، كما أنها ضمت عناصر صغديانية وتوخارية كثيرة في تورفان.

اضطهاد البوذية في الصين الهانية
في هذه الأثناء كانت البوذية في الصين الهانية تعاني من اضطهادٍ أشد سوءًا منه في التبت. وخلال القرن اللاحق لإصلاحات الإمبراطور التانغي شوانزونغ في قمع السلطة البوذية، وعادت الأديرة البوذية الصينية من جديد إلى وضع الإعفاء من الجزية. فقد امتلكوا حصة غير متكافئة من ثروة الأمة، خاصة المعادن الثمينة التي استُخدمَت في صوَر المعابد، كما أنهم وظفوا عددًا كبيرًا من العلمانيين في عقارات كبيرة كانوا يمتلكونها، وكانت السيدات والخِصْيان التابعون لقصر الحريم الملكي موجودين للرهبان والراهبات، وقد أثروا على الإمبراطور ليغضَّ الطَّرْف عن التجاوزات.

وعندما صعد الإمبراطور ووزونغ إلى العرش (حكم من سنة ٨٤١ إلى ٨٤٧ م) أقنعه مسئولو البلاط الطاوي بالتخلي عن سياسة الإمبراطور السابقة تجاه الأديرة البوذية. فبدأ ووزونغ خطوات عملية لتغيير السياسة السابقة، مدفوعًا بقلق هؤلاء المسئولين من تأثير النساء على السياسة، وكذلك اهتمامهم بالاقتصاد القومي؛ حيث أمر في عام ٨٤١ م جميع الرهبان الذين يحتفظون بنساءٍ ويعيشون على خرافات الناس أن يخلعوا أثوابهم، وأمر بمصادرة كل الأموال الزائدة والعقارات التي كانت ملكًا للأديرة. وبذلك كان الإمبراطور يسير على النهج نفسه للأباطرة الصينيين الهانيين الشماليين، بصفتهم حُماةً لنقاء العقيدة البوذية.

لكنِ الوزراء الطاويُّون لم يكونوا راضين عن تصرف الإمبراطور، فدعوا إلى إزالة كل التأثيرات الأجنبية في الصين الهانية، والعودة إلى القيَم والأخلاق التقليدية. ولما جعلوا المانوية والمسيحية النسطورية دياناتٍ أجنبيةً، بالإضافة إلى البوذية كذلك، بدءوا بهما أولاً؛ لأنهما كانتا حاضرتين في الصين الهانية على نطاقٍ أكبر. وفي عام ٨٤٣ م أثروا على الإمبراطور ليمنع المانوية والمسيحية النسطورية تمامًا في الإمبراطورية كلها، ويطرد رجال الدين. وقد أثَّر ذلك على مجتمع التجار الصغدياني، بالإضافة إلى نبلاء الأويغوريين كلهم أيضًا، وهم الذين قد يرغبون في اللجوء إلى الصين الهانية. وفي عام ٨٤٥ م أقنعت الطائفة الطاويةُ الإمبراطورَ بتدمير معظم المعابد والأديرة البوذية، ومصادرة صُوَرها المصنوعة من المعادن الثمينة وإذابتها، وإعادة جميع الرهبان والراهبات إلى الحياة العلمانية، وصرف كل الأشخاص العلمانيين الذين يعملون في أراضي الأديرة، والاستيلاء على كل ممتلكات الأديرة.

تحليل أسباب الاضطهاد
تجدر الملاحظة إلى أن هذا الاضطهاد والتحريم للديانات الأجنبية لم يمتد إلى الإسلام؛ فقد مكان مجتمع تجار المسلمين محدودًا في المدن الساحلية في الجنوب الشرقي، ولم يستعملوا طريق الحرير حتى قرون لاحقة. وقد عمل الصغديانيون والصينيون الهانيون والتبتيون بالتجارة مع الأويغوريين، في ظل حرصهم على الحصول على حصتهم، وكانت المنافسة بينهم شرسة. ولأن قسوة الوزراء الطاويين لم تكن موجهة تجاه البوذية فحسب، بل ضد المانويين والمسيحيين النسطوريين كذلك، فهذه حقيقة تدل على أن الدافع لديهم كان المخاوف الاقتصادية.

كانت التبت تواجه حربًا أهلية، وكان من الواضح أنها ستخسر فيها سلطتها على قانسو وتركستان الشرقية. وكان المنافس الوحيد على السلطة التي سيتركها التبتيون على طريق الحرير هم الأويغوريون والصغديانيين. وتركيز سياسة الوزراء التانغيين على طريق الحرير وآسيا الوسطى، وليس على البحار الجنوبية يؤكد أن الاضطهاد كان موجهًا فقط تجاه ديانات تبعها الصغديانيون والصينيون الهانيون والتبتيون والأويغوريُّون، وليس تجاه ديانات تبعها العرب أو الفُرس. لو لم يكن الاضطهاد الديني في آسيا الوسطى لأسباب سياسية لَكان بسبب مخاوف اقتصادية، ومن الصعب أن نعتقد أنها كانت تُمارَس اعتمادًا على ركائز روحية أو عقائدية.

النتائج اللاحقة
إثْرَ وفاة ووزونغ عام ٨٤٧ م أعدم الإمبراطور الجديد شوانزونغ (حكم من سنة ٨٤٧ إلى ٨٦٠ م) الزعماء الطاويين، وسرعان ما سمح بعودة البوذية. لكن معظم الطوائف البوذية الصينية الهانية لم تتمكن من التغلب على هذا الاضطهاد المرير، ولم تتعافَ سوى مدارس تشان وأرض الخالص، الأولى بسبب موقعها في المناطق الجبلية البعيدة جدًّا عن الصين الهانية، وعدم اعتمادها على المكتبات الرهبانية، والأخيرة بسبب قاعدتها الشعبية غير العلمية.

ومع تراجع قوة سلالة التانغ الحاكمة حتى نهايتها عام ٩٠٧ م، وانهيار الصين الهانية خلال فترة السلالات الخمس الحاكمة (٩٠٧ – ٩٦٠ م)، خسر الصينيون الهانيون أي تأثيرٍ قوي لهم في آسيا الوسطى. أما إستراتيجية الوزراء الطاويين في القضاء على المنافسة على طريق الحرير واكتساب امتيازٍ اقتصادي للصين التانغية فقد باءت بالفشل.

تأثيرات هذه التطورات على تحول الأويغوريين إلى البوذية
إذًا كان ذلك هو السياق السياسي والاقتصادي الذي بدَّل فيه الأويغوريون الأورخون ديانتهم من المانوية إلى البوذية، أما بالنسبة لانتقال الأتراك الشرقيين من الشامانية إلى البوذية، ثم العودة إلى الأولى مرة أخرى، والتحوُّل المبكر للأويغوريين من الشامانية إلى البوذية، ثم إلى المانوية، فهناك ثلاثة عوامل أثرت بشكل أساسي على تبديل واختيار الديانة. أولاً: كانت هناك حاجة إلى توحيد القوة لحشد الناس خلف السلالة الجديدة. ثانيًا: كان هناك بحث عن قوة قاهرة لدعم الحُكم الجديد، اعتمادًا على تقييم نجاح الديانات السابقة المختلفة في دعم أنظمة حكم أجنبية أخرى. ثالثًا: كانت هناك الأولوية القصوى لكسب منفعة اقتصادية من السيطرة على تجارة طريق الحرير.

لم يكن الأويغوريون القوتشو واليوغوريون الصفر بدايةً لسلالتيْن حاكمتيْن جديدتيْن فحسب، بل كانوا بداية لأساليبَ جديدةٍ للحياة بالنسبة لسكان مدنيين دائمين في الواحات. وقد تأكد فشل المانوية الديانة الرسمية للدولة؛ من حيث قدرتها على توفير قوة قاهرة للحفاظ على إمبراطوريتهم الأورخونية السابقة. فكانوا بحاجة إلى ديانةٍ جديدة تحشد دعمًا فوق-دنيوي وتوفره لهم، وهذا ما يحتاجونه للانتقال بنجاح.

كانت الإمبراطورية التبتية قد انهارت حالاً، وكانت الصين الهانية على وشك الانهيار. وقد حارب الأويغوريون كليهما قديمًا، وعرفوا نقاط قوتهما ونقاط ضعفهما. ومن وجهة نظر شامانية يرجع فشل كليهما إلى اضطهادهما الأخير للبوذية. فقد أساء التبتيون والصين الهانية إلى الآلهة البوذية، وفقدوا دعمها. وبذلك أُثبِتَت القوى البوذية الخارقة للطبيعة بكل وضوح. وقبل قرنٍ من الزمن قرر الأويغوريون أن انتصار العباسيين وتمرد آن لوشان على الإمبراطور التانغي كان بسبب نقاط الضعف في البوذية، ولذلك تركوها واختاروا المانوية. لكن الأحداث قد أظهرت أن اعتقادهم كان خاطئًا.

بالإضافة إلى ذلك توقفت التبت والصين التانغية عن المرور في طريق الحرير، وكانتا أضعف من أن تفرضا سلطتيهما على تجارتها المربحة، التي كانت غالبًا تحت سلطة الصغديانيين. وكان الكثير من اللاجئين البوذيين التبتيين والصينيين الهانيين الفارين من الاضطهاد في بلادهم يتدفقون إلى المناطق التي كانت تمر منها طريق الحرير، أي: تورفان وغوييجيون وممر قانسو ومنطقة كوكونور في شمال شرق التبت ومملكة التانغوت. وكان ذلك بسبب استمرار البوذية في الازدهار في كل هذه المناطق دون عوائق حكومية. وهكذا كانت البوذية أقوى على طول الجزء الشرقي من طريق الحرير مما كانت عليه المانوية أو المسيحية النسطورية. بالإضافة إلى ذلك مع إنهاء كل من التبت والصين التانغية فترات اضطهاد البوذية، فإن أولئك الذين تبعوا هذه العقيدة على طول طريق الحرير لم يكونوا يتمتعون برعاية ملكية قوية. وكان الرهبان والعلمانيون على السواء يرحبون بحاكمٍ ديني يتولى هذا الأمر.

لذلك فإن البوذية كانت الخيارَ المنطقي لتكون ديانة أمراء الأويغوريين القوتشو واليوغوريين الصفر؛ لأن البوذية كانت قوية ومستقرةً في تركستان الشرقية وقانسو بين شعوب آسيا الوسطى، وبين الصغديانيين أيضًا، وكان الكثير من الأويغوريين يعرفونها أساسًا، خاصة أولئك الذين يعيشون في تلك المناطق، فتحولهم إلى مؤيدين للبوذية سيضعهم في أقوى منزلةٍ ليكونوا أسياد طريق الحرير وحُماته؛ لذلك اتخذوا لقب "أمير بودافيستا"، كما فعل من قبلهم حُكام الأويغوريين قبل قرنٍ ونصف، عندما كانوا يسيطرون على تورفان بصورةٍ رسمية.

وقد بدأ الأويغوريون الآن ترجمة المؤلفات البوذية المقدسة إلى لغتهم، وذلك بمساعدة الصغديانيين الذين يعرفون لغات متعددة، ولكن ليس من النسَخ الصغديانية، بل من النصوص الصينية الهانية والتوخارية، مستعيرين ترجماتٍ تركية قديمة سابقة. ولعل الصغديانيين لم يترجموا نصوصهم الخاصة؛ لأنهم رغبوا في الحفاظ على هويتهم الحضارية المتميزة، وكي لا ينصهروا في حضارةٍ بوذية أويغورية؛ حيث اتبع الجميع التقليد الديني نفسه.

وضع الإسلام في نهاية الفترة العباسية الأولى
في منتصف القرن التاسع - عندما بدأ الخليفة العباسي تضعف قبضته المباشرة على آسيا الوسطى - كان الإسلام غالبًا محدودًا هناك في صغديا. ولكنه كان منتشرًا بين أحفاد العرب والسكان المحليين الذين قَبِلوا العقيدة الإسلامية طواعيةً بسبب انجذابهم للحضارة الإسلامية الراقية. وعندما بدأ العربُ الجهادَ ضد سوراشترا وكابول، ورغم أن خصومهم كانوا بوذيين، فإن حروبهم المقدسة لم تكن تهدف إلى القضاء على البوذية ذاتها. في كلتا الحاليْنِ خلط القادة المسلمون بين مؤيدي البوذية ومتمردي المسيلمية والشيعة المانوية المناهضين للعباسيين. وبشكلٍ عام كان العباسيون متسامحين مع البوذيين، وحافظوا على علاقات تجارية وحضارية مع الدول البوذية.

وخلال العقود اللاحقة حدث تحول مهم؛ فعندما أصبحت آسيا الوسطى تحت حكم شعوبٍ تركية مختلفة اعتنقت عدة ولايات تركية الإسلام؛ لأن زعماءهم كانوا رؤساء جيشٍ من العبيد في ظل العباسيين، وكسبوا حريتهم من خلال اعتناقهم الإسلام. لكن إحدى الولايات، وهي الولاية القراخانية قَبِلَت الإسلام طواعيةً لكثيرٍ من الأسباب المشابهة التي جعلت الشعوب التركية السابقة - مثل الأتراك الشرقيين والأويغوريين - يبدلون دياناتهم في مرحلةٍ مبكرة، وأن يعتنقوا البوذية والشامانية أو المانوية. فقد كانت مسائل القوة الخارقة لدعم دولتهم، والإستراتيجيات الجغرافية-السياسية لاكتساب السلطة على تجارة طريق الحرير، تُشكل أولويةً بالنسبة لتفكير الحكام الأتراك. وكلما انتشر الإسلام كثيرًا في آسيا الوسطى والهند، وتفاعل مع البوذية في كلٍّ من هاتيْن المنطقتيْنِ، أصبح من السهل جدًّا فَهم الأمر ضمن ذلك السياق.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:03 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٣ تأسيس إمبراطوريات جديدة في آسيا الوسطى
إنشاء الإمبراطورية القراخانية
عندما طَردَ الاحتلال القرغيزي الأتراكَ الأويغوريين الأورخون من منغوليا عام ٨٤٠ م خسروا ملكيَّتهم على جبل آلهة الأرض المقدَّسة أوتوكان، بالقرب من عاصمتهم السابقة أوردوباليق. ووفقًا لاعتقادات الأتراك القديمة السابقة للبوذية والتنغرية والمانوية فإن أي شخص سيطر على هذا الجبل يُعتبَر الحاكم النظري للعالم التركي كاملاً. فهو ونسله فقط يملكون السُّلطة الروحية لاتخاذ لقب الخاقان، وهو وقبيلته فقط يستطيعون أن يكونوا قادةً سياسيِّين على القبائل التركية الأخرى. وتمثَّل القوة الروحية حظ الأتراك كلِّيةً، الذين سكنوا هذا الجبل، ويتجسَّد هذا الحظ في الخاقان في أنه يمثل قوَّته الحيوية الخاصة، أو قوته الكاريزماتية المسئولة عن نجاحه أو فشله.

إن حُكَّام المملكتيْن الكبيرتيْن الذين يتألَّفون من اللاجئين الأويغوريين، والأويغوريين القوتشو في شمال حوض تاريم، واليوغوريين الصُّفر في ممر قانسو، لم يكونوا مؤهَّلين لهذا اللقب السياسي-الديني؛ لأن مُلكهم لم يمتد إلى منغوليا، ولم يكن الحاكم القرغيزي لمنغوليا نفسها مؤهَّلاً لذلك أيضًا؛ لأن القرغيز كانوا - عِرقيًّا - شعبًا منغوليًّا، ولم يتكلَّموا اللغة التركية أصلاً، وكانوا شعبًا من غابة سيبيريا، وليسوا من السهول، ولم يؤمنوا بقداسة أوتوكان.

لكن كان هناك جبل مقدَّس آخر، وهو بلاساغون على نهر تشو في شمال قرغيزستان قريبًا من بحيرة إيسيك كول. وقد سيطر عليه الأتراك الغربيُّون، الذين بنوا عدة أديرة بوذية على منحدراته. وبما أن الجبل بات يقع الآن ضمن نطاق الأتراك القارلوق أعلن حاكم القارلوق بيلغا كول قدير عام ٨٤٠ نفسه "خاقانا"، أي: القائد والحامي الطبيعي لكل القبائل التركية، وغيَّر اسم مملكته وسلالته الحاكمة إلى المملكة والسلالة القراخانية.

وقد انقسمت الإمبراطورية القراخانية إلى قسمَين بعد تأسيسها بفترةٍ قصيرة: القسم الجنوبي: الذي جعل عاصمته تاراز على نهر طلاس، وضم دويلات مدن كاشغار إلى الجنوب الشرقيِّ، عبرَ جبال تيانشان في أقصى غرب حوض تاريم. القسم الشرقي: الذي امتد إلى الشمال نحو سلسلة جبال قرغيز، وتمركز حول جبل بلاساغون المقدَّس في تشو.

[شاهد الخريطة الثانية والعشرين: شمال آسيا الوسطى، نحو ٨٥٠ م]

العلاقات بين القراخانيِّين والأويغوريين
لم يطلق القراخانيُّون خلال فترة حكمهم (٨٤٠ – ١١٣٧ م) حملةً عسكرية ضد أسيادهم السابقين الأويغوريين، رغم أنهم حاربوهم كثيرًا في السابق، مثل القارلوق. وكانت هناك أقليَّتان من أصل أربع من الأويغوريين الأورخون صغيرتين جدًّا، ومكثتا في الإمبراطورية القراخانية في كاشغار، وعلى طول وادي نهر تشو. وليس واضحًا مدى انغماسهم هناك، أو مدى حفاظهم على هويَّتهم بوصفهم أقليَّاتٍ غريبة. غير أن القراخانيِّين حافظوا على التنافس الحضاري مع المجموعتيْن الأخرييْن اللتيْن تفوقان المجموعتيْن السابقتيْن حجمًا بكثير: الأويغوريين القوتشو واليوغوريين الصُّفر. وكانوا يستخدمون وسائل أخرى غير عسكرية لفرض السيادة عليهم.

تمدَّن الأويغوريون القوتشو بشكلٍ أساسي في الواحات الشمالية من حوض تاريم، وبعد أن تركوا تقاليدهم الحربية السابقة الخاصة بالسهول واعتنقوا البوذية عاشوا غالبًا بسلامٍ مع الممالك المحيطة. وكما تمدَّن اليوغوريون الصُّفر أيضًا في دويلات المدن المستقلة في ممر قانسو، وأصبحوا بوذيِّين. غير أنهم كانوا على حرب شبه دائمة مع جيرانهم التانغوت في الشمال، الذين كانوا يهددونهم بشكل مستمر. وتمتَّع فرعا الأويغوريين بعلاقات ودية مع الصين الهانية؛ لأن السكُّان الهانيِّين المحليِّين في المنطقة كانوا قد ساعدوهم على خلع الحُكَّام التبتيِّين السابقين للمنطقة، وساعدوهم على تأسيس ممالكهم.

شكَّل شعبا الأويغوريين معًا المجموعةَ التركية الوحيدة في ذلك الوقت، لهما لغة مكتوبة وحضارة رفيعة، وهو ما توصَّلا إليه بمساعدة التجُّار والرهبان الصغديانيِّين الذين يعيشون في مملكتيْهما. في حين افتقر القراخانيُّون إلى هذه الميزات، رغم سيطرتهم على كاشغار، التي كان بها حضورٌ صغدياني كذلك. لكن مع حيازة بلاساغون كانوا يطالبون بقوة قيادة الشعب التركيِّ.

العلاقات المبكِّرة بين القراخانيِّين والتبت
حافظ القراخانيُّون على عادة القالوق في دعم مزيجٍ البوذية: الشامانية التركية، والتنغرية. كما فعل الأتراك الغربيُّون من قبلهم. كما أنهم تابعوا علاقاتهم الودية التقليدية مع التبت، وهي حليفتهم العسكرية السابقة لفترةٍ طويلة. لكن الأخيرة، ورغم ضعفها السياسيِّ، كانت تمارس تأثيرًا حضاريًّا قويًّا على المناطق التي تقع شرق القراخانيِّين مباشرةً. وكانت اللغة التبتية - مدةً تزيد على قرنٍ من الزمن بعد اغتيال لانغدارما عام ٨٤٢ م - هي اللغة الدولية للتجارة والدبلوماسية التي كانت تُستخدَم من خوتان حتى قانسو. وبسبب الاحتلال التبتي الطويل للمنطقة كانت اللغة التبتية هي الوحيدة المتداوَلة في المنطقة؛ حيث تُرجمَ كثير من المؤلفات البوذية الصينية الهانية والأويغورية صوتيًّا إلى الأحرف التبتية للاستخدام الأكثر شيوعًا، حتى إن بعض الترجمات حصلت على رعاية أسرة القرغيز الحاكمة.

وهناك دلالةٌ أخرى على العلاقة الوطيدة التي كانت تربط القراخانيِّين والتبتيِّين، فبعد الاضطهاد الذي مارسه لانغدارما تجاه التقاليد الرهبانية البوذية هرب ثلاثة رهبان تبتيِّين أوسطيِّين من الاضطهاد، من خلال المرور عبر غرب التبت، وقبول اللجوء المؤقَّت إلى منطقة كاشغار القراخانية. وقد تعاطف القراخانيُّون مع محنتهم، فبالنسبة إليهم كانت البوذية مستقرة بما فيه الكافية في تلك المنطقة ليشعروا بالأمان. وبعد توجّههم شرقًا على طول حافة حوض تاريم، وبعد أن علَّموا الكثير من رفاقهم في قانسو، استقرُّوا أخيرًا في منطقة كوكونور شمال شرق التبت، التي سرعان ما شهدت ظهور مملكة التسونغكا.

المملكة الصفارية
بعد أن أسس القائد الطاهر الدولة الطاهرية في باكتريا عام ٨١٩ م كان الزعيم الإسلامي المحلي التالي الذي انفصل عن العباسيِّين هو يعقوب بن الصفار مؤسِّس السلالة الصفارية الحاكمة (٨٦١ – ٩١٠ م) من معقله في سيستان جنوبَ شرق إيران. وكان حُكمه حُكمًا عسكريًّا طموحًا إلى أبعد الحدود، فقد انطلق عام ٨٦٧ م لاحتلال إيران، وفي عام ٨٧٠ غزا الصفاريُّون كابول. وفي مواجهةِ هزيمةٍ وشيكة عَزَل آخرَ حُكَّام الشاهيين الأتراك البوذيِّين وزيرُه البرهميُّ كالاَّر، الذي ترك كابول للصفاريِّين، وأسَّس سلالة الشاهية الهندو الحاكمة (٨٧٠ – ١٠١٥ م) في غندهارا وأوديانا.

[شاهد الخريطة الثالثة والعشرين: جنوب آسيا الوسطى، نهاية القرن التاسع.]

نهبَ الزعيم الصفاري الأديرةَ في وادي كابول، وأرسل تماثيل بوذا منها إلى الخليفة العباسي في بغداد غنائمَ حرب. وكان هذا الاحتلال الإسلامي العسكري لكابول الضربة الجدية الأولى ضد البوذية هناك، فلم يكن لهزيمة شاه كابول واعتناقه الإسلام عام ٨١٥ م سوى أثر ضئيل على الوضع العام للبوذية في المنطقة.

ثم تابع الصفاريُّون حملتهم من الفتح والتدمير شمالاً، فاستولوا على باكتريا، وطردوا الطاهريِّين عام ٨٧٣ م. لكن مجدهم كان قصير الأمد؛ ففي عام ٨٧٩ م استعاد الشاهيون الهندو السيطرة على منطقة كابول، وتعاملوا مع الهندوسية والبوذية بتسامح كبير، وانتعشت البوذية في المنطقة كلها.

وسرعان ما استعادت الأديرة البوذية في كابول رخاءها ومجدها السابقيْن. ويصف أسدي الطوسي في كتابه "غرشاسب نامه" - الذي ألَّفه عام ١٠٤٨ م - ديرَ سوباهار الذي وجده الغزنويُّون عندما استولوا على كابول من أيدي الشاهيين الهندو قبل خمسين عامًا تقريبًا. وهو دير يضم أحدى معابد جدرانًا رخامية، وأبوابًا مطلية بالذهب، وأرضية من الفضة، وفي وسطها تمثال بوذا على عرشٍ مصنوعٍ من الذهب، وقد صُمِّمت جدرانه مع رسوماتٍ للكواكب والعلامات الاثنتي عشرة من دائرة الأبراج، المطابقة لروح الرسومات الزورفانية التي وُجدَت في غرفة العرش الخاصة بالقصر السَّاساني الإيرانيِّ تاقديس في الماضي.

المملكة السَّامانية والمملكة البويهية
في هذه الأثناء استقل الحُكَّام الفارسيُّون في بخارى وسمرقند عن العباسيِّين، وأسَّسوا السلالة السَّامانية الحاكمة (٨٧٤ – ٩٩٩ م). وفي عام ٨٩٢ م استولى مؤسِّس السَّامانية إسماعيل بن أحمد (حكم من سنة ٨٧٤ إلى ٩٠٧ م) على تاراز عاصمة سمرقند الغربية، مما جعل حاكمها أوغولتشاق ينقل عاصمته إلى كاشغار. وبعد ذلك استولى إسماعيل بن أحمد على باكتريا من الصفاريِّين عام ٩٠٣ م، وجعل حُكَّامهم القساة ينسحبون إلى وسط إيران.

نادى السَّامانيُّون بعودة الحضارة الإيرانية التقليدية، لكنَّهم استمروا على ولائهم السياسي للعرب، وكانوا أول من كتب الفارسية بحروفٍ عربية، وقدَّموا الكثير لتطوير الأدب الفارسيِّ، وفي ذروة حكمهم في ظل نصر الثاني (حكم من سنة ٩١٣ إلى ٩٤٢ م) ساد السلام في صغديا وباكتريا، وازدهرت الحضارة بشكلٍ كبير.

كان السَّامانيُّون سُنِّيين، لكن نصر الثاني كان متعاطفًا مع الشيعة والطوائف الإسماعيلية، كما أنه كان متسامحًا مع البوذية، كما يدل على ذلك استمرار صُنع صوَر بوذا المنحوتة وبيعها في العاصمة السَّامانية بخارى خلال تلك الفترة. حتى إنَّ السَّامانيِّين كانوا متعاطفين مع المانويِّين الذين اضطُهدوا بشكلٍ كبير، وقد وجد كثيرون منهم ملجأً لهم في سمرقند أثناء حُكمه.

المجموعة الدينية الوحيدة التي شعرت بأنه غير مرغوبٍ فيها كانت الزرادشتيَّة، وكانت ديانة مؤسِّس السَّامانية قبل اعتناقه الإسلام، فقد هاجرت نسبة كبيرة من الزرادشتيين إلى الهند، واستقرُّوا في غوجارات إلى جانب البحر عام ٩٣٦ م. وعُرفوا هناك باسم البارسيِّين، وبعدها بفترة وجيزة اضطهد خليفة نوح بن نصر وهو خليفة نصر الثاني (حكم من سنة ٩٤٣ إلى ٩٥٤ م) الطوائف الإسماعيلية المنتسبة للإسلام بشدة.

خلال هذه الفترة زاد ضعف الخلفاء العباسيِّين في بغداد أكثر فأكثر، وسرعان ما أسَّس البويهيُّون سلالتهم الحاكمة في معظم إيران (٩٣٢ – ١٠٦٢ م) بعد سقوط الصفاريِّين عام ٩١٠ م. وكان البويهيُّون شيعيِّين، وخلال فترة حُكمهم سيطروا بشكلٍ كبير على خُلفاء بغداد، لكنَّهم استمرُّوا في دعم الاهتمام العباسي بالتعلُّم الأجنبيِّ، وخاصة بالعلوم. وفي عام ٩٧٠ م نشرت مجموعة من علماء بغداد تعرف بـ"إخوان الصفا" موسوعةً من خمسين مجلَّدًا تغطِّي كل مجالات المعرفة المعاصِرة، بما في ذلك المواد المُترجمة عن المصادر اليونانية والفارسية والهندية.

الإمبراطورية الخيتانية
في هذه الفترة كانت هناك إمبراطورية أخرى في مرحلة النشوء في جنوب غرب منشوريا، وبعد ذلك سيكون لها تأثير كبير على توازن القوى في آسيا الوسطى، ألا وهي إمبراطورية الخيتانيِّين، فقد وحَّد أباوتشي (٨٧٢ – ٩٢٦ م) القبائل الخيتانية المختلفة في المنطقة، وأعلن نافسه "خانًا" عام ٩٠٧ م، وبعد سنة من سقوط السلالة التانغية الصينية الحاكمة تبع الخيتانيُّون مزيجًا من التقاليد الصينية الهانية والكورية من البوذية، إضافةً إلى نموذجهم الأصلي من الشامانية. وكان أباوتشي قد بني معبدًا بوذيًّا خيتانيًّا عام ٩٠٢ م، وأعلنَ البوذيةَ عام ٩١٧ م ديانةً رسمية للدولة.

[شاهد الخريطة الرابعة والعشرين: آسيا الوسطى، بداية القرن العاشر.]

كان الخيتانيون أول شعبٍ معروفٍ تكلَّم اللغة المنغولية، فقد كانت لديهم حضارةٌ متطوِّرة جدًّا، تخلَّلتها مهارةٌ خاصة في صنع المعادن. ولرغبته في أن يتمتَّع شعبه بهوية مميَّزة أمرَ أباوتشي عام ٩٢٠ م بنص مكتوبٍ باللغةِ الخيتانية، ولكنه مدوَّنٌ بحروفٍ صينية هانية، ولكنه أكثر تعقيدًا، ثم تحوَّل النص خلال القرون اللاحقة إلى قاعدةٍ لأنظمة الكتابة الجورتشينية والتانغوتية.

وفي عام ٩٢٤ م أطاح أباوتشي خان بالقرغيز وفتح منغوليا، لكنه كان متفتِّح الذِّهن إلى أبعد الحدود، وتعامل بتسامحٍ مع المؤمنين من المانويِّين والمسيحيِّين النسطوريين، الذين بقوا هناك بعد مغادرة الأويغوريين الأورخون، كما أنه وسَّع سيطرته على ممر قانسو وشمال حوض تاريم؛ حيث استسلم اليوغوريون الصُّفر والأويغوريون القوتشو بسلامٍ، وأصبحوا ولاياتٍ تابعة له. وفي عام ٩٢٥ م اعتمدَ أباوتشي النصَ الأويغوري نموذجًا ثانويًّا بسيطًا في كتابة الخيتانية، حتى إنه دعا المجموعتيْن الأويغوريّتيْن للعودة إلى أراضيهم السهلية. ولكن رفض الأويغوريون واليوغوريون تلك الدعوة؛ لأنَّهم تأقلموا جيِّدًا مع النمط المتمدِّن من الحياة، وربما لخوفهم كذلك من سيطرة الخيتان الكاملة على طريق الحرير في غيابهم.

اتَّسعت رقعة الإمبراطورية الخيتانية بسرعة في مختلف الاتجاهات، وسرعان ما باتت تضم كلاًّ من منشوريا، وجزءًا من كوريا الشمالية، وجزءًا ضخمًا من شمال شرق الصين الهانية وكذلك شرقها. وقد أعلن خُلفاء أباوتشي إنشاء سلالة لياو الحاكمة (٩٤٧ – ١١٢٥ م) التي كانت ندًّا وعدوًّا دائمًا لسلالة سونغ الشمالية الصينية الحاكمة (٩٦٠ – ١١٢٦ م). وقد نجحت الأخيرة في إعادة توحيد ما تبقَّى من الصين الهانية بعد نصف قرنٍ من التفسُّخ.

رغم أن طبقة النبلاء الخيتانية التي احتلَّت منطقة الصين الهانية قد انصهرت ثقافيًّا بشكلٍ كبير، إلا أن الخيتانيِّين خارج الصين الهانية قد حافظوا على تقاليدهم وهويَّتهم الحضارية الخاصة، فحافظ الحُكَّام الخيتانيُّون دائمًا على بلاطهم الملكي ومركز قوَّتهم العسكرية في جنوب غرب منشوريا، ولم يقدِّموا إلا خدماتٍ شفهية (بمعنى عن غير قناعة، وأتركك الصياغة لك) للشعائر الكونفشيوسية، وأكَّدوا على التقاليد البوذية القوية، بدل ذلك. فسادت القِيَم البوذية شيئًا فشيئًا. ويعود آخر ذِكر لقربان بشري في المدافن الملكية الخيتانية إلى عام ٩٨٣ م. فقد اعتمد الإمبراطور الخيتانيُّ شينغزانغ التعاليم البوذية عام ١٠٣٩ م، وحظر التضحية بالخيول والثيران في الجنازات عام ١٠٤٣ م.

وبما أن الخيتانيِّين كانوا على معرفةٍ بالبوذية الصينية الهانية قرونًا سبقت إعلان سلالتهم الحاكمة، ونتيجةً لأن أكثر الأدبيَّات البوذية شمولاً كانت متوافرةً باللغة الصينية، فسرعان ما طغت الحضارة الهانية على العناصر الأويغورية، ولكونها الأثر الأجنبي الرئيس للمجتمع الخيتانيِّ فقد شعر الأويغوريون القوتشو واليوغوريون الصُّفر بالإبعاد تدريجيًّا. وبالتالي سعى الأويغوريون القوتشو واليوغوريون الصُّفر، أثناء حفاظهم على العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الخيتانيِّين، إلى الميل كثيرًا نحو الحُكمِ الذاتيِّ. لكنَّهم لم يتمرَّدوا أبدًا، لعددٍ من الأسباب. فقد كان الخيتانيون يتمتّعون بتفوُّقٍ عسكريٍّ؛ إذ لا يتوقّف الأمر عند عدم قدرة الأويغوريين واليوغوريين على هزيمتهم، بل على العكس سيكون بمقدورهم الاستفادة من وجودهم حماةً . بالإضافة إلى ذلك فلا شك أن مجموعتي الأويغوريين - رغم اعتناقهما البوذية - لم تنسيا جبل أوتوكان المقدَّس في منغوليا في ظل السيطرة الخيتانية، ولم ترغبا في خسارة أي اتصال معه. أمَّا البوذية الأويغورية - مثل سابقتها التركية القديمة، والنموذج الخيتاني الموازي لها – فقد امتزجت عقيدتها بعناصر تنغرية وشامانية.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:03 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٤ تأسيس أول دولتيْن إسلاميتين تركيتين
اعتناق القراخانيين الإسلامَ
خلال الثلاثينيات من القرن العاشر انفصل نصر بن منصور - الشخص البارز من الأسرة السامانية الحاكمة - عن القراخانيين الغربيين، وتولى الحكم في أرتوتش، وهي مقاطعة صغيرة شمال كاشغار. فكان بلا شك يحاول التسلل من خلف الصفوف القراخانية لتسهيل التوسع الإضافي للإمبراطورية السامانية. ولكونه مسلمًا مخلصًا فقد أمرَ الساماني ببناء مسجدٍ في أرتوتش، وهو المسجد الأول في حوض تاريم. وعندما زار ستوق – وهو ابنُ أخي الحاكم القراخاني الغربي أوغولتشاق - المنطقةَ أبدى اهتمامًا خاصًّا بالديانة الجديدة واعتنقها.

ووفقًا للوثائق التاريخية الإسلامية فعندما حاول ستوق إقناع عمه بتبديل ديانته هو أيضًا عارضه، مما أدى إلى صراعٍ طويل، أطاح في نهايته ابن الأخ بعمه، واتخذ لنفسه لقب ستوق بغرا خان. ومع إعلانه الإسلامَ السُّني ديانةً رسمية للدولة أصبح القراخانيون الغربيون في كاشغار أول قبيلة تركية تعتنق الإسلام رسميًّا، وقد حدث ذلك في أواخر الثلاثينيات من القرن العاشر.

تحليل دوافع الاعتناق
رغم أن الوهَجَ الديني قد يكون شكَّل دافعًا لأفعال ستوق، إلا أنه كان بلا شك مدفوعًا بأسباب إضافية؛ وأبرزها الطموح إلى السلطة. ومن أجل تحقيق هدفه في حُكم القراخانيين تحالف مع العميل الساماني الذي كان يطمح هو أيضًا إلى هدفٍ مشابه، ولكسب ثقته كان على ستوق أن يعتمد إستراتيجيةً ما.

اتبع السامانيون الإيرانيون التقليد العباسي العربي في اتخاذ القَبَليين الأتراك عبيدًا، وتجنيد محاربيهم في جيشهم. رغم أن السامانيين كانوا متسامحين بصورةٍ استثنائية مع الديانات الأخرى، إلا أنهم كانوا يعتقون العبيد شكليًّا في حال إسلامهم. فبدَّل ما يزيد عن ألف قراخاني يعيشون في المنطقة السامانية ديانتهم بهذه الطريقة. ولو كان ستوق أسلَم هو نفسه وأتباعه طواعيةً للإسلام لنال ثقة السامانيين بسهولةٍ، ولأبرم تحالفًا عسكريًّا معهم.

بالإضافة إلى ذلك، فلو كان لستوق طموحات خاصة به في تحويل دفة القراخانيين الغربيين إلى خسارة منطقتهم، ودفع الأتراك إلى سلطة إقليمية، لَكان توحيد شعبه حول الدين الجديد قد سهَّل من مُهمته. كان ذلك هو نمط اختبار النجاح السابق للتبتيين والأتراك الشرقيين والأويغوريين من حيث الوقت. لقد فشل مزيج البوذية والشامانية في توفير دعمٍ خارقٍ لعمه من أجل الحفاظ على أراضيه المنتشرة عبر جبال تيانشان، بينما نجح السامانيون في تحقيق النصر تحت مظلة الإسلام. لذلك كان اختيار دياناتٍ جديدة واضحًا.

في هذه الأثناء كان الأويغوريون القوتشو يمرون بفترة من الازدهار بوصفهم حُماةً للبوذية، والمسيطرين على الفرع الشمالي من طريق الحرير الذي يمر عبر حوض تاريم. كما أن أقرباءهم الإثنيين واليوغوريين الصفر الذين كانوا بوذيين أقوياء سيطروا على ممر قانسو؛ حيث امتدت طريق الحرير إلى الصين الهانية، بعد التقاء الفرعيْن الشمالي والجنوبي في دونهوانغ. ومن أجل حشد القبائل التركية خلف طموحه - بعيدًا عن الأويغوريين - كان ستوق بحاجة إلى ديانةٍ مختلفة، ليست مختلفة عن البوذية فحسب، وإنما أرادها ديانةً تتيح له إعادة فتح الفرع الجنوبي البديل للطريق، ونقل التركيز على السيطرة على التجارة من القطاعات الشرقية إلى القطاعات الغربية.

ولكون نهاية طريق الحرير في صغديا تقع تحت أيدٍ إسلامية، فكانت خطة ستوق هي احتلال صغديا. وبعد الاحتلال، ومن خلال التوجه شرقًا من كاشغار، يمكنه استخدام الإسلام لصياغة وحدة حضارية على طول الفرع الجنوبي من الطريق، ومنها عبر ممر قانسو، ليكون هو نفسه الحاميَ والسيد. تمامًا كما سبق للأويغوريين أن استخدموا البوذية للفوز وتعزيز مستعمراتهم في فرع تاريم الشمالي من طريق الحرير، ويبدو أن ستوق في تحقيق الشيء نفسه مع القراخانيين، عبر إخضاع الفرع الجنوبي لراية الإسلام. ولكن أولاً طلب من أتراك الجبل المقدس أن يحولوا الميزة الخارقة إلى صفه؛ وذلك من أجل حشد الشعوب التركية وراءه.

تعزيز الدولة الإسلامية القراخانية
في عام ٩٤٢ م حاول ستوق بغرا خان احتلالَ القراخانيين الشرقيين بمساعدة حلفائه السامانيين، وحاول كذلك السيطرة على السلطة في بلاساغون. ولأنه لم ينجح في ذلك انقلب على السامانيين أنفسهم، من خلال مساعدة المجموعات المعارِضة المحلية في تقويض حُكمهم في صغديا. ويُعتبر ذلك دليلاً إضافيًّا على أن الطموح السياسي تفوَّق على أية مشاعر قد تكون راودته من حيث القرابة الدينية مع إخوانه المسلمين.

وخلال العقود اللاحقة حاز خُلفاء ستوق بلاساغون، وأعادوا توحيد القراخانيين، واستولوا كذلك على سمرقند وبخارى من السامانيين. ولكونهم المسيطرين على جبل الأتراك المقدس وحماته فقد اتخذوا لأنفسهم لقب قاغان مع نهاية القرن. وقد أمكنهم الآن تحويل نظرهم إلى هدفهم الرئيس، وهو فرع تاريم الجنوبي من طريق الحرير.

صعود الغزنويين وسقوط السامانيين
وفي عام ٩٦٢ م هرب ألبتكين من أسياده في غزنة في جنوب شرق أفغانستان الحالية، وألبتكين قائدٌ عسكري تركي كان من العبيد في ظل السامانيين، ولكنه نال حريته شكليًّا بعد اعتناقه الإسلام السُّني. وقد أسَّسَ صهرُه سبكتكين (حكم من سنة ٩٧٦ إلى ٩٩٧ م) سلالتهم الغزنوية الذاتية الحكم (٩٧٦ – ١١٨٦ م)، مع البقاء على قسمه بالولاء للبلاط العباسي فقط. وكانت دولته هي الدولة التركية الإسلامية الثانية التي تنهض في آسيا الوسطى، ثم احتل الحاكم الشاهي الهندو جايابالا (حكم من سنة ٩٦٤ إلى ١٠٠١ م) وادي كابول، مما جعل شاهية الهندو يتراجعون إلى غندهارا وأوديانا، وجعل حُكمه يمتد إلى شمال شرق إيران، كما أنه غزا السند من موكران (بلوشستان)، واستولى على بعضٍ من أجزائها الغربية.

ثم ضعفت قوة السامانيين الفُرس أكثر فأكثر، حتى أطيح بهم أخيرًا عام ٩٩٩ م، وقد ساعد الجنود العبيد الأتراك الذين كانوا في خدمتهم - مفضلين أساليبهم الإثنية - الغزونيين والقراخنيين في الإطاحة بهم. أما ابن سبكتكين وخليفته محمود الغزنوي (حكم من سنة ٩٩٨ إلى ١٠٣٠ م) فقد اقتسم ما تبقَّى من الأراضي السامانية في صغديا وباكتريا مع القاغان القراخاني، كما أنه استولى على خوارزم الواقعة شمال غرب تركمانستان وغرب أوزباكستان الحاليتيْن، وعلى معظم إيران.

[ شاهد الخريطة الخامسة والعشرين: الإمبراطوريتان: القراخانية الأولى والغزونية، منتصف القرن العاشر.]

وقد مجَّدَ محمود الغزنوي الإمبراطوريةَ الساسانية الإيرانية - رغم كونه تركيًّا - ودعم تقاليدها الحضارية، كما فعل السامانيُّون من قبله. واستدعى العلماء والكتاب الفُرس إلى غزنة ليكونوا عَرَّافين في خدمته في البلاط، منهم - على سبيل المثال - أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني (٩٧٣ – ١٠٤٨ م)، كما أنه شجَّع استخدام اللغة الفارسية في أي مكانٍ يقع تحت سيطرته، وكان بلا شك يُقدِّر الرسومات والتصاوير الإيرانية الساسانية للكواكب، وعلامات دائرة الأبراج على جدران دير سوباهار الذي أنشأه والده في كابول.

وهكذا، ورغم أن مملكتيْن تركيتيْن إسلاميتيْن تسيطران الآن على صغديا وباكتريا أوَّلَ مرة في التاريخ، إلا أنَّ أسلوب كل منهما كان مختلفًا؛ فكان القراخانيون حُماةَ التقليد التركي، بينما كان الغزنويُّون يفضلون الحضارة الإيرانية. وقد اعتنق قادة القراخانيين الإسلام طواعيةً لأهداف اقتصادية وسياسية غالبًا، في حين اعتنق قادة الغزنويين الإسلامَ من أجل الحصول على حرية نسبية، بعد أن كانوا قادةً عسكريين مستعبَدين يخدمون الحُكم الإسلامي الأجنبي. وقد نشر كلٌّ منهما الإسلام فيما بعد تركستان الغربية أثناء التوسع العسكري، ذهب القراخانيون إلى أجزاء من تركستان الشرقية، بينما ذهب الغزنويون إلى شمال الهند. فدعونا نعاين دوافعهم لنقيِّم جهودهم هذه: هل كانت جزءًا من حربٍ مقدسةٍ فعليةٍ ضد ديانات أخرى، أم كانت مجرد جهادٍ شكلي؟ وحقيقةً فإنَّ الحروب كانت ذات طبيعة سياسية واقتصادية غالبًا.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:04 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٥ الحملة القراخانية على خوتان
البعثات الخوتانية إلى الصين الهانية
كانت خوتان التي تقع شرق الحامية القراخانية في كاشغار ولايةً بوذيةً ثرية. فقد كانت مناجمُها المصدر الرئيس لحجر اليشم لكل البلاد التي تقع على طول طريق الحرير، وخاصةً الصين الهانية. حتى إن ملوكها كانوا يزورون الصين الهانية بين الحين والآخر، وكما فعلوا مثلاً عام ٧٥٥ م عندما قَدَّموا الدعم العسكري اللازم لقمع تمرد آن لوشان. ولكن منذ أن أعادت التبت التأكيد على حُكمها لخوتان عام ٧٩٠ م انتهت كل علاقة كانت تربط بين البلاطيْن: الخوتاني والصيني الهاني. ولم يسعَ الخوتانيون في إعادة ترسيخ هذه العلاقة حتى بعد أن استعادوا استقلالهم عام ٨٥١ م. وقد أُهمِلَ الطريق التجاري الذي يمر عبر الحافة الجنوبية من حوض تاريم قرنًا ونصفًا تقريبًا؛ حيث هاجمت القبائل التبتية التي استقرت على طوله خوتان مراتٍ كثيرة.

ولكن في عام ٩٣٨ م وبعد فترة قصيرة من استيلاء ستوق بغراخان على العرش القراخاني، أرسل الملك الخوتاني بعثةَ دفع ضرائب وتجارة إلى الصين الهانية تمر عبر طريق تاريم الجنوبي. ورغم الضعف الذي لحق بالصين الهانية جَرَّاء تفككها لممالك منفصلة خلال فترة السلالات الخمس الحاكمة (٩٠٧ – ٩٦٠ م)، فقد شعرت خوتان بحاجة ملحة إلى إعادة تقوية العلاقات. وكان الملك متحمِّسًا لهذه الخطوة بلا شكٍّ؛ نتيجةً لشعوره بالتهديد من الاضطراب السياسي نحو الغرب في كاشغار.

[ شاهد الخريطة السادسة والعشرين: آسيا الوسطى إبَّانَ الغزو القراخاني لخوتان. ١٠٠٠ ق.م. تقريبًا.]

رغم أن خوتان لم تكن تُمارس تجارتها مباشرةً مع الصين الهانية منذ قرن ونصف، إلا أنها كانت منخرطة - إلى حدٍّ كبير - في النشاط التجاري مع مناطق أخرى. لكن كل الطرق التجارية من خوتان كانت تمر عبر كاشغار، حتى تركستان الغربية أو شمال حوض تاريم، أو أنها كانت تمر عبر ياركاند نحو كاشغار، مرورًا بجبال قراقوروم، ووصولاً إلى سهول الهند. ولو كانت كاشغار وضواحيها مضطربة سياسيًّا وغير آمنة بالنسبة للحركة التجارية لَكان من الصعب بالنسبة لخوتان أن تَتعافى اقتصاديًّا. كان ذلك بالتأكيد أحد الأسباب الرئيسة لإعادة فتح فرع تاريم الجنوبي من طريق الحرير إلى الصين الهاني - بشكلٍ أولي - لإيجاد تجارة بديلة لليشم الخوتاني والبضائع الأخرى.

ثم سعى القراخانيون لاحقًا إلى اعتماد سياسة توسعية، ولا شك في أن الخوتانيين قد شعروا بتهديدٍ إقليمي كذلك. وهكذا كان أحد الأسباب الإضافية لبناء علاقات مع الصين الهانية هو الأمل في تحالف عسكري مجددًا، تمتعت به الدولتان كثيرًا في الماضي.

منذ إعادة فتحهم الطريقَ التجاري لجنوب حوض تاريم حتى عام ۹۷۱ م أرسل الخوتانيون بعثاتٍ كثيرةً إلى البلاط الصيني الهاني، محملةً بهدايا اليشم، وطالبةً حماية أراضيهم وسلامتها. وبصرف النظر عن الفوائد التجارية فلا يبدو أنهم تلقوا أي دعمٍ عسكري أبدًا من حُلفائهم السابقين، حتى بعد إعادة توحيد الصين الهانية عام ۹٦٠ م، ومع تأسيس سلالة سونغ الحاكمة الشمالية.

كانت قوات السونغ الشمالية مشغولة بحرب شبه دائمة مع التانغوت في غرب البلاد مباشرةً. رغم أنه كان من الممكن من خلال السفر من الصين الهانية إلى آسيا الوسطى تجنب الصراع عبر المرور من الجانب الجنوبي الشرقي لتسونغكا، والمتابعة شمالاً حتى ممر قانسو، إلا أن السونغ الشماليين كانوا أضعف من أن يلفتوا الانتباه عن صراع التانغوت، وأن يفرضوا تدخلاً عسكريًّا مباشرًا في تركستان الشرقية. وكان بمقدور الخوتانيين صدُّ أي غزو مُحتمَل دون مساعدة الصينيين الهانيين.

مكانة البوذية في خوتان
كانت بعثات دفع الضرائب والتجارة الخوتانية إلى الصين الهانية مصحوبةً برهبان بوذيين غالبًا، وكان ذلك هو التقليد الاعتيادي في الدول البوذية؛ لأن الرهبان كانوا في كثيرٍ من الأحيان أفرادًا على درجة عالية من العِلم ومعرفة القراءة والكتابة في المجتمع، وكثيرًا ما أشركتهم الدول في الأهداف الدبلوماسية.

وبشكل عام كان النشاط البوذي قويًّا جدًّا في خوتان آنذاك، فقد أقدمَ الملك الخوتاني فيشا شورا (حكم من سنة ٩٦٧ إلى ٩٧٧ م) على ترجمة عددٍ ضخمٍ من النصوص البوذية السنسكريتية إلى لغته، وأرسل العديد من المعلمين البوذيين إلى الأويغوريين القوتشو. ورغم أن الخوتانيين كانوا قد بدءوا ترجمة النصوص البوذية إلى لغتهم مع حلول منتصف القرن السادس، وهو الوقت نفسه تقريبًا الذي بدأ فيه التوخارانيين ترجماتهم كذلك، إلا أن الجهود الكُبرى في هذا العمل قد بُذِلَت في هذا الوقت.

إعلان الحرب المقدسة
وفقًا للرواية التاريخية الإسلامية قاوم السكان الأصليون في كاشغار اعتناقَ العقيدة الإسلامية على أيدي القراخانيين؛ لكونهم ليسوا أتراكًا، فلقد كانوا مدعومين بأصدقائهم البوذيين في خوتان، الذين ساعدوهم في الإطاحة مؤقتًا بالحُكم الإسلامي التركي عام ٩٧١ م، وقد تمركزت القوات القراخانية في حملتها على صغديا ضد السامانيين.

حينئذ أرسل أربعة أئمة يوسف قادر خان شقيق القاغان القراخاني في حربٍ مقدسة لاستعادة كاشغار، وقد حقَّق الخان نجاحًا كبيرًا، ثم تابع حملته شرقًا، فضم ياركاند إلى كنف الإمبراطورية القراخانية، وأدخل شعبها الإسلامَ، بعد ذلك فرض الخان حصارًا على خوتان أربعًا وعشرين سنة، وقد سقطت دويلة المدينة المستقلة عام
١٠٠٦ م، على الرغم من المساعدة التي حصل عليها الخوتانيون من حُكامهم السابقين وأصدقائهم البوذية والتبتيين.

بعد فترة وجيزة نظم الخوتانيون تمردًا ضد الإسلام، مما أدَّى إلى استشهاد الأئمة الأربعة. ولكن يوسف قادر خان عاد من معركته مع الغزنويين بعدما قمعَ التمرد. حينئذٍ ضُمَّت خوتان إلى المملكة القراخانية، وتحوَّلت بصورةٍ نهائية إلى العقيدة الإسلامية.

تحليل التمرد الكاشغاري
هذه الرواية تثير سؤالاً مهمًّا، إذا كان السكان الأصليون البوذيون في كاشغار قد قاوموا محاولة القراخانيين تحويلهم للإسلام؛ لأنهم لم يكونوا شعبًا تركيًّا، ألا يُشير ذلك إلى أن السبب وراء معارضتهم هو جذورهم الإثنية الهندو-إيرانية، وليس ديانتهم البوذية؟ وتشير هذه الرواية بشكلٍ مباشر أن الأتراك القراخانيين البوذيين في كاشغار لم يقاوموا التحول إلى الإسلام. ويبدو أن الديانة لم تكن المسألة الرئيسة، كان الكشغاريون الأصليون يحاولون الإطاحة بالحُكم القراخاني، ولم يكن هدفهم الدين الإسلامي ذاته، الذي اعتنقه فاتحوهم الأجانب.

وحتى لو قَبِلنا أن التمرد الكاشغاري كان إلى حدٍّ ما ذا دوافع دينية، وأن الولاء الديني كان عاملاً مساهِمًا في الحملات الخوتانية والقراخانية في تركستان الشرقية، فإن الجوانب الجغرافية-السياسية والاقتصادية كان لها دور مهم. وكان الهاجس الأكبر - الذي رجَّح كفة القرارات السياسية بقوة دائمًا لدى كل حُكام آسيا الوسطى تقريبًا - هو الرغبة في السيطرة على تجارة طريق الحرير المُربحة، أو على الأقل الاستفادة منها. فتَحرُّك الخوتانيين ضد كاشغار واتخاذهم خطوةً مضادة تجاه خوتان يجب أن يخضع أيضًا للتقييم في إطار ذلك السياق.

تقييم استخدام نموذج الحرب المقدسة لوصف التحركات الخوتانية في كاشغار
تصف المصادر التاريخية الإسلامية الدينية الأحداثَ - وكأن خوتان قادت ما يُشبه الجهادَ البوذي – على أنها حرب مقدسة ضد مسلمي كاشغار؛ للدفاع عن ممارسة العقيدة البوذية النقية هناك. لكن القراخانيين، الذين كانوا يواجهون الاضطهاد البوذي للإسلام، ردُّوا بشكلٍ مبرر من خلال جهادهم الخاص ضد خوتان. إلا أن هذا التفسير ليس ذا بُعدٍ واحدٍ في كونه يتغاضى عن أي عوامل أو أحداث دافعة غير دينية فحسب، بل إنه يبدو وكأنه يُقحِم اعتبارات تتعلق بالحضارة الإسلامية في الحضارة البوذية التي لا تتصل بها.

[ انظر: الحروب المقدسة في البوذية والإسلام: أسطورة شامبالا -النسخة الكاملة.]

إنَّ النص البوذي المقدس الوحيد الذي يذكر الحرب الدينية هو الكلاتشاكرا تانترا ، ففي رؤيته الألفية للمستقبل يتنبأ هذا النص بمعركةٍ نهائية في القرن الخامس والعشرين بعد الميلاد، عندما ستحاول القوات غير الهندية القضاء على كل مظاهر الممارسة الروحية، وسيصنع الانتصار عليهم عصرًا ذهبيًّا جديدًا للبوذية بشكلٍ خاص. وهناك تفسير آخر للنص يقول: إن النبوءة عبارة عن دعوة للصراع الروحي الفردي داخل كل شخص، ضد قوات الظلام والجهل الداخلية، ولم تُعتبَر أبدًا دعوة إلى معركةٍ خارجية كلما تعرض المجتمع البوذي إلى التهديد.

حتى لو فسَّر أحدهم الكلاتشاكرا تانترا على هذا النحو، فإن القوات غير الهندية التي يقودها المهدي لم تُشر إلى المسلمين بشكلٍ عام، رغم أن الوصف النصي لتقاليد هذه القوات يُشير إلى جذور إسلامية مثل الذبح الحلال للماشية والختان، إلا أن قائمة أنبيائهم تشمل ثمانية معلمين؛ سبعةٌ منهم يشكلون القائمة الشيعية الإسماعيلية الاعتيادية، والشخص الإضافي هو ماني. وهذا يُشير إلى وجود صلة بأتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي من المانويين والشيعة المانويين. وتؤكد الطوائف الشيعية الأخرى والسنية كذلك على قائمة من خمسةٍ وعشرين نبيًّا، ولا تشمل قائمتهم المهدي الذي تشمله القائمة الإسماعيلية.

وقد كٌتبت هذه المصادر التاريخية من وجهة نظر بحثية غربية، وكذلك بعض النقاط الأخرى في الكلاتشاكرا تانترا غالبًا في منطقة كابول في شرق أفغانستان، وفي أوديانا خلال النصف الثاني من القرن العاشر. في البداية كانت كِلتا المنطقتين تخضعان لحُكم شاهية الهندو، وبعدها في عام ٩٧٦ م استولى الغزنويون على كابول، وقد أشير إلى ضم منطقة كابول بصفتها مصدرًا لمادة الكلاتشاكرا، وذلك من خلال حقيقة أن الكون الرمزي (ماندالا) الموصوف في الكلاتشاكرا تانترا يتردد صداه في الصوَر الملكية الساسانية التي عُثِر عليها في جدارية أحد معابد دير سوباهار، الذي أعيد بناؤه في كابول بعد انتصار شاهية الهندو على الصفاريين عام ٨٧٩ م، إن لدى ثلاثتها دائرة تمثيلات للكواكب، وعلامات دائرة الأبراج تُحيط برمزٍ ملكي في الوسط، يُعتبَر كما في القصر الساساني في تاقديس، "ملكَ المكان والزمان"، تعني الـ"كلاتشاكرا" حَرفيًّا، "دائرة الزمن"؛ حيث تُفسَّر "الدائرة" أحيانًا على أنها فُسحة الكوْن.

وفي عام ٩٦٨ م تحوَّلت المملكة الإسماعيلية في ملتان (شمال السند) إلى دولة تابعة للإمبراطورية الفاطمية الإسماعيلية (٩١٠ – ١١٧١ م)، التي أُسِّست في إفريقيا الشمالية. وفي عام ٩٦٩ م احتل الفاطميون مِصر، ثم وسعوا إمبراطوريتهم بعد فترةٍ وجيزة - مع عاصمتهم الجديدة قرب القاهرة - وصولاً إلى غرب إيران. وقد هدَّدَ الفاطميون الإسماعيليون المخلصون بالاستيلاء على العالم الإسلامي قبل المعركة الفاصلة النهائية ونهاية العالَم المُرتقَبة في بداية القرن الثاني عشر، أي بعد خمس مئة سنة من وفاة النبي. أما الموجودون تحت الحكم العباسي - بما في ذلك منطقة كابول التي كانت تخضع لحُكم الغزنويين - فقد خافوا أن يغزوهم الفاطميون وحلفاؤهم.

هرب المانويون والشيعة المانويون والمانويون الذين اعتنقوا المذهب الشيعي الإسماعيلي من الإمبراطورية العباسية، وذلك بعد وصمهم بالزندقة، واتهامهم بأنهم تهديد للحُكم العباسي. ومن المعقول الافتراض أن الكثير منهم طلبوا حق اللجوء السياسي في ملتان. وبما أن التحول إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي يسمح بوجود توفيقات أولية بين المعتقدات فقد سُمِحَ لهؤلاء الذين تحولوا إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي بإضافة ماني إلى قائمة الأنبياء الإسماعيلية. وهكذا كان تحذير الكلاتشاكرا غالبًا يُشير إلى الإسماعيليين في ملتان الذين وُصِموا بالزندقة، بل حتى اتهامهم بأنهم تهديد أكبر من ضم العناصر المانوية بين معتقداتهم. ولا شك أن الباحثين البوذيين الأفغان قد قابلوا الشيعة المانويين من البلاط العباسي أثناء العمل في بغداد في أواخر القرن الثامن. وربما خلطَ البوذيون بين الإسماعيليين وبين معتنقي الشيعية المانوية بوصفه موروثًا في ذلك الوقت.

[انظر: طرح الكلاتشاكرا لأنبياء الغزاة غير الهنود.]

على أية حال تصور الكلاتشاكرا تانترا الغزاة بأنهم أعداء كل الممارسات الروحية، بما في ذلك الممارسات الخالصة للإسلام، بالإضافة إلى البوذية والهندوسية؛ حيث يدعو النص أتباع جميع الديانات إلى نبذ خلافاتهم، وتشكيل جبهة موحدة ضد هذا التهديد. وفي ظل حُكم شاهية الهندو كان وادي كابول يضم مجموعة سكانية مختلطة من البوذيين والهندوس والمسلمين من السُّنَّة والشيعة.

حتى لو اعتبر أحدهم أن الكلاتشاكرا تانترا تدعو إلى معركة خارجية ضد جميع المسلمين، وليس ضد عناصرها المخلصة المتعصبة فحسب، سيكون من المتأخر جدًّا تأكيد أن الخوتانيين قد تأثروا بتعاليمها ليعلنوا جهادًا بوذيًّا ضد القراخانيين في كاشغار. وتُشير أولى المراجع إلى حضور تعاليم الكلاتشاكرا في المحطات الواقعة في شبه القارة الهندية إلى كشمير في نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر. وقد انتقد البانديت الكشميري أبينافاغوبتا - وهو أحد النقاد الهندوس - نظامَ تأمل الملاتشاكرا في الفصل السادس عشر من نص التانترا الشافيتية الكشميرية، في نصه "إنارة التانترات". وكما ذكر بعض الباحثين فإن أبينافاغوبتا قد كتب نصه بين عاميْ ٩٩٠ و ١٠١٤ م، وتوفي عام ١٠٢٥ م. إلا أنه لا توجد إشارة إلى أن نظام الكلاتشاكرا الكامل - بما فيه من التعاليم حول الغزو - كان موجودًا في كشمير في ذلك الوقت، أو قبل ذلك في عام ٩٧١ م عندما أرسلت خوتان قوات عسكرية لدعم التمرد الكاشغاري. حتى لو كان هذا الجانب من تعاليم الكلاتشاكرا حاضرًا في كشمير في ذلك الوقت، فليست هناك إشارة إلى أن الكلاتشاكرا تانترا قد وصلت أساسًا إلى خوتان، بصرف النظر عن القرب الجغرافي بين كشمير وخوتان، والتبادل الحضاري والاقتصادي الكبير بينهما.

لذلك، إذا كانت البوذية تفتقر إلى أي تقليدٍ، أو عادةٍ تتعلق بحروبٍ مقدسةٍ بالمفهوم الإسلامي، فمن المرجح أن تكون خوتان قد استغلت التمرد الكاشغاري بوصفه حدثًا مناسبًا لإطلاق هجوم للإطاحة بالقراخانيين. فكان ذلك من أجل تأمين جوٍّ سياسي مستقر للتجارة الاقتصادية على طول القطاع الغربي من طريق الحرير. وبما أن الخوتانيين لم يواجهوا مشاكل مع السوق الإسلامية بالنسبة لبضائعهم في تركستان الغربية فمن غير المرجح أنهم شعروا بتهديدٍ ديني من قِبَل ستوق بغراخان الذي أعلن الإسلام دينًا رسميًّا لكاشغار.

[ انظر: الحروب المقدسة في البوذية والإسلام: أسطورة شامبالا – النسخة الكاملة.]

تقييم تحرك القراخانيين بصفته حربًا مقدسة
بالنسبة للطرف القراخاني كان الأئمة الأربعة بكل تأكيد شخصيات تاريخية، فقد عُظِّمت قبور هؤلاء الشهداء في خوتان حتى في القرن العشرين. بالإضافة إلى ذلك قد يكونون دعوا إلى الجهاد؛ لأنهم عَدُّوا الدعم الخوتاني للتمرد الكاشغاري حربًا مقدسةً بوذية. ولكن من غير المُحتمل أن يكون رجال الدين الإسلامي الأربعة قد تمتعوا بالسلطة في إطلاق بعثات عسكرية تحت سلطتهم الخاصة لأسباب دينية.

كان القاغانات والقادة القراخانيين زعماء جيش أقوياء بأنفسهم، وبوجود خطة طموحة لتوسيع إمبراطوريتهم على حساب الدول غير المسلمة والمسلمة، فقد أعدوا حملاتهم العسكرية، ووجَّهُوها بشكلٍ شخصي. فهم لم يطلقوا حربًا مقدسة ضد جميع جيرانهم البوذيين مثل الأويغوريين القوتشو، بل أطلقوها على خوتان فقط. فلذلك دعونا نعاين حالة الممالك القريبة؛ من أجل تقدير الاعتبارات الإقليمية، التي قد تكون شكلت القرارات العسكرية للقاغان.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:04 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٦ تحليل حصار خوتان
المناخ السياسي والديني بين التانغوت
بعد أن أسَّس سلالة لياو الخيتانية الحاكمة في منغوليا ومنشوريا وأجزاءٍ من الصين الهانية عام ٩٤٧ م، وبعد توحيد سونغ الشمالية فيما تبقى من الصين الهانية عام ٩٦٠ م، أصبح التانغوتيون يواجهون ضغوطًا من الشمال والشرق معًا. فقد احتلَّوا في جنوب قانسو ونينغشيا وجنوب شانشي منطقة إستراتيجية على المدخل الرئيس من آسيا الوسطى إلى تشانغآن، المحطة الشرقية الأخيرة لطريق الحرير، التي كانت خاضعة لسلطة السونغ الشماليين. ورغم أن التجارة من الغرب كان يمكن أن تتفادى التانغوتين، من خلال العبور في ممر قانسو عبر تسونغكا، إلا أن الطريق المباشرة بصورة أكبر كانت تمر من أراضيهم، إضافةً إلى أن الكثير من القوى كانت حريصة على الاستيلاء على المنطقة منهم. لكنَّ التانغوتيين صمدوا أمام كل الهجمات، وبعد حروبٍ طويلة ضد كل من الخيتانيين والسونغ الشماليين أعلن الحاكم التانغوتي جيتشيان (حكم من سنة ٩٨٢ إلى ١٠٠٤ م) نفسه في عام ٩٨٢ م أول إمبراطورٍ لسلالة التانغوت المستقلة (٩٨٢ – ١٢٢٦ م)، المعروف باللغة الصينية باسم شيشيا، وباللغة التبتية باسم مينياغ.

وخلال الخمسين سنة اللاحقة شنَّ التانغوتيون حروبًا متواصلة ضد حِلفِ جيرانهم المباشرين اليوغوريين الصُّفْر وتبتيِّي تسونغكا، الذين رغبوا في توسيع إمبراطوريتهم غربًا للسيطرة على المزيد من طريق الحرير. وكان البلاط السونغي الشمالي ودودًا مع كليهما، في محاولةٍ منه للتقرب منهما من محيط التأثير الخيتاني. وبالتالي استمر التانغوتيون في علاقاتهم العدائية مع كلٍّ من الصينيين الهانيين، والخيتانيين أصحاب التهديد الذي لا ينتهي في الشمال.

قَدِمَت البوذية أساسًا إلى التانغوتيين من الصين الهانية في القرن السابع الميلادي، وعندما وصل الرهبان التبتيون الثلاثة، الذين هربوا من الاضطهاد الذي تعرضت له البوذية في التبت على يد الإمبراطور لانغدارما (حكم من سنة ٨٣٦ إلى ٨٤٢ م) إلى تسونغكا، قدَّموا التعليمات الدينية إلى بوذي محلي، الذي منحوه الاسم الروحي غيواسانغ . وتوجيه هذه المبادَرة لاحقًا إلى المناطق التانغوتية لإجراء مزيدٍ من الدراسات حقيقةٌ تُشير إلى أن البوذية قد أصبحت مُنتشرة بصورةٍ لا بأس بها بين التانغوتيين في ذلك الوقت، على الأقل في الأوساط الأرستقراطية.

كانت الديانة التقليدية التانغوتية مزيجًا من النوع غير الكونفشيوسي لعبادة الأجداد مع الشامانية والتنغرية التي اعتنقها معظم شعب آسيا الوسطى والسهول المنغولية. ومثل الأتراك كان للتانغوتيين طائفةٌ للجبال المقدسة التي اعتقدت بأن تلك الجبال هي عروش حكمهم. ورغم أن الإمبراطور التانغوتي جيقيان الذي احترم تقليده الأصلي من خلال بناء معبد للأجداد فور استيلائه على العرش الملكي، وهو الأمر الذي لَقِيَ دعمًا شعبيًّا حماسيًّا، إلا أنه احترم البوذية كذلك. فعلى سبيل المثال جعل ابنَه ديمينغ - وهو الإمبراطور المستقبلي (حكم من سنة ١٠٠٤ إلى ١٠٣١ م) - يدرس النصوص البوذية وهو طفل.

الوضع في المناطق التبتية
في هذه الأثناء كانت التبت تتعافى ببطء من الفتنة الأهلية التي تبعت اغتيال لانغدارما عام ٨٤٢ م. فبعد عدة فترات حُكم ضعيفة في عهد ابن الإمبراطور الأخير بالتبني وخُلفائه انقسمت التبت عام ٩٢٩ م إلى مملكتيْنِ: واحدة استمرت بمستوى سياسي ضعيف في التبت الوسطى. والأخرى: سلالة النغاري الحاكمة التي وطَّنت نفسها في موطن الشانغ-شُنغ القديم في الغرب. وفي النهاية أصبحت كِلتا المملكتين مهتمَّتَيْنِ بإحياء التقليد الرهباني البوذي من الرهبان في تسونغكا.

استمرت البوذية في تسونغكا في الازدهار دون أن تتأثر باضطهاد لانغدارما لهم عام ٩٣٠ م، وقد بدأ تبتيُّو هذه المنطقة بالمساعدة في ترجمة النصوص بوذية من لغتهم إلى لغة الأويغوريين، وكان ذلك بعد مرور خمس سنوات على تبنِّي الخيتانيين لأحرف الكتابة الأويغورية لتكون نظامًا ثانويًّا للكتابةٍ، وهكذا حلَّت الفترة التي كان فيها أثر الحضارة الأويغورية على الخيتانيين في أحسن حالاته. وليس من الواضح هل كان التعاون الديني بين تبتيِّي تسونغكا مع الأويغوريين محصورًا على جيرانهم المباشرين في الشمال اليوغوريين الصفر، أو مع الأويغوريين القوتشو كذلك في الغرب؟ فقد تقاسمت المجموعتان التركيتان اللغة والحضارة أنفسهما.

ونمت الترجمة الدينية بين التبتيين والأويغوريين خلال النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، وزاد التواصل بينهما، خاصَّةً في الوقت الذي كان فيه التبتيون واليوغوريين الصفر حليفيْنِ في حربهما ضد التانغوت. وقد زار الحاج الصيني الهاني وانغ ياندي عاصمة اليوغوريين الصفر عام ٩٨٢ م، وهي السنة التي تأسَّست فيها الإمبراطورية التانغوتية، وذكرَ أن بها أكثرَ من خمسين ديرًا.

جهود الملك يشي-وو لإنعاش البوذية في التبت الغربية
أعاد ثلاثة رهبان تبتيين أوسطيين انتقلوا للعيش من تسونغكا إلى خام الحياةَ مرةً أخرى لسلالة الرسامة الرهبانية البوذية في التبت الوسطى في منتصف القرن العاشر الميلادي. وبالتالي بذل ملوك النغاري في غرب التبت الغربية جهودًا عظيمة لاستعادة البوذية ولو إلى مرحلة تتجاوز مرحلتها السابقة. وفي عام ٩٧١ م أرسل الملك يشي-وو رينتشين-سانغبو (٩٥٨ – ١٠٥٥ م) واحدًا وعشرين شابًّا إلى كشمير لتعلُّم الدين واللغة، كما أنهم زاروا جامعة فيكراماشيلا الرهبانية في الجزء الأوسط من شمال الهند.

كانت كشمير في هذا الوقت تلفظ أنفاسها الأخيرة في ظل سلالة أوتبالا الحاكمة (٨٥٦ – ١٠٠٣ م) التي تلت حُكم كاركوتا. وشهدت فترة أوتبالا الكثير من الحروب الأهلية وأحداث العنف في كشمير، واختلطت بعض جوانب البوذية بالنموذج الشايفيني للهندوسية. ولكن مع بداية القرن العاشر حصلت البوذية الكشميرية دفعة جديدة بعد إحياء المنطق البوذي في الجامعات الرهبانية شمالَ الهند، إلا أن نكسةً قصيرة حدثت أثناء حُكم الملك كشيماغوبتا (حكم من سنة ٩٥٠ إلى ٩٥٨ م)، عندما دمَّر هذا الحاكم الهندوسي المتعصب الكثير من الأديرة، ولكن البوذية كانت تمر بمرحلة إعادة بناء بطيئة أثناء زيارة رينتشين-سانغبو.

ورغم أن البوذية كانت قد وصلت مؤخرًا إلى قمة ازدهارها في خوتان، التي كانت على علاقة قريبة مع التبت الغربية لقرونٍ مضت، إلا أن النزاع الذي نشب بين خوتان والقراخانيين كان قد بدأ في كاشغار في السنة التي غادر فيها رينتشين-سانغبو عائدًا إلى دياره. ولم تعد خوتان مكانًا آمنًا لدراسة البوذية. وبالإضافة إلى ذلك رغب التبتيون في تعلم السنسكريتية من مصدرها في شبه القارة الهندية وترجمتها بأنفسهم من اللغة الأم. كانت ترجمات الخوتانيين للنصوص البوذية السنسكريتية غالبًا عبارة عن إعادة صياغة لهذه النصوص، في حين أن التبتيين، الذين أصابتهم بلبلة تجاه العقيدة البوذية، رغبوا في مزيدٍ من الدقة. وهكذا، ورغم أن وضع البوذية كان مضطربًا في كشمير، إلا أنها كانت العنوان الوحيد والقريب الآن نسبيًّا؛ حيث يستطيع التبتيُّون الحصول على تعليمٍ يُعتمَد عليه.

رينتشين-سانغبو وليغباي-شيراب وحدهما نَجَوَا من الرحلة والتدريب في كشمير، وفي سهول نهر الغانج الهندي الشمالي. وبعد عودة يشي-وو من التبت الغربية عام ٩٨٨ م أسَّس عدة مراكز لترجمة البوذية مع العلماء الرهبان من الكشميريين والهنود، الذين أعادهم رينتشين-سانغبو إلى التبت مُحمَّلين بأعداد كبيرة من الكتب، فبدأ الرهبان الذين دُعوا من دير فيكراماشيلا سلالة ثانية من الرسامة الرهبانية.

وخلال السنوات الأخيرة من القرن العاشر بنى رينتشين-سانغبو عدة أديرة في التبت الغربية، ضمت آنذاك أجزاءً من لداخ وسبيتي في الهند عبر جبال الهيمالايا، كما أنه زار كشمير مرتين إضافيتيْنِ ليدعو الفنانين من أجل تزيين هذه الأديرة لكسب إخلاص العامَّة في التبت. وكان ذلك - رغم تغير السلالة الحاكمة في كشمير - مع تأسيس سلالة لوهارا الأولى (١٠٠٣ – ١١٠١ م)، وكان الانتقال من سلالة حاكمة إلى أخرى سِلميًّا، ولم يؤثر سلبًا على وضع البوذية في كشمير.

بدأ الحصار القراخاني على خوتان عام ٩٨٢ م قبل ست سنوات من عودة رينتشين-سانغبو إلى دياره، وفور وصوله تدفَّقَ الكثير من البوذيين إلى التبت الغربية لاجئين بها، الأمر الذي ساعد بلا شكٍّ في إحياء البوذية هناك، وكانوا غالبًا من كاشغار، والمناطق الواقعة بين كاشغار وخوتان، التي امتدت على طول خط الدعم القراخاني. ورغم أن معظم الذين هربوا قد مرُّوا من طريق لداخ في طريقهم إلى التبت، إلا أنهم لم يعودوا إلى الغرب، ولم يستوطنوا كشمير القريبة، وهي رحلة أقل صعوبة وأقصر وقتًا. ولعل ذلك كان بسبب بروز مملكة النغاري، فقد كانت مستقرة أكثر من غيرها سياسيًّا ودينيًّا في وجه حُكم يشي-وو القوي ورعايته، وأحد العوامل الأخرى قد يكون الروابط الحضارية الطويلة بين المنطقة والتبت. وفي عام ٨٢١ م هرب رهبانٌ خوتانيون إلى التبت الغربية طالبين اللجوء ليهربوا من الاضطهاد.

الدعم العسكري التبتي لخوتان
لم يكد يمر على المملكة النغاريية التبتية الغربية عدة سنوات منذ تأسيسها حتى تحوَّل قراخانيو كاشغار من البوذية إلى الإسلام في الثلاثينيات من القرن العاشر الميلادي. وكانت نغاري في البداية ضعيفةً عسكريًّا؛ لِكَونها برزت هيئةً سياسيةً بعد الانقسام الذي حدث في التبت الوسطى حول مسألة الخلافة عام ٩٢٩ م. وبصعوبة بالغة كانت قادرة على المخاطرة بخلق عداوة مع القراخانيين بسبب الفروق الدينية، وكان عليها أن تحافظ على علاقات ودية مع جيرانها كي تنجو وتستمر.

لكن حسَب المصادر التاريخية البوذية التبتية اللاحقة فإن ملك نغاري - وهو يشي-وو - توجه إلى دعم خوتان الواقعة تحت الحصار مع حلول القرن الحادي عشر تقريبًا. وكان ذلك بلا شك بسبب الخوف الكبير من التوسع السياسي القراخاني المتزايد، كما كان بسبب القلق على الدفاع عن البوذية. ورغم أن التبتيين والقالوق/القراخانيين كانوا حلفاءَ منذ قرون سابقة، إلا أن بعضهم لم يهدد مناطق البعض الآخر أبدًا. بالإضافة إلى ذلك فإن التبت طالما اعتبرت خوتان ضمن نطاق تأثيرها الشرعي؛ لذلك تغيرت العلاقات بين الأمتيْنِ فورَ تخطِّي القراخانيين حدودَ هذا النطاق.

وحسَب المصادر التاريخية البوذية التقليدية فإن القراخانيين قد أسروا الملك يشي-وو، ولم يسمحوا لرعيته بدفع الفدية، فنصحهم الملك بتركه ليموتَ في السجن بدلاً من فدائه بالمال، وأن يستخدموه في دعوة المزيد من المعلمين البوذيين من شمال الهند، خاصةً أتيشا من دير فيكراماشيلا. وكان الكثير من المعلمين الكشميريين يزورون التبت الغربية مع بداية القرن الحادي عشر، وكان العديد منهم ينشرون أخبار الفساد الذي أصاب الممارسات البوذية هناك. وبما أن ذلك كان يضاعف المرحلة المتواضعة أساسًا من فهم البوذية في التبت؛ بسبب تدمير المراكز الرهبانية للدراسة في عهد لانغدارما، فقد رغب يشي-وو في إزالة تلك البلبلة الحادثة.

هناك الكثير من التناقضات التاريخية في هذه القصة التي تحكي تضحية يشي-وو؛ فقد انتهي الحصار المفروض على خوتان عام ١٠٠٦ م، في حين أن يشي-وو أصدر مرسومه الأخير من بلاطه عام ١٠٢٧ م لتنظيم ترجمة الكتب البوذية. وبذلك لم يمُت في السجن خلال الحرب، وحسب السيرة الذاتية التي كتبها رينتشين-سانغبو فإن الملك قد مات نتيجة مرضٍ ألمَّ به في عاصمته الخاصة.

ورغم ذلك تُشير هذه القصة الملفقة - بصورةٍ غير مباشرة - إلى أن التبتيين الغربيين لم يكونوا يتمتعون بقوة عسكرية قوية في ذلك الوقت، فلم يكونوا فعَّالين في رفع الحصار عن خوتان، ولم يشكلوا تهديدًا جديًّا لأي توسع قراخاني مستقبلي على طول فرع تاريم الجنوبي من طريق الحرير. ولم يكن بمقدورهم الدفاع عن المرتحلين التبتيين الذين يعيشون هناك.

إستراتيجية عسكرية قراخانية مُحتمَلة
سيطر الأويغوريون القوتشو على الفرع الشمالي من طريق الحرير، رغم أن هذا الشعب التركي المنافِس لم يكن يتمتع بنزعات حربية، إلا أنه كان تابعًا للخيتانيين الذين كانوا قوة عسكرية لا يُستهان بها في ذلك الوقت. ولو أراد القراخانيون غزو مملكة القوتشو في كوتشا القريبة مثلاً لخاض الخيتانيون هذه الحرب بلا تردُّد. ومن جهةٍ أخرى فخوتان - التي كانت تفتقر أيضًا إلى الخبرة الحربية - كانت أكثر عُرضة للهجوم من غيرها بكثير، رغم أنها كانت تُرسل بعثات إلى مختلف البلاطات الصينية الهانية، في محاولةٍ منها للحصول على الدعم، إلا أنها كانت معزولةً بشكل أساسي، ولم يكن باستطاعة نغاري المساعدة في تقديم دفاعٍ قوي.

بعد تَرْكِ طريق الفرع الجنوبي من طريق الحرير قرنًا ونصفًا من الزمن فتحه الخوتانيون مرة أخرى عام ٩٣٨ م، وأصبح يحمل تجارة اليشم إلى الصين الهانية، ولكنه كان مهجورًا في الغالب، إلا من قِلةٍ من المرتحلين التبتيين الذين كانوا يفتقدون القدرة الدفاعية. فاحتلال المسلك الشمالي سيتطلب سلسلة من المعارك للاستيلاء على كل واحة من واحات الأويغوريون القوتشو من كوتشا إلى تورفان، في حين أنه يمكن الاستيلاء على المسلك الجنوبي من خلال الفوز بمعركة واحدة لا غير؛ وهي معركة خوتان.

لو استطاع القراخانيون الاستيلاء على خوتان، وضمها إلى إمبراطوريتهم التي توسعت غربَ خوتان عبر كاشغار، وصولاً إلى المدن الرئيسة في صغديا، لَكانوا سيطروا بشكلٍ آلي على كل الفرع الجنوبي من طريق الحرير في آسيا الوسطى وحتى دونهوانغ؛ حيث اتَّحَدَ الفرع الجنوبي مع الفرع الشمالي. حينئذٍ كان يمكنهم السيطرة على طريق تجاري بديل يمر عبر تاريم الشمالية تحت حُكم القوتشو، وكانوا سيحققون مكاسب كبيرة على المستوى المالي، وعلى مستوى إظهار القوة. وبذلك فلن يكونوا بحاجة إلى شنِّ حملة عسكرية للفوز بالسيادة على القوتشو، وإنما يمكنهم بدلاً من ذلك نزعهم اقتصاديًّا، وذلك من خلال عزلهم عن تجارة طريق الحرير. لكن أحد العوامل العامة في بلوَرة إستراتيجية عسكرية للاستيلاء على الفرع الجنوبي من طريق الحرير كان الطريقة التي ستردُّ فيها الدوَل الواقعة شرقًا على الزحف القراخاني.

علاقة التانغوت
منذ التسعينيَّات من القرن التاسع الميلادي كان اليوغوريون الصفر يحكمون دونهوانغ في أقصى شرق طريق تاريم الجنوبي، وذلك بعد احتلالهم دولة غوييجيون؛ حيث اتحد الطريق الجنوبي بالفرع الشمالي. وقد امتدت منطقة اليوغوريين الصفر - في ظل السيادة الخيتانية منذ التسعينيات من القرن التاسع الميلادي - جنوبًا من هناك حتى ضمت ممر قانسو الذي يتخلله طريق الحرير، وامتد الطريق عندها عبر قانسو الجنوبية الواقعة في قبضة التانغوتيين قبل استمراره إلى الصين الهانية، أو انقسامه جنوبًا إلى منطقة كوكونور، وهي المحطة الأخيرة للتجارة العربية-التبتية، التي كانت تخضع وقتها لحُكم مملكة تسونغكا التبتية.

وبما أن التانغوتيين كانوا عدائيين إلى أبعد الحدود تجاه السونغ الشماليين في ذلك الوقت، فقد سدُّوا كل منافذ التجارة التي تمر في منطقتهم، التي يفترض أن تصل إلى الصين الهانية، ليتحولوا أنفسهم إلى المتلقي الرئيس للبضائع. وبالتالي انحرف الطريق التجاري إلى تشانغآن ليتفادى التانغوت، من خلال المرور جنوب منطقة اليوغوريين الصفر إلى تسونغكا، ومن هناك إلى الصين الهانية. وهكذا في عام ٩٨٢ م، ومع تأسيس سلالته شن الإمبراطور التانغوتي جيقيان حربًا سريعة توسعية للاستيلاء على مناطق اليوغوريين الصفر وتسونغكا، ولقطع كل إمكانيات دخول السونغ الشماليين إلى أراضي آسيا الوسطى غربًا.

وتبعًا للإستراتيجية الكلاسيكية: "عدو عدوي صديقي". فسرعان ما أنشأ القراخانيون علاقات ودية مع التانغوتيين. ولم يبدُ أن أفضلية التانغوتيين بالنسبة للبوذية قد شكَّلت عائقًا أمام المفاوضات الدبلوماسية، ويبدو أن الاعتبارات الجغرافية كانت تأخذ أفضلية على الاعتبارات الدينية عندما تكون المكاسب الاقتصادية على حافة الهاوية.

اتفاقيات عسكرية مُحتملة مع التانغوتيين
إنَّ فَرْضَ القراخانيين الحصارَ على خوتان في عام ٩٨٢ م حقيقةٌ تجعلنا نعتقد – رغم عدم وجود أية دلائل واضحة - أن القراخانيين والتانغوتيين قد أبرموا اتفاقية فيما بينهم. ويتناول أحد الاحتمالات بالنسبة للشروط فرضية أنه في حال لم يعرقل التانغوتيون الاستيلاء القراخاني على خوتان وتاريم الجنوبية فلن يتدخل القراخانيون بدورهم مع الغزو التانغوتي لما تبقَّى من قانسو ومنطقة كوكونور. وفي حال لجأ الخيتانيون إلى حماية اليوغوريين الصفر سيكون التانغوتيون في موضع أفضل بكثير من الموضع الذي سيكون فيه القرخانيون لصدهم. فبالنسبة للقراخانيين فشَنُّ هجومهم الخاص على اليوغوريين الصفر، واضطرارهم إلى محاربة الخيتانيين كذلك، سيتطلب خطَّ دعمٍ لا يمكن تحمله، يمر عبر نفايات صحراء تاريم الجنوبية.

ولو نجح كلٌّ من القراخانيين والتانغوتيين في هجماتهم العسكرية لَفازوا بسيطرة لا مثيل لها على جنوب طريق الحرير، من شمال شرق التبت والحدود مع الصين الهانية إلى سمرقند، ولَحدُّوا بشكلٍ كبير أية مشاركة تجارية للسونغ الشماليين والأويغوريين القوتشو. ورغم أن البوذيين الخوتانيين قد قدموا الدعم للمقاومة الكاشغارية للإسلام، إلا أن ذلك بلا شكٍّ كان قد زوَّد القراخانيين فقط بظرف أخلاقي لفرض حصارهم. لكن في تلك الأوقات لم تسعَ الأمم إلى التماسِ أعذارٍ لشن الهجماتٍ العسكرية.

من الممكن كذلك تفسير مجرى الأحداث دون تخيل إبرام عقد سلمي متبادَل بين القراخانيين والتانغوتيين فيما يخص خوتان وممر قانسو. فرغم أن كِلتا الأمتيْن كانتا بحاجة إلى تقسيم السيطرة على تجارة طريق الحرير، إلا أن الخاقان القراخاني كان بلا شك يريد هو أيضًا أن يضم اليوغوريين الصفر إلى إطار تأثيره بوصفه قائدًا على كل القبائل التركية. فإذا كانت المواجهة العسكرية المباشرة مع الأويغوريين القوتشو أو اليوغوريين الصفر عبارة عن مُخاطَرة شديدة بسبب التدخل الخيتاني المُحتمَل، فقد كان كانت هناك وسائل أخرى لكسب ولائهم.

فعلى سبيل المثال لو تمتع الخاقان القراخاني بنجاح عسكري واقتصادي كبيريْنِ في احتلاله طريق تاريم التجاري، وضمه إلى مناطقه في تركستان الشرقية، لاقتنعت مجموعتا الأويغوريين بقوته الروحية العُليا. إن الاعتراف بنصر الخاقان بصفته تمثيلاً جليًّا لسلطته الشرعية على كل الأتراك، وبوصفه محافظًا على أمن جبل بلاساغون المقدس قد يجعلهم يتنازلون عن آمالهم في استعادة أوتوكان من الخيتانيين، واللجوء بدلاً من ذلك إلى قائدهم الشرعي. وبعد رؤيتهم للخاقان وقد اختار دياناته بشكل صحيح عندما اعتنق الإسلام، وحاز القوة العُليا للفوز ببلاساغون وتاريم الجنوبية، فإنهم سيتحولون بشكل طبيعي من البوذية إلى الإسلام، وذلك ليس علامة خضوعٍ لله، وإنما خضوع للخاقان القراخاني.

إذًا كان الهدف الرئيس للخاقان في حملته على تاريم الجنوبية بلا شكٍّ ليس الانتشار الفعلي للإسلام من أجل الصلاح والانتقام للشهداء، وإنما كان على المدى القصير كسب امتيازات اقتصادية وإقليمية على الأرجح، وعلى المدى الطويل لكسب أتباع جدد من الأتراك، بوصفهم وسيلةً لكسب ولائهم السياسي الموحد له من خلال تجميعهم تحت راية العقيدة الأجنبية. هذه هي الخُلاصة التي تنبع من النمط التاريخي للحُكام الأتراك السابقين الذين قادوا شعبهم إلى اعتناق البوذية والشامانية والمانوية. ولكن، وبصرف النظر عن دوافع الخاقان، كان الكثير من الأتراك بلا شكٍّ مُخلصين في اعتناقهم الإسلام.

اختفاء البوذية في خوتان
إن المصادر التاريخية التي تذكر الاحتلال القراخاني لخوتان الذي تلا الحصار والتمرد اللاحق، لا تذكر شيئًا يخص المجموعة السكانية الأصلية. وبعد سنة واحدة من قمع العصيان أصبح التجار الخوتانيون وبعثات دفع الضرائب القادمة إلى الصين الهانية لا تضم إلا المسلمين الأتراك. وحلَّت لغة القراخانيين التركية محل الخوتانية، وأصبحت الدولة كلُّها إسلامية، واختفت البوذية تمامًا.

فَقَد التبتيون اتصالهم بأملاكهم السابقة، لدرجةِ أن الاسم التبتي لخوتان "لي" فقد معناه الأصلي، وأصبح يُشير إلى وادي كاتماندو في نيبال، بصفته اسمًا مختصَرًا للسلالة الحاكمة السابقة ليتشافي (٣٨٦ – ٧٥٠ م) التي سيطرت عليه. وحُوِّلت كل الأساطير البوذية المتعلقة بخوتان إلى كاتماندو كذلك، مثل نشوئها من تجفيف مانجوشري لإحدى البحيرت عبر شقه جبلاً بسيفه. ومع حلول القرنيْن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين فقد التبتيون المعرفة بهذه الأساطير وأنها كانت ترتبط بخوتان. وهكذا فإن المصادر البوذية التبتية حول موت الملك يشي-وو في سِجنه على يد "غارلوغ" - أي القارلوق القراخانيين - تُشير إلى أنها حدثت بشكلٍ مفاجئ في نيبال. ورغم أن نيبال كانت تشهد حربًا أهلية بين عاميْ ١٠٣٩ و ١٠٤٥ م فإن القبائل التركية لم توجد هناك إلا نادرًا، وإنما كان هناك القارلوق وحدهم في ذلك الوقت.

من هذا الدليل الذي أُضيف إلى تحليلنا السابق يبدو أن اختفاء البوذية بين الخوتانيين كان نتيجةً لاندثار المجموعة السكانية في الحصار الذي دام أربعةً وعشرين عامًا، وسحق المتمردين الناجين لاحقًا، وليس نتيجةً لتحول البوذيين بالقوة إلى الإسلام. وكان الشاغل الرئيس للقراخانيين يرتكز على تحويل الأتراك إلى الإسلام - وليس الشعب الآخر تحت حكمهم – بوصفه جزءًا من جهدهم لتوحيد القبائل التركية تحت رايتهم، بصفتهم حُماةَ الجبل المقدس بلاساغون. فإنهم على سبيل المثال أجروا في عام ١٠٤٣ م طقسًا جماهيريًّا لتحويل عشرة آلاف تركي إلى الإسلام، وتخلل ذلك ذبح عشرين ألف رأس من الماشية، وهو ما يُشير إلى الأسلوب الشاماني التقليدي، وبالتالي الأهمية الإثنية للحَدَث نفسه.

وقد أخذ القراخانيون الدول الأموية والعباسية والسامانية قدوة لهم يقتدون بها في منح الحماية لرعاياهم غير الأتراك الذين اتبعوا ديانات أخرى. فعلاقتهم بالمسيحية النسطورية قوية جدًّا؛ حيث حافظت سمرقند على مطرانية نسطورية خلال فترتها القراخانية. بالإضافة إلى حصول كاشغار على مطرانية كذلك بعد الإطاحة بالإمبراطورية القراخانية عام ١١٣٧ م، وهو ما يُشير إلى أن المسيحية النسطورية كانت حاضرة وغير مضطهَدة خلال حُكمهم. ويمكن للمرء أن يستنتج أن الحال كانت نفسها بالنسبة للبوذية هناك، خاصةً أن هؤلاء الحكام اللاحقين لكاشغار فضلوا البوذية، وخلال فترة حُكمهم تميزت كاشغار بالعديد من رجال الدولة البوذيين.

ووجود مجتمع نسطوري صغير في خوتان مع كنيستيْن قبل الحصار، وعدم ذكر ذلك في مرحلة لاحقة، رغم التسامح القراخاني تجاه المسيحية، حقيقة تعطي ترجيحًا إضافيًّا إلى النتيجة القائلة بأن معظم المجموعة السكانية الأصلية في خوتان - من المسيحيين والبوذيين على حد سواء - قد هلكت خلال الاحتلال العسكري. ولولا ذلك لَعاد النسطوريون الخوتانيون إلى الظهور في المصادر التاريخية، كما كانت حال إخوتهم في كاشغار.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:05 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٧ التانغوتيون والتبت وصين السونغ الشمالية في القرن الحادي عشر
التانغوتيون يحبطون الخطط التوسعية القراخانية
بعد سقوط خوتان لم يستطع القراخانيُّون مواصلة شقِّ طريقهم شرقًا في إطار حملتهم للسيطرة على ما تبقَّى من تاريم الجنوبية. وهاجم محمود الغزنوي من الجنوب، واشتعلت الحرب بين القوتين التركيتين فترة امتدت من عام ١٠٠٦ إلى ١٠٠٨ م. وقد غادر يوسف قادر خان خوتانَ لخوض هذه الحرب، حتى نجحَ أخيرًا في صد الغزنويين. بعد ذلك عاد إلى خوتان من أجل إخماد تمرد نشبَ فيها، وعندما قضى على التمرد بدأ على الفور في إرسال بعثاتٍ دفع الضرائب والتجارة إلى بلاط السونغ الشمالية في عام ١٠٠٩ م، وهذا يشير بوضوح إلى أن السيطرة على تجارة جنوب طريق الحرير مثَّل أولوية قصوى لديه.

انشغل القراخانيون في الصراع الداخلي على العرش في السنوات اللاحقة، إلى أن أصبح يوسف هو الخاقان في عام ١٠٢٤ م. ورغم أن الفرصة لم تسنح للقراخانيين خلال هذه الفترة للسيطرة على تاريم الجنوبية شرقي خوتان، فإن التجارة الصينية-الخوتانية التي قادها تجار مسلمون من الأتراك لم تتعرض لأي تشويش.

[ شاهد الخريطة السابعة والعشرين: صعود الإمبراطوريات القراخانية والغزنوية والتانغوتية في النصف الأول من القرن الحادي عشر.]

في هذه الأثناء واصل التانغوتيون تنفيذ خططهم العسكرية الهادفة للتوسع، وعقد الإمبراطور التانغوتي الثاني ديمنغ (حكم من سنة ١٠٠٤ إلى ١٠٣١ م) سلامًا مع الصين السونغية الشمالية في عام ١٠٠٦ م، وذلك بعد سنتين على سقوط خوتان. وبعد ذلك اتبع البلاط التانغوتي الطقوس والمراسيم الكونفشيوسية المعمول بها لدى نظرائهم في السونغ الشمالية، وهو ما أشعر السونغ الشمالية بالتفوق الحضاري، وعزَّز من فاعلية البلاط التانغوتي.

وحتى ذلك الحين ربطت السونغ الشمالية باليوغوريين الصفر والتسونغكا علاقات صداقة، ولكن مبادرة السلام التي توجهت بها التانغوت إلى السونغ الشمالية غيرت مسار هذا الاتجاه السياسي بشكل فعَّال، فبعد أن أمَّن التانغوتيون الجانب الشرقي من البلاد ، وكذلك تأكَّدوا من عدم تدخل التسونغ الشمالية في خططهم العسكرية، استكملوا مهاجمة مملكة اليوغوريين الصفر ومحاولة الاستيلاء عليها، ابتداءً من حملتهم العسكرية عام ١٠٢٨ م. وقد فر التبتيون الذين يسكنون هناك إلى تسونغكا، التي تعرضت أيضًا لهجوم التانغوتيين.

وأثناء ذلك نمت قوة التانغوت إلى درجة حدَّت من قدرة القراخانيين على التوسع أكثر نحو الشرق في حوض تاريم. وفي ظل حكم أعظم ملوك التانغوت يوانهاو (حكم من سنة ١٠٣٨ إلى ١٠٤٨ م) سيطر التانغوتيون على اليوغوريين الصفر، بالإضافة إلى مناطق من دونهوانغ، وحتى الحدود القراخانية في خوتان. لكنهم لم ينجحوا أبدًا في انتزاع تسونغكا من التبتيين المحليين.

ورغم أن التانغوتيين قد عقدوا سلامًا مع البلاط السونغي الشمالي، إلا إنها فرضت ضرائب وقيودًا مشددة على حركة التجارة في آسيا الوسطى، التي كانت تمر من المناطق التي سيطرت عليها حديثًا نحو الصين الهانية. وسرعان ما حلَّت تسونغكا مكان آسيا الوسطى، بوصفها أكبر الشركاء التجاريين للصين السونغية الشمالية، خاصةً لكونها تزودهم بالشاي وهو المنتج الأساسي، وكذلك بالخيول عالية القيمة اللازمة للأعمال العسكرية.

بالإضافة إلى ما سبق فإن تكرار الغزنويين لهجماتهم وسيطرتهم على غندهارا وشمال غرب الهند بين عام ١٠٠١ و ١٠٢١ م، من خلال نهب وتدمير المعابد الهندوسية والأديرة البوذية الثرية هناك، قد أنهى بشكل فعَّال الرحلاتِ الدينية من الهند وإليها عبر طريق الحرير. وخرج الحُجَّاج من آسيا الوسطى أو الصين الهانية إلى أديرة الهند في رحلات لدعوة المعلمين البوذيين وإعادة النصوص والآثار الدينية عدة قرون. أمَّا آخر الرحلات المدوَّنة في مصادر السونغ الشمالية فقد كانت على يد دارماشري، الذي وصل إلى الصين الهانية في عام ١٠٢٧ م، وسوماناس في عام ١٠٣٦ م. وبعد ذلك أصبح من المستحيل أن تخرج هذه النوعية من الرحلات من الهند وإليها مرة أخرى.

تسلم التانغوتيين الكتبَ البوذية الصينية المقدسة
طُبِع النص المقدس البوذي الصيني أول مرة بين عامي ٩٧٢ و ٩٨٣ م تحت رعاية أول إمبراطوريْن من سلالة السونغ الشمالية، وكان هذا النص قبل ذلك منسوخًا في مخطوطات قديمة. وفي عام ١٠٢٩ م - وبعد سنة من سيطرة ديمنغ على اليوغوريين الصفر - أرسل الإمبراطور التانغوتي، الذي تعلم البوذية في طفولته، وفدًا إلى البلاط السونغي الشمالي ومعه سبعون حصانًا هديةً، طالبًا نُسخةً من هذا النص المقدس. فلم يعد ممكنًا الحصول على أية نصوص من الهند. وقد قدَّم إمبراطور السونغ الشمالية رينزونغ (حكم من سنة ١٠٢٣ إلى ١٠٦٤ م) هذا الطلب بناء على اتفاقية السلام السابق ذكرها، التي فاوضهم عليها حاكم التانغوتيين.

ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا أرسل أباطرة التانغوتيين اللاحقون بعثاتٍ إلى الصين الهانية؛ سعيًا إلى الحصول على المزيد من النصوص البوذية. وكان ذلك بسبب الحروب التي كانت بين التانغوتيين واليوغوريين الصفر من جهة، وبينهم وبين التبت في تسونغكا من جهة أخرى ، وهما المصدران البديلان للمؤلفات البوذية التي لم تعد متاحة من الهند، كل هذا بالإضافة إلى أن المجموعة الكاملة للنصوص الأدبية البوذية كانت باللغة الصينية. ورغم أن هناك أسبابًا دينية ربما دفعت أباطرة السونغ الشمالية إلى مواصلة التعاون مع طلبات التانغوتيين، فإنهم بلا شكٍّ فكَّروا في إمكانية وجود مصدر آخر للخيول اللازمة لهم، ورغبوا كذلك في إزالة العراقيل التجارية التانغوتية مع آسيا الوسطى.

دور الأويغوريين واليوغوريين في تأسيس البوذية التانغوتية
بعد أن استكمل يوانهاو سيطرة التانغوتيين على اليوغوريين الصفر في عام ١٠٣٤ م، بدأت ثقافة اليوغوريين والأويغوريين بالتأثير في ثقافة التانغوتيين. وواصلت الأديرة البوذية لدى اليوغوريين الصفر ازدهارها تحت حكم التانغوت، وكان رهبان اليوغوريين والأويغوريين المتعلمون يسافرون عبر المناطق التابعة للتانغوتيين، وزاد أتباع البوذية بشكل كبير من عامة الناس. وقد استوطن عدد من سكان التانغوتيين منطقة قوتشو. ورغم وجود صراعات سياسية عرضية بين التانغوتيين وبين الأويغوريين القوتشو إلا أأأن الشعبين تمتَّعَا على المستوى العام بعلاقات سلمية، في الوقت الذي رضي فيه الأويغوريون بالتبعية والخضوع للتانغوتيين، مثلما كانوا مع الخيتانيين في منغوليا.

ورغم أن التانغوتيين نقلوا العديد من الجوانب العملية عن الثقافة الصينية الهانية، إلا أنهم لم يرغبوا في أن تصبح مثلها تمامًا، بل رغبوا في أن تكون لهم شخصيتهم الخاصَّة المستقِلَّة، أُسوةً بما فعله الحكام غير الصينيين الهانيين في بعض المناطق شمال الصين من قبلهم. وكما فعل الأتراك القدامى والأويغوريون والخيتانيون فكَّر التانغوتيون في خلق مسافة عن طريق إيجاد نظام للكتابة وعمليات الترجمة بلغتهم الخاصة بهم. ولهذا تبنَّى التانغوتيون في عام ١٠٣٦ م صياغة أبجدية لكتابة لغتهم، وهذه اللغة التي تطورت من الحروف الخيتانية كانت أكثر الأبجديات تعقيدًا في آسيا كلها.

ومن خلال استخدام هذا النص المكتوب فإن اليوغوريين والأويغوريين الذين اكتسبوا تجربة مع الخيتانيين ساعدوا التانغوتيين في ترجمة البوذية الصينية الهانية إلى لغتها، وكذلك في ترجمة نصوص كونفشيوسية نافعة لإدارة شئون الدولة. وبما أنَّ النص المكتوب كان صعب التعليم فقد ترجم التانغوتيون نصوصهم البوذية الطقسية بدايةً ترجمةً صوتية إلى الأبجدية التبتية، مثلما حدث مع النصوص الأويغورية والصينية الهانية في هذا المجال سابقًا. وهكذا ظلت الثقافة التبتية حاضرة في هذه المنطقة كذلك.

وفي عام ١٠٣٨ م جعل الإمبراطور يوانهاو البوذيةَ الديانة الرسمية للدولة بالنسبة للتانغوتيين، ومثلما اعتبرت العائلة الملكية التانغوتية نفسها من سلالة توبا وي الحاكمة في شمال الصين (٣٨٦ – ٥٣٤ م)، فإن تلك الخطوة شكلت عودة كبيرة إلى سياسة توبا بخصوص تنظيم الدولة للبوذية. وهكذا سنَّ الإمبراطور في عام ١٠٤7 م قانونًا يُلزم جهاز الدولة والجمهور بإقامة الطقوس والصلوات البوذية. وبالتالي فإن انتشار البوذية بين التانغوتيين كان بمساعدة الدولة. وبسبب سيطرة الدولة القوية كانت المعايير الأدبية والتعليمية في أديرة التانغوتيين صارمة وشديدة دائمًا.

العلاقات الصينية-التانغوتية السياسية والدينية اللاحقة
وقد اندلعت حرب امتدت على مدار أربع سنوات بين إمبراطورية التانغوتيين والصين السونغية الشمالية، وذلك خلال الفترة التالية لعهد يوانهاو، بين عاميْ ١٠٤٠ و ١٠٤٤ م. ولا شكَّ أن البلاط السونغي الشمالي قد رغب في توسيع رقعة التجارة مع شعوب طريق الحرير، لكنه لاقى صعوبة كبيرة في الوصول إليها عبر التانغوتيين. وفي عام ١٠٤٨ م اغتال يوانهاو ابنُه، الذي عوقب سابقًا بسبب تغلُّب ميوله الطاوية الصينية الهانية على تأييد بوذية التانغوتيين القومية. وهكذا، وخلال نصف قرن من الزمان، تبوَّأَ عرشَ التانغوتيين أباطرةٌ ضعفاء، سيطرت عليهم أمهاتهم الملكات اللاتي أمسكن بمقاليد الحكم، ولعل قوة التانغوتيين العسكرية قد ضعفت بدرجة كبيرة، مما جعل العراقيل التي كانت تعوق التجارة بين آسيا الوسطى والصين الهانية أقلَّ مما كانت عليه.

وخلال هذه الفترة هاجم التانغوتيون والخيتانيون والصين السونغية الشمالية بعضهم البعض من حين إلى آخر، ولم يكن بوسع السونغ الشمالية فرض سيطرتها، وبما أنها كانت الأضعف بين الثلاثة فقد وافقت في عام ١٠٨٢ م على دفع جزية سنوية للتانغوتيين والخيتانيين في محاولة لاسترضائهما. ولكنَّ التانغوتيين - سواء قبل هذه الاتفاقية أو بعدها - واصلوا إرسال بعثات إلى الصين الهانية لجلب نصوص بوذية، حتى إن عددًا من أباطرة التانغوتيين وأمهاتهم الملكات قد شاركوا في ترجمتها. وقد واصل اليوغوريون والأويغوريون مساعدتهم في المسائل الدينية، خاصَّةً في ترجمة النصوص البوذية الإضافية للتانغوتيين من السنسكريتية والتبتية، وفي بعض الأحيان من الأويغورية نفسها.

وقد استمرت البوذية في النمو بقوة في مملكة الأويغوريين القوتشو أيضًا. فعلى سبيل المثال، في عام ١٠٩٦ م قدَّم حاكم القوتشو لإمبراطور السونغ الشمالية تمثالاً لبوذا مصنوعًا من اليشم. لكن البوذية لم تُفرض بموجب القانون على الناس، ولم تحدد مكانتها بموجب سيطرة حكومية مشددة مثلما كان الأمر في دولة التانغوتيين. وقد ازدهرت البوذية أيضًا في تسونغكا في ذلك الوقت، واستخدم بلاط تسونغكا رهبانًا بوذيين لحماية بعثاتهم إلى بلاط السونغ الشمالية.

إحياء البوذية في التبت الوسطى
خلال القرن الحادي عشر الميلادي تدفق حشد كبير من التبتيين إلى كشمير وشمال الهند لتعلُّم البوذية، وقد أحضروا معهم معلمين من هذه المناطق للمساعدة في إحياء البوذية في أديرة مُشيَّدة حديثًا في بلادهم. ورغم أن النشاط الأساسي في هذا الاتجاه جاء من مملكة نغاري شرقي التبت إلا أنه انتشر في الأقسام المركزية من البلاد أيضًا، ابتداءً بتأسيس دير شالو في عام ١٠٤٠ م.

وقد أحضر كلُّ معلم هندي وكلُّ طالب تبتي عائد، معه - أو معها - سلالة نمط عيني من الممارسة البوذية، وبنى العديد منهم أديرة نشأت حولها جماعات دينية، بالإضافة إلى جماعات علمانية كذلك. ومع بداية القرن الثالث عشر اندمجت جماعات هذه البعثات المتبادلة في طوائف مختلفة تسمى مدارس "الفترة الجديدة" للبوذية التبتية – كادام وساكيا، وعدد من التوجهات المختلفة من الكاغيو.

بدأ قسم آخر من معلمي التبت في القرن الحادي عشر في اكتشاف النصوص التي قد خُبِّئت لأجل الحفاظ عليها في التبت الوسطى وبوتان خلال سنوات الاضطراب في أواخر القرن الثامن الميلادي ومطلع القرن التاسع. وقد تحولت النصوص البوذية التي عُثِر عليها إلى أساس مدرسة "الفترة القديمة" أو النيِنغما، في حين أن هذه النصوص المأخوذة من التقاليد التبتية الأصلية التي استُعِيدت مرة أخرى شكَّلت أساس تكوين دين البونية المنظَّم. واكتشف عدد من المعلمين كِلا النوعين من النصوص التي كانت عادةً ما يشبه أحدها الآخر إلى حد كبير. لكن البونية المنظمة في الحقيقة قد اشتركت في العديد من المزايا مع كلٍّ من مدارس الترجمة البوذية القديمة والجديدة، التي ادَّعى معلمون لاحقون من كل الأديان أن الدين الآخر انبثق منها.

واصلت عائلة نغاري المالكة أداء دورها المهم في بسط رعايتها على ترجمة النصوص البوذية التي أُحضِرت حديثًا من كشمير وشمال الهند، وأيضًا إعادة صياغة ترجمات سابقة، وتوضيح نصوص ملتبسة حول نقاط مُهمة محددة في الدين. وقد جمع مجلس تولينغ - الذي عقده الملك تسيدي في دير تولينغ في نغاري عام ١٠٧٦ م - مترجمين من مناطق التبت الغربية والوسطى والشرقية، وكذلك عددًا من معلمي كشمير وشمال الهند، وكان فعَّالاً في تنسيق العمل. وقد حدد مرسوم عام ١٠٩٢ م الذي أعلنه الأمير شيوا-وو المعاييرَ التي تعرف بها النصوص الموثوق بها.

العلاقات القراخانية مع البوذيين بعد سقوط خوتان
خلال هذه الفترة أرسل القراخانيونَ تجارًا مسلمين من خوتان إلى عاصمة السونغ الشمالية عبر مسلك جنوب تاريم الذي سيطر عليه التانغوتيون. وبين عامي ١٠٦٨ و ١٠٧٧ م كانت هناك العديد من البعثات – اثنتان في كل سنة على الأقل – توجب على سلطات السونغ الشمالية وَضْعَ حدود لحجمها ومرات تكرارها، وقد تواصلت هذه التجارة حتى سقوط مملكة القراخانيين عام ١١٣٧ م.

ويبدو أن الإيمان القوي بالبوذية لدى التانغوتيين واليوغوريين القوتشو والصين الهانية لم يكن أبدًا مصدر تثبيط لسعي القراخانيين في نيل السيطرة الاقتصادية، ولو أن علاقاتهم الدولية كانت موجهة حصريًا بهدف تحويل الكفار إلى الإسلام لَكانوا بالتأكيد قد قاطعوا التجارة البوذية، وهاجموا التانغوتيين واليوغوريين أو التبتيين النغاريين حينما كانوا ضعفاء. ولكن من خلال مواكبة النمط الذي ظهر مِرارًا في تاريخ العلاقات الإسلامية-البوذية في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، اتَّصفَ فتحُ المسلمين لهذه البلاد بتدمير مؤسسات دياناتها المحلية، في حين أن الاحتلال اللاحق تجلَّى في الاستغلال الاقتصادي. وهذا الأخير استلزم على الدوام درجة معينة من التسامح الديني، وعند حدوثه كانت له أفضلية في تكوين السياسة.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:06 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٨ الغزنويون والسلاجقة
الحملة الغزنوية على غندهارا وشمال غرب الهند
بعد فشل هجوم محمود الغزنوي على الإمبراطورية القراخانية في عام ١٠٠٨ م، واضطراره إلى الرجوع إلى الشمال، جنَّد الأتراكَ السلاجقة في جنوب صغديا وخوارزم للدفاع عن مملكته في وجه الاجتياح القراخاني، وكان السلاجقة قبيلة تركية مُستعبَدة استخدمها السامانيون للدفاع، وقد اعتنقوا الإسلام في تسعينيات القرن العاشر، وحين أمَّن محمود موطنه اتجه اهتمامه مرة أخرى إلى شبه القارة الهندية.

وقبل ذلك بعشرات السنين غزا الفاطميون (٩١٠ - ١١٧١ م) مصر في عام ٩٦٩ م، وحوَّلوها إلى مركز إمبراطوريتهم النامية بقوة. فقد كانوا يسعون إلى توحيد العالم الإسلامي كله تحت راية طائفتهم الإسماعيلية، استعدادًا لقدوم المهدي المنتظر، والحرب الخلاصية، ونهاية العالم، التي حُدِّد موعدها في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي. وقد امتدت سيطرتهم من شمال إفريقيا حتى غرب إيران، وقد استغلُّوا ما لديهم من قوة بحرية قوية؛ فأرسلوا بعثات دينية ودبلوماسية إلى مواقع بعيدة من أجل توسيع تأثيرهم ودعوتهم الدينية، وكانوا خَصمًا لدودًا للعباسيين السُّنَّة في الصراع على قيادة العالم الإسلامي.

كانت بقايا الحكم الإسلامي في السند بعد الغزو الأموي ضعيفة إلى حدٍّ بعيد، فقد كان الحُكَّام السُّنة يقدِّمون ولاءهم اسميًّا فقط للخليفة العباسي، في الوقت الذي تقاسموا فيه السلطة مع الحكام الهنود المحليين. لقد تعايش الإسلام بسلام مع البوذية والهندوسية والجاينية. ومع ذلك وجد الدعاة الإسماعيليون جمهورًا مؤيدًا لدى السُّنة والهنود غير الراضين عن الوضع الراهن. وفي عام ٩٥٩ م دخل حاكم مولتان الواقعة شمال السند في الإسلام الشيعي الإسماعيلي، وأعلنت مولتان في العام ٩٦٨ م نفسَها دولةً إسماعيلية فاطمية، ومستقلة عن العباسيين. وهنا صار العباسيون ومعهم أتباعهم الغزنويون مُحاطِين من الغرب ومن الشرق بأعدائهم الفاطميين، وساورهم الخوف من الهجوم عليهم من جبهتين؛ فما كان على إسماعيليي مولتان إذا أرادوا مهاجمة الغزنويين إلا أن يمروا عبر مناطق شاهية الهندو أعداءِ الغزنويين.

ورغم أن والد محمود الغزنوي كان شيعيًّا إلا أن محمودًا ظل على مذهبه السُّني، الذي شَكَّل المذهب السائد للعباسيين والقراخانيين والسامانيين كذلك. ولكنه كان سيئ السمعة بسبب عدم تسامحه مع المذاهب الإسلامية الأخرى. وبعد اعتلائه العرش في عام ٩٩٨ م، وإحكام سيطرته على أفغانستان، شنَّ هجومًا على شاهية الهندو في غندهارا وأوديانا في عام ١٠٠١ م، وهزم عدوَّ والده، وهو جايابالا الذي رأى فيه هو أيضًا تهديدًا محتملاً. ورغم أن أوديانا كانت لا تزال مركزًا رئيسًا للتانترا البوذية مع كلٍّ من الملك إندرابوتي وبادماسامبافا، اللذين ينحدران من هناك مِن قَبل حُكم شاهية الهندو، إلا أنها كانت تفتقر إلى أية أديرة بوذية مزدهرة، ومن جهة أخرى كانت معابدها الهندوسية كثيرة الثراء، ولذلك نهبها محمود ودمَّرها.

وهنا عقد وريث جايابالا أناندابالا (حكم من سنة ١٠٠١ إلى ١٠١١ م) تحالفًا مع مولتان، ولكن في عام ١٠٠٥ م هزم محمود هذا التحالف، وضم مولتان إلى سيطرته، مبعدًا بذلك التهديدَ الإسماعيلي الفاطمي عن العباسيين السُّنة من جهة الشرق. وأطلق محمود على قواته العسكرية اسم "الغازية"، وهم مقاتلون مدفوعون بالإيمان، ووصف حملته العسكرية بأنها "جهاد" من أجل الدفاع عن الشعائر السُّنية في وجه زندقة الشيعة الإسماعيلية. ورغم أن الحماس الديني كان سببًا دافعًا له، إلا أن السبب الأكبر كان بلا شكٍّ رغبته في جَعْل نفسِه مدافعًا عن العباسيين، وهم زعماء العالم الإسلامي. فالقيام بهذا الدور سوف يمنح الشرعية لحكمه بوصفه تابعًا عباسيًّا، والغنائم التي أخذها ستساعد على تمويل حملات العباسيين ضد الفاطميين اقتصاديًّا في مكان آخر. فعلى سبيل المثال كان معبد الشمس الهندوسي القديم سوراج ماندير في مولتان يُعرف بكونه أغنى معبد في شبه القارة الهندية، وقد زادت الكنوز التي احتوى عليها من طمع محمود في المزيد من الغنائم من الشرق.

وبعد انتهاء حملات محمود غير الناجحة ضد القراخانيين قَفَل عائدًا إلى شبه القارة الهندية، وهَزَمَ في عام ١٠٠٨ م التحالفَ المُؤلَّف من أناندابالا وحكام راجبوت، التي تعرف في الهند الراهنة بإقليم البُنجاب وهيماتشال براديش. فصادر كميات هائلة من كنوز شاهية الهندو في ناغاركوت (المعروفة اليوم بكانغرا)، ونهب ودمَّرَ خلال الأعوام التالية المعابد الهندوسية الغنية والأديرة البوذية في المنطقة، وكان من بين الأديرة البوذية التي دمَّرها الأديرة الواقعة في ماثورا جنوب دلهي الحالية.

في عام ١٠١٠ م سحق محمود تمردًا في مولتان، وكذلك في عام ١٠١٥ أو ١٠٢١ م (الأمر متعلق بأي مصدر يعتمده المرء)، ولاحق الحاكم الشاهي الهندو التالي تريلوتشانابالا (حكم من سنة ١٠١١ إلى ١٠٢١ م) الذي كان يُعزِّز قواته في قلعة لوهارا الواقعة على المنحدرات الغربية لكشمير، لكنَّ محمودًا لم ينجح ولو مرة واحدة في الاستيلاء على القلعة، أو في اجتياح كشمير. ومن غير الواضح مدى الدور الذي أدَّاه المؤسس الهندوسي لأول سلالة حاكمة من لوهارا في كشمير (١٠٠٣ - ١١٠١ م) سامغراما راجا (حكم من سنة ١٠٠٣ إلى ١٠٢٨ م) في هزيمة محمود. وتدَّعِي المصادر التقليدية البوذية أن الذي منع الحاكم الغزنوي كانت مانترات بوذية تلاها تلميذ ناروبا الذي يُدعَى براجناراكشيتا.

إن الدمار الكبير الذي ألحقته قوات محمود بالأديرة البوذية في البُنجاب الهندية وهيماتشال براديش جعل العديد من اللاجئين البوذيين يخرجون بحثًا عن ملاذٍ في مكان آخر، وعندما فكَّروا في الذهاب إلى كشمير أحسُّوا بعدم الأمان بعد أن شنَّت القوات الغزنوية هجومًا عليها، وهكذا فرَّ عدد كبير في الجانب الآخر عبر الهيمالايا وكانغرا نحو نغاري في التبت الغربية، التي سنَّ ملكها في عشرينيات القرن الحادي عشر قانونًا يحدد بقاء الأجانب في الدولة فترة لا تزيد عن ثلاث سنوات.

واختصارًا كان الجهاد الغزنوي في شبه القارة الهندية مدفوعًا في الأصل بالعداء للإسماعيلية؛ وليس البوذية أو الهندوسية أو الجاينية. ولكن حين استكمل محمود تحقيق أهدافه الدينية والسياسية أغراه انتصاره بضم مناطق أكثر ليأخذ المزيد من الثروات من المعابد الهندوسية والأديرة البوذية. ومثلما حدث خلال الحملة الأموية قبل ذلك بثلاثة قرون، فإن القوات التركية دمَّرت معابد وأديرة بعد نهبها، لإحكام سيطرتهم على هذه المناطق، ولكنهم لم يسعوا إلى فرض الإسلام على جميع رعاياهم الجدد. لقد كان محمود نَفعيًّا؛ حيث استخدم قوات هندوسية لم تعتنق الإسلام وقائدًا هنديًّا ضد المسلمين الشيعة الذين قاوموه في إيران البويدية. فقد كان هدفه الأساسي هو الشيعة والإسماعيليين.

المواقف الغزنوية تجاه البوذية خارج الهند
لقد تحدَّث البيروني - المؤرخ الفارسي الذي رافق اجتياح محمود الغزنوي لشبه القارة الهندية - بشكل إيجابي عن البوذية، وكتب عن الهنود أنهم يتعاملون مع بوذا على أنه "نبي". ولعل هذا يرتبط باطلاعه على المفهوم الفارسي الوسيط بوركسان، الذي يعني: النبي، والذي يستخدم لوصف بوذا في النصوص الصغديانية والبوذية الأويغورية، وقبلها في النصوص المانوية كان يستخدم لوصف جميع الأنبياء. ولعل الأمر يرتبط أيضًا بمسألة قبول البوذيين بوصفهم من "أهل الكتاب"، ومعاملتهم مع الهندوسيين والجاينيين على أنهم "أهل ذمة"، بعد ما مرَّ عليهم من دمار كبير في أول الأمر.

هناك دليل آخر يدعم الاستنتاج الثاني، وهو أن الغزنويين لم يضطهدوا البوذية خلال مراحل سيطرتهم الأولى على صغديا وباكتريا أو كابول. ففي عام ٩٨٢ م كانت جداريات البوذية لا تزال ظاهرة للعيان في دير نافا فيهارا، ولم يلحق تماثيل بوذا الضخمة على منحدرات باميان في وسط أفغانستان أي ضرر، وقد تحدث البيروني عن العديد من الأديرة البوذية التي واصلت العمل على الحدود الجنوبية لصغديا في مطلع الألفية.

ومثلما فعل السامانيون من قَبلُ اهتم الغزنويون بالثقافة الفارسية؛ فكان كلٌّ من الأدب العربي والفارسي من القرن التاسع حتى القرن الثاني عشر يزخران بالنصوص التي تتحدث عن جمال المعالم البوذية، ويشيران إلى أن تلك الأديرة والمساجد عاشت معًا بسلام، جنبًا إلى جنب. فعلى سبيل المثال وصف أسدي الطوسي روعة دير سوباهار في كابول في عمله "غرشاسب نامه" الذي ألفه عام ١٠٤٨ م. وكان الشعر الفارسي إذا أراد التعبير عن جمال قصر ما شبَّهه بقصر "نوباهار" (نافا فيهارا).

كانت تماثيل بوذا - وخاصةً المايتريا، أي: بوذا المستقبل – ترسم في نافا فيهارا وباميان مع أقراص بشكل القمر وضعت خلف رأس بوذا، فكان الجمال الخالص في الصورة الشعرية حين يكون للشخص "وجه قمري كوجه بوذا". وهكذا كانت القصائد الفارسية في القرن الحادي عشر مثل "ورقه وغلشاه" للعيوقي. وتنبع الكلمة البهلوية "بوت" من المصطلح الصغدياني القديم "بورت"، الذي يُستخدَم بدلالة إيجابية عن "بوذا"، وليس بمعناه الثاني وهو "صنم". فهو يجسد فكرة الجمال غير المرتبط بالجنس، ويستخدم على حدٍّ سواء للرجال والنساء معًا.

ولا يتضح لنا هل كانت الكلمة العربية "البد" مأخوذة من الفارسية، أم أنها تكونت مباشرة منذ فترة سيطرة الأمويين على السِّند؟ فقد استخدم الأمويون أصلاً هذا المصطلح لكلٍّ من الصور البوذية والهندوسية، بالإضافة إلى المعابد التي ضمتها. واستخدموه أيضًا لكل معبد غير إسلامي أحيانًا، بما في ذلك المعابد الزرادشتية والمسيحية واليهودية، لكنه اكتسب لاحقًا معنيينِ: إيجابيًّا وسلبيًّا؛ في كلمتي: "بوذا" و"صنم".

تشير هذه المصادر التاريخية كلُّها إلى أنه كانت هناك أديرة وصور بوذية في هذه المناطق الثقافية الإيرانية على الأقل خلال العهد المنغولي الأول في القرن الثالث عشر الميلادي، أو تشير على أقل تقدير إلى أن هناك موروثًا بوذيًّا قويًّا قد بقي قرونًا بين البوذيين الذين تحوَّلوا هناك إلى الإسلام. إذا كان الغزنويون قد تسامحوا مع البوذية ضمن سياستهم في مناطقهم غير الهندية، وبسطوا رعايتهم بوضوح على الأعمال التي تُمجِّد ثقافتها، فمن المستبعد أن تكون سياستهم على المدى البعيد في شبه القارة قد قامت على فرض الدين بالسيف. وكما حدث مع الأمويين فسيطرة الغزنويين لم تكن مماثلة لطريقة حكمهم.

انهيار الغزنويين وصعود السلاجقة
لم يكن الغزنويون قادرين على السيطرة على السلاجقة رغم نجاحاتهم العسكرية في شبه القارة الهندية، وفي عام ١٠٤٠ م تمرد السلاجقة، وانتزعوا خوارزم وصغديا وباكتريا من أيدي الغزنويين، وفي عام ١٠٥٥ م اجتاحوا بغداد مقر الخلفاء العباسيين.

[ شاهد الخريطة الثامنة والعشرين: الإمبراطورية السلجوقية، النصف الثاني من القرن الحادي عشر.]

كان السلاجقة من السُّنَّة، وبالتالي كانوا معادين للشيعة وكذلك للإسماعيلية، مثلهم مثل الغزنويين. وكانوا متحمسين لإخراج الخلفاء من تحت تأثير الشيعة البويديين وسيطرتهم في إيران. وفي عام ١٠٦٢ م سيطروا نهائيًّا على المملكة البويدية، وفي السَّنَة التالية أعلنوا عن بداية إمبراطوريتهم الخاصة. وقد بقيت أجزاء الخيرة من إمبراطورية السلاجقة خاضعة للمغول في عام ١٢٤٣ م.

وقد انسحب الغزنويون إلى شرقي جبال هندو كوش المجاورة لغازنا وكابول والبُنجاب بعد هزيمتهم أمام السلاجقة، وهناك أقاموا قوَّةً عسكرية مؤلفة من القبائل التركية الجبلية المختلفة في دولتهم، واعتمدوا على الضرائب التي جُمِعت من الأثرياء غير المسلمين في شبه القارة الهندية لتمويل دولتهم، وقد عكست سياستهم نحو كشمير موقفهم من سائر الأديان بوضوح.

الوضع السياسي والديني في كشمير
ابتداءً من عام ١٠٢٨ م حتى نهاية سلالة لوهارا الحاكمة الأولى في عام ١١٠١ م شهدت كشمير تراجعًا كبيرًا في المجال الاقتصادي، ونتيجة لذلك عانت الأديرة البوذية بسبب قلة الدعم الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك فإن المناطق الغزنوية حالت دون إمكانية الوصول إلى الجامعات في الأديرة البوذية العظمى الواقعة في الجزء المركزي من شمال الهند، واستمر تدهور الأديرة الكشميرية، وختامًا مارس آخر ملوك هذه السلالة هاراشا (حكم من سنة ١٠٨٩ إلى ١١٠١ م) اضطهادًا دينيًّا آخر، فأعطى الضوء الأخضر هذه المرة لتدمير المعابد الهندوسية والأديرة البوذية.

خلال عهد سلالة لوهارا الحاكمة الثانية (١١٠١-١١٧١ م) - خاصة خلال فترة حكم الملك جاياسيمها (حكم من سنة ١١٢٨ إلى ١١٤٩ م) - تعافت الديانتان مرة أخرى بدعم ملكي، ولكن الوضع الاقتصادي في المملكة عامةً ازداد سوءًا، واستمر هذا الوضع خلال فترة الحكام الهندوسيين كذلك (١١٧١-١٣٢٠ م). ورغم أن الأديرة كانت تعاني من الفقر، إلا أن النشاط البوذي ازدهر حتى القرن الرابع عشر الميلادي على الأقل، بسبب وجود معلمين ومترجمين زاروا التبت من حين إلى آخر. ومع ذلك - ورغم ضعف كشمير فترة تزيد على ثلاثة قرون - لم يَسْعَ الغزنويون ولا ورثتهم المسلمون في الهند إلى السيطرة عليها حتى عام ١٣٣٧ م. وهذا يعطي إشارة أخرى إلى أن الحكام المسلمين كانوا مَعنيين بجني الثروات أكثر من اكتساب مسلمين جدد في الأديرة البوذية، فإن وجدوها فقيرة تركوها ولم يدمروها.

التوسع السلجوقي والسياسة الدينية
في هذه الأثناء وَسَّع السلاجقة إمبراطوريتهم غربًا، وهزموا البيزنطيين في عام ١٠٧١ م، وقد بسط السلطان السلجوقي ملكشاه (حكم من سنة ١٠٧٢ إلى ١٠٩٢ م) نفوذه على القراخانيين في فرغانة شمال تركستان الشرقية وكاشغار وخوتان. وتحت تأثير وزيره نظام الملك بنى السلاجقة مدارس دينية في بغداد، وعلى امتداد آسيا الوسطى. ورغم أن المدارس ظهرت في البداية خلال القرن التاسع الميلادي في شمال شرق إيران، لتعليم العلوم الدينية فقط، إلا أن هذه المدارس الجديدة كانت تهدف إلى توفير بيروقراطية مدنية للسلاجقة، كانت تدرس بشكل جيد في الإسلام. لقد كان لدى السلاجقة توجُّه نفعي جدًّا نحو الدين.

بعد فتح الأناضول أمام الاستيطان التركي واصل السلاجقة السيطرة على فلسطين أيضًا، وقد توجه البيزنطيون إلى البابا أوربان الثاني عام ١٠٩٦ م، الذي أعلن الحرب الصليبية الأولى من أجل إعادة توحيد الإمبراطورية الرومانية الغربية والشرقية، واسترجاع الأرض المقدسة من "الكفار". لكن السلاجقة لم يكونوا معادين للمسيحيين إطلاقًا، فعلى سبيل المثال لم يحاولوا القضاء على المسيحية النسطورية من آسيا الوسطى.

لم يكن السلاجقة معادين للبوذية بشكل خاصٍّ أيضًا، فقد منحوا غطاءً لأتباعهم القراخانيين لشن حروب مقدسة ضد التانغوتيين والأويغوريين القوتشو والتبتيين النغاريين، الذين كانوا بوذيين أقوياء في عقيدتهم، ضعفاء في قوتهم العسكرية. وعلى النقيض من ذلك، وخلال حكمهم لبغداد، سمح السلاجقة للشهرستاني (١٠٧٦-١١٥٣ م) بنشر كتابه: "الملل والنحل"، وهو نص فلسفي باللغة العربية، يتضمن عددًا من المعتقدات البوذية، وتتعامل مع بوذا بوصفه نبيًّا، كما كان عند البيروني.

النظام النِّزاري لدى الحشاشين
كان الانطباع السلبي لدى المسيحيين الأوربيين والبيزنطيين عن السلاجقة والمسلمين عمومًا يعود جزئيًّا إلى إسقاط صورة الفرع النِّزاري من الإسماعيلية على الإسلام كله، وهو المعروف لدى الصليبيين بـ "نظام الحشاشين". وابتداءً من عام ١٠٩٠ م قاد النزاريون ثورة إرهابية في إيران والعراق وسوريا؛ حيث أرسلوا فتيانًا تحت تأثير الحشيش لاغتيال قادة عسكريين وسياسيين، وكانوا يفعلون ذلك لتجهيز العالَم لمجيء قائدهم نِزار، الذي لن يكون إمامًا أو خليفة فقط، وإنما سيكون المهدي آخر الأنبياء، الذي سيقود العالم الإسلامي عبر حرب ألفية ضد قوى الشر.

وخلال العقود التالية شنَّ السلاجقة والفاطميون حروبًا مقدسة ضد النزاريين، حيث أوقعوا بهم مجازر أبادت أعدادًا كبيرة منهم، وفقدت الحركة النزارية بعدها أي دعم شعبي لها. وقد كان للحروب المقدسة أثرٌ مُدمِّر على السلاجقة أيضًا، ففي عام ١١١٨ م تفكَّكت الإمبراطورية السلاجقية إلى أقاليم مستقلة.

وفي هذه الأثناء كانت قوة الغزنويين في تراجع مستمر؛ فقد افتقروا للموارد البشرية اللازمة حتى للسيطرة على مملكتهم التي تنقص شيئًا فشيئًا. وكذلك ضعفت قوة القراخانيين. ونتيجة لذلك أُجبِرَ الغزنويون والقراخانيون على التحوُّل إلى دول تابعة للمقاطعات السلجوقية المستقلة في صغديا وشمال شرق إيران.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:06 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
١٩ تطوُّرات القرن الثاني عشر الميلادي في آسيا الوسطى
تأسيس الإمبراطورية الجورتشينية
كان الجورتشينون من شعب المانشو التونغوسي، وموطنهم في شمال منشوريا والمنطقة المجاورة لجنوب شرق سيبيريا، عبر نهر أمور. وكانوا يسكنون الغابات، وقد جنَّدهم الخيتانيُّون بسبب تقاليد الصيد الخاصة بهم. وقد وصلت إليهم البوذيَّة من صين السونغ الشمالية، ومن مملكة كوريو الكورية (٩١٨ - ١٣٩٢ م). وفي عام ١٠١٩ م طلبوا من الإمبراطور السونغيِّ الشماليِّ للصين نسخةً من الشريعة البوذية المطبوعة حديثًا، وفي عام ١١٠٥ م كان رهبان الصين الهانيَّة يعرضون طقوسًا بوذية في البلاط الجورتشيني، لكنَّ المصدر الأساسي للبوذية كان من الخيتانيِّين.

وفي عام ١١١٥ م أعلن الجورتشيون عن مملكتهم تحت حكم أسرة جين (١١١٥ - ١٢٣٤ م)؛ حيث سعوا إلى توسيع نفوذهم داخل الإمبراطورية بعد أن هزموا الخيتانيِّين عام ١١٢٥ م، وأخضعوا ما تبقَّى من الصين الهانية الشمالية خلال السنة التالية. وقد نُقِلت عاصمة الصين الهانية إلى الجنوب، وهو الأمر الذي أنهى حكم سلالة سونغ الشمالية، وجاء بحكم سلالة سونغ الجنوبية (١١٢٦ - ١٢٧٩ م). وبسَط الجورتشيون حكمهم على منشوريا، وجنوب شرق سيبيريا، وشمال الصين الهانية ووسطها، ومنغوليا الداخلية. وكانت التانغوتين تقع في الشمال الغربي منها، بينما تفكَّكت منغوليا إلى العديد من المناطق القبلية الصغيرة.

[ شاهد الخريطة التاسعة والعشرين: صعود الإمبراطوريِّتيْن القراخانيَّة والجورتشيَّنية، النصف الثاني من القرن الثاني عشر.]

استمرَّ نموذج الخيتانيِّين البوذي داخل مناطق منغوليا التي سيطر عليها الجورتشيون. وفي أواخر سنوات حكم سلالة جين حقَّقت النماذج الهانية الصينية تقدُّمًا أكبر، وهذا التطوُّر كان موازيًا للتطور الذي جرى في لغة الجورتشينيين المكتوبة. ففي البداية عدَّل الجورتشيون حروف الخطِّ لدى الخيتانيِّين، لكنهم استخدموا في نهاية المطاف مزيجًا من الحروف الصينية الهانية أيضًا.

وقد فرض أوائل الأباطرة الجورتشيون وصاية قوية على البوذية؛ فبنوا العديد من المعابد في عاصمتهم بكين، وعلى امتداد مواقعهم. وفي أواسط القرن الثاني عشر الميلادي كان هناك ما يزيد عن ثلاثين ألف راهب في إمبراطورية جين، بينهم رهبان ذوو مكانة تَفُوقُ مكانة موظَّفي البلاط. وقد استبدل بلاط الجورتشين بلاط السونغ الشماليَّة - بوصفه المصدر الرئيس الذي التمسته التانغوتيون - وذلك لإرسال المزيد من النصوص البوذية الصينية الهانية إليهم.

الوضع السياسي والديني في المناطق التبتية
بعد حرب أهلية قصيرة في تسونغكا مع حلول القرن الثاني عشر الميلادي ساءت العلاقة بين تسونغكا وبين الصين السونغية الشمالية، وهي التي كانت شريكتها التجارية سابقًا. وقد استغلت قوات السونغ الشمالية الوضع غير المستقر من أجل الهجوم، فسيطروا على تسونغكا، ثم فقدوا السيطرة، ثم سيطروا عليها مرة أخرى، وهكذا مرات عديدة، بدءًا من عام ١١٠٢ م. وهو ما جعل أعداء الأمس تسونغكا والتانغوتيون لا يتصالحان فقط، بل يشكِّلان حِلفًا عسكريًّا أيضًا في عام ١١٠٤ م ضد الصين السونغيَّة الشماليَّة. وقد استمرَّت هذه الحرب إلى أن هزم الجورتشيون السونغ الشماليِّين في عام ١١٢٦ م. وانسحبت القوَّات الصينية الهانية تمامًا من تسونغكا، التي حظيت مرَّة أخرى بالاستقلال إلى أن سقطت في أيدي الجورتشينيين عام ١١٨٢ م. وقد تحالف التانغوتيون مع الجورتشينيين لاستكمال الحرب ضد السونغ الجنوبيَّة، التي أصبحت تدفع الجزية إلى القراقيتيِّين، ورثة التانغوتيين والجورتشينيين والخيتانيِّين.

في الوقت نفسه انتقل مركز النشاط البوذي في عدد من مناطق الحضارة التبتية من غرب البلاد إلى مركزها، عند أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، حين وصلت سلسلة ملوك نغاري إلى نهايتها. وخلال النصف الأول من القرن الثاني عشر كانت نغاري تخضع لحكم سلالة قبلية غير تبتية، تعرف باسم الكاسا، وكان ملوكها قليلاً ما اتبعوا البوذيَّة. وفي منتصف القرن فَقَدَ ملك الكاسا ناغاديفا السيطرة على المنطقة؛ حيث إنه أعاد تأسيس حكمه في تلك المنطقة، من خلال إخضاع وسط نيبال. وبعد ذلك تفتَّتت غرب نيبال إلى عدد من الممالك، واصلت جميعها إحياء البوذية ودعمها، ولكن بقدر أقل بكثير من القرن السابق.

كانت التبت الوسطى في ذلك الوقت مقسَّمةً إلى عدة مناطق صغيرة مستقلة، استقرَّت غالبًا حول أديرة بوذية جديدة، وبُنِي معظمها على هيئة قلاع حصينة. ولم تشهد المنطقة حُكمًا موحَّدًا إلا عندما اعتُرِف بالتبت الوسطى تحت الهيمنة المنغولية في عام ١٢٤٧ م، ولكنَّ البوذية تقدمت كثيرًا في التبت الوسطى خلال القرن الثاني عشر الميلادي، وذلك رغم أجواء التفكُّك السياسي. فالتبتيون لم يكتفوا بمواصلة الترجمة - وخاصة من اللغة السنسكريتية - بل بدءوا أيضًا في تجميع مُدوَّنات ضخمة من الأدب الشعبي، في الوقت الذي طوَّرت فيه الأديرة خبراءها ووجهاءها المميزين كلٌّ على حِدة.

ازدياد تأثير الثقافة التبتية على شعب تنغات
أسفر التحوُّل الناتج عن تحالف التانغوت من السونغ الشماليَّة إلى تسونغكا عن تحوُّل التأثير الأساسي على بوذية التانغوت في القرن الثاني عشر من الصين الهانية إلى التبت. فقد ترجم التانغوتيون المزيد من النصوص من اللغة التبتية بسرعة كبيرة، وبدءوا في تجميع أدبياتهم البوذية، التي اتخذت من الشروح البوذية نموذجًا لها. فقد سافر العديد من رهبان التانغوت إلى التبت الوسطى للدراسة، وكان منهم مينياغ غومرينغ الذي أصبح تلميذ باغمودروبا (١١١٠ - ١١٧٠ م)، وهو الذي تسير على خُطاه طوائف عديدة من كاغيو. وفي عام ١١٥٧ م أسَّس الراهب التانغوتي الدير الذي تحوَّل لاحقًا إلى مركز تقليد دريكونغ كاغيو ودريكونغ تيل.

وهناك شخص آخر تانغوتي، وهو المترجم الكبير تسامي لوتساوا، الذي سافر إلى شمال الهند في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث أصبح هناك رئيسًا لدير فاجراسانا، وأحضر معه من كشمير إحدى طرق تانترا الكالاتشاكرا. وفي المقابل دُعِي معلمون من كشمير والتبت إلى التانغوت؛ حيث أصبحوا هناك معلمين مَلِكيِّين. وقد نما هذا التبادل واتسع.

واصل التانغوتيون أخذ بعض الملامح المهمة من المجتمع الصيني الهاني، وذلك رغم معاركهم العسكرية الضارية مع الصين السونغيَّة الشماليَّة، فمثلاً أنشئوا جهاز التعليم على النمط الكونفشيوسي لتدريب الموظفين الرسميين في عام ١١٤٦ م. إن هذا الاقتباس للنمط الصيني - رغم اعتزاز التانغوتيين بثقافتهم الخاصة وجهودهم في الحفاظ عليها - كان بفضل تأثير والدة الإمبراطور رينشياو (١١٣٩ – ١١٩٣ م) التي كانت صينية هانية.

في نهاية المطاف أصبح التانغوتيون أكثر شعوب آسيا الوسطى ثقافة، فعلى سبيل المثال في عام ١١٧٠ م نَشَر الإمبراطور رينشياو مذكرة قانونية واسعة غطت المجالين الديني والدنيوي على حدٍّ سواء، وقد قسَّمت الأديرة البوذية التانغوتية بشكل إثني وفقًا لأصول الرهبان فيها: تانغوتيِّين وتبتيِّين وصينيِّين هانيِّين، أو خليط من التانغوتيين والهانيين. ولم يكن هناك ذكر للرهبان الأويغوريين أو اليوغوريين الصُّفر، وربما كان ذلك بسبب خضوع قوتشو للقراقيتين عام ١١٢٤ م. وكان يتوجَّب على كل راهب - بغضِّ النظر عن أصله - أن يتعلَّم لغات التانغوت والتبت والصين الهانية والسنسكريتية وآدابهم؛ حتى يصبح راهبًا إداريًّا. وكان يتوجب عليه اجتياز امتحان يُظهِر تمكُّنه من النصوص، وخاصَّةً النصوص البوذية المترجمة إلى لغتهم التبتية. وكان هذا موازيًا للقانون المدني الذي تبنَّته الصين الهانية، وهو ما تطلَّب من المرشحين للوظائف الإدارية في الحكومة اجتياز امتحانات صارمة في الأدبيات الكلاسيكية الكونفشيوسية.

سيطرة القراخيتانيين على الأويغوريين القوتشو والقراخانيّين
فَقَد حاكم الخيتانيِّين ييلو داشي السيطرةَ على منغوليا نفسها مع وصول هجمات الجورتشينيين من الشمال عام ١١٢٤ م، وانسحب مع جيوشه إلى العاصمة الصيفية للأويغوريين القوتشو في بشباليق، وقد استقبله الخيتانيُّون الخاضعون المسالمون بحفاوة كبيرة واستضافوه. وأمام مواجهة طموحات ييلو داشي في أخذ منطقة جديدة لنفسه استسلم الأويغوريون طواعيةً لحكم اللاجئين الخيتانيِّين الأقوياء، وهنا أعلن حكم سلالة القراخيتانيين أو لياو الغربية (١٢٠٣ - ١١٢٤ م) وفرض السيطرة على جونغاريا. ولعلَّ الأويغوريين القوتشو خضعوا طواعية بسبب خوفهم من حليف الجورتشينيين والتانغوتيين الجديد، الذي كان يهددهم من ناحية الشرق، وسعوا للحصول على حماية الخيتانيِّين، مثلما كان الأمر عليه في السابق.

وفي عام ١١٣٧ م أخضع ييلو داشي القراخانيِّين، وضمَّ أراضيهم إلى مملكته؛ في كاشغار وخوتان وفرغانة، وأجزاء من شمال تركستان الغربية. وفي عام ١١٤١ م هزم السلاجقة في سمرقند، وبسط نفوذه حتى على صغديا وباكتريا وخوارزم. حتى تفتَّت الدولة السلجوقية في إيران بسبب التمردات الداخلية، فتحولت إيران بعدها إلى عدة دويلات صغيرة، تحكمها سلالات صغيرة متعددة، إلى أن أخضعها المنغول عام ١٢٢٠ م. ولم تبقَ سيطرة حقيقية للسلاجقة سوى في الأناضول.

وقد اتبع ييلو داشي المزيج التقليديَّ من البوذية الخيتانيَّة والطاويَّة والكونفشيوسية والتنغريَّة والشامانيَّة، فقد كان متسامحًا جدًّا، ووفَّر الحماية للديانات كلها في مملكته، بما في ذلك الإسلام. وازدهرت المسيحية النسطورية في سمرقند وكاشغار، ونتيجة لهذا فإن الديانات المختلفة في آسيا الوسطى تعايشت بصورة حقيقية في انسجام حتى يومنا هذا.

انتشار الإسلام بين أتراك آسيا الوسطى بواسطة المعلمين الصوفيين
انبعثت الحركة الصوفية في الإسلام خلال النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي من خلال تعاليم أبي القاسم الجنيد (المتوفى عام ٩١٠ م) في العراق، وأبي يزيد البسطامي (المتوفى عام ٨٧٤ م) في خراسان وشمال إيران. وقد بدأ معلمون متجولون في نشر الصوفية في آسيا الوسطى منذ القرن الحادي عشر الميلادي خلال عهود القراخانيِّين والغزنويِّين والسلاجقة. وقد لبَّت طرقهم الصوفية الحاجةَ الروحية التي خلَّفها قمع الشيعة والجماعات الإسماعيلية، وخاصة بعد إخضاع السلاجقة لبغداد عام ١٠٥٥ م.

كانت الشخصية الأساسية التي جلبت الصوفية إلى القبائل التركية الرحَّالة هي أحمد بن إبراهيم بن علي اليسوي (المتوفى عام ١١٦٦ م). وتعود شعبية اليسوية التي نبعت منه إلى دمجه تقاليد الثقافة التركية، وخاصة العناصر الشامانية في الإسلام؛ فقد ارتدى الزي التركي، وسمح باستخدام اللغة التركية استخدامًا دينيًّا خارج سياق الصلوات، واستخدامِ الماشية لتقديم الأضاحي بموجب الشعائر المعمول بها، وسمح للنساء بالمشاركة في طقوس بلوغ النشوة الروحية. إن تقليد بناء الخوانق الروحية حول المعلمين الدينيين كان مصدرَ جذبٍ لتقاليد الترحال التركية، وتلك الخوانق كانت مفتوحة أمام جميع المسافرين، وليس للطلاب الروحيين المتجولين من موقع إلى آخر فقط، بل أيضًا للمجتمع المحيط بهذه الخوانق، بما في ذلك المعلِّم، للتجول في رحلات روحية تمتد شهورًا.

ومن خلال هذه الوسائل اكتسب الإسلام شعبية متزايدة بين الجماهير التركية، فالنمو السريع للإسلام في آسيا الوسطى في ذلك الحين لم يأتِ بواسطة فرض الدين بالسيف، وإنما بفضل تكييف عدد من المعلمين الدينيين العظماء ببراعة للثقافة التركية، ولم يأتِ انتشار الإسلام الواسع على حساب البوذية، ولم تكن له ردُّ فعل معادٍ من البوذيين. وفي واقع الأمر حصل ذلك أساسًا تحت نفاذ القانون البوذي الخاص بحُكم القراخيتانيين، وحظي بدعمهم.




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty رد: التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية

مُساهمة من طرف سامح عسكر الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:07 am

القسم الثالث: انتشار الإسلام بين الشعوب التركية ثم من خلالها بعد ذلك (٨٤٠ – ١٢٠٦ م)
٢٠ الحملات الغورية على شبه القارة الهندية
التحرُّك العسكري الأول عبر الهند الشمالية
في عام ١١٤٨ م فتح علاء الدين – وهو من الأوغوزيِّين الأتراك الرحَّالة من جبال أفغانستان - إقليم غور في إيران الشرقية، فعرفت إمبراطوريته بعد ذلك بـ "الإمبراطورية الغورية" (١١٤٨ - ١٢١٥ م). وقد استكمل حملته فاستولى على باكتريا من القراخيتانيين، واستولى في عام ١١٦١ م على غزنة وكابول من الغزنويين، واضطر الغزنويون إلى نقل عاصمتهم إلى مدينة بُنجاب في لاهور، التي كانت تحتوي على أكثرية هندوسية في ذلك الوقت. وفي عام ١١٧٣ م عين المؤسس الغوري أخاه معز الدين محمد (المعروف بـ محمد الغوري، حكم من سنة ١١٧٣ إلى ١٢٠٦ م) حاكمًا على غزنة، وشجعه على غزو شبه القارة الهندية.

[ شاهد الخريطة الثلاثين: شبه القارة الهندية في عهد الفتوحات الغورية، أواخر القرن الثاني عشر.]

وقد استولى محمد الغوري - أسوةً بسلفه محمود الغزنوي - أولاً في عام ١١٧٨ م على مملكة مولتان الإسماعيلية في شمال السند، التي استقلت من الحُكم الغزنوي. وكانت الشكوك تحوم كثيرًا حول الإسماعيليين في أنهم يأوون النِّزاريين أو من شابههم من الحركات الإرهابية الألفية، حينئذ - وبالتحالف مع الحاكم الهندوسي المحلي - أطاح القائد الغوري بالسلالة الغزنوية الحاكمة من خلال احتلال لاهور في عام ١١٨٦ م، وذلك من خلال السيطرة على بُنجاب كاملة، ثم تابع زحفه فاحتلَّ دلهي في عام ١١٩٣ م. وقد اجتاح الغوريون شمال الهند عن طريق سهل الغانج، وتابع مُحمد فتوحاته بنفسه حتى وصل إلى باناراس عام ١١٩٤ م، وأوفَدَ أحد قادته، وهو بختيار الخلجي، مع اختيار الدين محمد، لتوسيع الهجوم شرقًا.

إن حملة الغوريين على شبه القارة الهندية إذًا لم تكن في الحقيقة حربًا مقدسة لردِّ الكفار إلى الإيمان، بل كانت أساسًا محرِّكًا لاحتلال الأرض، أرض المسلمين وغير المسلمين على حدٍّ سواء. ورغم أن الهدف العسكري الأصلي ضد المملكة الإسماعيلية في مولتان من المُمكن أن يكون قد سُمِّي جهادًا، ورغم إمكانية أن يكون الغوريون قد استخدموا اسم الحرب المقدسة لحثِّ قواتهم العسكرية على القتال، إلا إنَّ حماس القادة المسلمين كان مدفوعًا غالبًا بالحصول على الغنائم ومزيد من القوة، أكثر من كَوْنِه حماسًا لرد الناس إلى الإسلام.

فتح بيهار والبنغال
وهكذا أُطِيح بسلالة بالا الحاكمة في بيهار والبنغال، التي بُني تحت سلطتها غالبية الجامعات الرهبانية البوذية العظيمة في شمال الهند. فتفكَّكَت أولاً سلالة كارناتا (١٠٩٧ - ١٣٢٤ م) في ميتيلا، التي كانت تغطي مساحتها منطقة بيهار شمال نهر الغانج، ومنطقة تيراي في جنوب النيبال. وقُبيْل انتهاء القرن الثاني عشر الميلادي وطَّد السناويون وجودهم في البنغال وماغادا، وهي جزءٌ من بيهار جنوب نهر الغانج. ورغم أن قوانين ميتيلا كانت شافيتية هندوسية، إلا أنهم ظلوا تحت حماية سلالة بالا البوذية، وأبدَوْا مقاومة شديدة ضد الغوريين. فمثلاً أوقفوا غزوًا كان هدفه السيطرة على التبت عام ١٢٠٦ م. وكان السيناويون - على مستوى الأفراد - أكثر إخلاصًا للهندوسية، وأضعفَ قوةً.

وقد تجاوز الغوريون ميتيلا لدى تحركهم نحو الشرق، وركَّزوا هجومهم على ماغادا والبنغال. وبنى ملك سينا قلعةً حصينة في أودانتابوري وفي أديرة فيكراماشيلا؛ حيث كان جدار القلعة المهيب يقف مباشرة في مواجهة تقدم الغوريين. ولكنَّ الغوريين قد دمروهم تمامًا بعد أن دكوا هذه الحصون عامَي ١١٩٩ و ١٢٠٠ م. وفي الحقيقة، ومنذ أن احتلَّت أودانتابوري موقعًا إستراتيجيًّا، وأنشأ الحُكَّام العسكريون الغوريون مركزَ قيادتهم الإدارية للإقليم في موقعها السابق، قريبًا من بيهار شريف الحالية.

احتلال شمال الهند
وفي عام ١٢٠٦ م اغتيل محمد الغوري، مما أدَّى إلى إنهاء تحرك الغوريين نحو شمال الهند. ولكنه لم يترك خليفة محددًا له، فاقتتل خُلفاؤه فيما بينهم للسيطرة على الأقاليم التي احتلوها، حتى نجح واحد منهم في النهاية في السيطرة على مقاليد الأمور، وأعلن نفسه سلطانًا في لاهور، إلا أنه تُوفِّيَ خلال مدة قصيرة بعد ذلك عام ١٢١٠ م. أما عبده المحرَّر إيلتوتميش (حكم من سنة ١٢١٠ إلى ١٢٣٧ م) فقد استولى على السلطة، ونقل العاصمة إلى دلهي، لتبدأ بعد ذلك ما عرف بدولة العبيد (١٢١٠ - ١٣٢٥ م).

كان الغوريون قادرين على الاستيلاء على شمال الهند، وذلك ليس فقط بفضل تفوقهم في القوة والتكتيك العسكري، بل يرجع كذلك إلى التنافس والتناحر المتواصليْنِ بين العديد من الحكام الهندوس المحليين الـ "راجبوت". ورغم أنَّ الأخيرين ما كان في استطاعتهم عمل جبهة مشتركة لصد استيلاء الغوريين، إلا أنهم كانوا أقوياء بما فيه الكفاية لإعادة سيطرتهم من الغابات والهضاب. وفور انتقال القوات الأجنبية كان الغوريون وورثتهم بعد ذلك قادرين على المحافظة على ركائز إدارية ثانوية، وكانت هذه في المدن الرئيسة فقط، التي كانت مهمتهم الرئيسة فيها جمع الضرائب منها، ومع ذلك فقد اعتنى حكمهم بالرخاء الاقتصادي، وهكذا نجح في الحفاظ على استقراره.

تقييم أثر الضرر الذي ألحقه الغوريون بالبوذية
رغم أنَّ الغوريين قد نهبوا ودمروا أودانتابوري وأديرة فيكراماشيلا كلها، إلا أنَّهم لم يدمِّروا كل مؤسسة بوذية في مملكتهم. فجامعة نالاندا الرهبانية مثلاً هي الأكبر من نوعها في شمال الهند، ورغم أنها في ماغادا إلا أنها لم تكن في طريق تقدم الغوريين. وعندما زار المترجم التبتي تشاغ لوتساوا دارماسفامين (١١٩٧ - ١٢٦٤ م) شمال الهند عام ١٢٣٥ م، وجدها منكوبة ومنهوبة ومهجورة غالبًا، إلا أنها كانت قائمة وتعمل مع سبعين طالبًا. وبالنسبة للغوريين فتدميرها كاملةً كان يتطلب حملة مستقلة، ولم يكن ذلك في الظاهر هدفهم الأساسي.

وجد التبتيون أيضًا دير ماهابودي السريلنكي - وكان غير بعيدٍ عن نالاندا في فاجراسانا (بود غايا الحالية) - لا يزال قائمًا، ويضم ثلاث مِئة راهب سريلانكي. وكان هذا موقع تنوير بوذا، وموقع الحج المقدس في العالم البوذي. ولا يتضح لنا هل كانت سومابورا الجامعة الرهبانية الكبرى في البنغال، والواقعة في شمال بنغلادش الحالية، مهجورةً في ذلك الوقت أم لا؟ ومع ذلك وجد المترجم التبتي جاغادّالا أن شمال البنغال الغربية لا يزال مزدهرًا ومليئًا بالرهبان.

وقد انعكس التدمير الغوري للأديرة البوذية على أولئك الذين يقفون في طريق تقدمهم، والذين تحصَّنوا في قلاعهم المنيعة. وبالإضافة إلى ذلك عيَّنَ الغوريون قادتهم العسكريين حُكَّامًا على المناطق التي احتلوها، ومنحوهم سُلطةً ذاتية كبيرة، واتبعوا نظام الإقطاع العباسي فيما يخص التعويضات. وبتعبير آخر منح السلطان الغوري هؤلاء الحكام العسكريين ما شاءوا من الإيرادات التي أمكنهم جمعها بدلاً من الدعم المادي من الدولة المركزية. وهكذا فإنَّ تدمير كل شيءٍ ضمنَ الإطار العام لسيطرة هؤلاء القادة العسكريين سيتعارض مع مصالحهم الشخصية. لقد اتبعوا الطريقة الأموية والعباسية والغزنوية في الفتوحات؛ أي نهب الصروح الدينية الرئيسة، وإلحاق الضرر الكبير بها في الغزوات الأولية لاحتلالهم، وفور استيلائهم على السلطة يمنحون رعاياهم من غير المسلمين حماية (أهل الذمة)، ويأخذون الجزية منهم.

أصداء تطور البوذية في الدول المجاورة
رغم إمكانية قَبول حالة الرعايا المحميين فرَّ الكثير من الرهبان البوذيين من بيهار ومن أجزاء من شمال البنغال، طالبين اللجوء إلى الجامعات الرهبانية والمراكز في أوريسا الحالية جنوب بنغلادش، وفي أراكان على الساحل الشرقي لبورما، وفي جنوب بورما، وفي شمال تايلاند. لكن الكثرة منهم – مع كثير من العوامِّ من أتباع البوذية - توجهت إلى وادي كاتماندو في نيبال، حاملين معهم الكثير من المخطوطات من المكتبات الرهبانية الرحبة التي دُمِّرَت.

كانت البوذية تتمتع بمكانة قوية في كاتماندو في ذلك الوقت؛ حيث دعم الملوك الهندوس من سلالة تاكوري الحاكمة (٧٥٠ - ١٢٠٠ م) الأديرة البوذية، فقد كانت هناك جامعات رهبانية عديدة. ومنذ نهاية القرن العاشر الميلادي وكثير من المترجمين التبتيين يزورون هذه المراكز الواقعة على طريقهم إلى الهند، وكان المعلمون النيباليُّون منهم فعَّالين في إحياء البوذية في وسط التبت وغربها. ثم تابع الحكام الهندوس الأوائل في فترة الملا (١٢٠٠ - ١٧٦٨ م) اعتماد سياسات أسلافهم التاكوري.

بالإضافة إلى ذلك كانت البوذية تنتشر في مناطق أخرى من نيبال الحالية. وفي منتصف القرن الثاني عشر الميلادي فقد ناغاديفا - الحاكم القبَلي غير التبتي لغرب التبت - السيطرة على تلك المناطق، فاحتل غرب نيبال. وهناك أسَّس مملكة الكاسا، التي أصبحت تُعرف بعد ذلك باسم مملكة الملا االغربية، التي اتبعت النموذج التبتي من البوذية.

تحليل انحسار البوذية في شبه القارة الهندية
مع أن الهندوسية والجاينية كانتا قادرتيْن على البقاء بعد الغزو الغوري لشمال الهند، إلا أن البوذية لم تسترد عافيتها في يوم من الأيام، فقد بدأت تتلاشى تدريجيًّا، ومع عِلْمنا بأن هذه الخسارة كانت ظاهرة مركبة، فدعونا نختبر بعضًا من العوامل التي يمكنها توضيح هذه الخسارة.

لم يكن لدى الهندوس والجاينيين جامعات أو أديرة كبيرة، وقد عاش نُسَّاكهم فرادى أو في مجموعات صغيرة في مناطق نائية، يقضون وقتهم في الدراسة والتأمل بعيدًا عن الناس، ولم تكن تجمعهم شعائر أو طقوس جماعية. وبما أنهم لم يشكلوا تهديدًا فلم يكن مفيدًا للغزاة بذل الوقت والمجهود في محاربتهم. فقد ألحقوا الضرر بالمعابد الهندوسية والجاينية فقط، التي وُجدت في المدن الرئيسة للعوامِّ. والبوذيون من جهة أخرى كانت لديهم جامعات رهبانية ضخمة وباهرة، محاطة بجُدُر عالية، وكانت تحظى بدعم الملوك المحليين، وكان لتدميرها أهمية عسكرية واضحة.

وكَوْن المؤسسات البوذية هي الوحيدة التي عانت من التدمير الشديد، وغالبًا تلك الموجودة في الدروب الرئيسة لتقدم الجنود، حقيقةٌ تمثل دليلاً إضافيًّا على أن الغوريين - ورغم أنهم سمَّوا حملتهم حربًا مقدسة - لم يكن هدفهم الحقيقي منها هداية الكفار إلى الإسلام. ولو كان الأمر كذلك لَكانوا ركَّزوا على الجماعات الدينية؛ من هندوس وجاينيين وبوذيين، بالطريقة نفسها، بصرف النظر عن حجمها أو موقعها.

وبالنسبة إلى العامة من الناس في الهند كانت البوذية - أولاً وقبل كل شيء - ديانة تفانٍ وتضحية، ترتكز حول الأديرة الكبيرة. مع أنه كان هناك تقليد لتأملٍ شديد يُجرى في الغابات، فأولئك الذين كانوا يرغبون بالتعمق في الدراسة أصبحوا رهبانًا - أو راهبات - مُتبتِّلين، أما كُبراء العائلات فقد قدموا الغذاء والدعم المادي للرهبان، وكانوا يأتون مرتيْن في الشهر إلى الأديرة؛ مرةً يحفظون فيه النذور للرياضة الأخلاقية الروحية، ومرة للاستماع إلى المواعظ المأخوذة من الكتب المقدسة. إلا أنهم مع ذلك لم يعتبروا أنفسهم فرقة منعزلة عن الأغلبية الهندوسية، وكانوا يعتمدون على الشعائر الهندوسية في مناسباتهم العادية، مثل أعياد الميلاد والزواج والوفاة.

في حين أن الهندوسية تعترف ببوذا بوصفه مظهرًا لإلهها الأعلى ڤيشنو، إلا أن البوذيين لم يعترضوا على ذلك. وفي الحقيقة، وعلى امتداد شمال الهند وكشمير والنيبال، اختلطت البوذية فعلاً مع كثير من عناصر العقيدة الهندوسية. لذلك عندما دُمِّرت غالبية الأديرة دَخَل الكثير من البوذيين بسهولة في الهندوسية. فكان في مقدورهم تركيز تضرعاتهم إلى بوذا، ليُعتبروا هندوسًا جيدين. الهندوسية والجاينية من ناحية أخرى كانتا موجهتيْن للعامَّة من الناس ليستطيعوا ممارستهما في بيوتهم، ولم تتطلبا مؤسسات رهبانية. في حين اعترض الجاينيون على اللاهوتيين الهندوس عندما قبلوا جينا رشابها، إحدى الشخصيات الجاينية الرئيسة، بوصفه تجسدًا لفيشنو.

بالإضافة إلى أن الهندوس والجاينيين نافعون للفاتحين المسلمين؛ فقد كان لدى الهندوس طبقة من المحاربين يُمكن تجنيدها في الخدمة الإلزامية، في حين أن الجاينيين كانوا تجار الموارد الضريبية المحلية الرئيسة. أما البوذيون عامة فما كانوا يتميزون بحرفة أو مهنة، وما كان لهم دور في الحركة التجارية والحرفية بين المناطق، مثلما كانوا في قرون سابقة، عندما زيَّنت الأديرة الهندوسية طريق الحرير. ولذلك كانت الجهود المبذولة في الدعوة إلى الإسلام كانت موجهة إليهم أولاً وقبل كل شيء، مهما كان نوع هذه الجهود.

وبالإضافة إلى ذلك فقد اعتُبر العديد من البوذيين من أدنى الطبقات في المجتمع الهندي، وكانوا يلاقون معاملة سيئة تحت حكم الهندوس. فإن الكثيرين ممن قبلوا الإسلام كانوا بلا شكٍّ مفتونين بوعد المساواة والأخوة لجميع من يقبلون هذا الدين. أما الهندوس الذين تحولوا إلى الإسلام - من جهة أخرى - فقد نبذهم بقية الهندوس، بصرف النظر عن أصلهم الطبقي. ورغم أن البوذيين كانوا يُعدُّون منبوذين فلم يعانوا من تغيير في مكانتهم الاجتماعية، داخل مجتمعٍ غالبيته من الهندوس، عندما تحولوا إلى الإسلام.

وهكذا، ورغم أن غالبية شمال الهند بقيت هندوسية، مع مجموعات قليلةٍ من جاينيين هنا أو هناك، إلا أن البُنجاب وشرق البنغال حظيتا تدريجيًّا بأغلبية من المتحوِّلين إلى الإسلام. وكان البوذيون فيما سلف يحظون بأطول اتصال مع الإسلام، وقد تعزَّز ذلك، خاصَّةً مع طوفان المعلمين الذي جاءوا من إيران والشرق الأوسط، باحثين عن ملجأ لهم من هجمات المنغول التي بدأت في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي. أما شرق البنغال فقد كان دائمًا أرضًا للفلاحين الفقراء الذين كانوا ملائمين لطلب المساواة مع الإسلام




صفحتي على الفيس بوك

الحرية هي مطلب العُقلاء..ولكن من يجعل نفسه أسيراً لردود أفعال الآخرين فهو ليس حُرّاً....إصنع الهدف بنفسك ولا تنتظر عطف وشفقة الناس عليك..ولو كنت قويا ستنجح....سامح عسكر



سامح عسكر
سامح عسكر
المدير العام
المدير العام

التفاعل التاريخي بين الثقافتين البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية Empty
الديانه : الاسلام
البلد : مصر
ذكر
عدد المساهمات : 14253
نقاط : 28500
السٌّمعَة : 23
العمر : 44
مثقف

https://azhar.forumegypt.net/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى